الإحالة وأثرها في دلالة النص وتماسكه
1- مقدمة
ازدهرت الدراسات النصية في الغرب في الربع الثالث من القرن العشرين، بعد أن أخذت الدراسات التخاطبية ممثلة في علم التخاطب pragmatics وتحليل الخطاب discourse analysis تتحدد معالمها متخذة من النص الوحدة الصغرى للتحليل، وكان أبرز ما يميز تلك الدراسات عن علم الدلالة، أنها تدرس الخطاب الشفهي، والنص المكتوب في ضوء سياقاتهما الداخلية والخارجية، لتترك دراسة الجملة في شكلها الوضعي وبمعزل عن السياق الذي ترد فيه موضوعا لعلم الدلالة. وإذا ما تأملنا تراث العربية فسنجد أن النحاة هم الذين حملوا على عاتقهم مهمة دراسة الجملة من الناحية الوضعية، فصاغوا قواعدها، واستقصوا أنماطها، ولكنهم لم يتجاوزوا حدود الجمل في دراساتهم وتحليلاتهم، بل تركوا هذه المهمة للبلاغيين والأصوليين، الذين أسهموا إسهاما واضحا في تحليل النص، فربطوه بالسياق الذي يرد فيه، وكان أكثر ما يشد انتباه المهتمين بالدراسات النصية في دراسة علماء التراث للنصوص، ولاسيما المفسرون والأصوليون منهم، تعاملهم مع القرآن الكريم على أنه وحدة واحدة يترابط بعضها ببعض، وتتعلق أجزاؤه على نحو تكاملي، بحيث لا يستقل منه جزء عن الآخر، وينقل السيوطي عن فخر الدين الرازي قوله: "إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"،[1] كما ينقل عن ابن العربي: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض -حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني- علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة"،[2] وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره".[3]
ونظرا لأهمية هذه السمة (أي حسن الارتباط)، وهي التي نسميها التماسك، فقد رأيت أن أسهم في تقنينها من خلال البحث في الوسائل التي يعتمد عليها المتكلم في ربط أجزاء النص بعضه ببعض.
ولعل من أبرز الباحثين الغربيين في موضوع التماسك cohesion[4] اللسانيين المشهورين مايكل هاليدي Michael Halliday ورقية حسن Ruqaiya Hasan اللذين كان لهما الفضل في صوغ ما سمياه بوسائل التماسك cohesive devices. وقد نظرا إلى التماسك على أنه سمة دلالية، وعرفاه بأنه "علاقات المعنى الموجودة في النص، تلك التي تعرّفه بأنه نص"[5]، أي أن النصية تستمد من علاقة التماسك،[6] ويحدث التماسك -طبقا لهما- عندما يتوقف تفسير عنصر ما في الخطاب على آخر؛[7] أي أن تماسك النص هو أن تتعلق أجزاؤه بعضها ببعض لتكون كتلة واحدة لا يستقل بعضها عن الآخر.
ويتحقق التماسك في اللغة بخمس وسائل، هي:
الإحالة reference، والإبدال substitution، والحذف ellipsis، والربط conjunction، والتماسك المعجمي lexical cohesion.[8] وقد اختصر هاليدي هذه الوسائل الخمس في كتاب لاحق[9] في أربع عندما أدرج الإبدال تحت الحذف.
فمن الإحالة قوله تعالى:
(1) "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"،[10] حيث أحال اسم الإشارة "ذلك" على ما تقدم من خلق الأزواج وما جعل بينهم من مودة ورحمة.
ومن الإبدال قوله تعالى:
(2) "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"،[11] حيث ربط بين الصراطين بطريق الإبدال.
ومن الحذف:
(3) أ: هل تحب اللون الأحمر
ب: أفضل الأزرق.
أي أفضل اللون الأزرق، ولو قيل: أفضل اللون الأزرق، لاستقلت الجملة عما سبقها، وصح الابتداء بها، وفقدت وسيلة من وسائل الربط بين الجملتين.
ومن أمثلة الروابط:
(4) "وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس"؛[12] إذ ربطت الواو بين الجملتين للاشتراك في الحكم ووُصِل معنياهما بعضهما ببعض.
ومن التماسك المعجمي:
(5) "لقد تفانت الزوجة في الإخلاص في حب زوجها تفانيا كاملا. لم تعرف المسكينة شيئا يحبه الزوج إلا فعلته"، فقد ربط بين الجملتين باستخدام مرادف معجمي وهو "المسكينة" ليتحقق التماسك بينهما.
وقد أدرك عبد القاهر الجرجاني سمة التماسك في النص، فصاغ نظرية متكاملة سماها "النظم" أكّد فيها أهمية تعلق أجزاء الكلام بعضه ببعض مشبها واضع الكلام بمن "يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة، فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"،[13] وقد علق على بيت بشار بن برد:
(6) كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
بقوله: "إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصانع حين يأخذ كسرا من الذهب، فيذيبها ثم يصبها في قالب ويخرجها لك سوارا أو خلخالا. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار، ذلك أنه لم يرد أن يشبه النقع بالليل على حدة، والأسياف بالكواكب على حدة، ولكنه أراد أن يشبه النقع والأسياف تجول فيه بالليل حال ما تنكدر الكواكب وتتهاوى فيه، فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد، والبيت من أوله وآخره كلام واحد".[14]
وينطلق فهم عبد القاهر الجرجاني لفكرة التماسك من فكرة تعلق المعاني بعضها ببعض، حتى يصبح الكلام كتلة بنيوية واحدة، لا يمكن أن تتجزأ فيه المعاني، بل يؤخذ مجموعها على أنه معنى واحد مركب، وليس معاني مجزأة مفرقة؛ لأن الكل لا يدل على مجموع الأجزاء فقط، بل على المجموع وزيادة ناشئة عن التعلق الذي يحصل بين الأجزاء؛ وذلك لأنك "إذا قلت: ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له، فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان، كما يتوهمه الناس، وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنما جئت بها لتفيد وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه، والأحكام التي هي محصول التعلق {…}، وإذا كان ذلك كذلك بان منه وثبت أن المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدة معان، وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا وعلى صفة كذا ولغرض كذا، ولهذا المعنى تقول إنه كلام واحد".[15]
وقد أدلى النحاة بدلوهم في موضوع الربط بين أجزاء الجملة، وكان لهم إسهام مهم في ذكر المواضع التي ينبغي أن تشتمل على رابط يربطها بما سبق، وإن اتسمت دراساتهم بتقييدها بحدود الجملة، ومن ذلك ما يذكر في موضوع الخبر إذا وقع جملة، حيث اشترطوا لوقوعه جملة أن يرتبط بالمبتدأ (أو باسمي "إنّ" و"كان") برابط ما من روابط ذكروها، وسنقتصر هنا على ذكر أشهرها، وأكثرها شيوعا:[16]
أولها: الضمير، وهو الأصل في الربط كما في (7) و(.
(7) زيد أبوه قائم
( وإن الحرب أولها الكلام.
ثانيها: الإشارة، كقوله تعالى:
(9) "ولباس التقوى ذلك خير".[17]
ثالثها: إعادة المبتدأ بلفظه، نحو "الحاقة ما الحاقة".[18]
رابعها: عموم يشمل المبتدأ، أي أن يذكر بعد المبتدأ جنس أعم يندرج تحته، نحو
(10) زيد نعم الرجل. (فزيد مندرج في جنس الرجل)
خامسها: "ال" النائبة عن الضمير، ومن ذلك قوله تعالى:
(11) "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"،[19] (أي مأواه).
سادسها: كون الجملة نفس المبتدأ في المعنى، نحو
(12) ذكري في رمضان لا إله إلا الله.
وهناك جمل أخرى تحتاج إلى رابط يربطها بما قبلها، منها جملة النعت (ولايربطها إلا الضمير كما في (13))، وجملة الموصول (ولايربطها عادة إلا الضمير كما في (14))، وجملة الحال، (ورابطها إما الواو والضمير كما في (15)، أو الواو فقط كما في (16)).[20]
(13) "حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه".[21]
(14) "وفيها ما تشتهيه الأنفس".[22]
(15) "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".[23]
(16) "لئن أكله الذئب ونحن عصبة".[24]
وإذا كان عبد القاهر يصدر في ترسيخه فكرة تماسك النص وترابطه عن إدراكه أهمية المعنى في تعليق الكلام بعضه ببعض (وهو منسجم مع موقفه من قضية اللفظ والمعنى الذي ناصر فيه المعنى على اللفظ)، فإن النحاة قد انطلقوا من منطلق الصناعة النحوية القائمة على الإعراب، ونظرية العامل في بيان المواضع التي يشترط فيها الربط بين أجزاء الجملة. وقد نحوا في ذلك منحى معياريا يدعو إلى الالتزام بالقواعد والضوابط التي صاغوها، دون عناية واضحة بأهمية التعلق بين أجزاء الكلام من الناحية الأسلوبية، والنصية.
وربما اختلف المنهج في هذا البحث عن منهجي عبد القاهر والنحاة؛ إذ لم يقصر التماسك على الربط بين معاني النحو، كما فعل عبد القاهر، ولم يأخذ على عاتقه مهمة التقعيد النحوي، كما فعل النحاة، بل رمي من العناية بالموضوع إلى تحقيق أهداف عملية تتعلق بتنمية مهارات الكتابة والتعبير، فضلا عما لها من أبعاد نقدية نظرية لسانية، وما لها من صلة بالجانب الدلالي والتخاطبي للنص، إدراكا من الباحث بأن أشد ما يزعج المتلقي قراءة نص مهلهل مبعثر العناصر لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط.
وسأتناول في هذا البحث الإحالة بوصفها أهم الوسائل التي تربط النص بعضه ببعض بحيث لا يستقل جزء منه عن الآخر.
2- مفهوم الإحالة
أعني بمصطلح الإحالة ما يعرف باللغة الإنجليزية reference، وربما ترجم هذا المصطلح بالإشارة، ولا ضير في ذلك من الناحية اللغوية المحضة، بيد أنه قد يسبب مشكلة اصطلاحية ومنهجية؛ لالتباسه بما يعرف في العربية بأسماء الإشارة، التي هي نوع واحد من أنواع الإحالة، ومن هنا يمكن القول إن العلاقة بين الإحالة والإشارة علاقة عام بخاص؛ إذ كل إشارة إحالة وليس كل إحالة إشارة. وتتحقق الإحالة في العربية بالضمائر بأنواعها، وأسماء الإشارة، والتعريف بأل، والمقارنة، وسنتعرض لكل نوع منها بالدراسة والتمثيل والتحليل.
ويمكن القول إن الإحالة هي علاقة بين عنصر لغوي وآخر لغوي أو خارجي بحيث يتوقف تفسير الأول على الثاني؛ ولذا فإن فهم العناصر الإحالية التي يتضمنها نص ما يقتضي أن يبحث المخاطب في مكان آخر داخل النص أو خارجه. وعلى سبيل المثال، فإن قوله تعالى: "قال بل فعله كبيرهم هذا"[25] لا يمكن أن يفهم إلا بتحديد مراجع الكلمات الإحالية فيها، وهي: الضمائر في "قال" و"فعله"، و"هم"، واسم الإشارة". وليس ثمة علامة صرفية أو نحوية أو معجمية في العنصر المحيل نفسه يمكن أن يساعد المخاطب في تحديد المرجع المقصود، ولا في معرفة كون المرجع جزءا من النص، أو جزءا من مقام التخاطب. ومع ذلك، يمكن للمخاطب - اتكالا على السياق أو المقام بمفهومه الواسع- أن يحدد الأشياء أو الأشخاص، أو العناصر اللغوية التي تحيل عليها العناصر المحيلة.
ومن أمثلة الإحالة بأداة التعريف "ال" في قوله تعالى: :
(17) "وأرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول"،[26] (فقد أحالت كلمة "الرسول" على كلمة "رسولا").
ومن أمثلة الإحالة بالمقارنة قوله تعالى:
(18) "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"،[27]
فقد ربطت كلمة أكبر (التي هي لفظ من ألفاظ المقارنة) الجملة الثانية بالأولى؛ لأنه لا يكون الشيء أكبر إلا بالموازنة بشيء آخر، ولا يعرف ذلك الشيء الآخر إلا بالرجوع إلى ما سبق في الآية، ومن هنا تتحقق فكرة اعتماد أجزاء النص بعضها على بعض، وعدم استغناء أحدها عن الآخر.
ويفرق الباحثون بين الإحالة الخارجية exopheric reference، والإحالة الداخلية endopheric reference. ويُقصد بالإحالة الخارجية ذلك النوع الذي يوجّه المخاطب إلى شيء أو شخص في العالم الخارجي. أما الإحالة الداخلية فتستخدم لتدل على ذلك النوع الذي يحال فيه المخاطب على عنصر لغوي داخل النص.[28] ويمكن التمثيل للنوع الأول باسم الإشارة "هذا" الذي ورد في الآية السابقة، وأشير به إلى كبير الأصنام، التي جعلوها آلهة، وهذا النوع من الإحالة لا يمنح النص سمة التماسك؛ لأنه لا يربط عنصرين معا في السياق.[29] وأما النوع الثاني فيمكن التمثيل له من الآية نفسها بالضمير "هم" في قوله تعالى: "كبيرهم" الذي يحيل على الآلهة، التي وردت قبل ذلك في قوله: "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم".
