د. حسن النعمي
لو أردنا أن نلخص العلاقة بين الشعر والسرد في تراثنا العربي لقلنا إنها علاقة مرتبكة. وتعود مسؤولية هذه العلاقة المرتبكة في تكوينها إلى ثلاثة أبعاد: دينية وسياسية وثقافية. وهي أبعاد متداخلية التأثير، متشعبة الحضور في سياق الثقافة العربية، بدءاً بمرجعية التصور، ومروراً بمكونات الإنتاج، وانتهاء بالتلقي. فرغم اختلاف حقول الاشتغال في هذه الأبعاد فإنها مارست دوراً مؤثراً في تحديد علاقة التجاور بين الشعر والسرد.
في ظل هذه الأبعاد حظي الشعر بأفضلية النوع على السرد. وأعيد تأسيس منظورنا الثقافي والنقدي وفقاً لهذه المعادلة. ولعل مقولة (الشعر ديوان العرب) واحدة من المقولات التي كرست أفضلية الشعر على السرد. وفي المقابل تعود هذه المقولة لتنتصر للسرد في عهدنا الراهن، فيقال إن (الرواية ديوان العرب الجديد). الإشكالية ليست بين النوعين فتجاورهما حتمية تاريخية لا تقبل الجدل. غير أن المشكلة هي مشكلة وعي ثقافي من ناحية، وتغليب نوع على الآخر. وبالتأكيد فإن تداخلهما الفني قائم، أما تجاورهما الثقافي فيبقى محل تساؤل. إن المعطيات الثقافية تشير إلى إن نزعة الانتصار للشعر كانت جناية على السرد لتحل به لعنة الإقصاء التي وصلت ذروتها عند المسعودي الذي أعلن أن نصوص ألف ليلة ليلة الأولى غثة باردة.
*****
أود أن أشير في البدء، أنني غير معني بالحديث عن العلاقة بين الشعر والسرد من الداخل، من داخل النص. فهذا النوع من الدراسة درس جمالي. لا أعتقد أن أحداً ينكره، ففي الشعر من السرد ما في السرد من الشعر كذلك. ونسب التجاور هنا قائمة على خصوصة النص وظرفية تكوينه الجمالي والمعرفي. أما ما أنا بصدد الحديث عنه في هذا المحاضرة فهو العلاقة المرتبكة بين الشعر والسرد في الفضاء الثقافي خارج التكوين النصي للشعر والسرد. فالحديث، إذن، عن صراع خطابات حول ظاهرتي الشعر والسرد في ثقافتنا العربية.
*****
لنبدأ الحكاية!
ماذا يعني أن يكون ربع القرآن قصة؟ وماذا يعني أن يقصي القرآن الشعر ويباعد بين الرسول وبين الشعر؟ وماذا يعني أن يستثمر الرسول القصة القرآنية ويقدم القصة في حديثه بوصفها أحد أهم وسائل الخطاب النبوي؟ هل من دلالات يمكن إلتقاطها؟
لم يكن تبني القرآن للقصة من ناحية، وإقصاء الشعر من ناحية ثانية، أمراً اعتيادياً، بل كان تبنياً ينم عن حالة الصراع التي خاضها القرآن مع قيم ثقافية سائدة يمثل الشعر أبلغ رموزها وأدواتها في الحرب على الدين الجديد. فهل من طبيعة الأشياء، والحالة هذه، أن ننظر للقصة في القرآن على أنها ترف بياني، دلالتها الثقافية معدومة خارج سياق القرآن؟ إن سؤالاً كهذا من شأنه أن ينبه إلى أهمية القراءة السياقية التي تربط بين النص والتكوينات الثقافية الخارجية في محاولة لكشف دلالة حضور النص في سياقه الأكبر. ولذلك، فإن النظر للقصة القرآنية بمعزل عن محيطها الخارجي يلغي كثيراً من حيوية التفاعلات الاجتماعية التي تشكلت حول القرآن. إن خطاب القصة في مقابل الشعر إبان نزول القرآن كان هو الخطاب الملائم للقرآن لتمرير رسالته المعرفية والجمالية.
تشغل القصة في القرآن حيزاً مؤثراً في سياق الخطاب الديني من أجل تكوين مجتمع ذي قيم ثقافية جديدة. فحضورها تجاوز كونها وسيلة من وسائل الإبلاغ والتأثير والإمتاع، رغم أهمية هذه الوسائل التي لا تخلو من عمق نفسي وجمالي. إن النظر للقصة القرآنية في ضوء البيئة الثقافية التي توجهت إليها بالخطاب يكسب القضية أبعاداً أكثر عمقاً، مما يغدو معه البحث في السياقات المحيطة بظروف حضور القصة أمراً بالغ الدلالة. فلكي تكتمل دائرة الخطاب لا بد من تواصل مع المتلقي، مستوعباً ظروف تكوينه الثقافي والاجتماعي، ومستشرفاً أفقاً أبعد من الراهن. فهل استخدام القرآن للسرد يحيل إلى حضور خاص لهذا اللون في السياق الاجتماعي قبل نزول الوحي وأثنائه؟ أم هل هو سعي إلى تأسيس سياق ثقافي وتشكيل لذائقة ثقافية موازية للثقافة الشعرية التي عرفها العرب؟ ثم هل يضيف لنا هذا المنحى القرآني فهماً يعين على تفسير موقف القرآن من الشعر في غير موضع؟ وهل يساعد ذلك على إعادة رسم العلاقة بين الشعر والسرد في سياق الثقافة العربية؟ هذه أسئلة مشروعة استدعاها الحضور القوي والمميز للقصة في القرآن. إذ يمكن أن نؤكد أن استخدام القرآن للقصة هو أحد أهم القضايا الفكرية والأسلوبية التي تحتاج إلى قراءة فاحصة.
سؤال الحضور بالنسبة للشعر في حياة العرب سؤالُ قيمة أكثر منه سؤال استفهام، ذلك أن كل ما راج في تراثنا من أقوال يؤكد أن العرب أمة شاعرة، ليس في المستوى الإبداعي حسب، بل في مستوى الاعتداد والعناية به. غير أنه يجدر بنا النظر في مستوى أهمية الشعر من حيث وضعيته التاريخية والاجتماعية والمعرفية في حياة العرب. ولعل مقولة عبد الله بن عباس تأتي بوصفها استهلالاً معرفياً لمقتضى العلاقة بين معرفتين دينية ودنيوية. يقول ابن عباس: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب".
