شروط التلقي
نورة ال سعد
كان سقراط يأخذ على السفسطائيين في عصره اهتمامهم بوسائل الاتصال بالناس وكان يجعل منهم موضوعا للسخرية بيد انه اتهم
- هو نفسه - بأنه لم يفعل غير ( الاستعراض الإعلامي الباهر ) على حد تعبير
امبيرتو ايكو لان محاوراته الاقناعية على الأقل قد وقعت في فخ الإخراج
المسرحي الذي كان بطبيعة الحال يتوخى أساليب الخطاب السائدة لاسيما في
مجتمع محبذ للديمقراطية( رأي الأكثرية) فكان عليه الاهتمام بإقناع الآخرين
للحصول على موافقتهم برغم اختلاف طرق البرهنة عنده عنها عند السفسطائيين
.بيد أن سقراط يتميز أيضا عن السفسطائيين جذريا لأنه فضل أن يتجرع السم على
أن يبيع نفسه وفكره وذاك فرق أخلاقي جوهري(1)
إذا
كان ( القارئ اكبر منسي في نظريات الأدب الكلاسيكية .. فقد دشنت .. مجموعة
من الأبحاث في اللسانيات والسيميوطيقا ونظرية الأدب بحثا منهجيا يهم جميع
مظاهر فعل القراءة من عملية القراءة الى مشكلات التأويل والتلقي ) (2)
لقد
كانت نظريات التلقي تحت تأثير مباشر لفلسفة الجمال الظاهراتية فقد تأثر
رواد النظرية لاسيما ايزر وياوس بالفكر الظاهراتي من هوسرل فـ غادامير حتى
هيدغر (3)
يلفتنا د على العلاق الى أهمية التمييز بين الجمهور والقراء لان التفريق بينهما ( يؤشر الى اتجاهين ممكنين تسلكهما القصيدة في طريقها الى المتلقي او بعبارة أخرى منحيين في كتابتهما يستهدفان بالنتيجة نمطين مغايرين من مستهلكي الشعر والمتعاملين معه ) (4)
فالجمهور
كتلة لا تفسح مجالا للخصائص الفردية للظهور وهي لا تسمح للمشتركات الذوقية
والنفسية بالظهور فحسب بل تخضع لها تماما في حال التلقي جماعيا وعفويا
واحتفائيا فالجمهور هو المتلقي لاتجاه شفاهي للقصيدة ذلك
الاتجاه الذي يعتمد على تشكلها الفيزيائي الصوتي أما القراء فليسوا كتلة
واحدة ! إنهم شرائح ومناخات وتعددية منعزلة عن بعضها البعض تجسد ظروف
التلقي الخصوصية ولكل منهم آلياته في القراءة وقدراته وخبرته وحالته
النفسية (5)
ان
المتلقي العربي للشعر لم يزل متعلقا بالبعد الفيزيائي للصوت فالإلقاء
بطريقة معينة بين التطريب والخطابية تشحن الأبيات الشعرية وتلبي حاجات
المتلقي النفسية في الاهتزاز والتحريك والتأثر .
ان
قراء الشعراء اقل بكثير ممن يفضلونه ملقى ويستمعون إليه عبر وسائط صوتية
وفي هذه الحال فهم لا يُعلون من الخصائص الصوتية للشاعر أو من يعهد إليه
بإلقاء الشعر بل بالخصائص الإيقاعية للشعر على وجه الخصوص وقد يفضله البعض
مغنى مؤدى بالصوت واللحن . ان المتلقي هو كل شيء في وعي الشاعر الشعبي انه
لا يعرفه فحسب بل يتوجه إليه ولذلك كان الجمهور عرضة للوم دائما بحكم
سيطرته المباشرة وغير المباشرة الا ان تلك المشكلة لم تطرأ الا لاحقا عندما
أصبح إبداع الكتاب مكتوبا وليس شفويا وأصبحت شروط إيصاله الى الجمهور
متعسرة بأسباب ذاتية وموضوعية .
عندما
حضرت أول مسرحية في حياتي كان عمري 11 سنة وكانت هناك فرقة موسيقية كاملة
(اوركسترا ) مهيبة جدا ولما عزف السلام الأميري لم ينتبه أكثر الناس الى
أنهم يجب ان يقفوا ! ثم انطلقت بعدئذ الموسيقى فجأة و بشكل عاصف وارتاع
الناس ولم يتمالكوا أن يضحكوا على أنفسهم لأنهم بوغتوا .
ولكن
العرض بدأ وكانت الدراما عملا رومانسيا مؤثرا وألهبت حواراته وأحداثه
مشاعر الجمهور وربما بكى بعضنا وأخفى دموعه في أكمامه . أردت ان أقول بأن
الجمهور حينئذ لم يكن مقصرا في نظر المبدع بل كان عمله موجها تماما الى
الناس وفي مستواهم دون أن يقدم تنازلات في الجانب الفني والجمالي أو يتحرى
مردودا نفعيا مباشرا من إيرادات التذاكر أو عوائد استثمار العمل .
وقبل
ذلك في الستينيات كان الفنان لم يزل محتضنا الأفكار العامة وكانت قصائده
وأعماله قناة و معبرا لصوت شعبي بخطابية ونبرة جليلة يتبناها الفنان طوعيا
وتلقائيا لان التناغم وقع بين صوته وصوت الجمهور في قضايا التحرر والعدالة
الاجتماعية والنهوض القومي.
هذا
ما يصدق على شعراء كبار مثل السياب وعبد الصبور ودنقل والفيتوري ومظفر
النواب وغيرهم . كان الشاعر العربي ملتفتا الى المتلقي ومتماهيا معه في
أحيان كثيرة ومتعاليا عليه في أحيان أخرى ! لكنه كان يتوجه اليه بوصفه
ثائرا وطليعيا يقدم عملا تنويريا ملتزما في الدرجة الأولى وكان الشاعر يحرص
على إعلان المعنى من خلال عنوان القصيدة ومن خلال مصابيح نصية ترسم طريقا
واضحا لكيلا تتعدد الاحتمالات فهو يحدد مقصده وهدفه من خلال رموز شفيفة أو أسطرة يكشف غموضها في الهوامش او تصوير يقرب المعنى ولا يطمسه وكذلك باستخدام الإهداء والمقدمات مثلما تفعل مثلا الشاعرة زكية مال الله (6)
ويجود
قصيدته بما يجعلها صالحة للتلقي الجماعي والفردي معا حتى في شعر التفعيلة
عندما جنح الشعراء الى ما تمنحه الزحافات والكسرات العروضية من كبح لجموح
الخطابية والإنشادية والغنائية فان الشعر كان برغم ذلك في متناول الذائقة
العامة ويسعى لإيجاد تلك الصلة الوجدانية بينه وبين المتلقي جمهورا وقراء .