ومن اللطائف أن تتعدد الإحالات، كما في الإحالة بالضمير "ـه" في "فعله" على "هذا" في قوله تعالى: "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم"، وأحيل بـ "هذا" على كسر الأصنام.، فاجتمعت إحالتان الأولى منهما داخلية، والأخرى خارجية.
وقد تكون الإحالة الداخلية على متقدم anaphoric reference، وهو الأصل في العربية، كما في قوله تعالى:
(19) "ولقد آتينا إبراهيم رشده"[30]
حيث أشير بالهاء إلى "إبراهيم" عليه السلام المتقدم الذكر، وقد تكون على متأخر cataphoric reference، وهو قليل لا يتعدى مواضع معينة سنشير إليها في مبحث قادم، ومنه ما يعرف بضمير الشأن أو القصة، كما في قوله تعالى:
(20) "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"[31].
التي يحيل فيها الضمير "ها" على المحتوى الدلالي المفهوم من الكلام بعدها، وهو أن العمى الحقيقي إنما هو عمى القلوب، وليس عمى الأبصار.
ولعل من المفارقات الجديرة بالملاحظة أنه كلما زادت الإحالات في الجملة (كما في آية كسر الأصنام السابقة)، زاد اعتمادها على غيرها في فهمها، واضمحل استقلالها بنفسها، فتزايدت قوتها الربطية، والتعلقية، وقدراتها التماسكية، وكل ذلك يدعم سمة النصية في الكلام المؤلف.
3- أنواع الإحالة
يمكن التمييز بين أربعة أنواع من الإحالة: الإحالة الشخصية، ممثلة في الضمائر، والإحالة الإشارية، ممثلة في أسماء الإشارة، والإحالة بأداة التعريف "ال"، والإحالة بالمقارنة، التي تكون باستخدام ألفاظ معينة تفهم منها الموازنة بينها وبين ما سبق، وسنشرح كل نوع من هذه الأنواع فيما سيأتي:
3، 1- الإحالة بالضمائر
قد يحال بالضمائر صراحة على الأشخاص، كما في (21)، والأشياء، كما في (22)، والأحداث، كما في (23)، وقد يحال بها على فحوى كلام ورد سابقا، كما في (24)، أو لاحقا، كما في (25)، وقد يحال بالضمائر على مرجع مستنبط استنباطا من السياق النصي، كما في (26)، أو السياق الذهني، كما في (27):
(21) "وإذ ابتلى إبراهيم ربه"[32].
(22) فتحت باب السيارة، ثم أغلقته.
(23) التقدم ليس أمرا سهلا، فهو يحتاج إلى إرادة، وتخطيط، ومال، وصبر.
(24) "اعدلوا هو أقرب للتقوى"،[33] أي العدل، وهو مفهوم من فحوى ما سبق.
(25) "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"،[34] التي يحيل فيها الضمير "ها" على المحتوى الدلالي المفهوم من الكلام بعدها.
(26) "هي راودتني عن نفسي"،[35] حيث يفهم المرجع -وهو امرأة العزيز- من السياق.
(27) "إنا أنزلناه في ليلة القدر"،[36] فعاد الضمير على القرآن دون أن يذكر.
ويبدو أن الإحالة بالضمائر هي أكثر الإحالات شيوعا، وربما يدعم ذلك الدراسة التي أجراها بعض الباحثين عن سورة الأنعام، فوجد أن عدد الضمائر فيها بلغ 1320 موضعا، على حين كان عدد أسماء الإشارة 51، وأسماء الموصول 85،[37] وهو ما يؤكد الوظيفة التي تؤديها الضمائر في وصل الكلام بعضه ببعض، والربط بين أجزائه.
ولئن كان الوصل والربط قد يمكن تحقيقهما بإعادة ذكر العنصر المشار إليه في كثير من الأحيان، ولاسيما بما يسميه النحاة "الإظهار في محل الإضمار"، كما في قوله تعالى:
(28) "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"[38]
حيث أعاد ذكر الحق بدلا من أن يقول: وبه نزل، فإن ثمة حالات يحول فيها طول الكلام المذكور دون تكرار ذكره، وتصبح الإشارة إليه بالضمير أو باسم الإشارة أمرا حتميا، ومن ذلك قوله تعالى:
(29) "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما".[39]
إذ لا يمكن أن يعيد ذكر الفئات المذكورة بدلا من الإشارة إليهم بالضمير في "لهم".
وقد يحول دون إعادة الذكر عوامل نحوية، كما في قوله تعالى:
(30) : "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن".[40]
إذ لا يجوز أن يقال: أجور أزواجك بدلا من "أجورهن"؛ لأن صلة الموصول تحتاج إلى رابط، وهو هنا الضمير، فلا يجوز الاستغناء عنه.
ومهما يكن من أمر فإن شرط الإضمار الترادفُ التام في المعنى، أي أن يكون المقصود واحدا إشارة ومعنى (أو مسمىً nominatum ومعنىً meaning إذا ما رمنا مصطلحي قوتلب فريجة Gottlop Frege، أومفهوما intension وماصدقا extension وفقا لتفريق كارناب Carnap[41])، فإذا كان المشار إليه واحدا، والمعنى مختلف، كان الإظهار أفضل، وإن كان المعنى واحدا والمشار إليه مختلف، وجب الإظهار، فمن الأول قوله تعالى:
(31) "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" [42]
حيث اختير الإظهار بدلا من الإضمار؛ لأن في الإظهار معنى زائدا لا يتحقق بالإضمار، وهو هنا المدح، إذ لو قال: صدورهم بدلا من "صدور قوم مؤمنين" لما فهم من الآية مدحهم.
ومنه أيضا قوله تعالى:
(32) "ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفرا إن هذا إلا سحر مبين"[43]
حيث اختار استخدام "الذين كفروا" بدلا من الضمير" لذمهم بهذه الصفة، وهو معنى لا يتأتى بالإضمار، وهذا كله من قبيل العدول من الإشارة بالذات التي يمكن أن تكون بالضمير إلى الإشارة بالصفة لغرض بلاغي يوضحه السياق كالمدح أو الذم أو نحو ذلك.
ومن الثاني قوله تعالى:
(33) "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا".[44]
ولا يجوز في هذه الآية الإضمار، لأن المشار إليه بالنفس الأولى، غير المشار إليه بالثانية، وإن كان المعنى واحدا.
وتقسم الضمائر في العربية من حيث إحالتها إلى ثلاثة أقسام: ضمير المتكلم مثل "أنا"، وضمير المخاطب مثل "أنت"، ويشترك هذان النوعان في كون إحالتهما إحالة خارجية دائما، ولعل مسوغ ذلك كونهما حاضرين في المقام التخاطبي. أما النوع الثالث فهو ضمير الغائب، وهذا النوع من الضمائر هو الذي يهمنا في هذا البحث؛ لأهميته في تحقيق التماسك في النص؛ لأنه يربط الكلام بعضه ببعض.
ومن المهم في استخدام الضمائر المطابقة بين الضمير ومرجعه، وهي التي تحقق التماسك في الكلام، وينبغي أن نفرق هنا بين عدم المطابقة وعدم الربط، فالأول يؤدي إلى خلل أسلوبي، والثاني يؤدي إلى خلل في المعنى. أما الأول فكأن نقول: البيض أكثره من الدجاج، حيث يؤدي تغيير الضمير من حيث الجهة أو العدد أو الجنس (كأن يقال: : البيض أكثرنا من الدجاج، البيض أكثرهما من الدجاج، أو البيض أكثرها من الدجاج) إلى خلل أسلوبي غير مقبول، أما عدم الربط الذي يكون بحذف الضمير أصلا دون قصد تقديره (كما في: البيض أكثر من الدجاج) فيترتب عليه تغيير في المعنى.
3، 1، 1- الضمائر المنفصلة والضمائر المتصلة
يقوم التفريق في العربية بين الضمائر المنفصلة والضمائر المتصلة على أساس الموقع الذي يأخذه الضمير في التركيب، فضمير الفصل يقع بعد لفظ آخر، ويتصل به سواء أكان اللفظ الآخر فعلا نحو "سألتمونيها"، أو اسما نحو "كتابنا"، أو حرفا نحو "لكما"، ويعامل من الناحية الإملائية (أو الكتابية) معاملة جزء الكلمة، وليس كلمة مستقلة، وإن عومل من الناحية النحوية (ولاسيما الإعرابية) معاملة الكلمة المستقلة. أما الضمير المنفصل فيتسم بالاستقلال من الناحيتين الإملائية والنحوية. ونتيجة لتأسيس الاتصال والانفصال في الضمير على معايير موقعية، فقد انعكس ذلك على التقديم والتأخير في التركيب، وهو أمر متوقف على عوامل أسلوبية تتصل بأغراض بلاغية. ومن أمثلة ذلك تحوّل الضمير في قوله تعالى:
(34) "إياك نعبد وإياك نستعين"[45]
من ضمير متصل (كـ) إلى ضمير منفصل (إياك) بعد تقديمه لغرض القصر، الذي يفيد بأن الله وحده هو الذي يستحق أن يعبد، ويستعان به.
3، 1، 2- التطابق
يعد التطابق الوسيلة الكفيلة بربط الضمير بمرجعه، وهو ما يمنح التركيب سمة التماسك، وإذا كان الأصل في نظام الضمائر في العربية أن يستخدم كل ضمير لمرجع معين وفقا لمقولات الجهة، والجنس، والعدد، بحيث يشير ضمير المتكلم -مثلا- إلى المتكلم، والمذكر إلى المذكر، والمفرد إلى المفرد، فإن هذا النظام يسمح بنوعين من الاستثناءات، أحدهما وضعي تسمح به قواعد النحو، والثاني بلاغي يخضع لاعتبارات أسلوبية، وسنتحدث عن هذين النوعين فيما يأتـي:
1) الاستثناء الوضعي:
(35) بمقتضى هذا الاستثناء يستخدم ضميرا المتكلمين "نحن" و"نا" للمتكلم المفرد ، وضمير المخاطبين "أنتم" ونحوه للمخاطب المفرد لأجل تعظيمهما، ومن أمثلة ذلك (36) الذي أشير فيه بـ"نا" إلى الله -عز وجل- و(37) الذي أشير فيه ب"نحن" و"أنتم" و"كم" و"ون" و"تم" إلى الملك.
(36) "ولقد آتينا إبراهيم رشده"[46]
(37) - المذيع: أنتم من أول المبادرين إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وجهودكم في هذا الإطار كان لها أثر فعّال في تحريك عجلة السلام، فهل تعتقدون أن الزيارة التي قمتم بها إلى مصر قد ساعدت على دفع مسيرة السلام؟
- الملك: نحن نسعى إلى تحقيق السلام بكل الوسائل، وقد كانت هذه الزيارة فرصة طيبة لتبادل وجهات النظر في هذا المجال.
ومن ذلك أيضا معاملة غير العاقل معاملة العاقل إذا أسند إليه صفة من صفات العقلاء، كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام:
(38) "إذ قال يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"[47]
وتجدر الإشارة في هذا المقام أن اللغة العربية تنزع نحو تغليب المذكر على المؤنث عند اجتماعهما كما في (39)، و(40)، أو عند الحديث عن أشخاص غير محددين كما في (41)، و(42).
(39) حضر المحاضرة عدد كبير من الرجال والنساء، معظمهم من كبار السن.
(40) ينبغي أن يكون الناس سواسية أمام القانون، لا فرق بين أبيضهم وأسودهم، ولا بين غنيهم وفقيرهم.
(41) في معظم بلاد العالم كل من يتعاطى المخدرات يعاقبه القانون.
(42) ليس هناك أسوأ من أن تكون في حيرة من أمرك، تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
2) الاستثناء البلاغي:
يتمثل عدم مراعاة المطابقة بين الضمائر لأغراض بلاغية أو ما سميناه بالاستثناء البلاغي في الظاهرة المشهورة المعروفة بالالتفات، وهي ظاهرة تختل فيها المطابقة في الجهة، أوفي العدد فقط ، دون الجنس.
أولا: المخالفة في الجهة
يشتمل هذا النوع من الالتفات على الحالات الآتية:[48]
أ- الالتفات من المتكلم إلى الغائب، ومنه قوله تعالى:
(43) "إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر"[49]
حيث أشار -عز وجل- إلى نفسه بـ"نا" ثم استخدم اسما ظاهرا معادلا لضمير الغائب هو "رب" بدلا من ضمير المتكلم "نا".
ب- الالتفات من الغائب إلى المتكلم، كما في قوله تعالى:
(44) "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت"[50]
الذي التفت فيه من الاسم الظاهر، وهو لفظ الجلالة الذي يعادل ضمير الغائب "هو" إلى ضمير المتكلم "نا" في "فسقناه".
ت- الالتفات من المخاطب إلى الغائب، كما في قوله تعالى:
(45) "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم"[51]
فقال: "بهم" بدلا من بكم.
ث- الالتفات من الغائب إلى المخاطب، كما في قوله تعالى:
(46) "مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين"[52]
فقال: "إياك" بدلا من إياه.
ج- الالتفات من المتكلم إلى المخاطب، كما في قوله تعالى:
(47) "ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون".[53]
فقال: "ترجعون" بدلا من أرجع.
ح- الالتفات من المخاطب إلى المتكلم، كما في قول علقمة بن عبدة بن النعمان:
(48) طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وليها وعادت عواد بيننا وخطوب[54]
فقد أشار الشاعر إلى نفسه بضمير المخاطب "ك" في "بك"، ثم استخدم ضمير المتكلم "ي" في "يكلفني".
