قراءة في قصيدة "سيرة المجنون" لحسين السماهيجي
البناء النصي الإبداعي يتطلب أدوات فعّالة كي تشكّله الشكل المرضي ، على الأقل عند مبدعه في الصورة الأولى ، ويزداد تشكّله كلما خضع للدرس والمعالجة التشريحية ، لذلك كل أداة تكوّن هذا النص أو غيره تصبح ذات أهمية كبرى أو صغرى بحسب ارتباطها ضمن السياقات والعلاقات النصية القبلية والبعدية .
ومجموع هذه الأدوات المتعلقة بالنص خارجية كانت أم داخلية فإنها تكون الصورة النهائية لبناء النص الإبداعي المنسوج بلغة المبدع بعدما تشربت المضمون والغاية . وها نحن الآن أمام نصٍّ مزجت لغته صورة الماضي بعصرنة الحاضر . إنه نص "سيرة المجنون" للشاعر حسين السماهيجي ، الذي أتحفنا بديوانه الأول "ما لم يقله أبو طاهر القرمطي" ، وها نحن على وجل لرؤية الديوانين اللذين سينزلان المكتبات عمّا قريب ، ديوانيْ "امرأة أخرى" و "الغربان" .
كنت قد قطعت على نفسي تجريـب قراءاتي في النقد على إحدى قصائده المنشورة في الديوان الأول ، إلاّ أنّ الظروف حالت دون ذلك ، وها أنا أقف أمام هذه القصيدة أحاول كشف سترها والولوج في أحشائها اللغوية والمضمونية .
وقبل البدء في القراءة عليّ أن أتخلـص من معتقدات طه حسين والجاحظ في إنكار قصة قيس وليلى ، إذ يقول الأخير (ما ترك الناس شعرًا فيه ليلى إلاّ نسبوه إلى قيس بن الملوّح )[1]. ونضع في اعتبارنا قصة الحب الخالدة التي نسجت خيوطها معاناة الاثنين منذ تعارفا حتى افترقا وماتا ، بأنها قصة واقعة في متخيل الإنسان العربي ، واستطـاع بهذا المتخيل الذهني أن يسطرها في تاريخ الأمة العربية وضمن الفن العذري .
سنقف في القصيدة على بعض النقاط التي رأيناها ذات أهمية في تركيب النص لغة ومضمونًا ، بحيث يكون التناول مبنيًّا على مبدأ الاتساق في العمل الإبداعي ، والذي يعني كما ذكره لسـانيات النص ، ذلك التماسك الشديد بين الأجزاء المشكلة لأي خطاب إبداعي ، مع الاهتمام بالوسائل اللغوية التي تصل بين العناصر المكونة لأجزاء هذا الخطاب[2]. ومنه ندخل في النص مكتفين بعنصر الإحالة الخارجية أو ما تسمى بالمقامية ، وعنصر الإحالة النصية التي تعتمد على الضمائر ثمّ نعرّج على ما هو زائد من الجمل الشعرية أو الملفتة للانتباه .
عندما تشرع في قراءة قصيدة "سيرة المجنون" وتدخل في أغوارها تظهر مؤشرات التعالق النصي كما أسماه علوي الهاشمي ، هذه المؤشرات تبرز بين الحين والآخر ، وبين الصور الشعرية ترى جملة شعرية قد توسدت الإحالة المقامية ، التي تكشف لنا العلاقة المرتبطة في المضمون بين قضيتين أساسيتين كانتا مختلفتين في تكوينهما الاجتماعي وبنائهما الحضاري .
إنّ القضيتين هما قضية الرسول (ص) ومعاناته في نشر الدعوة ومدى المواجهة التي حدثت بينه وبين معارضيه ، وقضية قيس بن الملوح الذي عانى ما عاناه ليكون أحد الذين سطروا سواد التاريخ بكلمات صادقة في الحب العذري واللون العاطفي . هذه المعاناة التي عاشها الرسول وقيس حاول الشاعر أن يصوغها في نص إبداعي يقارب فيه القضيتين على اختلافهما في النهج ، ويؤكد على أن مواجهة التحديات المجتمعية هي في حد ذاتها مسيرة للإنسان المبدع ، فإذا كان قيس قد ضحى بحياته لأنه أحب ، فالرسول الكريم ضحى لأنه أحب أيضًا ، ولكن حبهما مختلف ، فالأول كان حبه لامرأة والثاني كان حبه لله .
