[center] مباحث في الأسلوبية والسرد --بحث أكاديمي تحت إشراف الدكتور محمد الأمين شيخة __
أولا: من الأسلوب إلى الأسلوبية
I- الأسلوب في الدراسات القديمة والحديثة:
1- الأسلوب لغة واصطلاحا:
أ- لغة: لقد أشار المعجم اللغوي العربي إلى مفهوم الأسلوب في العديد من المعاجم ونجد منهم "ابن منظور" في معجمه "لسان العرب" يعرفه في مادة (سلب) كالآتي:
« يقال للسطر من النخيل أسلوب وكل طريق ممتد فهو أسلوب... الأسلوب الطريق والوجه والمذهب... يقال أنتم في مذهب سوء... ويجمع أساليب الأسلوب بالضم: الفن... يقال أخذ فلان في أساليب من القول, أي أفانين منه »[1].
- ويعرِّفه "الفيومي" في معجمه "المصباح المنير": الأسلوب بضم الهمزة: « الطريق والفن وهو على أسلوب من أساليب القوم أي على طريق من طرقهم والسّلْبُ ما يُسْلَبُ والْجَمْعُ أَسْلابٌ »[2].
- ويعرِّفه أيضا "الزمخشري" في معجمه "أساس البلاغة" في مادة (سلب) ويقول:
« سلبه ثوبه وهو سليب, وأخذ سلب القتيل وأسلاب القتلى, ولبست الثكلى السُلاب وهو الحداد, وتسلبت وسلبت على ميتها فهي مسلب والإحداد على الزوج, والتسليب عام وسلكت أسلوب فلان طريقته وكلامه على أساليب حسنة, ومن المجاز: سلبه فؤاده وعقله وأستلبه وهو مستلب العقل »[3].
ب- اصطلاحا:
لقد اعتنى العرب القدامى بمفهوم الأسلوب عناية خاصة باعتباره مدخلا للكشف عن القيم الجمالية الموجودة داخل النصوص وتجلَّى ذلك عند اهتمامهم بالألفاظ بشكل واضح وتعرّضوا لذلك من خلال مستويين هما:
الأول: المستوى المادي: وهو يتصل بمفهوم اللفظة في النواحي الشكلية.
الثاني: فإنه يرتبط بسلوكيات المقولات الكلامية: المستوى الفني[4].
ب1- الأسلوب عند العرب القدامى:
ب1.1: أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني:
لقد قام بمزج رؤية "عبد القاهر الجرجاني" و"أرسطو" وذلك في كتابه "مناهج البلغاء وسراج الأدباء" ونسجِّل عنه ما يلي:
- يجب أن تكون نسبة الأسلوب إلى المعاني.
- يجب أن تكون نسبة النظم إلى الألفاظ.
ويفسر ذلك بقوله: « أن الأسلوب يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة من جهات فكان بمنزلة النظم في الألفاظ الذي هو صورة كيفية الاستمرار في الألفاظ والعبارات »[5].
ونستنج من القول أن الأسلوب من وجهة نظر أبو حازم هو: مما يختص بالمعاني, بينما النظم مما يختص بالألفاظ.
- لقد ظهر في أفق "القرطاجني" رأيان آخران في تحديد ماهية الأسلوب هما[6]:
الأولى: أن الإعجاز القرآني يعود إلى اطراد أسلوبه بين ثنائيتي الفصاحة والبلاغة.
الثانية: ربط فيها الأسلوب بطبيعة الجنس الأدبي في حديثه عن جنس الشعر وقسميه (الجدّ والهزل) وهذا مما تأثر فيه بـ: الكوميديا والتراجيديا الأرسطية[7].
- ويعرف "أبو حازم القرطاجني" الأسلوب أيضا: « إن الأسلوب هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية, وإن النظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية, وإن الأسلوب في المعاني بإزاء النظم في الألفاظ »[8].
ومن هنا نلاحظ أن نظرة "أبو حازم القرطاجني" إلى الأسلوب اقتصرت على الشعر دون غيره من الأنواع الأدبية المعروفة لدى العرب, كما نجد أن هذه النظرة لم تتعد مرحلة الإشارة والتنبيه إلى مرحلة التأسيس والتجريب.
ب2.1: ابن خلدون:
لقد تناول الأسلوب في فصل صناعة الشعر ووجه نعلمه ويقول: « فاعلم أنها عبارة عنده على المنوال الذي تنسج فيه التراكيب, أو القالب الذي يفرغ فيه, ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب, ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب, الذي هو وظيفة البلاغة والبيان »[9].
- ويقول في موضع آخر: « عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب (أي النحو) ولا باعتبار إفادته كمال للمعنى من خواص التراكيب الذي هو وظيفة العروض إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب منتظمة كليا باعتبار انطباقها على تركيب خاص, وتلك الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويعيدها في الخيال كالقالب والمنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصّها فيه رصًّا... »[10].
- ومن خلال القولين "لابن خلدون" نلخِّص مفاهيم الأسلوب عنده في النقاط التالية[11]:
* إن الأسلوب قالب تنصب فيه التراكيب اللغوية.
* إن الأسلوب صورة ذهنية للتراكيب يخرجها كالقالب أو المنوال.
* الأسلوب يتنوع بتنوع الموضوعات ومن خلال قوله: « فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة », فنج أسلوب الشعر يختلف عن أسلوب النثر, وأسلوب الفخر غير أسلوب الغزل...الخ.
* قوام الأسلوب انتقاء التراكيب ثم رصها في القال[12].
ونستنتج أن صياغة الأسلوب الجميل عند "ابن خلدون" هي فن يعتمد على الطبع والتمرّس بالكلام البليغ, ولقد استخدم نوعين من الأدب لإيضاح مفهوم الأسلوب[13].
وفي الأخير يمكن الوصول إلى أن: "ابن خلدون" ذهب إلى أن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد به على أنحاء مختلفة وسلوك الأسلوب عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب.
ومنه نستخلص: أن الأسلوب عند "ابن حازم القرطاجني" مقابل للنظم, إذ يشمل النص الأدبي كلّه ويتحدد بتأليف المعاني, في حين يبتعد عن مفهوم الأسلوب بوصفه خصائص فردية, وهنا نجد "ابن خلدون" أيضا سار على الطريق نفسها التي سار عليها "القرطاجني" إذ يجعل من الأسلوب متعلقا بالمعاني وعبارة عن مناهج للغة الفنية[14].
ب2- الأسلوب عند العرب المحدثين:
أما عند المحدثين فقد حاول عدد من الأدباء والنقاد الحديث عن الأسلوب وذلك حين معالجتهم لبعض القضايا النقدية والبلاغية, ولقد اختلفت تعريفاتهم للأسلوب ويعود هذا الاختلاف إلى مصادر ثقافة هؤلاء الدارسين, فمنهم من متشبع بالثقافة العربية المحافظة ومنهم المتأثر بالدراسات الغربية ومنهم من يحاول أن يضيف للقديم في الدراسات العربية شيئا من التطوير ومحاولة التوفيق بين ما هو قديم وحديث ومن بين هؤلاء:
ب1.2: أحمد الشايب:
لقد افرد للأسلوب كتاب خاص به وذكر فيه العديد من التعريفات نلخِّص أهمها:
- « فن من الكلام يكون قصصا أو حوارا, أو تشبيها أو مجازا, كتابة, تقريرا, حكما, أمثالا ».
- « طريقة الكتابة أو طريقة الإنشاء أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير ».
- « هو الصورة اللفظية التي يعثر بها عن المعاني أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار وعرض الخيال أو العبارات اللفظية المنسِّقة لأداء المعاني »[15].
ومن خلال تعريفاته للأسلوب نجده يحدد في العمليات الإجرائية المساندة للتطورات التي تحدث في ميدان الفكر الإنساني.
ب2.2: سعد مصلوح:
يطرح رؤية تدعو بطريق غير مباشر إلى ربط الأسلوب بمنشئه, وهي رؤية لسانية سالفة حيث يقول: «إن الأسلوب اختيارchoice , أو انتقاء Selection يقوم به المنشئ لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معيّن »[16].
ب3.2: صلاح فضل:
يعرفِّه على أنه: « علم الأسلوب هو الوريث لعلوم البلاغة »[17].
- ويستعمل « علم الأسلوب مقابلا لـ: Stylistique ويراها جزءًا من علم اللغة »[18].
ويدرج (معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة), المعاني الآتية للأسلوب:
- يحيل الأسلوب ضمنيا على مفهوم يعارض بموجبه الاستعمال الفردي والإبداعي للكود ووظيفته الاجتماعية.
- مفهوم الأسلوب اعتبر مثاليا مما حدا بالنقد إلى التساؤل عن دلالته.
- الأسلوب هو طريقة العمل ووسيلة تعبير عن الفكر بواسطة الكلمات والتركيبات[19].
ويعرِّفه الدكتور "رجاء عيد" أيضا في كتابه "البحث الأسلوبي معاصرة وتراث" بأنه:
- الأسلوب هو اختيار من جانب الكاتب بين بدلين في التعبير.
- الأسلوب هو قوقعة تكتنف من داخلها لبًّا فكريا له وجود أسبق.
- الأسلوب هو محصلة خواص ذاتية متسلسلة.
- الأسلوب هو انحراف عن نمط مألوف.
- الأسلوب هو مجموعة متكاملة من خواص يجب توافرها في نص ما.
- الأسلوب هو تلك العلاقات القائمة بين كليات لغوية تشير إلى ما هو أبعد من مجرّد العبارة لتستوعب النص كله[20].
ومن هذه المفاهيم نستخلص مفهومين أساسيين هما:
I- الأسلوب خاصية مشتركة لعدة ظواهر في اللغة والفترة الزمنية والجنس الأدبي وبذلك يكون سمة نصوص فنية , أعمال تشكيلية وقد يمثل أسلوب لغة ما أو أسلوب فترة معينة.
II- الأسلوب خاصة مميزة ومنفردة يدل على حالة فردية بمعنى أن نصًا ما قد يكشف عن أسلوبية خاصة لكاتب معين[21].
ب3- الأسلوب عند قدامى العرب:
حسب ما ورد في لسان العرب تدل كلمة أسلوب على الطريقة أو الفن أو المذهب, ليس لهذا الجذر في اللغة العربية أية صلة بالجذر اللساني لكلمة (Style) في اللغة الإنجليزية.
فكلمة (Style) تشير إلى (مرقم الشمع) وهي أداة للكتابة على ألواح الشمع ولقد اشتقت من الشكل اللاتيني (Stylus) إبرة الطبع (الحفر) واتخذت في اللاتينية الكلاسيكية المعنى العام نفسه وكذلك الأمر في اللغات الحديثة كلها[22].
أما في المعنى الاصطلاحي فقد ورد في كتب البلاغة القديمة ارتباط مصطلح الأسلوب فترة طويلة بمصطلح البلاغة (lahétorèque) حيث كان الأسلوب يعتبر إحدى وسائل إقناع الجمهور[23].
إنه من أهم الدراسات اليونانية في هذا المجال كتاب "أرسطو" "الخطابة" الذي قسم فيه أمور القول ثلاثة أقسام :
- مصادر الأدلة
- الأسلوب
- ترتيب أجزاء القول.
والأسلوب هو القسم الثاني الذي يحظى بالاهتمام الخطابي فهو عنصر الإقناع ولهذا "فأرسطو" يعتبر الوضوح أهم سماته الجمالية[24].
ورث علماء اللغة الأوربيون في العصور الوسطى بعض المفاهيم في تقسيماتهم للأساليب الممكنة في الكتابة وقروا انقسام الأسلوب إلى ثلاثة أقسام:
1- البسيط
2- الوسيط
3- السامي أو الوقور[25].
فالأسلوب البسيط هو: أسلوب يتميز بالبساطة في الاستعمال ويعتمد على اللغة العادية, أما الوسيط: فيتميز باستخدام الزخارف في التراكيب البلاغية الجميلة, يعتمد على الحوار, وأخير"ا الأسلوب السامي: ويرمي إلى تحريك السامع وإثارة عواطفه بصياغة دقيقة وبكل وسائل الزخرف الفني للكلام[26].
ب4- الأسلوب عند الغربيين المحدثين:
إن مفهوم الأسلوب نفسه يختلف تبعا لاختلاف البيئات الثقافية, اختلاف مناطق العمل ومنه سنتعرض لتعريفات بعض النقاد ومنهم:
ب1.4: بيفون: أشارت أغلب الدراسات الحديثة في تعريفها مفهوم الأسلوب إلى تعريف "بيفون" الشهير: « أما الأسلوب هو الرجل نفسه », و« فالأسلوب لا يمكن أخذه ولا نقله ولا تعديله »[27], « إن المعرف والوقائع والاكتشافات تتلاشى بسهولة, وقد تنتقل من شخص لآخر, ويكتسبها من هم أعلى مهارة, فهذه الأشياء تقوم خارج الإنسان أما الأسلوب فهو الإنسان نفسه, فالأسلوب إذن لا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير»[28].
ب2.4:موريه: الأسلوب بالنسبة لنا هو موقف من الوجود من شكل من أشكال الكينونة[29].
ب3.4: ستاندال: الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بأحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه[30].
ب4.4: بيار جيرو: الذي يرى أن الأسلوب: « طريقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللغة»[31].
إذن يحدد "بيار جيرو" مفهوم الأسلوب في الإبداع الأدبي حيث اللغة وتشكيلها، فالأسلوب حسب ذلك هو
تشكيل فني للغة، كما تشكل الألوان لتعطي دلالات خاصة لم ترى قبل هذا التشكيل[32].
ب5.4: ريفاتير: « يفهم من الأسلوب الأدبي كل شكل مكتوب فردي، ذي قصد أدبي، أي أسلوب مؤلف ما أو بالأحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن تطلق عليه الشعر أو النص »[33].