إن تعلق العرب بالشعر أمر بيّن لا يحتاج إلى برهان. غير أن هذا التعلق قد طغى على فن آخر لا يقل أهمية في حياة العرب، وهو السرد بكل أشكاله. فهل انصراف العرب عن السرد لمصلحة الشعر كان بسبب صعوبة نقل القصص وحفظه، أم بسبب ندرته؟ إن صعوبة حفظ القصص ونقله يمكن أن تكون سبباً مقنعاً إذا كانت الغاية منصبة على النقل الحرفي للقصص. أما عن الندرة فهي تبدو مسألة غير واقعية. ذلك أن القرآن عندما أقصى الشعر تبنى في الوقت نفسه القصة. وهذا التبني يؤكد رسوخ حضورها في حياة العرب بصرف النظر عن تعاطيها، أو تقديم الشعر في الأهمية. ولعل استنطاق مقولة أبي عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير" ينفي مبدأ الندرة. فهذه المقولة جوهرية من حيث تصويرها نوعية تراثنا الأدبي وحجمه في فترة ما قبل الإسلام. وتنبع أهمية هذه المقولة كونها تحدد نمط الموروث بأنه علم وشعر. وعلى الرغم من حمل القدماء العلم في عبارة أبي عمرو بن العلاء على أنه حمولات المعرفة التي يحملها الشعر، فإن قراءة النص من منظور العلاقة بين الأنواع الأدبية يمكن أن يحمل العلم في العبارة على أنه كل شيء من فنون القول غير الشعر. كما أن العلم في العبارة السابقة لا يقصد به ما عُرف عن العرب من طبابة وفراسة وقيافة وغيرها مما يمكن أن نعتبره من المعارف العقلية. إن العبارة تؤكد صراحة على "قالت العرب". فما دام أن القول يحتمل الشعر والنثر، فقد خصت العبارة الشعر بلفظه، أما النثر فبلفظ العلم الذي تندرج تحته أشكال عدة من خطابة ومنافرات ومناظرات ومفاخرات وسجع كهان وحكم وأمثال ووصايا وأخبار ونوادر وأسمار وقصص.
حضر القرآن في بيئة ثقافية تملك خطابين؛ شعري وسردي. وعلى الرغم من تسيد الشعر على خطاب السرد، فقد كانا يشكلان قطبين مختلفين في المعطيين الثقافي والاجتماعي. غير أن مجيء القرآن غيّر هذه المعادلة، حيث قرّب القصة وأقصى الشعر. فقد نفى الشعر عنه بوصفه نوعاً، ولم يلغ حضوره بوصفه نصاً ثقافياً خارج السياق القرآني. فقد حاول القرآن في غير موضع المباعدة بين خطابه وخطاب الشعر، حيث حرص على أن يقدم نفسه خطاباً مستقلاً له أدواته الخاصة ووسائله المستقلة في تأكيد حضور الرسالة المنوطة به. إن من يتأمل الآيات التي وردت حول الشعر والشعراء يجدها تؤكد على حقيقة عدم استهجان الشعر من حيث هو شعر، بل الغاية كانت التأكيد على أن القرآن غير الشعر، وأن النبي غير الشعراء، كما هو ليس بكاهن ولا مجنون ولا ساحر، وهي صفات رددها المشركون في وصف الرسول ﷺ. فالقرآن لم يكن عند نزوله يسعى إلى إحداث قطيعة معرفية وثقافية مع تراث العرب قبل الإسلام، إنما الغاية كانت تأسيس ثقافة موازية قوامها السرد. وهو ما يجعل القصص في القرآن يحضر بصفته نوعاً جمالياً ومعرفياً.
إن حضور القصة في القرآن بهذه الغزارة والتنوع السردي يمكن أن نقرأه من الناحية الثقافية على أنه معادل موضوعي للشعر. لقد علم الصحابة موقف القرآن من الشعر، لكنهم أرادوا أن يتبينوا موقفه من القصة. فبادروا إلى سؤال الرسولﷺ عن قولٍ دون القرآن وفوق الحديث. فانزل الله "نحن نقص عليك أحسن القصص...". العرب أمة أحبت الشعر، فهو فنها الأول وديوانها كما قال ابن عباس. فليس بوسعهم أن يسلوه أولاً، كما ليس بوسعهم أن يتشاغلوا به عن القرآن ثانياً. وهو ما دعا ابن سلام الجمحي إلى الإشارة إلى أن العرب تشاغلت بالدين وبالجهاد عن الشعر.
****
رغم هذه الحمولات الدينية التي تقف خلف القصة، وما يمكن أن تمليه هذه الحمولات على المجتمع من تقدير مفترض للاهتمام بحركة النوع القصصي، فإن جدلية التاريخ مع الدين تثبت حضورها في تبنى الأكثر تأثيراً في صياغة إي مشروع ثقافي. فرغم أن القرآن قد انتصر للقصة وأعلى من شأنها، فإن الانصراف عن السرد قد وقع، فلماذا؟
الانصراف هنا في مقابل الإقبال. انصراف عن القصة، وإقبال على الشعر. انصراف معناه عدم اشتغال على القصة نقدياً ومعرفياً، وإقبال على الشعر بكامل الأدوات المعرفية واللغوية والجهود العلمية لدراسة الشعر والعناية به. والمتتبع للحركة العلمية النقدية لا يجد ما يغير هذه الفرضية، إلا إذا اعتبرنا كتاباً واحداً هو كتاب (القصاص والمذكرين) لابن الجوزي كتاباً في نقد القصة. وفي الحقيقة، هو كتاب وصفي تصنيفي لا يخلو من الخلط في المفاهيم بين الوعظ والذكر والقص. ولمزيد من الاحتراز يمكن أن نعد بعض الآراء المتفرقة في كتب الأدب باباً من أبواب النظر في القصة، لكنها على قلتها لا تؤدي الدور المطلوب لإبراز جماليات التراث السردي. فقد ظلت نصوص السرد بما فيها؛ كليلة ودمنية، والمقامات، والرحلات، وألف ليلة وليلة، والسير الشعبية، وغيرها، تنمو دون تأصيل معرفي أو نقدي على مدى تاريخ الأدب العربي القديم.
