حتى لا يكون سقوط "قصيدة النثر العربية" مسألة وقت !
أيمن اللبدي الخميس، 15 فبراير 2007 04:07 نقد ومراجعات - نقد وتحليل
إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقويم القُرّاء: / 0
الأسوأالأفضل
Imageأبدأ بما انتهيت إليه قبل سنوات في شأن "قصيدة النثر العربية" ، والذي جاء ملخصه الجديد في مطالعة عامة عبر مقال "الموسيقى الداخلية في النص الأدبي"، وهو الذي نشر مؤخراً ضمن كتاب "الشعرية والشاعرية " ، والذي انتهينا فيه إلى ضرورة عدم الحكم على "النسيقة" أو "قصيدة النثر العربية" طالما أن التجربة لا زالت متاحة بفعل قوة "الممكن"، وفي حقيقة الأمر فإن مساحة عدة سنوات ليست بفترة كافية أمام قوة "الممكن" لتقدّم دليلها، بيد أن كماً مهولا ً من النصوص التي تدفقت من كلّ حدبٍ وصوب، جعل القلق يفضي إلى مساحات جديدة، ومنافذ رؤيا أقرب إلى تحديد ماهية مخاوف َ مشروعةٍ، لا بدَّ من التنبيه إليها، وهذا كان أحد الأسباب التي حضرت منبهةً الخاطر لما استدعى مثل هذه البرقية العاجلة.
من الأسباب الأخرى بضع أسئلة وردت إليَّ تعقيباً على ما جاء حول جزء "قصيدة النثر العربية" من بعض القراء الكرام لهذا الكتاب، ومنها أيضاً صورة ما وصلت إليه بعض النقاشات التي دارت بيننا ، وبين بعض الأصدقاء تعقيباً على ذات المسائل، وهذه كلها في ظني تنهض جملةً أسباباً كافيةً لرزمها كتلةً واحدةً، ومن ثمّ التفصيلُ بشأنها في هذا المقام كي يصبح ممكناً الوقوف على وضع الخطّ الفاصل بينَ القول وبين تحميله ما لم يقله، وظني أن مثل ذلكَ لا شك حق طبيعي للكاتب والباحث مثلما هو حق ٌ لصاحب المسألة والمصلحة في الظفر
بالكرْم وما حوى، وليس مقاتلة النواطير من حوله ، واختلاق مختلقاتٍ لا علاقة لها نتائجَ ولا مقدماتٍ بالمنهج العلمي والموضوعية في شيء، اللهمَّ إلا مظافرة ما واقع النفس من هوىً في المرغوبِ ، وملاكئتها في بغضٍ
للمكروه فيها، وتحميل الأمر ما لا ينفذ له محتمِلاً أو يصحُّ محتَمَلاً !
أما البدايةُ في جملة جلاء القول في هذا الشأن ، فهي أنَّ ما جاء في هذا المبحث من التطبيق ، استناداً إلى ما تقدّم في ذات المدونة من أولها، قائمةٌ أصوله وركائزه من حيث الموقف من شعرية "قصيدة النثر العربية" أو ما
استنسبنا لها من اسمٍ أثبتناه هناك باسم "النسيقة" ، إنما هي في الاعتماد الكلي على شروط الفصل بين فنيِّ القول: النثر وأشكاله المتعددة، والشعر وأشكاله المنفتحة، بدايةً غير منسوخة ولا متناقضة، وشروط الفصل هذه اثنان:
- أولها تحقق شرط الموسيقى تحققاً كاملاً ، وثانيها :- تحقق شرط الاستجابة لدى المتلقي على أنواعه، وبلا شك المتلقي غير المفترض أجدر بالركون إليه في ذلك مرتبةً ، فهو أساس عملية التلقي بعكس المفترض –الناقد- لأنه في مرحلة ما أصبح جزءاً من العملية الأدبية .
