الرؤية الوجودية في ديوان " مسامات" لابن يونس ماجن
٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٧بقلم جميل حمداوي
تكبير النصتصغير النصنص فقط
1- تقديــــــــــــــــــم مناصـــــي:
يعتبر بن يونس ماجن من أهم الشعراء المغتربين الذين يحسبون على الجهة الشرقية في المغرب الأقصى. والشاعر من مواليد 1946 بقرية أنگادي القريبة من مدينة وجدة عاصمة المغرب الشرقي. ويعمل حاليا مساعدا بخزانة الكتب البريطانية، ويكتب باللغتين العربية والفرنسية. ومن مؤلفاته بالعربية: أناشيد للضباب(شعر)، ولماذا لايموت البحر؟ (شعر) ، وهم الآن يكنسون الرذاذ، مرثية أطفال الشوارع( شعر)، وحتى يهدأ الغبار( شعر). ومن أشعاره بالفرنسية دفاتر مهاجر، وانكسارات الظلال ، و لصوص الأراضي.
أما الديوان الذي سنخضعه لمجهر الدرس والتحليل فهو ديوانه بالعربية "مسامات" الذي صدر لأول مرة عن دار الحداثة للطباعة والنشر ببيروت سنة 1993 م في ثمان وأربعين صفحة من الحجم المتوسط بمقاس(57/82). وقد تولى عماد أحمد ترصيف الخط وكتابة الأشعار باللغة العربية، بينما تكلفت دار الحداثة بتصميم الغلاف الذي يحمل في طياته صورة تشكيلية تجريدية تحيل على عالم الحزن والموت وضياع الإنسان واغترابه ذاتيا ومكانيا. ويلاحظ أن بن يونس ماجن يتعامل مع عدة مطابع على مستوى الطبع والنشر والتوزيع كالمطابع الأجنبية ( لندن، وباريس)، والعربية( بيروت، والرباط، وعمان، والقاهرة، ودمشق…)، وهذا ما أكسبه شهرة كبيرة في الساحة الشعرية ورقيا ورقميا.
ومن يتأمل عناوين الديوان الداخلية والمفهرسة فإنه سيخرج بانطباع أولي هو أن الشاعر بن يونس ماجن يحمل فوق كتفه صخرة ثقيلة من الفواجع المكلومة، والهموم الكثيرة، والأحزان المتشعبة. ويرسم – بالتالي- رؤية وجودية قوامها المعاناة المريرة والمكابدة الأليمة. وتنهكه الجروح الذليلة، و يقعده الهوان الأخرس، و يحزنه النهار المر، ويعبث به النسيان، ويداعبه العبث الماجن واللامبالاة التائهة. أصدقاؤه سقراط وسيزيف ودانتي وميكيافيلي وسارتر وكامو. يلاحقه الكسوف الثائر والليل الأسود والعنكبوت المارد. وتنخره الجروح وتسحقه الأوهام والأغاني الخجولة، وتميته الأسئلة الصماء والمدن العجفاء.
1- مضامين الديوان:
يستهل الشاعر ديوانه " مسامات" بإعلان الصراخ المدوي بالمعاناة المريرة والتجارب الأليمة وانغماسه في عالم الذهول والكوابيس الذبيحة والأعاصير الحزينة ونقمته على الليالي التعيسة:
أكره ليل الحسم
الطويل المدى
لأن أجوائي
أصبحت ضيقة الجوانب
ونجوم فضائي
تحولت إلى أصداف مهجورة
وفي حلمي المستمر
أتقمص معاناة العنف الذليل
أصرخ في وجه الأشباح، والصعاليك
وأتيه كالفراشة المحروقة الجناح
واشعر أن كابوسا الإعصار
يفرغ طلقاته
على عالمي الذبيح
وأدخل مع الذهول(ص:5)
وينتقل الشاعر من ذاته المتآكلة إلى الشوق والحنين إلى وطنه الجريح بالقفر والآهات، يستشرف الصيف الدافئ والفجر المعسول والشمس الوهاجة بعد ضيق الذات بين أنياب الغمام وسأم الوجود في بلاد الغربة وأرض الاستلاب والكآبة الحزينة:
وحين يغمر الغمام الدافئ
آفاق بلادي النائية
ويتسلل الشفق
وتغدق الشمس الظلال الناعسه
أتوق إلى صيف بلادي المستهام
وأنا كالبحيرة
المخنوقه
التي تقلصت مع الأيام
وتمر أمامي مواكب الساعات الكسيحه(ص:7)
