منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    قراءة أسلوبية في مخطوط عماني قديم

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    قراءة أسلوبية في مخطوط عماني قديم Empty قراءة أسلوبية في مخطوط عماني قديم

    مُساهمة   السبت مارس 13, 2010 6:23 am

    حروفي مكتوبة بنصل خنجرٍ مغموس في دمي
    قراءة أسلوبية في مخطوط عماني قديم

    كتبهاناصر أبو عون ، في 24 سبتمبر 2007 الساعة: 04:22 ص

    قراءة أسلوبية في مخطوط عماني قديم

    ( همزية الشكيليّ في رثاء الرشيدي )

    جمالية الإيقاع وتجليات الدلالة

    ناصر أبو عون - جريدة عمان - ملحق شرفات الأدبي

    * قراءة تاريخانية

    تتصدر شعرية الرثاء خلفية اللوحة الكلاسيكية العُمانية حيث نشاهد جلّ الشعراء ينحرون كلماتهم ، ويعتصرون مآقيهم على مذبح الفجيعة التي ألمت بهم جراء فقدهم لحبيب أو قائد لبيب ؛ ومن ثمََّ يتعقبون جميل صفاته ، وعظيم أفعاله ، وحزن الكائنات والليل والسماء والأرض على افتقاده.

    وينقسم شعر الرثاء العُمانيّ في هذه المرحلة إلى نوعين من الشعر : شعر يتوجه بالرثاء إلى الأهل والأحبة والأصدقاء وشعر يتوجه إلى قادة الأمة ورجالها العظام الذين فُقدوا في فترة كفاحهم ضد الاستعمار والتخلف.

    غير أن كافة النصوص التي بزغت في أربعينيات القرن الماضي من القرن العشرين تؤول شكلا ومضمونا على نهج القدماء والسير على هداهم في نحت الصورة وقَدّ المعاني من حجارة اللغة التراثية وتكبح جماح العواطف ، وتستبريء من الخيال المجنح أو حتى الغموض الرمزي .

    ورغم أن شعراء هذا الاتجاه عاشوا فترة قيام النهضة وشهدوا مسيرتها وتطورها والتحولات السياسية والثقافية والفكرية والاقتصادية التي جلبتها هذه النهضة طيلة السنوات الماضية ، لم يكن من الميسور أن يطفر الشعر طفرة مفاجئة فيساير ما جدّ على الساحة الشعرية في الأقطار العربية الأخرى ؛ ـ وبتعبير د. ماهر حسن فهمي ـ ظل بعض الشعراء مرتبطين بالشعر الكلاسيكي نتيجة لنشاتهم الدينية وثقافتهم التقليدية وارتباطهم الوثيق بالقصيدة العربية القديمة ولذا نجد حضورا ضافيا لأساليب هذا الاتجاه فتبدو صفة الغيريّة والابتعاد عن الذاتية واضحة جليّة في أكثر قصائد هذا الاتجاه وبخاصة في قصائد الرثاء.

    وربما ترجع هذه الغيريّة في نظر الدكتور عبد القادر القط إلى رغبة الشاعر في أن يكون موضوعيا ، يجرد من نفسه صوتا غيريا يعبر عن قضايا العصر وكأنه يتحدث باسم الناس دون أن تمر التجربة خلال ذاته فتتميز بأسلوب شخصي خاص.

    · الغيريّة وإشكالية التلقي

    في معرض بحثنا في كلاسيكيات الشعر العماني على امتداد مائة قرن ونصف مدى أسقطت دراما المصادفة في أيدينا بكائية / لوحة رثائية مخطوطة لشاعر عماني يدعى محمد بن عيسى الشكيلي نراه يتحلل من صفة الغيرية ويعبر عن تجربة رثائية ذاتية يمررها عبر الأوردة الجوانية للروح ويسري بها في ممرات الوجدان ويعرج بها إلى أفق الكتابة في نسق إيقاعي جمالي قالها في راشد بن سالم الرشيدي أحد أعيان منطقة ( السويق ) وهذا النص يحيلنا إلى حكم بدهي وهو أنه من الظلم أن نحكم على ثقافة شعراء هذا العصر الكلاسيكي بمقتضى ثقافتنا وقيم عصرنا المابعد حداثي ( فإن كنا نعشق التكثيف شعورا وعاطفة ولفظا فإن طبيعة المرحلة الكلاسيكية صبغت مشاعرهم بلمعة البرق ووثبة الفرس ورغاء الإبل فجاءت كلماتهم محمولة على إيقاع سريع خاطف ونفس قصير مضفور بعاطفة تنافي التعقيد ومغلفة بالبساطة .