في
فترة المد القومي واكتساحها كانت الأوضاع المتأججة وروح التحرر والغليان
تطرح الشعار والنبرة الخطابية الاستنهاضية ولغة الحلم واليقين بقدرة
الجماهير وكانت الجماهير حينئذ حاضرة تماما وكان حضور المعنى ملحا ولم يكن
للنص أي فاعلية مستقلة عن فاعلية القراءة الآنية . وكان المسرح يتيح ذلك
الاحتكاك المباشر بالناس ويستجيب لحاجاتهم ومشكلاتهم ويستقبل رأيهم مباشرة
اذا أحبوا العرض أو كرهوه لم يكن المسرح الكويتي القائد في المنطقة يتحرى
رضا الناس واستحسانهم بالضحك ودغدغة العواطف بل كان يطرح بفنية وتشخيصية
مشكلات اجتماعية بكفاءة وإخلاص ومراس في ذلك الوقت توفرت شروط التلقي كان
المسرح بديلا عن الشعر كان تشكيلا تصويريا بيد انه كان جماليا وجماهيريا في
الآن نفسه وكثيرا من المسرحيات الكويتية القديمة بالأبيض والأسود تعاد
اليوم ويقبل الناس على مشاهدتها. ثم ظهرت الدراما التلفزيونية التمثيلية لم
تستعد القصيدة صورتها ولا طبيعتها ولا وظيفتها لقد انتقلت جزئيا إلى طبيعة
أخرى تبعا لتغيرات الحياة وحتى القصيدة التقليدية التي احتفظت بشكلها
وإيقاعها وغنائيتها بل وأغراضها الفصحى والشعبي لم تستطع ان تنافس الدخلاء
الآخرين وعلى رأسهم وسائل الإعلام فلم يعد للشعر قيمته الكبرى في الحياة
المعاصرة بوصفه إعلاما وديوانا ومؤرخا وساردا ولم يعد هناك من يتمثل بالشعر
او يحيل الى القصيدة .
(
ولم يكن الجمهور هو المقصر دائما فقد شهد الشعر العربي الحديث أنماطا من
الفوضى في تركيب القصيدة بدءا من وحداتها الصغرى : الجملة وانتهاء بتشكيل
النص الشعري عموما إضافة الى ذلك فان القصيدة لم تكن تنهض في بعض الأحيان
على تجربة إنسانية ممضة وحقيقية قدر اعتمادها على كد ذهني واختلاق وافتقار
الى ما تريد قوله )(7)
أصبحت
كثيرا من الأعمال تتهم بصفات التكفير والعمالة والتخوين فهي مارقة
ومتعالية وغامضة وفوق ذلك لا يبعث أكثرها في النفس هوى ولا هوسا بفنيتها
ومعالجتها الجمالية بل إنها أصبحت في دائرة الشيوع والنمذجة والتنميط بسبب
تشابهها وتجانسها في جملها وتراكيبها وقوالبها والتوائها ونهلها من المعين
ذاته ومن المعجم ذاته تقريبا .
بعد
ان تحدث الغذامي عن صفات النص المفتوح والاختلافي في كتابه المشاكلة
والاختلاف لان ذلك النص ( يستند الى مفهوم اللغة الاشارية ) يقرر بان ( هذه
نظرية في مفهوم القراءة والاستقبال تتفق مع تصور ابي نواس حول النص المعمى
غير المستبان حيث يضع القرطاجني القارئ ( السامع ) في حالة انفعالية ( من
غير روية ) .. فالنص إذن نظام من العلاقات المتشابكة تفضي كلها الى إرباك
المسلمات التلقائية فيما بين المقروء والقارئ تحدث من غير روية وتؤول إلى
المعمى )(
هذه نظرية في القراءة تعتمد على تربية الذوق القرائي وهو ما اسماه أبو حامد الغزالي ( ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم بل بالذوق )(9)
ويقول
الغذامي بانها وان لم تتفق كلية مع ما نجده عند الغربيين العصريين من
النقاد الا إنها لا تختلف جوهريا عما يسمى مفهوم النص الجماعي عند رولان
بارت الذي ( يجمع بين صفة النص وصفة القارئ في جماعيتهما ..
ان النص المفتوح .. يحفز القارئ لكي يعيد كتابته .. والقراءة حينئذ – عند
بارت- لا تكون فعلا استهلاكيا ولكنها لعبة .. استرجاع المختلف )(10)
لم يعد النص منجزا كليا مكتملا بل صار قابلا للتأويل وإعادة الخلق من قبل ما سمي بالقارئ المتميز أو القارئ الفاعل وقد
ازدهر هذا الاتجاه الذي يعلي من فاعلية القراءة في بيئات نقدية معينة فقد
كان ( النقد البنيوي الفرنسي كما يقول جونثان كيلر يقوم جوهريا على نظرية
القراءة ) (11)
يعترف
هولب في أول كتابه نظرية الاستقبال بان التمييز صعب بين الاستقبال
والاستجابة أو التأثير حيث ان كليهما يسعيان الى التعزيز وليس ثمة ما يعين
على الفصل بينهما ويعتقد هولب بان نظرية الاستقبال بوصفها مظلة اصطلاحية
تعبر عن تحول عام في الاهتمام من الكاتب والعمل الى النص والقارئ وتضم
بالتالي ( نظما موجهة مثل نظام نورمان هولاند المعروف باسم النقد التحويلي
والشعرية البنيوية لجونثان كولر والنمطية الفعالة لستانلي فيش) (12)
وتعد نظرية الاستقبال ردة فعل لمحصلة جملة من التطورات الاجتماعية والذهنية والأدبية في ألمانيا الغربية في نهاية الستينيات واعتبر ظهور نظرية الاستقبال جوابا عن أسئلة الأزمة المنهجية في الدراسات الأدبية (13)
وسرعان
ما غرق سوق المطبوعات الأكاديمية بسيل من الكتب التي تتناول المعالجة
الأدبية في أجواء تستحث على إعادة النظر في التطبيق النقدي التقليدي وتسعى
الى البحث عن وسائل جديدة لم تسلم من اضطرابات منهجية ولكن تغلب عليها طابع
التمرد على الماضي(14)
تمثل
نظرية الاستقبال –اذن- منهجا ينظر الى المعايير القديمة نظرة جديدة فيعيد