وأذكّر بأن الاسم الذي استنسبناه أي "النسيقة" لـ "قصيدة النثر العربية" ، إنما ارتكز في اشتقاقه إلى الشرط الأول ، على اعتبار قدرة الشاعر المفترضة والموطِّئةِ له بأن يأتي بأنساق "موسيقية" متتالية ، يمكنه تقطيعها
والتحكُّّّم باختزانها ، وإن كان ذلكَ في صورة "تعويضية"، إي صرفها على غير الأصل الموسيقي المباشر المعلوم، إعتماداً على منهج تتالي الصور الشعرية في العمل ذاته، وبالتالي فإن القفز إلى القول بأن هذه المطالعة قد عمدت إلى التنظير إلى "قصيدة النثر العربية" على غير قاعدة ، هو قول يفتقر
إلى دعائم وأدلة ، وهو يجافي الحقيقة دون ريب.
بل لقد ذهبنا إلى القول في ذات الموضع ، أن َّ هذه القدرة تجعل من الشاعر أقدر على الاسهاب في كتابة الرواية الشعرية –لو أرادها ، طالما هو مكتسب لهذه القدرة على تنسيق هذه الدفقات، عطفاً على فهم تقنية الاختزان للسيطرة الشعرية، وطبعا بشرط أن تكتب هذه الرواية الشعرية، أو المسرحية الشعرية على الشكل المعلوم مسبقاً، أي الشكل العروضي الكلاسيكي وبحوره فيها، إذ لا نقصد في نهاية الأمر خلطاً جديداً على الرواية أو المسرحية كما يجري الآن على الشعر، فيأتينا أحدهم يوماً بمسرحية شعرية "نثرية" !
وعليه فإن مسألة قبول الشكل الفني الجديد لـ"قصيدة النثر العربية" على أنها ضمن أشكال الشعر العربي ، قائمةٌ ابتداءً على حصول العمل ذاته على شرط الشعرية الاصطلاحي، وليس أوجه الشعرية الدلالية أو الإيحائية، وإلا فهو خارج هذا الحيّز إلى حيّز ما بين قمتي الجبلين في وادٍ غيرِ ذي ثمر، وزرعه لا يستقيم لا نثراً خالصاً ولا شعراً مقبولاً فهو أشبه بمثالٍ لقطعة لم ينجح العمل فيها على إخراجها بشكل سليم، وهنا تأتي الحقيقة بأن مئات النصوص التي تتدفق يومياً ، سواء عبر شبكة المعلوماتية العالمية، أم عبر ملازم دور النشر العربية ، لا تمت إلى الشعر بصلة ويصرّ مع ذلك مجترحوها على لصق صفة "الشعر" بها !
تعويض "التعويض"
لقد بات في روع بعض من يحاول نتاج "قصيدة النثر العربية" عن دراية أو غير دراية، ، أن فتح المجال أمام محاولاته هذه بخفض شدة العتبة في شرط الموسيقى المباشرة، إلى قبول "التعويض" عنها باستخدام أدوات الصورة الشعرية، وتنسيقها تنسيقاً يفضي إلى الحصول على غاية الموسيقى منها، إنما هو طريق
سهل المرتقى ومدخلٌ يسير الولوج، مع أنَّ الحقيقة أن ذلك إنما هو موضع صعوبة وغلق، لا ينفتح بسهولة ويسر حتى لمن حذق هذا وكانت له فيه دربة، وحدث أن قلنا غير مرّة ٍ أن إنتاج "قصيدة النثر العربية" مسألة ليست بالسهلة، بل هي في حقيقة الأمر مسألة معقّدة وشائكة، وتوقّعنا أن يؤخذ مثل هذا التحذير
على محمل الجدّ، إلا أنَّ ما يفجع ويروّع أن الناس قد ترجمت شارةً حمراء واضحة، على أنها خضراء فاقعة ، فنحت منحيَيْن: أما الأول منهما :- فذهب إلى حدود جرف الشارة، وقطع الطريق غير عابيءٍ بحذر ولا بصر، لا يلوي على شيءٍ فيما يفجعك بتسطيره وتنقيطه وحذف مسافات بين بينْ، ثمَّ يأتيك طالباً منك شهادة له على حسن صنع وصنيع! ولعمري هذا ما رأينا مثله من قبل أشدّ عجباً، هو على أيِّ حال صناعة مستسهلٍ لا علاقة له من قريب أو بعيد، لا بحرفة الشعر ولا بصناعة الأدب، ناهيك عن الفنِّ والجمال فيهما.