    وعلى الجانب الآخر من الضفة كان يقف المتلقي يحيا الحياة نفسها لا يألو اهتماما بالصنعة الشعرية ولا الحرفة الفنية يعشق البساطة والفطرة التي جلب عليها يقدس الارتجال الكلمات التي تسيل من ألسنة الشعراء شهدا يسري في آذانهم نغما يروي عطش الروح .

    وعبر هذه البساطة والفطرة المورقة في جبال عمان وسهولها تلقى جمهور منطقة السويق همزية الشكيلي في رثاء كبير أعيانهم راشد بن سالم الرشيدي والتي أطل عليهم بها عبر مجموعة من القيم الجمالية والجمل الإيقاعية يمكننا الولوج إليها من خلال دراسة النص عبر رؤس ثلاث زوايا تتمثل في : ( البنية الإيقاعية والأسلوب والصورة الفنية ).

    وفي هذه الحال لابد أن تكون الأسئلة مشرعة على باب القصيدة ونحن أمام خيارين لا ثالث لهما : الأول ويتمحور حول مدى إمكانية البحث في النص عما يقوله النص بالإحالة على نسقه السياقي أو بالإحالة على وضع أنسقة الدلالة التي يحيل عليها ؟ والآخر وهو المفضل لدى صاحب ( جمالية الإيقاع في المعلقات ) والذي يؤسس للبحث في النص عما يجده المتلقي بالإحالة على انساق دلالية / أو بالإحالة على رغباته أو قابلية ميوله أو مشيئاته الممكنة .

    ومن ثَمَّ تطل إشكالية ( التلقي ) والتي ارتبطت في فترة غائرة من تراثنا العربي وخاصة بعد انتشار الفتوح وتمازج الثقافات بعدة بواعث وتحولات ثقافية ولّدت في الشعرية العربية أنماطا جديدة وصراعات فنية ومذهبية وسياسية وفكرية وعقائدية ، وأصبحت استجابة المتلقي في بعض المواضع رهنا بهذه الانتماءات والنوازع ، وهذا التلقي يختلف عن تحزب المتلقي لقبيلته ولشاعرها ؛ ( فالتلقي القديم قائم على علاقة الدم والعصبية أما التلقي الجدي في بعض أنماطه قائم على روابط أخرى .

    وقد أوجد هذا التطور وضعا جديدا على مستوى التلقي رصده المرزوقي ( 421هـ) حيث أشار إلى انقسام الناس ( المتلقين ) على قسمين رئيسين : أصحاب الطبع وأصحاب الصنعة .

    غير أن همزية الشكيلي قد نسفت الحواجز وجَسَرت الهوة الشاسعة بين شعرية الطبع والصنعة حتى أضحى المتلقي يحتضن عفويتها وبساطتها بروحه ووجدانه ويشيد بصنعتها بميزان عقله ومقياس فنه .

    وبالتعريج على بعض العناصر الأسلوبية والتعبيرية في النص وبخاصة العناصر الصوتية أو السمات اللفظية التي تأتلف منها ( الوحدة الشعرية / البيت ) وبتعبير أكثر كثافةً القيام بعملية قراءة استنطاقية لهمزية الشكيلي في رثاء الرشيدي والدخول إلى تخوم ( الإيقاع الداخلي ) لقصيدة الشكيليّ في رثاء الرشيدي والتي لم يكن فيها الإيقاع اعتباطي التركيب بل ( ينهض على نظام صوتي موظف عبر النسيج الشعري بحيث نجد ( الدال ) ـ وهو السمة التي تمثل الصوت ـ يحيل على المدلول ؛ والمدلول يحيل على الدال في انتظام وانسجام وتناسق والتحام .



