ابن أبي حصينة هو: أبو الفتح الحسن بن عبدالله بن أحمد بن عبد الجبار بن أبي حصينة الشامي، الذي ينتمي إلى العصر الفاطمي، كان شاعرًا من الأمراء، ولد ونشأ في معرة النعمان بسورية، وقد وُلِد قبل (390هـ)، وتوفي سنة (456 أو 457هـ)، تبعًا لرواية المؤرخ ياقوت الحموي، الذي تبعه فيها المؤرخ ابن الوردي؛ لأنَّ ياقوتًا تميز بالدِّقَّة في ضبط سني الوفيات، وبسبب قربه من عصر الشَّاعر 524 - 626هـ[1].
وقد انقطع إلى مدح دولة بني مرداس، الذين استولى قائدهم صالح بن مرداس سنة سبع عشرة وأربعمائة على حلب وما إليها حتى طرابلس، ثم قُتل صالح في سنة عشرين وأربعمائة من الهجرة، وتملَّك ابناه معز الدولة ثمال وشبل الدولة نصر، وقد انتهت الدولة المرداسية سنة 472هـ[2].
وقد كان لابن أبي حصينة مكانة شعرية عظيمة؛ وخير دليل عليها ما قاله الشاعر الكبير أبو العلاء المعري عنه في المقدمة التي أملاها في أول الديوان، وفيها أظهر عظيم تقديره لابن أبي حصينة؛ حيث قال عنه: "مولاي الأمير أبو الفتح بن أبي حصينة"[3].
مفهوم السرد:
للسرد مفهومان:
أ) اصطلاحي:
"هو قصُّ حادثة واحدة أو أكثر، خيالية أو حقيقية"[4].
وهذا يعني أن "السَّرْدَ لا يوجد إلاَّ بواسطة الحكاية، كما أنه عرض لتسلسل الأحداث أو الأفعال في النص"[5].
وهو يعني وجود عنصرين رئيسين في النَّص:
الأول: الراوي (السارد)، والثاني: الحدث (الفعل).
ب) لغوي:
وهو "تَقْدِمَةُ شيء إِلى شيء تأْتي به متَّسقًا بعضُه في أَثر بعض متتابعًا، ويقال: سَرَد الحديث ونحوه، يَسْرُدُه سَرْدًا: إذا تابعه، وفلان يَسْرُد الحديث سردًا: إذا كان جيد السياق له.
والسَّرد:
الخرز في الأديم، وقيل سردها: نسجها، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض، وسرد خفَّ البعير سردًا: خصفه بالقد... وفي القرآن الكريم: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]، قيل: ألاَّ يجعلَ المسمار غليظًا، والثقب دقيقًا، فيفصم الحلق، ولا يجعل المسمار دقيقًا، والثقب واسعًا، فيتقلقل أو ينخلع، أو ينقصف، اجعله على القصد وقَدْرِ الحاجة"[6].
ونلمح من هذا التعريف المعجمي سمات يقوم السَّرد بإبرازها، وهي الاتِّساق والتتابع والإحكام.
وفي العصر الحديث نجد تعريفًا للسرد – لا يكادُ يبتعد كثيرًا عن التعريفات التراثية – مثل تعريف (الرافعي)؛ حيثُ قال عن السرد: إنَّه "متابعة الكلام على الولاء والاستعجال به، وقد يراد به أيضًا جودة سياق الحديث، وكأنه من الأضداد"[7].
وقد يكون السرد شكلاً لغويًّا معبرًا، يقوم بـ "نقل الحادثة من صورتها الواقعة إلى صورة لغوية"[8].
تاريخ السرد:
ارتبط السَّرد باللغة منذ فجر التاريخ كمفهوم إشاري، يعد من أقدم أشكال التعبير الإنساني الذي يقوم بوظيفة مهمة؛ من أجل إحداث نشاط إنساني في جميع صوره المادية والمعنوية... إلخ.
وقد مرَّ السرد بمراحل "بدأت شفاهة قبل الميلاد بفترة طويلة، وغير محددة بشكل قاطع، وكانت هذه البداية مُرتبطة بشيئين:
الأوَّل: الأسطورة الشفهية.
والثاني: الطُّقوس الدينية المرتلة"[9].
وأخذ يتطور إلى "أن ظهرت القصة كشكل سردي خالص بفعل انفصالها عن الملاحم – والتي بدأ السرد بها – حتَّى أصبح القص ملتصقًا بالسرد، ومن هنا ارتبطَ النَّص السردي في كثير من الكتابات الغربيَّة بالقصة والرواية"[10].
السرد في النقد العربي القديم:
ورد في النقد العربي القديم إشارات لمفهوم السرد، منها ما ورد عند ابن رشيق في كتابه "العمدة"، وهذا في قوله: "ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيًّا بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائمًا بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله، ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإنَّ بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد"[11].
ونلاحظ على هذه المقولة أنَّ ابن رشيق جعل السرد قائمًا على:
1- احتياج البيت لما قبله وما بعده.
2- بناء اللفظ على اللفظ.
3- وجوده في الحكايات وما شاكلها.
ونفهم منها أيضًا وجود صراع بين الفكر النقدي الحديث، الذي يفضل بناء الشِّعر بعضه على بعض، والفكر النَّقدي القديم الذي يستحسن أن يكون كل بيت قائمًا بنفسه، وهذا رأي ابن رشيق، على الرغم من أنَّه يستثني الحكايات وما شاكلها.
وإذا ما ذهبنا إلى ناقد قديم كبير مثل ابن طباطبا في كتابه: "عيار الشِّعر"، نجده يقول:
"وعلى الشاعر إذا اضطر إلى اقتصاص خبر في شعر، دبَّرَه تدبيرًا يسلس له معه القول، ويطرد فيه المعنى، فيبني شعره على وزن يحتمل أن يُحشى بما يحتاج إلى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به، أو تقصٍّ يُحذف منه، وتكون الزيادة والنُّقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان فيه بهما، وتكون الألفاظ المزيدة غَيْرَ خارجة من جنس ما يقتضيه، بل تكون مؤيدة له، وزائدة في رونقه وحسنه"[12].
ثم ضرب لنا مثلاً على كلامه بقول الأعشى فيما اقتصه من خبر السمَوْءل:
كُنْ كَالَسَّمَوْءَلِ إذْ طَافَ الهُمَامُ بِهِ فِي جَحْفَلٍ كَزُهَاءِ اللَّيْلِ جَرَّارِ
بَالْأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
إِذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ اعْرِضْ عَلَيَّ كَذَا أَسْمَعْهُمَا حَارِ
فَقَالَ: غَدْرٌ وَثُكْلٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا فَاخْتَرْ وَمَا فِيْهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ
وبعد أنْ يذكر ابن طباطبا القصيدة كلها يعلق عليها قائلاً: "فانظر إلى استواء هذا الكلام، وسهولة مخرجه، وتَمام معانيه، وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أريدت له من غير حشد مجتلب ولا خلل شائن"[13].
ويعد الدكتور صلاح فضل "هذه الإشارة أوضح كلام عن السرد الشعري في النقد والبلاغة العربية في الماضي"[14].
ولكن هذه الإشارة الواضحة من ناقد كبير لم تجد من يُساندها ويدعو لها؛ ليسهم في إبراز لون مميز من ألوان الشعر، يقوم على الاعتماد على السَّرد ونظامه، بما يخدم التجربة الشعرية ويعدد من أشكالها.
بذوره في الشعر القديم:
لقد ورد في الشِّعر العربي القديم بذور متنوعة للسرد، ولكنَّها كانت إشارات قليلة، فامرؤ القيس ذكر كثيرًا: "وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي"، "ويَوْمَ دَخَلْتُ الْخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ"، و"دارة جلجل"، مثل قوله:
وَيَومَ دَخَلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَةٍ فَقالَت: لَكَ الوَيلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعًا عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلتُ لَهَا: سِيرِي وَأَرْخِي زِمَامَهُ وَلا تُبْعِدِينِي مِن جَنَاكِ الْمُعَلَّلِ
وقوله:
فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَومٍ ثِيَابَهَا لَدَى السِّتْرِ إِلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ
فَقَالَت: يَمِينُ اللَّهِ، ما لَكَ حِيلَةٌ وَما إِنْ أَرَى عَنْكَ الْغَوَايَةَ تَنْجَلِي
وقوله:
وَلَيلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ[15]
والحطيئة عند حكايته عن الضَّيف الذي راعه وهو معدم، فحاول إكرامَه بأيِّ شيء، ولكنه تحير في أمره؛ مِمَّا دفع ابنه إلى الإشارة عليه بذبحه؛ لكي لا يتعرض الحطيئة لعار الذَّم من ضيف غريب، وقد صور الحطيئة هذه القصة في الأبيات التالية:
رَأَى شَبَحًا وَسْطَ الظَّلاَمِ فَرَاعَهُ فَلَمَّا بَدَا ضَيْفًا تَسَوَّرَ وَاهْتَمَّا
وَقَالَ ابْنُهُ لَمَّا رَآهُ بِحَيْرَةٍ أَيَا أَبَتِ اذْبَحْنِي وَيَسِّر لَهُ طُعْمَا
وَلاَ تَعْتَذِرْ بِالعُدْمِ عَلَّ الَّذِي طَرَا يَظُنُّ لَنَا مَالاً فَيُوسِعُنَا ذَمَّا[16]
ويلاحظ أنَّ هذه الأبيات تشتمل على بذور قويَّة لمفهوم السَّرد الحكائي التي تتوفر فيها عناصره، وهي:
1- الرَّاوي (السارد)، وهو الشاعر.