أما الثاني منهما: - فقد نهض إلى محاولة تعويض "التعويض"، بل لعله طفق يجرِّبُ طرائق وطرقَ النّفاذ إلى وصفة سحرية تخرج العائق في التعويض المطلوب، وإن كان هذا جهد تجريب لا بأس به، ولم نكن يوماً ضد التجريب والمحاولة، إلا أنه لم يفد في تحقيق المطلوب منه، ولا أضاف شيئا ذا بال على أساس النص المكتوب، ولعلي أذكر على سبيل المثال تجربة استحضار قافية للسطر في قصيدة النثر، وهي التي قام بها شاكر لعيبي في مجموعته "الحجر الصقيلي" ، وكنت قد أشرت إلى ذلك في معرض مقالة تناولت مبكراً بعض المطبات أمام "قصيدة النثر العربية" في مقالنا "مسائل حول قصيدة النثر العربية" ، وإن كان بعض من أنكر على شاكر ذلك أنكره من باب العودة إلى شكل بعينه، فإنا نرى المحاولة في إطار السعي إلى اجتلاب تعويض ما عن الشرط الموضوعي، وظني أنها لم تفلح من هذا الباب وليس من أيِّ بابٍ آخر.
في مقابل تجارب الجنوح إلى التعويض بالقافية وهي أحد أشكال الموسيقية المباشرة، وجدنا من يحاول التعويض هذا عن طريق "اللغة" وعلاقات المفردات، وهذه المحاولة التعويضية تنسب لعدة أسماء لا يتسع المجال لتعدادها وتكفي الإشارة إلى تجارب بول شاؤول وسركون بولس ، والقول بأن الجدة في الأمر إنما هو عن طريق محاولة الأنساق في اللغة، هي عبارة عن مشروع ضياع أكثر منه مشروع جدي ، وهكذا وصلت ببعض المحاولات أن ألقت على السطوح البيضاء والشاشات الاليكترونية، كماً من الهذر والاختلاطات العجيبة التي جعلت الطريق أمام أجيالٍ جديدة، تحاول البحث والتجريب عبر التقليد مقفلاً بالألغام والسرابيات.
كنا نأمل أن نسمع شيئاً لافتاً، سواء إبان تنظيم مؤتمر"قصيدة النثر لعربية" ، قبل عدة أشهر أو بعد ذلك بقليل ، حتى يمكن الوقوف على ما يمكن أن يتاح من مراجعة لهذا الملف، إلا أن الخيبة كانت المحصلة الوحيدة المتفق
عليها كنتيجة لهذا، "قصة الشعر لم يبدأ بعد" في "قصيدة النثر العربية "، أو شعار "التدمير هو هدفها" هي مجرّد تعويمات سلبية لواقع مرير، وفي ظني أن محاولات الأقلمة والقطرنة في هذا الملف، كبدعة استحداث خواص تختلف عن غيرها لمنطقة أو لإقليم عربي دون غيره، هي أخرى عملية هروب كبيرة تمارس علناً، فأين تحققت سمات "قصيدة النثر العربية" أولاً بالكليات، حتى يمكن تصنيف قصيدة النثر المغربية" و"قصيدة النثر العراقية" و"قصيدة النثر المصرية" و"قصيدة النثر الشامية " تالياً ؟ أي ترف ممجوج في هذه التقليعات الفارغة من المضمون؟ إن الثابت الراسخ حتى الآن وبعد أكثر من نصف قرن من المحاولة في هذا الإطار أن "قصيدة النثر العربية" لا زالت مجرّد اقتراح ينظّر لبقائه بحق فقط "قوة الممكن" بأن تتيح له فرصة للانتقال إلى المشروعية، إنه عملية دون مشروعية حقيقية ولا يجوز الاستهانة بهذا الأمر!
الأوروبي موجود ، فأين العربي ؟!