    · الإيقاع الداخلي



    يُقصد بالإيقاع الداخلي تلك العناصر الصوتية أو السمات اللفظية التي تأتلف فيها الوحدة الشعرية ( البيت ) ومن ثَمَّ نعتقد بأن عيسى الشكيلي اختار الهمزة المضمومة والمسبوقة بمد إيقاعا خارجيا أو رويًّا كان بدافع الرغبة الصارمة في إشباع النفس الشعرية من البكائية الدالة على الحزن العميق والمتدفق من عمق الروح على فقده لصديقه وولي نعمته سالم الرشيدي وهو حزن ممزوج بالتحفز والاستعلاء على كل الصغائر متجرد من النفاق والرغبة في التكسب وجاءت الهمزة إشباعا للصوت وإثراء للنغم الشعري الدافق ومحاولة لتحويل الحاضر إلى مستقبل أو محاولة تطلع من جانب الشاعر للتخلص من عناء هذا الفراق القدريّ لصديقه وبناء حياة جديدة على نموذج قيمي كان يدعو إليه سالم الرشيدي ودال على الطموح في بناء عالم من الفردوس الأرضي مماثلا للفردوس الذي ذهب إليه الفقيد وهو ما تعبر عنه الهمزة في اختتامها لمنغومة الأصوات داخل البيت الأول وداخل القصيدة كلها مجسدة الحلم المستقبلي في بناء جنة أرضية تمثلا لقاعدة ( النسج بلورة للمضمون والدال معادل للمدلول والظاهر ترجمة للباطن ) .

    وتشكل مجموعة ( الأصوات المفتوحة والممدودة وغير الممدودة ) حالة الزمن المنقطع والماضي المندحر والمس المندثر الذي عاشه الشاعر في كنف الفقيد أو دال على بكائية الشاعر للفردوس القديم / الحياة المنقضية في أرض عمان في تلك الفترة من الزمن وهو ما يشي بأن الشاعر قد وقع أسيرا لصورة الممدوح الفقيد ومنظومته القيمية ورؤيته لمنطق الأشياء فأسقط من ذاكرته الحاضر وأغمض عينيه عن رؤية المستقبل وعاش أسيرا للماضي بكل صوره وقناعاته.

    وما يؤكد هذه الرؤية استخدامه لحرف الروي ( الهمزة المضمومة ) والتي تشي لنا بأن الشاعر يرمي بكل شيء إلى الخارج ويطيح بكل القيم الدلالالية نحو العدم وينهض إيقاعه على الإحالة على ماض قريب فيبدو وكأنه حاضر ملفوف عليه .



    · التحليل الأسلوبي للنص



    نسعى هنا إلى الكشف عن مستويات النص ودلالات المتن والاتكاء على موت المؤلف واتخاذه ذريعة لاستكناه آفاق الكتابة والانفتاح على النص من بوابة الأسلوبية بوصفه قابلا للتأويل والقراءة المتعددة وسبر أغواره عبر ثلاث مستويات ( صوتيا وتركيبيا ودلاليا ) :

    أولا ـ الإيقاع الصوتي :

    ونسعى من خلاله إلى دراسة كافة العناصر الصوتية من تكرار وحذف وحسن تقسيم وتقطيع وصمت إلخ

    ( أ ) إيقاع حُسن التقسيم : حسن التقسيم : هو بناء البيت الواحد على عدة جمل متساوية وزنا وموسيقى ويصنع إيقاعا داخل بنية النص موازيا للإيقاع الخارجي ويتفق مع السجع في وظيفته على رتابة النثر الاعتيادي التنبيه بتحقق شرط ( أبو هلال العسكري ) بأن يسلم من التكلف ويبرأ من التعسف ويسمح بمرور المعاني مقرونة بالمباني فتخترق الآذان وتصل إلى الوجدان فتسمو الأفهام.