2- الحدث (الفعل)، قدوم الضيف.
3- تشكيلات الزَّمن والمكان، ظلام الليل في صحراء قاحلة.
4- الشخصيات المتحدثة أو المتكلمة: الشاعر، وابنه.
وهذه الملامح – رغم قوتها – إلا أنَّها كانت قليلة، ولا تشكل لونًا بارزًا في الشعر الجاهلي.
وإذا ما ذهبنا إلى العصر الأموي، نَجد هذا اللون من السرد قد شاع وغلب على شاعر الغزل الأول، وهو عمر بن أبي ربيعة، "الذي خطا به خطوات فسيحة ومنوَّعة، فالقصَّة الشعرية لديه متَّفقة مع أسلوبه في الغَزَل؛ حيث تحرص الجميلات الرَّاقيات على محادثته والفَوْز بقلبه"[17]، وقد استطاع تجلية الجوانب النفسيَّة المختلفة لشخصياته، من خلال الحوار الدِّرامي المتنامي بينها؛ مما أحدث وحدة فنية في قصائده، كان فيها بحق رائد الشعر القصصي"[18].
مثل قوله:
قُلْنَ يَسْتَرْضِينَهَا: مُنْيَتُنَا لَوْ أَتَانَا الْيَوْمَ فِي سِرٍّ عُمَرْ
بَيْنَمَا يَذْكُرْنَنِي أَبْصَرْنَنِي دونَ قَيدِ المَيلِ يَعْدُو بِي الأَغَرّْ
قالَتِ الْكُبْرَى: أَتَعْرِفْنَ الْفَتَى قالَتِ الوُسْطَى: نَعَمْ هَذَا عُمَرْ
قالَتِ الصُّغْرَى وَقَد تَيَّمْتُهَا: قَدْ عَرَفْنَاهُ وَهَل يَخْفَى الْقَمَرْ
ذَا حَبِيبٌ لَمْ يُعَرِّجْ دُونَنَا سَاقَهُ الْحَيْنُ إِلَيْنَا وَالقَدَرْ[19]
ففي هذه القصيدة تتجلى عناصر البناء السَّردي في:
1- الراوي (السارد ): الشاعر.
2- الحدث (الفعل): خُلُوُّ الفتيات بعضهن مع بعض، وتجاذبهن أطراف الحديث.
3- تشكيلات الزَّمن والمكان: مكان لين ذو رمل، والزَّمن يوم غائم غير ممطر.
4- الشخصيات المتحدثة أو المتكلمة: الفتيات.
5- التَّشكيلات الحوارية بين الفتيات.
أنواع السرد الشعري:
(1) السرد الحكائي:
وهو الذي يعتمد على العناصر الآتية:
أ- صوت الراوي (السارد) الذي يتشكل وفق منظور النص والحكاية.
ب- بؤرة الحدث.
ج- تشكيلات الزمن والمكان.
د- الشخصيات المتحدثة أو المتخاطبة"[20].
وعندما نقرأ ديوان ابن أبي حصينة نجد هذا النوع قد تمثل داخل (19) قصيدة[21]، مثل قوله:
أَتَهِيمُ بِسَاكِنَةِ البُرْقِ فَيَعُودَ فُؤَادُكَ ذَا عَلَقِ
مَا أَنْتَ وَذِكْرُ خَدَلَّجَةٍ تَرَكَتْكَ تَذُوبُ مِنَ الحُرَقِ
نَزَلَتْ بِأَجَارِعِ أَسْنِمَةٍ وَشَتَتْ بِحَزِيزِ لِوَى النَّفَقِ
وَتَقُولُ أُمَامَةُ إِذْ نَظَرَتْ شَبَحًا مَا فِيهِ سِوَى الرَّمَقِ
أَتُطِيقُ هَوَىً وَتَرُوحُ نَوَىً فَأَجَبْتُ طَلَبْتُ فَلَمْ أُطِقِ
أَأُمَامُ بِعَيْشِكِ هَلْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ وَهَلْ أَرِقَتْ أَرَقِي
لاَ ذُقْتُ فِرَاقَكِ ثَانِيَةً فَفِرَاقُكِ عَلَّمَنِي فَرَقِي
وَأَظُنُّ عُقُودَكِ مُشْبِهَةً فِي النَّحْرِ إِذَا قَلِقَتْ قَلَقِي
مُنِّي بِوُقُوفِكِ آمِرَةً بِطَلاَقِ أَسِيرِكِ وَانْطَلِقِي[22]
فعناصر السرد الحكائي نراها متمثلة في:
صوت الراوي (السارد) وهو الشَّاعر، الذي يصنع مع الصوت الآخر (أمامة) جدلاً سرديًّا قائمًا على عدد من الأسس:
1- تملي روح الحكاية عن الآخر من خلال الصَّوت السردي الثاني وهو (أمامة).
2- إبراز الشكل الحركي للنص عن طريق توسيع المدى الحركي للأفعال في قوله:
(أتهيم، فيعود، تركتك، تذوب) والمزج بين الحركة المادية (نزلت، شتت، نظرت، تركتك)، والحركة النفسية (تهيم، يعود، تذوب، تطيق).
3- تداخل الأزمنة في النص، من خلال الالتفات بين الحاضر (تهيم، يعود، يذوب، تطيق)، والماضي (تركتك – نزلت – شتت - نظرت ).
4- بؤرة الحدث: وهي هيامه وشوقه بمن يحب.
5- المكان: الأماكن متعددة، مثل: أجارع أسنمة وحزيز لوى النفق.
6- الحوار الدائر بين الشاعر ونفسه، والحوار بينه وبين أُمَامة، ثم بعد ذلك الحوار بينه وبين رفاقه أثناء رحلته نحو ممدوحه، في الأبيات التالية:
وَرَفَائِقِ لَيْلٍ قُلْتُ لَهُمْ وَالْبِيدُ مُحَرَّمَةُ الطُّرُقِ
وَالْعِيسُ تَكَادُ تَذُوبُ إِذَا ذَابَتْ فَتَسِيلُ مَعَ العَرَقِ
قَطَعُوا سَلْمَى فَذُرَى جَاءٍ فَحَزِيزي رَامَةَ فَالْبُرْقِ
فَأَتَوْا حَلَبًا فَسَفَوْا ذَهَبًا وَعَفَوْا فَنَفَوْا بِدَرَ الْوَرِقِ
يَا صَاحِ أَضَوْءُ سَنَا قَمَرٍ أَمْ سَاطِعُ ضَوْءِ سَنَا فَلَقِ
أَمْ وَجْهُ أَبِي العُلْوَانِ بَدَا لِهِدَايَةِ مُدَّرِعِ الغَسَقِ
وعلى الرَّغم من أنَّ صوت السارد (الشاعر) هو المهيمن على تشكيلات النَّص، فإنَّ الأصوات الأخرى والشخصيَّات والفضاء الحكائي، والحوارات الظاهرة والضمنية - نقلت السرد الحكائي إلى أعلى مراحله، وجعلته يقترب من بنية الخطاب السردي بوجه عام.
(2) سرد توهم الحكاية:
ويتميَّز بأنَّه "هو الذي يبدأ باستهلال سردي حكائي، معتمدًا على فعل من أفعال الحكاية بأنواعها المختلفة، ثم ما يلبث الشَّاعر أنْ يدخلَ في عموميَّات الخطاب الشعري، فتغلب عليه نزعة الوصف، أو التشخيص، أو التصوير"[23].