إن استحضار النصوص المتقاطرة من السماء على مدار الساعة، أشبه بالمقذوفات ومحاولة فرزها ، وهي التي أتت مقدّمة على أساس أنها أوراق اعتماد "لقصيدة النثر العربية" ، في المشهد الثقافي العربي ، يمكن من خلالها الوقوف على حجم عملية الخديعة الحاصلة، فنسبة ترقى إلى أكثر من تسعين بالمائة منها، هي
مجرّد تخريب بوعي أو دون وعي، ليس على اللغة والأدب والمشروع الثقافي العربي فحسب، بل هي في جوهر البداية تخريب على الإذن المعطى "لقصيدة النثر العربية" ، لتأخذ حقها في التجاربية والتجريب، خطوة في طريق إثبات مشروعيتها الأدبية العربية، لازمة ولا مجال للقفز عنها، بينما تأتي هذه النصوص المدمّرة لجوهر ما هي محمولة على أساسه، دون ذرة إحساس من صانعيها بنوعية الإجرام المقترف!
أما النسبة الناجية من هذه النصوص، فهي أقرب إلى النموذج الأوروبي لقصيدة النثر ، منه إلى ما يراد من شرعنة وتقعيد "لقصيدة نثر عربية" ، وإذا كانت الحكاية هي مجرَّد التماهي مع النموذج الآخر، فليكتب احبتنا هذه النصوص بذات اللغة الأوروبية، على الأقل سيكونون أكثر صدقاً مع أنفسهم، ومع ما يحاولون!، هل يمكن القول إن هناك نماذج حقيقية وصلت "لقصيدة نثر عربية " ؟
نعم يمكن القول بهذا ولكنها وصلت من غير تكريس، ولا هي قدّمت لتكون نواة مشروع "قصيدة النثر العربية"، وبالتالي لم تستغل هذه الفرصة في افتتاح مؤتمر لتبني منهجها واحدة متسقة، وبدلاً من ذلك يتم الاحتفاء بالنماذج الأوروبية على أنها هي مقياس "الشعر القادم " والموعود لقصيدة النثر العربية، أيُّ شجاعة هي هذه وأيُّ ريادة!
الواقع أن الجريمة مشتركة، ليس فقط بأوزارها عند بعض مجترحي مشروع إنتاج "قصيدة النثر العربية"، بل إن المشاركة أيضا تأتي من مراجع ثقافية وأدبية عربية ، لا تقف عند وسائل الإعلام والنشر، بل تتخطاها إلى النقد الصامت فضلاً عن النقد المواكب لهذه العملية، والضرورة إلى بحث جدي عبر برنامج إنقاذ أدبي لمشروع "قصيدة النثر العربية" أصبحت واجبة أكثر من أيِّ وقت مضى، أما أن يكون هذا المشروع أشبه ببقية المشاريع العربية الأخرى، سواء في الاجتماع أم الاقتصاد أم السياسة، فإن مسألة الانتظار والاتكالية ليست في حقيقة الأمر أكثر من أداة "التدمير" الحقيقة لهذه الفكرة من أساسها.
الإلقاء بشمّاعات العملية التربوية العربية، وطبيعة التعليم العربي في طريق التعليل، لصفرية النتاج في هذا المشروع حتى الساعة، ليست مجدية في ظننا ولا هي مؤجلة نتيجة متوقعة، والدوران في حلقات التنظير من جديد أيضا ليس باباً إلا لاستهلاك المزيد من وقت ثمين، والخدر إلى موهومة الحلول الديالكتيكي في القصة، مجرّد نكتة سمجة تردادها لا يزيد الجمهور إلا ضحكاً على ملقيها، وبنفس الوقت فإن اللامبالاة والتسيّب القائم على عواهنه بحيث يختلط الحابل بالنابل، وتختلط المشاريع والأسماء التي لها "فرص بالممكن" مع محاولات
تلامذة الإنشاء، هي عبارة القيام الطوعي بنزع رادارات الأهداف ذاتياً، فهل يصحُّ هذا في منطق الأشياء؟!
دونَ مراء فإن الثقوب السوداء المتوفرة ، هي أكبر من أن تغطّى،وإن كان هناك من ضرورة فلتكن على الأقل بلواصق عربية، يعني ذنب أخفُّ من ذنب، أما أن تبقى القضية على هذا النحو، فإن سقوط هذه التجربة، "لقصيدة نثر عربية" ، أصبح مجرّد مسألة وقت.