    ( ب ) ثنائية الكلام / الصمت : وحاصل الجمع بينهما يصنع طباقا صوتيا وتحيل القاريء / السامع لعملية إدراك نفساوي أثناء عملية إلقاء النص وتغير وتيرة الإلقاء ارتفاعا وانخفاضاوباعتقاد فاضل عبود التميمي أن الأصوات الإشارية أو الإيمائية تؤدي وظيف الصمت نفسه والحلات التي يعمد فيها الإنسان على الصمت ليظهره في أشكال سيميائية تمثل دلالة غير منطوقة لكنها ناطقة بصمتها مثل ( أصوات الأشياء )

    ( ج ) تقنية الحذف : وهي تعمد الشاعر إسقاط كلمة ( الفاعل / المفعول / المبتدأ / الخبر / الفعل الناسخ إلخ ) لمسوغات بلاغية وهو أحد أركان الإيجاز الذي يقوم بقطع الدلالة ووصلها مع الخضوع لاتساع دائرة التأويل والتفسير ، ولكنه وسيلة للهروب من التصريح وإقصاء متعمد من جانب الشاعر لكثير من الدلالات المفضوحة والعارية والتي قد يؤدي ذكرها إلى سلسلة من الانتكاسات النفسية .

    ( د ) آلية التكرار : ويحدث على مستويين ؛ تكرار الكلمة وتكرار الفكرة

    ثانيا ـ بنية وتركيب العبارة :

    يؤكد الشاعر على الاهتمام بوظيفة الخبر والإنشاء والتقديم والتأخير والمبادئ والعمليات التي تنهض بها الجمل في اللغة لتؤدي مجتمعة إلى إنتاج معنى وتلك التراكيب هي أصل الدلالة الناهض في القصيدة ، وبوصفها ظواهر أسلوبية تكررت باطراد أكثر من غيرها وعملت على إنتاج نص متميز وفي الجمل الخبرية اهتم الشاعر ببؤر تركيبية خرجت فيها اللغة إلى فضاء مجازي تتلون فيه الإيقاعات النفسية

    ثالثا ـ بناء الصورة على مستوى الدلالة :



    في هذا الاتجاه من التحليل الفني سنحاول البحث وراء تجذير الصورة الفنية والتأكيد على حضورها في همزية الشكيلي والسعي إلى إدراك طبيعتها بوعي عميق وأثرها في النص مع اهتمام بالنواحي الفنية والجمالية فيها وهذا يدحض المزاعم التي تتجنى على الشعر الكلاسيكي وتتهمه بالفقر في صوره إلا أن قراءة هذه القصيدة بعقل نقدي تفكيكي سيؤدي إلى الوصول إلى أنماط من الصورة المجازية تتكشف في خلفيتها عوامل تزيد من فاعليتها وتقوي أجزاءها وتتمتع بقدرة على إثارة صور بصرية في ذهن المتلقي وهي فكرة تعد المدخل الأول للعلاقة بين التصوير والتقديم الحسي للمعنى .

    ومن ثمّ الاتكاء على منهج عبد القاهر الجرجاني عبر محاولة الربط بين الصورة والدوافع النفسية إضافة إلى الخصائص الذوقية والحسية والنظر إلى الصورة الشعرية نظرة متكاملة لا تقوم على اللفظ وحده أو المعنى وحده بل إنهما عنصران مكملان لبعضيهما ومن ثم فعلينا تناول الصورة في ( همزية الشكيلي في رثاء الرشيدي ) من ثلاثة أركان : ( تلمس مصادر الصورة الأدبية ووسيلة خلقها ومعيار تقويمها في الواقع بأبعاده الموروثة ومقوماته الحيوية ثم هضم معاني الصورة وربطها بالنظرية الأدبية وصولا إلى تناول الصورة والتصوير في خضم البحث البلاغي ).