وقد تَمثَّل هذا النوع في (32) قصيدة[24]، مثل قوله:
زَارَتْكَ بَعْدَ الكَرَى زُورًا وَتَمْوِيهًا مَا كَانَ أَقْرَبَهَا لَوْلاَ تَنَائِيهَا
زَارَتْ وَجُنْحُ الدُّجَى يَحْكِي ذَوَائِبَهَا وَوَدَّعَتْ وَضِياءُ الصُّبْحِ يَحْكِيهَا
كَيْفَ اهْتَدَتْ وَظَلاَمُ اللَّيْلِ مُعْتَكِرٌ لَوَلاَ سَنَا وَجْهِهَا فِي اللَّيْلِ يَهْدِيهَا
تَبَرْقَعَتْ فِي الدُّجَى تُخْفِي مَحَاسِنَهَا فَلَم تَكَدْ سُدَفُ الظَّلْمَاءِ تُخْفِيهَا[25]
نلاحظ أنَّ الحركةَ النصية بدأت من التَّعبير باستخدام الفعل الماضي (زارتك)، الذي يحمل نبرة التأكيد على حدوث هذه الزيارة، ولكنَّها زيارة بعد النَّوم (في الحلم)، ثم بعد ذلك تنساب التعبيرات المشخصة الواصفة، كما في قوله:
"جُنْحُ الدُّجى يَحكي ذَوائِبَها، وَوَدَّعَت وَضِياءُ الصُبحِ يَحْكِيها، سَنَا وَجْهِهَا فِي اللَّيْلِ يَهْدِيهَا"، ثُمَّ يمزج الشَّاعر هذا الجو الشِّعري بمحاورة حالمة مع هذا الطَّيف الذي أسعد الشَّاعر، وجعله يفديه بروحه.
فالشاعر خلق جوًّا ساحرًا حول هذه المحبوبة التي زارته بطيفها، فما بالنا إذا زارته حقيقة لا زورًا وتمويهًا؟!
(3) السرد التشخيصي:
يعد التشخيص "من الأدوات المشكلة لعدد من الخطابات الشِّعرية، فهو يحول النص من التعبير الرمزي المجرد إلى التعبير الرَّمزي المشخص.
ويقوم السرد التشخيصي على الحديث عن الذَّات، وعن الأشياء وتشخيصها، أو تجريدها، وصفًا ومدحًا وتفسيرًا"[26].
وقد تَمثَّل هذا النوع في (12) قصيدة[27]، مثل قوله:
أَبَى قَلْبُهُ مِن لَوْعَةِ الحُبِّ أَنْ يَخْلُو فَلا تَعْذِلُوا مَنْ لَيْسَ يَرْدَعُهُ العَذْلُ
وَلاَ تَطْلُبُوا مِنِّي مَدَى الدَّهْرِ سَلْوَةً فَمَا يَرْعَوِي عَنْكُمْ فُؤَادِي وَلاَ يَسْلُو
ضَنِيتُ فَلَوْ أَنِّي عَلَى رَأْسِ شَعْرَةٍ حُمِلْتُ وَمالَتْ لاَ يَنُوءُ بِهَا الْحَمْلُ[28]
كَأَنَّ اللَّيَالِي طَالَبَتْنِي لِقُرْبِكُمْ بِتَبْلٍ فَلَمَّا بِنْتُمُ ذَهَبَ التَّبْلُ
خَلِيلَيَّ مَا لِلرَّبْعِ يَخْلُو وَلَيْسَ لِي فُؤادٌ مِنَ التَبْرِيحِ يَخْلُو كَمَا يَخْلُو
وَمَا لِي إِذَا مَا لاَحَ إِيمَاضُ بَارِقٍ مِنَ الْعَلَمِ النَّجْدِيِّ دَاخَلَنِي الْخَبْلُ
لَئِنْ كَانَ جَهْلاً مَا بِقَلْبِي مَنَ الْجَوَى فَمَنْ لِي بِقَلْبٍ لا يُفَارِقُهُ الْجَهْلُ
وَمَنْ لِي بِوَصْلٍ مِنْ أُمامَةَ بَعدَمَا تَقَطَّعَ مِنهَا الْيَأْسُ أَنْ مُنِعَ الْوَصْلُ
أَيَا قَلْبُ كَمْ لاَ تَسْتَفِيقُ مِنَ الْجَوَى وَكَمْ أَنْتَ مَا يَخْلُو غَرَامُكَ مَا يَخْلُو[29]
فالشَّاعر قد جعل اللُّغة لغة مشخصة، فالقَلب قد أصبح شخصًا أبيًّا رافضًا الابتعادَ عن الحب، واللَّيالي رفاق يطالبونه بالتَّبل.
فالأفعال: "أَبَى، يرعوي، طالبتني، تستفيق"، التي يمتزج فيها الماضي بالحاضر، والتنوُّع في استخدام الضمائر - ما بين غائبة ومتكلمة ومخاطبة – كل هذا خلق نوعًا من الحيوية المتدفقة، التي صبغت النَّص بنوع من الصراع بين الشاعر وبين نفسه، وبينه وبين غيره، كما أنَّنا نرى الحيرة الممتزجة باليأس من إبعاد قلبه عن حبه لأمامة.
(4) السرد الذاتي:
"وفيه يجعل الشَّاعر من نفسه محورًا للنص، فصار هو المخبرَ الوحيد عنها، الذي ينمي حركة النص، أو يثبتها؛ حيث يتحول الشاعر هنا إلى راوٍ ومتلقٍّ في آنٍ واحد، ويكون الحدث (السرد) النابع من ذاته هو محور الحركة، والخطة التي يتبعها النص مع الاستعانة أحيانًا بسارد آخر ينبع من الذات الأولى أيضًا، أو يمثل وجهًا موضوعيًّا لها"[30].
وهذا النوع نجده قد تمثل في (4) قصائد[31]، مثل قوله:
أَحِلْمًا تَبْتَغِي عِنْدَ الْوَدَاعِ لَعَمْرُكَ لَيْسَ ذَاكَ بِمُسْتَطَاعِ
وَتَطْمَعُ فِي الْحَياةِ وَغَيْرُ حَيٍّ يَكُونُ إِذَا دَعَا لِلْبَيْنِ دَاعِ
بِثَهْمَدَ وَالظَّعَائِنُ عَامِدَاتٌ حُزُونًا بَيْنَ ثَهْمَدَ وَالكُرَاعِ
بِكُلِّ غَريرَةٍ تَهْتَزُّ لِينًا كَمَا يَهْتَزُّ مَشْمُولُ الْيَرَاعِ
أُلاَحِظُهَا بِطَرْفٍ غَيْرِ سَامٍ وَأُتْبِعُهَا فُؤَادًا غَيْرَ وَاعِ
فَلَمْ أَرَ قَبْلَهَا فِي الخِدْرِ شَمْسًا وَلاَ قَمَرًا مُنِيرًا فِي قِنَاعِ
وَقائِلَةٍ هَوَاكَ لَنَا خِدَاعٌ وَتُنْكِرُ طُولَ بَثِّي وَالْتِيَاعِي
وَلَوْ وَجِدَتْ غَدَاةَ الْبَيْنِ وَجْدِي لَبَانَ لَهَا صَحِيحِي مِنْ خِدَاعِي
كَأَنِّي وَالْحُمُولُ مُوَلِّيَاتٌ صَرِيعُ كَرِيهَةٍ بِلِوَى الصِّرَاعِ
وَشَارِبُ قَهْوَةٍ غَلَبَتْ عَلَيهِ مِنَ الْجِرْيَالِ حَمْرَاءُ الشُّعَاعِ[32]
فالشَّاعر هنا يبدأ بسؤال نفسه بدهشة عن إمكانيَّة الصَّبر عند الوَدَاع، فيجيب باستحالة هذا الأمر، ويستمر سائلاً نفسه عن طمعها في الحياة، وعند الوداع يفقد كل حي حياته.
وهكذا يستمر الشاعر مرتديًا عباءة الراوي تارة والمتلقي تارة أخرى، حتَّى يمتزجا معًا، فيصبح الحدث – النابع من ذاته – محور الحركة الدائبة في النص من خلال الأفعال الآتية:
(ألاحظها، أتبعها، أر، تنكر، وجدت) التي تمتزج مع الحركة التي تصنعها الوحدات الاسمية، التي تمثل صفاتٍ للذَّات في النص في قوله:
(غير سام، غير واع، وجدي، هواك، طول بثي، التياعي).