ولعل أمر الانصراف النقدي والفكري عن الاهتمام بالسرد في تراثنا والانحياز للشعر دراسة وفناً من أعقد المشكلات التي يمكن الخوض فيها، لتداخل الأسباب وتعددها. ففي المسار الديني، ظهرت خطورة القص في لحظة بدء جمع الحديث الشريف الذي تزامن مع تكاثر القصاص في العصر الأموي وأوائل العصر العباسي. فقد كثر الوعاظ والمذكرين الذين كانوا يستخدمون القصص في الترغيب والترهيب بأحاديث موضوعة في الغالب، مما حمل الخلفاء والفقهاء على التصدي لهذه الظاهرة. فهذا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يسأل زرعة القاص الذي اشتهر بالقص في الكوفة: علام ثبات الدين؟ فلما تأكد من علمه بالأمور الشرعية سمح له بالقص. وهذه أم أبي حنيفة تسأل ابنها أن يحملها إلى أحد القصاص لتستفتيه في أمر يخصها. "فقال لها أنا صاحب الفتيا في العراق، هل لي أن افتيك؟"، فأصرت عليه، فحملها أبو حنيفة براً بها إلى ذلك القاص، وتقتنع بما قاله القاص لها. كما عُرف عن أحمد بن حنبل تصديه لظاهرة القصاص حيث يقول: "ما أحوجنا إلى قاص صدوق"، ويقول أيضاً "ما أكذب القصاص والسُؤْال". وبعد ذلك يأمر الخليفة العباسي المعتضد بالله بمنع القصاص الذين انتشروا في بغداد من القص في الجوامع والطرقات بعد أن رأى العامة تلتف حولهم وتتقرب منهم. هل الخليفة كان يخشى من التأثير السياسي لهؤلاء القصاص، أم أن سطورة المؤسسة الدينية كانت نافذة بحيث دفعت الخليفة إلى إصدار أوامره لمنع القصاص؟ أم أن انفصام ثقافة النخبة عن العامة اتاحت لهؤلاء القصاص أن يحددوا جمهورهم المستهدف؟ أم إلى الدور التعويضي الذي تلعبه القصة في نفوس العامة؟ هذه أسئلة ينبغي أن تحضر عند مقاربة العلاقة المرتبكة بين الشعر والسرد في تراثنا.
وفي مقابل التضييق على القصاص، كان الشعراء يستقبلون في المحافل وتفتح لهم أبواب البلاط، ويُحتفى بهم ويُكَرمون. ولم يجد الشعراء نهياً ولا أمراً بعدم القول في أي أمر يرونه مناسباً للقول. فقد تعددت تجارب الشعراء حتى تجاوزت المسموح الديني كما في شعر أبي نواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وغيرهم. لقد تبلور ما يشبه الموقف الجماعي بين الديني والسياسي والثقافي على التماهي مع الشعر، والتصدي في الوقت نفسه لظاهرة نمو الفنون السردية. وقد يُحتج بالمقامة والاهتمام بها. غير أن أمر المقامة لم يؤخذ من زاوية سردية، بل من زاوية لغوية بلاغية، فهي في ذلك أقرب للدرسي النقدي الذي حظى به الشعر. وعندما استقبلت المقامة سردياً استقبلت على أنها هزل مسلٍ ليس إلا، وليست بالتالي من أدب الخاصة. هذه النظرة الطبقية للفنون تضخمت حتى فجرت العامة نصها الخالد ألف ليلة وليلة، فسخرت من الخاصة أيما سخرية. ومن يعود لليالي يلحظ اهتمامها المثير بانتهاك معاقل الخاصة المتمثلة في بلاط الخلفاء، ويلحظ أيضاً الانتصار غير المسبوق للمرأة في تراثنا. وهي متلازمة أخرى بين قمع السرد وقمع المرأة. ولعل كتاب بلاغات النساء لابن طيفور قد جسد هذه اللعبة الطبقية عندما جمع أقاصيص تنتصر فيها المرأة على حساب الرجل، وليس أي رجل، بل الخليفة رمزاً للسلطة في أعلى مستوياتها.
لقد كان خطابنا الثقافي منقسماً إلى خطابين متضادين، خطاب نخبوي وآخر شعبي. احتضن الخطاب النخبوي الشعر ووظفه لخدمة سياقاته السياسية والاجتماعية، فكان حاضراً ومواكباً لاحتفالات البلاط السياسي والمحافل الاجتماعية الكبرى. أما الخطاب الشعبي فقد استغل الإمكانات السردية لمواجهة السلطة. وما كليلة ودمنية ونصوص المقامات وألف ليلة وليلة وغيرها إلا مثالاً على مقاومة النخبوي ساسياً واجتماعياً. فهل يمكن أن نتكيف مع هذه الفرضية؟
بمراجعة العديد من الأدبيات والمقولات والملاحظات في سياق نشؤ وتطور الأدب العربي شعراً وسرداً يجب أن نحرر أمراً في غاية الأهمية يضاف إلى إشكالية إزدواجية الخطاب الثقافي. هذا الأمر يتعلق بالناحية المصطلحية. فإذا كان الشعر قد تحدد بمصطلحه قديماً وحديثاً واستقر هذا المصطلح حتى في الخطاب القرآني، فإن من معضلات السرد في تراثنا العربي غياب المصطلح الذي يجمع شتات الفنون السردية من حكاية ونادرة وطرفة ومقامة ومثل وغيرها) تحت اسم جامع يحدد هويتها في مقابل الشعر. إن عدم ربط الفنون السردية في سياق يجمعها أضعف من شخصيتها أمام الشعر المستقل باسمه، الجامع لشخصيته.
فالنثر (المصطلح) الذي استخدم في مقابل السرد تتداخل فيه أنواع أخرى غير الفنون القصصية. فالخطابة والمنافرات والمفاخرات وسجع الكهان، وبعد ذلك كل الكتابات النثرية في علوم العربية والنقد والتاريخ والتفسير وغيرها تحشر حتى هذا المصطلح. وهو ما تنبه إليه النقاد العرب في مطلع القرن العشرين، وخاصة زكي مبارك وطه حسين، عندما أطلقوا مصطلح النثر الفني لتمييز الفنون الحكائية عن غيرها من أشكال النثر. ورغم أن هذا المصطلح يعد تحولاً جاداً في النظر لمفهوم الفنون السردية، إلا أنه مايزال قاصراً عن تحديد الهوية السردية للفنون الحكائية الخصبة بجمالياتها والغنية بمدلولاتها. غير أن هذا المصطلح لم يكن كافياً ليدل على سردية النص، فهذا الدكتور علي الرعي يضع رواية زينب لمحمد حسين هيكل في خانة وسط بين الرواية والنثر الفني. ففي نظره لم ترق رواية وينب لفن السرد الروائي، لكنها نثر فني يرتقي على النثر العادي. ولم يتم تجاوز هذه الإشكالية المصطلحية إلا في أواخر السبعينات الميلادية من القرن الماضي عندما تمت الاستفادة من التحولات النظرية السردية في الغرب، وأصبح مصطلح السرد هو السائد في تعريف الفنون السردية المختلفة تراثية كانت أم عصرية.