و في قصيدته( سؤال) يصرح الشاعر برؤيته الفلسفية ومذهبه في الحياة من خلال طرح أسئلة أنطولوجية وجودية تذكرنا بالطرح السارتري ؛لأن الشاعر يتغنى باليأس والسأم الوجودي والملل والاغتراب والانتظار القاتل، انتظار الذي يأتي ولا يأتي. إن الشاعر يثور في القصيدة على الظلم والقهر والاستعباد ويحلم بالحرية والأمل والحب الوارف السعيد وإنسانية الإنسان:
شاخ انتظارنا
وطال يأسنا
وجنينا فتات الثمار
رغدا من سيزرع الغمام؟
من سيكسر أغلال الضباب؟
من سينقذ المصابيح المعتمة؟
من سيتوحم بتربة الاغتراب؟
ترى، من سيحكي عن مؤامرة الذئاب
لصبيان الضيعة الغابرة؟
ومن سيطارد النسور الهاربة؟
ويكسر الناي الأبح؟
وماذا بعد أن يرحل عنا البحر المهترىء
وتتقيأ الأمواج سرابا لامعا
وتتحرر كلط الرهائن" مقابل كرعة وحل؟( ص:9)
وينتقل الشاعر من الذات والوطن وفلسفة الوجود إلى ما هو حضاري وقومي ليثور على حضارة الشمال وإنسان الغرب الذي يتلذذ بسفك الدماء وقتل الأبرياء كما يتمظهر ذلك في مصرع الثيران المذبوحة على شاكلة الأندلس المسبية وفلسطين الجريحة:
في دروب مدريد
يطاردون الثيران ويغمدون فيهم السيف الظمآن
ثم يتباهى "المطادور"
ويتجرع أمام المتفرجين
نخب "الكوريدا"
المختلط بالدم
والحصى
والطين
………
في دروب مدريد
لا تزال أنفاس الأندلس
تئن تحت أقدام المدنسين
…..
سوف لن تذبح فلسطين
مهما شحذت السكاكين (ص:10/11).
ويجسد الشاعر بريشته الحزينة موال الخيبة والفشل والهزيمة والضياع والانحلال الوجودي والصمت القابع والحب المتسكع والإنسان المصلوب في قراره كما في هذا المقطع الخطابي:
في عمق عينيك
كلمات الرفض
تتمخض في زمن الإباحة
وخطابات خيالية
وقاموس معقد الحروف والمعاني
في عمق عينيك
أكتب الأمداح
لقمر خجول ضل السبيل
وضاع بين فجاج الصحاري( ص:14)
ويصور الشاعر إحساسه المفعم بالاغتراب، ويظهر بصدق رائع معاناته من الوحدة القاتلة، والتلذذ بالأحلام الماضية والسراب الواهم والانغماس في كؤوس الصمت والتفرد والبعد والهجران والسمر اللامعنى له بين الغربة القاتلة والحرية المطلقة الماجنة:
أحس بالأجواء النائية
ترتعش فينهار الضباب
وأتسلل أمام مجمري القليل الدفء
ثم أضاجع أحلام البارحة
وحيدا….أسامر ليل الأوهام
أعانق ضوء القمر البعيد
الصمت هنا…عملاق عنيد
حتى الظل ينتحر فوق الغمامة
وحين يخمد اللهب النحيل
في مجمري القليل الدفء
اقرأ في الرماد تحت النجوم
وأشرب نخب الأسف…بلا اكتراث
وعندما تتحطم كأس الهموم
وتسيح منها رائحة القوارير
فالليل هنا منبوذ
والسمر تافه
والعيش ضئيل
والغربة حيرة مذهلة
لكن الحرية هنا…طعم لذيذ(ص:15/16).
ويلعن الشاعر هوان الإنسان العربي و ضلاله وانحرافه وتيهه و ابتعاده عن العلم وتعاليم العقيدة :
في بداية العصر
كنا نقدس الحرف
وندرس المصحف
وعلى الدرب
كنا نسير بأمان
وهكذا
يمر علينا الدهر
ويكشفنا الزمان
وتشهد علينا الجدران
بأن
خذلنا الحرف
والمصحف
والعروة الوثقى
واستسلمنا للهوان(ص:17)
ويعود الشاعر مرة أخرى لينشد أغاني الهزيمة والسقوط والانتظار في كثير من قصائده اليائسة التي تتقطر بالجرح والذل والصمت الرهيب والموت الطافح بالتوجع والأنات الأليمة:
أكوام من بقايا عروق بالية
تزحف ببطء تنهشني
تزج بي، في يم عارم
مع جماجم هذا العصر
المليئة بالحسرة والتعب
تنتحر من أجل سراب أبله
تتراكم على مرايا الانهزام
وتعكس آهات من الفشل
حطام عظامي الكئيبة
يشيخ في زنزانة القسوة
قضبانها تتقلص، في شحوب غائر
وفي قعر الدموع
يتربع اليأس(ص:20/21).
