فاعلية التلقي منطلق لتعدد قراءات المنجز الابداعي
ماهر الكتيباني
20/02/2009
قراءات: 685
المسرح هو فن المشاهدة والرؤيا وذلك يتجلى في الاصل اليوناني لكلمة المسرح إذ تشتق من ( فعل ) بمعنى يرى ، وذلك يؤكد فاعلية التلقي وماينطوي عليه من انتاج للمعنى الذي لايركن الى المستوى المباشر والواضح للعرض المسرحي او غيره بل الى البحث والاكتشاف في المادة المعروضة او المقروءة .
وبدءا فان الاعمال المسرحية وصلت الينا كنصوص مكتوبة اكثر منها تراثا ادبيا ذلك ان ماهو مكتوب كان يعد اعظم شانا من الكلام ، لكن تلك النظرة بدأت بالانحسار مقابل التطور التكنلوجي والحضاري في المستويات السمع _مرئية حيث تمت ازاحة الاهتمام عما هو مكتوب الى الاشكال الثقافية السمع _ مرئية وجذور ذلك الاهتمام نكتشفها مع نهايات القرن الثامن عشر حيث برزت الحاجة الى اعادة اكتشاف الثقافات التي تجاهلتها المادة المكتوبة وتلك الرؤية بدأها فلاسفة كهيردر إذ وضعت الاسس لدراسة المعاني الكامنة في النص والكيفية في تغير هذا المعنى وتطورة خلال مايعرف بعملية التلقي ،ولعل من كتبوا عن نظرية التلقي او مايعرف بعملية التلقي باتجاهاتهم المختلفة يجمعهم اهتمام واحد وهو الدور الذي يلعبه المتلقي في النسيج المعقد للفن باعتبارة علامة تواصلية .
وليس غريبا ان يتم تناول كل من النص والعرض من زاويتتين زاوية الارسال وزاوية التلقي والارسال بمعنى العمل الفني كما يصدر عن المنتج الاول نصا دراميا او نصا مسرحيا والزاوية الاخرى هي زاوية التلقي وهي الاهم ، ونظرية التلقي ترتبط بعملية ارسال المعنى وتلقيه والتي تتم من خلال عناصر ثلاث هي ( الدال والسياق الاجتماعي والمدلول ) ذلك المفهوم يتوضح في ضوء مفهوم القراءة بوصفها تجسيدا وهو ماطرحه كل من فوديكا وانجاردن ، ومعنى ذلك ان النص في حد ذاته لم يعد موضع الاهتمام بل الكيفية في توليد النص وتاويله وترجمته سواء على خشبة المسرح او حتى في ذهن القارئ ، ولعل من كتبوا عن نظرية التلقي باتجاهاتهم المختلفة يجمعهم اهتمام واحد وهو الدور الذي يلعبه المتلقي في النسيج المعقد للفن باعتبارة علامة تواصلية وقد اكد ذلك باتريس بافيس حيث شدد على الحاجة الى نظرية التلقي بقوله " لايوجد شك في انه لايمكننا فهم العرض وعملية الاخراج الدرامي التي تعتبر نصا شارحا الا في ضوء الاليات المختلفة للتلقي" التي ترى في القارئ عنصرا فعالا ، ويشير بافيس الى هانز روبرت ياوس وخصوصا مفهومه ( افق التوقعات ) الذي طرحة في كتاباته كعنصر من عناصر عملية التلقي ، وفكرة افق التوقعات تشير في الاساس الى نسق اوبنية التوقعات الذاتية او نسق الاطر المرجعية التي ياتي بها القارئ عند تعامله مع اي منجز ذلك انه توجد افاق خاصة بالنص ( مرتبطة بلحظة إبداعة ) وافاق اخرى خاصة بالقارئ هذه الافاق تتحول في عمليات متبادلة وبتتابع تاريخي دينامي،وهي تشير الى منطلقات ياوس المتاثرة بالهرمنيوطيقا وبالاخص ماله علاقه مباشرة وسببية بين الماضي والحاضر، إذ يصف بول دي مان تصور ياوس عن التاريخ الادبي بانه عملية إحلال تجاوري داخل نسق متزامن تتحول عند التلقي الى نماذج مكثفة في نسق زمني متتابع ذلك يجعل العرض يتسم بالدينامية والحركة المتفاعلة في الزمن بما في ذلك المتلقي نفسة وفي هذا الصدد يقول ياوس يستلزم منا تجديد التاريخ الادبي بالتخلص من تصوراتنا الذاتية تجاه الموضوعية التاريخية وتاسيس جماليات الارسال على علم جمال اخر خاص بالمتلقي وردود الافعال تتجه لتلقي الموضوع المرسل وذلك يعبر عن العلاقة الجدلية بين العمل الادبي وقارئه التي تشكل اكثر الحقائق جوهرية بالنسبة للتاريخ الادبي . كما اهتم ياوس بقضية اخرى يمكن ان تجذر لها موطئا في نظرية التلقي وتعاضد منطلقاته الجمالية وفيها تفضية لمساحات جديدة في القراءة المغايرة لمنطلق المنتج الاول الذي يطرح ذات المعنى لكل قارئ ومحاولة استدعائه من منطقة الاستاتيكي الى منطقة انفتاحة نحو قراءات متعددة من لحظة الصفر كما يشير الى ذلك رولان بارت او كصفحة بيضاء على حد راي جون لوك .