النظر في التقييم السابق للأعمال الكبرى من جهة ويوفر الأسس لتحليل تلك
الأعمال وغيرها مما كان مستبعدا أصلا من دائرة التحليل من جهة أخرى. (15)
ويبدو
ان نظرية الاستقبال المتأرجحة بإمكانها ان تصنف ضمن النظرية العامة
للاتصال إلا ان ياوس يطور نظرية استقبال الأدب والتأثير بحيث تستند أساسا
الى علم النص سعيا وراء الكفاءة في وظائف انتاج الاستقبال وتفاعلها ( من
اجل إعادة تأهيل القارئ المستمع المشاهد ( المستقبل ) في الدراسات الأدبية
فان ذلك يعادل فتح لغويات النص على نماذج سلوكيات
اللفظ والأوضاع الاتصالية وإتقان السيميولوجية في مفهوم ثقافي للنص وتجديد
أسئلة الموضوع عن دور العالم الحي في الانثروبولوجيا الاجتماعية للحيوانات
والبيئة في الإحياء وعودة المعرفة الاجتماعية مع نظريات التفاعل التي
أصبحت فعالة ومنفصلة عن المنطق الرسمي او التعبيري عبر منطق تمهيدي او
حواري ) (16)
وكان
أقوى نقد وجه لنظرية الاستقبال هو ذاك المنبعث من المعسكر الماركسي في
السبعينيات لاسيما من نقاد ألمانيا الشرقية الذين رأوا في النظرية ردة فعل
للازمة التي تواجه الدراسات الأدبية البرجوازية فقد كان الانتقال الى
الاستقبال بمثابة مؤشر على الإفلاس لكل من الشكلانية التاريخية وجميع
البدائل البرجوازية الأخرى(17)
وبالرغم
من ان جورج لوكاتش وفرانز ميرنج مثلا قد أسهما في مسائل الاستقبال وكذلك
انحاز برتولد بريخت في مسرحه الملحمي لإبراز أهمية استجابة المتفرج وحضوره
الواعي إلا أن السلوكين المتعارضين إزاء الاستقبال في كتابات ماركس ذاته أسهما دون شك في خلق ازدواجية النظرة في النقد الماركسي
الا أن النقد الماركسي يؤكد بان القارئ الاشتراكي من النضج بالقدر الذي يصل فيه الى التفسير الاشتراكي في تأثره بالأعمال(18)
يتساءل
محسن جاسم الموسوي عن الاعتبارات التي جعلت التغيير في القراءة والموقف
محتما ( لا لسبب غير المتغيرات العنيفة التي حتمت المواجهة مع أنفسنا :
فالثوابت التي تكررت بين المثقفين جراء لسيادة الأيديولوجية للفكرين
الماركسي والقومي ) كانت أكثر دفعا للتغيرات وعندئذ وقع المثقفين كما يقول
غرامشي في الفشل في تمثيل ( ثقافة العامة ) بسبب التفاوت ما بين الثقافة
والناس وبين المعرفة والحياة الشعبية حتى غرامشي لا يستغرب عدم وجود ( أدب
شعبي له سمة فنية ) لان الكتاب عاجزون ان يحيوا كما يحيا الناس (19)
بينما
كان الفكر العالمي يمضى في حركته الصاعدة ويطور من نظرياته ويتشعب جاءت
البنيوية إلينا فلم ( يفقهها العرب الا في إطار هامشي جدا لا بصفتها مسعى
لتحويل الدراسة الأدبية الى ميدان علمي له مبادؤه ومفاهيمه وإنما بصفتها
موضة ) (20)
لم
تتوقف مناقشة موضوعي الاستجابة والتأثير في المعسكرين الرئيسيين قط وان
كان المعسكر المؤدلج يدافع عن الجوانب الوظيفية للأدب وجانبه الانعكاسي فان
الجمهور وبالنسبة الى ياوس ( يوجد بذاته وهو
مشخص من خلال نوعية استقبال الأدب .. والتي هي أدبية مقصورة وليست فهما
اجتماعيا وتمارس وظيفتها كوسيط منشىء لتاريخانية الأدب ) (21)
وكان
شيوع الأبحاث التجريبية (والإحصائية ) بالذات معبرا عن المأزق الذي تعانيه
نظرية الاستقبال فالدراسات التجريبية لم تذهب ابعد من التحليل الظاهراتي
والتأويلي ولم تقدم دفعة مهمة لنظرية الاستقبال إلا أن كثيرا من الدراسات
انتظمت في هذا المجال وعضدته .
لقد
واجهت نظرية الاستقبال مواقف متعددة فيما يتصل بعلاقتها بالبنيوية وما بعد
البنيوية من طليعيي فرنسا أو الولايات المتحدة وفي تلك التطورات نلقى
تكثرا في الخطابات التي تشترك في تحديها لطرائق الهيمنة في التفكير فيما
يتصل بالأدب والنصوص وهي تتعدد بصورة راديكالية أكثر منها إنتاجية (22)
لاشك
أن نظرية الاستقبال قد قوضت كثيرا من التطبيقات التفسيرية للأعمال عندما
أقدمت على مقاربة النص باعتباره وظيفة للقارئ وكيفية استقباله للنص وغدا
جوهر العمل غير منته بطباعته ونشره وإنما يتحدد في وقت قراءته حيث يبنى
بالتفاعل بين النص والقارئ (23)
لقد
كان الناقد – القارئ في العقود الماضية يتوقع وجودا سابقا للمعنى في
القصيدة العربية مستقلا عن بنيتها اللغوية ويبحث عنه من خلال مصابيح دلالية
في حياة الشاعر أو المناسبة أو الإهداء أو انه حتى يسال الشاعر مباشرة :
ما موضوعها ؟ ما مغزاها ؟ (24)
ليس بالمستطاع الحديث عن آثار فعالة لهذه النظرية برغم خصوبة النشاط النظري بل
إن تعدد وجهات النظر يثري النظرية ويطورها منهجيا وإجرائيا غير أنها غير
قادرة في النهاية على تحقيق الكثير بالنسبة لنتائجها فيما يخص الجمهور
المستقبل وبرغم تعدد التقنيات
والخبرات الإحصائية فيما سمي دراسات الاستقبال التجريبية فان معظمها لم يجد
نفعا في فهم العمل الأدبي ولا الحصول على معرفة حول قارئ تلك الأعمال ولا
طريقة حدوث القراءة ذاتها .