أيمن اللبدي الخميس، 15 فبراير 2007 04:07 نقد ومراجعات - نقد وتحليل
إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقويم القُرّاء: / 0
الأسوأالأفضل
Imageأبدأ بما انتهيت إليه قبل سنوات في شأن "قصيدة النثر العربية" ، والذي جاء ملخصه الجديد في مطالعة عامة عبر مقال "الموسيقى الداخلية في النص الأدبي"، وهو الذي نشر مؤخراً ضمن كتاب "الشعرية والشاعرية " ، والذي انتهينا فيه إلى ضرورة عدم الحكم على "النسيقة" أو "قصيدة النثر العربية" طالما أن التجربة لا زالت متاحة بفعل قوة "الممكن"، وفي حقيقة الأمر فإن مساحة عدة سنوات ليست بفترة كافية أمام قوة "الممكن" لتقدّم دليلها، بيد أن كماً مهولا ً من النصوص التي تدفقت من كلّ حدبٍ وصوب، جعل القلق يفضي إلى مساحات جديدة، ومنافذ رؤيا أقرب إلى تحديد ماهية مخاوف َ مشروعةٍ، لا بدَّ من التنبيه إليها، وهذا كان أحد الأسباب التي حضرت منبهةً الخاطر لما استدعى مثل هذه البرقية العاجلة.
من الأسباب الأخرى بضع أسئلة وردت إليَّ تعقيباً على ما جاء حول جزء "قصيدة النثر العربية" من بعض القراء الكرام لهذا الكتاب، ومنها أيضاً صورة ما وصلت إليه بعض النقاشات التي دارت بيننا ، وبين بعض الأصدقاء تعقيباً على ذات المسائل، وهذه كلها في ظني تنهض جملةً أسباباً كافيةً لرزمها كتلةً واحدةً، ومن ثمّ التفصيلُ بشأنها في هذا المقام كي يصبح ممكناً الوقوف على وضع الخطّ الفاصل بينَ القول وبين تحميله ما لم يقله، وظني أن مثل ذلكَ لا شك حق طبيعي للكاتب والباحث مثلما هو حق ٌ لصاحب المسألة والمصلحة في الظفر
بالكرْم وما حوى، وليس مقاتلة النواطير من حوله ، واختلاق مختلقاتٍ لا علاقة لها نتائجَ ولا مقدماتٍ بالمنهج العلمي والموضوعية في شيء، اللهمَّ إلا مظافرة ما واقع النفس من هوىً في المرغوبِ ، وملاكئتها في بغضٍ
للمكروه فيها، وتحميل الأمر ما لا ينفذ له محتمِلاً أو يصحُّ محتَمَلاً !
أما البدايةُ في جملة جلاء القول في هذا الشأن ، فهي أنَّ ما جاء في هذا المبحث من التطبيق ، استناداً إلى ما تقدّم في ذات المدونة من أولها، قائمةٌ أصوله وركائزه من حيث الموقف من شعرية "قصيدة النثر العربية" أو ما
استنسبنا لها من اسمٍ أثبتناه هناك باسم "النسيقة" ، إنما هي في الاعتماد الكلي على شروط الفصل بين فنيِّ القول: النثر وأشكاله المتعددة، والشعر وأشكاله المنفتحة، بدايةً غير منسوخة ولا متناقضة، وشروط الفصل هذه اثنان:
- أولها تحقق شرط الموسيقى تحققاً كاملاً ، وثانيها :- تحقق شرط الاستجابة لدى المتلقي على أنواعه، وبلا شك المتلقي غير المفترض أجدر بالركون إليه في ذلك مرتبةً ، فهو أساس عملية التلقي بعكس المفترض –الناقد- لأنه في مرحلة ما أصبح جزءاً من العملية الأدبية .