وتتحول الأشعار والأناشيد عند بن يونس ماجن إلى وثائق تراجيدية تعبر عن ضياع الإنسان العربي وتمزقه بين الاغتراب الذاتي والمكاني وجنوحه إلى فلسفة العجز والقصور واليأس القاتل والارتكان إلى النهار المر والزوابع المتربة والأجواء المفسدة وأحلام السراب الواهمة:
في النهار المرجع: تستأنف المتاعب
ويشيخ الملل
ويتربع الشقاء على حجر الفشل
ثم تنتحر الأعصاب
أمام أغلال الدهر الثقيل
والكون جزيرة قاحلة الصمت
وفضاء يمتص الخواء
والشمس أجواء
تذوب في جفاف القبض(ص:26)
وعلى الرغم من الألم والحزن والكآبة القاتلة والزمن الضائع والغربة المميتة الناهشة، فإن الشاعر يحلم بالغد المعسول والمستقبل الأفضل ويأمل في الحرية ويتوق إلى نسيم الفجر وشمس الجلاء ونور الانتصار. أي إن الشاعر يعزف على أوتار الألم و إيقاع الأمل و أنغام المعاناة وسيمفونية الفرج:
في قلعتنا
الرعب يلف وجودنا الذليل
وينوء القلب
داخل أغوار الصمت البعيد
أيها اليائس
تحت شجرة الزيتون
أيها المجهول
على رحاب السفينة الغارقة في الجحيم
سيأتي يومك المنتظر
سيأتي يومك العظيم
فتهيأ لموكب رفاق الحرية
وترقب بزوغ الفجر الجديد
وهل سمعت حكاية الأنواء
كيف أصبحت تكره الغسق
….زماننا سوف لن يموت
فهيا نذبح العنكبوت
ونقدمه قربانا لطيور القبيلة( ص:44).
وعليه، فالشاعر ينطلق في ديوانه الشعري من رؤية وجودية يتداخل فيها ماهو ذاتي وموضوعي، ويتغنى كذلك بتيمة الألم والأمل والاغتراب الذاتي والمكاني. ويلاحظ أن تيمة الغربة /الهجرة من سمات الشعر المعاصر ومن مكونات المتن الشعري في المنطقة الشرقية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انكسار الإنسان العربي واستسلامه لليأس والحزن والهزيمة والسقوط والانتظار والهروب بعيدا عن بلده ومأوى ذاته المنخورة. ويمكن أن نعتبر بن يونس ماجن مؤسسا فعليا لمدرسة الاغتراب المهجري في حركية الشعر المغربي في المنطقة الشرقية إلى جانب الشاعر القدير والمتميز علي العلوي. ومن المعلوم أن المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى تعرف عدة مدراس شعرية كالمدرسة الإسلامية مع حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة وعبد الرحمن عبد الوافي وفاطمة عبد الحق… والمدرسة الواقعية( المختار بالقاضي، وعبد الرحمن بوعلي، وعبد السلام بوحجر..)، و المدرسة الوجودية( عبد الرحمن بوعلي، وحسين القمري، وفاطمة عبد الحق في بداية مشوارها الشعري، ومحمد منيب البوريمي…)، والمدرسة التجريدية الرمزية ( يحي عمارة وعبد القادر غزالي، و جمال أزراغيد…)، ومدرسة آل لقاح المتميزة بجودة الشعر ورونقه الرائع المتمثلة في علميها البارزين أستاذي محمد لقاح الفاضل، وابنه الشاعر المحنك ميلود لقاح، ناهيك عن المدرسة الشعرية الكلاسيكية و مدرسة الانكسار الشعري التي بدأت تضم كثيرا من الشعراء الشباب والمبتدئين( البكاي كطباش، وبوزيان حجوط،، وحليمة الإسماعيلي ، وتوفيق الغربي، وعبد الغني بوحميدي….).
2- جماليات الديوان:
يستند الديوان إلى قصائد شعرية متنوعة الروي والقافية متمردة عن صرامة الوزن الخليلي وثنائية الصدر والعجز. وقد استبدل الشاعر تلك المعايير العمودية بنظام الأسطر والجمل الشعرية التي تعتمد على وقفات نظمية وإيقاعية ونفسية ممتدة مع طول ونفس القصيدة والجمل الشعرية. ويتوكأ الشاعر على تكسير الإيقاع الخارجي واستبداله بالموسيقا الداخلية والتوازي الصوتي واللفظي والتركيبي وتوالي الحركات والسكنات تفاديا للإيقاع الرتيب المموسق خارجيا مع استعمال ظاهرة التدوير تركيبا ونسجا ونظما:
تنعرج خطوط العرض
عند كسوف الشمس
ويفيض العائم
ثم يتوارى الأفق
مع النهار الذابل
لقد طمسوا المصابيح المذعورة
عندما رأوا النجوم
تحدق إلينا بأسف
ونحن لازلنا نرسم خيوط الأمل(ص:28).
