ينتظم تاريخ فوكو حول الأحداث التي تتحول فيها قوى التاريخ وتتقلب : أول رواية حديثة ، أو مراقبة لأجساد المرضى ، اليوم الذي تم فيه تحرير المجانين من بيستر ، اختفاء " سفينة المجانين " ، تغير منظر التعذيب بالمشنقة . فإذا تمكنت البنى الطويلة الأمد من تحويل الامتياز غير المسوغ للإنسان في التاريخ ، يستطيع الحدث ، بوصفه واحدا من القطائع ، منع البنى من الظهور بصفة محددات غير مباشرة للفعل الإنساني .
إن علاقة فوكو الساخرة بالتوسير تفسر كلا من استخدامه للفكرة الباشلارية وانتهاكه لها . فإذا تخطينا مبدأي الانفصال والقطائع ، نجد أن كلا من فوكو والتوسير يربط التاريخ بنظرية الخطاب ، ويشترك في إعادة بناء الآثار البنيوية ، ويعمل عند الحدود الواقعة بين المرئي واللامرئي ، وبين البراءة والشعور بالذنب . إلا أنهما يختلفان بشأن الانقطاع الأبستمولوجي عند ماركس . ويضع التوسير ماركس في المركز ، ويرى أن الانقطاع الابستمولوجي في الاقتصاد السياسي والمنهج التاريخي في القرن التاسع عشر يحدث في منتصف ماركس ، أي في 1845 . بينما يرى فوكو أن ماركس يشترك بأبستمولوجيا ريكاردو الاقتصادية(42). ويقتصر انقطاع ماركس على نظرية التاريخ والسياسة . ويقطع فوكو ماركس إلى أجزاء إلا أن من غير الممكن ترتيب هذه الأجزاء زمنيا على نحو خطي linearly لأنه يرى أن ماركس لا يمثل المنشأ ، أي المصدر الأصلي لحدث ما في تاريخ المعرفة ، بل تقسمه قوى أبستيمية معينة إلى أجزاء : إذ بقي علم الاقتصاد الذي جاء به ذا طابع سياسي لبرالي . بمعنى أنه في الوقت الذي يعمل فيه التوسير على تحقيب periodizes التاريخ وجعل ماركس شموليا ، فإن فوكو يقرأ ماركس بوصفه حدثا في وسط طبقات المعرفة المستقلة ، وللمعرفة الاقتصادية زمنها ، مثلما أن للتاريخ والسياسة زمنهما أيضاً ، وهذا يتوافق مع نظرية التحول العامة عند فوكو ، فالانفصال ليس مفهوما عاما بل أداة عمل ، ولا يمكن تحليل الانفصالات تحليلا صحيحا إلا ضمن علاقتها بحقل الأحداث التي تنتمي لها هذه الانفصالات التي تعكسها أحيانا . ويدحض فوكو كل شكلنة formalization في التاريخ : الكليات ، التحقيب ، البنى غير التاريخية . وهكذا نرى فوكو قريباً جداً من برودل الذي يرى أن المناخ والأرض والبحر والأنساق الإقتصادية وعلم السياسة جميعها تتمتع بزمنها الخاص ، وبهذا المعنى لا يعد فوكو مؤرخا للانفصالات بل للأحداث العينية المتجسدة في مجالات متجسدة .
فما تاريخ فوكو ؟ فمع ماركس وبرودل وباشلار يرفض فوكو مثالية التاريخ التقليدي ووضعيته وخطيته . إلا أن فوكو ليس ماركسيا وعضوا في مدرسة "الحوليات" وتلميذا لألتوسير حسب ، بل يعمل في فضاء نسجه هؤلاء الثلاثة . فتراه يتحدث حينما يصمتون ، ويصمت حالما يتحدثون إلى بعضهم ، ويجتاز الحد الفاصل بين الما قيل the said وما لم يقال the unsaid لغرض إعادة توطيد حدود أخرى لا بد من انتهاكها .
المعرفة : يعد فوكو مؤرخا للمعرفة ، قبل كل شيء ، ويتضح ذلك في الكلمات والأشياء " و "حفريات المعرفة " . ويعد " مولد العيادة " تاريخا لنهضة المعرفة الطبية أيضاً . أما " تاريخ الجنس " فيعد مقدمة لدراسة من أجزاء عدة بعنوان " إرادة المعرفة " . وحتى بالنسبة للدراسات التي تبدو معنية قليلاً بالمعرفة ، يعد " تاريخ الجنون " و " المراقبة والمعاقبة " تحليلان لعلاقة المعرفة بالسيطرة الاجتماعية . ويعد فوكو مؤرخا للمعرفة ، لكن مع ذلك تبدو المقولة محدودة جدا لأنها لا توضح سوى اختلافه عن بقية المؤرخين ، فهو يهمل البنى المادية على الرغم من أنه يعمل مع ، وضد ، تاريخ " الحوليات " . إذ أنه يضفي صفة المادية على دراسات المثالي . وضمن هذه الرؤية لا يعد فوكو مؤرخا للعلم على الرغم من أنه يعمل في ضوء تاريخ العلم الباشلاري . فهو لا يقول إلا القيل عن العلوم الفيزيائية التي كان باشلار منهمكا فيها ، أما حينما يتعامل مع العلوم البايولوجية ، مثلما فعل كانغيلم ، تجده يفعل ذلك بخصوص قضية المعرفة العامة . وتراه لا يبدي سوى اهتماما بسيطا باستخدام باشلار في إحياء المادية التاريخية بوصفها علما ، على العكس من شدة الاهتمام الذي كان يظهره التوسير . أما بخصوص التاريخ ، يقع تاريخ المعرفة عند فوكو في فضاء لا يشغله الذين تعلَّم هو منهم . " وهكذا فإن ما تحاول "الحفريات " وصفه ليس بنية العلوم المحددة ، بل حقل المعرفة المختلف جدا "(43).
ومع ذلك يعد اهتمام فوكو بالمعرفة اهتماما باشلاريا في جوانبه الجوهرية ؛ فالانفصال ، والانقطاع ، الإنزياح displacement ، التشتت dispersion ، الإشكالية ، العائق الأبستمولوجي ، التعددية الأبستمولوجية ، تاريخ الخطأ ، نقد التاريخ المتصل ـ جميعها تشكل مفاهيم أساسية عند باشلار ، وتابعه كانغيلم (44) ومما لا شك فيه أنها أساسية عند فوكو أيضاً . إلا أن الأهم من ذلك أن فوكو ، مثل باشلار ، يتخطى التاريخ المتصل من خلال كتابة تاريخ الحقيقة من منظور الأخطاء . ويرى فوكو أن المزاوجات الشهيرة ـ الفلسفة / العلم ، الواقعية / العقلانية ، الحقيقة / الخطأ ـ ليست ثنائيات بل أقطاب . فهي ليست خيارات بل مُسلّمات . وللعلم أبعاده الفلسفية ، والفلسفة تنهل من العلم ، وببساطة نقول أن الواقعية والعقلانية ليسا منظورين فلسفيين شموليين متبادلين ، بل هما بعدين ضروريين لجانب أبستمولوجي(45). لذا ينبغي ألا يحصر التاريخ نفسه في نسق الحقائق ، بل ينبغي أن ينفتح على لحظات الخطأ التي يقال فيها " لا " للماضي ، والبدء من جديد . ونلاحظ في " الفكر العلمي الجديد " ( 1934 ) و " تكوين العقل العلمي " ( 1938) ، وهما من أوائل الدراسات التي قام بها باشلار عن العلم ، وصولا إلى بيانه الأبستمولوجي الواضح في " فلسفة الرفض " The Philosophy of No (1940) ، وتطويره لهذا الموقف في أعماله اللاحقة مثل " العقلانية التطبيقية " (1949 ) و " المادية العقلانية " (1953) ، أن باشلار عمل ، أو أعاد العمل ، على الفلسفة التعددية للمعرفة العلمية . ويصر تاريخ باشلار المنفصل ، خلافا لتطورية توماس كون Thomas Khun الخفية (46) ، على التباري المستمر بين القديم والجديد . وينبغي حتى على نسبية الفيزياء الحديثة العقلانية راديكاليا ، التي تشكل نموذج باشلار ومصدر اهتمامه الأعظم ، أن تقنع بمخلفات الواقعية الوضعية والأساسية . " إن الذي يثير الدهشة هو إن وحدة العلم المزعومة لا تقابل الحالة الثانية أبدا (47) " . فالأبستمولوجيا هي تاريخ الأبستمولوجيات .التي تكون كل واحدة منها حاضرة دائما ، بصورة ما ، وبدرجة ما ، لكن لكل واحدة منها تاريخها الخاص بالعالم العيني المتجسد الذي يؤكد الجديد برفض الماضي ، لكن باشلار يرى أن المفهوم المرفوض يبقى في جانب خاص . " إن رسم الذرة الذي اقترحه بوهر قبل ربع قرن من الزمان كان بمثابة صورة جيدة لم يتبق منها شيء لكنها كثيرا ما توحي بالرفض بما يكفي لتحويل دورها الذي لا يمكن الاستغناء عنه إلى بيداغولوجيا استهلالية . ويتم تنسيق هذه المرفوضات بسعادة لأنها تمثل مكونات الفيزياء المعاصرة المصغرة(4Cool" .