ثانيا: المخالفة في العدد
يقصد بالمخالفة في العدد أن يلتفت من ضمير إلى آخر مخالف له من حيث الإفراد أوالتثنية أو الجمع، ومن ذلك قوله تعالى:
(49) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ.[55]
فقال "بنورهم بدلا من بنوره".
3، 1، 3- مرجعية الضمير، وإزالة اللبس
إعادة الضمير إلى مرجعه من أهم المهام التي يقوم بها مفسر النص؛ لأنها تزيل عنه اللبس، وتوضح دلالاته، ولا شك أن اللبس يحول دون تماسك النص،[56] كما أن إزالة اللبس عن النص يقوي تماسكه، ويبين الرابط بين أجزائه. ولما كان ضميرا المتكلم والمخاطب يرجعان إلى المشاركين في عملية التخاطب، فإن مهمة تحديد من يشيران إليه عملية سهلة عادة؛ لعدم إمكان اللبس فيها، ولكن الصعوبة قد تكتنف عملية عزو ضمير الغائب إلى صاحبه؛ لأنه "عار عن المشاهدة، فاحتيج إلى عود الضمير ما يفسره"[57]، وسنناقش في هذا المبحث كيفية إزالة اللبس في مرجعية ضمير الغائب.
اشتهر بين النحاة ضابط مشهور قصد به تقنين عملية إعادة الضمير إلى مرجعه، وهو أن "الضمير يرجع إلى أقرب مذكور"، كما في (50) التي يعود فيها الضمير "ـه" في "فلامه" وفي "أبوه" على سليم.
(50) أعطى سعيد ابنه خالدا كراسة وابنه سليما قلما، لم تمض ساعتان حتى مزق خالد كراسته، وكسر سليم قلمه، فلامه أبوه على ذلك.
غير أن الضابط المذكور يحتاج إلى تقييد، وذلك بأن يقال: أقرب مذكور صالح لغة وعقلا لعود الضمير إليه؛ وأضفنا "صالح لغة" للاحتراز عن نحو (51) التي لا يصلح أن يعزى فيها الضمير "ها" في قلمها إلى المتكلم المشار إليه بـ "تُ" في "عنفتُ"؛ لعدم التطابق من حيث الجهة (لأن "تُ" ضمير المتكلم، و"ها" للغائب)، ولا أن يعزى فيها الضمير"ها" إلى خالد؛ لعدم التطابق من حيث الجنس. وأما إضافة "صالح عقلا" فلاستبعاد نحو (52) التي يمكن فيها تحديد المرجع المقصود بمقتضى معارفنا عن محتويات العالم الخارجي، وقوانينه. وبناء على ذلك فإن معرفتنا أن القطط هي التي تلاحق الفئران وليس العكس هي التي تعيننا على إدراك أن "القطة" هي المرجع الوحيد الذي يمكن عقلا وعادة إعادة الضمير إليه، وإن كانت "الفأرة" أقرب إلى الضمير "ها" من "القطة".
(51) أعطيت ابنتي فاطمة قلما، وابني خالدا كراسة، لم تمض ساعتان حتى كسرت فاطمة قلمها، ومزق خالد كراسته، فعنفت عليهما، فلامتني جدتها على ذلك.
(52) استطاعت القطة أن تصمد طويلا في مطاردة الفأرة، لكنها أخفقت في اللحاق بها.
وقد ذكر النحاة استثنائين للضابط المذكور في عود الضمير، هما:
أ- إن لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك،[58] وهذا ما تحدثنا عنه فيما مضى، وحاولنا حل الإشكال فيه بإضافة قيد على القاعدة.
ب-إذا كان المرجع جزءا من تركيب الإضافة، فإن المرجع ينبغي أن يكون المضاف مع أنه أبعد على الضمير من المضاف إليه.[59] ويمكن أن نمثل لذلك بنحو (53) التي يعود فيها الضمير "ـه" في "صحته" إلى المضاف "والد"، وليس إلى المضاف إليه، وهو "صديق"، مع أنه أقرب إلى الضمير.
(53) بينما كنت أتحدث مع أخي عبر الهاتف عرض ذكر والد صديق له، فسألني عن صحته، وعن موعد خروجه من المستشفى.
ويقترح هاليدي، ورقية حسن أن اللبس في مثل هذه الحالات يمكن أن يزال بالرجوع إلى المعنى، وإذا كان للنحو من أثر فمن المرجح أن يكون في الموضوع theme؛[60] أي المتحدث عنه.[61] ولعلهما يقصدان بذلك أن النحو يمكن أن يصوغ قاعدة مضمونها "الضمير يعود إلى المتحدث عنه"، وقد أشار النحاة القدامى إلى أن إعادة الضمير على المتحدث عنه أولى من إعادته إلى الأقرب،[62] وللتمثيل لذلك نقول: إذا تأملنا (54) فسنجد أن الضمير "ـه" في "استقباله" لا يعود إلى "الأمير حسن" مع أنه أقرب مرجع يصلح لعود الضمير إليه، بل إلى "الملك عبد الله" لكونه موضوع الحديث.
(54) وصل إلى مطار لندن الملك عبد الله ملك الأردن في ساعة متأخرة من مساء اليوم برفقة والدته الملكة نور، وعمه الأمير حسن، وكان في استقباله على أرض المطار الأمير تشارلز، وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني.
وعلى أي حال، فإن هناك أمثلة يصعب أن نقرر فيها أن المرجع هو المتحدث عنه، أو هو أقرب المذكورات التي يصلح أن يعود الضمير إليها. ومن ذلك (55) التي لا يتضح إن كان مرجع الضمير "هم" في "إنهم" يعود على "الأطفال" أم إلى "ذويهم".
(55) لقد آن الأوان أن يؤخذ الأطفال المُتبنون من مربيهم، ويعادوا إلى آبائهم الحقيقيين، إنهم يتعذبون.
3، 1، 3، 1- عود الضمير على متأخر
الأصل في عود الضمير أن يرجع إلى متقدم في الذكر؛ لأن الضمائر بطبيعتها ملبسة، فلا تتقدم على مراجعها، بل ينبغي أن تتقدم تلك المراجع لفظا، أو معنى، أو حكما؛ "لأنك إذا قلت: قاموا، وما أشبهه، احتمل الزيدين، والعمرين، والمسلمين، والمشركين، فأرادوا ألاّ يعيدوها إلا على ما يتقدم ذكره دفعاً لهذا الإلباس"[63]
ويجوز أن يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في الحالات الآتية:
1- أن يكون الضمير مرفوعا بفعل يراد به المدح والذم ولا يفسر إلا بالتمييز نحو نعم رجلا زيد، وبئس رجلا عمرو، وساء مثلا القوم.
2- أن يعمل ثاني المتنازعين، ويكون الضمير مرفوعا بأولهما، مثل: جفوني ولم أجف الأخلاءَ.
3- .أن يكون مبتدأً يفسره خبره الذي يأتي بعده، مثل: "إن هي إلا حياتنا الدنيا".[64]
4- أن يكون مما يسمى ضمير الشأن والقصة نحو قوله تعالى: "قل هو الله أحد"،[65] وقوله تعالى: "فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا".[66]
5- أن يقع في محل جرٍّ بـ "رُبّ"، ومفسرا بتمييز بعده، نحو
رُبّه فِتية دعوتُ إلى ما يورث المجد دائبا فأجابوا.
6- أن يقع بعده اسم ظاهر بدلا منه ومفسرا له، مثل أحضرته الماءَ.
7- أن يتصل بفاعل مقدم، ويكون المرجع مفعولا به مؤخرا، مثل سامح أخوه سعيدا.[67]
3، 1، 3- إزالة اللبس بضمير الفصل
من المهام الأساسية لضمير الفصل في العربية إزالة اللبس، ولاسيما في تحديد الخبر والتمييز بينه وبين النعت، ويسميه الكوفيون عمادا؛ لأنه يعتمد عليه في تعيين الخبر، ويسمونه دعامة؛ لأنه يؤكد به الكلام،[68] وإذا ما تأملنا الجملة (56)، فسنجد أن لها ثلاث قراءات يصعب ترجيح إحداها على الأخرى، فإذا أتينا بضمير الفصل تحدد الخبر في كل منها، وأصبح لكل منها تفسير واحد، ففي (57) أدخل الضمير قبل كلمة "المحنك"، وفي (58) قبل كلمة "الواقعي"، وفي (59) قبل كلمة "الذي"، فيصير كل منها خبرا في موضعه، ويزال اللبس في الجملة.
(56) السياسي المحنك الواقعي في اتخاذ قراره الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
(57) السياسي هو المحنك الواقعي في اتخاذ قراره الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
(58) السياسي المحنك هو الواقعي في اتخاذ قراره الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
(59) السياسي المحنك الواقعي في اتخاذ قراره هو الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
ومن ذلك أيضا الجملة (60) التي تحتمل تفسيرين، ولا يمكن معرفة الخبر، وتميزه من النعت فيها إلا بإدخال ضمير الفصل قبل الخبر المقصود.
(60) فاطمة الوحيدة التي كسرت زجاج النافذة.
(61) فاطمة هي الوحيدة التي كسرت زجاج النافذة.
(62) فاطمة الوحيدة هي التي كسرت زجاج النافذة.
وإضافة إلى استخدام ضمير الفصل في إزالة اللبس، والتأكيد قد يستخدم للاختصاص،[69] كما في قوله تعالى:
(63) "إن شانئك هو الأبتر".[70]
3، 2- الإحالة بالإشارة
إن الوظيفة الأساسية لأسماء الإشارة تبدو في توضيح مدى القرب أو البعد من المتكلم. وفي العربية ثمة مستويان يمكن التمييز بينهما بوضوح في استخدام أسماء الإشارة، هما: قريب، ويعبر عنه بـ"هذا"، وفروعه، وبعيد، ويعبر عنه بـ"ذلك"، وفروعه. وعلاوة على ذلك يرى البلاغيون أن هناك مستوى ثالثا هو: المتوسط الذي يعبر عنه بحذف اللام من "ذلك"، فتصبح "ذاك"،وهو أيضا رأي جمهور النحاة، كما يقول ابن عقيل: "والجمهور على أن له ثلاث مراتب قربى، ووسطى، وبعدى، فيشار إلى من في القربى بما ليس فيه كاف ولا لام: كذا، وذى، وإلى من في الوسطى بما فيه الكاف وحدها نحو ذاك، وإلى من في البعدى بما فيه كاف ولام، نحو "ذلك"".[71]
وتتكون الكلمة المركبة "ذلك" من ثلاثة أجزاء: "ذا"، وهو اسم الإشارة، واللام، وهو حرف البعد، والكاف، وهي حرف المخاطب. ويلفت الجزء الأخير من الكلمة وهو"حرف الخطاب" الانتباه؛ لأنه سمة من سمات العربية؛ إذ ليس له صلة مباشرة بالإشارة، وإنما أتي به لتحديد نوع المخاطب من حيث الجنس، والعدد، وإن كانت هذه الوظيفة قد تنوسيت في العربية الحديثة، مع أنها لغة القرآن الكريم، يقول الزمخشري: "ويتصرف (أي الكاف) مع المخاطب في أحواله من التذكير والتأنيث والتثنية والجمع"[72]، ولكي نوضح ذلك يمكن أن نمثل بقوله تعالى: "فذلكن الذي لمتنني فيه"[73]، حيث استخدم الضمير "كن"، لأن المخاطبات نسوة، أما في قوله تعالى: "قال كذلكِ قال ربك"، فقد استخدم الضمير "كِ"؛ لأن المخاطب امرأة. وفيما سيأتي أمثلة أخرى يتضح لنا من خلالها أن "ذا" وما تفرع عنها سيختلف باختلاف جنس المشار إليه، وعدده، وأن "ك" سيختلف باختلاف جنس المخاطب، وعدده:
(64) ما رأيُكِ في ذلكِ الكتاب الذي أعرته لكِ الأسبوع الماضي؟
(المرجع مفرد مذكر، والمخاطب مفرد مؤنث)
(65) ما رأيكَ في تلكَ القصة التي أعرتها لكَ الأسبوع الماضي؟
(المرجع مفرد مؤنث، والمخاطب مفرد مذكر)
(66) ما رأيكما في ذلكما الكتاب الذي أعرته لكما الأسبوع الماضي؟
(المرجع مفرد مذكر، والمخاطب مثنى)
(67) ما رأيُكَ في ذينكَ الكتابين اللذين أعرتهما لكَ الأسبوع الماضي؟
(المرجع مثنى مذكر، والمخاطب مفرد مذكر)
(68) ما رأيكم في تينكم السيارتين اللتين اشتريتهما الأسبوع الماضي؟
(المرجع مثنى مؤنث، والمخاطب جمع مذكر)
(69) كيف استطعتن الفوز على أولئكن الرجال المنافسين لكنّ؟
(المرجع جمع مذكر، والمخاطب جمع مؤنث)
ومن المهم أيضا أن ننبه على أن أسماء الإشارة (مثلها في ذلك مثل الضمائر) قد تشير إلى خارج النص، كما في قوله تعالى: "قال بل فعله كبيرهم هذا"،[74] التي يعود فيها اسم الإشارة إلى "كبير الأصنام"، وهو خارج النص، وقد تشير إلى داخله: إما إلى متقدم كما في (70)، و(71) حيث تشير إلى القولة السابقة له، أو إلى متأخر، كما في الآية (72) التي تشير إلى كلمة "الكتاب" التي وردت متأخرة عن اسم الإشارة.
(70) أ) "النساء أطول عمرا من الرجال".