نلاحظ في هذا المقطع كثرة الحركات المتكررة إيقاعيا ( تنعرج خطوط العرض) التي تحتاج إلى إدغام سكوني ومماثلة تجمع بين الحركة والسكون لإيقاف نثرية الإيقاع وتقريريته الخبرية. ولكن الشاعر التجأ إلى المد في كلمات (خطوط، وكسوف، والعنان، والعالم) ليثري قصيدته بالإيقاع الداخلي عن طريق تماثل الأصوات وتكرارها( العين/ اللام/ الطاء/ الياء….). ونجد للأصوات المهموسة حضورا مكثفا( التاء، الخاء، الفاء، السين، الشين،..) بسبب سوداوية الديوان وصمته الرهيب وهمسه المميت بالجروح والآلام الدامية. كما يوظف الشاعر اللازمة الشعرية ليكرر إيقاع المقاطع من خلال استعمال حركة الكسرة التي تساعد على خفة الامتداد وانسياب الرنات الموسيقية واسترسالها، وهكذا تتكرر اللازمة الشعرية" في عمق عينيك" في قصيدة(أغنية للقمر خجول) مع تكرار قوافي الجمل والمقاطع الشعرية:
في عمق عينيك
تسكن برودة الأغوار،
ويستيقظ صمت الراهب،
المصلوب على الأسوار…
في عمق عينيك
دفنت السر
ولغز الليالي
وتحالفت مع الرمش الساحر
في عمق عينيك
الهمس هذيان وركود
والهوى دفء ووعود
وبركان ثائر.( صك13).
ويستعمل الشاعر لغة رمزية طافحة بالعبق الطبيعي ومعاناة الذات وغربة المكان. وتتحول القواميس اللغوية إلى رموز موحية وخطابات تضمينية مشحونة بالشاعرية والانزياح والتدفق اللغوي الزئبقي. وتذكرنا لغته بلغة أبي القاسم الشابي ولغة شعراء المهجر والنثر الوجداني. ويتوفق الشاعر في اختيار لغته الرمزية النابعة بالرفض والثورة والتمرد والقلق الوجودي. وهذا ما جعل الصور الشعرية تتجاوز نطاق الحس والصورة الوثيقة إلى الصورة الرؤيا والتجريد الأسطوري والرمزي، وتوظيف صورة المشابهة والمجاورة وصورة التضمين الإحالي بتشغيل الأساطير " سيزيف"،والرموز الإنسانية سواء أكانت فلسفية أم تاريخية( مكيافيلي، وسارتر، وكامو،وسقراط وحمو رابي…)، بله عن توظيفه للرموز الطبيعية التي تحمل في طياتها بؤرا دلالية انزياحية تشع منها توهجات المرجع والمقصدية التداولية التي ينتفض من عبرها الشاعر على وجوده الذاتي وواقع الاغتراب.
وفيما يتعلق بالتركيب، فإن الجمل تخضع لخاصية الإثبات والخبر والمزاوجة بين الأفعال الماضية والأفعال المضارعة المقترنة بسين المستقبل الدالة على الأمل والتسويف. ويستحضر الشاعر الجمل الإنشائية بواسطة النفي والنهي والاستفهام ، ويعني هذا أن الديوان سؤال وجودي استفهامي، وجوابه إثبات ولكن الاستدراك يدخل الجواب في حالة النفي والعدم والموت الحتفي.
وينتقل الشاعر عبر ضمائر الالتفات من الذات المتكلمة المنخورة بالأوجاع وأنات الاغتراب إلى المخاطب المصدوم بواقعه المتعفن، والغائب المنسي المصاب بالهزيمة والخيبة حيث ينتظر الذي يأتي ولا يأتي من الأحلام والأوهام اليانعة ببريقها الوهاج بالسراب الأسود.
خاتمــــة:
من هذا العرض الوجيز نستنتج أن الشاعر المغربي بن يونس ماجن يعزف على إيقاع الاغتراب الذاتي والمكاني من خلال رؤية وجودية قوامها الألم والأمل. وينسج رؤيته الشعرية القاتمة بريشة شعرية قائمة على التكسير والانزياح باعتبارهما أداة للتعبير والتشكيل. كما أن الديوان غني بالدوال الرمزية والإحالات التناصية والصور الشعرية المجازية الحبلى بالأقنعة التصويرية الدالة لسانيا وسيميائيا على صراع الذات مع نفسها وصراعها مع الموضوع. ومن هنا يتربع الشاعر على كرسي ريادة أدب الاغتراب الذاتي والمكاني إلى جانب الشاعر المتميز علي العلوي في مدرسته الشعرية التي سميناها بمدرسة الاغتراب المهجري.