وعلى هذا الغرار ، يرى فوكو أن المعرفة تعددية ، وأن الانفصالات في تاريخ المعرفة لا تعزل الماضي عن الحاضر . فالمعارف المتجسدة لها أزمنتها التي تتداخل فيها ، والعلم لا يكون صرفاً أبدا ، فهو يكون أيدلوجياً دائما ولهذا تراه مليئا بالأخطاء . إلا أن تصحيح الأخطاء لا يحرره من الأيدلوجية (49) . كما أن المعرفة التاريخية ليست صراعا بسيطا بين الواقعية والعقلانية ، بين ما هو تجريبي وما هو مفهومي ، بل أنها تتولد من التوتر tension بين هذين القطبين . وينتقد فوكو تاريخ الأفكار بالطريقة ذاتها التي ينتقد بها تاريخ الأحداث ، لكنه يفعل ذلك بأسلوبه الخاص . إلا أن الأوضح من ذلك أن فوكو يكتب تواريخ المعرفة خاصته من خلال الإشارة إلى الخطأ والفشل باستمرار : إنهيار الفرق بين العقل واللاعقل في " تاريخ الجنون " ، وخطأ المراقبات الجسدية من دون نظرية وافية للأنساق الرابطة في " مولد العيادة " ، والخطأ في أسطورة الإصلاح التكفيري في " المراقبة والمعاقبة " ، وخطأ فرضية الكبت في " تاريخ الجنس "، و … إلخ .
وفي الوقت ذاته يشكل تاريخ العلم الباشلاري حدا تخطاه فوكو في عمله . ففي " حفريات المعرفة " يوضح فوكو مشروع دراسته لما تجاهله مؤرخو العلم (50)… بدءا بالفكرة الباشلارية ومؤداها أن العلوم ، المُعرَّفة عموما ، أزمنة غير منتظمة ومتغايرة الخواص ومشتتة (51). ويصف فوكو العتبات thresholds بأنها أربع عتبات منفصلة يمر بها العلم : حيث يلتقي أولاً بعتبة الوضعية حينما يتخذ نوع الخطاب فرديته الخاصة ، وإن كان مفتقرا إلى معايير الصلاحية validity أو المعايير الشكلية للحقيقة أو البديهيات ، ثم يصل إلى عتبة الأبستمولوجية epistemologization حينما تتم المحاولات ، غير الناجحة أحيانا ، الرامية إلى ترسيخ مادة معروفة متساوقة وصالحة وأصلية ، ثم عتبة العلم scientificity حينما تقوم مادة المعرفة بتحديد المعايير الشكلية التي يتم توظيفها في القوانين لبناء الفرضيات . وأخيراً نصل إلى عتبة الشكلنة حينما تعد البديهات الشكلية في العلم نقاط انطلاق مشروعة للمعرفة .
يحدد فوكو عند العتبات المعرفية المتداخلة الثلاث ، ثلاثة أنواع من تاريخ العلم : 1ـ تاريخ الرياضيات عند عتبة الشكلنة 2ـ تاريخ العلوم الطبيعية والفيزيائية بين عتبتي الأبستمولوجية والعلمنة ، وهو المجال الذي عمل فيه كانغيلم وباشلار 3ـ تاريخ فوكو الحفرياتي عند عتبة الأبستمولوجية ، ويمثل الموضع الذي تبدأ فيه مادة المعرفة باستخدام خطاب متساوق مستقل ، ولا تعد هذه المجالات ذات طابع كلي [شمولي] ، بل تحتفظ بعض العلوم باستعارات metaphors بدائية إلى جانب البديهيات الشكلية (52) . إلا أن فوكو يتخطى الحدود التي وصلها باشلار حينما درس العلوم عند عتبات أكثر بدائية ، أي عند النقطة التي يصبح فيها خطابها أبستمولوجيا ، بمعنى حينما تصبح معارف . وهكذا فهو يهتم بالعلوم الإنسانية الأولى ، بدايات الطب العياداتي ، بعلم الأمراض النفسية ، بعلم الجريمة الذي يبحث في إدارة السجون ومعاملة المجرمين . وخلاصة القول أن فوكو يدرس العلوم التي يكون فيها الحد بين الخطأ والحقيقية ضعيفا جدا ولاسيما تلك التي يطغى عليها حضور الأيديولوجيا .
يرى فوكو أن ذلك لا يمثل مغامرة مبرمجة قام بها معلموه لأن علمه ينفتح على مجال صمت عنه باشلار إلى حد كبير . وتراه يجعل من اللا مفكر فيه في العلم موضوعه الرئيس حينما يجعل تاريخ الخطأ راديكاليا . ويحاول تاريخ العلم " استعادة ما غفل عنه الوعي (العلمي) : التأثيرات التي أثرت فيه ، الفلسفات الضمنية التي كانت كامنة تحته ، الثيمات غير المصاغة ، العقبات غير المرئية ... أي إنه يصف لاوعي العلم . ويعد هذا الوعي الجانب السلبي من العلم ـ أي ما يقاومه ، يحرفه ، يزعجه . إلا أن الذي أرغب به أنا هو كشف لاوعي المعرفة الوضعي : المستوى الذي يفوت على وعي العالِم لكنه يشكل جزءا من الخطاب العلمي "(53) وهذا القول يجعل منه " باشلاراً " بل أكثر من باشلار .
أما من الناحية النظرية ، تعد دراسة فوكو للعلوم الإنسانية بحثا في تلك العلوم التي يتفحص فيها الإنسان نفسه ، فمعرفة الإنسان ، من خلال الإنسان ، هي معرفة تفوق ما ملأه الخطأ ، فهي متناقضة في جوهرها لكنها تشكل في الوقت ذاته المعرفة الأكثر قربا واستحالة . أما في السوسيولوجيا فيتم التعرف على هذه المشكلة على نحو مبهم في الجدالات المتعلقة بموضوعية الدراسات الاجتماعية . ويرى فوكو أن هذه قضية فلسفية عامة يناقشها بإسهاب في نهاية " الكلمات والأشياء " . فقد برزت العلوم الإنسانية إلى دائرة الضوء في القرن التاسع من خلال ابتكار " الإنسان " الذي أصبح موضوع الفكر من خلال جعله ذات التاريخ الرئيسة . وعلى النقيض من ذلك ، تطلبت معرفة الإنسان تعالي الإنسان ؛ فالإنسان لا يستطيع التفكير بذاته إلا حينما يتعرف عليها وهي تتخطاه ، وثمة حدود مشتركة بين الفكر النقدي ومعرفة الإنسان الذاتية . فمنذ كانتْ Kant اشتملت قضية الإنسان على نقد معرفة الإنسان والاعتراف بحدوده . ومن غير الممكن أن تعتمد المعرفة على التطابق الديكارتي بين فكر الإنسان وكينونته being بل إن علوم القرن التاسع عشر الإنسانية استخدمت الإنسان المتعالي ، أي الذات الكلية [الشمولية] التي في ضوئها يستطيع الفكر الإنساني التفكير بالإنسان .
ومن المعروف تماما أن فوكو ينتقد هذا الحل . فتمركز القرن التاسع عشر حول الإنسان هو في أفضل أحواله ميتافيزيقا غير معترف بها . فقد تم وضع الإنسان في مركز الفكر ، وفي مركز الكينونة التاريخية . وبذا فإنه شاطر الميتافيزيقا اهتمامها بالمعرفة الخاضعة للسيطرة . ولم يتحرر الإنسان إلا على نحو مصطنع . إذ سيطر فكر القرن التاسع عشر ، تحت ستار النزعة الإنسانية ، على الفكر سيطرة سرية من خلال تحويله إلى نموذج متعال . وهنا يردد فوكو الإعلان النيتشوي الشهير عن موت الإنسان . إذ يرى فوكو أن الإنسان لا يستطيع التفكير بذاته إلا من خلال البحث من دون إلغاء حدود الإنسان . فمعرفة الإنسان متجردة عن التمركز في الهامش الذي يفصل بين الحقيقة والخطأ ، البراءة والشعور بالذنب ، مفهومي اللا مفكر فيه والمستحيل التفكير فيه.
" لم يكن بمقدور الإنسان وصف نفسه بأنه كائن في الأبستيمة من دون أن يكتشف الفكر في الوقت ذاته ، في ذاته وخارجها ، عنصر الظلام ، الكثافة التي ينطمر فيها هو ، أي مفهوم اللا مفكر فيه الذي يحتويه تماما ، لكنه مأسور فيه أيضاً . إن اللا مفكر فيه (بغض النظر عن الاسم الذي قد نطلقه عليه) لا يستقر في الإنسان مثل الطبيعة المتغضنة أو التاريخ الموزع إلى طبقات ، بل إنه يرتبط بالإنسان ، بالآخر the other ... أي الآخر الذي لا يكون شقيقا فقط بل توأما لا يولد من الإنسان ، ولا في الإنسان بل بجانبه ويشترك معه في الوقت ذاته بثنائية متعذر تفاديها " (54) .
ويبدو جليا الآن أن اهتمام فوكو بمعرفة الإنسان هو بالدرجة الأساس اهتمام بالمعرفة والسلطة . ويعد عمله نظرية اجتماعية نقدية بالمعنى ما بعد الكانتي . فهو يدرس ، قبل كل شيء ، مولد تلك المعارف التي كانت تمثل في النزعة الإنسانية اللبرالية تكنولوجيات في الإقتصاد السياسي للعمل الخاضع للسيطرة . وهو يبحث في تلك الحقول المعرفية ، التي ولدت بصفة تصنيع لاوربا ، والتي عملت على السيطرة على السلوك الإنساني من وراء انماطها الاصلاحية المتنورة : علم الجريمة ، علم النفس ، الطب العياداتي ، علوم الحياة ، تعد المراقبة ممارسة ذات حدين (55) : السيطرة على المعرفة والحقيقة (مثل الطب العياداتي بوصفه مراقبة) والسيطرة على الأجساد والأشخاص لأغراض خاصة (مثل استخدام النظرية الطبية والاقتصادية في ضبط حجم العينات وسلوكهم).