لقد إهتم ياوس بما اسماه الفراغات الصالحة للعب وكيفية ملئ هذه الفراغات بطريقة ذات دلاله كما ويهتم بالتربية الجمالية وكيفية استخدامها كمصدر من مصادر انفتاح افق اللعب الحر للمتلقي امام كل ماهو حتمي او مسبب او لاارادي ذلك أن جماليات التلقي تعول على الخبرة الجمالية التي يمنحها النص الادبي لقارئ هو احوج مايكون اليها لفك شفراته والتوغل في مجالاته اللامحدودة .
وفي مراحله الاخيره تحول ياوس الى تاريخ الخبره الجمالية مع اعادة تقيمه للذة الجمالية التي إشتملت على التلقي كواحد فقط من انماطها ويقتبس ياوس عن فرويد قوله بان اللذة الجمالية الخالصة تعمل كحافز يولد لذة اخرى اكثر عمقا تصدر عن اغوار اعمق في النفس البشرية وتنطوي هذه اللذة على تلاشي ذلك التماسف الذي يفصل بين ذات المتلقي والذوات الاخرى المغتربه عنه واللذه تنطوي على معنيين ( المشاركة ) و ( الملائمة ) ويستعرض ياوس ثلاثة انماط من اللذة الجمالية وهي : ( الخلق والابداع ) و ( الادراك الحسي ) و ( التطهير ) ويشير كذلك الى ان اللذة الجمالية الادراكية تؤدي الى اللذة الجمالية الابداعية ويرى ان النمط الثالث لها وهو التطهير يمثل انفتاحا لذات المتلقي على خبرات اخرى . إن المثال الذي يسوغه ياوس للذة الجمالية يتجلى بالمسرحيات الدينية في العصور الوسطى حيث يزعم بان القديس اوغسطين اكد على قوة اللذة الجمالية بقوله : على مشاهد المسرحية الدينيه ان يتجاوز مجرد اللاستماع التاملي بالمسرحية فهو ليس متفرجا بقدر ما ان عليه ان يجعل نفسه جزءا من الفعل الدرامي .
ويشير ياوس الى رولان بارت على انه تاثر بالعديد من المفاهيم المسرحية مقتبسا اياها من برخت ومن تلك مفهوم اللذة لقد كان بارت يسعى الى علم جمال يرتكز بشكل كامل على متعة المتلقي ايا كانت ماهيته او الطبقة او الجماعة التي ينتمي اليها وذلك دون اعتبار للغة او الثقافة. في الوقت الذي يؤكد فيه بول ريكور على أن النص هو نتاج لحظة تاريخية وسياق اجتماعي مغاير لتاريخية القارئ من جهة وبين الملائمة أو التخصيص الذي يسبغه القارئ على النص في إطار قراءته وفهمه الخاص له ذلك ان نظرية التلقي الجديرة بالاهتمام هي تلك التي تعتمد على الخاص والذاتي أي القراءات الفردية للعمل الفني بكل مجالاتة .
ان نشاط المتلقي يتجه في منحنين ففي محاولته لتمثل الدوال يسعى نحو اكتشاف المجالات المحتملة التي استخلصها ومن خلال تاويله الخاص يسعى نحو تاكيدها وتلمس اثارها في الدوال وتسفر عملية الربط بين المدلول والدال عن عملية التجسيد بمعنى ان النص لم يعد مجرد مستودع معاني محتملة ينتقي من بينها المتلقي اعتمادا على ذوقه الخاص لكن عملية التجسيد بهذا المفهوم الكلي اسبغت على بنية النص دينامية وفعالية جعلت لها دورا فعالا في عملية الاتصال الابداعي بين المرسل والمستقبل ومفهوم التجسيد يؤكد الاصول الظاهراتية التي خرج منها وخصوصا ظاهرية انجاردن والذي اعيدت صياغته من خلال بنيوية موكاروفسكي الذي يعرف العمل الفني باعتباره علامة مستقله ويقول إن كل عمل فني هو علامة مستقله تنطوي على :
أ. وجوده وماهيته كرمز واضح محدد .
ب. موضوع جمالي له معناه ودلالته .