ب6.4: أما المدرسة الفرنسية: تعرف الأسلوب بأنه: «دراسة طريقة العبير عن الفكر من خلال اللغة »[34].
ب7.4: فلوبير: « يعطي للأسلوب بعدا منطقيا لماهية داخل المحيط فيراها طريقة مطلقة لرؤية الأشياء »[35].
- ومنه: إنه بمقابل الواقع الأسلوبي العربي نجد أن الأسلوبية لدى الغربيين، قد نشأت وتطورت حتى أصبح بالإمكان عدّها البلاغة الجديدة التي ترعرعت في ظل الكشوفات اللسانية الحديثة.
ثانيا- نشأة الأسلوب (الأسلوبية)
تزامنت نشأة علم الأسلوب مع تجديد دراسة اللغة وظهور علم اللغة الحديث "اللسانيات" وذلك تبعا لاختلاف استعمالات الناس اللغوية ومن هنا نشأة فكرتان مهمتان في نشأة الأسلوب:
1- التمييز بين اللغة والكلام.
2- أسباب الاختلاف في استعمال اللغة.
وترجع النشأة الحقيقية لمولد علم الأسلوب "لأسلوبية" إلى تنبيه العالم الفرنسي "جوستاف كويرتنج" عام 1886م على كون علم الأسلوب الفرنسي ميدانا شبه مهجور تماما حتى ذلك الوقت.
وإن كلمة الأسلوبية قد ظهرت في القرن 19م وإنها لم تصل إلى معنى محدد إلا في أوائل القرن 20م وكان هذا التحديد مرتبطا بشكل وثيق بأبحاث علم اللغة[36].
ولقد أفاد "شارل بالي" الذي يعدّ من المؤسسين لنظرية علم الأسلوبية: « إن علم الأسلوب يعنى بدراسة الوسائل التي يستخدمها المتكلم للتعبير عن أفكار معينة، وأن العمل الأدبي هو ميدان علم الأسلوب »[37].
لقد كان للمدرسة الإيطالية علاقة خاصة بمحاولة بث روح التجديد في الدراسات البلاغية والإرهاص بمقدمات الفكر الأسلوبي في الثقافة العربية عند الشيخ "أمين الخولي" في كتابه " فن القول".
وقد تحدث "أرسطو" في كتابه "الخطابة" عن الأسلوب وفرّق بين الأسلوب الجميل والأسلوب القبيح وقسمه إلى: أسلوب متصل وآخر دوري[38].
وفي الآداب العربية القديمة استخدمت كلمة الأسلوب للدلالة على تناسق الشكل الأدبي واتساقه في كلام البلاغيين حول: "إعجاز القرآن الكريم" وأقدم من استخدم هذه اللفظة كان "الباقلاني" في كتابه الموسم "بإعجاز القرآن الكريم"، فقد أوضح أن لكل شاعر أو كاتب طريقة يعرف بها وتنسب إليه[39].
ومنه نلخص ما يلي:
I- إن (علم الأسلوب) أو (الأسلوبية) علم يُعنى بكل ما يتعلق بالأسلوب، ويكشف عن الخصائص المميزة (الأسلوبية) للتعبير المكتوب والمنطوق وإن الأسلوب مصطلح ذو مدلول إنساني، ذاتي نسبي، وإن الأسلوبية أو علم الأسلوب أصبحت جسرا يربط علوم اللسان (اللسانيات) بالإبداع الفني الأدبي.
II- إن أهم مبدأ تعتمد عليه الأسلوبية هو ثنائية اللغة والكلام التي تقوم بتحليل الظاهرة اللسانية إلى اللغة وهي نظام عام مجرّد جماعي غير مقصود وإن الكلام: هو استعمال فردي شخصي لذلك النظام.
III- إن أية نظرية في الأسلوب تقوم على أساس فرضية منهجية قوامها أن المدلول الواحد يمكن التعبير عنه بدوال مختلفة، مما يؤدي إلى تعدد الأشكال التعبيرية، على الرغم من وحدة الصورة الذهنية، وإن المقارنة الأسلوبية هي الوسيلة الوحيدة لكشف الخصائص المميزة لكل شكل تعبيري أو استعمال لغوي[40].
ثالثا: بين البلاغة والأسلوبية
لقد كانت البلاغة فنا لتأليف الخطاب, ثم انتهت إلى احتواء التعبير اللساني كلّه ثم احتوت الأدب جميعا، لكن هذا الوضع لم تحتفظ به البلاغة طويلا، حيث تقلّصت ولم يبق لها إلا الأدب ميدانا تعمل فيه تقلّصت أكثر فلم تعد تعمل إلاَّ في حدود خصائص التعبير اللغوي للنص.
ومع بروز "علم الأسلوبية" أو "الأسلوب" واستواءه كعلم متميّز ذو مناهج خاصة وتوجهات معينة على مستوى التنظير والممارسة معالم يعد للبلاغة مكانا في ظل هذه الدراسات اللغوية الحديثة[41].
ولقد كانت أعمال "عبد القاهر الجرجاني" أساسا بارزا قوي الجذور لبناء الدرس الأسلوبي الحديث فهذا يتخذ من تلك الأعمال ركيزته الأساسية ويُعَدُّ أبرز ملامح هذه الركيزة التي تؤصل للدرس الأسلوبي الحديث والصلة بين البلاغة وعلم اللغة الحديث وبينها وبين الدرس الأسلوبي الجديد ترجع بعمقها إلى نوعية المقررات البلاغية القديمة التي أمدت هذا الدرس بمقوّمات أساسية فقد اعتمد علم اللغة الحديث (الجديد) مقررات علم البلاغة القديم في إقامة علم الأسلوب الأدبي عامة والأسلوب الشعري خاصة[42].
يقول "رولان بارت": « إن العالم مليء بالبلاغة القديمة بشكل لا يصدّق »[43]، « أن كلمة قديمة لا تعني أن ثمة بلاغة جديدة اليوم، وبالأحرى فإن البلاغة القديمة توضع بمقابل البلاغة الجديدة التي ربمالم تظهر إلى الوجود حتى الآن », ونجد هذه المقولة ربما تنطبق على واقعنا الأسلوبي العربي أكثر من انطباقها على الواقع الأسلوبي لدى الغرب، بيد أننا نفتقر إلى محاولة جادة وجديدة تؤسس أسلوبية عربية تستند إلى الموروث البلاغي العربي[44].
ونجد:
"بيير جيرو" بأن هناك بلاغة حديثة وأسلوبية حديثة ويقول: « ويمكننا القول بأن الأسلوبية بلاغة حديثة ذات شكل مضاعف إنها علم اليقين, وهي نقد للأساليب الفردية »[45].
ولقد أورد "شكري عياد" عدة فروق بين الأسلوبية والبلاغة ونجملها في النقاط التالية:
1- إن البلاغة علم لساني قديم والأسلوبية علم لساني حديث.
2- إن علم البلاغة علم معياري, بينما تعد البلاغة علما وصفيا.
3- يقرر علم البلاغة أن الكلام ينبغي أن يطابق (مقتضى الحال) في حين تقرر الأسلوبية أن نمط الكلام يتأثر بالموقف.
4- إن أفق الدراسة الأسلوبية أوسع من أفق الدراسة البلاغية, فالأسلوبية تدرس الظواهر اللغوية جميعها بدءا من الصوت وحتى المعنى مرورا بالتركيب[46].
ومنه على الرغم من وقوع المحاولات الأسلوبية الحديثة تحت مقصدية تحديث البلاغة القديمة, إذ نظر إليها على أنها البلاغة الجديدة أو هي الخمر في دنان جديدة وهي وريثة البلاغة, وهي بديل في عصر البدائل, نلحظ في وجهة النظر هذه تبسيطا لمفهوم الأسلوبية وافتقارا لكينونتها المعرفية المختصة بذاتها, فهي وإن تواشجت مع البلاغة بأكثر من علاقة ومسار إلا أنها تفترق عنها في العناية والمفهوم والإجراء, وأن الإلحاح, في إسباغ التصور الحديث عن المفاهيم والحقول القديمة يؤدي إلى السقوط في فخ التقويل المزيف, ويفضي بنا إلى تداخل الحدود بعين البلاغة الأسلوبية, فإذا كانت الأسلوبية في بعض وجوهها امتداد للبلاغة فهي نفي لها في الآن نفسه, وباختصار فإن أجلى فروقها ترتسم بنقص الصفات الأسلوبية الآتية: النصية- الوصفية- الكلية- البعدية- الكتابية.
- ومنه فالبلاغة أكثر اقترابا من علم النحو والأسلوبية أكثر اقترابا من اللسانيات[47].
رابعا: محددات دراسة الأسلوب:
الأسلوب هو الإبداع أو هو العملية الإبداعية بتعقيداتها وإفرازاتها الأمر المعادل, لعملية "التكنيك" ذاتها, وبهذه الحركة الفنية يلتقي "Hough" مع "رومان جاكبسون" فالأسلوب لديه: « هو الوظيفة المركزية المنظمة للخطاب », وتحقق هذه الوظيفة في عمليتين هما: الاختيار والتركيب أو التأليف[48], وهما عنصران مكونان للأسلوب لا يقوم إلاَّ بهما ولكي تتضح أهميتها في تشكيل الأسلوب نقارن بين عملية البناء الهندسي في فن العمارة, وعملية البناء اللغوي للأسلوب, والعمليتان تمران بمرحلتين:
المرحلة الأولى: اختيار المادة الخام التي يصاغ منها البناء, ويجب أن تتناسب مع الموقف.
المرحلة الثانية: التنسيق بين المواد التي اختيرت للبناء, فقد تتشابه المواد الخام لكن يختلف تنسيقها من حيث الشكل واللون اختلافا كبيرا[49].
في حين الدراسة الأسلوبية يمكن رصدها من خلال محورين يتقاطعان ليتشكل الأسلوب وهما كما سبق ذكرهما الاختيار والتأليف.
الاختيار: ويمكن تصوّره على أنه مجموعة كلمات مرتبة عموديا وهي تمثل الرصيد المعجمي للمتكلم الذي يقدر بموجبه على استبدال بعض الكلمات ببعض, ويتم عند المبدع باختيار أدواته التعبيرية.
محور التأليف أو التوزيع أو التركيب: ويمكن تصوّره على أنه ضم الكلمات بعضها إلى بعض وهو عملية ثانية بعد عملية الاختيار, تتمثل في وصف الكلمات وترتيبها وتشكيلها تشكيلا لغويا حسب تنظيم تقتضي بعض قواعد النحو, ويسمح ببعض الآخر التّصرّف في الاستعمال[50].
ومما أفرزه تقاطع أو إسقاط محور الاختيار على محور التأليف العدول أو الانزياح:
- العدول: في العمل الأدبي, كلّما تصرّف الأديب في هيكل الدلالة, وأشكال التركيب انتقل كلامه من السمة الإخبارية إلى السمة الإنشائية الأدبية, فعندما نقول: لا تنفع التمائم عند وقوع الموت, فإننا نحاول إخبار المتلقي بحقيقة, ونتوصل معه بوضوح, لأن غرضنا توصيل النبر فقط, أما في قول "أبي ذؤيب الهذلي":
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لاَ تَنْفَعْ
- فالشاعر لم يرد توصيل خبر, وإنّما أراد رسم صورة للموت موحية, مؤثرة, وربما كان غرضه الأصلي متجسدا في الإيحاء والتأثير ومعروف أنه جعل الموت وحشا ذا أنياب مغروسة في الفريسة, فالشاعر خرج بأسلوبه عن التعبير وإقامة علاقات ركنية جديدة خاصة ثم من تفاعل محوري الاختيار والتأليف صار أسلوبه عدولا عن المألوف[51].
أي أن لكل أديب أو شاعر خاصية ذاتية يتميز بها عن غيره, وعليه نستنتج مما سبق:
1- أن الاختيار أمر تصدقه تجربة الأدباء فيما يكتبون.
2- القول بأن الأسلوب هو تعبير معدول عن أصل معتاد يمكن أن يؤدي إلى القول بأن كل تعبير جاء عن الأصل غير معدول هو خلق من الجمال, وليس ذلك صحيحا على إطلاقه.
3- مجموعة السمات اللغوية التي يعمل فيها المنشئ بالاستبعاد, وبالتكثيف أو الخلخلة وبإتباع طرق مختلفة في التوزيع ليشكل بها نصا هي ما تسمى: بالمتغيّرات الأسلوبية[52].
خامسا: ميادين الدراسة الأسلوبية
من خلال تعدد الدراسات الأسلوبية نستطيع أن نحدد الميادين التي تصلح لدراسة الظاهرة الأسلوبية, وهناك آلاف من البحوث الأسلوبية ظهرت في العصر الحديث ومن خلال التفرقة بين الدراسات التي تهتم بالوصف والدراسات التي تبين الوظيفة نستطيع أن نصنف كثيرا من الدراسات الأسلوبية, وسنتعرض فيما يلي لبعض منها:
- الأسلوبية التعبيرية:
وتعرف بأسلوبية "شارل بالي" تلميذ "دي سوسير" وقد عرّفها على النحو التالي: « أنها تدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية مضامينها الوجدانية (العاطفية), إن أسلوبية التعبير تهدف إلى دراسة القيم التعبيرية (اللغوية) الكامنة في الكلام »[53].
وقد تحوّل مفهوم التعبير عند "كروزو" إلى حدث فني... إلى جمالية, فالكاتب لا يفصح عن إحساسه أو تأويله إلا إذا أتيحت له أدوات دلالية ملائمة, وما على الأسلوبي إلا البحث في هذه الأدوات ويعمل على دراستها وتصنيفها[54].
- الأسلوبية الصوتية:
لقد أشار "رومان جاكبسون" في مقالة له عن شعرية الأدب إلى ميل الشعر إلى نموذج مقطعي متكرر في قوافي الأبيات وتطرّق إلى المقاطع الطويلة والقصيرة وإلى الحدود النحوية التي تعلن الوقوف وتحدد الكلمات, وتقسيم البيت الشعري إلى أقسام باستخدام المقاطع المنبورة وغير المنبورة وغيرها من التقسيمات, وهذه الملاحظات في حقيقة الأمر هي النواة الحقيقية لما عرف تحت مسمَّى الأسلوبية الصوتية وهي تهتم بثلاثة فروع:
- دراسة الأصوات مجرّدة.