ب) من قال هذا؟
(71) أصبحت الدراسة الجامعية في بريطانيا مكلفة جدا، ولذا/ ولهذا/ ولذلك فإن كثيرا من الطلبة والطالبات يفضلون البحث عن عمل بدلا من مواصلة دراستهم.
(72) قال تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين".[75]
ومن بين أسماء الإشارة تمتاز "ذا"، و"هذا"، و"ذلك" بالإشارة إلى قطعة من النص، كما في (70)، أو لفحوى النص الذي سبق، كما في (71)، ومن الملاحظ أن للمتكلم الخيار عادة في استخدام أي من أسماء الإشارة المذكورة، ولكن قد يوجد من الأغراض البلاغية، والمقاصد التخاطبية ما يرجح اختيار أحدها على الآخر، فيختار اسم الإشارة الدال على البعد مثلا إذا كان المتكلم يشير إلى:
أ- شيء يعتقد أنه غائب أو بعيد منه زمانا أو مكانا، كما في (73) التي يشير فيها المتكلم بـ"ذاك"؛ لأن الزمن المشار إليه بعيد.
(73) بدأ طه حسين دراسته الأزهرية، وهو في الثالثة عشرة من عمره، كان آنذاك صبيا فقيرا يرتدي ثيابا رثة، ويأكل لونا واحدا من الطعام.
ب- شيء مهم، أو ذي قيمة، أو مقدس، أو محترم، وباختصار، فإن المتكلم هنا ينزل علو مكانة المشار إليه منزلة بعدها الحسي، ومن ذلك (74) التي أشير فيها بـ"ذلك" للقرآن الكريم المعبر عنه بالكتاب، لعلو منزلته.
(74) قال تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين".[76]
وقد يختار المتكلم استخدام اسم الإشارة الدال على القرب للتعبير عن التحقير، كما في (75)، أو للإشارة إلى قرب الرأي للعقل، أو وضوحه فيه، لتأكيد صحته، كما في قول الشاعر الوارد في (76).
(75) أهذا هو الملاكم الذي تزعم أنه لم يهزم قط؟.
(76) كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
3، 2، 1- الإحالة بالإشارة الظرفية
في العربية اسما إشارة تفيدان الظرفية، هما: ثمّ، وهنا، وقد تلحق تاء التأنيث بـ"ثَمّ" فتصبح "ثمة"، وقد تلحق الكاف بـ"هنا" فتصبح "هناك"، فإذا أضفنا إليها اللام صارت للبعد، فتصبح "هنالك"،[77] ومثلما أسلفنا عند الحديث عن الضمائر وأسماء الإشارة، تستخدم "هنا" و"هناك" و"ثم" للإشارة إلى ما هو في الخارج، ومن أمثلة "هنا"، و"هناك" ما ورد في (76)، ومن أمثلة "ثم" ما ورد في (78)، وتستخدم أيضا للإشارة إلى داخل النص، كما في (79) و(80).
(77) خذ هذا الكأس من هنا، وضعه هناك.
(78) ليس ثم رجل، بل امرأة.
(79) يعتقد بعض الناس أن الحياة على سطح القمر قد تكون ممكنة في المستقبل، بيد أن الأخبار التي وردت عن دفن الموتى هنالك/ هناك بتكاليف أقل من دفنهم في أنحاء كثيرة من دول العالم قد تكون مؤشرا على أن بيئة القمر أكثر ملاءمة للأموات منها للأحياء.
(80) لما كانت الرحلة من لندن إلى بكين مباشرة تستغرق وقتا طويلا، فقد آثرت أن أستريح في تركيا، ومن ثم واصلت رحلتي عند الصباح.
3، 3- الإحالة بأداة التعريف "ال"
خلافا لأداة التعريف الإنجليزية "the" التي يعتقد بأنها مأخوذة من اسم الإشارة "that"،[78] يبدو أن صلة "ال" بأسماء الموصول أكثر من صلتها بأسماء الإشارة من جهتي اللفظ، والمعنى. أما من حيث اللفظ فالظاهر أن "ال" تطورت من الكلمات الآتية: "الذي"، "التي"، "اللذان"، "اللتان"، "الذين"، "الألى"، "اللات"، "اللاء"، "اللائي"، فهي تؤلف الجزء الأول من كل منها، وقد أجمع النحاة القدامى على أن هذه الأداة هي "ال" التي للتعريف.[79] وأما من حيث المعنى، فإن "ال" مازلت تؤدي وظيفة اسم الموصول في بعض المواضع كما في:
(81) قبضت الشرطة على القاتل بعد أن قفز من إحدى نوافذ شقة المقتول.
فـ"ال" في كل من "القاتل" و"المقتول" تؤدي وظيفة اسم الموصول، ولذا يمكن تأويل كلمة "القاتل" بـ "من قتل" بالبناء للمعلوم، و"المقتول" بـ"من قُتل" بالبناء للمجهول.
ومن جهة أخرى يبدو أن العلاقة وثيقة بين "ال" والضمير حتى إنها تنوب عنه أحيانا في الربط، كما في قوله تعالى:
(82) "فإن الجنة هي المأوى".[80]
أي مأواه، وهذا يؤكد صحة الجمع بينهما في موضوع الإحالة، ويعزز القول بوظيفتهما في ربط الكلام بعضه ببعض، وإضافة سمة التماسك على النص.
والظاهر أن اللغة العربية تشتمل على ثلاثة أنواع من "ال":
أ- "ال" الموصولة، وقد مثلنا لها.
ب-""ال" الجنسية التي تشير إلى كل الجنس المتحدث عنه،[81] ويشمل هذا النوع ثلاثة فروع:
1- "ال" التي تفسر بـ"كل فرد من أفراد" الجنس، وهي المسماة بـ"ال" الاستغراقية، كما في (83) التي تفيد أن كل أسد من فصيلة القطط، و(84) التي تفيد أن كل السمك يعيش في الماء.
(83) الأسد من فصيلة القطط.
(84) السمك يعيش في الماء.
2- "ال" التي تفسر بـ"الجنس في عمومه، بغض النظر عن الأفراد المنضوين تحته"، كما في (85)، و(86).
(85) الرجل أطول من المرأة.
(86) الأوروبي أطول عمرا من الأفريقي.
فالكلمات التي تحتها خط في المثالين السابقين لا تشير إلى كل فرد من أفراد الجنس، بل المقصود أن الرجال في عمومهم (لا كل رجل) أطول من النساء في جملتهم، إذ قد نجد من النساء من هن أطول من الرجال، وبعبارة أخرى فإن معدل طول الرجال أكبر من معدل طول النساء، وهكذا في المثال الثاني.
3- "ال" التي تشير إلى "الشخص بوصفه ممثلا للجنس كله"، كما يذكر هاليدي ورقية حسن عند حديثهما عن أداة التعريف الإنجليزية،[82] كما في (87)، و(88).
(87) إذا خرجت إلى الغابة، فسيأكلك الذئب.
(88) مهما اشتد بي المرض، ومهما ساءت حالتي الصحية، فإني لا أحب الذهاب إلى المستشفى، ولا رؤية الطبيب.
فـ"ال" هنا لا تشير إلى كل ذئب، ولا إلى كل مستشفى، ولا إلى كل طبيب، ولا إلى الذئاب والمستشفيات والأطباء في عمومهم، بل إلى أفراد ممثلين للجنس الذي ينتمي إليه كل من ذكر، وقد كان هذا النوع من "ال" مثار جدل كبير في البلاغة العربية إلى الحد الذي صعب معه توحيد مصطلح متفق عليه يشير إليها.[83]
ب-"ال" العهدية، التي تشير إلى مرجع معين معهود للمتكلم والمخاطب،[84] وتتوقف قدرة المخاطب على تحديد المرجع المقصود على واحد من الآتي:
1- العهد الذهني: ولنمثل لذلك فلنتصور أن اثنين ينتظران الحافلة، فيقول أحدهما للآخر ما ورد في (89)، فيفهم المخاطب أن المتكلم يقصد بالحافلة الحافلة القادمة.
(89) يبدو أن الحافلة ستتأخر.
ومن ذلك أيضا قولنا: ذهبت إلى الجامعة، الذي يفهم منه الجامعة التي أدرس أو أعمل فيها.
وهذا الفهم محكوم بما يسميه الأصوليون مبدأ "التبادر" الذي ينزع السامع بمقتضاه إلى حمل كلام المتكلم في ضوء المعرفة المتبادلة بينه وبين مخاطبه، وتفاعلاتهم السابقة، والمقام الحالي الذي وقع فيه التخاطب.[85] وبناء عليه فإن المتبادر من الحافلة في (89) هو الحافلة المعهودة بين المتكلم ومخاطبه بحكم الاشتراك في انتظارها.
وقد صاغ براون Brown ويول Yule مبدأ مشابها أسمياه بـ "مبدأ الحمل المحلي" principle of local interpretation الذي يحكم المتكلم بألا "يصوغ سياقا أكبر مما يحتاج إليه للوصول إلى حمل ما. وبناء عليه، إذا سمع المخاطب شخصا ما يقول له: "أغلق الباب"، فسينظر إلى أقرب باب له؛ ليغلقه".[86] وبمقتضى هذا المبدأ، فإننا نحمل أسماء العملات، ونحوها، على العملة المستخدمة في البلد الذي نحن فيه، فالدرهم والدينار والريال مثلا تستخدم في عدد من الدول العربية، ولكن تحديد المقصود بكل من هذه العملات محكوم بالمكان الذي تستخدم فيه.
وبطبيعة الحال، فإن هناك مقامات يضطر فيها المخاطب إلى توسيع السياق بحيث يشمل أشياء ليس لها صلة مباشرة بالمتخاطبين. ولذا، فإن كلمة الشمس في (90) و(91) و(92) تحيل جميعها على ذلك النجم الذي يضيء الأرض، ويدفئها، وأينما قيلت هذه الكلمة فستحمل عليه، وما يحكم هذا الحمل هو الاعتقاد بوجود شمس واحدة فقط.
(90) عيناي تعانيان من حساسية شديدة حتى إنني لا أستطيع النظر إلى أشعة الشمس الخافتة في فصل الشتاء.
(91) يقوم العلماء بدراسات عديدة لتطوير طرق استغلال الشمس في توليد الطاقة.
(92) يقول المثل: الغرفة التي لا تدخلها الشمس لا يدخلها الطبيب.
2- العهد الذكري، ويقصد به سبق ذكر المرجع المحال عليه، ومن ذلك ما ورد في (93)، حيث تشير كلمة المتهم المعرفة بـ"ال" إلى كلمة "متهم" التي وردت نكرة، فحدث الربط بين الكلمتين، وكذلك الجملتان، بسبب أحادية المرجع الذي تشيران إليه.
(93) أطلق صباح اليوم سراح متهم من ذوي السوابق بعد أن ثبتت براءته من تهمة السطو على أحد البنوك، وقد رحّب المتهم بقرار المحكمة مؤكدا براءته من التهم المنسوبة إليه.
ومن الواضح أن "ال" التي للعهد الذكري هي أنسب أنواع "ال" وسيلةً لتماسك النص؛ لأن إحالتها إحالة داخلية، وهو ما يجعلها قادرة على ربط جملتين بعضهما ببعض.
وعلى الرغم من أن كلا من "ال" وأسماء الإشارة تبين لنا أن المرجع الذي تحيل عليه موجود في مكان ما في السياق بمفهومه العام الذي يشمل السياق الداخلي والخارجي، فإن الفارق بين "ال" من جهة، وأسماء الإشارة من جهة أخرى، هو أن أسماء الإشارة -خلافا لـ"ال"- تبين لنا بالتحديد المكان الذي نجد فيه المرجع، حيث تصرح بكون المرجع قريبا أو متوسطا أو بعيدا من المتكلم، ومما يسهل علينا المهمة أيضا أنها تبين لنا جنسه، وعدده. أما "ال" فلا تعطي أي معلومات محددة عن المرجع، بل كل ما تستلزمه أنه يمكن معرفة المرجع من خلال الرجوع إلى معارفنا عن العالم الخارجي (في حالة "ال" الجنسية)، أومن خلال النظر في السياق الداخلي (بالنسبة إلى "ال" التي للعهد الذكري) أو في السياق الخارجي (بالنسبة إلى "ال" التي للعهد الذهني).[87]
3، 4- الإحالة بالمقارنة
كل عملية مقارنة تتضمن شيئين -في الأقل- يشتركان في سمة مشتركة بينهما. ويمكن التمييز بين نوعين من المقارنة: مقارنة عامة، ومقارنة خاصة.
أولا: المقارنة العامة:
يمكن تصنيف الألفاظ التي تعبر عن المقارنة العامة في العربية في خمس مجموعات:
1- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التشابه:
ومنها "شبيه"، و"مشابه".
2- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التطابق:
ومنها "نفسه"، و"عينه".
"مطابق"، "مكافئ"، "مساو"، "مماثل"
"قبيل"، "مثيل"، "نظير"، "مرادف"
3- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التخالف:
ومنها "مخالف"، "مختلف"، "مغاير".
4- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن الآخرية:
ومنها "الآخر"، "أيضا"، "البديل"، "الباقي".