ت. علاقته بالمدلول علاقة تاخذ بالاعتبار السياق الكلي للظواهر الاجتماعية
اما المفهوم الظاهراتي فهو يؤكد على اهمية عملية القراءة او مايمكن ان يطلق علية المجالات او الافاق غير المحدودة ، ذلك أن العمل الفني نصا اوعرضا او اي مستوى ابداعي آخر يمتلك مجالات عديدة يتم اختزال تلك الافاق في عملية التجسيد اذ يشير هذا المفهوم الى ان حصيلة القراءات تستخلص معنى العمل من خلال ملئ فجوات اللاتحدد ، وفي ذلك يرى انجاردن دورا للمعرفة المتزايدة لما يبثة النص وذلك عبر فعل القراءة الفردي وهو اساسا مايمكنُ القارئ من ملئ الفراغات داخل النص ، ونظرية التجسيد كما بلورها انجاردن تركز على اهمية وجود معرفة بما تشير اليه العلاقة وذلك اثناء عملية بناء العالم التخيلي ، وان تلك المعرفة نحصل عليها من داخل النص ذاته اما كيفية اعادة وضع هذة المعرفة داخل النص فهذه مسالة تتوقف على المنهج المتبع في القراءة وفي هذا الصدد يرى رولان بارت بان كلما اتسم النص بالتعددية كلما كانت الطريقة التي كتب بها اكثر اختزالا ويسير بارت في ذات الاتجاة حيث يركز على مااسماه بالقراءة المفتوحة المثمرة التي تستدعي الحفاظ على مواطن الغموض في النصوص من الافضل إثراء آفاق الغموض والحفاظ عليها الشيء الذي يؤدي الى مضاعفة البدائل التاويلية ، والغموض يحدث في النص او العرض او اللوحة التشكيليه او أي ميدان ابداعي اخر لو حدث ووجد مدلولان او اكثر لدال واحد حيث ان بعضا منها يعد جزءا اساسيا من النص كما يشكل جزءا جوهريا في عملية التلقي ، وهكذا يشكل الغموض الية اساسية ضمن التجسيدات ويمثل كذلك تعزيزا لاي قراءة وتاويل ، لكن الغموض او تعدد المعنى لاياخذ شكلا مطلقا داخل النص الشئ الذي يجعل النص عددا غير محدودا من الدلالات وهنا يبرز دور الهرمنيوطيقيا عندما تتناول نصا في لحظة ما فان هذا النص يصبح له تجسيدا معينا في تلك اللحظة . يشير فيليب هامون الى ان الجزء من النص القابل للقراءة هو مايعطينا إحساسا بمدرك ثقافي سبق لنا إدراكه او سبق لنا قراءته او قوله سواء من خلال نص او من خلال الوسائط الثقافية الاخرى غير النصية اما الجزء غير القابل للقراءة داخل النص فهو ذلك الجزء الذي لايعطينا هذا الاحساس ، وهنا فان على كل من القارئ والمخرج والمتفرج ان يحددوا آفاق الغموض / الوضوح داخل النص والى اي مدى تتسم هذة الافاق بالثبات ويتحكم بطبيعة الحال كل من التجسيد والتاويل في الافاق غير المحددة وهذا بدورةه مايجعل عملية القراءة مثمرة .
ان اي نص خصوصا ذلك الذي يبتعد عنا في الزمن يفقد ويكتسب معاني في ذات الوقت اي العلاقة بينه وبين العمل والمعايير الادبية المرتبطة بالتاريخ اي المرتبطة بالسياق الاجتماعي وكما يقول رولان بارت ليس فقط دراسة تنويعات المعنى تلك التنويعات القابلة للتوليد ليس فقط الرموز ولكن الطاقة الكامنه في تلك الرموز ويوحي تعبير المعاني القابلة للتوليد بتعددية اشكال التلقي التي لايستبعد اي منها الاخر ويمكن الاستنتاج الى أن الافاق غير المحددة ومواطن الغموض داخل النص هي التي تسمح بوجود تجسيدات لذلك النص دون ان يتحول النص الى كيان سهلا مستهلكا ومن هذا المنطلق تمثل الافاق غير المحددة ومواطن الغموض حضورا للمعنى وليس غيابا له
( وللمزيد ينظر كتاب إتجاهات جديدة في المسرح تاليف جوليان هيلتون )
ومما تقدم يمكن تحديد بعض النتائج ومنها :
1_ مفهوم التلقي تاكيد سلطة القارئ باعتبارة منتجا للمعنى
2_ ان النص في حد ذاته لم يعد موضع الاهتمام بل الكيفية في توليد النص وتاويله وترجمته سواء على خشبة المسرح او حتى في ذهن القارئ
3_ النصوص الادبية وغيرها من النشاطات الابداعية الفنية تمتلك قابلية التجدد في معانيها تبعا للزاوية التي يتم من خلالها فعل القراءة
4_ من كتبوا عن نظرية التلقي باتجاهاتهم المختلفة يجمعهم اهتمام واحد وهو الدور الذي يلعبه المتلقي في النسيج المعقد للفن باعتبارة علامة تواصلية
5_ التعدد في القراءات للعمل الفني بتوليد المعاني وجعل المنجز قابلا للتممدد والاتساع يجعله مستمرا ودينامكي في الزمان والمكان
6_ اكتشاف المعنى ينطوي على لذة جمالية وهي انفتاح على الاخر واكتساب للمعرفة
ماهر الكتيباني