ويستمر الشاعر خلال القصيدة معبِّرًا عن شخصيته؛ حتَّى يبدأ في مدح ممدوحه، فيوجه إليه خطابه مظهرًا ما فيه من صفات يعجز عن مداها كل ساعٍ، فيقول:
فَتًى يَسْعَى الرِّجَالُ إِلَى مَدَاهُ فَيَعْجَزُ عَنْ مَدَاهُ كُلُّ سَاعِ
وَيَعْلُو النَّاسُ فتْرًا فِي الْمَعَالِي فَيَعْلُو فَوْقَ مَا يَعْلُو بِبَاعِ
شِرَاعُ الْمَجْدِ مَمْدُودٌ عَلَيهِ وَمَشرُوعٌ نَدَى ذَاكَ الشِّرَاعِ
رَعَاهُ اللَّهُ مِنْ مَلِكٍ هُمَامٍ لَنَا وَلِحَوْزَةِ الْإِسْلاَمِ رَاعِ[33]
وعلى مدحه هذا فإنَّه يعود مرة أخرى إلى الحديث عن ذاته، فيقول:
أُوَدِّعُهُ وَفِي قَلْبِي سِهَامٌ لَعَمْرُ أَبِيكَ مِنْ هَذَا الْوَدَاعِ
وَأَمْضِي غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِعَيْشٍ وَكَيْفَ يَكُونُ بِالعَيْشِ انْتِفَاعِي
ثُمَّ يعود الشاعر إلى ممدوحه، فيدعو له قائلاً:
جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ نُعْمَاكَ خَيْرًا وَعَنْ حُسْنِ احْتِبَاسِي وَاصْطِنَاعِي
ثم يخرج من هذا الدعاء ليعود إلى ذاته، فيقول:
فَإِنِّي مُذْ نَجَعْتُكَ بِالْقَوَافِي حَمَدْتُ إِلَيْكَ قَصْدِي وَانْتِجَاعِي
وَطَلَّقْتُ الْمُلُوكَ بِكُلِّ أَرْضٍ ثَلاَثًا لاَ يَحِلُّ لَهَا ارْتِجَاعِي
ثم ينهي النَّص بالدُّعاء لممدوحه بطول العمر قائلاً:
فَعِشْ يُنْعَى إِلَيْكَ النَّاسُ طُرًّا وَلاَ يَنْعَاكَ طُولَ الدَّهْرِ نَاعِ
(5) السرد المشهدي:
وهذا النوع "يعتمد الشاعر فيه على التصوير المشهدي كأساسٍ سردي للنص، ويستثمر السارد مع عناصر الرُّؤية والتصوير عناصرَ اللغة وفنياتها، كالتَّشخيص والوصف والحوار، وغير ذلك من مستويات الخطاب"[34].
وقد تَمثَّل هذا النوع في (33) قصيدة[35]، مثل قول الشاعر:
سَرَيْنَا وَهَضْبٌ مِنْ سَنِيرٍ أَمَامَنَا وَمِنْ خَلْفِنَا غُبْرُ الْقِنَانِ التَّنَائِمِ
فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الْيَفَاعَ وَأَشْرَقَتْ مَذَانِبُ مِنْ لُبْنَانَ بِيضُ الْعَمَائِمِ
وَلاَحَ لَنَا مِيمَاسُ حِمْصٍ وَأَعْرَضَتْ قُرُونُ حَمَاةٍ بِالْحِرَارِ الْأَسَاحِمِ
وَجَازَتْ كَفَرْطَابٍ بِلَيْلٍ فَأَصْبَحَتْ بِسَرْمَيْنَ أَمْثَالَ الشِّنَانِ الْهَزَائِمِ[36]
هذا المشهد يُمثل الرؤية الكلية للسارد (الشاعر) معتمدًا فيه على أسلوب الحكاية، مع سيطرته على الحركة داخل المشهد، فهو يسير مع صحبه وسط طبيعة خلاَّبة، أخذ في وصفها من جميع الجهات، فمذانب جبل لبنان كأنَّها عمائم بيض، وقرون حماة أصبحت أمثال الشِّنان المتكسِّرة، كأنَّ ترابَ كفرطاب وسرمين – مما تثيره الجرز - مثل الطيب على لباتها وقوائمها.
وهكذا رسم الشاعر لنا مشهدًا بديعًا من الطبيعة الخلابة، واستطاعَ بوصفه الدقيق أنْ يَجعلنا نشاطره رحلته في ذلك العالم البعيد.
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نؤكد سيطرة البناء السردي المتنوع على التجربة الشِّعرية عند ابن أبي حصينة؛ مِمَّا جعل شعره متدفقًا من ينابيع مُختلفة ثرة، يرتوي منها كل ظمآن، ويهتدي بها كل حيران.
ـــــــــــــــــــــ
[1] "مقدمة تحقيق الديوان"، د. محمد أسعد طلس، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، المطبعة الهاشمية بدمشق، 1956، ج1/ص16.
[2] "زبدة الحلب في تاريخ حلب"، ابن العديم، عني بنشره وتحقيقه ووضع فهارسه: د/ سامي الدهان، دمشق1954، ج1/ ص231، وج2/ ص71 وما بعدها، وانظر: "تاريخ ابن الوردي"، القاهرة سنة 1285، ج1/ ص380.
[3] "مقدمة الديوان"، مرجع سابق، ص 9.
[4] "معجم المصطلحات الأدبية الحديثة"، د. محمد عناني، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان)، ط3، 2003م، ص59.
[5] "خطاب الحكاية: بحث في المنهج"، جيرار جينت، ترجمة/ محمد عبدالجليل الأزدي وعمر حلمي، المجلس الأعلى للثقافة، 1997م، ط2، ص40.
[6] "لسان العرب"، ابن منظور، طبعة دار المعارف، ج3، بدون تاريخ، ص1987.
[7] "تاريخ آداب العرب"، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1974، ج2، ط2، ص297.
[8] "الأدب وفنونه"، د. عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، ط6، ص187.
[9] "البنية السردية في النص الشعري"، د. محمد زيدان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية، شهرية (149)، أغسطس 2004م، ص15.
[10] السابق، ص15.
[11] "العمدة في محاسن الشعر وآدابه"، ابن رشيق، تحقيق: محمد محيي الدين، دار الجيل، لبنان، ط1، 1972م، ص261.
[12] "عيار الشعر"، ابن طباطبا العلوي، تحقيق وتعليق: د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط 1984م. ص35.
[13] السابق، ص36.
[14] "بلاغة الخطاب وعلم النص"، د/ صلاح فضل، عالم المعرفة 164، مطابع السياسة، الكويت، ص281.
[15] "ديوان امرئ القيس"، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ص29. و"شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها"، للشيخ أحمد الأمين الشنقيطي، حقَّقه وأتم شرحـه: محمد عبدالقادر الفاضلي، المكتبة العصرية، صيـدا لبنان 1421هـ - 2000م، ط3، ص28 - 26.
[16] "ديوان الحطيئة"، من شرح ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، شرح أبي سعيد السكري، دار صادر، بيروت 1401هـ - 1981م، ص271.
[17] "قراءة في الأدب الإسلامي والأموي"، د. محمد عبدالعزيز الموافي، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص230،231.
[18] السابق، ص231،232.
[19] "ديوان عمر بن أبي ربيعة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م، ص90.
[20] "بناء الرواية"، د/ سيزا أحمد قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م، ط1، ص32و33.
[21] هي: 2/12، 4/19، 7/32، 17/63، 22/74، 23/79، 24/82، 27/96، 28/98، 39/131، 51/154، 56/173، 65/195، 66/200، 71/208، 93/264، 95/269، 109/324، 112/336.
[22] "الديوان"، ص269.
[23] "البنية السردية في النص الشعري"، مرجع سابق، ص35.
[24] هي: 16/59، 17/62، 36/120، 37/123، 41/133، 43 /137، 45/141، 51/154، 62/186، 63/189، 64/193، 66/197، 67/202، 68/203، 69/204، 72/209، 73/213، 77/218، 79/224، 81/230، 86/238، 87/239، 89/248، 91/260، 92/262، 94/266، 101/286، 105/302، 123/365، 125/369، 127/373.
[25] "الديوان"، ص133.
[26] "البنية السردية في النص الشعري"، ص43.
[27] هي: 9/38، 13/50، 16/58، 17/62، 25/86، 57/ 176، 65/194، 80/227، 93/263، 99/280، 107/313، 109/321.
[28] "الديوان"، ص176.
[29] "الديوان"، ص176.
[30] "البنية السردية في النص الشعري"، ص50، 51.
[31] هي: 49/151، 50/152، 71/207، 122/362.
[32] "الديوان"، ص207، 208.
[33] "الديوان"، ص209.
[34] "البنية السردية في النص الشعري"، مرجع سابق، ص56.
[35] هي: 24/82، 26/88، 27/94، 28/98، 38/129، 39/130، 40/132، 44/138، 47/147، 48/148، 52/155، 53/159، 54/165، 58/178، 59/179، 60/181، 61/183، 67/202، 70/205، 75/214، 76/217، 78/220، 88/244، 82/231، 98/279، 100/285، 102/292، 104/297، 105/301، 106/306، 108/318، 116/347، 110/327.
[36] "الديوان"، ص129.
منقول
وقد انقطع إلى مدح دولة بني مرداس، الذين استولى قائدهم صالح بن مرداس سنة سبع عشرة وأربعمائة على حلب وما إليها حتى طرابلس، ثم قُتل صالح في سنة عشرين وأربعمائة من الهجرة، وتملَّك ابناه معز الدولة ثمال وشبل الدولة نصر، وقد انتهت الدولة المرداسية سنة 472هـ[2].