" إن ما استجد على القرن الثامن عشر هو أن المراقبات ، من خلال كونها ارتبطت معا وتعممت ، استطاعت الوصول إلى مستوى يقوم فيه تكوّن المعرفة وزيادة السلطة بتعزيز أحدهما الآخر في عملية نقدية . وعند هذا الموضع تحديدا تعبر المراقبات العتبة " التكنولوجية " . أولا المستشفى ، ثم المدرسة ثم لم تكن الورشة خاضعة لتنظيم المراقبات فأصبحت بفضل المراقبات أدوات خاصة بحيث صار بالإمكان استخدام أية ميكانزمة موضوعية فيها كأداة للإخضاع ، كما أن أي تنامي في السلطة قد يوصلها إلى فروع المعرفة الممكنة ضمن العنصر الانضباطي لتشكيل الطب العياداتي ، الطب النفسي ، علم نفس الطفل ، علم النفس التربوي ، عقلنة rationalization العمل . وبذا فإنها عملية مزدوجة : " الذوبان " الأبستمولوجي عبر تصفية علاقات السلطة ومضاعفة تأثيرات السلطة عبر تشكل وتراكم الأنماط الجديدة من المعرفة " (56) .
باختصار ، تصبح طبقة فوكو الباشلارية حدا يستدعي العودة إلى ماركس عن طريق نيتشه . وتؤدي المعرفة إلى السلطة عن طريق اللغة .
اللغة : إن اللغة هي الموضع الذي يفسر فوكو عنده وظيفة الحدود في فكره ، كما أنها في الوقت نفسه الموضع الذي لا يصبح فكره مفهوما عنده على نحو واضح . فالتاريخ ، المعرفة ثم اللغة .... ماركس ، باشلار ثم نيتشه وباتاي .
فنحن الذين نقرأ فوكو من خارج حقله الفكري نكون عرضة لأن نجد مناقشاته للتاريخ والمعرفة مفهومة نسبيا . كما أننا تتلمذنا أيضاً على يد ماركس ، وفي الآونة الأخيرة على يد مؤرخي " الحوليات ". فإذا كنا أقل ألفة مع باشلار ، فعندئذ يمكن تخطي هذا النقص من خلال أُلفتنا بتاريخ العلم واطلاعنا الوثيق على توماس كون ، بغض النظر عن اختلافاته عن باشلار إلا أن اللغة بحث آخر . إذ نادراً ما وصل المنظِّرون الاجتماعيون خارج فرنسا وإيطاليا إلى حدود أبعد من سوسير وليفي شتراوس . وبالنتيجة صار من المحير أن نواجه الأسماء غير المألوفة في نظرية اللغة عند فوكو : باتاي ، بلانشو ، روسيل ، ساد ، حتى نيتشه يبقى اسما غريبا في الآفاق الأمريكية الشمالية .
إن المشكلة لا تتعلق بقرائه الذين لا تتوفر لديهم معلومات جيدة . فاللغة عند فوكو قريبة من المفهوم . ويرى فوكو أن المفهومية حد ضروري . فهي المشروع المركزي في المثالية ، أما الوضعية ، الظاهراتية ، النزعة التاريخية ـ وهي المناهج التي يثور فوكو عليها (57) ـ فجميعها تخفق في إدراك تجسّد الأحداث لأنها أفرطت في تقويم المفهومية وأبخست قيمة الخطأ والحد . ولا تقف المعرفة عند المركز ، بل في هوامش الحياة ، أي ليست داخل الإنسان وعالمه بل عند حدهما ، وبالنهاية فإنها تقف عند موضع الموت . اللغة والموت ـ اقتران محير . إنها العلاقة التي ضمنها يطور فوكو نظريته الكاملة في التاريخ والمعرفة والخطاب والسلطة .
وقد عمدت السيمياء البنيوية structuralist semiotics إلى عزل اللغة عن التعبير والمعنى . إذ رفضت فكرة أن اللغة نتاج الذات المتكلمة . أما البنيوية فقد أخرجت اللغة من الوعي ، وهي بعملها هذا طرحت قضية أشكال اللغة بذاتها . وقد اشترك فوكو بهذه القناعات من دون أن يؤمن بها . فقد تجاوز نطاق اللغة ذاتها منذ البداية . وحينما طُلب منه تحديد موقع نظرية اللغة خاصته تحديدا تاريخيا وأيدلوجيا قال :
" أنا مختلف عن أولئك الذين يطلق عليهم اسم " البنيويون " لأنني غير مهتم بالإمكانات الشكلية التي يقدمها نسق ما مثل نسق اللغة . فأنا شخصيا مفتون جدا بوجود الخطابات ، بحقيقة أن المتكلم حَدَثٌ يحدث مثلما تحدث الأحداث ضمن علاقتها بموقعها الأصلي ، وأنها قد خلّفت وراءها آثارا موجودة وتمارس عدد معين من الوظائف المتجلية أو السردية (5Cool "
وهو حينما يسأل : ما اللغة (59) ؟ فإنه لا يسأل عن معنى اللغة أو ماهيتها أو شكلها بل عن وجودها ووظيفتها وممارستها . وباستثناء دراساته التاريخية في " الكلمات والأشياء " تنطق سيميائه على الأدب على نحو واف تقريبا . فالأدب هو ما أشير له في نهاية العصر الكلاسيكي (60) بوصفه الممارسة الغريبة للغة التي جلبت اللغة إلى الخواء void على أيدي ساد ونيتشه وباتاي وروسيل وآرتو ومالارميه (61) . " نحن ندرس العبارات عند الحد الذي يفصلها عن ما لم يقال ..(62) " ويرى فوكو أن وضعية الأدب ليست شكله ، بل هي قدرته على دفعنا إلى مواجهة العلاقة بين اللغة والحياة الإنسانية ؛ إذ بمقدور الأدب أن يقودنا إلى الصمت الذي يجعل الخطاب ممكنا ، وهذا أمر يبعث على السخرية . " ما هذه اللغة التي لا تقول شيئا ، وليست صامتة أبدا ، ويطلق عليها اسم " أدب ؟ "(63) لكن إذا عرضنا الأمر ببساطة أكثر نقول أن الأدب هو اللغة التي لا تستطيع تمثيل الواقع أبدا على الرغم من تظاهرها أحيانا بعكس ذلك . ولذلك نقول أنها لغة لها الحرية بالتفوه بأي شيء وكل شيء . وهي حينما تحاول فعل ذلك ، تدرك أن من غير الممكن قول كل شيء . وينبغي للغة في الأدب مواجهة الصمت الذي توجد هي بواسطته . ولهذا ينبغي للأدب أن يكتشف عقم الواقعية في اللحظة ذاتها التي يكتشف فيها حقيقة أن الإنسان ، مثل " الله " ميت .
فاللغة .... ملغّزة ؟ مشوشة ؟ سخيفة ؟ نعم ، لكنها ليست هراء . ونظرا إلى أن فوكو يريد تفسير حدود اللغة ، لا يستطيع الاعتماد على اللغة الاعتيادية للتعبير عن ذاته اعتمادا كليا ، بسيطا . ولهذا السبب ، من غير المعقول أن نطلب من فوكو أن يكون " واضحا " ، بأن نقول له : " اخبرني بكلماتي عما تعنيه أنتَ " ، ولعل مثل هذا الطلب سيشابه الطلب الذي نوجهه إلى نيتشه سائلين إياه عن ما عناه زرادشت . إن مثل هذا الطلب موجود في اللغة التي يتجنبها فوكو ، متبعا بذلك خطى نيتشه .
ومن المفيد أن نلاحظ أن مناقشات فوكو للغة والحد والموت دائما ما تتميز بسلسلتين من الأسماء تقريبا (64) . الأولى ، وهي المألوفة أكثر من الأخرى ، هي سلسلة نيتشه وماركس وفرويد ، أما الأخرى فهي سلسلة ساد ونيتشه ومالارميه وآرتو وباتاي وروسيل وبلانشو وكلوسوسكي ودولوز . ويعد نيتشه محور السلسلتين ، من دون أن يكون مركزا تنظيميا(65). ربما يمكن البدء بنيتشه ، مع علمنا أن فوكو لن يستقر معه .
" هذه الأيام ، أُفضل التزام الصمت حيال نيتشه … فإذا رغبت في أن أكون مدّع ، لعلي سأطلق على ما أقوم به اسم " جينالوجيا الأخلاق ". فنيتشه هو الذي حدد علاقة السلطة بوصفها البؤرة العامة ، إن جاز لنا القول ، للخطاب الفلسفي ـ في حين يرى ماركس أن علاقة الإنتاج هي التي تلعب هذا الدور . ويعد نيتشه فيلسوفا استطاع ، فضلا عن ذلك ، التفكير بالسلطة من دون أن يقصر نفسه ضمن حدود النظرية السياسية لفعل ذلك … ويعد حضور نيتشه المعاصر متزايد الأهمية . لكني سئمت من دراسة الناس له لا لشيء سوى توليد ذلك النوع من التعليقات المكتوبة عن مالارميه وهيغل . أما أنا ، فأفضل الإفادة من الكتاب الذين أحبهم . إن الثناء المشروع الوحيد الذي يمكن أن نمنحه لفكر مثل فكر نيتشه ، والإفادة منه ، تجريده عن شكله ، جعله يتأوه ويتشكى . وإذا قال المعلقون عندها أني أمين إلى نيتشه أو غير أمين إليه ، فإن هذا الأمر لا يعنيني بالمرة "(66).