ان
الافتراضات النظرية في نظرية الاستقبال لا توفر سوى مضامين مطروحة
للمناقشة أكثر منها تطبيقات واضحة لطريقة القراءة ورصدها أو تفسيرها فضلا عن ان القارئ اليوم لاسيما ما يدعى القارئ المتميز لا يسعى -ولا ينبغي له- الى تمثيل قوة تاريخية للتغيير.
ان
نظرية الاستقبال تعارض( شكل التفسير الذي يحتل الاهتمام الأول في معنى
العمل الأدبي ) ويعارض (النموذج المرجعي) الذي يستدعى في النص وهو مختف
وراء ستر الصنعة الأدبية بيد أنهم في نهاية المطاف أذعنوا للقيم القديمة
ذاتها (25)
لطالما
كانت التقاليد الشعرية القديمة تفرض التلقي الجماعي الشفاهي للشعر بل
تحدده بالفئات العليا في المجتمع بعد ان كان عاما شعبيا في الأسواق عكاظ .
ومن المحافل والمهرجانات الشعبية التي كانت تخلق التصفيق والحماس باعتباره
وعيا شعريا يمجد الخطابة والإنشاد أصبحت الصالات الباردة المغلقة مكانا
للأمسيات وقلل من إمكانات الاتصال الجماهيري وحتى القنوات الفضائية خلقت
جمهورا عريضا للكنه لا يتجمع تحت قبة واحدة وصارت الدواوين المطبوعة
المقروءة وسيلة ولكن من يحفل بالشعر الحديث . (26)
يرى الشاعر الإماراتي احمد راشد ثاني بان المشكلة تكمن في شفاهية
الثقافة
العربية المعاصرة بالرغم من أنها تستند إلى موروث حضاري إسلامي ، إلا أن
التدوين مختلف عن مفهوم( الكتابة) بسماتها ووعيها وتفكيرها، وحتى ذلك الوعي
التدويني سرعان ما أنطفأ في ظلمات الثقافة العربية، واستؤنفت مجددا ثقافة
الشفاهية بعد سقوط الخلافة العباسية، ويشير احمد راشد إلى ان المطبعة دخلت
إلى العالم العربي محمولة على مدافع الغازي بونابرت . يعجب احمد راشد لأمر
العرب يقول ( أفهم أن يصف المجتمع الفرنسي- وهو مجتمع كتابي وليس شفاهيا-
الثقافة الدارجة بأنها فلكلور، ولكنني لا أفهم كيف تكون ثقافتنا الشفاهية-
وهي الوحيدة التي نمتلكها- فلكلورا!)(27)
هل
قصيدة النثر اليوم موجه الى الجماعة كما كانت القصيدة العربية القديمة
وكما هي القصيدة الشعبية الموزونة على أبحرها النبطية المعروفة ؟
لقد
كانت ولم تزل طبيعة الموسيقى العروضية مرتبطة باستحسان المتلقي وحالته
الشعورية وفي برنامج جماهيري مثل مسابقة شاعر المليون كان الشاعر يجد
استحسان المتلقين فورا ومباشرة من الحضور في القاعة وكان بدوره يتقصد أن
ينال استحسانهم بتطبيق المعايير المتوخاة من القصيدة الجزلة ذات المعاني
المستطرفة والتي تحرض على القيم المرغوبة لا لان البرنامج كان يطرح إنتاج
الشاعر للتصويت فحسب وإنما لان الجمهور كان موجودا قبل القصيدة وهو الحكم
والمستهلك معا
لم
تقدم مهرجانات الشعر العربية أشكالا جديدة لقراءة الشعر، ولم تزل تعمل على
جمع عدد من الشعراء في قاعة مغلقة او مفتوحة في الهواء الطلق ينتظرهم بعض
(الجمهور) الذي حضر لمشاهدة فعالية لاحقة ، وكأن هذا الشكل هو الوحيد
والمتاح لتداول الشعر تشبها بعكاظ قديمة
اذا
كان ثمة ادعاءات كتابية (يسمونها حداثية)، ولكن الحداثة في رأي احمد راشد
لابد ان تكون (التحول من الإرث الشفاهي إلى النسق الكتابي، القصيدة الحديثة
تدعي أنها كتابية لكنها بالفعل غير منجزة على هذا النحو بل تخلت عن هذا
الخطاب وأكثر دعاتها سطوة هو الشاعر أدونيس الذي انقلب إلى حالة من توسل
الشفاهي ليكون قريبا إلى ما يسمى الجمهور.)(28) ولكن الا يعزز ذلك من تعالي
النخبة ورغبتها في إلغاء الشفاهية وإلغاء الجمهور وإلغاء الاغلبية !!
يجب
ان نعترف بان حركة التمرد الفردي بالذات هي التي كانت وراء ظهور قصيدة
النثر ورفدتها اتجاهات ومدارس فنية وموسيقية لاسيما تلك التى تمجد الفرد
ومسعاه نحو التعبير عن مكنوناته وانفعالاته وفوضاه الأمر الذي اكسب قصيدة
النثر مشروعيتها وملامحها من غنائية خفية وداخلية وخاصة جدا . يقول محمد
بنيس في مقاله بيان الكتابة ( كثيرا ما نوّمنا الذات في آنيتها
واستمراريتها.. وكأنها عضو زائد لابد من استئصاله ) (29)
يدرك
محمد بنيس بان الرومانسيين لما أعطوا الذات مكانها في الإبداع أنتجت أهم
الثورات الأدبية في التاريخ تلك هي الثورة البرجوازية الفردانية التي كانت
قاصرة عن الإدراك من ناحية لكنها دمرت سلطة الإقطاع من ناحية أخرى (30)
لقد
خسرت قصيدة النثر الموسيقى عندما أسقطت الوزن والقافية عمدا وأنكرت
التفعيلة ومضت باتجاه النثرية أكثر فأكثر في تجارب كثير من الشعراء الشباب
في مصر وغيرها. ولم تستطع ان تخلق لها نظاما إيقاعيا محددا في أكثر التجارب
وتعللت بوجود موسيقى داخلية نابعة من إبداع الشاعر وابتكاره وأصالته !!