ا
٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٧بقلم جميل حمداوي
تكبير النصتصغير النصنص فقط
1- تقديــــــــــــــــــم مناصـــــي:
يعتبر بن يونس ماجن من أهم الشعراء المغتربين الذين يحسبون على الجهة الشرقية في المغرب الأقصى. والشاعر من مواليد 1946 بقرية أنگادي القريبة من مدينة وجدة عاصمة المغرب الشرقي. ويعمل حاليا مساعدا بخزانة الكتب البريطانية، ويكتب باللغتين العربية والفرنسية. ومن مؤلفاته بالعربية: أناشيد للضباب(شعر)، ولماذا لايموت البحر؟ (شعر) ، وهم الآن يكنسون الرذاذ، مرثية أطفال الشوارع( شعر)، وحتى يهدأ الغبار( شعر). ومن أشعاره بالفرنسية دفاتر مهاجر، وانكسارات الظلال ، و لصوص الأراضي.
أما الديوان الذي سنخضعه لمجهر الدرس والتحليل فهو ديوانه بالعربية "مسامات" الذي صدر لأول مرة عن دار الحداثة للطباعة والنشر ببيروت سنة 1993 م في ثمان وأربعين صفحة من الحجم المتوسط بمقاس(57/82). وقد تولى عماد أحمد ترصيف الخط وكتابة الأشعار باللغة العربية، بينما تكلفت دار الحداثة بتصميم الغلاف الذي يحمل في طياته صورة تشكيلية تجريدية تحيل على عالم الحزن والموت وضياع الإنسان واغترابه ذاتيا ومكانيا. ويلاحظ أن بن يونس ماجن يتعامل مع عدة مطابع على مستوى الطبع والنشر والتوزيع كالمطابع الأجنبية ( لندن، وباريس)، والعربية( بيروت، والرباط، وعمان، والقاهرة، ودمشق…)، وهذا ما أكسبه شهرة كبيرة في الساحة الشعرية ورقيا ورقميا.
ومن يتأمل عناوين الديوان الداخلية والمفهرسة فإنه سيخرج بانطباع أولي هو أن الشاعر بن يونس ماجن يحمل فوق كتفه صخرة ثقيلة من الفواجع المكلومة، والهموم الكثيرة، والأحزان المتشعبة. ويرسم – بالتالي- رؤية وجودية قوامها المعاناة المريرة والمكابدة الأليمة. وتنهكه الجروح الذليلة، و يقعده الهوان الأخرس، و يحزنه النهار المر، ويعبث به النسيان، ويداعبه العبث الماجن واللامبالاة التائهة. أصدقاؤه سقراط وسيزيف ودانتي وميكيافيلي وسارتر وكامو. يلاحقه الكسوف الثائر والليل الأسود والعنكبوت المارد. وتنخره الجروح وتسحقه الأوهام والأغاني الخجولة، وتميته الأسئلة الصماء والمدن العجفاء.
1- مضامين الديوان:
يستهل الشاعر ديوانه " مسامات" بإعلان الصراخ المدوي بالمعاناة المريرة والتجارب الأليمة وانغماسه في عالم الذهول والكوابيس الذبيحة والأعاصير الحزينة ونقمته على الليالي التعيسة:
أكره ليل الحسم
الطويل المدى
لأن أجوائي
أصبحت ضيقة الجوانب
ونجوم فضائي
تحولت إلى أصداف مهجورة
وفي حلمي المستمر
أتقمص معاناة العنف الذليل
أصرخ في وجه الأشباح، والصعاليك
وأتيه كالفراشة المحروقة الجناح
واشعر أن كابوسا الإعصار
يفرغ طلقاته
على عالمي الذبيح
وأدخل مع الذهول(ص:5)
وينتقل الشاعر من ذاته المتآكلة إلى الشوق والحنين إلى وطنه الجريح بالقفر والآهات، يستشرف الصيف الدافئ والفجر المعسول والشمس الوهاجة بعد ضيق الذات بين أنياب الغمام وسأم الوجود في بلاد الغربة وأرض الاستلاب والكآبة الحزينة:
وحين يغمر الغمام الدافئ
آفاق بلادي النائية
ويتسلل الشفق
وتغدق الشمس الظلال الناعسه
أتوق إلى صيف بلادي المستهام
وأنا كالبحيرة
المخنوقه
التي تقلصت مع الأيام
وتمر أمامي مواكب الساعات الكسيحه(ص:7)