ويتخذ فوكو الموقف نفسه تماما مع ماركس . فهو قريب من نيتشه من دون أن يكون نيتشوياً . أما بخصوص ماركس وفرويد ، كان نيتشه مستهل initiator الخطاب الحديث (67) . فقد أدى كل واحد من هؤلاء وظيفة واضحة ، وهاجم جميعهم مفهوم الأصل Origin ، ووظف جميعهم منهج حرر الفكر من المبدأ التنظيمي ، التأصيلي . ووضح الثلاثة تأويل العمل على سلسلة لا متناهية من العلاقات :
علاقات الإنتاج ونظرية القيم عند ماركس ، علاقات الرغبة ولغة الأحلام عند فرويد ، علاقات القيم والرجوع الأبدي Eternal Return عند نيتشه .كما إن مناهج هؤلاء الثلاثة رفضت العلامة Sign المطلقة ، المسيطرة . ونجد لدى الثلاثة كلهم الإطاحة بالعقلانية والوعي والقيم ووضعها في سلسلة علاقات . وفتح الثلاثة قضية اللا تناهي . ولهذا السبب تحديدا خضع الثلاثة كلهم لرفض حراس الأيدلوجية اللبرالية ، أي أولئك الذين دافعوا عن الرأي القائل أن التاريخ " حي ومستمر ، بمعنى أنه مكان الراحة ، اليقين ، التسوية ، مكان النوم المهدّئ ، رفضاً مباشرا وحادا " (6Cool . وبإزاء النوم الأنثروبولوجي ، وجد ماركس وفرويد ونيتشه أن الإنسان نتاج العلاقات التي تتخطاه . فقد كانت تتم رؤية الإنسان بازاء الموت : الاغتراب alienation عند ماركس ، الرغبة عند فرويد ، التجوال عند نيتشه . إن الحياة هي " ما ينبغي أن تتخطى ذاتها إلى الأبد "(69).
ونجد عند نيتشه أن زرادشت هو الذي يتكلم ـ ضد إرادة الحقيقة ـ لصالح إرادة السلطة. وتحل السلطة محل الحقيقة والأخلاق بوصفها العلامة الأساسية . ويرى نيتشه أن هذا الاكتشاف كان مرتكزاً على تحول اللغة .
" إن الدليل المرشد الذي وضعني على المسار الصحيح لأول مرة كان هذا السؤال ـ ما هي الدلالة الإبستمولوجية الحقيقية لمختلف رموز فكرة " الخير " التي صاغتها مختلف اللغات ؟ ثم وجدت أن جميعها تؤدي إلى التطورية ذاتها ، للفكرة ذاتها ـ بمعنى أن " الأرستقراطي " ، " النبيل " (بالمعنى الاجتماعي) هو الفكرة الجذر التي تطورت منها فكرة " الخير " أي " بروح أرستقراطية " ، " نبيلة " ، وأعني " بروح ذات منزلة رفيعة " ، " بروح متمتعة بالامتياز " ـ وهذا تطور يتوازى حتما مع التطورية التي شهدها مفهوم " السوقي" ، " المبتذل " ، " الواطئ " التي تغيرت في النهاية لتصبح " شر "(70).
وبعبارة أخرى نجد أن فيلولوجيا نيتشه أدت إلى السوسيولوجيا . وتعد جينالوجيا نيتشه دراسة في اللغة المستخدمة لتعريف الخير . كما أن دراسته للممارسات الاستطرادية للأخلاق هي التي وضعت الكلمات " الخير " ، " الشر " ، " السوء " ، " الحقيقة " ، " الله " موضعا سوسيولوجيا . " دعونا نتحدث عن هذا المطلب الجديد : نحن بحاجة إلى نقد القيم ، إذ أن قيمة تلك القيم صارت موضع تساؤل لأول مرة ـ ولهذا السبب تعد المعرفة ضرورية للشروط والظروف التي تتولد منها هذه القيم …"(71). وما عادت فكرة " الخير " تتعالى على الإنسان وتسيطر على فكره وكينونته . فـ " الخير" مصطلح اجتماعي وسياسي تم توظيفه لغرض المحافظة على النظام الاجتماعي . ومع ذلك لا يمكن أن نرى مصطلح " الخير " إلا حينما تتحرر اللغة من وظيفتها الكلاسيكية : التعبير عن حقيقة الكينونة . ولهذا السبب ثمة حدود مشتركة بين تحرير اللغة وموت " الله " حيث يرمز " الله " ، في المنظور الحديث ، إلى مبادئ النظام المطلق الميتافيزيقية كلها . وكذلك فإن ثمة حدود مشتركة بين موت " الله " وموت الإنسان . فلعبة اللغة اللا متناهية ، تفكيك الأخلاق ، نقد الميتافيزيقا ، الإنسان الذي يتجول على شفا حفرة بين إرادة السلطة وخواء الموت ، هي جوهر فلسفة السلطة عند نيتشه (72) . وهنا ، ببساطة ، يكمن اقتران اللغة بالموت .
لكن مع ذلك ، نجد فوكو يضع نيتشه في سلسلة ثانية " إن التركيز يكون على الكينونة عند بلانشو من دون شك ، على الرغبة عند ساد ، على السلطة عند نيتشه ، وعلى مادية الفكر عند آرتو ، وعلى الانتهاك عند باتاي : أي تحديدا خبرة التخريجexterioity المحضة وتعرية الخبرات(73)". ونجد أن إرادة السلطة النيتشوية تحتل موقعا واضحا في هذه العلاقات ، وتتجلى على نحو أوضح في سياق الموت والجنس . " ربما كان ظهور الجنس في ثقافتنا حدث مضاعف القيم : إنه مرتبط بموت " الله " وبالخواء الأونطولوجي الذي ثبته موته عند حدود فكرنا(74). ثمة ثلاثة أحداث تطغى عند ساد ، على سبيل المثال : قص الحكايات ، الجنس العنيف ، والموت من دون معنى(75). ومما لاشك فيه أننا إذا حررنا الخطاب من قيد الأخلاق فإنه سيؤدي حتما إلى انتهاك عنيف للأخلاق ، ويترك الإنسان في مواجهة الموت ـ الخواء الذي بلا معنى . فالتعذيب والقتل عند ساد لا يغيران عن حقائق مليئة بالمعنى . إنهما يوضحان حدود الإنسان ، على نحو محض وبسيط .
وبالطريقة ذاتها يرى باتاي أن الجنس في صميم الإنسان . فالكائنات الجنسية ، إذا ما قورنت بالكائنات اللا جنسية ، تتكاثر من خلال خلق الانفصال discontinuity من أحشاء الاتصال continuity . فالحيمن والبيضة ، وهما كيانان منفصلان يصبحان كيان واحد عند التصور . " يظهر الاتصال بينهما إلى حيز الوجود ليشكلا كيانا جديدا من موت الكينونتان المنفصلتان واختفاءهما(76)" . لكن مع ذلك يكون المولود الجديد الذي يولد منفصلا ، في النهاية ، عن والديه . " توجد عند المستوى الأساسي جدا تحولات من المتصل إلى المنفصل ومن المنفصل إلى المتصل .فنحن كينونات منفصلة ، أفراد يموتون بمعزل عن غيرهم في خضم مغامرة يتعذر فهمها ، لكننا نتوق إلى اتصالنا المفقود(77) ". ولذلك فإننا نرى في باتاي ما كنا نراه في نيتشه وما نجده في فوكو في كل موضع منه . إذ يحدث التحليل بين ثنائيات . إن حقيقة الإنسانية الجوهرية هي تعذر التوفيق بين الاتصال والانفصال(7Cool ، التي يربطها باتاي باعتماد شهوة الجنس على التكاثر ، على نحو يثير للسخرية . إن الشهوة ، بطبيعتها المحددة جدا ، هي الجنس من دون مراعاة لأداتية instrumentality التكاثر . فالشهوة ، العاطفية ، المادية ، الدينية ـ يتم التنبؤ بها على أساس الانفصال الذي تخلقه حقيقة تكاثرنا . وتعد الشهوة شكلا من التوصيل communication الذي يبحث فيه الإنسان اتصاله المفقود . وبالنهاية تعد الشهوة اتصالا مقدسا ، وبذا دينية . إنها البحث عن حقيقة الاتصال الأزلية ، لكن ، في الحقيقة ، يعتمد البحث عن " الله " على موت " الله " ، وهذه حقيقة الاختلاف الجوهرية . وحينما نحاول التغلب على الانفصال شهواتيا لا نكتشف سوى الحدود . وبالنتيجة ، صارت الشهوة الفعل الأساس الأكثر جوهرية . ويتم انتهاك الحدود الاجتماعية بسبب حالتنا الطبيعية " تشتمل الشهوة ، دائما ، على تعطيل الأنماط الراسخة ، وأكرر قائلا : أنماط النظام الاجتماعي الأساسي لطابع وجودنا المنفصل …(79) .
وبذا ، لا يعد الانتهاك ترخيصا جنسيا ، بل يخص المعرفة والسلطة اللتين يتم التعبير عنهما في شروط الجنس . ويعد الحظر وسيلة السلطة الاجتماعية لغرض السيطرة على المعرفة والفعل الاجتماعي (80) ، ولهذا السبب يجد الانتهاك أن المعرفة وإرادة السلطة يمثلان علاقة مزدوجة وضرورية ، فالانتهاك يكون عند وضد حدود الاجتماعي التي تتكشف عندها معرفة الإنسان وسلطته . " إن الانتهاك يوقف التابو taboo من دون تشتيته(81)". ويبقى الإنسان حيوانا اجتماعيا ، في حين تضطره حقائق حيوانيته إلى البحث عن حده . فلا نجد " الله " عندئذ ، بل الموت . ويحتوي موت " الله " وموت الإنسان أحدهما الآخر حينما يجعلان المعرفة والسلطة ممكنتين .