إن المحطات السردية الضخمة التي أنتجها الأدب العربي مثل كليلة ودمنة، والبخلاء، والمقامات، ورسالة الغفران، رسالة التوابع والزوابع، وأدب الرحلات، وألف ليلة وليلة، والسير الشعبية على اختلاف أنواعها، بالإضافة إلى قصة مجنول ليلى التي تعددت روايتها في الكثير من المصادر، ولعل أشهرها ما رواه صاحب الأغاني، كل هذه المحطات استقبلت متفرقة بوصفها انتاج أفراد لا ظاهرة متماسكة تنمو باتجاه أفق سردي متعاظم النمو والإزدهار الذي بلغ ذورته في ألف ليلة وليلة. ما هي مسؤولية الدور النقدي الذي كرس اهتمامه بظاهرة الشعر شرحاً وتمحيصاً وتبويباً وتصنيفاً؟ في المقابل، ظل الجهد السردي ينمو بعيداً عن دوائر التأثير الثقافي، فلم يدرس ولم يصنف ولم يبوب؟
هنا ظهر حجم المشكلة فعندما استفاق العرب في عصر النهضة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فتشوا عن تراثهم القصصي، فوجده مهملاً، لم تبنَ مساراته بالتوازي مع الشعر. لقد وقع الارتبك عند رواد النهضة المشتغلين بالكاتبة القصصية من أمثال ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق. فقلة من الكتاب رأت ضرورة الاشتغال على المنجز السردي القديم، لكن أين هو؟ لم يجدوا سوى المقامة التي لها شخصية مميزة، بوصفها نصاً يمكن أن يحتذى، ومع ذلك، لم يكن الأمر مقنعاً ومشجعاً. فالتفتوا للسرد القادم من الغرب في شكل الرواية والقصة القصيرة التي كانت حاضرة بالترجمات الكثيرة. في هذه اللحظة استشعر محمد المويلحي ضرورة الإفادة من الشكلين العربي والغربي معاً، فقدم مغامرة روائية ذكية بعنوان (حديث عيسى بن هشام) حاول فيها أن يجمع بين شكلين، المقامة في شكلها الثنائي (الراوي والبطل)، والرواية المنفتحة في أفقها الزمني وفي حركتها وإيقاعها الذي يقترب من نبض الواقع. لكن هذه التجربة لم يستفد من فكرتها إلا في أواخر السيتنات عندما بدأ جمال الغيطاني ونجيب محفوظ وواسيني الأعرج وغيرهم من القيام بمهمة استلهام التراث السردي، لكن هذه المرة بوعي قومي وجمالي، قومي لتزامن هذه التجربة مع المد الوحدوي والقومي الذي سعى لإعادة تأسيس التراث القومي، وجمالي لما في هذه التجربة من غنى جمالي وإنساني. إن من يقرأ روايات الغيطاني يدرك الكنوز السردية الهائلة التي يحفل بها التراث السردي التي ظلت غائبة أو مغيبة لأسباب كثيرة.
أريد أن أختم محاضرتي بملاحظة تستحق أن نتوقف أمامها، ولعلها تلخص أزمة العلاقة بين الشعر والسرد. ألا تلاحظون معي أن هناك علاقة بين الانتصار والشعر، وعلاقة أخرى بين السرد والهزيمة! الأمر ليس لغزاً، بل ملاحظة أرى أنها جديرة بالنظر. على مدى قرون تمتع الشعر بمنزلة رفيعة، لكن ذلك كان ارتباطاً بحال الأمة المنتصرة عسكريا وسياسياً، المتماكسة حضارياً وإنسانياً. فكان الشعر حاضراً لاستثمار حالة الانتصار هذه. فحضر في المعارك والحروب وفي الجدل السياسي، وفي بلاط الخلفاء. وعندما فقدت الأمة زهوها وانتصارها انحسر دور الشعر المتباهي بالانتصار، ليأتي السرد معوضاً الانكسار بالحضور وتغذية الوجدان العام الذي لم يعد للشعر فيه الدور الفاعل. ولعل الشاهد الأكبر الحاضر بيننا الآن. فالزمن زمن الرواية كما أشار إلى ذلك العديد من النقاد، والشواهد أبلغ من شهادات النقاد، فالرواية حاضرة على مستوى الإبداع والتلقي والنقد بعايير غير مسبوقة. هل لأن هناك إدراكاً متأخراً لأهمية السرد فاحتل الصدارة، أم هي حتمية التاريخ تفرض فنونها وأجناسها. إن الحضور لا يقاس بالكم، لكن يقاس بالتأثير. بهذا المعنى، تحتل الرواية، على وجه الخصوص، صدارة القول الأدبي، متمكنة من القراء بدرجات مقروئية غير مسبوقة.
أما القول بتفوق الرواية على الشعر، فهو قول قادم من سنوات الاحباط التي عانى منها السرد. قول يتغافل عن الاشتراطات المعرفية والحتميات التاريخية التي بُنيت عليها العلاقة الفكرية بين الشعر والسرد. فحضور الرواية بهذا الزخم ليس موتاً في المقابل للشعر، بل إشكالية الشعر في ذاته لا في غيره.
هل هذه الظاهرة، ظاهرة التنافر لا التجاور بين الشعر والسرد ظاهرة طبيعية؟ مرة أخرى أعتقد أننا أمام مكتسبين يجب الاهتمام بهما معاً، ورغم أن حضور السرد، وقوة تأثيره ونفوذه، أمر حتمي، وليس ناتج وعي أو تحولاً في الذهنية النخبوية، فهناك من لا يزال ينظر بعين النقص للفنون السرد من باب الاستعلاء أحياناً كون السرد ارتبط في أذهانهم باللهو والهزل، وبالعامة لا بالخاصة. كما أن تراجع الشعر يعود ربما إلى انفصاله عن الفواعل الاجتماعية، وانفتاحه على تجارب غربية منها قصيدة النثر التي سجلت الصدمة وبقيت محدودة التأثير.