وأول ما نقف عنده هي نصية الخمر ، حيث يقول الشاعر "والخمر ما عادت تثير غريزةً فينا" . فالخمر إحدى الوسائل التي تضفي على شاربها نوعًا من الفرح والغبطة وعلامة من علامات الانتشاء ، وإن كانت كلها تأتي في زمن مؤقت إلا أن الأقدمين والمحدثين تناولوها في نصوصهم الشعرية بلغة حاولت أن تثير إحساسهم تجاهها مما حبب الناس في تناولها . لكن الرسول دعا إلى تحريمها والابتـعاد عنها ؛ لأنها لم تصبح مؤشرًا من مؤشرات الالتفاف حول الدين الجديد ؛ لذلك بدأ المسلمون في عهد الرسول ينظرون لها على أنها عديمة الفائدة كما كان قيس وهو يعيش ظروف الحرمان وفراق الحبيبة لم تعد الخمر تسكّن بلواه وتفرده في مجتمعه الذي حارب حبه . لهذا لم تصبح الخمر عند الاثنين مكـان إثارة ؛ لأنها باتت فاشلة في إحياء اللذة والنشوة ، فحرمت دينيًّا عند الرسول وحرمت إحساسًا اجتماعيًّا ونفسيًّا عند قيس .
لكن هذا التحريم فرض عليهما شيئًا آخر وهو الدفاع عن معتقداتهما مما وسمـا بالجنون ، حيث قيل عن الرسول بأنه شاعر ولما كانت مفردات النص القرآني تجتذب أسماع المعـارضين للرسول وتثيرهم إحساسًا وجمالاً أطلقوا عليه صفة السحر والجنون . فإذا كانت لغة القرآن هي الحضور المكثف عند الجاهلي قبل المسلم ، فإن شعر قيس هو الذي ساهم في جعله مجنونًا قبل أن يكون شاعرًا "قيل مجنون .. وقيل شاعر" . فالمجنون بلغته الشعرية أصبح أرق الشعراء شعرًا وأصدقهم حبًّا وعاطفة ، غير أن اللغة لم تقاوم جهل المجتمع ورفضه لكل ظاهرة جديدة ، لذلك نرى المطاردة والسعي إلى تكسير الهمم دلالات ترحال الاثنين عبر الصحراء وفضاء الأرض ، حيث هام قيس بن الملوح باحثًا عن ديار ليلى ، وخرج الرسول لاجئًا إلى مكان آخر ؛ لكي يحقق أمله في نشر الدعوة .
يستمر النص في إحالته التعالقية حين يسأل "أين كنتَ من الشَّآمِ إلى يمانٍ" . أفليس هذا فعل الأوّلين حينما كانوا يمارسون التجارة بين بلاد الشام وبلاد اليمن صيفًا وشتاء ، حتى جاء الرسول وعمل كما عمل أهل قريش ، وهذه الرحلة التي ذكرت في القرآن هي رحلة تجارية تتصف بالربح والخسارة والمكاسب ، إلا أن رحلة قيس لم تكن في هذه الأمكنة الجغرافية ، بل في صحراء شبه الجزيرة العربية يبحث عن ليلى وديارها بعد معرفته بمرضها حتى أدميت قدماه وهو يواصل البحث ، "مذ غبتَ عن ليلاك ، وتجرحت قدماك" . فالغياب ، هنا ، لم يكن بليلى فقط ، بل غياب الرسول عن مكانه الأساس "مكة" وخروجه إلى المدينة ، وقبلها إلى الطائف التي تعاملت معه بشيء لا يليق بمن ينزل ضيفًا . وهذا قيس ، أيضًا ، يسير ليلاً ونهارًا ليرى مكان حبيبته بعد رحيلها .
