التلقي بين التسليم والتنشيط الذهن
فريد النمر
عندما ندقق في الفكر الخطابي العربي ولكل ملفوظ بلاغي سواء كان نصا كلاميا أو نصا مكتوبا تتجلي عندنا صفتان ظاهرتان ذاتا مدلولين قويين هما اللفظ والمحتوى :
فاللفظ بما يحتوي من كلمات جميلة ولائقة ومميزة ومثيرة ومترابطة وسهلة خالية من التعقيد اللفظي وجمالية الترابط النسقي
والمحتوى بحيث يوصل ذلك النص أو الكلام تركيب جمل ذات معنى مفيد يسهل من خلاله معرفة المراد بدقة تامة وبطريقة مقبولة وجذابة يتلقاها المتلقي دون لبس أو ريب.
وهذا ما يجرنا هنا إلى التساؤل عن إن هل صحيح إن كل متلقي سيحمل نفس الانطباع والفهم للمعنى ذاته دون تأويل أو تحليل للنص أو الكلام الذي هو بمثابة خطاب صحيح اللفظ والمحتوى ؟
والجواب طبعا لا...!
ومن هنا سنعود لتساؤل آخر مفاده هو هل المعنى هو شيء ثابت متجانس لا دخل لذواتنا في تشكيله؟, أم المعنى رهين الذات بشكل من الأشكال؟. هل المعنى شيء موجود في الشيء في حد ذاته؟، أم أن ذاتنا هي من يصبغ على ذلك الشيء معنى من المعان نتيجة تجربة سابقة أو ثقافة مكتسبة؟
ولكي نفهم مدى خلوص الإجابة على هذه التساؤلات ,خلص بعض علماء الكلام إلى أن المعنى يعود إلى عمق معرفة المتلقي ودور الإدراك الذاتي المعرفي في إنتاج المعنى بحيث جعلوا من الإحساس الصادق معيار حقيقي بحسب نسبة ما يحمله كل فرد من معرفة وبقدر ما يملكه من مقدرة على ترجمة الإدراك إلى حكم يتم من خلاله استخراج المعنى وهذا ما يعرف بالتأويل الذاتي عند المتلقي وهي لا تنطلق من نظرة عقلية محضة إنما يشترك الحس الذاتي فيها بصورة جوهرية.
واعتمادا على ذلك المفهوم وجب على القارئ المتلقي إشعال الحس التفاعلي في التتبع والتقصي للنص الكلامي والكتابي بشقيه بنوع من التمحيص وإشغال الفكر بشكل يتناسب مع الفهم المنطقي دون تعسف أو تحريف أو جور, معتمدا على ما يحمله من معرفة تراكمية تسمح له بالمقارنة بين هذه التجربة والتجارب السابقة أو بالحكم من خلال ما يتوصل له من فهم ذاتي يفكك من خلاله النص إلى القسمين من ناحية اللفظ والمحتوى.
مع عدم إغفالنا هنا إن لكل طرح نكهة ثقافية خاصة تحدد ذائقة المتلقي وتلعب دورا أساسيا في التحليل والتأويل لديه ,إذ قد تبرز روح العصر والحداثة في مكان وقد تنحسر تلك الروح عنده في مكان آخر وذلك معتمدا على الحالة النفسية للمتلقي ومدى استعداده للتلقي, وكما إن للتوقيت والتغيرات الاجتماعية الأثر الأكبر في بلورة المفهوم الذاتي عند المتلقي.
بيد إن الطابع المتبع في أجواءنا الثقافية هو ذلك الطابع المسلّم والمستسلم إلى كنه الشخوص غالبا والتأثر بالشخصية دون التفاعل مع النص بذاته ويعود ذلك إما إلى الحكم المسبق لذوي الخبرة بقوة لتلك الشخصية أو على متانة ذلك النص أو لان الكاتب أو المتكلم يحمل صفة لا تخول المتلقي لتأويل نصه وتحريكه وذلك لان النص منسوب(لمن يسموا فوقيّ النقد) مثل النصوص الإلهية مثلا فهي فوق فهم المخلوق مهما اجتهد في تفسيرها وكما هي أحاديث النبوية وأحاديث الأئمة القطعية سلام الله عليهم.