وتتميز ألفاظ المقارنة بأنها تعبير
1- مقدمة
ازدهرت الدراسات النصية في الغرب في الربع الثالث من القرن العشرين، بعد أن أخذت الدراسات التخاطبية ممثلة في علم التخاطب pragmatics وتحليل الخطاب discourse analysis تتحدد معالمها متخذة من النص الوحدة الصغرى للتحليل، وكان أبرز ما يميز تلك الدراسات عن علم الدلالة، أنها تدرس الخطاب الشفهي، والنص المكتوب في ضوء سياقاتهما الداخلية والخارجية، لتترك دراسة الجملة في شكلها الوضعي وبمعزل عن السياق الذي ترد فيه موضوعا لعلم الدلالة. وإذا ما تأملنا تراث العربية فسنجد أن النحاة هم الذين حملوا على عاتقهم مهمة دراسة الجملة من الناحية الوضعية، فصاغوا قواعدها، واستقصوا أنماطها، ولكنهم لم يتجاوزوا حدود الجمل في دراساتهم وتحليلاتهم، بل تركوا هذه المهمة للبلاغيين والأصوليين، الذين أسهموا إسهاما واضحا في تحليل النص، فربطوه بالسياق الذي يرد فيه، وكان أكثر ما يشد انتباه المهتمين بالدراسات النصية في دراسة علماء التراث للنصوص، ولاسيما المفسرون والأصوليون منهم، تعاملهم مع القرآن الكريم على أنه وحدة واحدة يترابط بعضها ببعض، وتتعلق أجزاؤه على نحو تكاملي، بحيث لا يستقل منه جزء عن الآخر، وينقل السيوطي عن فخر الدين الرازي قوله: "إن أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"،[1] كما ينقل عن ابن العربي: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض -حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني- علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة"،[2] وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره".[3]
ونظرا لأهمية هذه السمة (أي حسن الارتباط)، وهي التي نسميها التماسك، فقد رأيت أن أسهم في تقنينها من خلال البحث في الوسائل التي يعتمد عليها المتكلم في ربط أجزاء النص بعضه ببعض.
ولعل من أبرز الباحثين الغربيين في موضوع التماسك cohesion[4] اللسانيين المشهورين مايكل هاليدي Michael Halliday ورقية حسن Ruqaiya Hasan اللذين كان لهما الفضل في صوغ ما سمياه بوسائل التماسك cohesive devices. وقد نظرا إلى التماسك على أنه سمة دلالية، وعرفاه بأنه "علاقات المعنى الموجودة في النص، تلك التي تعرّفه بأنه نص"[5]، أي أن النصية تستمد من علاقة التماسك،[6] ويحدث التماسك -طبقا لهما- عندما يتوقف تفسير عنصر ما في الخطاب على آخر؛[7] أي أن تماسك النص هو أن تتعلق أجزاؤه بعضها ببعض لتكون كتلة واحدة لا يستقل بعضها عن الآخر.
ويتحقق التماسك في اللغة بخمس وسائل، هي:
الإحالة reference، والإبدال substitution، والحذف ellipsis، والربط conjunction، والتماسك المعجمي lexical cohesion.[8] وقد اختصر هاليدي هذه الوسائل الخمس في كتاب لاحق[9] في أربع عندما أدرج الإبدال تحت الحذف.
فمن الإحالة قوله تعالى:
(1) "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون"،[10] حيث أحال اسم الإشارة "ذلك" على ما تقدم من خلق الأزواج وما جعل بينهم من مودة ورحمة.
ومن الإبدال قوله تعالى:
(2) "اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"،[11] حيث ربط بين الصراطين بطريق الإبدال.
ومن الحذف:
(3) أ: هل تحب اللون الأحمر
ب: أفضل الأزرق.
أي أفضل اللون الأزرق، ولو قيل: أفضل اللون الأزرق، لاستقلت الجملة عما سبقها، وصح الابتداء بها، وفقدت وسيلة من وسائل الربط بين الجملتين.
ومن أمثلة الروابط:
(4) "وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس"؛[12] إذ ربطت الواو بين الجملتين للاشتراك في الحكم ووُصِل معنياهما بعضهما ببعض.
ومن التماسك المعجمي:
(5) "لقد تفانت الزوجة في الإخلاص في حب زوجها تفانيا كاملا. لم تعرف المسكينة شيئا يحبه الزوج إلا فعلته"، فقد ربط بين الجملتين باستخدام مرادف معجمي وهو "المسكينة" ليتحقق التماسك بينهما.
وقد أدرك عبد القاهر الجرجاني سمة التماسك في النص، فصاغ نظرية متكاملة سماها "النظم" أكّد فيها أهمية تعلق أجزاء الكلام بعضه ببعض مشبها واضع الكلام بمن "يأخذ قطعا من الذهب أو الفضة، فيذيب بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة"،[13] وقد علق على بيت بشار بن برد:
(6) كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
بقوله: "إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصانع حين يأخذ كسرا من الذهب، فيذيبها ثم يصبها في قالب ويخرجها لك سوارا أو خلخالا. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار، ذلك أنه لم يرد أن يشبه النقع بالليل على حدة، والأسياف بالكواكب على حدة، ولكنه أراد أن يشبه النقع والأسياف تجول فيه بالليل حال ما تنكدر الكواكب وتتهاوى فيه، فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد، والبيت من أوله وآخره كلام واحد".[14]
وينطلق فهم عبد القاهر الجرجاني لفكرة التماسك من فكرة تعلق المعاني بعضها ببعض، حتى يصبح الكلام كتلة بنيوية واحدة، لا يمكن أن تتجزأ فيه المعاني، بل يؤخذ مجموعها على أنه معنى واحد مركب، وليس معاني مجزأة مفرقة؛ لأن الكل لا يدل على مجموع الأجزاء فقط، بل على المجموع وزيادة ناشئة عن التعلق الذي يحصل بين الأجزاء؛ وذلك لأنك "إذا قلت: ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له، فإنك تحصل من مجموع هذه الكلم كلها على مفهوم هو معنى واحد لا عدة معان، كما يتوهمه الناس، وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنما جئت بها لتفيد وجوه التعلق التي بين الفعل الذي هو ضرب وبين ما عمل فيه، والأحكام التي هي محصول التعلق {…}، وإذا كان ذلك كذلك بان منه وثبت أن المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدة معان، وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا وعلى صفة كذا ولغرض كذا، ولهذا المعنى تقول إنه كلام واحد".[15]
وقد أدلى النحاة بدلوهم في موضوع الربط بين أجزاء الجملة، وكان لهم إسهام مهم في ذكر المواضع التي ينبغي أن تشتمل على رابط يربطها بما سبق، وإن اتسمت دراساتهم بتقييدها بحدود الجملة، ومن ذلك ما يذكر في موضوع الخبر إذا وقع جملة، حيث اشترطوا لوقوعه جملة أن يرتبط بالمبتدأ (أو باسمي "إنّ" و"كان") برابط ما من روابط ذكروها، وسنقتصر هنا على ذكر أشهرها، وأكثرها شيوعا:[16]
أولها: الضمير، وهو الأصل في الربط كما في (7) و(.
(7) زيد أبوه قائم
( وإن الحرب أولها الكلام.
ثانيها: الإشارة، كقوله تعالى:
(9) "ولباس التقوى ذلك خير".[17]
ثالثها: إعادة المبتدأ بلفظه، نحو "الحاقة ما الحاقة".[18]
رابعها: عموم يشمل المبتدأ، أي أن يذكر بعد المبتدأ جنس أعم يندرج تحته، نحو
(10) زيد نعم الرجل. (فزيد مندرج في جنس الرجل)
خامسها: "ال" النائبة عن الضمير، ومن ذلك قوله تعالى:
(11) "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"،[19] (أي مأواه).
سادسها: كون الجملة نفس المبتدأ في المعنى، نحو
(12) ذكري في رمضان لا إله إلا الله.
وهناك جمل أخرى تحتاج إلى رابط يربطها بما قبلها، منها جملة النعت (ولايربطها إلا الضمير كما في (13))، وجملة الموصول (ولايربطها عادة إلا الضمير كما في (14))، وجملة الحال، (ورابطها إما الواو والضمير كما في (15)، أو الواو فقط كما في (16)).[20]
(13) "حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه".[21]
(14) "وفيها ما تشتهيه الأنفس".[22]
(15) "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".[23]
(16) "لئن أكله الذئب ونحن عصبة".[24]
وإذا كان عبد القاهر يصدر في ترسيخه فكرة تماسك النص وترابطه عن إدراكه أهمية المعنى في تعليق الكلام بعضه ببعض (وهو منسجم مع موقفه من قضية اللفظ والمعنى الذي ناصر فيه المعنى على اللفظ)، فإن النحاة قد انطلقوا من منطلق الصناعة النحوية القائمة على الإعراب، ونظرية العامل في بيان المواضع التي يشترط فيها الربط بين أجزاء الجملة. وقد نحوا في ذلك منحى معياريا يدعو إلى الالتزام بالقواعد والضوابط التي صاغوها، دون عناية واضحة بأهمية التعلق بين أجزاء الكلام من الناحية الأسلوبية، والنصية.
وربما اختلف المنهج في هذا البحث عن منهجي عبد القاهر والنحاة؛ إذ لم يقصر التماسك على الربط بين معاني النحو، كما فعل عبد القاهر، ولم يأخذ على عاتقه مهمة التقعيد النحوي، كما فعل النحاة، بل رمي من العناية بالموضوع إلى تحقيق أهداف عملية تتعلق بتنمية مهارات الكتابة والتعبير، فضلا عما لها من أبعاد نقدية نظرية لسانية، وما لها من صلة بالجانب الدلالي والتخاطبي للنص، إدراكا من الباحث بأن أشد ما يزعج المتلقي قراءة نص مهلهل مبعثر العناصر لا يجمعها جامع، ولا يربطها رابط.
وسأتناول في هذا البحث الإحالة بوصفها أهم الوسائل التي تربط النص بعضه ببعض بحيث لا يستقل جزء منه عن الآخر.
2- مفهوم الإحالة
أعني بمصطلح الإحالة ما يعرف باللغة الإنجليزية reference، وربما ترجم هذا المصطلح بالإشارة، ولا ضير في ذلك من الناحية اللغوية المحضة، بيد أنه قد يسبب مشكلة اصطلاحية ومنهجية؛ لالتباسه بما يعرف في العربية بأسماء الإشارة، التي هي نوع واحد من أنواع الإحالة، ومن هنا يمكن القول إن العلاقة بين الإحالة والإشارة علاقة عام بخاص؛ إذ كل إشارة إحالة وليس كل إحالة إشارة. وتتحقق الإحالة في العربية بالضمائر بأنواعها، وأسماء الإشارة، والتعريف بأل، والمقارنة، وسنتعرض لكل نوع منها بالدراسة والتمثيل والتحليل.
ويمكن القول إن الإحالة هي علاقة بين عنصر لغوي وآخر لغوي أو خارجي بحيث يتوقف تفسير الأول على الثاني؛ ولذا فإن فهم العناصر الإحالية التي يتضمنها نص ما يقتضي أن يبحث المخاطب في مكان آخر داخل النص أو خارجه. وعلى سبيل المثال، فإن قوله تعالى: "قال بل فعله كبيرهم هذا"[25] لا يمكن أن يفهم إلا بتحديد مراجع الكلمات الإحالية فيها، وهي: الضمائر في "قال" و"فعله"، و"هم"، واسم الإشارة". وليس ثمة علامة صرفية أو نحوية أو معجمية في العنصر المحيل نفسه يمكن أن يساعد المخاطب في تحديد المرجع المقصود، ولا في معرفة كون المرجع جزءا من النص، أو جزءا من مقام التخاطب. ومع ذلك، يمكن للمخاطب - اتكالا على السياق أو المقام بمفهومه الواسع- أن يحدد الأشياء أو الأشخاص، أو العناصر اللغوية التي تحيل عليها العناصر المحيلة.
ومن أمثلة الإحالة بأداة التعريف "ال" في قوله تعالى: :
(17) "وأرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول"،[26] (فقد أحالت كلمة "الرسول" على كلمة "رسولا").
ومن أمثلة الإحالة بالمقارنة قوله تعالى:
(18) "قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر"،[27]
فقد ربطت كلمة أكبر (التي هي لفظ من ألفاظ المقارنة) الجملة الثانية بالأولى؛ لأنه لا يكون الشيء أكبر إلا بالموازنة بشيء آخر، ولا يعرف ذلك الشيء الآخر إلا بالرجوع إلى ما سبق في الآية، ومن هنا تتحقق فكرة اعتماد أجزاء النص بعضها على بعض، وعدم استغناء أحدها عن الآخر.
ويفرق الباحثون بين الإحالة الخارجية exopheric reference، والإحالة الداخلية endopheric reference. ويُقصد بالإحالة الخارجية ذلك النوع الذي يوجّه المخاطب إلى شيء أو شخص في العالم الخارجي. أما الإحالة الداخلية فتستخدم لتدل على ذلك النوع الذي يحال فيه المخاطب على عنصر لغوي داخل النص.[28] ويمكن التمثيل للنوع الأول باسم الإشارة "هذا" الذي ورد في الآية السابقة، وأشير به إلى كبير الأصنام، التي جعلوها آلهة، وهذا النوع من الإحالة لا يمنح النص سمة التماسك؛ لأنه لا يربط عنصرين معا في السياق.[29] وأما النوع الثاني فيمكن التمثيل له من الآية نفسها بالضمير "هم" في قوله تعالى: "كبيرهم" الذي يحيل على الآلهة، التي وردت قبل ذلك في قوله: "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم".