إن مبدأ الإيمان وقيمة الإخلاص في الإيثار جعل الرسول يضحي ، وجعل قيسًا يتعذّب ، ففقدان الحياة يعتبر وسامًا يعلّق على جدار التاريخ الديني والعاطفي . ولم يكتف الشاعر بهذه الإحالة بل خلق علاقة اتساقية بين ظروف قيس من جهة ، وظروف الرسول من جهة أخرى ، ثم بين الأول وشعر قيس ذاته ، من خلال رفض المجتمع البدوي والحضـري لكل ظاهرة جديدة ، فالرسول حورب من قبل قريش المعارضين له ، واستدعى الأمر أن يكون خارجًا عن مكان ولادته وسكناه "مكة" ، كذلك قيس صار هائمًا في القفار بعد صدور حكم أو أمر إهدار دمه ، ويأتي التأكيد في "صهلت جياد خليفة الله المبجل" ليؤكد بأن والد ليلى كان رافضًا قيسًا كزوج لابنته ، ومنعه من قول الشعر فيها ، ولكن إصرار قيس على مزاولة اللغة العذرية في ليلى رفع الأمر إلى خليفة المسلمين عبد الملك بن مروان ، وهنا يقول قيس نفسه :
وإِنْ يحجبوها أو يحلْ دون وصلها
مقالة واشٍ أو وعـيــــــــــــدُ أمـيرِ
فما برح الواشــــون حتى بدت لنا
بطونُ الهوى مقلوبــــــــة ً بظهورِ
إن القتل كان حليفًـا للرسول لـو لم يرحل ليلاً ، وحليفًا لقيس لو لم ترتحل أسرة ليلى إلى "تيماء" ، وسبب هذا القتل وذاك الخروج على قاعدة التآلف المجتمعي الرافض للتغيير أو التجديـد لأنه يلامس المعتقدات الاجتماعية والطقوس الدينية . والقتل ، لو كان ، فهو دلالة في الحب الإلهي عند الرسول والحب العاطفي الإنساني عند قيس .
بيد أن بصيرة الاثنين ثاقبة ؛ لإيمانهما بتحقيق الهدف الذي خرجا من أجله ، حيث استطاع الرسول أن ينشر الدعوة من المدينة إلى العالم المجاور ، واستطاع قيس أن يجعل والد ليلى يطأطئ الرأس إجلالاً واحترامًا ، ويأخذه إلى قبر ليلى ، ويقول الشاعر "مصقولةٌ عيناك" تحقق انتشار الإسلام وذيوع صيت حب قيس لليلى بين المحبين المخلصين .
ومن يتصف بالحب هل يبقى طفلاً كما يقول نص القصيدة "يا أيها الطفل البدائي المعطر .. بالأنوثة .. والنبوّة والقصيدة" ، إنه لم يكن طفلاً بدائيًّا بالمعنى المعجمي ، بل بالدلالة الإيحائية التي ترمي إلى خلق العلاقة المقامية في تطور الإنسان ضمن نشأته الأولى ، ثم تأخذ فعل التكوين الأولي الذي يمثل تحديا للآخر ، وخلقا للتواصل معه حياتيا وأخلاقيا ومعرفيا بعد الواقع المجتمعي ، لذلك اتصف الرسول بالتسامح والمودة والإخلاص أثناء تعامله مع الآخرين فقال الله تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم"[3]، كما أن قيسا أتصف بالحب واللين والإخلاص لمن يحب ، وكأن هذا اللين عند الاثنين أولى بهما ليكونا عمدين في الزعامة ، فالرسول قاد الأمة كلها ، وقيس قاد العشاق والمحبين .
وفي ضوء هذه الزعامة ولغتها لم يستطع قيس كتمان حبه لليلى ، " يا قيس ... خذ حـذرك … كن حافظا سرك " فالعلم إلاّ للمقـربين منه لكي يقوم بنشر الدعوة تدريجيا ، وخلق قاعدة صلبة ، تدافع فيما بعد عن هذه الدعوة ، لكن قيساً لم يستطع هذا الفعل ، بل فضح نفسه عندما ذبح ناقته ولسعته جمر النار أثناء شي اللحم ، بل خرج سره من صدره ليستقر في شعره متجاهلا القيود القبلية والأعراف العربية التي جعلت امرأ القيس قبلـه أن يكـون متشردا وقد قال بعد سماع نبأ مقتل أبيه "شردني صغيرا وحملني كبيرا" ، غير أن هناك دلالة أخرى لكتمان السر عند الرسول (ص) وهي التعرف على نمطية العقليـة العربية القبلية ، والسبل إلى الاقناع والإيمان بكل ما هو جديد صالح للأمة ، كما هناك دلالة فضح السـر عند قيس ، وهي إبـراز قيمـة الحب الصادقـة والعاطفة الجارفـة ومبدأ التضحية ، دون خوف أو وجل .