وقد كان لابن أبي حصينة مكانة شعرية عظيمة؛ وخير دليل عليها ما قاله الشاعر الكبير أبو العلاء المعري عنه في المقدمة التي أملاها في أول الديوان، وفيها أظهر عظيم تقديره لابن أبي حصينة؛ حيث قال عنه: "مولاي الأمير أبو الفتح بن أبي حصينة"[3].
مفهوم السرد:
للسرد مفهومان:
أ) اصطلاحي:
"هو قصُّ حادثة واحدة أو أكثر، خيالية أو حقيقية"[4].
وهذا يعني أن "السَّرْدَ لا يوجد إلاَّ بواسطة الحكاية، كما أنه عرض لتسلسل الأحداث أو الأفعال في النص"[5].
وهو يعني وجود عنصرين رئيسين في النَّص:
الأول: الراوي (السارد)، والثاني: الحدث (الفعل).
ب) لغوي:
وهو "تَقْدِمَةُ شيء إِلى شيء تأْتي به متَّسقًا بعضُه في أَثر بعض متتابعًا، ويقال: سَرَد الحديث ونحوه، يَسْرُدُه سَرْدًا: إذا تابعه، وفلان يَسْرُد الحديث سردًا: إذا كان جيد السياق له.
والسَّرد:
الخرز في الأديم، وقيل سردها: نسجها، وهو تداخل الحلق بعضها في بعض، وسرد خفَّ البعير سردًا: خصفه بالقد... وفي القرآن الكريم: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11]، قيل: ألاَّ يجعلَ المسمار غليظًا، والثقب دقيقًا، فيفصم الحلق، ولا يجعل المسمار دقيقًا، والثقب واسعًا، فيتقلقل أو ينخلع، أو ينقصف، اجعله على القصد وقَدْرِ الحاجة"[6].
ونلمح من هذا التعريف المعجمي سمات يقوم السَّرد بإبرازها، وهي الاتِّساق والتتابع والإحكام.
وفي العصر الحديث نجد تعريفًا للسرد – لا يكادُ يبتعد كثيرًا عن التعريفات التراثية – مثل تعريف (الرافعي)؛ حيثُ قال عن السرد: إنَّه "متابعة الكلام على الولاء والاستعجال به، وقد يراد به أيضًا جودة سياق الحديث، وكأنه من الأضداد"[7].
وقد يكون السرد شكلاً لغويًّا معبرًا، يقوم بـ "نقل الحادثة من صورتها الواقعة إلى صورة لغوية"[8].
تاريخ السرد:
ارتبط السَّرد باللغة منذ فجر التاريخ كمفهوم إشاري، يعد من أقدم أشكال التعبير الإنساني الذي يقوم بوظيفة مهمة؛ من أجل إحداث نشاط إنساني في جميع صوره المادية والمعنوية... إلخ.
وقد مرَّ السرد بمراحل "بدأت شفاهة قبل الميلاد بفترة طويلة، وغير محددة بشكل قاطع، وكانت هذه البداية مُرتبطة بشيئين:
الأوَّل: الأسطورة الشفهية.
والثاني: الطُّقوس الدينية المرتلة"[9].
وأخذ يتطور إلى "أن ظهرت القصة كشكل سردي خالص بفعل انفصالها عن الملاحم – والتي بدأ السرد بها – حتَّى أصبح القص ملتصقًا بالسرد، ومن هنا ارتبطَ النَّص السردي في كثير من الكتابات الغربيَّة بالقصة والرواية"[10].
السرد في النقد العربي القديم:
ورد في النقد العربي القديم إشارات لمفهوم السرد، منها ما ورد عند ابن رشيق في كتابه "العمدة"، وهذا في قوله: "ومن الناس من يستحسن الشعر مبنيًّا بعضه على بعض، وأنا أستحسن أن يكون كل بيت قائمًا بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله، ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير، إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات وما شاكلها، فإنَّ بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد"[11].
ونلاحظ على هذه المقولة أنَّ ابن رشيق جعل السرد قائمًا على:
1- احتياج البيت لما قبله وما بعده.
2- بناء اللفظ على اللفظ.
3- وجوده في الحكايات وما شاكلها.
ونفهم منها أيضًا وجود صراع بين الفكر النقدي الحديث، الذي يفضل بناء الشِّعر بعضه على بعض، والفكر النَّقدي القديم الذي يستحسن أن يكون كل بيت قائمًا بنفسه، وهذا رأي ابن رشيق، على الرغم من أنَّه يستثني الحكايات وما شاكلها.
وإذا ما ذهبنا إلى ناقد قديم كبير مثل ابن طباطبا في كتابه: "عيار الشِّعر"، نجده يقول:
"وعلى الشاعر إذا اضطر إلى اقتصاص خبر في شعر، دبَّرَه تدبيرًا يسلس له معه القول، ويطرد فيه المعنى، فيبني شعره على وزن يحتمل أن يُحشى بما يحتاج إلى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به، أو تقصٍّ يُحذف منه، وتكون الزيادة والنُّقصان يسيرين غير مخدجين لما يستعان فيه بهما، وتكون الألفاظ المزيدة غَيْرَ خارجة من جنس ما يقتضيه، بل تكون مؤيدة له، وزائدة في رونقه وحسنه"[12].
ثم ضرب لنا مثلاً على كلامه بقول الأعشى فيما اقتصه من خبر السمَوْءل:
كُنْ كَالَسَّمَوْءَلِ إذْ طَافَ الهُمَامُ بِهِ فِي جَحْفَلٍ كَزُهَاءِ اللَّيْلِ جَرَّارِ
بَالْأَبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ حِصْنٌ حَصِينٌ وَجَارٌ غَيْرُ غَدَّارِ
إِذْ سَامَهُ خُطَّتَيْ خَسْفٍ فَقَالَ لَهُ اعْرِضْ عَلَيَّ كَذَا أَسْمَعْهُمَا حَارِ
فَقَالَ: غَدْرٌ وَثُكْلٌ أَنْتَ بَيْنَهُمَا فَاخْتَرْ وَمَا فِيْهِمَا حَظٌّ لِمُخْتَارِ
وبعد أنْ يذكر ابن طباطبا القصيدة كلها يعلق عليها قائلاً: "فانظر إلى استواء هذا الكلام، وسهولة مخرجه، وتَمام معانيه، وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أريدت له من غير حشد مجتلب ولا خلل شائن"[13].
ويعد الدكتور صلاح فضل "هذه الإشارة أوضح كلام عن السرد الشعري في النقد والبلاغة العربية في الماضي"[14].
ولكن هذه الإشارة الواضحة من ناقد كبير لم تجد من يُساندها ويدعو لها؛ ليسهم في إبراز لون مميز من ألوان الشعر، يقوم على الاعتماد على السَّرد ونظامه، بما يخدم التجربة الشعرية ويعدد من أشكالها.
بذوره في الشعر القديم:
لقد ورد في الشِّعر العربي القديم بذور متنوعة للسرد، ولكنَّها كانت إشارات قليلة، فامرؤ القيس ذكر كثيرًا: "وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي"، "ويَوْمَ دَخَلْتُ الْخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ"، و"دارة جلجل"، مثل قوله:
وَيَومَ دَخَلتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيزَةٍ فَقالَت: لَكَ الوَيلاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي
تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا مَعًا عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأَ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
فَقُلتُ لَهَا: سِيرِي وَأَرْخِي زِمَامَهُ وَلا تُبْعِدِينِي مِن جَنَاكِ الْمُعَلَّلِ
وقوله:
فَجِئْتُ وَقَدْ نَضَّتْ لِنَومٍ ثِيَابَهَا لَدَى السِّتْرِ إِلاَّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ
فَقَالَت: يَمِينُ اللَّهِ، ما لَكَ حِيلَةٌ وَما إِنْ أَرَى عَنْكَ الْغَوَايَةَ تَنْجَلِي
وقوله:
وَلَيلٍ كَمَوْجِ الْبَحْرِ أَرْخَى سُدُولَهُ عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الْهُمُومِ لِيَبْتَلِي
فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ وَأَرْدَفَ أَعْجَازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلاَ انْجَلِي بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ[15]
والحطيئة عند حكايته عن الضَّيف الذي راعه وهو معدم، فحاول إكرامَه بأيِّ شيء، ولكنه تحير في أمره؛ مِمَّا دفع ابنه إلى الإشارة عليه بذبحه؛ لكي لا يتعرض الحطيئة لعار الذَّم من ضيف غريب، وقد صور الحطيئة هذه القصة في الأبيات التالية:
رَأَى شَبَحًا وَسْطَ الظَّلاَمِ فَرَاعَهُ فَلَمَّا بَدَا ضَيْفًا تَسَوَّرَ وَاهْتَمَّا
وَقَالَ ابْنُهُ لَمَّا رَآهُ بِحَيْرَةٍ أَيَا أَبَتِ اذْبَحْنِي وَيَسِّر لَهُ طُعْمَا
وَلاَ تَعْتَذِرْ بِالعُدْمِ عَلَّ الَّذِي طَرَا يَظُنُّ لَنَا مَالاً فَيُوسِعُنَا ذَمَّا[16]
ويلاحظ أنَّ هذه الأبيات تشتمل على بذور قويَّة لمفهوم السَّرد الحكائي التي تتوفر فيها عناصره، وهي:
1- الرَّاوي (السارد)، وهو الشاعر.