والخلاصة انه ليس هناك تعريف واضح لتعبيري موسيقى الشعر وإيقاع الشعر
فالبعض يستعمل هذه والبعض يلجأ الى تلك وقد تراجع استخدام كلمة الموسيقى في
دراسات نقد الشعر الحديث وكثر
استعمال الإيقاع والبنية الإيقاعية وبعضهم مثل يوسف حامد جابر استخدم
الإيقاع الشعري ووصفه بأنه( يعد حاصلا للعلاقات الداخلية في القصيدة وما
يتفرع عنها من قيم جمالية وفنية مرتبطة بالنشاط النفسي الذي ندرك من خلاله
ليس صوت الكلمات بل ما فيها من معنى وشعور )(31)
إننا
ندرك هنا الإطار الذي اتخذته تجربة شوقي ودوره وما أنجزه الخطاب الشوقي في
ضمير الأمة ( ان ذيوع قصائد شوقي بين القراء والمتلقين لهو برهان فني
وسوسيولوجي على كون هذه القصائد خير ممثل للرأي العام الذي كان يسعى للنهضة
حينئذ وشهرة الشاعر ليست محض صدفة مجانية )(32)
ان
شوقي لا يسقط في بئر الذاتية كما انه لا يعبر عن حنين أجوف الى الماضي (
بل انه يعبر دائما عن إيمانه بالتقدم الإنساني والحضاري ويبشر بالمستقبل )
(33)
وهذا
لا يمنع اننا ننظر الى الشعرية العربية في المرحلة التالية على شوقي بأنها
مرحلة تطورية في سياقها الاجتماعي الذي أنتج الحداثة محل التجديد الشعري
وقد قام النقاد برصد ( الجانب الذاتي في تجربة الشعر الحر وكيف يطغى ضمير
المتكلم المباشر وتتأكد الأنا من خلال مستويات عديدة وعلى الرغم من كون هذه
الذات ذاتا جماعية إلا انها تلوذ بعالمها الخاص وتتقوقع داخل رؤيا تخصها
بكل ما يشتمل عليه مفهوم الرؤيا من رمزية ومجازية ومفارقة للواقع
الواقعي)(34)
لقد
ظل (الأدبي) هو الخطاب الذي تقرره المؤسسة الثقافية وتضع محدداته
ومواصفاته الجمالية والأخلاقية بحسب رؤيتها المحدودة والضيقة حيث يتم
التصنيف وتجري الاستبعادات وتعد قوائم الممنوعات ( مما اوجد مستوى رسميا
وآخر شعبيا وهذا جنى على الخطابين معا حيث انفصل الأدب الراقي واكتسب قيمة
متعالية ليس على الرعايا فحسب وإنما أيضا على المؤسسة النقدية ذاتها )(35)
هذا
الأمر عطل الحس النقدي وجعل الناقد أصلا احد حراس المؤسسة لأنه استسلم
لشروطها وأصبح مصنفا بحسب محدداتها وأصبح الفعل النقدي مؤطرا في الدائرة
النسقية التي تنتجه وتعيد إنتاجه وتدعمه ولم يعد قادرا على انتقادها وكشف (
عيوب المؤسسة النقدية ذاتها ودورها في تنميط أفعال الاستقبال والتذوق
والتأويل وإخضاع فعل القراءة لشروط المؤسسة وأحكامها ) (36)
يجلب
إلينا الغذامي الدراسات الثقافية لا مروجا لها فحسب ودليلا إليها وإنما
يطرح بدوره دراسات تطبيقية من خلال كتبه المتعددة ( هذه الدراسات التي كسرت
مركزية النص ولم تعد تنظر اليه بما انه نص ولا الى الأثر الاجتماعي الذي
قد يظن انه من إنتاج النص لقد صارت تأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما
يتكشف عنه من أنظمة ثقافية .. وحسب مفهوم (الدراسات الثقافية) ليس النص سوى
مادة خام يستخدم لاستكشاف أنماط معينة من مثل الأنظمة السردية والإشكاليات
الأيديولوجية وأنساق التمثيل وكل ما يمكن تجريده من النص ) (37)
.
مما يعني أن الانترنت والفضائيات صارت هي مجال للنشر غير المراقب، صار فيه
مجال لتجاوز الرقيب.حتى من خلال المسجات المتحركة فضلا عن الإعلانات . اما
النكتة والإشاعة فهما- بلا شك - ذلك( النسق المضمر اذ يفعل فعله دون ان
نعرض ذلك على النقد والكشف ولئن كان الأمر واضحا مع النكتة والإشاعة الا
انه لا يتمتع بوضوح مماثل مع نصوص أخرى أكثر تعقيدا ولا تنكشف فيها الأنساق
المضمرة الا بجهد بحثي خاص )وقد أشار الغذامي الى كبار شعراء العربية مثل
أبي تمام والمتنبي ونزار قباني وادونيس بان نصوصهم تنطوي على( انساق مضمرة
تنبئ عن منظومة طبقية / فحولية /رجعية / استبدادية)(38)
صحيح
ان الدراسات الثقافية تعين على إدراك عمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها
واستهلاكها بيد ان الغذامي نفسه يدرك بان الدراسات الثقافية ( توسع من
استخدام نظرية الهيمنة ) لان ( السيطرة لا تتم بسبب قوة المسيطر فحسب
ولكنها أيضا تتمكن منا بسبب قدرتها على جعلنا نقبل بها ونسلم بوجاهتها
)(39)
لذلك تبث معظم
المحطات الفضائية الأغاني والبرامج الترفيهية المنوعة والفضائحية فحسب أما
الأعمال الدرامية المأخوذة عن روايات حقيقية فهي محدودة ومختارة باعتناء
لكي تطابق شروط البث الفضائي في مفهوم( العرض) المبهر والخفيف والممتع ولعل
أهم الروايات لن تجد من يحولها الى أعمال درامية لأنها أدب محمل بأفكار
صدامية او صراعية ولأنه يحمل من الدلالات ما يجعله مزعجا وغير ترفيهي .