وأذكّر بأن الاسم الذي استنسبناه أي "النسيقة" لـ "قصيدة النثر العربية" ، إنما ارتكز في اشتقاقه إلى الشرط الأول ، على اعتبار قدرة الشاعر المفترضة والموطِّئةِ له بأن يأتي بأنساق "موسيقية" متتالية ، يمكنه تقطيعها
والتحكُّّّم باختزانها ، وإن كان ذلكَ في صورة "تعويضية"، إي صرفها على غير الأصل الموسيقي المباشر المعلوم، إعتماداً على منهج تتالي الصور الشعرية في العمل ذاته، وبالتالي فإن القفز إلى القول بأن هذه المطالعة قد عمدت إلى التنظير إلى "قصيدة النثر العربية" على غير قاعدة ، هو قول يفتقر
إلى دعائم وأدلة ، وهو يجافي الحقيقة دون ريب.
بل لقد ذهبنا إلى القول في ذات الموضع ، أن َّ هذه القدرة تجعل من الشاعر أقدر على الاسهاب في كتابة الرواية الشعرية –لو أرادها ، طالما هو مكتسب لهذه القدرة على تنسيق هذه الدفقات، عطفاً على فهم تقنية الاختزان للسيطرة الشعرية، وطبعا بشرط أن تكتب هذه الرواية الشعرية، أو المسرحية الشعرية على الشكل المعلوم مسبقاً، أي الشكل العروضي الكلاسيكي وبحوره فيها، إذ لا نقصد في نهاية الأمر خلطاً جديداً على الرواية أو المسرحية كما يجري الآن على الشعر، فيأتينا أحدهم يوماً بمسرحية شعرية "نثرية" !
وعليه فإن مسألة قبول الشكل الفني الجديد لـ"قصيدة النثر العربية" على أنها ضمن أشكال الشعر العربي ، قائمةٌ ابتداءً على حصول العمل ذاته على شرط الشعرية الاصطلاحي، وليس أوجه الشعرية الدلالية أو الإيحائية، وإلا فهو خارج هذا الحيّز إلى حيّز ما بين قمتي الجبلين في وادٍ غيرِ ذي ثمر، وزرعه لا يستقيم لا نثراً خالصاً ولا شعراً مقبولاً فهو أشبه بمثالٍ لقطعة لم ينجح العمل فيها على إخراجها بشكل سليم، وهنا تأتي الحقيقة بأن مئات النصوص التي تتدفق يومياً ، سواء عبر شبكة المعلوماتية العالمية، أم عبر ملازم دور النشر العربية ، لا تمت إلى الشعر بصلة ويصرّ مع ذلك مجترحوها على لصق صفة "الشعر" بها !
تعويض "التعويض"
لقد بات في روع بعض من يحاول نتاج "قصيدة النثر العربية" عن دراية أو غير دراية، ، أن فتح المجال أمام محاولاته هذه بخفض شدة العتبة في شرط الموسيقى المباشرة، إلى قبول "التعويض" عنها باستخدام أدوات الصورة الشعرية، وتنسيقها تنسيقاً يفضي إلى الحصول على غاية الموسيقى منها، إنما هو طريق
سهل المرتقى ومدخلٌ يسير الولوج، مع أنَّ الحقيقة أن ذلك إنما هو موضع صعوبة وغلق، لا ينفتح بسهولة ويسر حتى لمن حذق هذا وكانت له فيه دربة، وحدث أن قلنا غير مرّة ٍ أن إنتاج "قصيدة النثر العربية" مسألة ليست بالسهلة، بل هي في حقيقة الأمر مسألة معقّدة وشائكة، وتوقّعنا أن يؤخذ مثل هذا التحذير
على محمل الجدّ، إلا أنَّ ما يفجع ويروّع أن الناس قد ترجمت شارةً حمراء واضحة، على أنها خضراء فاقعة ، فنحت منحيَيْن: أما الأول منهما :- فذهب إلى حدود جرف الشارة، وقطع الطريق غير عابيءٍ بحذر ولا بصر، لا يلوي على شيءٍ فيما يفجعك بتسطيره وتنقيطه وحذف مسافات بين بينْ، ثمَّ يأتيك طالباً منك شهادة له على حسن صنع وصنيع! ولعمري هذا ما رأينا مثله من قبل أشدّ عجباً، هو على أيِّ حال صناعة مستسهلٍ لا علاقة له من قريب أو بعيد، لا بحرفة الشعر ولا بصناعة الأدب، ناهيك عن الفنِّ والجمال فيهما.