2- الحدث (الفعل)، قدوم الضيف.
3- تشكيلات الزَّمن والمكان، ظلام الليل في صحراء قاحلة.
4- الشخصيات المتحدثة أو المتكلمة: الشاعر، وابنه.
وهذه الملامح – رغم قوتها – إلا أنَّها كانت قليلة، ولا تشكل لونًا بارزًا في الشعر الجاهلي.
وإذا ما ذهبنا إلى العصر الأموي، نَجد هذا اللون من السرد قد شاع وغلب على شاعر الغزل الأول، وهو عمر بن أبي ربيعة، "الذي خطا به خطوات فسيحة ومنوَّعة، فالقصَّة الشعرية لديه متَّفقة مع أسلوبه في الغَزَل؛ حيث تحرص الجميلات الرَّاقيات على محادثته والفَوْز بقلبه"[17]، وقد استطاع تجلية الجوانب النفسيَّة المختلفة لشخصياته، من خلال الحوار الدِّرامي المتنامي بينها؛ مما أحدث وحدة فنية في قصائده، كان فيها بحق رائد الشعر القصصي"[18].
مثل قوله:
قُلْنَ يَسْتَرْضِينَهَا: مُنْيَتُنَا لَوْ أَتَانَا الْيَوْمَ فِي سِرٍّ عُمَرْ
بَيْنَمَا يَذْكُرْنَنِي أَبْصَرْنَنِي دونَ قَيدِ المَيلِ يَعْدُو بِي الأَغَرّْ
قالَتِ الْكُبْرَى: أَتَعْرِفْنَ الْفَتَى قالَتِ الوُسْطَى: نَعَمْ هَذَا عُمَرْ
قالَتِ الصُّغْرَى وَقَد تَيَّمْتُهَا: قَدْ عَرَفْنَاهُ وَهَل يَخْفَى الْقَمَرْ
ذَا حَبِيبٌ لَمْ يُعَرِّجْ دُونَنَا سَاقَهُ الْحَيْنُ إِلَيْنَا وَالقَدَرْ[19]
ففي هذه القصيدة تتجلى عناصر البناء السَّردي في:
1- الراوي (السارد ): الشاعر.
2- الحدث (الفعل): خُلُوُّ الفتيات بعضهن مع بعض، وتجاذبهن أطراف الحديث.
3- تشكيلات الزَّمن والمكان: مكان لين ذو رمل، والزَّمن يوم غائم غير ممطر.
4- الشخصيات المتحدثة أو المتكلمة: الفتيات.
5- التَّشكيلات الحوارية بين الفتيات.
أنواع السرد الشعري:
(1) السرد الحكائي:
وهو الذي يعتمد على العناصر الآتية:
أ- صوت الراوي (السارد) الذي يتشكل وفق منظور النص والحكاية.
ب- بؤرة الحدث.
ج- تشكيلات الزمن والمكان.
د- الشخصيات المتحدثة أو المتخاطبة"[20].
وعندما نقرأ ديوان ابن أبي حصينة نجد هذا النوع قد تمثل داخل (19) قصيدة[21]، مثل قوله:
أَتَهِيمُ بِسَاكِنَةِ البُرْقِ فَيَعُودَ فُؤَادُكَ ذَا عَلَقِ
مَا أَنْتَ وَذِكْرُ خَدَلَّجَةٍ تَرَكَتْكَ تَذُوبُ مِنَ الحُرَقِ
نَزَلَتْ بِأَجَارِعِ أَسْنِمَةٍ وَشَتَتْ بِحَزِيزِ لِوَى النَّفَقِ
وَتَقُولُ أُمَامَةُ إِذْ نَظَرَتْ شَبَحًا مَا فِيهِ سِوَى الرَّمَقِ
أَتُطِيقُ هَوَىً وَتَرُوحُ نَوَىً فَأَجَبْتُ طَلَبْتُ فَلَمْ أُطِقِ
أَأُمَامُ بِعَيْشِكِ هَلْ ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ وَهَلْ أَرِقَتْ أَرَقِي
لاَ ذُقْتُ فِرَاقَكِ ثَانِيَةً فَفِرَاقُكِ عَلَّمَنِي فَرَقِي
وَأَظُنُّ عُقُودَكِ مُشْبِهَةً فِي النَّحْرِ إِذَا قَلِقَتْ قَلَقِي
مُنِّي بِوُقُوفِكِ آمِرَةً بِطَلاَقِ أَسِيرِكِ وَانْطَلِقِي[22]
فعناصر السرد الحكائي نراها متمثلة في:
صوت الراوي (السارد) وهو الشَّاعر، الذي يصنع مع الصوت الآخر (أمامة) جدلاً سرديًّا قائمًا على عدد من الأسس:
1- تملي روح الحكاية عن الآخر من خلال الصَّوت السردي الثاني وهو (أمامة).
2- إبراز الشكل الحركي للنص عن طريق توسيع المدى الحركي للأفعال في قوله:
(أتهيم، فيعود، تركتك، تذوب) والمزج بين الحركة المادية (نزلت، شتت، نظرت، تركتك)، والحركة النفسية (تهيم، يعود، تذوب، تطيق).
3- تداخل الأزمنة في النص، من خلال الالتفات بين الحاضر (تهيم، يعود، يذوب، تطيق)، والماضي (تركتك – نزلت – شتت - نظرت ).
4- بؤرة الحدث: وهي هيامه وشوقه بمن يحب.
5- المكان: الأماكن متعددة، مثل: أجارع أسنمة وحزيز لوى النفق.
6- الحوار الدائر بين الشاعر ونفسه، والحوار بينه وبين أُمَامة، ثم بعد ذلك الحوار بينه وبين رفاقه أثناء رحلته نحو ممدوحه، في الأبيات التالية:
وَرَفَائِقِ لَيْلٍ قُلْتُ لَهُمْ وَالْبِيدُ مُحَرَّمَةُ الطُّرُقِ
وَالْعِيسُ تَكَادُ تَذُوبُ إِذَا ذَابَتْ فَتَسِيلُ مَعَ العَرَقِ
قَطَعُوا سَلْمَى فَذُرَى جَاءٍ فَحَزِيزي رَامَةَ فَالْبُرْقِ
فَأَتَوْا حَلَبًا فَسَفَوْا ذَهَبًا وَعَفَوْا فَنَفَوْا بِدَرَ الْوَرِقِ
يَا صَاحِ أَضَوْءُ سَنَا قَمَرٍ أَمْ سَاطِعُ ضَوْءِ سَنَا فَلَقِ
أَمْ وَجْهُ أَبِي العُلْوَانِ بَدَا لِهِدَايَةِ مُدَّرِعِ الغَسَقِ
وعلى الرَّغم من أنَّ صوت السارد (الشاعر) هو المهيمن على تشكيلات النَّص، فإنَّ الأصوات الأخرى والشخصيَّات والفضاء الحكائي، والحوارات الظاهرة والضمنية - نقلت السرد الحكائي إلى أعلى مراحله، وجعلته يقترب من بنية الخطاب السردي بوجه عام.
(2) سرد توهم الحكاية:
ويتميَّز بأنَّه "هو الذي يبدأ باستهلال سردي حكائي، معتمدًا على فعل من أفعال الحكاية بأنواعها المختلفة، ثم ما يلبث الشَّاعر أنْ يدخلَ في عموميَّات الخطاب الشعري، فتغلب عليه نزعة الوصف، أو التشخيص، أو التصوير"[23].