إن علاقة فوكو الساخرة بالتوسير تفسر كلا من استخدامه للفكرة الباشلارية وانتهاكه لها . فإذا تخطينا مبدأي الانفصال والقطائع ، نجد أن كلا من فوكو والتوسير يربط التاريخ بنظرية الخطاب ، ويشترك في إعادة بناء الآثار البنيوية ، ويعمل عند الحدود الواقعة بين المرئي واللامرئي ، وبين البراءة والشعور بالذنب . إلا أنهما يختلفان بشأن الانقطاع الأبستمولوجي عند ماركس . ويضع التوسير ماركس في المركز ، ويرى أن الانقطاع الابستمولوجي في الاقتصاد السياسي والمنهج التاريخي في القرن التاسع عشر يحدث في منتصف ماركس ، أي في 1845 . بينما يرى فوكو أن ماركس يشترك بأبستمولوجيا ريكاردو الاقتصادية(42). ويقتصر انقطاع ماركس على نظرية التاريخ والسياسة . ويقطع فوكو ماركس إلى أجزاء إلا أن من غير الممكن ترتيب هذه الأجزاء زمنيا على نحو خطي linearly لأنه يرى أن ماركس لا يمثل المنشأ ، أي المصدر الأصلي لحدث ما في تاريخ المعرفة ، بل تقسمه قوى أبستيمية معينة إلى أجزاء : إذ بقي علم الاقتصاد الذي جاء به ذا طابع سياسي لبرالي . بمعنى أنه في الوقت الذي يعمل فيه التوسير على تحقيب periodizes التاريخ وجعل ماركس شموليا ، فإن فوكو يقرأ ماركس بوصفه حدثا في وسط طبقات المعرفة المستقلة ، وللمعرفة الاقتصادية زمنها ، مثلما أن للتاريخ والسياسة زمنهما أيضاً ، وهذا يتوافق مع نظرية التحول العامة عند فوكو ، فالانفصال ليس مفهوما عاما بل أداة عمل ، ولا يمكن تحليل الانفصالات تحليلا صحيحا إلا ضمن علاقتها بحقل الأحداث التي تنتمي لها هذه الانفصالات التي تعكسها أحيانا . ويدحض فوكو كل شكلنة formalization في التاريخ : الكليات ، التحقيب ، البنى غير التاريخية . وهكذا نرى فوكو قريباً جداً من برودل الذي يرى أن المناخ والأرض والبحر والأنساق الإقتصادية وعلم السياسة جميعها تتمتع بزمنها الخاص ، وبهذا المعنى لا يعد فوكو مؤرخا للانفصالات بل للأحداث العينية المتجسدة في مجالات متجسدة .
فما تاريخ فوكو ؟ فمع ماركس وبرودل وباشلار يرفض فوكو مثالية التاريخ التقليدي ووضعيته وخطيته . إلا أن فوكو ليس ماركسيا وعضوا في مدرسة "الحوليات" وتلميذا لألتوسير حسب ، بل يعمل في فضاء نسجه هؤلاء الثلاثة . فتراه يتحدث حينما يصمتون ، ويصمت حالما يتحدثون إلى بعضهم ، ويجتاز الحد الفاصل بين الما قيل the said وما لم يقال the unsaid لغرض إعادة توطيد حدود أخرى لا بد من انتهاكها .
المعرفة : يعد فوكو مؤرخا للمعرفة ، قبل كل شيء ، ويتضح ذلك في الكلمات والأشياء " و "حفريات المعرفة " . ويعد " مولد العيادة " تاريخا لنهضة المعرفة الطبية أيضاً . أما " تاريخ الجنس " فيعد مقدمة لدراسة من أجزاء عدة بعنوان " إرادة المعرفة " . وحتى بالنسبة للدراسات التي تبدو معنية قليلاً بالمعرفة ، يعد " تاريخ الجنون " و " المراقبة والمعاقبة " تحليلان لعلاقة المعرفة بالسيطرة الاجتماعية . ويعد فوكو مؤرخا للمعرفة ، لكن مع ذلك تبدو المقولة محدودة جدا لأنها لا توضح سوى اختلافه عن بقية المؤرخين ، فهو يهمل البنى المادية على الرغم من أنه يعمل مع ، وضد ، تاريخ " الحوليات " . إذ أنه يضفي صفة المادية على دراسات المثالي . وضمن هذه الرؤية لا يعد فوكو مؤرخا للعلم على الرغم من أنه يعمل في ضوء تاريخ العلم الباشلاري . فهو لا يقول إلا القيل عن العلوم الفيزيائية التي كان باشلار منهمكا فيها ، أما حينما يتعامل مع العلوم البايولوجية ، مثلما فعل كانغيلم ، تجده يفعل ذلك بخصوص قضية المعرفة العامة . وتراه لا يبدي سوى اهتماما بسيطا باستخدام باشلار في إحياء المادية التاريخية بوصفها علما ، على العكس من شدة الاهتمام الذي كان يظهره التوسير . أما بخصوص التاريخ ، يقع تاريخ المعرفة عند فوكو في فضاء لا يشغله الذين تعلَّم هو منهم . " وهكذا فإن ما تحاول "الحفريات " وصفه ليس بنية العلوم المحددة ، بل حقل المعرفة المختلف جدا "(43).
ومع ذلك يعد اهتمام فوكو بالمعرفة اهتماما باشلاريا في جوانبه الجوهرية ؛ فالانفصال ، والانقطاع ، الإنزياح displacement ، التشتت dispersion ، الإشكالية ، العائق الأبستمولوجي ، التعددية الأبستمولوجية ، تاريخ الخطأ ، نقد التاريخ المتصل ـ جميعها تشكل مفاهيم أساسية عند باشلار ، وتابعه كانغيلم (44) ومما لا شك فيه أنها أساسية عند فوكو أيضاً . إلا أن الأهم من ذلك أن فوكو ، مثل باشلار ، يتخطى التاريخ المتصل من خلال كتابة تاريخ الحقيقة من منظور الأخطاء . ويرى فوكو أن المزاوجات الشهيرة ـ الفلسفة / العلم ، الواقعية / العقلانية ، الحقيقة / الخطأ ـ ليست ثنائيات بل أقطاب . فهي ليست خيارات بل مُسلّمات . وللعلم أبعاده الفلسفية ، والفلسفة تنهل من العلم ، وببساطة نقول أن الواقعية والعقلانية ليسا منظورين فلسفيين شموليين متبادلين ، بل هما بعدين ضروريين لجانب أبستمولوجي(45). لذا ينبغي ألا يحصر التاريخ نفسه في نسق الحقائق ، بل ينبغي أن ينفتح على لحظات الخطأ التي يقال فيها " لا " للماضي ، والبدء من جديد . ونلاحظ في " الفكر العلمي الجديد " ( 1934 ) و " تكوين العقل العلمي " ( 1938) ، وهما من أوائل الدراسات التي قام بها باشلار عن العلم ، وصولا إلى بيانه الأبستمولوجي الواضح في " فلسفة الرفض " The Philosophy of No (1940) ، وتطويره لهذا الموقف في أعماله اللاحقة مثل " العقلانية التطبيقية " (1949 ) و " المادية العقلانية " (1953) ، أن باشلار عمل ، أو أعاد العمل ، على الفلسفة التعددية للمعرفة العلمية . ويصر تاريخ باشلار المنفصل ، خلافا لتطورية توماس كون Thomas Khun الخفية (46) ، على التباري المستمر بين القديم والجديد . وينبغي حتى على نسبية الفيزياء الحديثة العقلانية راديكاليا ، التي تشكل نموذج باشلار ومصدر اهتمامه الأعظم ، أن تقنع بمخلفات الواقعية الوضعية والأساسية . " إن الذي يثير الدهشة هو إن وحدة العلم المزعومة لا تقابل الحالة الثانية أبدا (47) " . فالأبستمولوجيا هي تاريخ الأبستمولوجيات .التي تكون كل واحدة منها حاضرة دائما ، بصورة ما ، وبدرجة ما ، لكن لكل واحدة منها تاريخها الخاص بالعالم العيني المتجسد الذي يؤكد الجديد برفض الماضي ، لكن باشلار يرى أن المفهوم المرفوض يبقى في جانب خاص . " إن رسم الذرة الذي اقترحه بوهر قبل ربع قرن من الزمان كان بمثابة صورة جيدة لم يتبق منها شيء لكنها كثيرا ما توحي بالرفض بما يكفي لتحويل دورها الذي لا يمكن الاستغناء عنه إلى بيداغولوجيا استهلالية . ويتم تنسيق هذه المرفوضات بسعادة لأنها تمثل مكونات الفيزياء المعاصرة المصغرة(4Cool" .