و في قصيدته( سؤال) يصرح الشاعر برؤيته الفلسفية ومذهبه في الحياة من خلال طرح أسئلة أنطولوجية وجودية تذكرنا بالطرح السارتري ؛لأن الشاعر يتغنى باليأس والسأم الوجودي والملل والاغتراب والانتظار القاتل، انتظار الذي يأتي ولا يأتي. إن الشاعر يثور في القصيدة على الظلم والقهر والاستعباد ويحلم بالحرية والأمل والحب الوارف السعيد وإنسانية الإنسان:
شاخ انتظارنا
وطال يأسنا
وجنينا فتات الثمار
رغدا من سيزرع الغمام؟
من سيكسر أغلال الضباب؟
من سينقذ المصابيح المعتمة؟
من سيتوحم بتربة الاغتراب؟
ترى، من سيحكي عن مؤامرة الذئاب
لصبيان الضيعة الغابرة؟
ومن سيطارد النسور الهاربة؟
ويكسر الناي الأبح؟
وماذا بعد أن يرحل عنا البحر المهترىء
وتتقيأ الأمواج سرابا لامعا
وتتحرر كلط الرهائن" مقابل كرعة وحل؟( ص:9)
وينتقل الشاعر من الذات والوطن وفلسفة الوجود إلى ما هو حضاري وقومي ليثور على حضارة الشمال وإنسان الغرب الذي يتلذذ بسفك الدماء وقتل الأبرياء كما يتمظهر ذلك في مصرع الثيران المذبوحة على شاكلة الأندلس المسبية وفلسطين الجريحة:
في دروب مدريد
يطاردون الثيران ويغمدون فيهم السيف الظمآن
ثم يتباهى "المطادور"
ويتجرع أمام المتفرجين
نخب "الكوريدا"
المختلط بالدم
والحصى
والطين
………
في دروب مدريد
لا تزال أنفاس الأندلس
تئن تحت أقدام المدنسين
…..
سوف لن تذبح فلسطين
مهما شحذت السكاكين (ص:10/11).
ويجسد الشاعر بريشته الحزينة موال الخيبة والفشل والهزيمة والضياع والانحلال الوجودي والصمت القابع والحب المتسكع والإنسان المصلوب في قراره كما في هذا المقطع الخطابي:
في عمق عينيك
كلمات الرفض
تتمخض في زمن الإباحة
وخطابات خيالية
وقاموس معقد الحروف والمعاني
في عمق عينيك
أكتب الأمداح
لقمر خجول ضل السبيل
وضاع بين فجاج الصحاري( ص:14)
ويصور الشاعر إحساسه المفعم بالاغتراب، ويظهر بصدق رائع معاناته من الوحدة القاتلة، والتلذذ بالأحلام الماضية والسراب الواهم والانغماس في كؤوس الصمت والتفرد والبعد والهجران والسمر اللامعنى له بين الغربة القاتلة والحرية المطلقة الماجنة:
أحس بالأجواء النائية
ترتعش فينهار الضباب
وأتسلل أمام مجمري القليل الدفء
ثم أضاجع أحلام البارحة
وحيدا….أسامر ليل الأوهام
أعانق ضوء القمر البعيد
الصمت هنا…عملاق عنيد
حتى الظل ينتحر فوق الغمامة
وحين يخمد اللهب النحيل
في مجمري القليل الدفء
اقرأ في الرماد تحت النجوم
وأشرب نخب الأسف…بلا اكتراث
وعندما تتحطم كأس الهموم
وتسيح منها رائحة القوارير
فالليل هنا منبوذ
والسمر تافه
والعيش ضئيل
والغربة حيرة مذهلة
لكن الحرية هنا…طعم لذيذ(ص:15/16).
ويلعن الشاعر هوان الإنسان العربي و ضلاله وانحرافه وتيهه و ابتعاده عن العلم وتعاليم العقيدة :
في بداية العصر
كنا نقدس الحرف
وندرس المصحف
وعلى الدرب
كنا نسير بأمان
وهكذا
يمر علينا الدهر
ويكشفنا الزمان
وتشهد علينا الجدران
بأن
خذلنا الحرف
والمصحف
والعروة الوثقى
واستسلمنا للهوان(ص:17)
ويعود الشاعر مرة أخرى لينشد أغاني الهزيمة والسقوط والانتظار في كثير من قصائده اليائسة التي تتقطر بالجرح والذل والصمت الرهيب والموت الطافح بالتوجع والأنات الأليمة:
أكوام من بقايا عروق بالية
تزحف ببطء تنهشني
تزج بي، في يم عارم
مع جماجم هذا العصر
المليئة بالحسرة والتعب
تنتحر من أجل سراب أبله
تتراكم على مرايا الانهزام
وتعكس آهات من الفشل
حطام عظامي الكئيبة
يشيخ في زنزانة القسوة
قضبانها تتقلص، في شحوب غائر
وفي قعر الدموع
يتربع اليأس(ص:20/21).