ومن اللطائف أن تتعدد الإحالات، كما في الإحالة بالضمير "ـه" في "فعله" على "هذا" في قوله تعالى: "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم"، وأحيل بـ "هذا" على كسر الأصنام.، فاجتمعت إحالتان الأولى منهما داخلية، والأخرى خارجية.
وقد تكون الإحالة الداخلية على متقدم anaphoric reference، وهو الأصل في العربية، كما في قوله تعالى:
(19) "ولقد آتينا إبراهيم رشده"[30]
حيث أشير بالهاء إلى "إبراهيم" عليه السلام المتقدم الذكر، وقد تكون على متأخر cataphoric reference، وهو قليل لا يتعدى مواضع معينة سنشير إليها في مبحث قادم، ومنه ما يعرف بضمير الشأن أو القصة، كما في قوله تعالى:
(20) "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"[31].
التي يحيل فيها الضمير "ها" على المحتوى الدلالي المفهوم من الكلام بعدها، وهو أن العمى الحقيقي إنما هو عمى القلوب، وليس عمى الأبصار.
ولعل من المفارقات الجديرة بالملاحظة أنه كلما زادت الإحالات في الجملة (كما في آية كسر الأصنام السابقة)، زاد اعتمادها على غيرها في فهمها، واضمحل استقلالها بنفسها، فتزايدت قوتها الربطية، والتعلقية، وقدراتها التماسكية، وكل ذلك يدعم سمة النصية في الكلام المؤلف.
3- أنواع الإحالة
يمكن التمييز بين أربعة أنواع من الإحالة: الإحالة الشخصية، ممثلة في الضمائر، والإحالة الإشارية، ممثلة في أسماء الإشارة، والإحالة بأداة التعريف "ال"، والإحالة بالمقارنة، التي تكون باستخدام ألفاظ معينة تفهم منها الموازنة بينها وبين ما سبق، وسنشرح كل نوع من هذه الأنواع فيما سيأتي:
3، 1- الإحالة بالضمائر
قد يحال بالضمائر صراحة على الأشخاص، كما في (21)، والأشياء، كما في (22)، والأحداث، كما في (23)، وقد يحال بها على فحوى كلام ورد سابقا، كما في (24)، أو لاحقا، كما في (25)، وقد يحال بالضمائر على مرجع مستنبط استنباطا من السياق النصي، كما في (26)، أو السياق الذهني، كما في (27):
(21) "وإذ ابتلى إبراهيم ربه"[32].
(22) فتحت باب السيارة، ثم أغلقته.
(23) التقدم ليس أمرا سهلا، فهو يحتاج إلى إرادة، وتخطيط، ومال، وصبر.
(24) "اعدلوا هو أقرب للتقوى"،[33] أي العدل، وهو مفهوم من فحوى ما سبق.
(25) "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"،[34] التي يحيل فيها الضمير "ها" على المحتوى الدلالي المفهوم من الكلام بعدها.
(26) "هي راودتني عن نفسي"،[35] حيث يفهم المرجع -وهو امرأة العزيز- من السياق.
(27) "إنا أنزلناه في ليلة القدر"،[36] فعاد الضمير على القرآن دون أن يذكر.
ويبدو أن الإحالة بالضمائر هي أكثر الإحالات شيوعا، وربما يدعم ذلك الدراسة التي أجراها بعض الباحثين عن سورة الأنعام، فوجد أن عدد الضمائر فيها بلغ 1320 موضعا، على حين كان عدد أسماء الإشارة 51، وأسماء الموصول 85،[37] وهو ما يؤكد الوظيفة التي تؤديها الضمائر في وصل الكلام بعضه ببعض، والربط بين أجزائه.
ولئن كان الوصل والربط قد يمكن تحقيقهما بإعادة ذكر العنصر المشار إليه في كثير من الأحيان، ولاسيما بما يسميه النحاة "الإظهار في محل الإضمار"، كما في قوله تعالى:
(28) "وبالحق أنزلناه وبالحق نزل"[38]
حيث أعاد ذكر الحق بدلا من أن يقول: وبه نزل، فإن ثمة حالات يحول فيها طول الكلام المذكور دون تكرار ذكره، وتصبح الإشارة إليه بالضمير أو باسم الإشارة أمرا حتميا، ومن ذلك قوله تعالى:
(29) "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما".[39]
إذ لا يمكن أن يعيد ذكر الفئات المذكورة بدلا من الإشارة إليهم بالضمير في "لهم".
وقد يحول دون إعادة الذكر عوامل نحوية، كما في قوله تعالى:
(30) : "يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن".[40]
إذ لا يجوز أن يقال: أجور أزواجك بدلا من "أجورهن"؛ لأن صلة الموصول تحتاج إلى رابط، وهو هنا الضمير، فلا يجوز الاستغناء عنه.
ومهما يكن من أمر فإن شرط الإضمار الترادفُ التام في المعنى، أي أن يكون المقصود واحدا إشارة ومعنى (أو مسمىً nominatum ومعنىً meaning إذا ما رمنا مصطلحي قوتلب فريجة Gottlop Frege، أومفهوما intension وماصدقا extension وفقا لتفريق كارناب Carnap[41])، فإذا كان المشار إليه واحدا، والمعنى مختلف، كان الإظهار أفضل، وإن كان المعنى واحدا والمشار إليه مختلف، وجب الإظهار، فمن الأول قوله تعالى:
(31) "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين" [42]
حيث اختير الإظهار بدلا من الإضمار؛ لأن في الإظهار معنى زائدا لا يتحقق بالإضمار، وهو هنا المدح، إذ لو قال: صدورهم بدلا من "صدور قوم مؤمنين" لما فهم من الآية مدحهم.
ومنه أيضا قوله تعالى:
(32) "ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفرا إن هذا إلا سحر مبين"[43]
حيث اختار استخدام "الذين كفروا" بدلا من الضمير" لذمهم بهذه الصفة، وهو معنى لا يتأتى بالإضمار، وهذا كله من قبيل العدول من الإشارة بالذات التي يمكن أن تكون بالضمير إلى الإشارة بالصفة لغرض بلاغي يوضحه السياق كالمدح أو الذم أو نحو ذلك.
ومن الثاني قوله تعالى:
(33) "واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا".[44]
ولا يجوز في هذه الآية الإضمار، لأن المشار إليه بالنفس الأولى، غير المشار إليه بالثانية، وإن كان المعنى واحدا.
وتقسم الضمائر في العربية من حيث إحالتها إلى ثلاثة أقسام: ضمير المتكلم مثل "أنا"، وضمير المخاطب مثل "أنت"، ويشترك هذان النوعان في كون إحالتهما إحالة خارجية دائما، ولعل مسوغ ذلك كونهما حاضرين في المقام التخاطبي. أما النوع الثالث فهو ضمير الغائب، وهذا النوع من الضمائر هو الذي يهمنا في هذا البحث؛ لأهميته في تحقيق التماسك في النص؛ لأنه يربط الكلام بعضه ببعض.
ومن المهم في استخدام الضمائر المطابقة بين الضمير ومرجعه، وهي التي تحقق التماسك في الكلام، وينبغي أن نفرق هنا بين عدم المطابقة وعدم الربط، فالأول يؤدي إلى خلل أسلوبي، والثاني يؤدي إلى خلل في المعنى. أما الأول فكأن نقول: البيض أكثره من الدجاج، حيث يؤدي تغيير الضمير من حيث الجهة أو العدد أو الجنس (كأن يقال: : البيض أكثرنا من الدجاج، البيض أكثرهما من الدجاج، أو البيض أكثرها من الدجاج) إلى خلل أسلوبي غير مقبول، أما عدم الربط الذي يكون بحذف الضمير أصلا دون قصد تقديره (كما في: البيض أكثر من الدجاج) فيترتب عليه تغيير في المعنى.
3، 1، 1- الضمائر المنفصلة والضمائر المتصلة
يقوم التفريق في العربية بين الضمائر المنفصلة والضمائر المتصلة على أساس الموقع الذي يأخذه الضمير في التركيب، فضمير الفصل يقع بعد لفظ آخر، ويتصل به سواء أكان اللفظ الآخر فعلا نحو "سألتمونيها"، أو اسما نحو "كتابنا"، أو حرفا نحو "لكما"، ويعامل من الناحية الإملائية (أو الكتابية) معاملة جزء الكلمة، وليس كلمة مستقلة، وإن عومل من الناحية النحوية (ولاسيما الإعرابية) معاملة الكلمة المستقلة. أما الضمير المنفصل فيتسم بالاستقلال من الناحيتين الإملائية والنحوية. ونتيجة لتأسيس الاتصال والانفصال في الضمير على معايير موقعية، فقد انعكس ذلك على التقديم والتأخير في التركيب، وهو أمر متوقف على عوامل أسلوبية تتصل بأغراض بلاغية. ومن أمثلة ذلك تحوّل الضمير في قوله تعالى:
(34) "إياك نعبد وإياك نستعين"[45]
من ضمير متصل (كـ) إلى ضمير منفصل (إياك) بعد تقديمه لغرض القصر، الذي يفيد بأن الله وحده هو الذي يستحق أن يعبد، ويستعان به.
3، 1، 2- التطابق
يعد التطابق الوسيلة الكفيلة بربط الضمير بمرجعه، وهو ما يمنح التركيب سمة التماسك، وإذا كان الأصل في نظام الضمائر في العربية أن يستخدم كل ضمير لمرجع معين وفقا لمقولات الجهة، والجنس، والعدد، بحيث يشير ضمير المتكلم -مثلا- إلى المتكلم، والمذكر إلى المذكر، والمفرد إلى المفرد، فإن هذا النظام يسمح بنوعين من الاستثناءات، أحدهما وضعي تسمح به قواعد النحو، والثاني بلاغي يخضع لاعتبارات أسلوبية، وسنتحدث عن هذين النوعين فيما يأتـي:
1) الاستثناء الوضعي:
(35) بمقتضى هذا الاستثناء يستخدم ضميرا المتكلمين "نحن" و"نا" للمتكلم المفرد ، وضمير المخاطبين "أنتم" ونحوه للمخاطب المفرد لأجل تعظيمهما، ومن أمثلة ذلك (36) الذي أشير فيه بـ"نا" إلى الله -عز وجل- و(37) الذي أشير فيه ب"نحن" و"أنتم" و"كم" و"ون" و"تم" إلى الملك.
(36) "ولقد آتينا إبراهيم رشده"[46]
(37) - المذيع: أنتم من أول المبادرين إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وجهودكم في هذا الإطار كان لها أثر فعّال في تحريك عجلة السلام، فهل تعتقدون أن الزيارة التي قمتم بها إلى مصر قد ساعدت على دفع مسيرة السلام؟
- الملك: نحن نسعى إلى تحقيق السلام بكل الوسائل، وقد كانت هذه الزيارة فرصة طيبة لتبادل وجهات النظر في هذا المجال.
ومن ذلك أيضا معاملة غير العاقل معاملة العاقل إذا أسند إليه صفة من صفات العقلاء، كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام:
(38) "إذ قال يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين"[47]
وتجدر الإشارة في هذا المقام أن اللغة العربية تنزع نحو تغليب المذكر على المؤنث عند اجتماعهما كما في (39)، و(40)، أو عند الحديث عن أشخاص غير محددين كما في (41)، و(42).
(39) حضر المحاضرة عدد كبير من الرجال والنساء، معظمهم من كبار السن.
(40) ينبغي أن يكون الناس سواسية أمام القانون، لا فرق بين أبيضهم وأسودهم، ولا بين غنيهم وفقيرهم.
(41) في معظم بلاد العالم كل من يتعاطى المخدرات يعاقبه القانون.
(42) ليس هناك أسوأ من أن تكون في حيرة من أمرك، تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
2) الاستثناء البلاغي:
يتمثل عدم مراعاة المطابقة بين الضمائر لأغراض بلاغية أو ما سميناه بالاستثناء البلاغي في الظاهرة المشهورة المعروفة بالالتفات، وهي ظاهرة تختل فيها المطابقة في الجهة، أوفي العدد فقط ، دون الجنس.
أولا: المخالفة في الجهة
يشتمل هذا النوع من الالتفات على الحالات الآتية:[48]
أ- الالتفات من المتكلم إلى الغائب، ومنه قوله تعالى:
(43) "إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر"[49]
حيث أشار -عز وجل- إلى نفسه بـ"نا" ثم استخدم اسما ظاهرا معادلا لضمير الغائب هو "رب" بدلا من ضمير المتكلم "نا".
ب- الالتفات من الغائب إلى المتكلم، كما في قوله تعالى:
(44) "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت"[50]
الذي التفت فيه من الاسم الظاهر، وهو لفظ الجلالة الذي يعادل ضمير الغائب "هو" إلى ضمير المتكلم "نا" في "فسقناه".
ت- الالتفات من المخاطب إلى الغائب، كما في قوله تعالى:
(45) "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم"[51]
فقال: "بهم" بدلا من بكم.
ث- الالتفات من الغائب إلى المخاطب، كما في قوله تعالى:
(46) "مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين"[52]
فقال: "إياك" بدلا من إياه.
ج- الالتفات من المتكلم إلى المخاطب، كما في قوله تعالى:
(47) "ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون".[53]
فقال: "ترجعون" بدلا من أرجع.
ح- الالتفات من المخاطب إلى المتكلم، كما في قول علقمة بن عبدة بن النعمان:
(48) طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حان مشيب
يكلفني ليلى وقد شط وليها وعادت عواد بيننا وخطوب[54]
فقد أشار الشاعر إلى نفسه بضمير المخاطب "ك" في "بك"، ثم استخدم ضمير المتكلم "ي" في "يكلفني".