أما الثاني منهما: - فقد نهض إلى محاولة تعويض "التعويض"، بل لعله طفق يجرِّبُ طرائق وطرقَ النّفاذ إلى وصفة سحرية تخرج العائق في التعويض المطلوب، وإن كان هذا جهد تجريب لا بأس به، ولم نكن يوماً ضد التجريب والمحاولة، إلا أنه لم يفد في تحقيق المطلوب منه، ولا أضاف شيئا ذا بال على أساس النص المكتوب، ولعلي أذكر على سبيل المثال تجربة استحضار قافية للسطر في قصيدة النثر، وهي التي قام بها شاكر لعيبي في مجموعته "الحجر الصقيلي" ، وكنت قد أشرت إلى ذلك في معرض مقالة تناولت مبكراً بعض المطبات أمام "قصيدة النثر العربية" في مقالنا "مسائل حول قصيدة النثر العربية" ، وإن كان بعض من أنكر على شاكر ذلك أنكره من باب العودة إلى شكل بعينه، فإنا نرى المحاولة في إطار السعي إلى اجتلاب تعويض ما عن الشرط الموضوعي، وظني أنها لم تفلح من هذا الباب وليس من أيِّ بابٍ آخر.
في مقابل تجارب الجنوح إلى التعويض بالقافية وهي أحد أشكال الموسيقية المباشرة، وجدنا من يحاول التعويض هذا عن طريق "اللغة" وعلاقات المفردات، وهذه المحاولة التعويضية تنسب لعدة أسماء لا يتسع المجال لتعدادها وتكفي الإشارة إلى تجارب بول شاؤول وسركون بولس ، والقول بأن الجدة في الأمر إنما هو عن طريق محاولة الأنساق في اللغة، هي عبارة عن مشروع ضياع أكثر منه مشروع جدي ، وهكذا وصلت ببعض المحاولات أن ألقت على السطوح البيضاء والشاشات الاليكترونية، كماً من الهذر والاختلاطات العجيبة التي جعلت الطريق أمام أجيالٍ جديدة، تحاول البحث والتجريب عبر التقليد مقفلاً بالألغام والسرابيات.
كنا نأمل أن نسمع شيئاً لافتاً، سواء إبان تنظيم مؤتمر"قصيدة النثر لعربية" ، قبل عدة أشهر أو بعد ذلك بقليل ، حتى يمكن الوقوف على ما يمكن أن يتاح من مراجعة لهذا الملف، إلا أن الخيبة كانت المحصلة الوحيدة المتفق
عليها كنتيجة لهذا، "قصة الشعر لم يبدأ بعد" في "قصيدة النثر العربية "، أو شعار "التدمير هو هدفها" هي مجرّد تعويمات سلبية لواقع مرير، وفي ظني أن محاولات الأقلمة والقطرنة في هذا الملف، كبدعة استحداث خواص تختلف عن غيرها لمنطقة أو لإقليم عربي دون غيره، هي أخرى عملية هروب كبيرة تمارس علناً، فأين تحققت سمات "قصيدة النثر العربية" أولاً بالكليات، حتى يمكن تصنيف قصيدة النثر المغربية" و"قصيدة النثر العراقية" و"قصيدة النثر المصرية" و"قصيدة النثر الشامية " تالياً ؟ أي ترف ممجوج في هذه التقليعات الفارغة من المضمون؟ إن الثابت الراسخ حتى الآن وبعد أكثر من نصف قرن من المحاولة في هذا الإطار أن "قصيدة النثر العربية" لا زالت مجرّد اقتراح ينظّر لبقائه بحق فقط "قوة الممكن" بأن تتيح له فرصة للانتقال إلى المشروعية، إنه عملية دون مشروعية حقيقية ولا يجوز الاستهانة بهذا الأمر!
الأوروبي موجود ، فأين العربي ؟!