وعلى هذا الغرار ، يرى فوكو أن المعرفة تعددية ، وأن الانفصالات في تاريخ المعرفة لا تعزل الماضي عن الحاضر . فالمعارف المتجسدة لها أزمنتها التي تتداخل فيها ، والعلم لا يكون صرفاً أبدا ، فهو يكون أيدلوجياً دائما ولهذا تراه مليئا بالأخطاء . إلا أن تصحيح الأخطاء لا يحرره من الأيدلوجية (49) . كما أن المعرفة التاريخية ليست صراعا بسيطا بين الواقعية والعقلانية ، بين ما هو تجريبي وما هو مفهومي ، بل أنها تتولد من التوتر tension بين هذين القطبين . وينتقد فوكو تاريخ الأفكار بالطريقة ذاتها التي ينتقد بها تاريخ الأحداث ، لكنه يفعل ذلك بأسلوبه الخاص . إلا أن الأوضح من ذلك أن فوكو يكتب تواريخ المعرفة خاصته من خلال الإشارة إلى الخطأ والفشل باستمرار : إنهيار الفرق بين العقل واللاعقل في " تاريخ الجنون " ، وخطأ المراقبات الجسدية من دون نظرية وافية للأنساق الرابطة في " مولد العيادة " ، والخطأ في أسطورة الإصلاح التكفيري في " المراقبة والمعاقبة " ، وخطأ فرضية الكبت في " تاريخ الجنس "، و … إلخ .
وفي الوقت ذاته يشكل تاريخ العلم الباشلاري حدا تخطاه فوكو في عمله . ففي " حفريات المعرفة " يوضح فوكو مشروع دراسته لما تجاهله مؤرخو العلم (50)… بدءا بالفكرة الباشلارية ومؤداها أن العلوم ، المُعرَّفة عموما ، أزمنة غير منتظمة ومتغايرة الخواص ومشتتة (51). ويصف فوكو العتبات thresholds بأنها أربع عتبات منفصلة يمر بها العلم : حيث يلتقي أولاً بعتبة الوضعية حينما يتخذ نوع الخطاب فرديته الخاصة ، وإن كان مفتقرا إلى معايير الصلاحية validity أو المعايير الشكلية للحقيقة أو البديهيات ، ثم يصل إلى عتبة الأبستمولوجية epistemologization حينما تتم المحاولات ، غير الناجحة أحيانا ، الرامية إلى ترسيخ مادة معروفة متساوقة وصالحة وأصلية ، ثم عتبة العلم scientificity حينما تقوم مادة المعرفة بتحديد المعايير الشكلية التي يتم توظيفها في القوانين لبناء الفرضيات . وأخيراً نصل إلى عتبة الشكلنة حينما تعد البديهات الشكلية في العلم نقاط انطلاق مشروعة للمعرفة .
يحدد فوكو عند العتبات المعرفية المتداخلة الثلاث ، ثلاثة أنواع من تاريخ العلم : 1ـ تاريخ الرياضيات عند عتبة الشكلنة 2ـ تاريخ العلوم الطبيعية والفيزيائية بين عتبتي الأبستمولوجية والعلمنة ، وهو المجال الذي عمل فيه كانغيلم وباشلار 3ـ تاريخ فوكو الحفرياتي عند عتبة الأبستمولوجية ، ويمثل الموضع الذي تبدأ فيه مادة المعرفة باستخدام خطاب متساوق مستقل ، ولا تعد هذه المجالات ذات طابع كلي [شمولي] ، بل تحتفظ بعض العلوم باستعارات metaphors بدائية إلى جانب البديهيات الشكلية (52) . إلا أن فوكو يتخطى الحدود التي وصلها باشلار حينما درس العلوم عند عتبات أكثر بدائية ، أي عند النقطة التي يصبح فيها خطابها أبستمولوجيا ، بمعنى حينما تصبح معارف . وهكذا فهو يهتم بالعلوم الإنسانية الأولى ، بدايات الطب العياداتي ، بعلم الأمراض النفسية ، بعلم الجريمة الذي يبحث في إدارة السجون ومعاملة المجرمين . وخلاصة القول أن فوكو يدرس العلوم التي يكون فيها الحد بين الخطأ والحقيقية ضعيفا جدا ولاسيما تلك التي يطغى عليها حضور الأيديولوجيا .
يرى فوكو أن ذلك لا يمثل مغامرة مبرمجة قام بها معلموه لأن علمه ينفتح على مجال صمت عنه باشلار إلى حد كبير . وتراه يجعل من اللا مفكر فيه في العلم موضوعه الرئيس حينما يجعل تاريخ الخطأ راديكاليا . ويحاول تاريخ العلم " استعادة ما غفل عنه الوعي (العلمي) : التأثيرات التي أثرت فيه ، الفلسفات الضمنية التي كانت كامنة تحته ، الثيمات غير المصاغة ، العقبات غير المرئية ... أي إنه يصف لاوعي العلم . ويعد هذا الوعي الجانب السلبي من العلم ـ أي ما يقاومه ، يحرفه ، يزعجه . إلا أن الذي أرغب به أنا هو كشف لاوعي المعرفة الوضعي : المستوى الذي يفوت على وعي العالِم لكنه يشكل جزءا من الخطاب العلمي "(53) وهذا القول يجعل منه " باشلاراً " بل أكثر من باشلار .
أما من الناحية النظرية ، تعد دراسة فوكو للعلوم الإنسانية بحثا في تلك العلوم التي يتفحص فيها الإنسان نفسه ، فمعرفة الإنسان ، من خلال الإنسان ، هي معرفة تفوق ما ملأه الخطأ ، فهي متناقضة في جوهرها لكنها تشكل في الوقت ذاته المعرفة الأكثر قربا واستحالة . أما في السوسيولوجيا فيتم التعرف على هذه المشكلة على نحو مبهم في الجدالات المتعلقة بموضوعية الدراسات الاجتماعية . ويرى فوكو أن هذه قضية فلسفية عامة يناقشها بإسهاب في نهاية " الكلمات والأشياء " . فقد برزت العلوم الإنسانية إلى دائرة الضوء في القرن التاسع من خلال ابتكار " الإنسان " الذي أصبح موضوع الفكر من خلال جعله ذات التاريخ الرئيسة . وعلى النقيض من ذلك ، تطلبت معرفة الإنسان تعالي الإنسان ؛ فالإنسان لا يستطيع التفكير بذاته إلا حينما يتعرف عليها وهي تتخطاه ، وثمة حدود مشتركة بين الفكر النقدي ومعرفة الإنسان الذاتية . فمنذ كانتْ Kant اشتملت قضية الإنسان على نقد معرفة الإنسان والاعتراف بحدوده . ومن غير الممكن أن تعتمد المعرفة على التطابق الديكارتي بين فكر الإنسان وكينونته being بل إن علوم القرن التاسع عشر الإنسانية استخدمت الإنسان المتعالي ، أي الذات الكلية [الشمولية] التي في ضوئها يستطيع الفكر الإنساني التفكير بالإنسان .
ومن المعروف تماما أن فوكو ينتقد هذا الحل . فتمركز القرن التاسع عشر حول الإنسان هو في أفضل أحواله ميتافيزيقا غير معترف بها . فقد تم وضع الإنسان في مركز الفكر ، وفي مركز الكينونة التاريخية . وبذا فإنه شاطر الميتافيزيقا اهتمامها بالمعرفة الخاضعة للسيطرة . ولم يتحرر الإنسان إلا على نحو مصطنع . إذ سيطر فكر القرن التاسع عشر ، تحت ستار النزعة الإنسانية ، على الفكر سيطرة سرية من خلال تحويله إلى نموذج متعال . وهنا يردد فوكو الإعلان النيتشوي الشهير عن موت الإنسان . إذ يرى فوكو أن الإنسان لا يستطيع التفكير بذاته إلا من خلال البحث من دون إلغاء حدود الإنسان . فمعرفة الإنسان متجردة عن التمركز في الهامش الذي يفصل بين الحقيقة والخطأ ، البراءة والشعور بالذنب ، مفهومي اللا مفكر فيه والمستحيل التفكير فيه.
" لم يكن بمقدور الإنسان وصف نفسه بأنه كائن في الأبستيمة من دون أن يكتشف الفكر في الوقت ذاته ، في ذاته وخارجها ، عنصر الظلام ، الكثافة التي ينطمر فيها هو ، أي مفهوم اللا مفكر فيه الذي يحتويه تماما ، لكنه مأسور فيه أيضاً . إن اللا مفكر فيه (بغض النظر عن الاسم الذي قد نطلقه عليه) لا يستقر في الإنسان مثل الطبيعة المتغضنة أو التاريخ الموزع إلى طبقات ، بل إنه يرتبط بالإنسان ، بالآخر the other ... أي الآخر الذي لا يكون شقيقا فقط بل توأما لا يولد من الإنسان ، ولا في الإنسان بل بجانبه ويشترك معه في الوقت ذاته بثنائية متعذر تفاديها " (54) .
ويبدو جليا الآن أن اهتمام فوكو بمعرفة الإنسان هو بالدرجة الأساس اهتمام بالمعرفة والسلطة . ويعد عمله نظرية اجتماعية نقدية بالمعنى ما بعد الكانتي . فهو يدرس ، قبل كل شيء ، مولد تلك المعارف التي كانت تمثل في النزعة الإنسانية اللبرالية تكنولوجيات في الإقتصاد السياسي للعمل الخاضع للسيطرة . وهو يبحث في تلك الحقول المعرفية ، التي ولدت بصفة تصنيع لاوربا ، والتي عملت على السيطرة على السلوك الإنساني من وراء انماطها الاصلاحية المتنورة : علم الجريمة ، علم النفس ، الطب العياداتي ، علوم الحياة ، تعد المراقبة ممارسة ذات حدين (55) : السيطرة على المعرفة والحقيقة (مثل الطب العياداتي بوصفه مراقبة) والسيطرة على الأجساد والأشخاص لأغراض خاصة (مثل استخدام النظرية الطبية والاقتصادية في ضبط حجم العينات وسلوكهم).