لو أردنا أن نلخص العلاقة بين الشعر والسرد في تراثنا العربي لقلنا إنها علاقة مرتبكة. وتعود مسؤولية هذه العلاقة المرتبكة في تكوينها إلى ثلاثة أبعاد: دينية وسياسية وثقافية. وهي أبعاد متداخلية التأثير، متشعبة الحضور في سياق الثقافة العربية، بدءاً بمرجعية التصور، ومروراً بمكونات الإنتاج، وانتهاء بالتلقي. فرغم اختلاف حقول الاشتغال في هذه الأبعاد فإنها مارست دوراً مؤثراً في تحديد علاقة التجاور بين الشعر والسرد.
في ظل هذه الأبعاد حظي الشعر بأفضلية النوع على السرد. وأعيد تأسيس منظورنا الثقافي والنقدي وفقاً لهذه المعادلة. ولعل مقولة (الشعر ديوان العرب) واحدة من المقولات التي كرست أفضلية الشعر على السرد. وفي المقابل تعود هذه المقولة لتنتصر للسرد في عهدنا الراهن، فيقال إن (الرواية ديوان العرب الجديد). الإشكالية ليست بين النوعين فتجاورهما حتمية تاريخية لا تقبل الجدل. غير أن المشكلة هي مشكلة وعي ثقافي من ناحية، وتغليب نوع على الآخر. وبالتأكيد فإن تداخلهما الفني قائم، أما تجاورهما الثقافي فيبقى محل تساؤل. إن المعطيات الثقافية تشير إلى إن نزعة الانتصار للشعر كانت جناية على السرد لتحل به لعنة الإقصاء التي وصلت ذروتها عند المسعودي الذي أعلن أن نصوص ألف ليلة ليلة الأولى غثة باردة.
*****
أود أن أشير في البدء، أنني غير معني بالحديث عن العلاقة بين الشعر والسرد من الداخل، من داخل النص. فهذا النوع من الدراسة درس جمالي. لا أعتقد أن أحداً ينكره، ففي الشعر من السرد ما في السرد من الشعر كذلك. ونسب التجاور هنا قائمة على خصوصة النص وظرفية تكوينه الجمالي والمعرفي. أما ما أنا بصدد الحديث عنه في هذا المحاضرة فهو العلاقة المرتبكة بين الشعر والسرد في الفضاء الثقافي خارج التكوين النصي للشعر والسرد. فالحديث، إذن، عن صراع خطابات حول ظاهرتي الشعر والسرد في ثقافتنا العربية.
*****
لنبدأ الحكاية!
ماذا يعني أن يكون ربع القرآن قصة؟ وماذا يعني أن يقصي القرآن الشعر ويباعد بين الرسول وبين الشعر؟ وماذا يعني أن يستثمر الرسول القصة القرآنية ويقدم القصة في حديثه بوصفها أحد أهم وسائل الخطاب النبوي؟ هل من دلالات يمكن إلتقاطها؟
لم يكن تبني القرآن للقصة من ناحية، وإقصاء الشعر من ناحية ثانية، أمراً اعتيادياً، بل كان تبنياً ينم عن حالة الصراع التي خاضها القرآن مع قيم ثقافية سائدة يمثل الشعر أبلغ رموزها وأدواتها في الحرب على الدين الجديد. فهل من طبيعة الأشياء، والحالة هذه، أن ننظر للقصة في القرآن على أنها ترف بياني، دلالتها الثقافية معدومة خارج سياق القرآن؟ إن سؤالاً كهذا من شأنه أن ينبه إلى أهمية القراءة السياقية التي تربط بين النص والتكوينات الثقافية الخارجية في محاولة لكشف دلالة حضور النص في سياقه الأكبر. ولذلك، فإن النظر للقصة القرآنية بمعزل عن محيطها الخارجي يلغي كثيراً من حيوية التفاعلات الاجتماعية التي تشكلت حول القرآن. إن خطاب القصة في مقابل الشعر إبان نزول القرآن كان هو الخطاب الملائم للقرآن لتمرير رسالته المعرفية والجمالية.
تشغل القصة في القرآن حيزاً مؤثراً في سياق الخطاب الديني من أجل تكوين مجتمع ذي قيم ثقافية جديدة. فحضورها تجاوز كونها وسيلة من وسائل الإبلاغ والتأثير والإمتاع، رغم أهمية هذه الوسائل التي لا تخلو من عمق نفسي وجمالي. إن النظر للقصة القرآنية في ضوء البيئة الثقافية التي توجهت إليها بالخطاب يكسب القضية أبعاداً أكثر عمقاً، مما يغدو معه البحث في السياقات المحيطة بظروف حضور القصة أمراً بالغ الدلالة. فلكي تكتمل دائرة الخطاب لا بد من تواصل مع المتلقي، مستوعباً ظروف تكوينه الثقافي والاجتماعي، ومستشرفاً أفقاً أبعد من الراهن. فهل استخدام القرآن للسرد يحيل إلى حضور خاص لهذا اللون في السياق الاجتماعي قبل نزول الوحي وأثنائه؟ أم هل هو سعي إلى تأسيس سياق ثقافي وتشكيل لذائقة ثقافية موازية للثقافة الشعرية التي عرفها العرب؟ ثم هل يضيف لنا هذا المنحى القرآني فهماً يعين على تفسير موقف القرآن من الشعر في غير موضع؟ وهل يساعد ذلك على إعادة رسم العلاقة بين الشعر والسرد في سياق الثقافة العربية؟ هذه أسئلة مشروعة استدعاها الحضور القوي والمميز للقصة في القرآن. إذ يمكن أن نؤكد أن استخدام القرآن للقصة هو أحد أهم القضايا الفكرية والأسلوبية التي تحتاج إلى قراءة فاحصة.
سؤال الحضور بالنسبة للشعر في حياة العرب سؤالُ قيمة أكثر منه سؤال استفهام، ذلك أن كل ما راج في تراثنا من أقوال يؤكد أن العرب أمة شاعرة، ليس في المستوى الإبداعي حسب، بل في مستوى الاعتداد والعناية به. غير أنه يجدر بنا النظر في مستوى أهمية الشعر من حيث وضعيته التاريخية والاجتماعية والمعرفية في حياة العرب. ولعل مقولة عبد الله بن عباس تأتي بوصفها استهلالاً معرفياً لمقتضى العلاقة بين معرفتين دينية ودنيوية. يقول ابن عباس: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله، فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب".