    والملاحظ أن الحالة الشعرية في هذه الهمزية تنتج معاني خصبة تنبثق من تطبيق القواعد البنائية تارة ومن الانحراف عنها تارة أخرى فنتج عنها احتفال بشكل المعنى وهو ما نطلق عليه ( الأسلوب ) ولكن ما يلفت النظر حقا هو إنتاج الشاعر لبنية ( التكرار ) على مستوى الإيقاع والتركيب وهو تكرار متعدد الأنماط وبتعبير الدكتور وهب رومية في دراسته للتشكيل اللغوي في شعر الأمير عبد القادر الجزائري الذي يلتقي مع شاعرنا الشكيلي في هذه الخاصية التي يعقبها تبدل وتغير ملحوظان ، وهذا ملمح شعري اصيل فالبنية الشعرية ذات طبيعة تكرارية على المستوى الشكلي والمعنوي وأول هذه الأنماط تكرار صيغة ( النداء / المفردة ) :

    أَرَاشِــــــدُ هلْ لَنـــَا فِي ذَا بَدِيـــــــلٌ أَمْ الرَّجْـوَىَ مَدَىَ الدُّنْيـــــَا هَبَــــــــــاءُ

    أراشِــــــدُ أَنْتَ قَــــدْ سَافــَرْتَ عَنَّـا وَهَيْهَاتَ الرُّجُــــــوعُ أَمْ الشِّفـــــــــــاءُ

    أَرَاشِــــــدُ قَـدْ مَضَيْتَ إِلىَ جِنَـــــانٍ بِهَــــــا حُــــــورٌ كَــــــــذَاكَ الأَوْلِيـــَاءُ

    غير أن صيغة ( البكاء ) تشكل ركيزة بنيوية في همزية الشكيلي وتفرض دلالتها على السياق في الأبيات جميعا ، وتعزز افحساس بموقف الشاعر وتعمقه ويجمع الشاعر مضمون ( البكاء ) بين مواقف عديدة جمعت بينه وبين صاحبه(الرشيدي ) ومآثر صارت ميراثا مشتركا بين كافة العمانيين وسكان محافظة السويق في ( بؤرة دلالية واحدة ) تفيض منها تجليات دعائية شتى .

    وتنهض ( الواو ) كأداة ربط صريحة في أول كل بيت بوظيفة العطف بين صيغتي ( الدعاء والبكاء ) الموحدة لا بين مضامينه ، وتجعل من الأبيات جملة دلالية واحدة ، فتقوي بذلك مفهوم البؤرة الدلالية وتغنيه .

    وعلى المستوى التركيبي يتجلى جوهر الشعر تجليا باهرا وفيه يمارس الشاعر كل شعائره السحرية محاولا أن يعيد إلى اللغة وظيفتها السحرية لتصبح انحرافا ( مجاوزةً وعدولا وانزياحًا ).

    ومن خلال بنية الضمائر نلحظ الشاعر يستعمل الضمير ( أنت ) و ( تاء ) المخاطب بكثرة في مواجهة النقيض والمضاد ( هم ) لوصف ذات ( الرشيدي ) والتي هي بمثابة المعادل الموضوعي لمنظومة القيم العمانية وبهذا يصبح فهم القصيدة وفقًا للدرس البنيوي مقاربة لفهم العالم .

    وفي مقطع آخر يذكر الشكيلي صفات صاحبه الرشيدي وباستخدام الدرس المنهجي تصبح قراءة النص إعادة خلق للواقع ومساهمة فاعلة في تشخيصه بعيدا عن الزيف ومن خلال بنية نلحظ الشاعر يستخدم خطاب الضمير الغائب ( هو ) في مقابلة الضمير المتماهي في ذهنية القارئ ( هم ) واستطاع عبر الضميرين تصوير الأمة والحركة الدؤوب لها في التشبث بالماضي أملا في تجاوز الواقع .

    والدراسة السيمولوجية تحاول أن تقرأ هذه الأبيات / الأحداث والظواهر والأشياء وتصفية اللسان مما يعلق به من رغبات ومخاوف وإغراءات وعواطف وكل ما تنطوي عليه اللغة الحية .