ثانيا: المخالفة في العدد
يقصد بالمخالفة في العدد أن يلتفت من ضمير إلى آخر مخالف له من حيث الإفراد أوالتثنية أو الجمع، ومن ذلك قوله تعالى:
(49) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ.[55]
فقال "بنورهم بدلا من بنوره".
3، 1، 3- مرجعية الضمير، وإزالة اللبس
إعادة الضمير إلى مرجعه من أهم المهام التي يقوم بها مفسر النص؛ لأنها تزيل عنه اللبس، وتوضح دلالاته، ولا شك أن اللبس يحول دون تماسك النص،[56] كما أن إزالة اللبس عن النص يقوي تماسكه، ويبين الرابط بين أجزائه. ولما كان ضميرا المتكلم والمخاطب يرجعان إلى المشاركين في عملية التخاطب، فإن مهمة تحديد من يشيران إليه عملية سهلة عادة؛ لعدم إمكان اللبس فيها، ولكن الصعوبة قد تكتنف عملية عزو ضمير الغائب إلى صاحبه؛ لأنه "عار عن المشاهدة، فاحتيج إلى عود الضمير ما يفسره"[57]، وسنناقش في هذا المبحث كيفية إزالة اللبس في مرجعية ضمير الغائب.
اشتهر بين النحاة ضابط مشهور قصد به تقنين عملية إعادة الضمير إلى مرجعه، وهو أن "الضمير يرجع إلى أقرب مذكور"، كما في (50) التي يعود فيها الضمير "ـه" في "فلامه" وفي "أبوه" على سليم.
(50) أعطى سعيد ابنه خالدا كراسة وابنه سليما قلما، لم تمض ساعتان حتى مزق خالد كراسته، وكسر سليم قلمه، فلامه أبوه على ذلك.
غير أن الضابط المذكور يحتاج إلى تقييد، وذلك بأن يقال: أقرب مذكور صالح لغة وعقلا لعود الضمير إليه؛ وأضفنا "صالح لغة" للاحتراز عن نحو (51) التي لا يصلح أن يعزى فيها الضمير "ها" في قلمها إلى المتكلم المشار إليه بـ "تُ" في "عنفتُ"؛ لعدم التطابق من حيث الجهة (لأن "تُ" ضمير المتكلم، و"ها" للغائب)، ولا أن يعزى فيها الضمير"ها" إلى خالد؛ لعدم التطابق من حيث الجنس. وأما إضافة "صالح عقلا" فلاستبعاد نحو (52) التي يمكن فيها تحديد المرجع المقصود بمقتضى معارفنا عن محتويات العالم الخارجي، وقوانينه. وبناء على ذلك فإن معرفتنا أن القطط هي التي تلاحق الفئران وليس العكس هي التي تعيننا على إدراك أن "القطة" هي المرجع الوحيد الذي يمكن عقلا وعادة إعادة الضمير إليه، وإن كانت "الفأرة" أقرب إلى الضمير "ها" من "القطة".
(51) أعطيت ابنتي فاطمة قلما، وابني خالدا كراسة، لم تمض ساعتان حتى كسرت فاطمة قلمها، ومزق خالد كراسته، فعنفت عليهما، فلامتني جدتها على ذلك.
(52) استطاعت القطة أن تصمد طويلا في مطاردة الفأرة، لكنها أخفقت في اللحاق بها.
وقد ذكر النحاة استثنائين للضابط المذكور في عود الضمير، هما:
أ- إن لم يكن هناك دليل على خلاف ذلك،[58] وهذا ما تحدثنا عنه فيما مضى، وحاولنا حل الإشكال فيه بإضافة قيد على القاعدة.
ب-إذا كان المرجع جزءا من تركيب الإضافة، فإن المرجع ينبغي أن يكون المضاف مع أنه أبعد على الضمير من المضاف إليه.[59] ويمكن أن نمثل لذلك بنحو (53) التي يعود فيها الضمير "ـه" في "صحته" إلى المضاف "والد"، وليس إلى المضاف إليه، وهو "صديق"، مع أنه أقرب إلى الضمير.
(53) بينما كنت أتحدث مع أخي عبر الهاتف عرض ذكر والد صديق له، فسألني عن صحته، وعن موعد خروجه من المستشفى.
ويقترح هاليدي، ورقية حسن أن اللبس في مثل هذه الحالات يمكن أن يزال بالرجوع إلى المعنى، وإذا كان للنحو من أثر فمن المرجح أن يكون في الموضوع theme؛[60] أي المتحدث عنه.[61] ولعلهما يقصدان بذلك أن النحو يمكن أن يصوغ قاعدة مضمونها "الضمير يعود إلى المتحدث عنه"، وقد أشار النحاة القدامى إلى أن إعادة الضمير على المتحدث عنه أولى من إعادته إلى الأقرب،[62] وللتمثيل لذلك نقول: إذا تأملنا (54) فسنجد أن الضمير "ـه" في "استقباله" لا يعود إلى "الأمير حسن" مع أنه أقرب مرجع يصلح لعود الضمير إليه، بل إلى "الملك عبد الله" لكونه موضوع الحديث.
(54) وصل إلى مطار لندن الملك عبد الله ملك الأردن في ساعة متأخرة من مساء اليوم برفقة والدته الملكة نور، وعمه الأمير حسن، وكان في استقباله على أرض المطار الأمير تشارلز، وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني.
وعلى أي حال، فإن هناك أمثلة يصعب أن نقرر فيها أن المرجع هو المتحدث عنه، أو هو أقرب المذكورات التي يصلح أن يعود الضمير إليها. ومن ذلك (55) التي لا يتضح إن كان مرجع الضمير "هم" في "إنهم" يعود على "الأطفال" أم إلى "ذويهم".
(55) لقد آن الأوان أن يؤخذ الأطفال المُتبنون من مربيهم، ويعادوا إلى آبائهم الحقيقيين، إنهم يتعذبون.
3، 1، 3، 1- عود الضمير على متأخر
الأصل في عود الضمير أن يرجع إلى متقدم في الذكر؛ لأن الضمائر بطبيعتها ملبسة، فلا تتقدم على مراجعها، بل ينبغي أن تتقدم تلك المراجع لفظا، أو معنى، أو حكما؛ "لأنك إذا قلت: قاموا، وما أشبهه، احتمل الزيدين، والعمرين، والمسلمين، والمشركين، فأرادوا ألاّ يعيدوها إلا على ما يتقدم ذكره دفعاً لهذا الإلباس"[63]
ويجوز أن يعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في الحالات الآتية:
1- أن يكون الضمير مرفوعا بفعل يراد به المدح والذم ولا يفسر إلا بالتمييز نحو نعم رجلا زيد، وبئس رجلا عمرو، وساء مثلا القوم.
2- أن يعمل ثاني المتنازعين، ويكون الضمير مرفوعا بأولهما، مثل: جفوني ولم أجف الأخلاءَ.
3- .أن يكون مبتدأً يفسره خبره الذي يأتي بعده، مثل: "إن هي إلا حياتنا الدنيا".[64]
4- أن يكون مما يسمى ضمير الشأن والقصة نحو قوله تعالى: "قل هو الله أحد"،[65] وقوله تعالى: "فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا".[66]
5- أن يقع في محل جرٍّ بـ "رُبّ"، ومفسرا بتمييز بعده، نحو
رُبّه فِتية دعوتُ إلى ما يورث المجد دائبا فأجابوا.
6- أن يقع بعده اسم ظاهر بدلا منه ومفسرا له، مثل أحضرته الماءَ.
7- أن يتصل بفاعل مقدم، ويكون المرجع مفعولا به مؤخرا، مثل سامح أخوه سعيدا.[67]
3، 1، 3- إزالة اللبس بضمير الفصل
من المهام الأساسية لضمير الفصل في العربية إزالة اللبس، ولاسيما في تحديد الخبر والتمييز بينه وبين النعت، ويسميه الكوفيون عمادا؛ لأنه يعتمد عليه في تعيين الخبر، ويسمونه دعامة؛ لأنه يؤكد به الكلام،[68] وإذا ما تأملنا الجملة (56)، فسنجد أن لها ثلاث قراءات يصعب ترجيح إحداها على الأخرى، فإذا أتينا بضمير الفصل تحدد الخبر في كل منها، وأصبح لكل منها تفسير واحد، ففي (57) أدخل الضمير قبل كلمة "المحنك"، وفي (58) قبل كلمة "الواقعي"، وفي (59) قبل كلمة "الذي"، فيصير كل منها خبرا في موضعه، ويزال اللبس في الجملة.
(56) السياسي المحنك الواقعي في اتخاذ قراره الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
(57) السياسي هو المحنك الواقعي في اتخاذ قراره الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
(58) السياسي المحنك هو الواقعي في اتخاذ قراره الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
(59) السياسي المحنك الواقعي في اتخاذ قراره هو الذي لا يبني سياسته على أحلام يستحيل تحقيقها.
ومن ذلك أيضا الجملة (60) التي تحتمل تفسيرين، ولا يمكن معرفة الخبر، وتميزه من النعت فيها إلا بإدخال ضمير الفصل قبل الخبر المقصود.
(60) فاطمة الوحيدة التي كسرت زجاج النافذة.
(61) فاطمة هي الوحيدة التي كسرت زجاج النافذة.
(62) فاطمة الوحيدة هي التي كسرت زجاج النافذة.
وإضافة إلى استخدام ضمير الفصل في إزالة اللبس، والتأكيد قد يستخدم للاختصاص،[69] كما في قوله تعالى:
(63) "إن شانئك هو الأبتر".[70]
3، 2- الإحالة بالإشارة
إن الوظيفة الأساسية لأسماء الإشارة تبدو في توضيح مدى القرب أو البعد من المتكلم. وفي العربية ثمة مستويان يمكن التمييز بينهما بوضوح في استخدام أسماء الإشارة، هما: قريب، ويعبر عنه بـ"هذا"، وفروعه، وبعيد، ويعبر عنه بـ"ذلك"، وفروعه. وعلاوة على ذلك يرى البلاغيون أن هناك مستوى ثالثا هو: المتوسط الذي يعبر عنه بحذف اللام من "ذلك"، فتصبح "ذاك"،وهو أيضا رأي جمهور النحاة، كما يقول ابن عقيل: "والجمهور على أن له ثلاث مراتب قربى، ووسطى، وبعدى، فيشار إلى من في القربى بما ليس فيه كاف ولا لام: كذا، وذى، وإلى من في الوسطى بما فيه الكاف وحدها نحو ذاك، وإلى من في البعدى بما فيه كاف ولام، نحو "ذلك"".[71]
وتتكون الكلمة المركبة "ذلك" من ثلاثة أجزاء: "ذا"، وهو اسم الإشارة، واللام، وهو حرف البعد، والكاف، وهي حرف المخاطب. ويلفت الجزء الأخير من الكلمة وهو"حرف الخطاب" الانتباه؛ لأنه سمة من سمات العربية؛ إذ ليس له صلة مباشرة بالإشارة، وإنما أتي به لتحديد نوع المخاطب من حيث الجنس، والعدد، وإن كانت هذه الوظيفة قد تنوسيت في العربية الحديثة، مع أنها لغة القرآن الكريم، يقول الزمخشري: "ويتصرف (أي الكاف) مع المخاطب في أحواله من التذكير والتأنيث والتثنية والجمع"[72]، ولكي نوضح ذلك يمكن أن نمثل بقوله تعالى: "فذلكن الذي لمتنني فيه"[73]، حيث استخدم الضمير "كن"، لأن المخاطبات نسوة، أما في قوله تعالى: "قال كذلكِ قال ربك"، فقد استخدم الضمير "كِ"؛ لأن المخاطب امرأة. وفيما سيأتي أمثلة أخرى يتضح لنا من خلالها أن "ذا" وما تفرع عنها سيختلف باختلاف جنس المشار إليه، وعدده، وأن "ك" سيختلف باختلاف جنس المخاطب، وعدده:
(64) ما رأيُكِ في ذلكِ الكتاب الذي أعرته لكِ الأسبوع الماضي؟
(المرجع مفرد مذكر، والمخاطب مفرد مؤنث)
(65) ما رأيكَ في تلكَ القصة التي أعرتها لكَ الأسبوع الماضي؟
(المرجع مفرد مؤنث، والمخاطب مفرد مذكر)
(66) ما رأيكما في ذلكما الكتاب الذي أعرته لكما الأسبوع الماضي؟
(المرجع مفرد مذكر، والمخاطب مثنى)
(67) ما رأيُكَ في ذينكَ الكتابين اللذين أعرتهما لكَ الأسبوع الماضي؟
(المرجع مثنى مذكر، والمخاطب مفرد مذكر)
(68) ما رأيكم في تينكم السيارتين اللتين اشتريتهما الأسبوع الماضي؟
(المرجع مثنى مؤنث، والمخاطب جمع مذكر)
(69) كيف استطعتن الفوز على أولئكن الرجال المنافسين لكنّ؟
(المرجع جمع مذكر، والمخاطب جمع مؤنث)
ومن المهم أيضا أن ننبه على أن أسماء الإشارة (مثلها في ذلك مثل الضمائر) قد تشير إلى خارج النص، كما في قوله تعالى: "قال بل فعله كبيرهم هذا"،[74] التي يعود فيها اسم الإشارة إلى "كبير الأصنام"، وهو خارج النص، وقد تشير إلى داخله: إما إلى متقدم كما في (70)، و(71) حيث تشير إلى القولة السابقة له، أو إلى متأخر، كما في الآية (72) التي تشير إلى كلمة "الكتاب" التي وردت متأخرة عن اسم الإشارة.