وتتحول الأشعار والأناشيد عند بن يونس ماجن إلى وثائق تراجيدية تعبر عن ضياع الإنسان العربي وتمزقه بين الاغتراب الذاتي والمكاني وجنوحه إلى فلسفة العجز والقصور واليأس القاتل والارتكان إلى النهار المر والزوابع المتربة والأجواء المفسدة وأحلام السراب الواهمة:
في النهار المرجع: تستأنف المتاعب
ويشيخ الملل
ويتربع الشقاء على حجر الفشل
ثم تنتحر الأعصاب
أمام أغلال الدهر الثقيل
والكون جزيرة قاحلة الصمت
وفضاء يمتص الخواء
والشمس أجواء
تذوب في جفاف القبض(ص:26)
وعلى الرغم من الألم والحزن والكآبة القاتلة والزمن الضائع والغربة المميتة الناهشة، فإن الشاعر يحلم بالغد المعسول والمستقبل الأفضل ويأمل في الحرية ويتوق إلى نسيم الفجر وشمس الجلاء ونور الانتصار. أي إن الشاعر يعزف على أوتار الألم و إيقاع الأمل و أنغام المعاناة وسيمفونية الفرج:
في قلعتنا
الرعب يلف وجودنا الذليل
وينوء القلب
داخل أغوار الصمت البعيد
أيها اليائس
تحت شجرة الزيتون
أيها المجهول
على رحاب السفينة الغارقة في الجحيم
سيأتي يومك المنتظر
سيأتي يومك العظيم
فتهيأ لموكب رفاق الحرية
وترقب بزوغ الفجر الجديد
وهل سمعت حكاية الأنواء
كيف أصبحت تكره الغسق
….زماننا سوف لن يموت
فهيا نذبح العنكبوت
ونقدمه قربانا لطيور القبيلة( ص:44).
وعليه، فالشاعر ينطلق في ديوانه الشعري من رؤية وجودية يتداخل فيها ماهو ذاتي وموضوعي، ويتغنى كذلك بتيمة الألم والأمل والاغتراب الذاتي والمكاني. ويلاحظ أن تيمة الغربة /الهجرة من سمات الشعر المعاصر ومن مكونات المتن الشعري في المنطقة الشرقية. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على انكسار الإنسان العربي واستسلامه لليأس والحزن والهزيمة والسقوط والانتظار والهروب بعيدا عن بلده ومأوى ذاته المنخورة. ويمكن أن نعتبر بن يونس ماجن مؤسسا فعليا لمدرسة الاغتراب المهجري في حركية الشعر المغربي في المنطقة الشرقية إلى جانب الشاعر القدير والمتميز علي العلوي. ومن المعلوم أن المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى تعرف عدة مدراس شعرية كالمدرسة الإسلامية مع حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة وعبد الرحمن عبد الوافي وفاطمة عبد الحق… والمدرسة الواقعية( المختار بالقاضي، وعبد الرحمن بوعلي، وعبد السلام بوحجر..)، و المدرسة الوجودية( عبد الرحمن بوعلي، وحسين القمري، وفاطمة عبد الحق في بداية مشوارها الشعري، ومحمد منيب البوريمي…)، والمدرسة التجريدية الرمزية ( يحي عمارة وعبد القادر غزالي، و جمال أزراغيد…)، ومدرسة آل لقاح المتميزة بجودة الشعر ورونقه الرائع المتمثلة في علميها البارزين أستاذي محمد لقاح الفاضل، وابنه الشاعر المحنك ميلود لقاح، ناهيك عن المدرسة الشعرية الكلاسيكية و مدرسة الانكسار الشعري التي بدأت تضم كثيرا من الشعراء الشباب والمبتدئين( البكاي كطباش، وبوزيان حجوط،، وحليمة الإسماعيلي ، وتوفيق الغربي، وعبد الغني بوحميدي….).
2- جماليات الديوان:
يستند الديوان إلى قصائد شعرية متنوعة الروي والقافية متمردة عن صرامة الوزن الخليلي وثنائية الصدر والعجز. وقد استبدل الشاعر تلك المعايير العمودية بنظام الأسطر والجمل الشعرية التي تعتمد على وقفات نظمية وإيقاعية ونفسية ممتدة مع طول ونفس القصيدة والجمل الشعرية. ويتوكأ الشاعر على تكسير الإيقاع الخارجي واستبداله بالموسيقا الداخلية والتوازي الصوتي واللفظي والتركيبي وتوالي الحركات والسكنات تفاديا للإيقاع الرتيب المموسق خارجيا مع استعمال ظاهرة التدوير تركيبا ونسجا ونظما:
تنعرج خطوط العرض
عند كسوف الشمس
ويفيض العائم
ثم يتوارى الأفق
مع النهار الذابل
لقد طمسوا المصابيح المذعورة
عندما رأوا النجوم
تحدق إلينا بأسف
ونحن لازلنا نرسم خيوط الأمل(ص:28).