وقد تَمثَّل هذا النوع في (32) قصيدة[24]، مثل قوله:
زَارَتْكَ بَعْدَ الكَرَى زُورًا وَتَمْوِيهًا مَا كَانَ أَقْرَبَهَا لَوْلاَ تَنَائِيهَا
زَارَتْ وَجُنْحُ الدُّجَى يَحْكِي ذَوَائِبَهَا وَوَدَّعَتْ وَضِياءُ الصُّبْحِ يَحْكِيهَا
كَيْفَ اهْتَدَتْ وَظَلاَمُ اللَّيْلِ مُعْتَكِرٌ لَوَلاَ سَنَا وَجْهِهَا فِي اللَّيْلِ يَهْدِيهَا
تَبَرْقَعَتْ فِي الدُّجَى تُخْفِي مَحَاسِنَهَا فَلَم تَكَدْ سُدَفُ الظَّلْمَاءِ تُخْفِيهَا[25]
نلاحظ أنَّ الحركةَ النصية بدأت من التَّعبير باستخدام الفعل الماضي (زارتك)، الذي يحمل نبرة التأكيد على حدوث هذه الزيارة، ولكنَّها زيارة بعد النَّوم (في الحلم)، ثم بعد ذلك تنساب التعبيرات المشخصة الواصفة، كما في قوله:
"جُنْحُ الدُّجى يَحكي ذَوائِبَها، وَوَدَّعَت وَضِياءُ الصُبحِ يَحْكِيها، سَنَا وَجْهِهَا فِي اللَّيْلِ يَهْدِيهَا"، ثُمَّ يمزج الشَّاعر هذا الجو الشِّعري بمحاورة حالمة مع هذا الطَّيف الذي أسعد الشَّاعر، وجعله يفديه بروحه.
فالشاعر خلق جوًّا ساحرًا حول هذه المحبوبة التي زارته بطيفها، فما بالنا إذا زارته حقيقة لا زورًا وتمويهًا؟!
(3) السرد التشخيصي:
يعد التشخيص "من الأدوات المشكلة لعدد من الخطابات الشِّعرية، فهو يحول النص من التعبير الرمزي المجرد إلى التعبير الرَّمزي المشخص.
ويقوم السرد التشخيصي على الحديث عن الذَّات، وعن الأشياء وتشخيصها، أو تجريدها، وصفًا ومدحًا وتفسيرًا"[26].
وقد تَمثَّل هذا النوع في (12) قصيدة[27]، مثل قوله:
أَبَى قَلْبُهُ مِن لَوْعَةِ الحُبِّ أَنْ يَخْلُو فَلا تَعْذِلُوا مَنْ لَيْسَ يَرْدَعُهُ العَذْلُ
وَلاَ تَطْلُبُوا مِنِّي مَدَى الدَّهْرِ سَلْوَةً فَمَا يَرْعَوِي عَنْكُمْ فُؤَادِي وَلاَ يَسْلُو
ضَنِيتُ فَلَوْ أَنِّي عَلَى رَأْسِ شَعْرَةٍ حُمِلْتُ وَمالَتْ لاَ يَنُوءُ بِهَا الْحَمْلُ[28]
كَأَنَّ اللَّيَالِي طَالَبَتْنِي لِقُرْبِكُمْ بِتَبْلٍ فَلَمَّا بِنْتُمُ ذَهَبَ التَّبْلُ
خَلِيلَيَّ مَا لِلرَّبْعِ يَخْلُو وَلَيْسَ لِي فُؤادٌ مِنَ التَبْرِيحِ يَخْلُو كَمَا يَخْلُو
وَمَا لِي إِذَا مَا لاَحَ إِيمَاضُ بَارِقٍ مِنَ الْعَلَمِ النَّجْدِيِّ دَاخَلَنِي الْخَبْلُ
لَئِنْ كَانَ جَهْلاً مَا بِقَلْبِي مَنَ الْجَوَى فَمَنْ لِي بِقَلْبٍ لا يُفَارِقُهُ الْجَهْلُ
وَمَنْ لِي بِوَصْلٍ مِنْ أُمامَةَ بَعدَمَا تَقَطَّعَ مِنهَا الْيَأْسُ أَنْ مُنِعَ الْوَصْلُ
أَيَا قَلْبُ كَمْ لاَ تَسْتَفِيقُ مِنَ الْجَوَى وَكَمْ أَنْتَ مَا يَخْلُو غَرَامُكَ مَا يَخْلُو[29]
فالشَّاعر قد جعل اللُّغة لغة مشخصة، فالقَلب قد أصبح شخصًا أبيًّا رافضًا الابتعادَ عن الحب، واللَّيالي رفاق يطالبونه بالتَّبل.
فالأفعال: "أَبَى، يرعوي، طالبتني، تستفيق"، التي يمتزج فيها الماضي بالحاضر، والتنوُّع في استخدام الضمائر - ما بين غائبة ومتكلمة ومخاطبة – كل هذا خلق نوعًا من الحيوية المتدفقة، التي صبغت النَّص بنوع من الصراع بين الشاعر وبين نفسه، وبينه وبين غيره، كما أنَّنا نرى الحيرة الممتزجة باليأس من إبعاد قلبه عن حبه لأمامة.
(4) السرد الذاتي:
"وفيه يجعل الشَّاعر من نفسه محورًا للنص، فصار هو المخبرَ الوحيد عنها، الذي ينمي حركة النص، أو يثبتها؛ حيث يتحول الشاعر هنا إلى راوٍ ومتلقٍّ في آنٍ واحد، ويكون الحدث (السرد) النابع من ذاته هو محور الحركة، والخطة التي يتبعها النص مع الاستعانة أحيانًا بسارد آخر ينبع من الذات الأولى أيضًا، أو يمثل وجهًا موضوعيًّا لها"[30].
وهذا النوع نجده قد تمثل في (4) قصائد[31]، مثل قوله:
أَحِلْمًا تَبْتَغِي عِنْدَ الْوَدَاعِ لَعَمْرُكَ لَيْسَ ذَاكَ بِمُسْتَطَاعِ
وَتَطْمَعُ فِي الْحَياةِ وَغَيْرُ حَيٍّ يَكُونُ إِذَا دَعَا لِلْبَيْنِ دَاعِ
بِثَهْمَدَ وَالظَّعَائِنُ عَامِدَاتٌ حُزُونًا بَيْنَ ثَهْمَدَ وَالكُرَاعِ
بِكُلِّ غَريرَةٍ تَهْتَزُّ لِينًا كَمَا يَهْتَزُّ مَشْمُولُ الْيَرَاعِ
أُلاَحِظُهَا بِطَرْفٍ غَيْرِ سَامٍ وَأُتْبِعُهَا فُؤَادًا غَيْرَ وَاعِ
فَلَمْ أَرَ قَبْلَهَا فِي الخِدْرِ شَمْسًا وَلاَ قَمَرًا مُنِيرًا فِي قِنَاعِ
وَقائِلَةٍ هَوَاكَ لَنَا خِدَاعٌ وَتُنْكِرُ طُولَ بَثِّي وَالْتِيَاعِي
وَلَوْ وَجِدَتْ غَدَاةَ الْبَيْنِ وَجْدِي لَبَانَ لَهَا صَحِيحِي مِنْ خِدَاعِي
كَأَنِّي وَالْحُمُولُ مُوَلِّيَاتٌ صَرِيعُ كَرِيهَةٍ بِلِوَى الصِّرَاعِ
وَشَارِبُ قَهْوَةٍ غَلَبَتْ عَلَيهِ مِنَ الْجِرْيَالِ حَمْرَاءُ الشُّعَاعِ[32]
فالشَّاعر هنا يبدأ بسؤال نفسه بدهشة عن إمكانيَّة الصَّبر عند الوَدَاع، فيجيب باستحالة هذا الأمر، ويستمر سائلاً نفسه عن طمعها في الحياة، وعند الوداع يفقد كل حي حياته.
وهكذا يستمر الشاعر مرتديًا عباءة الراوي تارة والمتلقي تارة أخرى، حتَّى يمتزجا معًا، فيصبح الحدث – النابع من ذاته – محور الحركة الدائبة في النص من خلال الأفعال الآتية:
(ألاحظها، أتبعها، أر، تنكر، وجدت) التي تمتزج مع الحركة التي تصنعها الوحدات الاسمية، التي تمثل صفاتٍ للذَّات في النص في قوله:
(غير سام، غير واع، وجدي، هواك، طول بثي، التياعي).