    فَتَىً قـَدْ عَـاشَ يَجْمَــعُ كُــلَّ شَمــــــْلٍ لَهُ فِي العِلْمِ قَدْ طَـــابَ السَّعَــــاءُ

    وَزُهْــــدٌ قـــَدْ تَلَـــقَىَ عَـــنْ مــَسِيْــحٍ وَعِفَّةُ قَيــْسٍ لَــيْسَ لَـهُ انْتِهَـــاءُ

    وَحِـــلْمُ أَبِــي دُرَيـــْدَ ثُــــمَّ رِفْـــــــــدٍ لِسَحْبَــــــانَ بِـــهِ ثُــــمَّ الصَّفَــاءُ

    وعـــاش على القنـــــاعة في زمـان وليس لــه عن الديــــــن التواء

    يبيـــــت مهلـــــلا لــله راجـــــــــي لعفـــو الله يا نعـــــــم الرجــــاء

    وهنا لابد أن نعترف أن دراستنا لهمزية الشكيلي هدمت كل الحواجز بين التأريخ الأدبي والدراسة النصية ولأننا بنيويون حتى النخاع فقد وقفنا في وجه هيمنة الدراسة التاريخية كحائط صد بمفردها أو كمنهج يحاولا الاستفراد بالنص وقمنا بتحليل النص الأدبي انطلاقا من شبكة العلاقات التي يقوم عليها داخليا ومحاولة نقل مركز الثقل في دراسة الأدب إلى داخل القصيدة بدلا من إبقائها في دائرة الظروف المحيطة .

    وبالتأمل في شبكة العلاقات التصويرية داخل ( الهمزية ) نرى وفرة في عناصر الصورة الشعرية ومهرجانيتها وهي خصلة يتفق فيها مع أمير الشعراء شوقي في التأليف استطرادا ، وهذا الاستطراد مفروض على الشاعر من قِبَل الناس وبما درجوا عليه من أخلاق وعادات ، وما شبّوا عليه من تراث وحضارة في الرأي والتصرف والسلوك .

    ولعل الشكيلي يستطرد في صوره وفاءً بحق السامع في الإقناع ، وحق الرؤية الأدبية في التعبير عنها وتحرّي الصدق في أمرها فيظن الظان به التفكك أو الخروج عن السياق .

    فالشاعر يضاعف لنا في مزايا الفقيد ( الرشيدي ) ويغالي في المغالاة ليحملنا على التسليم له في حبه والتتيم به وهو بهذه المغلاة يصيب أمرًا آخر يُفهم من السياق وهو المغالاة ـ تبعًا في مقدار حبه والصبر على فراقه والترفق بقومه على رحيله وهذه الاستطرادات لم تأت لأسباب فنية وإنما لأن الشاعر يخاف العذل ويخشى اللوم والتثريب ، وهل العذل إلا حكم المجتمع ورأي الناس في التصرف والسلوك .

    وتأتي لغة الشكيلي في همزيته وكأنها قُدّت من صخور الجبل الأخضر ورمال الوهيبي وسهول صلالة وحصى الجزيرة العربية ؛ لغة تقوم على بعث القديم من الألفاظ التي نسيها الناس وصاروا لا يحبونها ، لأنهم لا يعرفونها ، ولعلّ سرّ ذلك يرجع لإيمان الشاعر بأن البعث وسيلة من وسائل التجديد ، بل قد يكون البعث آكد وسائل التجديد نتيجة ما يوجد من أرباب اللغة ممن يفيضون على الألفاظ القديمة روحًا تكفل حياتها.