- دراسة الإيقاع وتأثيره الجمالي في القصيدة.
- دراسة العلاقة بين الصوت والمعنى[55].
- الأسلوبية الإحصائية:
من خلال استفادتها من المعايير الإحصائية, قررت أن تكشف الحقيقة القائلة: إن الأسلوب عبارة عن مجموعة اختيارات المؤلف لذا يعدُّ الإحصاء معيارا موضوعيا يتيح تشخيص الأساليب, وتميز الفروق بينها, بل يكاد ينفرد من بين المعايير الموضوعية بقابليته لأن يستخدم في قياس الخصائص الأسلوبية, بغضِّ النظر عن الاختلافات في مفهوم الأسلوب نفسه[56].
- الأسلوبية البنيوية:
هي أكثر المذاهب الأسلوبية شيوعا الآن, وعلى نحو خاص فيما يترجم إلى العربية, أو يكتب فيها عن الأسلوبية الحديثة, وتعدُّ امتدادا متطوراً لأسلوبية "شارل بالي" في الوصفية (التعبيرية) وامتداد لآراء "سوسير" التي قامت على التفرقة بين اللغة والكلام[57].
وهنا عدّة أنواع أخرى للتحليل الأسلوبي منها: الأسلوبية الأدبية وغيرها.
- إن الأسلوب ينشأ في منطقة مشتركة بين اللغة والإبداع الفني وإن التحليل الأسلوبي يتعامل مع ثلاثة عناصر هي:
أ- العنصر اللغوي: إذ يعالج التحليل نصوصا قامت اللغة بوضع رموزها.
ب- العنصر النفعي: الذي يؤدي إلى إدخال عناصر غير لغوية في عملية التحليل كالمؤلف والقارئ والموقف التاريخي, وهدف النص الأدبي وغير ذلك.
ج- العنصر الجمالي الأدبي: ويكشف عن تأثير النص في القارئ[58].
ثانيا: أسلوبيات السرد الرّوائي
I- السرد بين القديم والحديث:
أ- قديما:
لقي "السرد" أو النصوص السردية احتفاءً كبيرًا بالدراسة والتعليل عند النقاد والباحثين، ويجمع أغلبهم إلى أن "المقامة" هي ما مثلته قديما، حيث كانت تدل على المجلس والجماعة من الناس، ثم انتقلت لتدل على الأحاديث التي تدور في المجلس، ثم عادت لتتطور من جديد حيث دخلت دائرة المصطلحات الأدبية لتدل على ضرب من السرد يسند إلى راوٍ، ويحكي عن بطل مكدّ، يتشكل من مجموع أفعاله وأقواله متن الحكاية، التي يحملها خطاب المقامة.
ويعدّ "بديع الزمان الهمذاني أبو الفضل أحمد بن الحسين" (358 – 398هـ ) رائد أدب المقامة السردي، وقد اعترف له بهذه الريادة أدباء المقامات من بعده، وفي مقدمتهم "الحريري أبو محمد القاسم بن علي البصري" (ت 516هـ)[59].
كما يعزو كثير من المؤلفين والباحثين في العصر الحديث نشأة المقامات إلى "بديع الزمان الهمذاني" ومنهم: "كارل بروكلمان"، "شوقي ضيف"، "عبد الله الغذامي"، "محمد أبو الفضل إبراهيم" وغيرهم.
وتتلخص مميزات "المقامة" في نقاط أبرزها ما يلي، وهي خطوات تطور المقامة السردية:
- تقديم مقامة بالمعنى اللغوي القديم - أحاديث المجالس - تخلو من الحبكة القصصية، ومن تيمة الكدية معاً "Theme".
- الاعتماد على الراوي في تقديم حبكة خيالية، قريبة الصلة من التراث الأدبي أو مستمدة منه، مثال المقامات البشرية، والغيلانية، وهي مأخوذة من أخبار الشعراء والأدباء، والمقامات المضيرية والمجماعية والنهيدية، وهي مأخوذة من قصص البخلاء وأخبارهم، والمقامة الإبليسية وهي مستمدة من قصص شياطين الشعراء، والمقامة الأسدية وهي مستمة من قصص اللصوص والشطار[60].
- اكتشاف تيمة الكدية، وإسناد البطولة إلى الراوي في حبكة قصصية مفردة، أو في حبكتين في مقامة واحدة.
- اكتشاف شخصية " أبي الفتح الاسكندري " وإسناد البطولة إليه، بعد أن خلت منه مقامات متعددة، وقد تم ذلك مرورا بخطوات:
- تقديم البطل بأوصاف الاسكندري دون تسميته، كصفة بقوله "رجل في طمرين، في يمناه عكازه" في المقامة الأهوازية.
- تقديمه بأسماء متعددة لا باسم الاسكندري منها: الناجم في المقامة الناجمية.
- تقديم باهت للبطل تحت اسمه الذي استقر ـ بالكنية واللقب ـ "أبي الفتح الاسكندري".
- تحقق المقامات التي تقدم تسجيلا مباشرًا في لغة أدبية متميّزة.
- استواء شخصية البطل "أبي الفتح الاسكندري" في صورة الأديب الفصيح، "الجوال المكدي" ذي الحيلة الواسعة، والفلسفة الخاصة، والموقف من الناس والزمان الذي يعبر عن اغترابه، وذلك في حبكة قصصية واحدة تشتمل على الوظائف البروبية.
وقد تمثلت المقامة الناضجة في المقامات الخمرية، المكفوفية، الحرزية والأصفهانية، كما أن مقامات "بديع الزمان الهمذاني" اكتفت بحكم ريادتها بتشكيل بنيات سردية قصيرة متجاورة، نصوصا متعددة واحدا متناميا متكاملا[61].
ب- حديثا:
لقد بدأت السرديات الحديثة مخاضها العسير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إثر انهيار النسق التقليدي في الثقافية الموروثة، وتفكك المرويات السردية القديمة وانكسار الأسلوب المتصنّع في التعبير، وكان هذا التفكك متزامنا مع تشكل بطيء للأنواع الجديدة ليس له نهاية محددة ولا بداية واضحة تكشف حالة تفكك المقامات التي استغرقت زمنا طويلا بدأ طرف منه متزامنا مع لحظة تشكلها الأولى، كما تمثّله بعض مقامات الهمذاني, التي لم تمتثل للبنية التقليدية، وبالمثل انتزعت الرواية وهي لبّ السرديات، شرعية كاملة كنوع أدبي يختل المرتبة الأولى في أدبنا الحديث، إلى درجة اعتبر عصرنا عصر الرواية[62]،وذهب البعض إلى أنها ديوان العرب في القرن العشرين، كما أنها خضعت في تشكّلها للقانون الثقافي الخاص بالتمثيل في مستوياته الواقعية وغير الواعية، كما يكشف المسار الصعب لها أنها مرّت في ظروف استثنائية قبل أن تحوز الاعتراف بها بوصفها نوعًا أدبيًا مقبولاً, فقد بيّن "باختين" كيف أن " النقد في القرنين السابع عشر والثامن عشر لم يعترف بالرواية بوصفها جنسا مستقلا، بل كان يرجعها إلى الأجناس البلاغية المختلطة، وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر اهتمام واضح بنظرية الرواية بوصفها جنسا أدبيا أساسيا في الأدب الأوروبي".
ولقد ظهرت عدّة مؤلفات في السرد في الأدب الغربي، حيث ألف " تشاتمان" كتابا جمع فيه نتائج الدراسات البنيوية، وظهر في سنة 1978م كتاب "دوريت كوهن" المعنون بـ: " العقول الشفافة" وهو دراسة كاملة عن تقديم الوعي في السرد، وبعدها ظهرت ترجمات كتاب "جيرام جنييت" المعنون بـ" الخطاب السردي" وكتاب "فرانز ستانزيل" "نظرية السرد"[63].
ويعود الفضل إلى "تودوروف" في اشتقاق مصطلح " Narratology " الذي نحته عام 1969م للدلالة على الاتجاه النقدي الجديد المتخصص بالدراسات السردية، بيد أن الباحث الذي استقام على جهوده مبحث السردية، في تيارها الدلالي هو الروسي "فلادمير بروب" وقد بحث في أنظمة التشكل الداخلي للخرافة واستخلص القواعد الأساسية لبنيتها السردية والدلالية، ثم أصبح تحليله مربعا ملهما للسرديين، وراحوا يتوسعون فيه، إلى أن أصدر كتاب "خطاب السرد" ـ كما أسلفنا الذكر ـ الذي جرف فيه تثبيت مفهوم السرد، وتنظيم حدود السردية[64].
أما بالنسبة للعرب، فقد ظهرت الدراسات السردية المتخصصة في النقد العربي الحديث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وشغل بها كثيرون بين رافض لها وآخذ, ولقد انشطرت المواقف حول الدراسات السردية، فمن جهة سعت تلك الدراسات إلى الانتقال بالنقد الأدبي من الانطباعات الشخصية والتعليقات الخارجية والأحكام الجاهزة إلى قليل الأبنية السردية والأسلوبية والدلالية، ثم تركيب النتائج التي تتواصل إليها في ضوء تصنيف دقيق لمكوّنات النصوص السردية، ومن جهة ثانية حامت الشكوك حول قدرتها على تحقيق وعودها المنهجية والتحليلية، لأن كثيرا منها وقع أسير الإبهام والغموض.
كما ولم يجر اتفاق بين النقاد العرب على نموذج تحليلي سردي شامل يمكن توظيفه في دراسة النصوص السردية العربية القديمة، ولا اتفق على نموذج يصلح لتحليل النصوص الحديثة، ولهذا لم ينتظم أفق مشترك لنظرية سردية عربية تمكن النّقاد العرب من تحليل أدبهم، إذ اختلفوا في كل ماله صلة بذلك، فأخفقوا في الاتفاق على اقتراح نموذج عام يستوعب عملية التحليل السردي للنصوص.
أضف إلى ذلك وقوع الاختلاف في استيعاب المفاهيم السردية الجديدة، والإضراب في ترجمتها إلى العربية، وهذه الفوضى الاصطلاحية فوضى أخرى لدى القرّاء، وكان هذا كله جزءً من الفوضى الاصطلاحية الأدبية الحديثة لم يستقرّ أمرها في الثقافة العربية إلاّ بصورة جزئية، حيث اختلف في ترجمة مصطلح: "Discourse" إلى (الإنشاء) ثم (الخطاب) وكذلك مصطلح: Narratology"" الذي ترجم إلى: علم السرد – علم القص – علم الحكاية – نظرية القصة – السرديات، وهناك من فضّل السردلوجيا – ثم انتهى بأن تكون "السردية" الأكثر شيوعا بين كل هذا.
كما أن مفاهيم هذه المصطلحات والمقولات التي تندرج ضمنها لم يتفق بشأنها معنى أو ترجمة، وعلى الرغم من هذه الاضطرابات والاختلافات والتضارب، إلاّ أن السردية أنجزت مهمة مفيدة وجليلة، إذ خلخلت ركائز النقد التقليدي ودفعت برؤية جديدة لعلاقة الأدب بالنقد، كما أن ردّة فعل المناهج التقليدية كانت عنيفة أيضا، لكن بمرور الوقت خفت التنازع بين الطرفين، لكن الأفكار الجديدة لم تقبل كما ينبغي فمازالت صورة النقد السردي متقلبة ولم تستقر بعد على أرضية متماسكة من الفرضيات والمفاهيم[65].
II- مفاهيم السرد وآلياته:
لقد اختلف النقاد في تحديد مفهوم السرد، كما اختلفوا في ترجمته، فتعددت مصطلحاته فمنها: علم القصة ، الحكي، السرديات، لذلك سنورد أكثر من مفهوم لبعض النقاد والأدباء.
- عند جيرالد برنس[66]:
• السرد " Narration ":
1- خطاب يقدم حدثا أو أكثر، ويتم التمييز تقليديا بينه وبين الوصف "Description"، والتعليق "Commentarg"، سوى أنه كثيرا ما يتم دمجها فيه.
2- إنتاج حكاية، سرد مجموعة من المواقف والأحداث، إن السرد اللاحـق Posterion narration، يتبع المواقف والأحداث المروية زمنيا، ويعد هذا النوع من السرد أحد خصائص السرد الكلاسيكي أو "التقليدي" السرد المتقدم "Anterion narration" وهو السرد الذي يحدى (افتراضا) في نفس زمن الأحداث والمواقف المروية (جيم يهبط إلى الشارع, يرى سوزان, يحييها,...), وأخيرا يتموقع "السرد المقحم" (المتداخل) "narrative Intercalated" زمنيا بين مرحلتين من مراحل الأحداث المروية، ويعد أحد خصائص السرد الرسائلي (باميلا) وسرد اليوميات (الغثيان الساتر).
3- هو السرد " Telling " بالنسبة لـ "تودوروف": إن "السرد" بالنسبة لـ "التمثيل" "Représentation"مثل السرد بالنسبة للعرض "Showing".
4- الخطاب "Discourse" عند "ريكاردو": إن السرد "Narration" بالنسبة لـ "المتخيّل" "Fiction" مثل "الخطاب" بالنسبة لـ "القصة" "Story".
• السرد ( الحكي ) " narrative ":
1- السرد كمنتج وسيرورة, موضوع وفعل، (بنية وبنينة) المتعلق بحدث حقيقي أو خيالي أو أكثر، يقوم بتوصيله واحد أو اثنين أو عدد من الرواة لواحد أو اثنين أو عدد من المروي لهم (ظاهرين بدرجة أو بأخرى).