إن تعلق العرب بالشعر أمر بيّن لا يحتاج إلى برهان. غير أن هذا التعلق قد طغى على فن آخر لا يقل أهمية في حياة العرب، وهو السرد بكل أشكاله. فهل انصراف العرب عن السرد لمصلحة الشعر كان بسبب صعوبة نقل القصص وحفظه، أم بسبب ندرته؟ إن صعوبة حفظ القصص ونقله يمكن أن تكون سبباً مقنعاً إذا كانت الغاية منصبة على النقل الحرفي للقصص. أما عن الندرة فهي تبدو مسألة غير واقعية. ذلك أن القرآن عندما أقصى الشعر تبنى في الوقت نفسه القصة. وهذا التبني يؤكد رسوخ حضورها في حياة العرب بصرف النظر عن تعاطيها، أو تقديم الشعر في الأهمية. ولعل استنطاق مقولة أبي عمرو بن العلاء: "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير" ينفي مبدأ الندرة. فهذه المقولة جوهرية من حيث تصويرها نوعية تراثنا الأدبي وحجمه في فترة ما قبل الإسلام. وتنبع أهمية هذه المقولة كونها تحدد نمط الموروث بأنه علم وشعر. وعلى الرغم من حمل القدماء العلم في عبارة أبي عمرو بن العلاء على أنه حمولات المعرفة التي يحملها الشعر، فإن قراءة النص من منظور العلاقة بين الأنواع الأدبية يمكن أن يحمل العلم في العبارة على أنه كل شيء من فنون القول غير الشعر. كما أن العلم في العبارة السابقة لا يقصد به ما عُرف عن العرب من طبابة وفراسة وقيافة وغيرها مما يمكن أن نعتبره من المعارف العقلية. إن العبارة تؤكد صراحة على "قالت العرب". فما دام أن القول يحتمل الشعر والنثر، فقد خصت العبارة الشعر بلفظه، أما النثر فبلفظ العلم الذي تندرج تحته أشكال عدة من خطابة ومنافرات ومناظرات ومفاخرات وسجع كهان وحكم وأمثال ووصايا وأخبار ونوادر وأسمار وقصص.
حضر القرآن في بيئة ثقافية تملك خطابين؛ شعري وسردي. وعلى الرغم من تسيد الشعر على خطاب السرد، فقد كانا يشكلان قطبين مختلفين في المعطيين الثقافي والاجتماعي. غير أن مجيء القرآن غيّر هذه المعادلة، حيث قرّب القصة وأقصى الشعر. فقد نفى الشعر عنه بوصفه نوعاً، ولم يلغ حضوره بوصفه نصاً ثقافياً خارج السياق القرآني. فقد حاول القرآن في غير موضع المباعدة بين خطابه وخطاب الشعر، حيث حرص على أن يقدم نفسه خطاباً مستقلاً له أدواته الخاصة ووسائله المستقلة في تأكيد حضور الرسالة المنوطة به. إن من يتأمل الآيات التي وردت حول الشعر والشعراء يجدها تؤكد على حقيقة عدم استهجان الشعر من حيث هو شعر، بل الغاية كانت التأكيد على أن القرآن غير الشعر، وأن النبي غير الشعراء، كما هو ليس بكاهن ولا مجنون ولا ساحر، وهي صفات رددها المشركون في وصف الرسول ﷺ. فالقرآن لم يكن عند نزوله يسعى إلى إحداث قطيعة معرفية وثقافية مع تراث العرب قبل الإسلام، إنما الغاية كانت تأسيس ثقافة موازية قوامها السرد. وهو ما يجعل القصص في القرآن يحضر بصفته نوعاً جمالياً ومعرفياً.
إن حضور القصة في القرآن بهذه الغزارة والتنوع السردي يمكن أن نقرأه من الناحية الثقافية على أنه معادل موضوعي للشعر. لقد علم الصحابة موقف القرآن من الشعر، لكنهم أرادوا أن يتبينوا موقفه من القصة. فبادروا إلى سؤال الرسولﷺ عن قولٍ دون القرآن وفوق الحديث. فانزل الله "نحن نقص عليك أحسن القصص...". العرب أمة أحبت الشعر، فهو فنها الأول وديوانها كما قال ابن عباس. فليس بوسعهم أن يسلوه أولاً، كما ليس بوسعهم أن يتشاغلوا به عن القرآن ثانياً. وهو ما دعا ابن سلام الجمحي إلى الإشارة إلى أن العرب تشاغلت بالدين وبالجهاد عن الشعر.
****
رغم هذه الحمولات الدينية التي تقف خلف القصة، وما يمكن أن تمليه هذه الحمولات على المجتمع من تقدير مفترض للاهتمام بحركة النوع القصصي، فإن جدلية التاريخ مع الدين تثبت حضورها في تبنى الأكثر تأثيراً في صياغة إي مشروع ثقافي. فرغم أن القرآن قد انتصر للقصة وأعلى من شأنها، فإن الانصراف عن السرد قد وقع، فلماذا؟
الانصراف هنا في مقابل الإقبال. انصراف عن القصة، وإقبال على الشعر. انصراف معناه عدم اشتغال على القصة نقدياً ومعرفياً، وإقبال على الشعر بكامل الأدوات المعرفية واللغوية والجهود العلمية لدراسة الشعر والعناية به. والمتتبع للحركة العلمية النقدية لا يجد ما يغير هذه الفرضية، إلا إذا اعتبرنا كتاباً واحداً هو كتاب (القصاص والمذكرين) لابن الجوزي كتاباً في نقد القصة. وفي الحقيقة، هو كتاب وصفي تصنيفي لا يخلو من الخلط في المفاهيم بين الوعظ والذكر والقص. ولمزيد من الاحتراز يمكن أن نعد بعض الآراء المتفرقة في كتب الأدب باباً من أبواب النظر في القصة، لكنها على قلتها لا تؤدي الدور المطلوب لإبراز جماليات التراث السردي. فقد ظلت نصوص السرد بما فيها؛ كليلة ودمنية، والمقامات، والرحلات، وألف ليلة وليلة، والسير الشعبية، وغيرها، تنمو دون تأصيل معرفي أو نقدي على مدى تاريخ الأدب العربي القديم.