ويستمر الشاعر خلال القصيدة معبِّرًا عن شخصيته؛ حتَّى يبدأ في مدح ممدوحه، فيوجه إليه خطابه مظهرًا ما فيه من صفات يعجز عن مداها كل ساعٍ، فيقول:
فَتًى يَسْعَى الرِّجَالُ إِلَى مَدَاهُ فَيَعْجَزُ عَنْ مَدَاهُ كُلُّ سَاعِ
وَيَعْلُو النَّاسُ فتْرًا فِي الْمَعَالِي فَيَعْلُو فَوْقَ مَا يَعْلُو بِبَاعِ
شِرَاعُ الْمَجْدِ مَمْدُودٌ عَلَيهِ وَمَشرُوعٌ نَدَى ذَاكَ الشِّرَاعِ
رَعَاهُ اللَّهُ مِنْ مَلِكٍ هُمَامٍ لَنَا وَلِحَوْزَةِ الْإِسْلاَمِ رَاعِ[33]
وعلى مدحه هذا فإنَّه يعود مرة أخرى إلى الحديث عن ذاته، فيقول:
أُوَدِّعُهُ وَفِي قَلْبِي سِهَامٌ لَعَمْرُ أَبِيكَ مِنْ هَذَا الْوَدَاعِ
وَأَمْضِي غَيْرَ مُنْتَفِعٍ بِعَيْشٍ وَكَيْفَ يَكُونُ بِالعَيْشِ انْتِفَاعِي
ثُمَّ يعود الشاعر إلى ممدوحه، فيدعو له قائلاً:
جَزَاكَ اللَّهُ عَنْ نُعْمَاكَ خَيْرًا وَعَنْ حُسْنِ احْتِبَاسِي وَاصْطِنَاعِي
ثم يخرج من هذا الدعاء ليعود إلى ذاته، فيقول:
فَإِنِّي مُذْ نَجَعْتُكَ بِالْقَوَافِي حَمَدْتُ إِلَيْكَ قَصْدِي وَانْتِجَاعِي
وَطَلَّقْتُ الْمُلُوكَ بِكُلِّ أَرْضٍ ثَلاَثًا لاَ يَحِلُّ لَهَا ارْتِجَاعِي
ثم ينهي النَّص بالدُّعاء لممدوحه بطول العمر قائلاً:
فَعِشْ يُنْعَى إِلَيْكَ النَّاسُ طُرًّا وَلاَ يَنْعَاكَ طُولَ الدَّهْرِ نَاعِ
(5) السرد المشهدي:
وهذا النوع "يعتمد الشاعر فيه على التصوير المشهدي كأساسٍ سردي للنص، ويستثمر السارد مع عناصر الرُّؤية والتصوير عناصرَ اللغة وفنياتها، كالتَّشخيص والوصف والحوار، وغير ذلك من مستويات الخطاب"[34].
وقد تَمثَّل هذا النوع في (33) قصيدة[35]، مثل قول الشاعر:
سَرَيْنَا وَهَضْبٌ مِنْ سَنِيرٍ أَمَامَنَا وَمِنْ خَلْفِنَا غُبْرُ الْقِنَانِ التَّنَائِمِ
فَلَمَّا تَوَسَّطْنَا الْيَفَاعَ وَأَشْرَقَتْ مَذَانِبُ مِنْ لُبْنَانَ بِيضُ الْعَمَائِمِ
وَلاَحَ لَنَا مِيمَاسُ حِمْصٍ وَأَعْرَضَتْ قُرُونُ حَمَاةٍ بِالْحِرَارِ الْأَسَاحِمِ
وَجَازَتْ كَفَرْطَابٍ بِلَيْلٍ فَأَصْبَحَتْ بِسَرْمَيْنَ أَمْثَالَ الشِّنَانِ الْهَزَائِمِ[36]
هذا المشهد يُمثل الرؤية الكلية للسارد (الشاعر) معتمدًا فيه على أسلوب الحكاية، مع سيطرته على الحركة داخل المشهد، فهو يسير مع صحبه وسط طبيعة خلاَّبة، أخذ في وصفها من جميع الجهات، فمذانب جبل لبنان كأنَّها عمائم بيض، وقرون حماة أصبحت أمثال الشِّنان المتكسِّرة، كأنَّ ترابَ كفرطاب وسرمين – مما تثيره الجرز - مثل الطيب على لباتها وقوائمها.
وهكذا رسم الشاعر لنا مشهدًا بديعًا من الطبيعة الخلابة، واستطاعَ بوصفه الدقيق أنْ يَجعلنا نشاطره رحلته في ذلك العالم البعيد.
ومن خلال ما سبق نستطيع أن نؤكد سيطرة البناء السردي المتنوع على التجربة الشِّعرية عند ابن أبي حصينة؛ مِمَّا جعل شعره متدفقًا من ينابيع مُختلفة ثرة، يرتوي منها كل ظمآن، ويهتدي بها كل حيران.
ـــــــــــــــــــــ
[1] "مقدمة تحقيق الديوان"، د. محمد أسعد طلس، مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق، المطبعة الهاشمية بدمشق، 1956، ج1/ص16.
[2] "زبدة الحلب في تاريخ حلب"، ابن العديم، عني بنشره وتحقيقه ووضع فهارسه: د/ سامي الدهان، دمشق1954، ج1/ ص231، وج2/ ص71 وما بعدها، وانظر: "تاريخ ابن الوردي"، القاهرة سنة 1285، ج1/ ص380.
[3] "مقدمة الديوان"، مرجع سابق، ص 9.
[4] "معجم المصطلحات الأدبية الحديثة"، د. محمد عناني، الشركة المصرية العالمية للنشر (لونجمان)، ط3، 2003م، ص59.
[5] "خطاب الحكاية: بحث في المنهج"، جيرار جينت، ترجمة/ محمد عبدالجليل الأزدي وعمر حلمي، المجلس الأعلى للثقافة، 1997م، ط2، ص40.
[6] "لسان العرب"، ابن منظور، طبعة دار المعارف، ج3، بدون تاريخ، ص1987.
[7] "تاريخ آداب العرب"، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1974، ج2، ط2، ص297.
[8] "الأدب وفنونه"، د. عز الدين إسماعيل، دار الفكر العربي، ط6، ص187.
[9] "البنية السردية في النص الشعري"، د. محمد زيدان، الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية، شهرية (149)، أغسطس 2004م، ص15.
[10] السابق، ص15.
[11] "العمدة في محاسن الشعر وآدابه"، ابن رشيق، تحقيق: محمد محيي الدين، دار الجيل، لبنان، ط1، 1972م، ص261.
[12] "عيار الشعر"، ابن طباطبا العلوي، تحقيق وتعليق: د. محمد زغلول سلام، منشأة المعارف، الإسكندرية، ط 1984م. ص35.
[13] السابق، ص36.
[14] "بلاغة الخطاب وعلم النص"، د/ صلاح فضل، عالم المعرفة 164، مطابع السياسة، الكويت، ص281.
[15] "ديوان امرئ القيس"، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ص29. و"شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها"، للشيخ أحمد الأمين الشنقيطي، حقَّقه وأتم شرحـه: محمد عبدالقادر الفاضلي، المكتبة العصرية، صيـدا لبنان 1421هـ - 2000م، ط3، ص28 - 26.
[16] "ديوان الحطيئة"، من شرح ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، شرح أبي سعيد السكري، دار صادر، بيروت 1401هـ - 1981م، ص271.
[17] "قراءة في الأدب الإسلامي والأموي"، د. محمد عبدالعزيز الموافي، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص230،231.
[18] السابق، ص231،232.
[19] "ديوان عمر بن أبي ربيعة"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1978م، ص90.
[20] "بناء الرواية"، د/ سيزا أحمد قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984م، ط1، ص32و33.
[21] هي: 2/12، 4/19، 7/32، 17/63، 22/74، 23/79، 24/82، 27/96، 28/98، 39/131، 51/154، 56/173، 65/195، 66/200، 71/208، 93/264، 95/269، 109/324، 112/336.
[22] "الديوان"، ص269.
[23] "البنية السردية في النص الشعري"، مرجع سابق، ص35.
[24] هي: 16/59، 17/62، 36/120، 37/123، 41/133، 43 /137، 45/141، 51/154، 62/186، 63/189، 64/193، 66/197، 67/202، 68/203، 69/204، 72/209، 73/213، 77/218، 79/224، 81/230، 86/238، 87/239، 89/248، 91/260، 92/262، 94/266، 101/286، 105/302، 123/365، 125/369، 127/373.
[25] "الديوان"، ص133.
[26] "البنية السردية في النص الشعري"، ص43.
[27] هي: 9/38، 13/50، 16/58، 17/62، 25/86، 57/ 176، 65/194، 80/227، 93/263، 99/280، 107/313، 109/321.
[28] "الديوان"، ص176.
[29] "الديوان"، ص176.
[30] "البنية السردية في النص الشعري"، ص50، 51.
[31] هي: 49/151، 50/152، 71/207، 122/362.
[32] "الديوان"، ص207، 208.
[33] "الديوان"، ص209.
[34] "البنية السردية في النص الشعري"، مرجع سابق، ص56.
[35] هي: 24/82، 26/88، 27/94، 28/98، 38/129، 39/130، 40/132، 44/138، 47/147، 48/148، 52/155، 53/159، 54/165، 58/178، 59/179، 60/181، 61/183، 67/202، 70/205، 75/214، 76/217، 78/220، 88/244، 82/231، 98/279، 100/285، 102/292، 104/297، 105/301، 106/306، 108/318، 116/347، 110/327.
[36] "الديوان"، ص129.
منقول