2- كما تطرق "موريس إيخنباوم"[67] إلى السرد وقسمه إلى نوعين مباشر وغير مباشر، فأما المباشر فهو الذي يتصدّى فيه الراوي ليروي لنا ما يحدث، والسرد التمثيلي (غير مباشر) أو التشخيصي وهو الذي يغلب فيه تدخل شخصيات الرواية أو القصة فتنبئ عن أفعالها أو أجوائها عن طريق الحوار بعضها مع بعض.
- عند " محمّد بنسعيد "[68]:
السرد هو الخطاب اللفظي الذي يخبرنا عن هذا العالم، وهو يسمى أحيانا بالتلفظ,... وقد يعني كذلك الحكي والقصّ من طرف الكاتب أو الشخصية في الإنتاج الفني، يهدف إلى تصوير الظروف التفصيلية للأحداث والأزمان، ويعني كذلك برواية أخبار تمت بصلة للواقع أو لا تمت أسلوب في الكتابة تعرفه القصص والروايات والمسرحيات والسير.
والسرد هو الطريقة الخاصة بكل روائي في تقديم أحداث روايته أي مجموع التقنيات والمهارات اللغوية التي تجعل من مجموعة أحداث منتظمة، داخل نسق روائي محدد، وتؤدي وظيفة جمالية أو إقناعية ذات معنى، ونعتقد أن تمييز "جينيت" بين الملفوظ السردي مكتوبا أو شفها، والمضمون السردي والحدث، ما هي إلاّ تقنيات سردية قد يلجأ إليها الروائيون بنسب مختلفة.
- عند حميد لحمداني[69]:
•السرد"la narration": يقوم الحكي على دعامتين أساسيتين:
أولاهما: أن يحتوي السرد على قصة ما, تضم أحداثا معيّنة.
وثانيهما: أن يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة و تسمى هذه الطريقة سردًا, ذلك أن قصة واحدة يمكن أن تحكى بطرق متعددة, و لهذا السبب فإن السرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل أساسي.
III- السرد ومستوياته:
1) السارد أو الراوي:
وهو شخصية متخيلة أو كائن من ورق, شأنه شأن باقي الشخصيات الروائية الأخرى, يتوسل بها المؤلف وهو يؤسس عالمه الحكائي لتنوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابه الإيديولوجي, وأيضا ممارسة لعبة الإيهام بواقعية ما يروى, والسارد أو الراوي يمثل دور الوسيط الفنّي الذي يقدم أحداث القصة"fabula"من خلال وجهة نظره الخاصة أو منظوره الشخصي[70].
وليس الراوي هو المؤلف أو الروائي, بل الراوي في الحقيقة هو أسلوب صياغة أو بنية من بنيات القصة, شأنه شأن الشخصية والزمان والمكان, وهو أسلوب تقديم المادة القصصية قناع من الأقنعة العديدة التي يتستّر ورائها الروائي لتقديم عمله.
وللرواية مستويات متعددة, وأكثر من نوع من الرواة, منها:
- الراوي الخارجي المجهول:
ونقصد به الراوي المجهول الذي يفتتح السرد بجمل معتادة مثل ما عرف في مقامات "الحريري" «حدث الحارث بن همام قال ....» والتي تفهم على ضوء النص الغالب, على أنها ليست مجرّد بداية لسرد, وإنما هي أيضا إشارة إلى حضور نوع من السرد الخيالي, وصار هذا الإسناد مجرّد تقليد فنّي ينبئ بقدوم سرد خيالي بعده, وعلامة على نوع أدبي ابتكره من قبل "بديع الزمان الهمذاني", ويؤسس له الآن "الحريري", ولم يعد مقبولا بعد مقامات البديع أن يحدث خلط خاصة لدى المتلقي الكتابي"القارئ" بين ذلك الراوي الخيالي و بين المؤلف الواقعي[71].
وقد عاد الراوي الخارجي المجهول للظهور قبيل نهاية المقامة, وبعد انتهاء العرض الأدبي, غالبا, وربط بين جزئي الحكاية السابق منها و اللاحق, عند تم فصل مهم, وعليه فإن الراوي الأول هو من نمط الراوي الخارجي العليم, الموضوعي, غير الملتحم بما يروى, ووظيفته هي التنسيق الداخلي للخطاب.
- الراوي الداخلي المعلوم، والمستوى الأول للسرد:
بمصطلح "جيرار جينيت" "Intradiegetic Narrator"، هو جو داخلي جوا في الحكي مشارك في الأحداث ملتحم بالحكاية، يقدم لها سردا ابتدائيا أو أساسيا، أو ما يسمّى بالسرد من الدرجة الأولى، ويستخدم هذا الشكل ضمير المتكلم أو ضمير الغائب، ولكن مع الاحتفاظ دائما بمظهر الرؤية مع إن الرؤية مع أو العلاقة المتساوية بين الراوي والشخصية هي التي جعلها "توماتشفسكي" بعنوان "السرد الذاتي" والراوي هنا يكون مصاحبا لشخصيات يتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع ويتجلّى هذا بشكل واضح في روايات الشخصية[72].
- السرد من الدرجة الثانية أو المستوى الثاني في السرد:
ويتحقق عندما تبدأ شخصية من شخصيات السرد الابتدائي سردا آخر ثانويا ترويه لشخصية من شخصيات السرد الابتدائي، وهو ما يسمّى بالحكي داخل الحكي.
وتجد علاقة تربط بين السرد الابتدائي والسرد الثاني تسمى في بويطيقا السرد علاقة الأغراض، وهي علاقة لا تتضمن أية استمرارية مكانية، زمانية بين السرد الابتدائي والسرد الثانوي، بل هي علاقة تباين أو مجانسة.
أما العلاقة الثالثة بين السردين فيعبر عنها أحد الباحثين إفادة من "جينيت" بقوله: « والنمط الثالث لا ينطوي على علاقة واضحة بين المستويين، وأظهر مثل لذلك حكايات ألف ليلة حين تلجأ شهرزاد إلى حكايات متجددة لتتجنب الموذا », أي أن وظيفة الحكي الداخلي هنا هي دفع السرد والعمل على امتداده واستمراره، وتحقيق متعته وإغوائه[73].
2) المروي عليه "Naratee":
المروي عليه عنصر أساسي في السرد فلا يمكن تصوّر سرد بدون مروي عليه، والراوي يخاطب مستمعين يكونون ضمنيين "implied" وأحيانا أخرى يكونون محددين بجلاء، كما أن البنية السردية للخطاب يشترط لتحقيقها ثلاثة مكونات أساسية متضافرة هي الراوي, والمروي, والمروي عليه، فالراوي هو الذي ينشئ السرد، والمروي عليه هو المتلقي الذي يتوجه إليه بالرسالة أو الخطاب السردي.
ويعرّف "جير الدبرنس" المروي عليه بأنه: « شخص ما يوجه إليه الراوي خطابه »، ويمكن وفق رأي برنس استشفاف صورة المروي عليه من خلال خطاب الراوي له، ويمكن تصنيف المروي عليه أو المروي عليهم، فقد يكون واحدا أو مجموعة، حسب أمزجتهم أو حالتهم الاجتماعية أو معتقداتهم، ومن ناحية أخرى فمن السهل نسبيا أن نصنّف المروي عليهم حسب الموقف السردي، وموقعهم في الإشارة إلى الراوي والشخصيات والسرد[74].
والراوي في القصة من المستوى الأوّل يناظره مروي عليه من المستوى الأوّل أيضا، وكما أن الراوي له وجود منفصل عن المؤلف، وكذلك للمروي وجود مستقل عن وجود القارئ حتى لو كان قارئا ضمنيا.
3) التبئير "Focalization":
ويعبر عن هذا المفهوم باصطلاحات متعددة مثل: الرؤية، المجال، وجهة النظر، لكن "جيرار جنيت" يفضل عليها استعمال مصطلح البؤرة أو التبئير، ويرتبط هذا المفهوم بالتقنية المستخدمة لحكي القصة المتخيلة، والذي يحدد شروط اختيار هده التقنية دون غيرها، هو الغاية التي يهدف إليها الكاتب عبر الراوي, وقد وضع "جان بويون" زاوية الرؤية السردية للراوي، وتتضح من خلال مقال لـ: "تودوروف" بعنوان: "مقولات الحكي" إلا أن "تودوروف" اعتبر مجموع زوايا الرؤية السردية مجرّد مظاهر للحكي[75]:
- الراوي (الشخصية الحكائية):
ويسمّي "بويون" هذه العلاقة "بالرؤية من الخلف" وتتمثل في القص التقليدي الكلاسيكي، ويكون الراوي عارفا أكثر مما تعرفه الشخصية الحكائية، وتتجلّى سلطة الراوي هنا في أنه يستطيع مثلا أن يدرك رغبات الأبطال الخفية، وهو ما أسماه "توماتشفسكي" بالسرد الموضوعي.
- الراوي (الشخصية الحكائية):
وهو ما يسميه "الرؤية" مع "Vision avec": وتكون معرفة الراوي على قدر معرفة الشخصية الحكائية، ويستخدم هذا الشكل ضمير المتكلم أو ضمير الغائب مع الاحتفاظ دائما بمظهر الرؤية مع، والراوي في النوع إما أن يكون شاهدا على الأحداث أو الشخصية مساهمة في القصة، وقد سماه "توماتشفسكي" "بالسرد الذاتي".
- الراوي (الشخصية):
ويسميه "بويون" الرؤية من خارج "Vision dehors" والراوي هنا يعتمد كثيرا على الوصف الخارجي، أي وصف الحركة والأصوات، ولا يعرف إطلاقا ما يدور بخلد الأبطال، ووصفت الرواية المنتمية لهذا الاتجاه بالرواية الشيئية، لأنها تخلو من وصف المشاعر السيكولوجية، كما أن بعضها يكاد يخلو من الحدث[76].
وتعد مستويات "التبئير" في مقامات "الحريري" على النحو التالي:
1- التبئير الداخلي الثابت: وفيه يعرض كل شيء من خلال وعي شخصية واحدة، مما يؤدي حتما لتضييق مجال الرؤية، وحصرها في شخصية واحدة بعينها، لدرجة تصبح معها الشخصيات الأخرى مسطحة.
2- التبئير الداخلي المتنوع: حيث يتم التبئير من خلال عدة شخصيات، وتقدم عدة منظورات، متتابعة لأحداث متعددة.
3- التبئير الداخلي المتعدد: ويتم فيه عرض الحدث الواحد مرات عديدة، ومن وجهات نظر شخصيات مختلفة، كما يحدث في الروايات البوليسية وروايات المراسلة.
4- التبئير الخارجي: وهو يقابل ما أطلق عليه "بويون" "الرؤية من الخارج "حيث الراوي الشخصية، وفية نتابع حياة وسلوك الشخصيات خارجيا مع السارد، دون أن نتمكن من ولج عالمها الداخلي، عالم العواطف والأفكار[77].
IV- أنماط السرد:
I)- السرد الاستشرافي "Prolepse":
وهو عملية سردية تتمثل في إيراد حدث آت أو الإشارة إليه مسبقا قبل حدوثه, ويمكن توقع حدوث هذه الأحداث.
وأهم ما يميّز هذا النوع من السرد أنه يقدم معلومات لا تتصف باليقينية, فإذا لم يتم الحديث بالفعل, فليس هناك ما يؤكد حصوله, ولذلك كان أسلوب السرد الاستشرافي شكلا من أشكال الانتظار, وقد ميّز النقد الغربي الحديث بين نوعين هما:
- أسلوب السرد الاستشرافي الداخلي: ويتألف من إشارات "Allusions" مستقبلية تسهم بدورها في وظيفة الخبر الأساسي في القصة[78].
- أسلوب السرد الاستشرافي الخارجي: وهو ظاهرة سردية تتعلق عرضا بالخبر الأساس في القصة.
II)- السرد الاستذكاري "Analépses":
هو خاصية حكائية وهو شكل من أشكال الرجوع إلى الماضي للتعريف بالشخصية، وما مرّ بهما من أحداث أو تعريف بشيء من الأشياء أو سوى ذلك، وينقسم إلى نوعين: داخلي وخارجي.
- الداخلي: يتصل مباشرة بالشخصيات بأحداث القصة، أي أنه يسير معها وفق خط زمني واحد بالنسبة إلى زمنها الروائي،لهذا نجد له عدة مصطلحات في الدراسات النقدية الحديثة، منها:"الفلاش باك".
واستعمل "عبد الملك مرتاض" مصطلح "الارتداد" بديلا له، ذلك أن الارتداد في مدلول العربية يعني الرجوع في أمر ما، أو الرجوع إلى الوراء جميعا، فهو شامل للحركتين المادية والمعنوية أو النفسية[79].
- أما الاستذكار الخارجي: يقف إلى جانب الأحداث والشخصيات ليزيد في توضيح الأخبار، الأساسية في القصة وفي إعطاء معلومات إضافية تتيح للقارئ فرصة جديدة في فهم الأخبار، كما أن الاستذكارات تخرج من خط زمن القصة، تسير وفق خط زمني خاص بها، ويقدم هذا النوع من السرد وظائف أبرزها:
- إعطاء معلومات عن ماضي عنصر من عناصر الحكاية ( شخصية، إطار، عقدة ).
- سد ثغرة حصلت في النص القصصي، أي استدراك متأخر لإسقاط سابق مؤقت.
- تذكير بأحداث ماضية وقع إيرادها فيما سبق من السرد أي عودة السارد بصفة صريحة أو ضمنية إلى نقطة زمنية وردت من قبل[80].
[1] ابن منظور, لسان العرب, دار النشر لسان العرب, بيروت , دط, دت, مج: 2, ص: 178.