تبسط
الدراسات الثقافية اليوم نفسها على مساحة عريضة وتشيع بوتيرة سريعة بلغ
أوجه في التسعينيات مستفيدة من حمى انتشار النظريات الجديدة ومع ذلك فقد
تلقت نصيبا من الانتقاد لاسيما من هوغارت Hoggart
فالدراسات الثقافية تعاني من( فقرها النظري وتركيزها على العوامل
الاقتصادية والمادية خاصة الاتجاه المسمى بالمادية الثقافية ومفهوم راس
المال الثقافي الذي طرحه( بورديو) حيث جرى تأويل كل فعل حسب شروط الإنتاج
والاستهلاك وحدث تمجيد للخطاب المعارض لمجرد انه معارض والاحتفال بالهامشي
في مواجهة ما اصطلح على وصفه بالراقي )(40)
عندما
سئل الغذامي في لقاء صحفي ( 41) عن القصة القصيرة (السعودية ) لم لم تلعب
دورا تنويرا في المجتمع ؟ اشترط لكي يكون العمل تنويريا، أن يكون
جماهيرياً.وقال ( إذا لم يكن جماهيرياً فهو ليس تنويرياً.)(42)
والغذامي نفسه يعترف بان رجاء عالم على درجة عالية في قدرتها اللغوية، التقنية،
لكنها (ارستقراطية في كل شيء، في نفسها، في عالمها، في شخوصها، في ذاتها،
في مقروئيتها. ولا يقرأها أيضا إلا طبقة خاصة.)(43) وعندما نقرنها برجاء
الصانع في روايتها بنات الرياض. فانه لا يوجد مقارنة بين الروايتين كما
يقول الغذامي (لا على درجة المقروئية، ولا على درجة تناول الشخصية التي
تكون واقعية، كأنها (سواليفية) على نمط نجيب محفوظ، ووضعها بين دفتي كتاب.
)(44) لكن رجاء الصانع أكثر شهرة و أوسع انتشارا من رجاء عالم ! ويفسر
الغذامي ذلك بأننا ( في زمن ثقافة الصورة. الصورة السريعة الملونة
والمباشرة والمتغيرة بسرعة. النص الذي لا يأخذ هذه السمات، لا يجد
مقروئية.) (45) وبالطبع فان النقد
الثقافي يعتني بالأسباب التي تجعل الناس تنساق وراء هذا النص. فالنقد
الثقافي لا يهتم النص في ذاته، بل يدرس ردود الفعل التي تكشف – بدورها - عن
الأنساق الثقافية والاجتماعية في المجتمع ولكنها لن تبرر طغيان شهرة هاوية
عادية مثل رجاء الصانع على روائية ضليعة مثل رجاء عالم ! ان نجاح بنات
الرياض الجماهيري شق الطريق أمام عدة روايات صدرت مؤخرا -لاسيما في
السعودية- وكانت موجهة الى القضايا المسكوت عنها لاستثارة اهتمام القارئ
وفضوله( مثل الشذوذ والعلاقات المحرمة) ولكي تحظى بدرجة تسويق عالية.
والحقيقة
ان نظرة الغذامي الى الجماهيرية ايجابية على عكس الأدبيات التي تشير
بفوقية الى الجماهير فهو يراها ( أكثر استنارة..وأكثر وعياً، وأكثر
أخلاقاً، وأكثر وطنية، وأكثر صدقاً من النخبة. هذا رأي مبني على قراءات
واستنتاجات كثيرة لأن المثقف مؤدلج ومنحاز لأيدلوجياته)(46)
وهذه
المسالة تقودني الى حديث دار يوما بيني وبين الشاعرة سعاد الكواري فقد
كانت سعاد تتحدث باستياء لان جملة من المناشط التي لا تندرج تحت التصنيف
الجمالي الراقي لا تستحوذ على بعض اهتمامنا نحن الكتاب والأدباء بينما تعد
تلك المناشط من وجهة نظرها ذات قدرة وتأثير جماهيري واسع النطاق اكبر من
تأثير إصداراتنا وإنتاجنا الأدبي وقد تساءلت سعاد: من يقرأنا اليوم ؟ بينما
هناك وسائط عصرية بصرية وتقنية جاذبة وجذابة يتكالب الناس على الأطلال
منها كالأغنية الشبابية والدراما التلفزيونية وكانت تؤكد على مفهوم العرض Show وتفضله
على مجرد الطريقة التقليدية في الإلقاء مثلا . لا أظن أن سعاد تعتني
بالوسائط وتركز على أهميتها لان شاعر الأغنية مثلا أكثر انتشارا وتأثيرا من
شاعر قصيدة النثر . ولكن سعاد كانت مستاءة بالدرجة الأولى لأننا لسنا من
الفطنة بحيث نتحول الى وسائط وأشكال جديدة ومقبولة وجماهيرية . ان هناك"
فلاسفة جددا" في الغرب لم يعودوا يقتصرون على الكتاب أو التدريس في
الجامعات ولكنهم يريدون ان يشتغلوا في وسائل الإعلام بالذات بالرغم من إنهم
يلاقون احتجاجا وامتعاضا من الفلاسفة الكلاسيكيين الذين يفضلون الكتب
والتدريس. وفي فترة منتصف الثمانينيات اكتسح الفهم السلفي للدين واجتهاداته
الخاصة كل أصقاع العالم العربي من موريتانيا الى عدن عبر وسيط جماهيري هو
الكاسيت الذي كان ينسخ آلاف المرات ويوزع بأسهل الطرق في الشوارع والمحال
ومن قبل الأميين وربات البيوت وسائقي سيارات الأجرة . كانت
سعاد الكواري تتحدث باندفاع وحماس منقطع النظير وفي الوقت نفسه أوضحت
بأنها غاضبة لأننا نغلف بنظرتنا المتعالية تلك الخطابات الرسمية المطبوعة
التى لا يطلع عليها احد لأنها مقررة ومصنفة بشروط جمالية معينة ولكنها غير
متذوقة ولا قريبة من متناول الناس !