" إن ما استجد على القرن الثامن عشر هو أن المراقبات ، من خلال كونها ارتبطت معا وتعممت ، استطاعت الوصول إلى مستوى يقوم فيه تكوّن المعرفة وزيادة السلطة بتعزيز أحدهما الآخر في عملية نقدية . وعند هذا الموضع تحديدا تعبر المراقبات العتبة " التكنولوجية " . أولا المستشفى ، ثم المدرسة ثم لم تكن الورشة خاضعة لتنظيم المراقبات فأصبحت بفضل المراقبات أدوات خاصة بحيث صار بالإمكان استخدام أية ميكانزمة موضوعية فيها كأداة للإخضاع ، كما أن أي تنامي في السلطة قد يوصلها إلى فروع المعرفة الممكنة ضمن العنصر الانضباطي لتشكيل الطب العياداتي ، الطب النفسي ، علم نفس الطفل ، علم النفس التربوي ، عقلنة rationalization العمل . وبذا فإنها عملية مزدوجة : " الذوبان " الأبستمولوجي عبر تصفية علاقات السلطة ومضاعفة تأثيرات السلطة عبر تشكل وتراكم الأنماط الجديدة من المعرفة " (56) .
باختصار ، تصبح طبقة فوكو الباشلارية حدا يستدعي العودة إلى ماركس عن طريق نيتشه . وتؤدي المعرفة إلى السلطة عن طريق اللغة .
اللغة : إن اللغة هي الموضع الذي يفسر فوكو عنده وظيفة الحدود في فكره ، كما أنها في الوقت نفسه الموضع الذي لا يصبح فكره مفهوما عنده على نحو واضح . فالتاريخ ، المعرفة ثم اللغة .... ماركس ، باشلار ثم نيتشه وباتاي .
فنحن الذين نقرأ فوكو من خارج حقله الفكري نكون عرضة لأن نجد مناقشاته للتاريخ والمعرفة مفهومة نسبيا . كما أننا تتلمذنا أيضاً على يد ماركس ، وفي الآونة الأخيرة على يد مؤرخي " الحوليات ". فإذا كنا أقل ألفة مع باشلار ، فعندئذ يمكن تخطي هذا النقص من خلال أُلفتنا بتاريخ العلم واطلاعنا الوثيق على توماس كون ، بغض النظر عن اختلافاته عن باشلار إلا أن اللغة بحث آخر . إذ نادراً ما وصل المنظِّرون الاجتماعيون خارج فرنسا وإيطاليا إلى حدود أبعد من سوسير وليفي شتراوس . وبالنتيجة صار من المحير أن نواجه الأسماء غير المألوفة في نظرية اللغة عند فوكو : باتاي ، بلانشو ، روسيل ، ساد ، حتى نيتشه يبقى اسما غريبا في الآفاق الأمريكية الشمالية .
إن المشكلة لا تتعلق بقرائه الذين لا تتوفر لديهم معلومات جيدة . فاللغة عند فوكو قريبة من المفهوم . ويرى فوكو أن المفهومية حد ضروري . فهي المشروع المركزي في المثالية ، أما الوضعية ، الظاهراتية ، النزعة التاريخية ـ وهي المناهج التي يثور فوكو عليها (57) ـ فجميعها تخفق في إدراك تجسّد الأحداث لأنها أفرطت في تقويم المفهومية وأبخست قيمة الخطأ والحد . ولا تقف المعرفة عند المركز ، بل في هوامش الحياة ، أي ليست داخل الإنسان وعالمه بل عند حدهما ، وبالنهاية فإنها تقف عند موضع الموت . اللغة والموت ـ اقتران محير . إنها العلاقة التي ضمنها يطور فوكو نظريته الكاملة في التاريخ والمعرفة والخطاب والسلطة .
وقد عمدت السيمياء البنيوية structuralist semiotics إلى عزل اللغة عن التعبير والمعنى . إذ رفضت فكرة أن اللغة نتاج الذات المتكلمة . أما البنيوية فقد أخرجت اللغة من الوعي ، وهي بعملها هذا طرحت قضية أشكال اللغة بذاتها . وقد اشترك فوكو بهذه القناعات من دون أن يؤمن بها . فقد تجاوز نطاق اللغة ذاتها منذ البداية . وحينما طُلب منه تحديد موقع نظرية اللغة خاصته تحديدا تاريخيا وأيدلوجيا قال :
" أنا مختلف عن أولئك الذين يطلق عليهم اسم " البنيويون " لأنني غير مهتم بالإمكانات الشكلية التي يقدمها نسق ما مثل نسق اللغة . فأنا شخصيا مفتون جدا بوجود الخطابات ، بحقيقة أن المتكلم حَدَثٌ يحدث مثلما تحدث الأحداث ضمن علاقتها بموقعها الأصلي ، وأنها قد خلّفت وراءها آثارا موجودة وتمارس عدد معين من الوظائف المتجلية أو السردية (5Cool "
وهو حينما يسأل : ما اللغة (59) ؟ فإنه لا يسأل عن معنى اللغة أو ماهيتها أو شكلها بل عن وجودها ووظيفتها وممارستها . وباستثناء دراساته التاريخية في " الكلمات والأشياء " تنطق سيميائه على الأدب على نحو واف تقريبا . فالأدب هو ما أشير له في نهاية العصر الكلاسيكي (60) بوصفه الممارسة الغريبة للغة التي جلبت اللغة إلى الخواء void على أيدي ساد ونيتشه وباتاي وروسيل وآرتو ومالارميه (61) . " نحن ندرس العبارات عند الحد الذي يفصلها عن ما لم يقال ..(62) " ويرى فوكو أن وضعية الأدب ليست شكله ، بل هي قدرته على دفعنا إلى مواجهة العلاقة بين اللغة والحياة الإنسانية ؛ إذ بمقدور الأدب أن يقودنا إلى الصمت الذي يجعل الخطاب ممكنا ، وهذا أمر يبعث على السخرية . " ما هذه اللغة التي لا تقول شيئا ، وليست صامتة أبدا ، ويطلق عليها اسم " أدب ؟ "(63) لكن إذا عرضنا الأمر ببساطة أكثر نقول أن الأدب هو اللغة التي لا تستطيع تمثيل الواقع أبدا على الرغم من تظاهرها أحيانا بعكس ذلك . ولذلك نقول أنها لغة لها الحرية بالتفوه بأي شيء وكل شيء . وهي حينما تحاول فعل ذلك ، تدرك أن من غير الممكن قول كل شيء . وينبغي للغة في الأدب مواجهة الصمت الذي توجد هي بواسطته . ولهذا ينبغي للأدب أن يكتشف عقم الواقعية في اللحظة ذاتها التي يكتشف فيها حقيقة أن الإنسان ، مثل " الله " ميت .
فاللغة .... ملغّزة ؟ مشوشة ؟ سخيفة ؟ نعم ، لكنها ليست هراء . ونظرا إلى أن فوكو يريد تفسير حدود اللغة ، لا يستطيع الاعتماد على اللغة الاعتيادية للتعبير عن ذاته اعتمادا كليا ، بسيطا . ولهذا السبب ، من غير المعقول أن نطلب من فوكو أن يكون " واضحا " ، بأن نقول له : " اخبرني بكلماتي عما تعنيه أنتَ " ، ولعل مثل هذا الطلب سيشابه الطلب الذي نوجهه إلى نيتشه سائلين إياه عن ما عناه زرادشت . إن مثل هذا الطلب موجود في اللغة التي يتجنبها فوكو ، متبعا بذلك خطى نيتشه .
ومن المفيد أن نلاحظ أن مناقشات فوكو للغة والحد والموت دائما ما تتميز بسلسلتين من الأسماء تقريبا (64) . الأولى ، وهي المألوفة أكثر من الأخرى ، هي سلسلة نيتشه وماركس وفرويد ، أما الأخرى فهي سلسلة ساد ونيتشه ومالارميه وآرتو وباتاي وروسيل وبلانشو وكلوسوسكي ودولوز . ويعد نيتشه محور السلسلتين ، من دون أن يكون مركزا تنظيميا(65). ربما يمكن البدء بنيتشه ، مع علمنا أن فوكو لن يستقر معه .
" هذه الأيام ، أُفضل التزام الصمت حيال نيتشه … فإذا رغبت في أن أكون مدّع ، لعلي سأطلق على ما أقوم به اسم " جينالوجيا الأخلاق ". فنيتشه هو الذي حدد علاقة السلطة بوصفها البؤرة العامة ، إن جاز لنا القول ، للخطاب الفلسفي ـ في حين يرى ماركس أن علاقة الإنتاج هي التي تلعب هذا الدور . ويعد نيتشه فيلسوفا استطاع ، فضلا عن ذلك ، التفكير بالسلطة من دون أن يقصر نفسه ضمن حدود النظرية السياسية لفعل ذلك … ويعد حضور نيتشه المعاصر متزايد الأهمية . لكني سئمت من دراسة الناس له لا لشيء سوى توليد ذلك النوع من التعليقات المكتوبة عن مالارميه وهيغل . أما أنا ، فأفضل الإفادة من الكتاب الذين أحبهم . إن الثناء المشروع الوحيد الذي يمكن أن نمنحه لفكر مثل فكر نيتشه ، والإفادة منه ، تجريده عن شكله ، جعله يتأوه ويتشكى . وإذا قال المعلقون عندها أني أمين إلى نيتشه أو غير أمين إليه ، فإن هذا الأمر لا يعنيني بالمرة "(66).