[2] الفيومي, المصباح المنير, مادة (سلب) , عن عبد ال
أولا: من الأسلوب إلى الأسلوبية
I- الأسلوب في الدراسات القديمة والحديثة:
1- الأسلوب لغة واصطلاحا:
أ- لغة: لقد أشار المعجم اللغوي العربي إلى مفهوم الأسلوب في العديد من المعاجم ونجد منهم "ابن منظور" في معجمه "لسان العرب" يعرفه في مادة (سلب) كالآتي:
« يقال للسطر من النخيل أسلوب وكل طريق ممتد فهو أسلوب... الأسلوب الطريق والوجه والمذهب... يقال أنتم في مذهب سوء... ويجمع أساليب الأسلوب بالضم: الفن... يقال أخذ فلان في أساليب من القول, أي أفانين منه »[1].
- ويعرِّفه "الفيومي" في معجمه "المصباح المنير": الأسلوب بضم الهمزة: « الطريق والفن وهو على أسلوب من أساليب القوم أي على طريق من طرقهم والسّلْبُ ما يُسْلَبُ والْجَمْعُ أَسْلابٌ »[2].
- ويعرِّفه أيضا "الزمخشري" في معجمه "أساس البلاغة" في مادة (سلب) ويقول:
« سلبه ثوبه وهو سليب, وأخذ سلب القتيل وأسلاب القتلى, ولبست الثكلى السُلاب وهو الحداد, وتسلبت وسلبت على ميتها فهي مسلب والإحداد على الزوج, والتسليب عام وسلكت أسلوب فلان طريقته وكلامه على أساليب حسنة, ومن المجاز: سلبه فؤاده وعقله وأستلبه وهو مستلب العقل »[3].
ب- اصطلاحا:
لقد اعتنى العرب القدامى بمفهوم الأسلوب عناية خاصة باعتباره مدخلا للكشف عن القيم الجمالية الموجودة داخل النصوص وتجلَّى ذلك عند اهتمامهم بالألفاظ بشكل واضح وتعرّضوا لذلك من خلال مستويين هما:
الأول: المستوى المادي: وهو يتصل بمفهوم اللفظة في النواحي الشكلية.
الثاني: فإنه يرتبط بسلوكيات المقولات الكلامية: المستوى الفني[4].
ب1- الأسلوب عند العرب القدامى:
ب1.1: أبو الحسن حازم بن محمد القرطاجني:
لقد قام بمزج رؤية "عبد القاهر الجرجاني" و"أرسطو" وذلك في كتابه "مناهج البلغاء وسراج الأدباء" ونسجِّل عنه ما يلي:
- يجب أن تكون نسبة الأسلوب إلى المعاني.
- يجب أن تكون نسبة النظم إلى الألفاظ.
ويفسر ذلك بقوله: « أن الأسلوب يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة من جهات فكان بمنزلة النظم في الألفاظ الذي هو صورة كيفية الاستمرار في الألفاظ والعبارات »[5].
ونستنج من القول أن الأسلوب من وجهة نظر أبو حازم هو: مما يختص بالمعاني, بينما النظم مما يختص بالألفاظ.
- لقد ظهر في أفق "القرطاجني" رأيان آخران في تحديد ماهية الأسلوب هما[6]:
الأولى: أن الإعجاز القرآني يعود إلى اطراد أسلوبه بين ثنائيتي الفصاحة والبلاغة.
الثانية: ربط فيها الأسلوب بطبيعة الجنس الأدبي في حديثه عن جنس الشعر وقسميه (الجدّ والهزل) وهذا مما تأثر فيه بـ: الكوميديا والتراجيديا الأرسطية[7].
- ويعرف "أبو حازم القرطاجني" الأسلوب أيضا: « إن الأسلوب هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية, وإن النظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية, وإن الأسلوب في المعاني بإزاء النظم في الألفاظ »[8].
ومن هنا نلاحظ أن نظرة "أبو حازم القرطاجني" إلى الأسلوب اقتصرت على الشعر دون غيره من الأنواع الأدبية المعروفة لدى العرب, كما نجد أن هذه النظرة لم تتعد مرحلة الإشارة والتنبيه إلى مرحلة التأسيس والتجريب.
ب2.1: ابن خلدون:
لقد تناول الأسلوب في فصل صناعة الشعر ووجه نعلمه ويقول: « فاعلم أنها عبارة عنده على المنوال الذي تنسج فيه التراكيب, أو القالب الذي يفرغ فيه, ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب, ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب, الذي هو وظيفة البلاغة والبيان »[9].
- ويقول في موضع آخر: « عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ فيه ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب (أي النحو) ولا باعتبار إفادته كمال للمعنى من خواص التراكيب الذي هو وظيفة العروض إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب منتظمة كليا باعتبار انطباقها على تركيب خاص, وتلك الصورة التي ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويعيدها في الخيال كالقالب والمنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان فيرصّها فيه رصًّا... »[10].
- ومن خلال القولين "لابن خلدون" نلخِّص مفاهيم الأسلوب عنده في النقاط التالية[11]:
* إن الأسلوب قالب تنصب فيه التراكيب اللغوية.
* إن الأسلوب صورة ذهنية للتراكيب يخرجها كالقالب أو المنوال.
* الأسلوب يتنوع بتنوع الموضوعات ومن خلال قوله: « فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة », فنج أسلوب الشعر يختلف عن أسلوب النثر, وأسلوب الفخر غير أسلوب الغزل...الخ.
* قوام الأسلوب انتقاء التراكيب ثم رصها في القال[12].
ونستنتج أن صياغة الأسلوب الجميل عند "ابن خلدون" هي فن يعتمد على الطبع والتمرّس بالكلام البليغ, ولقد استخدم نوعين من الأدب لإيضاح مفهوم الأسلوب[13].
وفي الأخير يمكن الوصول إلى أن: "ابن خلدون" ذهب إلى أن لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد به على أنحاء مختلفة وسلوك الأسلوب عبارة عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب.
ومنه نستخلص: أن الأسلوب عند "ابن حازم القرطاجني" مقابل للنظم, إذ يشمل النص الأدبي كلّه ويتحدد بتأليف المعاني, في حين يبتعد عن مفهوم الأسلوب بوصفه خصائص فردية, وهنا نجد "ابن خلدون" أيضا سار على الطريق نفسها التي سار عليها "القرطاجني" إذ يجعل من الأسلوب متعلقا بالمعاني وعبارة عن مناهج للغة الفنية[14].
ب2- الأسلوب عند العرب المحدثين:
أما عند المحدثين فقد حاول عدد من الأدباء والنقاد الحديث عن الأسلوب وذلك حين معالجتهم لبعض القضايا النقدية والبلاغية, ولقد اختلفت تعريفاتهم للأسلوب ويعود هذا الاختلاف إلى مصادر ثقافة هؤلاء الدارسين, فمنهم من متشبع بالثقافة العربية المحافظة ومنهم المتأثر بالدراسات الغربية ومنهم من يحاول أن يضيف للقديم في الدراسات العربية شيئا من التطوير ومحاولة التوفيق بين ما هو قديم وحديث ومن بين هؤلاء:
ب1.2: أحمد الشايب:
لقد افرد للأسلوب كتاب خاص به وذكر فيه العديد من التعريفات نلخِّص أهمها:
- « فن من الكلام يكون قصصا أو حوارا, أو تشبيها أو مجازا, كتابة, تقريرا, حكما, أمثالا ».
- « طريقة الكتابة أو طريقة الإنشاء أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير ».
- « هو الصورة اللفظية التي يعثر بها عن المعاني أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار وعرض الخيال أو العبارات اللفظية المنسِّقة لأداء المعاني »[15].
ومن خلال تعريفاته للأسلوب نجده يحدد في العمليات الإجرائية المساندة للتطورات التي تحدث في ميدان الفكر الإنساني.
ب2.2: سعد مصلوح:
يطرح رؤية تدعو بطريق غير مباشر إلى ربط الأسلوب بمنشئه, وهي رؤية لسانية سالفة حيث يقول: «إن الأسلوب اختيارchoice , أو انتقاء Selection يقوم به المنشئ لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معيّن »[16].
ب3.2: صلاح فضل:
يعرفِّه على أنه: « علم الأسلوب هو الوريث لعلوم البلاغة »[17].
- ويستعمل « علم الأسلوب مقابلا لـ: Stylistique ويراها جزءًا من علم اللغة »[18].
ويدرج (معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة), المعاني الآتية للأسلوب:
- يحيل الأسلوب ضمنيا على مفهوم يعارض بموجبه الاستعمال الفردي والإبداعي للكود ووظيفته الاجتماعية.
- مفهوم الأسلوب اعتبر مثاليا مما حدا بالنقد إلى التساؤل عن دلالته.
- الأسلوب هو طريقة العمل ووسيلة تعبير عن الفكر بواسطة الكلمات والتركيبات[19].
ويعرِّفه الدكتور "رجاء عيد" أيضا في كتابه "البحث الأسلوبي معاصرة وتراث" بأنه:
- الأسلوب هو اختيار من جانب الكاتب بين بدلين في التعبير.
- الأسلوب هو قوقعة تكتنف من داخلها لبًّا فكريا له وجود أسبق.
- الأسلوب هو محصلة خواص ذاتية متسلسلة.
- الأسلوب هو انحراف عن نمط مألوف.
- الأسلوب هو مجموعة متكاملة من خواص يجب توافرها في نص ما.
- الأسلوب هو تلك العلاقات القائمة بين كليات لغوية تشير إلى ما هو أبعد من مجرّد العبارة لتستوعب النص كله[20].
ومن هذه المفاهيم نستخلص مفهومين أساسيين هما:
I- الأسلوب خاصية مشتركة لعدة ظواهر في اللغة والفترة الزمنية والجنس الأدبي وبذلك يكون سمة نصوص فنية , أعمال تشكيلية وقد يمثل أسلوب لغة ما أو أسلوب فترة معينة.
II- الأسلوب خاصة مميزة ومنفردة يدل على حالة فردية بمعنى أن نصًا ما قد يكشف عن أسلوبية خاصة لكاتب معين[21].
ب3- الأسلوب عند قدامى العرب:
حسب ما ورد في لسان العرب تدل كلمة أسلوب على الطريقة أو الفن أو المذهب, ليس لهذا الجذر في اللغة العربية أية صلة بالجذر اللساني لكلمة (Style) في اللغة الإنجليزية.
فكلمة (Style) تشير إلى (مرقم الشمع) وهي أداة للكتابة على ألواح الشمع ولقد اشتقت من الشكل اللاتيني (Stylus) إبرة الطبع (الحفر) واتخذت في اللاتينية الكلاسيكية المعنى العام نفسه وكذلك الأمر في اللغات الحديثة كلها[22].
أما في المعنى الاصطلاحي فقد ورد في كتب البلاغة القديمة ارتباط مصطلح الأسلوب فترة طويلة بمصطلح البلاغة (lahétorèque) حيث كان الأسلوب يعتبر إحدى وسائل إقناع الجمهور[23].
إنه من أهم الدراسات اليونانية في هذا المجال كتاب "أرسطو" "الخطابة" الذي قسم فيه أمور القول ثلاثة أقسام :
- مصادر الأدلة
- الأسلوب
- ترتيب أجزاء القول.
والأسلوب هو القسم الثاني الذي يحظى بالاهتمام الخطابي فهو عنصر الإقناع ولهذا "فأرسطو" يعتبر الوضوح أهم سماته الجمالية[24].
ورث علماء اللغة الأوربيون في العصور الوسطى بعض المفاهيم في تقسيماتهم للأساليب الممكنة في الكتابة وقروا انقسام الأسلوب إلى ثلاثة أقسام:
1- البسيط
2- الوسيط
3- السامي أو الوقور[25].
فالأسلوب البسيط هو: أسلوب يتميز بالبساطة في الاستعمال ويعتمد على اللغة العادية, أما الوسيط: فيتميز باستخدام الزخارف في التراكيب البلاغية الجميلة, يعتمد على الحوار, وأخير"ا الأسلوب السامي: ويرمي إلى تحريك السامع وإثارة عواطفه بصياغة دقيقة وبكل وسائل الزخرف الفني للكلام[26].
ب4- الأسلوب عند الغربيين المحدثين:
إن مفهوم الأسلوب نفسه يختلف تبعا لاختلاف البيئات الثقافية, اختلاف مناطق العمل ومنه سنتعرض لتعريفات بعض النقاد ومنهم:
ب1.4: بيفون: أشارت أغلب الدراسات الحديثة في تعريفها مفهوم الأسلوب إلى تعريف "بيفون" الشهير: « أما الأسلوب هو الرجل نفسه », و« فالأسلوب لا يمكن أخذه ولا نقله ولا تعديله »[27], « إن المعرف والوقائع والاكتشافات تتلاشى بسهولة, وقد تنتقل من شخص لآخر, ويكتسبها من هم أعلى مهارة, فهذه الأشياء تقوم خارج الإنسان أما الأسلوب فهو الإنسان نفسه, فالأسلوب إذن لا يمكن أن يزول ولا ينتقل ولا يتغير»[28].
ب2.4:موريه: الأسلوب بالنسبة لنا هو موقف من الوجود من شكل من أشكال الكينونة[29].
ب3.4: ستاندال: الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بأحداث التأثير الذي ينبغي لهذا الفكر أن يحدثه[30].
ب4.4: بيار جيرو: الذي يرى أن الأسلوب: « طريقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللغة»[31].
إذن يحدد "بيار جيرو" مفهوم الأسلوب في الإبداع الأدبي حيث اللغة وتشكيلها، فالأسلوب حسب ذلك هو
تشكيل فني للغة، كما تشكل الألوان لتعطي دلالات خاصة لم ترى قبل هذا التشكيل[32].
ب5.4: ريفاتير: « يفهم من الأسلوب الأدبي كل شكل مكتوب فردي، ذي قصد أدبي، أي أسلوب مؤلف ما أو بالأحرى أسلوب عمل أدبي محدد يمكن أن تطلق عليه الشعر أو النص »[33].
ب6.4: أما المدرسة الفرنسية: تعرف الأسلوب بأنه: «دراسة طريقة العبير عن الفكر من خلال اللغة »[34].