اعتقد ان د .الغذامي كان سيتفق مع سعاد تماما فقد هاله (
الاهتمام المفرط بكل ما هو أدبي / جمالي بالمفهوم الرسمي للأدب وإغفال ما
لا يندرج تحت التصنيف الجمالي وفي المقابل نرى ان الفعل الجماهيري والثقافي
يقع تحت تأثير ما هو غير رسمي فالأغنية الشبابية والنكتة والإشاعات واللغة
الرياضية والإعلامية والدراما التلفزيونية وما الى ذلك هو ما يؤثر فعلا
أكثر من قصيدة لادونيس او غيره )(47)
بل
ان الغذامي يحذرنا بالا ( نجنح الى إنكار أدبية هذه الأنماط التعبيرية (
كالنكتة والأغنية والإشاعة ) اذ إنها مكتنزة بالطاقات المجازية والكنائية
والترميزية وتتحرك ضمن أنساق عميقة وخطيرة والشاهد على ذلك هو طاقتها
التأثيرية الهائلة التي لا ينافسها فيه أي خطاب رسمي مهما بلغ الترويج له )
(48)
يذهب بارت الى ان Signifiance (أي
متعة) لا يمكن أن تنتج في الثقافة الجماهيرية والسبب في ذلك ان المتعة
تأخذ معاييرها و نموذجتها من ثقافة البرجوازية الصغيرة وهو بذلك داخل في
ممارسة النخبة يقول بارت ( ثمة سمة غير اجتماعية للمتعة ) لان الأعمال
الأدبية ما هي الا نتاج ( مجموعة اجتماعية خائبة او عاجزة ، وسياسية وسيكون
الأدب هو التعبير عن هذه الخيبة ) فالأدب نتاج واستهلاك برجوازي. (49)
لاشك
ان للدراسات الثقافية فضلا في توجيه الاهتمام الى ما هو إمتاعي للجمهور
كما إنها اهتمت بالوقوف على الثقافة الجماهيرية ووسائلها ومؤثراتها ولم
يعجز بعض باحثيها مثل كلنر عن أن يلحظ ان ( هناك أنماطا من الأنساق
الثقافية جرى تثبيتها لمجرد انها جماهيرية وامتاعية وهذا فعل ينقصه الحس
النقدي من حيث انه لا يلحظ دور لعبة الإمتاع في ترويض الجمهور ودفعهم الى
قبول الأنساق المهيمنة والرضا بالتمايزات الجنسية (الجنوسية ) والطبقية
مثلما حدث في فيلم رامبو ) وتيرمينيتور ) حيث سخرت المتعة من اجل العنف
الذكوري والطبقي )(50)
ويشير
بارت الى ان الحداثة قد بذلت جهدا واضحا لكي ( تتجاوز التبادل ) لان
الحداثة على حد قوله ( تريد ان تتصدى لسوق الأعمال الأدبية " مبعدة ذاتها
عن الإيصال الجماهيري " كما تريد ان تتصدى للإشارة اللغوية " بإعفاء نفسها
من المعنى ، وبالجنون " كما تريد ان تتصدى للجنس القويم " بالشذوذ الذي
يختلس المتعة من هدف الإنتاج " ومع ذلك لا شيء يمكن عمله فالتبادل يسترجع
كل شيء ) (51)
يشير
بارت الى الانشطار الذي يحسه المجتمع حيث يوجد أمامه نصان احدهما راق رفيع
المستوى والآخر تجاري لا تتعدى قيمته مجانيته وسهوله وذيوعه ولكن المجتمع (
ليس لديه أي فكرة عنه : وانه ليجهل فساده بالذات )(52)
وهكذا
فإننا نستمتع بالأنشطة والنصوص والعروض وفقا لانساق منظمة تضم معايير
اجتماعية تم تدريبنا على اكتسابها مثل أغاني نانسي عجرم بالرغم من انها لا
تمتلك مواصفات فنية متميزة في الصوت والأداء الا ان السياق والوسيلة التي
تحمل الأغنية مثل الفيديو كليب والتكرار في ظهور الفنانة وأغنيتها على
الفضائيات وفي قوائم الأغاني المفضلة والتوظيف الذكي للأغنية في الإعلانات
والحفلات يهيئ النفوس لتقبلها واستمرائها.لان وسائل الإنتاج الثقافي تمتلك
حيلا توهم الفرد بأنها تقدم له ما تريده المجموعة وبالتالي ما يريده هو
أيضا دون ان يستطيع تحديده .
هذا
ما تروجه أصلا المؤسستان الثقافية والإعلامية في الفضائيات وبرامج الإذاعة
ومهرجان الأغنية العربية وأيضا المهرجانات الثقافية السنوية تلك التي تخصص
حيزا كبيرا للحفلات غنائية واستعراضية وموسيقية شعبية أو إقليمية أو
عالمية باعتبار ذلك انفتاحا وتفاعلا مع الثقافات الأخرى وتلك العروض ليس
لها علاقة بما يسمى بالأدب والفنون الرفيعة بل هي الأوسع شهرة وانتشارا
فحسب !! تحمل الوسائط العصرية
ثقافة الوسائل التي تعتني بأنماط معينة وتعمل في مجال (تصنيع التلقي )
فعندما ( تجري عمليات تسليع الثقافة مع دمج الناس في مستوى واحد وتعميم هذا
النموذج مما يحقق تبريرا أيديولوجيا لمصلحة الهيمنة الرأسمالية ويتولى
إقحام الجماهير في شبكة المجتمع العمومي والثقافة العمومية )(53)
ويتحكم
في عملية الإمتاع الجماهيري مبدأ الجدة ويقول بارت ( ليس الجديد درجة .
انه قيمة ، وأساس لكل نقد : فتقييمنا للعالم لم يعد ينصب مباشرة .. على
التعارض بين نبيل ووضيع ولكن على القديم والجديد )(54)
يرى
بارت بأننا نهرب الى الجدة لكي ننجو من استلاب القديم فكل مؤسسات اللسان
الرسمية " هي آلات للتكرار والتلقين والترسيخ كالمدرسة والرياضة والدعاية
والكتب الجماهيرية والأغنية وحتى الأخبار لأنها جميعا تعيد البنية ذاتها
والمعنى نفسه ونحن نعيش ونمارس ذلك القالب القولي المكرر وتلك هي الصورة
الناصعة للايدولوجيا ولذلك ( يكون الجديد في مقابل هذا هو المتعة . يقول
فرويد " ان الجديد ليشكل عند البالغ دائما شرط المتعة " ) (55)
ولكن
بارت يقول بأننا بالرغم من ذلك فقد ندعي بان التكرار ذاته يولد المتعة ! (
وان الشكل غير الشرعي للثقافة الجماهيرية انما هو التكرار المشين : تكرار
المضامين والترسيمات الأيديولوجية ومحو التناقضات ولكن الأشكال السطحية
تتغير : فثمة كتب على الدوام وبث إذاعي وأفلام جديدة وحوادث يومية ولكنها
جميعا تحمل المعنى نفسه دائما )(56)
ويقدم كلنر Kellner
تمييزا لثلاثة أنواع من القراءة المقاومة وهي كالتالي قراءة الهيمنة
وقراءة التحاور وقراءة المعارضة كاشفا بذلك عن التعقيدات القائمة بين
النصوص والجمهور والقوى التى تتولى إنتاج وسائل الثقافة في السياق
الاجتماعي والتاريخي(57)
ينقل ستانلي فش في نظريته عبء التفسير كله الى القارئ فالنص لا يسهم بشيء ويعتمد كلية على ما يجلبه القارئ للنص(58)
وهكذا
فكان النص اختفى عند فش لينمو او يخلق بظهور القارئ . وهذا الظهور للقارئ
يجعله المصدر النهائي للمعنى والتفسير ولذلك انصبت معظم الخلافات في
ألمانيا حول الانحرافات لدى القارئ وكيفية تأهيل القارئ.(59)
وهكذا أنتجت النظرية مفاهيم متزايدة ومتنامية حول القارئ وذكر وولف
مثلا : قارئا متخيلا قارئا ملائما قارئا مثاليا قارئا ذاتيا وخارج ألمانيا
توسعت القائمة لتشمل القارئ المتفوق عند ريفاتير والقارئ المبلغ او الأمير
المروى له عند فيش (60)
اما
بارت فانه يعمد الى شكلنة الأفكار العامة للقراءة يقول ( انا لا اجعله (
النص ) يخضع لعملية توكيدية ناتجة عن وجوده عملية تعرف ( بالقراءة ) وإن "
انا " ليست ضميرا بريئا متقدما على النص ومن ثم يتعامل المرء مع النص كهدف
للتفكيك او باعتباره موقعا يحتله ) لذلك فان قارئ بارت يتميز بأنه يستند
الى عدد لا نهائي من الإشارات أو النصوص (التي ضاع أصلها ) انه بنية مشخصة
بالتشتت والجمعية(61)
ولكن
بارت ينظر الى قارئ النقد بوصفه قارئا من الدرجة الثانية الأمر الذي يجعل
منه متلصصا منحرفا ( فعوضا عن أكون نجيّ هذه اللذة النقدية .. استطيع ان
اجعل من نفسي متلصصا : فأراقب خفية لذة الآخر وادخل في الانحراف وسيصبح
التفسير حينئذ في نظري نصا ووظيفة وطرفا مشقوقا وان انحراف الكاتب ..