(70) أ) "النساء أطول عمرا من الرجال".
ب) من قال هذا؟
(71) أصبحت الدراسة الجامعية في بريطانيا مكلفة جدا، ولذا/ ولهذا/ ولذلك فإن كثيرا من الطلبة والطالبات يفضلون البحث عن عمل بدلا من مواصلة دراستهم.
(72) قال تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين".[75]
ومن بين أسماء الإشارة تمتاز "ذا"، و"هذا"، و"ذلك" بالإشارة إلى قطعة من النص، كما في (70)، أو لفحوى النص الذي سبق، كما في (71)، ومن الملاحظ أن للمتكلم الخيار عادة في استخدام أي من أسماء الإشارة المذكورة، ولكن قد يوجد من الأغراض البلاغية، والمقاصد التخاطبية ما يرجح اختيار أحدها على الآخر، فيختار اسم الإشارة الدال على البعد مثلا إذا كان المتكلم يشير إلى:
أ- شيء يعتقد أنه غائب أو بعيد منه زمانا أو مكانا، كما في (73) التي يشير فيها المتكلم بـ"ذاك"؛ لأن الزمن المشار إليه بعيد.
(73) بدأ طه حسين دراسته الأزهرية، وهو في الثالثة عشرة من عمره، كان آنذاك صبيا فقيرا يرتدي ثيابا رثة، ويأكل لونا واحدا من الطعام.
ب- شيء مهم، أو ذي قيمة، أو مقدس، أو محترم، وباختصار، فإن المتكلم هنا ينزل علو مكانة المشار إليه منزلة بعدها الحسي، ومن ذلك (74) التي أشير فيها بـ"ذلك" للقرآن الكريم المعبر عنه بالكتاب، لعلو منزلته.
(74) قال تعالى: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين".[76]
وقد يختار المتكلم استخدام اسم الإشارة الدال على القرب للتعبير عن التحقير، كما في (75)، أو للإشارة إلى قرب الرأي للعقل، أو وضوحه فيه، لتأكيد صحته، كما في قول الشاعر الوارد في (76).
(75) أهذا هو الملاكم الذي تزعم أنه لم يهزم قط؟.
(76) كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقا
3، 2، 1- الإحالة بالإشارة الظرفية
في العربية اسما إشارة تفيدان الظرفية، هما: ثمّ، وهنا، وقد تلحق تاء التأنيث بـ"ثَمّ" فتصبح "ثمة"، وقد تلحق الكاف بـ"هنا" فتصبح "هناك"، فإذا أضفنا إليها اللام صارت للبعد، فتصبح "هنالك"،[77] ومثلما أسلفنا عند الحديث عن الضمائر وأسماء الإشارة، تستخدم "هنا" و"هناك" و"ثم" للإشارة إلى ما هو في الخارج، ومن أمثلة "هنا"، و"هناك" ما ورد في (76)، ومن أمثلة "ثم" ما ورد في (78)، وتستخدم أيضا للإشارة إلى داخل النص، كما في (79) و(80).
(77) خذ هذا الكأس من هنا، وضعه هناك.
(78) ليس ثم رجل، بل امرأة.
(79) يعتقد بعض الناس أن الحياة على سطح القمر قد تكون ممكنة في المستقبل، بيد أن الأخبار التي وردت عن دفن الموتى هنالك/ هناك بتكاليف أقل من دفنهم في أنحاء كثيرة من دول العالم قد تكون مؤشرا على أن بيئة القمر أكثر ملاءمة للأموات منها للأحياء.
(80) لما كانت الرحلة من لندن إلى بكين مباشرة تستغرق وقتا طويلا، فقد آثرت أن أستريح في تركيا، ومن ثم واصلت رحلتي عند الصباح.
3، 3- الإحالة بأداة التعريف "ال"
خلافا لأداة التعريف الإنجليزية "the" التي يعتقد بأنها مأخوذة من اسم الإشارة "that"،[78] يبدو أن صلة "ال" بأسماء الموصول أكثر من صلتها بأسماء الإشارة من جهتي اللفظ، والمعنى. أما من حيث اللفظ فالظاهر أن "ال" تطورت من الكلمات الآتية: "الذي"، "التي"، "اللذان"، "اللتان"، "الذين"، "الألى"، "اللات"، "اللاء"، "اللائي"، فهي تؤلف الجزء الأول من كل منها، وقد أجمع النحاة القدامى على أن هذه الأداة هي "ال" التي للتعريف.[79] وأما من حيث المعنى، فإن "ال" مازلت تؤدي وظيفة اسم الموصول في بعض المواضع كما في:
(81) قبضت الشرطة على القاتل بعد أن قفز من إحدى نوافذ شقة المقتول.
فـ"ال" في كل من "القاتل" و"المقتول" تؤدي وظيفة اسم الموصول، ولذا يمكن تأويل كلمة "القاتل" بـ "من قتل" بالبناء للمعلوم، و"المقتول" بـ"من قُتل" بالبناء للمجهول.
ومن جهة أخرى يبدو أن العلاقة وثيقة بين "ال" والضمير حتى إنها تنوب عنه أحيانا في الربط، كما في قوله تعالى:
(82) "فإن الجنة هي المأوى".[80]
أي مأواه، وهذا يؤكد صحة الجمع بينهما في موضوع الإحالة، ويعزز القول بوظيفتهما في ربط الكلام بعضه ببعض، وإضافة سمة التماسك على النص.
والظاهر أن اللغة العربية تشتمل على ثلاثة أنواع من "ال":
أ- "ال" الموصولة، وقد مثلنا لها.
ب-""ال" الجنسية التي تشير إلى كل الجنس المتحدث عنه،[81] ويشمل هذا النوع ثلاثة فروع:
1- "ال" التي تفسر بـ"كل فرد من أفراد" الجنس، وهي المسماة بـ"ال" الاستغراقية، كما في (83) التي تفيد أن كل أسد من فصيلة القطط، و(84) التي تفيد أن كل السمك يعيش في الماء.
(83) الأسد من فصيلة القطط.
(84) السمك يعيش في الماء.
2- "ال" التي تفسر بـ"الجنس في عمومه، بغض النظر عن الأفراد المنضوين تحته"، كما في (85)، و(86).
(85) الرجل أطول من المرأة.
(86) الأوروبي أطول عمرا من الأفريقي.
فالكلمات التي تحتها خط في المثالين السابقين لا تشير إلى كل فرد من أفراد الجنس، بل المقصود أن الرجال في عمومهم (لا كل رجل) أطول من النساء في جملتهم، إذ قد نجد من النساء من هن أطول من الرجال، وبعبارة أخرى فإن معدل طول الرجال أكبر من معدل طول النساء، وهكذا في المثال الثاني.
3- "ال" التي تشير إلى "الشخص بوصفه ممثلا للجنس كله"، كما يذكر هاليدي ورقية حسن عند حديثهما عن أداة التعريف الإنجليزية،[82] كما في (87)، و(88).
(87) إذا خرجت إلى الغابة، فسيأكلك الذئب.
(88) مهما اشتد بي المرض، ومهما ساءت حالتي الصحية، فإني لا أحب الذهاب إلى المستشفى، ولا رؤية الطبيب.
فـ"ال" هنا لا تشير إلى كل ذئب، ولا إلى كل مستشفى، ولا إلى كل طبيب، ولا إلى الذئاب والمستشفيات والأطباء في عمومهم، بل إلى أفراد ممثلين للجنس الذي ينتمي إليه كل من ذكر، وقد كان هذا النوع من "ال" مثار جدل كبير في البلاغة العربية إلى الحد الذي صعب معه توحيد مصطلح متفق عليه يشير إليها.[83]
ب-"ال" العهدية، التي تشير إلى مرجع معين معهود للمتكلم والمخاطب،[84] وتتوقف قدرة المخاطب على تحديد المرجع المقصود على واحد من الآتي:
1- العهد الذهني: ولنمثل لذلك فلنتصور أن اثنين ينتظران الحافلة، فيقول أحدهما للآخر ما ورد في (89)، فيفهم المخاطب أن المتكلم يقصد بالحافلة الحافلة القادمة.
(89) يبدو أن الحافلة ستتأخر.
ومن ذلك أيضا قولنا: ذهبت إلى الجامعة، الذي يفهم منه الجامعة التي أدرس أو أعمل فيها.
وهذا الفهم محكوم بما يسميه الأصوليون مبدأ "التبادر" الذي ينزع السامع بمقتضاه إلى حمل كلام المتكلم في ضوء المعرفة المتبادلة بينه وبين مخاطبه، وتفاعلاتهم السابقة، والمقام الحالي الذي وقع فيه التخاطب.[85] وبناء عليه فإن المتبادر من الحافلة في (89) هو الحافلة المعهودة بين المتكلم ومخاطبه بحكم الاشتراك في انتظارها.
وقد صاغ براون Brown ويول Yule مبدأ مشابها أسمياه بـ "مبدأ الحمل المحلي" principle of local interpretation الذي يحكم المتكلم بألا "يصوغ سياقا أكبر مما يحتاج إليه للوصول إلى حمل ما. وبناء عليه، إذا سمع المخاطب شخصا ما يقول له: "أغلق الباب"، فسينظر إلى أقرب باب له؛ ليغلقه".[86] وبمقتضى هذا المبدأ، فإننا نحمل أسماء العملات، ونحوها، على العملة المستخدمة في البلد الذي نحن فيه، فالدرهم والدينار والريال مثلا تستخدم في عدد من الدول العربية، ولكن تحديد المقصود بكل من هذه العملات محكوم بالمكان الذي تستخدم فيه.
وبطبيعة الحال، فإن هناك مقامات يضطر فيها المخاطب إلى توسيع السياق بحيث يشمل أشياء ليس لها صلة مباشرة بالمتخاطبين. ولذا، فإن كلمة الشمس في (90) و(91) و(92) تحيل جميعها على ذلك النجم الذي يضيء الأرض، ويدفئها، وأينما قيلت هذه الكلمة فستحمل عليه، وما يحكم هذا الحمل هو الاعتقاد بوجود شمس واحدة فقط.
(90) عيناي تعانيان من حساسية شديدة حتى إنني لا أستطيع النظر إلى أشعة الشمس الخافتة في فصل الشتاء.
(91) يقوم العلماء بدراسات عديدة لتطوير طرق استغلال الشمس في توليد الطاقة.
(92) يقول المثل: الغرفة التي لا تدخلها الشمس لا يدخلها الطبيب.
2- العهد الذكري، ويقصد به سبق ذكر المرجع المحال عليه، ومن ذلك ما ورد في (93)، حيث تشير كلمة المتهم المعرفة بـ"ال" إلى كلمة "متهم" التي وردت نكرة، فحدث الربط بين الكلمتين، وكذلك الجملتان، بسبب أحادية المرجع الذي تشيران إليه.
(93) أطلق صباح اليوم سراح متهم من ذوي السوابق بعد أن ثبتت براءته من تهمة السطو على أحد البنوك، وقد رحّب المتهم بقرار المحكمة مؤكدا براءته من التهم المنسوبة إليه.
ومن الواضح أن "ال" التي للعهد الذكري هي أنسب أنواع "ال" وسيلةً لتماسك النص؛ لأن إحالتها إحالة داخلية، وهو ما يجعلها قادرة على ربط جملتين بعضهما ببعض.
وعلى الرغم من أن كلا من "ال" وأسماء الإشارة تبين لنا أن المرجع الذي تحيل عليه موجود في مكان ما في السياق بمفهومه العام الذي يشمل السياق الداخلي والخارجي، فإن الفارق بين "ال" من جهة، وأسماء الإشارة من جهة أخرى، هو أن أسماء الإشارة -خلافا لـ"ال"- تبين لنا بالتحديد المكان الذي نجد فيه المرجع، حيث تصرح بكون المرجع قريبا أو متوسطا أو بعيدا من المتكلم، ومما يسهل علينا المهمة أيضا أنها تبين لنا جنسه، وعدده. أما "ال" فلا تعطي أي معلومات محددة عن المرجع، بل كل ما تستلزمه أنه يمكن معرفة المرجع من خلال الرجوع إلى معارفنا عن العالم الخارجي (في حالة "ال" الجنسية)، أومن خلال النظر في السياق الداخلي (بالنسبة إلى "ال" التي للعهد الذكري) أو في السياق الخارجي (بالنسبة إلى "ال" التي للعهد الذهني).[87]
3، 4- الإحالة بالمقارنة
كل عملية مقارنة تتضمن شيئين -في الأقل- يشتركان في سمة مشتركة بينهما. ويمكن التمييز بين نوعين من المقارنة: مقارنة عامة، ومقارنة خاصة.
أولا: المقارنة العامة:
يمكن تصنيف الألفاظ التي تعبر عن المقارنة العامة في العربية في خمس مجموعات:
1- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التشابه:
ومنها "شبيه"، و"مشابه".
2- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التطابق:
ومنها "نفسه"، و"عينه".
"مطابق"، "مكافئ"، "مساو"، "مماثل"
"قبيل"، "مثيل"، "نظير"، "مرادف"
3- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن التخالف:
ومنها "مخالف"، "مختلف"، "مغاير".
4- ألفاظ المقارنة التي تعبر عن الآخرية:
ومنها "الآخر"، "أيضا"، "البديل"، "الباقي".
وتتميز ألفاظ المقارنة بأنها تعبير