نلاحظ في هذا المقطع كثرة الحركات المتكررة إيقاعيا ( تنعرج خطوط العرض) التي تحتاج إلى إدغام سكوني ومماثلة تجمع بين الحركة والسكون لإيقاف نثرية الإيقاع وتقريريته الخبرية. ولكن الشاعر التجأ إلى المد في كلمات (خطوط، وكسوف، والعنان، والعالم) ليثري قصيدته بالإيقاع الداخلي عن طريق تماثل الأصوات وتكرارها( العين/ اللام/ الطاء/ الياء….). ونجد للأصوات المهموسة حضورا مكثفا( التاء، الخاء، الفاء، السين، الشين،..) بسبب سوداوية الديوان وصمته الرهيب وهمسه المميت بالجروح والآلام الدامية. كما يوظف الشاعر اللازمة الشعرية ليكرر إيقاع المقاطع من خلال استعمال حركة الكسرة التي تساعد على خفة الامتداد وانسياب الرنات الموسيقية واسترسالها، وهكذا تتكرر اللازمة الشعرية" في عمق عينيك" في قصيدة(أغنية للقمر خجول) مع تكرار قوافي الجمل والمقاطع الشعرية:
في عمق عينيك
تسكن برودة الأغوار،
ويستيقظ صمت الراهب،
المصلوب على الأسوار…
في عمق عينيك
دفنت السر
ولغز الليالي
وتحالفت مع الرمش الساحر
في عمق عينيك
الهمس هذيان وركود
والهوى دفء ووعود
وبركان ثائر.( صك13).
ويستعمل الشاعر لغة رمزية طافحة بالعبق الطبيعي ومعاناة الذات وغربة المكان. وتتحول القواميس اللغوية إلى رموز موحية وخطابات تضمينية مشحونة بالشاعرية والانزياح والتدفق اللغوي الزئبقي. وتذكرنا لغته بلغة أبي القاسم الشابي ولغة شعراء المهجر والنثر الوجداني. ويتوفق الشاعر في اختيار لغته الرمزية النابعة بالرفض والثورة والتمرد والقلق الوجودي. وهذا ما جعل الصور الشعرية تتجاوز نطاق الحس والصورة الوثيقة إلى الصورة الرؤيا والتجريد الأسطوري والرمزي، وتوظيف صورة المشابهة والمجاورة وصورة التضمين الإحالي بتشغيل الأساطير " سيزيف"،والرموز الإنسانية سواء أكانت فلسفية أم تاريخية( مكيافيلي، وسارتر، وكامو،وسقراط وحمو رابي…)، بله عن توظيفه للرموز الطبيعية التي تحمل في طياتها بؤرا دلالية انزياحية تشع منها توهجات المرجع والمقصدية التداولية التي ينتفض من عبرها الشاعر على وجوده الذاتي وواقع الاغتراب.
وفيما يتعلق بالتركيب، فإن الجمل تخضع لخاصية الإثبات والخبر والمزاوجة بين الأفعال الماضية والأفعال المضارعة المقترنة بسين المستقبل الدالة على الأمل والتسويف. ويستحضر الشاعر الجمل الإنشائية بواسطة النفي والنهي والاستفهام ، ويعني هذا أن الديوان سؤال وجودي استفهامي، وجوابه إثبات ولكن الاستدراك يدخل الجواب في حالة النفي والعدم والموت الحتفي.
وينتقل الشاعر عبر ضمائر الالتفات من الذات المتكلمة المنخورة بالأوجاع وأنات الاغتراب إلى المخاطب المصدوم بواقعه المتعفن، والغائب المنسي المصاب بالهزيمة والخيبة حيث ينتظر الذي يأتي ولا يأتي من الأحلام والأوهام اليانعة ببريقها الوهاج بالسراب الأسود.
خاتمــــة:
من هذا العرض الوجيز نستنتج أن الشاعر المغربي بن يونس ماجن يعزف على إيقاع الاغتراب الذاتي والمكاني من خلال رؤية وجودية قوامها الألم والأمل. وينسج رؤيته الشعرية القاتمة بريشة شعرية قائمة على التكسير والانزياح باعتبارهما أداة للتعبير والتشكيل. كما أن الديوان غني بالدوال الرمزية والإحالات التناصية والصور الشعرية المجازية الحبلى بالأقنعة التصويرية الدالة لسانيا وسيميائيا على صراع الذات مع نفسها وصراعها مع الموضوع. ومن هنا يتربع الشاعر على كرسي ريادة أدب الاغتراب الذاتي والمكاني إلى جانب الشاعر المتميز علي العلوي في مدرسته الشعرية التي سميناها بمدرسة الاغتراب المهجري.
ا