ومن هنا لم تكن اللغة خائفة في إعلان الحب أو ممارسة مبدأ التضحية ، غير أن اللغة ذاتها كانت راقية المفردات ، رصينة العبارات " فلم تكن تتكلم اللغة الخبيثة "، وهذا يدفعنا إلى دعوة الرسول (ص) المستمرة التي كانت تتميز باللين وعدم المواربة أو المحاباة في القول أو الفعل ، وقد قال تعالى "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"[4] وهذا تأكيد على أهمية تناول اللغة ، وكيفية ممارستها أمام الآخر . كذلك جاءت لغة قيس في شعره لينة واصفة حبيبته ليلى وصفا لا يخدش الحياء كما يفعل شعراء المجون والغزل الفاحش ، ومن هنا استطاعت هذه اللغة أن تجمِّل حبه أمام الناس فيما بعد ، وتأخذ مكانة في نفوسهم ، مثل ما فعل "زياد" الرجل الذي أتى إلى قيس ليأخذه إلى ديار ليلى "تيماء" .
يسافر قيس مرتحلا إلى ديار ليلى ، لكنه يصل إلى جبل التوباد ليكشف لنا علاقته بهذا المكان الذي استطاع نص المجنون الدخول عبر أبياتٍ قالها قيس قبله ، فالنص الذي نحن بصدده يقول :
يا قيس سافر
أجهش
إذا التوباد لم يعلم بليلى .
ويقول قيس نفسه :
وأجهشـت للتوبـــــاد حين رأيته
وكـبَّـر للرحمن حـيــــــن رآنـي
وأذرفت دمــع العين لما عرفتـه
وعهدي بذاك الصّرم منذ رماني
أيا جبل التوبــاد الذي في ظلاله
غــزالان مـكـحــــولان مؤتلفان
غزالان شبَّا في نـعـيـم وغبطـة
ورغدة عيش نـــاعِم ٍٍ عـطـرانِ
فهنا العلاقة الاتساقية تكمن في ثلاثة أبعاد أو اتجاهات ، فالسفر كان حليفا للرسول ولقيس ولليلى ، فكلهم ذهبوا من أمكنتهم الأصلية بحثا عن طريق يحقق لهم هدفهم ، أما البعد الثاني فهو في المفردات التي تناولها النصان مثل : "أجهش" فعل الأمر ، "أجهشتُ" فعل ماضٍ ، وهما من بنية واحدة "جهش" ، كذلك كلمة "التوباد" فهو الجبل الذي كان يلتقي بجانبه قيس وليلى ، وقد ذكر في النصين أيضا ، أما البعد الثالث فهو تجاهل هذا المكان أو عدم معرفته بماضي هذين المحبين ، وهنا تتضح مؤشرات نص سيرة المجنون ومدى ملاحقته إلى نصوص القصة الخالدة في حب قيس وليلى .
لكن الشاعر لا يكتفي بهذا بل يعود مرة أخرى إلى حياة الرسول ليجعلها مصباحا يضيء له طريق النص لغة ولفظا ، فيقول :
"سرٌّ غائرٌ في الصدر
بحتُ بأحرفي الأولى إليك "
أي سر يريده الشاعر ، إنه سر الدعوة التي بدأت بأربعة أحرف قالها جبريل عليه السـلام إلى الرسول الكريم " اقرأ "، فهي الكلمة التي غيرت مجرى التاريخ العربي ، حيث طلب من الرسول بعدها القيام بدعوته ومحاربة المشركين ، كذلك الكلمة الأخرى " ليلى " فهي مكونة من أربعة أحرف ساهمت بعدها في نشر قصة عاطفية صادقة غرست أعمدتها في قلوب المحبين .
ومن خلال هاتين الكلمتين حورب الاثنان من قبل المجتمع المحيط بهما ، لكن قدسية الحروف في الكلمة الأولى " اقرأ " حركت مفاصل الحياة العربية لأنها كانت حروفاً راسخة في القلب والعقل ، وحروف الكلمة الثانية " ليلى " جيشت عروق العشاق الولهين لذلك قال الشاعر "وحين قدسني الكلام" ليؤكد على الدور الذي تلعبه اللغة في تحريك المشاعر والأفكار .
ينتهي النص بإحالة أخيرة واضحة المعالم الدينية ، لكن الشاعر تناولها في ثوب جديد ، حيث جاءت الآية الكريمة لتقول "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا"[5]، لتأمر الرسول (ص) بخلع التلفف بالعباءة والثياب ، وارتداء عباءة النبوة والرسالة وتحمل أثقالها ، وهكذا يقول الشاعر في نصه "متزمل بالليل" ليؤكد التناص الذي جعل قيساً يتلحف بسواد الليل ويهيم في الصحراء حاملاً تعب السفر ومشاق الفراق ولوعة الجفاء وهزيمة الهوان ، لكنه أي الشاعر يطلب منه بصورة غير مباشرة أن يتحمل هذا العذاب لأن غياب قيس لا يعني الغياب الأبدي ، لأنه سيظهر في ليلى القصيدة .