ليضاعف مرتين او ثلاثا والى ما لانهاية انحراف الناقد وقارئه )(62)
الهوامش
(1) مسارات فلسفية –حوارات مع فلاسفة – ترجمة محمد ميلاد – دار الحوار – اللاذقية ط1 عام 2004- ص 100
(2)
نظريات القراءة من البنيوية الى جمالية التلقي – بارت – تودوروف ماهيو
هالين شويرويجن اوتن – ترجمة د عبد الرحمن بو علي- دار الحوار – دمشق - ط1
عام 2003- ص109
(3) ترويض النص – حاتم الصكر- الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة – ط 1 -1997 - ص 109
(4) الشعر والتلقي – الدكتور احمد جعفر العلاق – ط1 عام 2002 دار الشروق عمان الاردن -ص 63
(5)المصدر السابق - ص 63- 64
(6)انظر الجزء الثاني من الأعمال الكاملة للدكتورة زكية مال الله
(7) الشعر والتلقي – الدكتور احمد جعفر العلاق ص 69
( المشاكلة والاختلاف- د. عبد الله الغذامي-المركز الثقافي العربي الدار البيضاء بيروت-ط1 عام 1994- ص 98
(9) المصدر السابق ص 101
(10) المصدر نفسه ص 102-103
(11) الشعر والتلقي – الدكتور احمد جعفر العلاق - ص 65
(12)
نظرية الاستقبال مقدمة نقدية- روبرت سي هولب - ترجمة رعد عبد الجليل جواد -
دار الحوار للنشر والتوزيع – اللاذقية- ط1 عام 2004 - ص 8-9
(13) المصدر السابق ص 10و25
(14) المصدر نفسه ص 28
(15) المصدر نفسه ص 30
(16)المصدر نفسه ص 185-186
(17) المصدر نفسه ص 204-205
(18) المصدر نفسه ص 222
(19) النظرية والنقد الثقافي – محسن جاسم الموسوي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت ط1 عام 2005 ص 22 – 23
(20) المصدر السابق - ص 23
(21) نظرية الاستقبال مقدمة نقدية- روبرت سي هولب ص 217
(22) المصدر السابق ص 247
(23) المصدر نفسه ص 247
(24) هاأنت أيها الوقت – ادونيس – دار الآداب- بيروت ط1 عام 1993 - ص 121
(25) نظرية الاستقبال مقدمة نقدية- روبرت سي هولب ص 258- 259
(26) حداثة السؤال – محمد بنيس – المركز الثقافي العربي- بيروت- الدار البيضاء -ط2 عام 1988
(27) لقاء حاوره فيه : حسين جلعاد ( عن جريدة الرأي الأردنية )- نقلا عن الانترنت
(28) المصدر السابق
(29) حداثة السؤال حداثة السؤال – محمد بنيس – المركز الثقافي العربي- بيروت- الدار البيضاء -ط2 عام 1988 ص 31
(30) المصدر السابق - ص 31
(31) قضايا الإبداع في قصيدة النثر يوسف حامد جابر – ط1 عام 1991 – دار الحصاد للنشر والتوزيع – دمشق-ص 244
(32) صلاح فضل والشعرية العربية – أمجد ريان - دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع ط1 عام 2000- ص 51
(33) صلاح فضل والشعرية العربية – أمجد ريان- ص52
(34)المصدر السابق ص 65
(35) النقد الثقافي – الغذامي - ص58
(36) المصدر السابق - ص59
(37) المصدر نفسه -ص 17
(38) نقد ثقافي أم نقد أدبي د عبد الغذامي د عبد النبي اصطيف – دار الفكر – دمشق ط1 عام 2004- ص 42
(39) النقد الثقافي- د. عبد الله الغذامي ص 18
(40) المصدر السابق ص 20
(41) حوار اجراه طامي السميري مع الغذامي. نقلا عن الانترنت
(42)المصدر السابق
(43) المصدر نفسه
(44) المصدر نفسه
(45) المصدر نفسه
(46) المصدر نفسه
(47) النقد الثقافي – د. عبد الله الغذامي - ص 14-15
(48) المصدر السابق ص 61
(49) ص 71 لذة النص – رولان بارت – ترجمة د. منذر عياشي – مركز الإنماء الحضاري ط2 عام 2002
(50) النقد الثقافي – د. عبد الله الغذامي ص 23
(51) ص 50 لذة النص – رولان بارت
(52) المصدر السابق- ص 51
(53) المصدر نفسه ص 22
(54) المصدر نفسه ص 72
(55) المصدر نفسه ص 73
(56) المصدر نفسه ص 74
(57) النقد الثقافي – د. عبد الله الغذامي ص 22
(58) نظرية الاستقبال – هولب- ص 251
(59)المصدر السابق ص 253
(60)المصدر نفسه ص 254
(61) المصدر نفسه ص 256
(62) لذة النص – رولان بارت ص42- 43