ب7.4: فلوبير: « يعطي للأسلوب بعدا منطقيا لماهية داخل المحيط فيراها طريقة مطلقة لرؤية الأشياء »[35].
- ومنه: إنه بمقابل الواقع الأسلوبي العربي نجد أن الأسلوبية لدى الغربيين، قد نشأت وتطورت حتى أصبح بالإمكان عدّها البلاغة الجديدة التي ترعرعت في ظل الكشوفات اللسانية الحديثة.
ثانيا- نشأة الأسلوب (الأسلوبية)
تزامنت نشأة علم الأسلوب مع تجديد دراسة اللغة وظهور علم اللغة الحديث "اللسانيات" وذلك تبعا لاختلاف استعمالات الناس اللغوية ومن هنا نشأة فكرتان مهمتان في نشأة الأسلوب:
1- التمييز بين اللغة والكلام.
2- أسباب الاختلاف في استعمال اللغة.
وترجع النشأة الحقيقية لمولد علم الأسلوب "لأسلوبية" إلى تنبيه العالم الفرنسي "جوستاف كويرتنج" عام 1886م على كون علم الأسلوب الفرنسي ميدانا شبه مهجور تماما حتى ذلك الوقت.
وإن كلمة الأسلوبية قد ظهرت في القرن 19م وإنها لم تصل إلى معنى محدد إلا في أوائل القرن 20م وكان هذا التحديد مرتبطا بشكل وثيق بأبحاث علم اللغة[36].
ولقد أفاد "شارل بالي" الذي يعدّ من المؤسسين لنظرية علم الأسلوبية: « إن علم الأسلوب يعنى بدراسة الوسائل التي يستخدمها المتكلم للتعبير عن أفكار معينة، وأن العمل الأدبي هو ميدان علم الأسلوب »[37].
لقد كان للمدرسة الإيطالية علاقة خاصة بمحاولة بث روح التجديد في الدراسات البلاغية والإرهاص بمقدمات الفكر الأسلوبي في الثقافة العربية عند الشيخ "أمين الخولي" في كتابه " فن القول".
وقد تحدث "أرسطو" في كتابه "الخطابة" عن الأسلوب وفرّق بين الأسلوب الجميل والأسلوب القبيح وقسمه إلى: أسلوب متصل وآخر دوري[38].
وفي الآداب العربية القديمة استخدمت كلمة الأسلوب للدلالة على تناسق الشكل الأدبي واتساقه في كلام البلاغيين حول: "إعجاز القرآن الكريم" وأقدم من استخدم هذه اللفظة كان "الباقلاني" في كتابه الموسم "بإعجاز القرآن الكريم"، فقد أوضح أن لكل شاعر أو كاتب طريقة يعرف بها وتنسب إليه[39].
ومنه نلخص ما يلي:
I- إن (علم الأسلوب) أو (الأسلوبية) علم يُعنى بكل ما يتعلق بالأسلوب، ويكشف عن الخصائص المميزة (الأسلوبية) للتعبير المكتوب والمنطوق وإن الأسلوب مصطلح ذو مدلول إنساني، ذاتي نسبي، وإن الأسلوبية أو علم الأسلوب أصبحت جسرا يربط علوم اللسان (اللسانيات) بالإبداع الفني الأدبي.
II- إن أهم مبدأ تعتمد عليه الأسلوبية هو ثنائية اللغة والكلام التي تقوم بتحليل الظاهرة اللسانية إلى اللغة وهي نظام عام مجرّد جماعي غير مقصود وإن الكلام: هو استعمال فردي شخصي لذلك النظام.
III- إن أية نظرية في الأسلوب تقوم على أساس فرضية منهجية قوامها أن المدلول الواحد يمكن التعبير عنه بدوال مختلفة، مما يؤدي إلى تعدد الأشكال التعبيرية، على الرغم من وحدة الصورة الذهنية، وإن المقارنة الأسلوبية هي الوسيلة الوحيدة لكشف الخصائص المميزة لكل شكل تعبيري أو استعمال لغوي[40].
ثالثا: بين البلاغة والأسلوبية
لقد كانت البلاغة فنا لتأليف الخطاب, ثم انتهت إلى احتواء التعبير اللساني كلّه ثم احتوت الأدب جميعا، لكن هذا الوضع لم تحتفظ به البلاغة طويلا، حيث تقلّصت ولم يبق لها إلا الأدب ميدانا تعمل فيه تقلّصت أكثر فلم تعد تعمل إلاَّ في حدود خصائص التعبير اللغوي للنص.
ومع بروز "علم الأسلوبية" أو "الأسلوب" واستواءه كعلم متميّز ذو مناهج خاصة وتوجهات معينة على مستوى التنظير والممارسة معالم يعد للبلاغة مكانا في ظل هذه الدراسات اللغوية الحديثة[41].
ولقد كانت أعمال "عبد القاهر الجرجاني" أساسا بارزا قوي الجذور لبناء الدرس الأسلوبي الحديث فهذا يتخذ من تلك الأعمال ركيزته الأساسية ويُعَدُّ أبرز ملامح هذه الركيزة التي تؤصل للدرس الأسلوبي الحديث والصلة بين البلاغة وعلم اللغة الحديث وبينها وبين الدرس الأسلوبي الجديد ترجع بعمقها إلى نوعية المقررات البلاغية القديمة التي أمدت هذا الدرس بمقوّمات أساسية فقد اعتمد علم اللغة الحديث (الجديد) مقررات علم البلاغة القديم في إقامة علم الأسلوب الأدبي عامة والأسلوب الشعري خاصة[42].
يقول "رولان بارت": « إن العالم مليء بالبلاغة القديمة بشكل لا يصدّق »[43]، « أن كلمة قديمة لا تعني أن ثمة بلاغة جديدة اليوم، وبالأحرى فإن البلاغة القديمة توضع بمقابل البلاغة الجديدة التي ربمالم تظهر إلى الوجود حتى الآن », ونجد هذه المقولة ربما تنطبق على واقعنا الأسلوبي العربي أكثر من انطباقها على الواقع الأسلوبي لدى الغرب، بيد أننا نفتقر إلى محاولة جادة وجديدة تؤسس أسلوبية عربية تستند إلى الموروث البلاغي العربي[44].
ونجد:
"بيير جيرو" بأن هناك بلاغة حديثة وأسلوبية حديثة ويقول: « ويمكننا القول بأن الأسلوبية بلاغة حديثة ذات شكل مضاعف إنها علم اليقين, وهي نقد للأساليب الفردية »[45].
ولقد أورد "شكري عياد" عدة فروق بين الأسلوبية والبلاغة ونجملها في النقاط التالية:
1- إن البلاغة علم لساني قديم والأسلوبية علم لساني حديث.
2- إن علم البلاغة علم معياري, بينما تعد البلاغة علما وصفيا.
3- يقرر علم البلاغة أن الكلام ينبغي أن يطابق (مقتضى الحال) في حين تقرر الأسلوبية أن نمط الكلام يتأثر بالموقف.
4- إن أفق الدراسة الأسلوبية أوسع من أفق الدراسة البلاغية, فالأسلوبية تدرس الظواهر اللغوية جميعها بدءا من الصوت وحتى المعنى مرورا بالتركيب[46].
ومنه على الرغم من وقوع المحاولات الأسلوبية الحديثة تحت مقصدية تحديث البلاغة القديمة, إذ نظر إليها على أنها البلاغة الجديدة أو هي الخمر في دنان جديدة وهي وريثة البلاغة, وهي بديل في عصر البدائل, نلحظ في وجهة النظر هذه تبسيطا لمفهوم الأسلوبية وافتقارا لكينونتها المعرفية المختصة بذاتها, فهي وإن تواشجت مع البلاغة بأكثر من علاقة ومسار إلا أنها تفترق عنها في العناية والمفهوم والإجراء, وأن الإلحاح, في إسباغ التصور الحديث عن المفاهيم والحقول القديمة يؤدي إلى السقوط في فخ التقويل المزيف, ويفضي بنا إلى تداخل الحدود بعين البلاغة الأسلوبية, فإذا كانت الأسلوبية في بعض وجوهها امتداد للبلاغة فهي نفي لها في الآن نفسه, وباختصار فإن أجلى فروقها ترتسم بنقص الصفات الأسلوبية الآتية: النصية- الوصفية- الكلية- البعدية- الكتابية.
- ومنه فالبلاغة أكثر اقترابا من علم النحو والأسلوبية أكثر اقترابا من اللسانيات[47].
رابعا: محددات دراسة الأسلوب:
الأسلوب هو الإبداع أو هو العملية الإبداعية بتعقيداتها وإفرازاتها الأمر المعادل, لعملية "التكنيك" ذاتها, وبهذه الحركة الفنية يلتقي "Hough" مع "رومان جاكبسون" فالأسلوب لديه: « هو الوظيفة المركزية المنظمة للخطاب », وتحقق هذه الوظيفة في عمليتين هما: الاختيار والتركيب أو التأليف[48], وهما عنصران مكونان للأسلوب لا يقوم إلاَّ بهما ولكي تتضح أهميتها في تشكيل الأسلوب نقارن بين عملية البناء الهندسي في فن العمارة, وعملية البناء اللغوي للأسلوب, والعمليتان تمران بمرحلتين:
المرحلة الأولى: اختيار المادة الخام التي يصاغ منها البناء, ويجب أن تتناسب مع الموقف.
المرحلة الثانية: التنسيق بين المواد التي اختيرت للبناء, فقد تتشابه المواد الخام لكن يختلف تنسيقها من حيث الشكل واللون اختلافا كبيرا[49].
في حين الدراسة الأسلوبية يمكن رصدها من خلال محورين يتقاطعان ليتشكل الأسلوب وهما كما سبق ذكرهما الاختيار والتأليف.
الاختيار: ويمكن تصوّره على أنه مجموعة كلمات مرتبة عموديا وهي تمثل الرصيد المعجمي للمتكلم الذي يقدر بموجبه على استبدال بعض الكلمات ببعض, ويتم عند المبدع باختيار أدواته التعبيرية.
محور التأليف أو التوزيع أو التركيب: ويمكن تصوّره على أنه ضم الكلمات بعضها إلى بعض وهو عملية ثانية بعد عملية الاختيار, تتمثل في وصف الكلمات وترتيبها وتشكيلها تشكيلا لغويا حسب تنظيم تقتضي بعض قواعد النحو, ويسمح ببعض الآخر التّصرّف في الاستعمال[50].
ومما أفرزه تقاطع أو إسقاط محور الاختيار على محور التأليف العدول أو الانزياح:
- العدول: في العمل الأدبي, كلّما تصرّف الأديب في هيكل الدلالة, وأشكال التركيب انتقل كلامه من السمة الإخبارية إلى السمة الإنشائية الأدبية, فعندما نقول: لا تنفع التمائم عند وقوع الموت, فإننا نحاول إخبار المتلقي بحقيقة, ونتوصل معه بوضوح, لأن غرضنا توصيل النبر فقط, أما في قول "أبي ذؤيب الهذلي":
وَإِذَا الْمَنِيَّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَهَا أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيْمَةٍ لاَ تَنْفَعْ
- فالشاعر لم يرد توصيل خبر, وإنّما أراد رسم صورة للموت موحية, مؤثرة, وربما كان غرضه الأصلي متجسدا في الإيحاء والتأثير ومعروف أنه جعل الموت وحشا ذا أنياب مغروسة في الفريسة, فالشاعر خرج بأسلوبه عن التعبير وإقامة علاقات ركنية جديدة خاصة ثم من تفاعل محوري الاختيار والتأليف صار أسلوبه عدولا عن المألوف[51].
أي أن لكل أديب أو شاعر خاصية ذاتية يتميز بها عن غيره, وعليه نستنتج مما سبق:
1- أن الاختيار أمر تصدقه تجربة الأدباء فيما يكتبون.
2- القول بأن الأسلوب هو تعبير معدول عن أصل معتاد يمكن أن يؤدي إلى القول بأن كل تعبير جاء عن الأصل غير معدول هو خلق من الجمال, وليس ذلك صحيحا على إطلاقه.
3- مجموعة السمات اللغوية التي يعمل فيها المنشئ بالاستبعاد, وبالتكثيف أو الخلخلة وبإتباع طرق مختلفة في التوزيع ليشكل بها نصا هي ما تسمى: بالمتغيّرات الأسلوبية[52].
خامسا: ميادين الدراسة الأسلوبية
من خلال تعدد الدراسات الأسلوبية نستطيع أن نحدد الميادين التي تصلح لدراسة الظاهرة الأسلوبية, وهناك آلاف من البحوث الأسلوبية ظهرت في العصر الحديث ومن خلال التفرقة بين الدراسات التي تهتم بالوصف والدراسات التي تبين الوظيفة نستطيع أن نصنف كثيرا من الدراسات الأسلوبية, وسنتعرض فيما يلي لبعض منها:
- الأسلوبية التعبيرية:
وتعرف بأسلوبية "شارل بالي" تلميذ "دي سوسير" وقد عرّفها على النحو التالي: « أنها تدرس وقائع التعبير اللغوي من ناحية مضامينها الوجدانية (العاطفية), إن أسلوبية التعبير تهدف إلى دراسة القيم التعبيرية (اللغوية) الكامنة في الكلام »[53].
وقد تحوّل مفهوم التعبير عند "كروزو" إلى حدث فني... إلى جمالية, فالكاتب لا يفصح عن إحساسه أو تأويله إلا إذا أتيحت له أدوات دلالية ملائمة, وما على الأسلوبي إلا البحث في هذه الأدوات ويعمل على دراستها وتصنيفها[54].
- الأسلوبية الصوتية:
لقد أشار "رومان جاكبسون" في مقالة له عن شعرية الأدب إلى ميل الشعر إلى نموذج مقطعي متكرر في قوافي الأبيات وتطرّق إلى المقاطع الطويلة والقصيرة وإلى الحدود النحوية التي تعلن الوقوف وتحدد الكلمات, وتقسيم البيت الشعري إلى أقسام باستخدام المقاطع المنبورة وغير المنبورة وغيرها من التقسيمات, وهذه الملاحظات في حقيقة الأمر هي النواة الحقيقية لما عرف تحت مسمَّى الأسلوبية الصوتية وهي تهتم بثلاثة فروع:
- دراسة الأصوات مجرّدة.