أتحول إلى منحنى آخر رأيت إظهاره ، وهو تناول الشاعر للضمائر ، وهي إحالة من داخل النص حيث جاءت ضمائر هذا النص على مستوياتها الثلاثة "المتكلم ، المخاطب والغائب" . وها نحن الآن نحاول حصر هذه الضمائر لمعرفة البعد الإبداعي في النص ذاته . فقد جاء ضمير المتكلم " أنا " عشر مرات ، و" نحن " إحدى عشرة مرة . أما ضمير المخاطب فقد جاء على شكل واحد " أنتَ " وهي أربع عشرة مرة . في حين وصل عدد ضمائر الغائب ثمان وعشرين مرة ، موزعة على "هو" سبع مرات و "هم" سبع مرات و "هي" أربع عشرة مرة .
بهذا يتضح تعمُّدُ الخطاب النصي في الإتيان بضمير الخطاب " أنت " ، ليكون متساوياً مع ضمير الغائب في حالتيه التأنيث والتذكير ، حيث جاء التساوي فيها . وهذا يعطي تأكيداً بأن الذات القائلة لهذا النص ليست ذات الشاعر التي حاولت التواري بالنص الديني ، بل الذات المتحدثة هي ذات ليلى العامرية التي خرجت من قبرها بعد ما شعرت بعذاب قيس وحزنه ، وبعد ما ترقرقت عيناه بالدموع وابتلّ تراب قبرها .. خرجت لتقول له لا يزال دمي يسيل حباً وشوقاً ، بدليل نصها الشعري الذي تقول فيه :
دعـوا مقلتي تبكي لـفـقـــد حبيبهـا
ليطفئ برد الدمع حــــــرّ كروبها
ففي حبل خيط الدمع للقلب راحة
فطوبى لنفس مـتـعـــــت بحبيبهـا
بمن لو رأتـــــه القاطعاتُ أكفهــا
لما رضيت إلا بـقـطـــــع قلوبهـا
وتتوغل ليلى في مخاطبتها لقيس وتخبره بأن جسديهما لم يعودا مبتهجين ، لأنك لم تكن حافظاً للسر والكتمان ، فعلاقتنا باتت على كل لسان وواش لذلك قالت في نصها الأصلي :
وأسـرار الملاحظ ليس تخفى وقد تغري بذي اللحظ الظنون
من هنا نرى ليلى المعشوقة ظهرت من خلال الضمائر في الكثير من المفردات التي سوف نرصدها في الجدول التالي .
بهذه الضمائر هل استطاع الشاعر أن يخلق الاتساق بين صـوره الشعرية وجمله ؟ إننا نرى في العدد والتنوع مساهمة في ربط هذه الصور وتلك الأجزاء ، بل تشكلت معظمها في منطقة اللاوعي لتخرج في سياقاتها المرئية الآن .
إن هذا التشكل أعطى ليلى العامرية ، الذات التي استقرت في جسد النص منذ الجملة الأولى "دمي يسيل" ، لأنها استطاعت جمع هذه الضمائر لتكون علاقة صريحة وضمنية بعض الأحيان في البناء الإبداعي . وتسير ليلى النص استمر حتى نهايته التي جعلت الشاعر صاحب النص يعترف بأنها لا تزال تمثل تحدياً في لغة العشق والحب واللغة .
ولم يكن التسير بغرض سرد حكايتها مع قيس بقدر ما هو إبراز موقف معارض لما كان سائداً ، لذلك أخذت دور المتحدثة والمتحدث عنها بشكل منسوج مقامياً ونصياً ، وهذا أعطى المتلقي فرصة الكشف ضمن "محاولة فك منطق النص وإدخاله في حيز أكبر منه"[6] فراحت ليلى الساردة للحكاية "دمي يسيل" وأعطت نفسها الحق في طرح السؤال "أين كنت" وفرضت على الآخر الأمر "كن حافظاً سرك" . وهذا هو البعد الرئيس عند ليلى الذي حاول الشاعر توضيحه .