    والشكيليّ في رثائه للرشيدي يذكرنا برثاء شوقي لسعد زغلول في قصيدته التي مطلعها :

    شيّعوا الشمس ومالوا بضحاها وانثنى الشرق عليها فبكاها

    وشاعرنا يقول في مطلع همزيته لرثاء الرشيدي :

    بَكَتْ عيني وَحُـــــقَّ لَهَا البُكَـــــــــاءُ وأرضُ اللهِ تبـــــكي والسَّمـــاءُ

    وَأهــــلُ العـــَرشِ والأملاكِ تبكِـــــي لِفَقْدِ أَخـــي التُّـــــقَىَ وَالأوْلِيَـــاءُ

    فنشعر مع المطلعين الشعريين خشوعا وخضوعا في نغم الشعر مع ارتفاع النغم الشعري إلى السماء باستخدام الألفات والهاءات والهمزات المشبعة بالضم في نهاية المقاطع .

    إضافةً إلى أن المرثية تنهض دلاليا على ركائز أسلوبية تمتح من مظاهر بلاغية تؤدي وهي مجتمعة معاني هي الوجه المتقدم للغة الكاتب وهو يتوق إلى إيصالها إلى قارئ متنور أو متلق واع .

    إن تضافر دلالة المجاز بأبعاده النصيّة : التشبيهية ، والاستعارية ، والكنائية ـ بتعبير فاضل التميمي ـ فضلا عن الدلالة التناصيّة بأبعادها الدينية والأدبية والتاريخية في رثائية الشكيلي يخلق نمطًا من التفكير الشعري المبني على إشاعة خصائص الشعرية .

    ويتخذ التشبيه في القصيدة وسيلة لخلق معان جديدة وبطرائق متنوعة تتوزع بين المحاكاة والموازنة ثم القياس .. وتتخذ التشبيهات حالة من التفاعل النسقي الذي يدفع بتحول النص نفسه ( راشد غوث البرايا ) ( حفيد المجد ) ( شيمته المرؤة ) ( زهد مسيح ) ( عفة قيس ) ( رفد لسحبان ) ( كأن الدمع خالطه الدماء ) ( له قلب خشوع ) وفي هذا التشبيه تنسجم الصورة مع الحالة النفسية للشاعر وإن كان التشبيه الأخير معبرا عن الحسية إلا انه غارق في شعرية سحرية فيها من الغراب شيء كثير .

    وبالانتقال إلى الصور الاستعارية المشحونة بالدلالات المتقدة بالانزياحات المُولِّدة للشعرية وتكشف عن قدرة إيحائية تشخص وتجسد بإيقاع شعري يقوم على فكرة الاستبدال بين المستعار له والمستعار منه ؛ فهي صورة شعرية ترتبط مع غيرها من الصور في إطار الخيال الذي صاغها لتجعل من العمل الفني قيمة جمالية كبرى على نحو ما نرى في تلك الصور ( فمن كفيه ينهلّ النداء ) ( يلمّ الشمل في كل البرايا ) ( وعالجه بصبر ) ( ويا عجبًا لبدرِ حل قبرا ) ( سفرت كواكبَها السماءُ ) .

    وقد تتضافر الاستعارة ، والتشبيه والاستعارة في لغة شعرية ثرّة تولد ظواهر بلاغية لا غرابة في تجاورها ، فلاستعارة كما هو معروف تشبيه حُذِفَ أحد طرفيه ، فضلا عن أنها نسق بلاغي قائم على فكرة تناسي التشبيه نفسه كما في قوله ( وريب الدهر أورده بكأس .. وليس عن الشراب له التجاء ) ( وكل الخلق تشرب منه صرفًا .. غدوا ثم يتبعه المساء ) .

    ويمكننا القول إجمالا بأن هذه الهمزية كانت بمثابة مطولة شعرية بلغت 58 بيتا واستهلاليتها تحاطي الطلليات ( المعلقات ) في الشعر العربي وإن كانت مستها نفحة من سمات الشعر الملحمي وتحكي التاريخ الشعبي لسكان عمان والتي ينطلق فيها الشاعر من موقف شخصي كنازع معرفي ـ في القصيدة ـ يحدد مسؤولية الشاعر إزاء أحداث ورجالات عصره ويملي عليه القول إبداعا التغني بأمجاد الشخص المتوفى ( سالم الرشيدي ) مع إدانة كل الصفات والقيم التي تخالف ما تركه من موروث أخلاقي وقيمي.


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 11:47 pm