ولعل أمر الانصراف النقدي والفكري عن الاهتمام بالسرد في تراثنا والانحياز للشعر دراسة وفناً من أعقد المشكلات التي يمكن الخوض فيها، لتداخل الأسباب وتعددها. ففي المسار الديني، ظهرت خطورة القص في لحظة بدء جمع الحديث الشريف الذي تزامن مع تكاثر القصاص في العصر الأموي وأوائل العصر العباسي. فقد كثر الوعاظ والمذكرين الذين كانوا يستخدمون القصص في الترغيب والترهيب بأحاديث موضوعة في الغالب، مما حمل الخلفاء والفقهاء على التصدي لهذه الظاهرة. فهذا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يسأل زرعة القاص الذي اشتهر بالقص في الكوفة: علام ثبات الدين؟ فلما تأكد من علمه بالأمور الشرعية سمح له بالقص. وهذه أم أبي حنيفة تسأل ابنها أن يحملها إلى أحد القصاص لتستفتيه في أمر يخصها. "فقال لها أنا صاحب الفتيا في العراق، هل لي أن افتيك؟"، فأصرت عليه، فحملها أبو حنيفة براً بها إلى ذلك القاص، وتقتنع بما قاله القاص لها. كما عُرف عن أحمد بن حنبل تصديه لظاهرة القصاص حيث يقول: "ما أحوجنا إلى قاص صدوق"، ويقول أيضاً "ما أكذب القصاص والسُؤْال". وبعد ذلك يأمر الخليفة العباسي المعتضد بالله بمنع القصاص الذين انتشروا في بغداد من القص في الجوامع والطرقات بعد أن رأى العامة تلتف حولهم وتتقرب منهم. هل الخليفة كان يخشى من التأثير السياسي لهؤلاء القصاص، أم أن سطورة المؤسسة الدينية كانت نافذة بحيث دفعت الخليفة إلى إصدار أوامره لمنع القصاص؟ أم أن انفصام ثقافة النخبة عن العامة اتاحت لهؤلاء القصاص أن يحددوا جمهورهم المستهدف؟ أم إلى الدور التعويضي الذي تلعبه القصة في نفوس العامة؟ هذه أسئلة ينبغي أن تحضر عند مقاربة العلاقة المرتبكة بين الشعر والسرد في تراثنا.
وفي مقابل التضييق على القصاص، كان الشعراء يستقبلون في المحافل وتفتح لهم أبواب البلاط، ويُحتفى بهم ويُكَرمون. ولم يجد الشعراء نهياً ولا أمراً بعدم القول في أي أمر يرونه مناسباً للقول. فقد تعددت تجارب الشعراء حتى تجاوزت المسموح الديني كما في شعر أبي نواس وبشار بن برد ومسلم بن الوليد وغيرهم. لقد تبلور ما يشبه الموقف الجماعي بين الديني والسياسي والثقافي على التماهي مع الشعر، والتصدي في الوقت نفسه لظاهرة نمو الفنون السردية. وقد يُحتج بالمقامة والاهتمام بها. غير أن أمر المقامة لم يؤخذ من زاوية سردية، بل من زاوية لغوية بلاغية، فهي في ذلك أقرب للدرسي النقدي الذي حظى به الشعر. وعندما استقبلت المقامة سردياً استقبلت على أنها هزل مسلٍ ليس إلا، وليست بالتالي من أدب الخاصة. هذه النظرة الطبقية للفنون تضخمت حتى فجرت العامة نصها الخالد ألف ليلة وليلة، فسخرت من الخاصة أيما سخرية. ومن يعود لليالي يلحظ اهتمامها المثير بانتهاك معاقل الخاصة المتمثلة في بلاط الخلفاء، ويلحظ أيضاً الانتصار غير المسبوق للمرأة في تراثنا. وهي متلازمة أخرى بين قمع السرد وقمع المرأة. ولعل كتاب بلاغات النساء لابن طيفور قد جسد هذه اللعبة الطبقية عندما جمع أقاصيص تنتصر فيها المرأة على حساب الرجل، وليس أي رجل، بل الخليفة رمزاً للسلطة في أعلى مستوياتها.
لقد كان خطابنا الثقافي منقسماً إلى خطابين متضادين، خطاب نخبوي وآخر شعبي. احتضن الخطاب النخبوي الشعر ووظفه لخدمة سياقاته السياسية والاجتماعية، فكان حاضراً ومواكباً لاحتفالات البلاط السياسي والمحافل الاجتماعية الكبرى. أما الخطاب الشعبي فقد استغل الإمكانات السردية لمواجهة السلطة. وما كليلة ودمنية ونصوص المقامات وألف ليلة وليلة وغيرها إلا مثالاً على مقاومة النخبوي ساسياً واجتماعياً. فهل يمكن أن نتكيف مع هذه الفرضية؟
بمراجعة العديد من الأدبيات والمقولات والملاحظات في سياق نشؤ وتطور الأدب العربي شعراً وسرداً يجب أن نحرر أمراً في غاية الأهمية يضاف إلى إشكالية إزدواجية الخطاب الثقافي. هذا الأمر يتعلق بالناحية المصطلحية. فإذا كان الشعر قد تحدد بمصطلحه قديماً وحديثاً واستقر هذا المصطلح حتى في الخطاب القرآني، فإن من معضلات السرد في تراثنا العربي غياب المصطلح الذي يجمع شتات الفنون السردية من حكاية ونادرة وطرفة ومقامة ومثل وغيرها) تحت اسم جامع يحدد هويتها في مقابل الشعر. إن عدم ربط الفنون السردية في سياق يجمعها أضعف من شخصيتها أمام الشعر المستقل باسمه، الجامع لشخصيته.
فالنثر (المصطلح) الذي استخدم في مقابل السرد تتداخل فيه أنواع أخرى غير الفنون القصصية. فالخطابة والمنافرات والمفاخرات وسجع الكهان، وبعد ذلك كل الكتابات النثرية في علوم العربية والنقد والتاريخ والتفسير وغيرها تحشر حتى هذا المصطلح. وهو ما تنبه إليه النقاد العرب في مطلع القرن العشرين، وخاصة زكي مبارك وطه حسين، عندما أطلقوا مصطلح النثر الفني لتمييز الفنون الحكائية عن غيرها من أشكال النثر. ورغم أن هذا المصطلح يعد تحولاً جاداً في النظر لمفهوم الفنون السردية، إلا أنه مايزال قاصراً عن تحديد الهوية السردية للفنون الحكائية الخصبة بجمالياتها والغنية بمدلولاتها. غير أن هذا المصطلح لم يكن كافياً ليدل على سردية النص، فهذا الدكتور علي الرعي يضع رواية زينب لمحمد حسين هيكل في خانة وسط بين الرواية والنثر الفني. ففي نظره لم ترق رواية وينب لفن السرد الروائي، لكنها نثر فني يرتقي على النثر العادي. ولم يتم تجاوز هذه الإشكالية المصطلحية إلا في أواخر السبعينات الميلادية من القرن الماضي عندما تمت الاستفادة من التحولات النظرية السردية في الغرب، وأصبح مصطلح السرد هو السائد في تعريف الفنون السردية المختلفة تراثية كانت أم عصرية.