إن استحضار النصوص المتقاطرة من السماء على مدار الساعة، أشبه بالمقذوفات ومحاولة فرزها ، وهي التي أتت مقدّمة على أساس أنها أوراق اعتماد "لقصيدة النثر العربية" ، في المشهد الثقافي العربي ، يمكن من خلالها الوقوف على حجم عملية الخديعة الحاصلة، فنسبة ترقى إلى أكثر من تسعين بالمائة منها، هي
مجرّد تخريب بوعي أو دون وعي، ليس على اللغة والأدب والمشروع الثقافي العربي فحسب، بل هي في جوهر البداية تخريب على الإذن المعطى "لقصيدة النثر العربية" ، لتأخذ حقها في التجاربية والتجريب، خطوة في طريق إثبات مشروعيتها الأدبية العربية، لازمة ولا مجال للقفز عنها، بينما تأتي هذه النصوص المدمّرة لجوهر ما هي محمولة على أساسه، دون ذرة إحساس من صانعيها بنوعية الإجرام المقترف!
أما النسبة الناجية من هذه النصوص، فهي أقرب إلى النموذج الأوروبي لقصيدة النثر ، منه إلى ما يراد من شرعنة وتقعيد "لقصيدة نثر عربية" ، وإذا كانت الحكاية هي مجرَّد التماهي مع النموذج الآخر، فليكتب احبتنا هذه النصوص بذات اللغة الأوروبية، على الأقل سيكونون أكثر صدقاً مع أنفسهم، ومع ما يحاولون!، هل يمكن القول إن هناك نماذج حقيقية وصلت "لقصيدة نثر عربية " ؟
نعم يمكن القول بهذا ولكنها وصلت من غير تكريس، ولا هي قدّمت لتكون نواة مشروع "قصيدة النثر العربية"، وبالتالي لم تستغل هذه الفرصة في افتتاح مؤتمر لتبني منهجها واحدة متسقة، وبدلاً من ذلك يتم الاحتفاء بالنماذج الأوروبية على أنها هي مقياس "الشعر القادم " والموعود لقصيدة النثر العربية، أيُّ شجاعة هي هذه وأيُّ ريادة!
الواقع أن الجريمة مشتركة، ليس فقط بأوزارها عند بعض مجترحي مشروع إنتاج "قصيدة النثر العربية"، بل إن المشاركة أيضا تأتي من مراجع ثقافية وأدبية عربية ، لا تقف عند وسائل الإعلام والنشر، بل تتخطاها إلى النقد الصامت فضلاً عن النقد المواكب لهذه العملية، والضرورة إلى بحث جدي عبر برنامج إنقاذ أدبي لمشروع "قصيدة النثر العربية" أصبحت واجبة أكثر من أيِّ وقت مضى، أما أن يكون هذا المشروع أشبه ببقية المشاريع العربية الأخرى، سواء في الاجتماع أم الاقتصاد أم السياسة، فإن مسألة الانتظار والاتكالية ليست في حقيقة الأمر أكثر من أداة "التدمير" الحقيقة لهذه الفكرة من أساسها.
الإلقاء بشمّاعات العملية التربوية العربية، وطبيعة التعليم العربي في طريق التعليل، لصفرية النتاج في هذا المشروع حتى الساعة، ليست مجدية في ظننا ولا هي مؤجلة نتيجة متوقعة، والدوران في حلقات التنظير من جديد أيضا ليس باباً إلا لاستهلاك المزيد من وقت ثمين، والخدر إلى موهومة الحلول الديالكتيكي في القصة، مجرّد نكتة سمجة تردادها لا يزيد الجمهور إلا ضحكاً على ملقيها، وبنفس الوقت فإن اللامبالاة والتسيّب القائم على عواهنه بحيث يختلط الحابل بالنابل، وتختلط المشاريع والأسماء التي لها "فرص بالممكن" مع محاولات
تلامذة الإنشاء، هي عبارة القيام الطوعي بنزع رادارات الأهداف ذاتياً، فهل يصحُّ هذا في منطق الأشياء؟!
دونَ مراء فإن الثقوب السوداء المتوفرة ، هي أكبر من أن تغطّى،وإن كان هناك من ضرورة فلتكن على الأقل بلواصق عربية، يعني ذنب أخفُّ من ذنب، أما أن تبقى القضية على هذا النحو، فإن سقوط هذه التجربة، "لقصيدة نثر عربية" ، أصبح مجرّد مسألة وقت.