- دراسة الإيقاع وتأثيره الجمالي في القصيدة.
- دراسة العلاقة بين الصوت والمعنى[55].
- الأسلوبية الإحصائية:
من خلال استفادتها من المعايير الإحصائية, قررت أن تكشف الحقيقة القائلة: إن الأسلوب عبارة عن مجموعة اختيارات المؤلف لذا يعدُّ الإحصاء معيارا موضوعيا يتيح تشخيص الأساليب, وتميز الفروق بينها, بل يكاد ينفرد من بين المعايير الموضوعية بقابليته لأن يستخدم في قياس الخصائص الأسلوبية, بغضِّ النظر عن الاختلافات في مفهوم الأسلوب نفسه[56].
- الأسلوبية البنيوية:
هي أكثر المذاهب الأسلوبية شيوعا الآن, وعلى نحو خاص فيما يترجم إلى العربية, أو يكتب فيها عن الأسلوبية الحديثة, وتعدُّ امتدادا متطوراً لأسلوبية "شارل بالي" في الوصفية (التعبيرية) وامتداد لآراء "سوسير" التي قامت على التفرقة بين اللغة والكلام[57].
وهنا عدّة أنواع أخرى للتحليل الأسلوبي منها: الأسلوبية الأدبية وغيرها.
- إن الأسلوب ينشأ في منطقة مشتركة بين اللغة والإبداع الفني وإن التحليل الأسلوبي يتعامل مع ثلاثة عناصر هي:
أ- العنصر اللغوي: إذ يعالج التحليل نصوصا قامت اللغة بوضع رموزها.
ب- العنصر النفعي: الذي يؤدي إلى إدخال عناصر غير لغوية في عملية التحليل كالمؤلف والقارئ والموقف التاريخي, وهدف النص الأدبي وغير ذلك.
ج- العنصر الجمالي الأدبي: ويكشف عن تأثير النص في القارئ[58].
ثانيا: أسلوبيات السرد الرّوائي
I- السرد بين القديم والحديث:
أ- قديما:
لقي "السرد" أو النصوص السردية احتفاءً كبيرًا بالدراسة والتعليل عند النقاد والباحثين، ويجمع أغلبهم إلى أن "المقامة" هي ما مثلته قديما، حيث كانت تدل على المجلس والجماعة من الناس، ثم انتقلت لتدل على الأحاديث التي تدور في المجلس، ثم عادت لتتطور من جديد حيث دخلت دائرة المصطلحات الأدبية لتدل على ضرب من السرد يسند إلى راوٍ، ويحكي عن بطل مكدّ، يتشكل من مجموع أفعاله وأقواله متن الحكاية، التي يحملها خطاب المقامة.
ويعدّ "بديع الزمان الهمذاني أبو الفضل أحمد بن الحسين" (358 – 398هـ ) رائد أدب المقامة السردي، وقد اعترف له بهذه الريادة أدباء المقامات من بعده، وفي مقدمتهم "الحريري أبو محمد القاسم بن علي البصري" (ت 516هـ)[59].
كما يعزو كثير من المؤلفين والباحثين في العصر الحديث نشأة المقامات إلى "بديع الزمان الهمذاني" ومنهم: "كارل بروكلمان"، "شوقي ضيف"، "عبد الله الغذامي"، "محمد أبو الفضل إبراهيم" وغيرهم.
وتتلخص مميزات "المقامة" في نقاط أبرزها ما يلي، وهي خطوات تطور المقامة السردية:
- تقديم مقامة بالمعنى اللغوي القديم - أحاديث المجالس - تخلو من الحبكة القصصية، ومن تيمة الكدية معاً "Theme".
- الاعتماد على الراوي في تقديم حبكة خيالية، قريبة الصلة من التراث الأدبي أو مستمدة منه، مثال المقامات البشرية، والغيلانية، وهي مأخوذة من أخبار الشعراء والأدباء، والمقامات المضيرية والمجماعية والنهيدية، وهي مأخوذة من قصص البخلاء وأخبارهم، والمقامة الإبليسية وهي مستمدة من قصص شياطين الشعراء، والمقامة الأسدية وهي مستمة من قصص اللصوص والشطار[60].
- اكتشاف تيمة الكدية، وإسناد البطولة إلى الراوي في حبكة قصصية مفردة، أو في حبكتين في مقامة واحدة.
- اكتشاف شخصية " أبي الفتح الاسكندري " وإسناد البطولة إليه، بعد أن خلت منه مقامات متعددة، وقد تم ذلك مرورا بخطوات:
- تقديم البطل بأوصاف الاسكندري دون تسميته، كصفة بقوله "رجل في طمرين، في يمناه عكازه" في المقامة الأهوازية.
- تقديمه بأسماء متعددة لا باسم الاسكندري منها: الناجم في المقامة الناجمية.
- تقديم باهت للبطل تحت اسمه الذي استقر ـ بالكنية واللقب ـ "أبي الفتح الاسكندري".
- تحقق المقامات التي تقدم تسجيلا مباشرًا في لغة أدبية متميّزة.
- استواء شخصية البطل "أبي الفتح الاسكندري" في صورة الأديب الفصيح، "الجوال المكدي" ذي الحيلة الواسعة، والفلسفة الخاصة، والموقف من الناس والزمان الذي يعبر عن اغترابه، وذلك في حبكة قصصية واحدة تشتمل على الوظائف البروبية.
وقد تمثلت المقامة الناضجة في المقامات الخمرية، المكفوفية، الحرزية والأصفهانية، كما أن مقامات "بديع الزمان الهمذاني" اكتفت بحكم ريادتها بتشكيل بنيات سردية قصيرة متجاورة، نصوصا متعددة واحدا متناميا متكاملا[61].
ب- حديثا:
لقد بدأت السرديات الحديثة مخاضها العسير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إثر انهيار النسق التقليدي في الثقافية الموروثة، وتفكك المرويات السردية القديمة وانكسار الأسلوب المتصنّع في التعبير، وكان هذا التفكك متزامنا مع تشكل بطيء للأنواع الجديدة ليس له نهاية محددة ولا بداية واضحة تكشف حالة تفكك المقامات التي استغرقت زمنا طويلا بدأ طرف منه متزامنا مع لحظة تشكلها الأولى، كما تمثّله بعض مقامات الهمذاني, التي لم تمتثل للبنية التقليدية، وبالمثل انتزعت الرواية وهي لبّ السرديات، شرعية كاملة كنوع أدبي يختل المرتبة الأولى في أدبنا الحديث، إلى درجة اعتبر عصرنا عصر الرواية[62]،وذهب البعض إلى أنها ديوان العرب في القرن العشرين، كما أنها خضعت في تشكّلها للقانون الثقافي الخاص بالتمثيل في مستوياته الواقعية وغير الواعية، كما يكشف المسار الصعب لها أنها مرّت في ظروف استثنائية قبل أن تحوز الاعتراف بها بوصفها نوعًا أدبيًا مقبولاً, فقد بيّن "باختين" كيف أن " النقد في القرنين السابع عشر والثامن عشر لم يعترف بالرواية بوصفها جنسا مستقلا، بل كان يرجعها إلى الأجناس البلاغية المختلطة، وفي منتصف القرن التاسع عشر ظهر اهتمام واضح بنظرية الرواية بوصفها جنسا أدبيا أساسيا في الأدب الأوروبي".
ولقد ظهرت عدّة مؤلفات في السرد في الأدب الغربي، حيث ألف " تشاتمان" كتابا جمع فيه نتائج الدراسات البنيوية، وظهر في سنة 1978م كتاب "دوريت كوهن" المعنون بـ: " العقول الشفافة" وهو دراسة كاملة عن تقديم الوعي في السرد، وبعدها ظهرت ترجمات كتاب "جيرام جنييت" المعنون بـ" الخطاب السردي" وكتاب "فرانز ستانزيل" "نظرية السرد"[63].
ويعود الفضل إلى "تودوروف" في اشتقاق مصطلح " Narratology " الذي نحته عام 1969م للدلالة على الاتجاه النقدي الجديد المتخصص بالدراسات السردية، بيد أن الباحث الذي استقام على جهوده مبحث السردية، في تيارها الدلالي هو الروسي "فلادمير بروب" وقد بحث في أنظمة التشكل الداخلي للخرافة واستخلص القواعد الأساسية لبنيتها السردية والدلالية، ثم أصبح تحليله مربعا ملهما للسرديين، وراحوا يتوسعون فيه، إلى أن أصدر كتاب "خطاب السرد" ـ كما أسلفنا الذكر ـ الذي جرف فيه تثبيت مفهوم السرد، وتنظيم حدود السردية[64].
أما بالنسبة للعرب، فقد ظهرت الدراسات السردية المتخصصة في النقد العربي الحديث خلال الربع الأخير من القرن العشرين، وشغل بها كثيرون بين رافض لها وآخذ, ولقد انشطرت المواقف حول الدراسات السردية، فمن جهة سعت تلك الدراسات إلى الانتقال بالنقد الأدبي من الانطباعات الشخصية والتعليقات الخارجية والأحكام الجاهزة إلى قليل الأبنية السردية والأسلوبية والدلالية، ثم تركيب النتائج التي تتواصل إليها في ضوء تصنيف دقيق لمكوّنات النصوص السردية، ومن جهة ثانية حامت الشكوك حول قدرتها على تحقيق وعودها المنهجية والتحليلية، لأن كثيرا منها وقع أسير الإبهام والغموض.
كما ولم يجر اتفاق بين النقاد العرب على نموذج تحليلي سردي شامل يمكن توظيفه في دراسة النصوص السردية العربية القديمة، ولا اتفق على نموذج يصلح لتحليل النصوص الحديثة، ولهذا لم ينتظم أفق مشترك لنظرية سردية عربية تمكن النّقاد العرب من تحليل أدبهم، إذ اختلفوا في كل ماله صلة بذلك، فأخفقوا في الاتفاق على اقتراح نموذج عام يستوعب عملية التحليل السردي للنصوص.
أضف إلى ذلك وقوع الاختلاف في استيعاب المفاهيم السردية الجديدة، والإضراب في ترجمتها إلى العربية، وهذه الفوضى الاصطلاحية فوضى أخرى لدى القرّاء، وكان هذا كله جزءً من الفوضى الاصطلاحية الأدبية الحديثة لم يستقرّ أمرها في الثقافة العربية إلاّ بصورة جزئية، حيث اختلف في ترجمة مصطلح: "Discourse" إلى (الإنشاء) ثم (الخطاب) وكذلك مصطلح: Narratology"" الذي ترجم إلى: علم السرد – علم القص – علم الحكاية – نظرية القصة – السرديات، وهناك من فضّل السردلوجيا – ثم انتهى بأن تكون "السردية" الأكثر شيوعا بين كل هذا.
كما أن مفاهيم هذه المصطلحات والمقولات التي تندرج ضمنها لم يتفق بشأنها معنى أو ترجمة، وعلى الرغم من هذه الاضطرابات والاختلافات والتضارب، إلاّ أن السردية أنجزت مهمة مفيدة وجليلة، إذ خلخلت ركائز النقد التقليدي ودفعت برؤية جديدة لعلاقة الأدب بالنقد، كما أن ردّة فعل المناهج التقليدية كانت عنيفة أيضا، لكن بمرور الوقت خفت التنازع بين الطرفين، لكن الأفكار الجديدة لم تقبل كما ينبغي فمازالت صورة النقد السردي متقلبة ولم تستقر بعد على أرضية متماسكة من الفرضيات والمفاهيم[65].
II- مفاهيم السرد وآلياته:
لقد اختلف النقاد في تحديد مفهوم السرد، كما اختلفوا في ترجمته، فتعددت مصطلحاته فمنها: علم القصة ، الحكي، السرديات، لذلك سنورد أكثر من مفهوم لبعض النقاد والأدباء.
- عند جيرالد برنس[66]:
• السرد " Narration ":
1- خطاب يقدم حدثا أو أكثر، ويتم التمييز تقليديا بينه وبين الوصف "Description"، والتعليق "Commentarg"، سوى أنه كثيرا ما يتم دمجها فيه.
2- إنتاج حكاية، سرد مجموعة من المواقف والأحداث، إن السرد اللاحـق Posterion narration، يتبع المواقف والأحداث المروية زمنيا، ويعد هذا النوع من السرد أحد خصائص السرد الكلاسيكي أو "التقليدي" السرد المتقدم "Anterion narration" وهو السرد الذي يحدى (افتراضا) في نفس زمن الأحداث والمواقف المروية (جيم يهبط إلى الشارع, يرى سوزان, يحييها,...), وأخيرا يتموقع "السرد المقحم" (المتداخل) "narrative Intercalated" زمنيا بين مرحلتين من مراحل الأحداث المروية، ويعد أحد خصائص السرد الرسائلي (باميلا) وسرد اليوميات (الغثيان الساتر).
3- هو السرد " Telling " بالنسبة لـ "تودوروف": إن "السرد" بالنسبة لـ "التمثيل" "Représentation"مثل السرد بالنسبة للعرض "Showing".
4- الخطاب "Discourse" عند "ريكاردو": إن السرد "Narration" بالنسبة لـ "المتخيّل" "Fiction" مثل "الخطاب" بالنسبة لـ "القصة" "Story".
• السرد ( الحكي ) " narrative ":
1- السرد كمنتج وسيرورة, موضوع وفعل، (بنية وبنينة) المتعلق بحدث حقيقي أو خيالي أو أكثر، يقوم بتوصيله واحد أو اثنين أو عدد من الرواة لواحد أو اثنين أو عدد من المروي لهم (ظاهرين بدرجة أو بأخرى).