ويتخذ فوكو الموقف نفسه تماما مع ماركس . فهو قريب من نيتشه من دون أن يكون نيتشوياً . أما بخصوص ماركس وفرويد ، كان نيتشه مستهل initiator الخطاب الحديث (67) . فقد أدى كل واحد من هؤلاء وظيفة واضحة ، وهاجم جميعهم مفهوم الأصل Origin ، ووظف جميعهم منهج حرر الفكر من المبدأ التنظيمي ، التأصيلي . ووضح الثلاثة تأويل العمل على سلسلة لا متناهية من العلاقات :
علاقات الإنتاج ونظرية القيم عند ماركس ، علاقات الرغبة ولغة الأحلام عند فرويد ، علاقات القيم والرجوع الأبدي Eternal Return عند نيتشه .كما إن مناهج هؤلاء الثلاثة رفضت العلامة Sign المطلقة ، المسيطرة . ونجد لدى الثلاثة كلهم الإطاحة بالعقلانية والوعي والقيم ووضعها في سلسلة علاقات . وفتح الثلاثة قضية اللا تناهي . ولهذا السبب تحديدا خضع الثلاثة كلهم لرفض حراس الأيدلوجية اللبرالية ، أي أولئك الذين دافعوا عن الرأي القائل أن التاريخ " حي ومستمر ، بمعنى أنه مكان الراحة ، اليقين ، التسوية ، مكان النوم المهدّئ ، رفضاً مباشرا وحادا " (6Cool . وبإزاء النوم الأنثروبولوجي ، وجد ماركس وفرويد ونيتشه أن الإنسان نتاج العلاقات التي تتخطاه . فقد كانت تتم رؤية الإنسان بازاء الموت : الاغتراب alienation عند ماركس ، الرغبة عند فرويد ، التجوال عند نيتشه . إن الحياة هي " ما ينبغي أن تتخطى ذاتها إلى الأبد "(69).
ونجد عند نيتشه أن زرادشت هو الذي يتكلم ـ ضد إرادة الحقيقة ـ لصالح إرادة السلطة. وتحل السلطة محل الحقيقة والأخلاق بوصفها العلامة الأساسية . ويرى نيتشه أن هذا الاكتشاف كان مرتكزاً على تحول اللغة .
" إن الدليل المرشد الذي وضعني على المسار الصحيح لأول مرة كان هذا السؤال ـ ما هي الدلالة الإبستمولوجية الحقيقية لمختلف رموز فكرة " الخير " التي صاغتها مختلف اللغات ؟ ثم وجدت أن جميعها تؤدي إلى التطورية ذاتها ، للفكرة ذاتها ـ بمعنى أن " الأرستقراطي " ، " النبيل " (بالمعنى الاجتماعي) هو الفكرة الجذر التي تطورت منها فكرة " الخير " أي " بروح أرستقراطية " ، " نبيلة " ، وأعني " بروح ذات منزلة رفيعة " ، " بروح متمتعة بالامتياز " ـ وهذا تطور يتوازى حتما مع التطورية التي شهدها مفهوم " السوقي" ، " المبتذل " ، " الواطئ " التي تغيرت في النهاية لتصبح " شر "(70).
وبعبارة أخرى نجد أن فيلولوجيا نيتشه أدت إلى السوسيولوجيا . وتعد جينالوجيا نيتشه دراسة في اللغة المستخدمة لتعريف الخير . كما أن دراسته للممارسات الاستطرادية للأخلاق هي التي وضعت الكلمات " الخير " ، " الشر " ، " السوء " ، " الحقيقة " ، " الله " موضعا سوسيولوجيا . " دعونا نتحدث عن هذا المطلب الجديد : نحن بحاجة إلى نقد القيم ، إذ أن قيمة تلك القيم صارت موضع تساؤل لأول مرة ـ ولهذا السبب تعد المعرفة ضرورية للشروط والظروف التي تتولد منها هذه القيم …"(71). وما عادت فكرة " الخير " تتعالى على الإنسان وتسيطر على فكره وكينونته . فـ " الخير" مصطلح اجتماعي وسياسي تم توظيفه لغرض المحافظة على النظام الاجتماعي . ومع ذلك لا يمكن أن نرى مصطلح " الخير " إلا حينما تتحرر اللغة من وظيفتها الكلاسيكية : التعبير عن حقيقة الكينونة . ولهذا السبب ثمة حدود مشتركة بين تحرير اللغة وموت " الله " حيث يرمز " الله " ، في المنظور الحديث ، إلى مبادئ النظام المطلق الميتافيزيقية كلها . وكذلك فإن ثمة حدود مشتركة بين موت " الله " وموت الإنسان . فلعبة اللغة اللا متناهية ، تفكيك الأخلاق ، نقد الميتافيزيقا ، الإنسان الذي يتجول على شفا حفرة بين إرادة السلطة وخواء الموت ، هي جوهر فلسفة السلطة عند نيتشه (72) . وهنا ، ببساطة ، يكمن اقتران اللغة بالموت .
لكن مع ذلك ، نجد فوكو يضع نيتشه في سلسلة ثانية " إن التركيز يكون على الكينونة عند بلانشو من دون شك ، على الرغبة عند ساد ، على السلطة عند نيتشه ، وعلى مادية الفكر عند آرتو ، وعلى الانتهاك عند باتاي : أي تحديدا خبرة التخريجexterioity المحضة وتعرية الخبرات(73)". ونجد أن إرادة السلطة النيتشوية تحتل موقعا واضحا في هذه العلاقات ، وتتجلى على نحو أوضح في سياق الموت والجنس . " ربما كان ظهور الجنس في ثقافتنا حدث مضاعف القيم : إنه مرتبط بموت " الله " وبالخواء الأونطولوجي الذي ثبته موته عند حدود فكرنا(74). ثمة ثلاثة أحداث تطغى عند ساد ، على سبيل المثال : قص الحكايات ، الجنس العنيف ، والموت من دون معنى(75). ومما لاشك فيه أننا إذا حررنا الخطاب من قيد الأخلاق فإنه سيؤدي حتما إلى انتهاك عنيف للأخلاق ، ويترك الإنسان في مواجهة الموت ـ الخواء الذي بلا معنى . فالتعذيب والقتل عند ساد لا يغيران عن حقائق مليئة بالمعنى . إنهما يوضحان حدود الإنسان ، على نحو محض وبسيط .
وبالطريقة ذاتها يرى باتاي أن الجنس في صميم الإنسان . فالكائنات الجنسية ، إذا ما قورنت بالكائنات اللا جنسية ، تتكاثر من خلال خلق الانفصال discontinuity من أحشاء الاتصال continuity . فالحيمن والبيضة ، وهما كيانان منفصلان يصبحان كيان واحد عند التصور . " يظهر الاتصال بينهما إلى حيز الوجود ليشكلا كيانا جديدا من موت الكينونتان المنفصلتان واختفاءهما(76)" . لكن مع ذلك يكون المولود الجديد الذي يولد منفصلا ، في النهاية ، عن والديه . " توجد عند المستوى الأساسي جدا تحولات من المتصل إلى المنفصل ومن المنفصل إلى المتصل .فنحن كينونات منفصلة ، أفراد يموتون بمعزل عن غيرهم في خضم مغامرة يتعذر فهمها ، لكننا نتوق إلى اتصالنا المفقود(77) ". ولذلك فإننا نرى في باتاي ما كنا نراه في نيتشه وما نجده في فوكو في كل موضع منه . إذ يحدث التحليل بين ثنائيات . إن حقيقة الإنسانية الجوهرية هي تعذر التوفيق بين الاتصال والانفصال(7Cool ، التي يربطها باتاي باعتماد شهوة الجنس على التكاثر ، على نحو يثير للسخرية . إن الشهوة ، بطبيعتها المحددة جدا ، هي الجنس من دون مراعاة لأداتية instrumentality التكاثر . فالشهوة ، العاطفية ، المادية ، الدينية ـ يتم التنبؤ بها على أساس الانفصال الذي تخلقه حقيقة تكاثرنا . وتعد الشهوة شكلا من التوصيل communication الذي يبحث فيه الإنسان اتصاله المفقود . وبالنهاية تعد الشهوة اتصالا مقدسا ، وبذا دينية . إنها البحث عن حقيقة الاتصال الأزلية ، لكن ، في الحقيقة ، يعتمد البحث عن " الله " على موت " الله " ، وهذه حقيقة الاختلاف الجوهرية . وحينما نحاول التغلب على الانفصال شهواتيا لا نكتشف سوى الحدود . وبالنتيجة ، صارت الشهوة الفعل الأساس الأكثر جوهرية . ويتم انتهاك الحدود الاجتماعية بسبب حالتنا الطبيعية " تشتمل الشهوة ، دائما ، على تعطيل الأنماط الراسخة ، وأكرر قائلا : أنماط النظام الاجتماعي الأساسي لطابع وجودنا المنفصل …(79) .
وبذا ، لا يعد الانتهاك ترخيصا جنسيا ، بل يخص المعرفة والسلطة اللتين يتم التعبير عنهما في شروط الجنس . ويعد الحظر وسيلة السلطة الاجتماعية لغرض السيطرة على المعرفة والفعل الاجتماعي (80) ، ولهذا السبب يجد الانتهاك أن المعرفة وإرادة السلطة يمثلان علاقة مزدوجة وضرورية ، فالانتهاك يكون عند وضد حدود الاجتماعي التي تتكشف عندها معرفة الإنسان وسلطته . " إن الانتهاك يوقف التابو taboo من دون تشتيته(81)". ويبقى الإنسان حيوانا اجتماعيا ، في حين تضطره حقائق حيوانيته إلى البحث عن حده . فلا نجد " الله " عندئذ ، بل الموت . ويحتوي موت " الله " وموت الإنسان أحدهما الآخر حينما يجعلان المعرفة والسلطة ممكنتين .