ولو وقفنا قليلا عند الضمائر نلاحظ أن الشاعر في تناوله ضمير الغائب لدلالةٌ على أن يجعل نفسه خارج النص ، ويترك أحداث نصه تقدِّمُ نفسها للمتلقي بقصد تمرير ما يريده من طرح . إذ ضمير الغائب يفصل بين زمنية المتحدَّث عنه وزمنية القول ذاته ، لما يقوم به هذا الضمير من زمن "كان" هو . وهذا يعطي القارئ فرصة التصديق أو عدمه ، خاصة أنه "بمقدار ما يبعد الفعل عن التاريخ بمقدار ما يجسِّد هذا التاريخ في صورة من العلاقات الإنسانية المتشابكة في ضوء ثنائية المجتمع القائمة على الخير والشر ، الحق والباطل"[7].
وإذا كان ضمير الغائب يهتم بالموضوع فالشاعر تناول ضمير المتكلم ليذيب الفوارق الزمنية داخل النص ويقدّم الروح الشاعرية الملتصقة بالعمل الشعري حتى يتم التوغل داخل النفس البشرية ، لكنّ الشاعر يستدرك هذا ويمارس لعبة الضمائر ليظهر ضمير المخاطب الذي يؤكد توظيف الزمن الراهن وقد يكون المستقبل أيضًا ، مما قد يصاب المتلقي بحيرة معرفية اتجاه هذا النص .
أما ذات الشاعر ، فبرزت في السرد الحكائي الذي تداخل مع خطاب ليلى المحكي لقيس ، وكان بحسب ما تعتقد تعمداً ليعطي الدور الحقيقي لليلى التي لم تستطع الوقوف أمام عادات القبيلة وضد أبيها في حياتها ، تقف الآن شامخة معلنة صوتها بأن أعراف المجتمع كانت سبباً وراء موتنا نحن الاثنين .
ويبدو بهذا التعمد جعل الشاعر نصه يكبر في صوره الشعرية وجمله التركيبية مما نرى زيادة في بعض الجمل التي لو حذفت لما تغير نمط النص الشعري مضمونياً أو لغوياً مثل :
- مكتظ بماء
- يا قيسُ (الثالثة)
- لم نر اللون الشهي
ولم نُسغْ ماء تقدس بالنبوءة
- (الواو) واستنفروا آباءهم
- حل الارتحال
ورغم هذه الجمل الشعرية التي نراها زائدة في النص برزت جمل أخرى ساهمت في إثارة الانتباه وتوكيد الدلالة المقصودة التي يرمي لها الشاعر ، مثل تقديم الفاعل على الفعل ليتحول إلى مبتدأ مضاف "دمي يسيل" ، وتكرار جملـة يا قيس… يا قيسْ بحركة السكون الذي يعني الوقوف والسكوت مما يؤدي هذا إلى لفت انتباه المخاطب وقبله المتلقي ، ولكن حينما أراد الشاعر أن تكون الرؤية ليس للاسم بل للمضمون المراد والهدف المقصود جاء بصيغة أخرى مكررة "يا قيسْ … ألف قبيلة تترصدكْ يا قيسُ … ألف قبيلة تتهددكْ"
من هنا نقول أن لم يكن غائباً عن دور التناص أو الإطالة المقامية أو النصية ، لأنه يعلم أهمية النسيج المرجعي الذي يشكل العلاقات النصية ، وتعطي هذه العلاقات فرصة للمتلقي بتحليل النص دون الحكم على قيمة هذه العلاقة . فالممارسة النصية هنا هي استبدال للتاريخ والوعي الكامنين في لحظة التمظهر البنائي للنص المقروء ، حيث القصيدة هي "قول وهي في الوقت نفسه تود البوح بقول آخر كما يقول ريفاتير"[8] .
إذاً جمالية النص يقع في حل المؤشرات والدلالات غير المباشرة التي يحاول المتلقي اصطيادها ، وفي كل مرة سوف يخرج بصيد غير الذي اصطاده من قبل ، خاصة إذا استطاع الشاعر أن يجعل قارئه أداة تتحرك بين سطوره أو كاللغة التي تسير داخل هذا الإبداع .
الهوامش :-
* القصائد المدونة في القراءة من كتاب "قصة قيس وليلى ، الحب الخالد" ، لأحمد محمد النمنكاني .
----------------
[1] طه حسين ، حديث الأربعاء ، ص 178
[2] انظر : محمد خطابي ، لسانيات النص ، ص 11-19
[3] سورة القلم ، آية 4
[4] سورة آل عمران ، آية 159
[5] سورة المزمل ، آية 1
[6] محمد خطابي ، م.س ، ص 234
[7] عبد الملك مرتاض ، نظرية الرواية ، عالم المعرفة ، ع 240 ، ص 181
[8] أحمد عثمان ، الأدب واللغة والفضاء ، كتاب الرياض ، ع 23 ، ص 23