2- كما تطرق "موريس إيخنباوم"[67] إلى السرد وقسمه إلى نوعين مباشر وغير مباشر، فأما المباشر فهو الذي يتصدّى فيه الراوي ليروي لنا ما يحدث، والسرد التمثيلي (غير مباشر) أو التشخيصي وهو الذي يغلب فيه تدخل شخصيات الرواية أو القصة فتنبئ عن أفعالها أو أجوائها عن طريق الحوار بعضها مع بعض.
- عند " محمّد بنسعيد "[68]:
السرد هو الخطاب اللفظي الذي يخبرنا عن هذا العالم، وهو يسمى أحيانا بالتلفظ,... وقد يعني كذلك الحكي والقصّ من طرف الكاتب أو الشخصية في الإنتاج الفني، يهدف إلى تصوير الظروف التفصيلية للأحداث والأزمان، ويعني كذلك برواية أخبار تمت بصلة للواقع أو لا تمت أسلوب في الكتابة تعرفه القصص والروايات والمسرحيات والسير.
والسرد هو الطريقة الخاصة بكل روائي في تقديم أحداث روايته أي مجموع التقنيات والمهارات اللغوية التي تجعل من مجموعة أحداث منتظمة، داخل نسق روائي محدد، وتؤدي وظيفة جمالية أو إقناعية ذات معنى، ونعتقد أن تمييز "جينيت" بين الملفوظ السردي مكتوبا أو شفها، والمضمون السردي والحدث، ما هي إلاّ تقنيات سردية قد يلجأ إليها الروائيون بنسب مختلفة.
- عند حميد لحمداني[69]:
•السرد"la narration": يقوم الحكي على دعامتين أساسيتين:
أولاهما: أن يحتوي السرد على قصة ما, تضم أحداثا معيّنة.
وثانيهما: أن يعين الطريقة التي تحكى بها تلك القصة و تسمى هذه الطريقة سردًا, ذلك أن قصة واحدة يمكن أن تحكى بطرق متعددة, و لهذا السبب فإن السرد هو الذي يعتمد عليه في تمييز أنماط الحكي بشكل أساسي.
III- السرد ومستوياته:
1) السارد أو الراوي:
وهو شخصية متخيلة أو كائن من ورق, شأنه شأن باقي الشخصيات الروائية الأخرى, يتوسل بها المؤلف وهو يؤسس عالمه الحكائي لتنوب عنه في سرد المحكي وتمرير خطابه الإيديولوجي, وأيضا ممارسة لعبة الإيهام بواقعية ما يروى, والسارد أو الراوي يمثل دور الوسيط الفنّي الذي يقدم أحداث القصة"fabula"من خلال وجهة نظره الخاصة أو منظوره الشخصي[70].
وليس الراوي هو المؤلف أو الروائي, بل الراوي في الحقيقة هو أسلوب صياغة أو بنية من بنيات القصة, شأنه شأن الشخصية والزمان والمكان, وهو أسلوب تقديم المادة القصصية قناع من الأقنعة العديدة التي يتستّر ورائها الروائي لتقديم عمله.
وللرواية مستويات متعددة, وأكثر من نوع من الرواة, منها:
- الراوي الخارجي المجهول:
ونقصد به الراوي المجهول الذي يفتتح السرد بجمل معتادة مثل ما عرف في مقامات "الحريري" «حدث الحارث بن همام قال ....» والتي تفهم على ضوء النص الغالب, على أنها ليست مجرّد بداية لسرد, وإنما هي أيضا إشارة إلى حضور نوع من السرد الخيالي, وصار هذا الإسناد مجرّد تقليد فنّي ينبئ بقدوم سرد خيالي بعده, وعلامة على نوع أدبي ابتكره من قبل "بديع الزمان الهمذاني", ويؤسس له الآن "الحريري", ولم يعد مقبولا بعد مقامات البديع أن يحدث خلط خاصة لدى المتلقي الكتابي"القارئ" بين ذلك الراوي الخيالي و بين المؤلف الواقعي[71].
وقد عاد الراوي الخارجي المجهول للظهور قبيل نهاية المقامة, وبعد انتهاء العرض الأدبي, غالبا, وربط بين جزئي الحكاية السابق منها و اللاحق, عند تم فصل مهم, وعليه فإن الراوي الأول هو من نمط الراوي الخارجي العليم, الموضوعي, غير الملتحم بما يروى, ووظيفته هي التنسيق الداخلي للخطاب.
- الراوي الداخلي المعلوم، والمستوى الأول للسرد:
بمصطلح "جيرار جينيت" "Intradiegetic Narrator"، هو جو داخلي جوا في الحكي مشارك في الأحداث ملتحم بالحكاية، يقدم لها سردا ابتدائيا أو أساسيا، أو ما يسمّى بالسرد من الدرجة الأولى، ويستخدم هذا الشكل ضمير المتكلم أو ضمير الغائب، ولكن مع الاحتفاظ دائما بمظهر الرؤية مع إن الرؤية مع أو العلاقة المتساوية بين الراوي والشخصية هي التي جعلها "توماتشفسكي" بعنوان "السرد الذاتي" والراوي هنا يكون مصاحبا لشخصيات يتبادل معها المعرفة بمسار الوقائع ويتجلّى هذا بشكل واضح في روايات الشخصية[72].
- السرد من الدرجة الثانية أو المستوى الثاني في السرد:
ويتحقق عندما تبدأ شخصية من شخصيات السرد الابتدائي سردا آخر ثانويا ترويه لشخصية من شخصيات السرد الابتدائي، وهو ما يسمّى بالحكي داخل الحكي.
وتجد علاقة تربط بين السرد الابتدائي والسرد الثاني تسمى في بويطيقا السرد علاقة الأغراض، وهي علاقة لا تتضمن أية استمرارية مكانية، زمانية بين السرد الابتدائي والسرد الثانوي، بل هي علاقة تباين أو مجانسة.
أما العلاقة الثالثة بين السردين فيعبر عنها أحد الباحثين إفادة من "جينيت" بقوله: « والنمط الثالث لا ينطوي على علاقة واضحة بين المستويين، وأظهر مثل لذلك حكايات ألف ليلة حين تلجأ شهرزاد إلى حكايات متجددة لتتجنب الموذا », أي أن وظيفة الحكي الداخلي هنا هي دفع السرد والعمل على امتداده واستمراره، وتحقيق متعته وإغوائه[73].
2) المروي عليه "Naratee":
المروي عليه عنصر أساسي في السرد فلا يمكن تصوّر سرد بدون مروي عليه، والراوي يخاطب مستمعين يكونون ضمنيين "implied" وأحيانا أخرى يكونون محددين بجلاء، كما أن البنية السردية للخطاب يشترط لتحقيقها ثلاثة مكونات أساسية متضافرة هي الراوي, والمروي, والمروي عليه، فالراوي هو الذي ينشئ السرد، والمروي عليه هو المتلقي الذي يتوجه إليه بالرسالة أو الخطاب السردي.
ويعرّف "جير الدبرنس" المروي عليه بأنه: « شخص ما يوجه إليه الراوي خطابه »، ويمكن وفق رأي برنس استشفاف صورة المروي عليه من خلال خطاب الراوي له، ويمكن تصنيف المروي عليه أو المروي عليهم، فقد يكون واحدا أو مجموعة، حسب أمزجتهم أو حالتهم الاجتماعية أو معتقداتهم، ومن ناحية أخرى فمن السهل نسبيا أن نصنّف المروي عليهم حسب الموقف السردي، وموقعهم في الإشارة إلى الراوي والشخصيات والسرد[74].
والراوي في القصة من المستوى الأوّل يناظره مروي عليه من المستوى الأوّل أيضا، وكما أن الراوي له وجود منفصل عن المؤلف، وكذلك للمروي وجود مستقل عن وجود القارئ حتى لو كان قارئا ضمنيا.
3) التبئير "Focalization":
ويعبر عن هذا المفهوم باصطلاحات متعددة مثل: الرؤية، المجال، وجهة النظر، لكن "جيرار جنيت" يفضل عليها استعمال مصطلح البؤرة أو التبئير، ويرتبط هذا المفهوم بالتقنية المستخدمة لحكي القصة المتخيلة، والذي يحدد شروط اختيار هده التقنية دون غيرها، هو الغاية التي يهدف إليها الكاتب عبر الراوي, وقد وضع "جان بويون" زاوية الرؤية السردية للراوي، وتتضح من خلال مقال لـ: "تودوروف" بعنوان: "مقولات الحكي" إلا أن "تودوروف" اعتبر مجموع زوايا الرؤية السردية مجرّد مظاهر للحكي[75]:
- الراوي (الشخصية الحكائية):
ويسمّي "بويون" هذه العلاقة "بالرؤية من الخلف" وتتمثل في القص التقليدي الكلاسيكي، ويكون الراوي عارفا أكثر مما تعرفه الشخصية الحكائية، وتتجلّى سلطة الراوي هنا في أنه يستطيع مثلا أن يدرك رغبات الأبطال الخفية، وهو ما أسماه "توماتشفسكي" بالسرد الموضوعي.
- الراوي (الشخصية الحكائية):
وهو ما يسميه "الرؤية" مع "Vision avec": وتكون معرفة الراوي على قدر معرفة الشخصية الحكائية، ويستخدم هذا الشكل ضمير المتكلم أو ضمير الغائب مع الاحتفاظ دائما بمظهر الرؤية مع، والراوي في النوع إما أن يكون شاهدا على الأحداث أو الشخصية مساهمة في القصة، وقد سماه "توماتشفسكي" "بالسرد الذاتي".
- الراوي (الشخصية):
ويسميه "بويون" الرؤية من خارج "Vision dehors" والراوي هنا يعتمد كثيرا على الوصف الخارجي، أي وصف الحركة والأصوات، ولا يعرف إطلاقا ما يدور بخلد الأبطال، ووصفت الرواية المنتمية لهذا الاتجاه بالرواية الشيئية، لأنها تخلو من وصف المشاعر السيكولوجية، كما أن بعضها يكاد يخلو من الحدث[76].
وتعد مستويات "التبئير" في مقامات "الحريري" على النحو التالي:
1- التبئير الداخلي الثابت: وفيه يعرض كل شيء من خلال وعي شخصية واحدة، مما يؤدي حتما لتضييق مجال الرؤية، وحصرها في شخصية واحدة بعينها، لدرجة تصبح معها الشخصيات الأخرى مسطحة.
2- التبئير الداخلي المتنوع: حيث يتم التبئير من خلال عدة شخصيات، وتقدم عدة منظورات، متتابعة لأحداث متعددة.
3- التبئير الداخلي المتعدد: ويتم فيه عرض الحدث الواحد مرات عديدة، ومن وجهات نظر شخصيات مختلفة، كما يحدث في الروايات البوليسية وروايات المراسلة.
4- التبئير الخارجي: وهو يقابل ما أطلق عليه "بويون" "الرؤية من الخارج "حيث الراوي الشخصية، وفية نتابع حياة وسلوك الشخصيات خارجيا مع السارد، دون أن نتمكن من ولج عالمها الداخلي، عالم العواطف والأفكار[77].
IV- أنماط السرد:
I)- السرد الاستشرافي "Prolepse":
وهو عملية سردية تتمثل في إيراد حدث آت أو الإشارة إليه مسبقا قبل حدوثه, ويمكن توقع حدوث هذه الأحداث.
وأهم ما يميّز هذا النوع من السرد أنه يقدم معلومات لا تتصف باليقينية, فإذا لم يتم الحديث بالفعل, فليس هناك ما يؤكد حصوله, ولذلك كان أسلوب السرد الاستشرافي شكلا من أشكال الانتظار, وقد ميّز النقد الغربي الحديث بين نوعين هما:
- أسلوب السرد الاستشرافي الداخلي: ويتألف من إشارات "Allusions" مستقبلية تسهم بدورها في وظيفة الخبر الأساسي في القصة[78].
- أسلوب السرد الاستشرافي الخارجي: وهو ظاهرة سردية تتعلق عرضا بالخبر الأساس في القصة.
II)- السرد الاستذكاري "Analépses":
هو خاصية حكائية وهو شكل من أشكال الرجوع إلى الماضي للتعريف بالشخصية، وما مرّ بهما من أحداث أو تعريف بشيء من الأشياء أو سوى ذلك، وينقسم إلى نوعين: داخلي وخارجي.
- الداخلي: يتصل مباشرة بالشخصيات بأحداث القصة، أي أنه يسير معها وفق خط زمني واحد بالنسبة إلى زمنها الروائي،لهذا نجد له عدة مصطلحات في الدراسات النقدية الحديثة، منها:"الفلاش باك".
واستعمل "عبد الملك مرتاض" مصطلح "الارتداد" بديلا له، ذلك أن الارتداد في مدلول العربية يعني الرجوع في أمر ما، أو الرجوع إلى الوراء جميعا، فهو شامل للحركتين المادية والمعنوية أو النفسية[79].
- أما الاستذكار الخارجي: يقف إلى جانب الأحداث والشخصيات ليزيد في توضيح الأخبار، الأساسية في القصة وفي إعطاء معلومات إضافية تتيح للقارئ فرصة جديدة في فهم الأخبار، كما أن الاستذكارات تخرج من خط زمن القصة، تسير وفق خط زمني خاص بها، ويقدم هذا النوع من السرد وظائف أبرزها:
- إعطاء معلومات عن ماضي عنصر من عناصر الحكاية ( شخصية، إطار، عقدة ).
- سد ثغرة حصلت في النص القصصي، أي استدراك متأخر لإسقاط سابق مؤقت.
- تذكير بأحداث ماضية وقع إيرادها فيما سبق من السرد أي عودة السارد بصفة صريحة أو ضمنية إلى نقطة زمنية وردت من قبل[80].
[1] ابن منظور, لسان العرب, دار النشر لسان العرب, بيروت , دط, دت, مج: 2, ص: 178.
[2] الفيومي, المصباح المنير, مادة (سلب) , عن عبد ال