إن المحطات السردية الضخمة التي أنتجها الأدب العربي مثل كليلة ودمنة، والبخلاء، والمقامات، ورسالة الغفران، رسالة التوابع والزوابع، وأدب الرحلات، وألف ليلة وليلة، والسير الشعبية على اختلاف أنواعها، بالإضافة إلى قصة مجنول ليلى التي تعددت روايتها في الكثير من المصادر، ولعل أشهرها ما رواه صاحب الأغاني، كل هذه المحطات استقبلت متفرقة بوصفها انتاج أفراد لا ظاهرة متماسكة تنمو باتجاه أفق سردي متعاظم النمو والإزدهار الذي بلغ ذورته في ألف ليلة وليلة. ما هي مسؤولية الدور النقدي الذي كرس اهتمامه بظاهرة الشعر شرحاً وتمحيصاً وتبويباً وتصنيفاً؟ في المقابل، ظل الجهد السردي ينمو بعيداً عن دوائر التأثير الثقافي، فلم يدرس ولم يصنف ولم يبوب؟
هنا ظهر حجم المشكلة فعندما استفاق العرب في عصر النهضة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فتشوا عن تراثهم القصصي، فوجده مهملاً، لم تبنَ مساراته بالتوازي مع الشعر. لقد وقع الارتبك عند رواد النهضة المشتغلين بالكاتبة القصصية من أمثال ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق. فقلة من الكتاب رأت ضرورة الاشتغال على المنجز السردي القديم، لكن أين هو؟ لم يجدوا سوى المقامة التي لها شخصية مميزة، بوصفها نصاً يمكن أن يحتذى، ومع ذلك، لم يكن الأمر مقنعاً ومشجعاً. فالتفتوا للسرد القادم من الغرب في شكل الرواية والقصة القصيرة التي كانت حاضرة بالترجمات الكثيرة. في هذه اللحظة استشعر محمد المويلحي ضرورة الإفادة من الشكلين العربي والغربي معاً، فقدم مغامرة روائية ذكية بعنوان (حديث عيسى بن هشام) حاول فيها أن يجمع بين شكلين، المقامة في شكلها الثنائي (الراوي والبطل)، والرواية المنفتحة في أفقها الزمني وفي حركتها وإيقاعها الذي يقترب من نبض الواقع. لكن هذه التجربة لم يستفد من فكرتها إلا في أواخر السيتنات عندما بدأ جمال الغيطاني ونجيب محفوظ وواسيني الأعرج وغيرهم من القيام بمهمة استلهام التراث السردي، لكن هذه المرة بوعي قومي وجمالي، قومي لتزامن هذه التجربة مع المد الوحدوي والقومي الذي سعى لإعادة تأسيس التراث القومي، وجمالي لما في هذه التجربة من غنى جمالي وإنساني. إن من يقرأ روايات الغيطاني يدرك الكنوز السردية الهائلة التي يحفل بها التراث السردي التي ظلت غائبة أو مغيبة لأسباب كثيرة.
أريد أن أختم محاضرتي بملاحظة تستحق أن نتوقف أمامها، ولعلها تلخص أزمة العلاقة بين الشعر والسرد. ألا تلاحظون معي أن هناك علاقة بين الانتصار والشعر، وعلاقة أخرى بين السرد والهزيمة! الأمر ليس لغزاً، بل ملاحظة أرى أنها جديرة بالنظر. على مدى قرون تمتع الشعر بمنزلة رفيعة، لكن ذلك كان ارتباطاً بحال الأمة المنتصرة عسكريا وسياسياً، المتماكسة حضارياً وإنسانياً. فكان الشعر حاضراً لاستثمار حالة الانتصار هذه. فحضر في المعارك والحروب وفي الجدل السياسي، وفي بلاط الخلفاء. وعندما فقدت الأمة زهوها وانتصارها انحسر دور الشعر المتباهي بالانتصار، ليأتي السرد معوضاً الانكسار بالحضور وتغذية الوجدان العام الذي لم يعد للشعر فيه الدور الفاعل. ولعل الشاهد الأكبر الحاضر بيننا الآن. فالزمن زمن الرواية كما أشار إلى ذلك العديد من النقاد، والشواهد أبلغ من شهادات النقاد، فالرواية حاضرة على مستوى الإبداع والتلقي والنقد بعايير غير مسبوقة. هل لأن هناك إدراكاً متأخراً لأهمية السرد فاحتل الصدارة، أم هي حتمية التاريخ تفرض فنونها وأجناسها. إن الحضور لا يقاس بالكم، لكن يقاس بالتأثير. بهذا المعنى، تحتل الرواية، على وجه الخصوص، صدارة القول الأدبي، متمكنة من القراء بدرجات مقروئية غير مسبوقة.
أما القول بتفوق الرواية على الشعر، فهو قول قادم من سنوات الاحباط التي عانى منها السرد. قول يتغافل عن الاشتراطات المعرفية والحتميات التاريخية التي بُنيت عليها العلاقة الفكرية بين الشعر والسرد. فحضور الرواية بهذا الزخم ليس موتاً في المقابل للشعر، بل إشكالية الشعر في ذاته لا في غيره.
هل هذه الظاهرة، ظاهرة التنافر لا التجاور بين الشعر والسرد ظاهرة طبيعية؟ مرة أخرى أعتقد أننا أمام مكتسبين يجب الاهتمام بهما معاً، ورغم أن حضور السرد، وقوة تأثيره ونفوذه، أمر حتمي، وليس ناتج وعي أو تحولاً في الذهنية النخبوية، فهناك من لا يزال ينظر بعين النقص للفنون السرد من باب الاستعلاء أحياناً كون السرد ارتبط في أذهانهم باللهو والهزل، وبالعامة لا بالخاصة. كما أن تراجع الشعر يعود ربما إلى انفصاله عن الفواعل الاجتماعية، وانفتاحه على تجارب غربية منها قصيدة النثر التي سجلت الصدمة وبقيت محدودة التأثير.