إلا انه نجد هناك صفة نكاد نغلبها عقلا حتى لتلك النصوص المقدسة إما بوصفها الأكثر تفسيرية منطقا وعقلا كما جاء في الدليل العقلي كأحد طرق الاستنباط أو الأقل تفسيرية للنص وهو التفسير المحمول على ظاهر النص, ولا نريد هنا الدخول في شواهد دينية مرتكزة على الدليل العقلي لان ذلك من شأن ذوي الاختصاص وإنما نريد إن نحصر تلك الصفة بين التأويل أو التفسير الأكثر واقعية والأقرب للمنطق العقلائي من خلافه.
من هنا تتضح لنا فكرة أن النص أو الخطابة هما حقلان تجريبيان يعتمدان على كثرة التصورات المعرفية طابعا لإقناع المتلقي بتلك النصوص وذلك من خلال تجميل اللفظ ببلاغة جذابة جميلة السمع حلوة المعنى سهلة الاستيعاب وبترصيعها بكلمات الحكمة الإنسانية والتحاكي مع الوجدان أو المعرفة وتزويدها بما تتوق له النفس البشرية ليأخذ مفهوم التلقي الوجه المنتج للمعنى عند القارئ أو المستمع بتتبع مسار ذلك النص سواء كان تاريخيا أو حداثيا بتحفيز الذائقة المعرفية والأدبية اللفظية والبلاغية ومن هنا تنتج أهمية تعلم اللغة وقواعدها وبيانها ومرادفاتها وخصوصيتها.
فانطلاقا من مبدأ الاهتمام بالقراءة لما بين السطور عند المتلقي وقراءة ما وراء النص وجب علينا تغيير الموروث الثقافي وتخطيه بآلية البحث والتقصي عبر الاستجابة للمتغيرات الجديدة والأساليب الحديثة من حيث التفاعل وإعمال حالة البحث والتحقق بشيء من الإبداع والابتكار من الناحية التوليدية أي بتطبيق إستراتيجية جديدة مفادها هي حركة الآخر وهو الملقي كما يحدث عند قراءتنا للوحات الفن التشكيلي مثلا إذ تأخذ الأبعاد والألوان والعمق التعبيري من جمالية لوحة دون أخرى.
هذا يعلمنا أن لكل منا ذائقته الخاصة في فهم النصوص ودلالاتها ما دامت غير فوقية النقد بخلق علاقة جادة مع ما نستمع إليه أو نقرأه كما تفجر عندنا القدرة على الكشف لمكنونات تلك النصوص وان تباينت حولها رؤيتنا أو اختلفت وهذا ما ينشط عندنا الذائقة التأويلية ويصقل فيها الأكثر تفسيرية لقراءة هي الأقرب للواقع والهدف بعيدا عن الافتراضات غير المنطقية مما يحدد عندنا مستوى الاقتناع بهذا النص دون غيره ويميز مدى جماليته وجديته ونفعه وحقيقته حتى لو أحتوى على كثير من الرمزية أو إسقاطات ذات بعد تحليلي آخر.
إذ يفترض على المتلقي حضوره الذهني والفكري والثقافي لتتبع حقيقة ما من عدمها ,وما مدى جدوى تلك المادة من النص من فسادها ولا يحدث ذلك إلا بالتواصل مع ذلك الحضور من خلال حواسه وإدراكه ومعرفته كما يحدث عند قراءة قصيدة شعرية من قبل ناقد يراد منه أن يعطي انطباعا نقديا تجاهها بكل أمانة .
إذ إن الحضور الإدراكي والمعرفي والأخذ بتنشيط ذلك الحضور يجعل من المتلقي يعي ما يدور حوله من متغيرات أو ما يلقى عليه من خطابات أو نصوص ومدى قربها للحقيقة والمنطق من بعدها دون الاستسلام لقناعات الغير التي قد تكون نتاجا لاعتبارات عاطفية أو نفعية أو جهوية مما يفقد الرؤية مصداقيتها في التتبع و خلخلة الإدراك للأكثر تفسيرية والأقرب للواقع والمنطق والعيش ضمن ازدواجية المفهوم وضمور الذائقة عند المتلقي .
وذلك ما سأسميه (بالتبعية أو بالشلل الاستيعابي) لتوقف التحليلي الذاتي ونضب تلك الخصوبة الممنوحة من الله تعالى للتدبر حتى في آياته, فكيف بنصوصنا و جنسها البشري وذلك لا يتأتى إلا بإعمال آلية الفهم بمنظور أكثر تفسيرية والأكثر واقعية لحياة تتكدس فيها المفاهيم المضللة للحقيقة وتتقاطع بها الأوجه من جدوى وجودنا على هذه الأرض وجدوى نتاجنا الفكري والمعرفي وما له من أهمية.