البنية السردية في قصيدة محمود درويش للدكتور خضر محجز
ملخص البحث:
"من المونولوج إلى الديالوج". كان هذا عنوان مقال مبكر، كتبه الشاب محمود درويش، في العام 1969، قبل أن يغادر الدولة اليهودية إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ثم جاء ديوان (لماذا تركت الحصان وحيداً) في يناير عام 1995، أي بعد حوالي ستة وعشرين عاماً، قضاها في المنافي والتجريب، وتحديداً بعد توقيع أوسلو، الذي كانت أهم مبادئه معلومة لدى الشاعر، باعتباره عضو لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير، في تلك الأثناء. فاستقال بعد أن قذفه بـ(أحد عشر كوكباً) من الغنائيات الممعنة في البكاء والحسرة.
لم يكن البكاء وليد أوسلو فحسب، فقد سبق أن وسم البكاء كل مراحل الثورة، من مذبحة إلى مذبحة، ومن رحيل إلى رحيل. وفي كل مرة كان يعقب هذا البكاء ـ لدى درويش ـ نوع من التأمل الهادئ الحزين، بحثاً عن أجوبة لأسئلة مطروحة، من مثل: لماذا حدث ما حدث، وما السبيل لكي لا يحدث مثل هذا مرة أخرى، وما هو المطلوب لكي نتجاوز الحاضر الأليم إلى مستقبل أقل ألماً إن لم يكن أكثر سعادة؟. من هنا تنبع الحكاية. ومن هنا ظهرت في قصائد محمود درويش العديد من البنى السردية، التي يطمح هذا البحث إلى كشف أسرارها.
Narrative structure in a poem of Mahmoud Darwish
Abstract:
"From monologue to Aldialloj." This was the title of an article written by early man, Mahmoud Darwish, in 1969, before leaving the Jewish state to P LO. Then came the court (why do you left the horse alone) in January 1995, after about 26 years he spent in exile and experimentation, particularly after the signing of Oslo, which was the most important principles known to the poet, as a member of the executive committee of the PLO, resigned after the incident with (Eleven planets) of poems persists in tears and anguish.
The cry did not born from Oslo only, The crying has already been marking all stages of the revolution, from a massacre to another, and from departure to another. Each time the cry of Darwish was followed by a kind of sad reflection regions in search of answers to questions, such as: Why it happened, and what the way does not happen such a time again, what is required in order to move beyond the painful present to a future less painful, if not happier?. Here exists in Mahmoud Darwish poems many narrative structures, which are to be revealed secrets of this research.
تمهيد:
لقد أصبح معروفاً أن بنية أي حكاية، تتكون من مجموع العلاقات الشكلية الناظمة للمحتوى. وقد يكون هذا تعريفاً أقترحه، لكنه بالتأكيد لا يقع خارج المتعارف عليه في الشعريات السردية الحديثة. إذ أصبح معتاداً أن نحلل بنية الحكاية، من خلال تقسيم النص السردي إلى زمان ومكان وشخصيات وفعل. كل ذلك ـ وبالأساس ـ من خلال عين الكاميرا المصورة للمشهد: الراوي (Narrator)، أو السارد، كما تقترح بعض الترجمات المغاربية.
والسؤال الذي لا تزال تطرحه العديد من المناهج التاريخية، في كل مرة يتم التصدي فيها لبحث هذه العلاقات الشكلية في الحكاية، هو: ما الفائدة من بحث محتويات الشكل، فيما نحن نتمتع بالمعنى؟.
ولا ريب في أن هذا السؤال كان من الممكن له أن يكون مقبولاًً، لو كان كل ما يهمنا في الفن معناه، والقضايا التي يناقشها. ولكننا نعلم جميعاً أن الحقيقة في الفن هي غير الحقيقة في الفلسفة وعلم الأخلاق، بل ربما كانت على العكس من ذلك في كثير من الأحيان: فنحن نعلم أن ما يمتعنا في الفن هو شكل الكلام، أو إيقاع المضمون ـ على حد تعبير غيورغي غاتشڤ( ) ـ لا الكلام ذاته، أو المضمون الموضوعي فحسب.
إن معرفة بم يقوم الشكل في الفن ليست مجرد مسألة شكلية، لا تقدم ولا تؤخر؛ فالحياة تقول غير ذلك. ونحن ـ كما تقول رقية حسن ـ "في حياتنا اليومية، نعرف أناساً يحسنون قص الحكايات، وآخرين يميتونها. ما الذي يجعل هذا الفرق؟. إنها الطريقة التي تجعل من الحكاية خطاباً، والأسلوبُ الذي توَظف به أنماط اللغة، لخلق هذه الحكاية"( ).
إذن فلدينا شيء آخر، من وراء المعنى المباشر البسيط، هو المبنى؛ أو كيف تقول الحكاية ما تقول: أي أننا أمام نوع من التمثيل المعرفي، الذي يجسد بنية القول. ولا شك أن هناك فرقاً جلياً بين منهج شكلي، ينحاز إلى الشكل وينغلق على ذاته، وبين المفاهيم التي أنتجها البحث في محتوى الشكل، والتي بإمكان النقد أن يفيد منها، لكشف أسرار البنية، ولمعرفة التقنيات التي تقوم بها. بل إن ذلك سوف يساعد بالفعل، على قراءة معاني النص، وحوار دلالته: فالبنية دالة، والشكل يقول( ).
وعلى عكس هذا المضمر، الذي يطرحه التساؤل السابق، عن قيمة البحث الشكلي، يمكن لنا رؤية كيف سادت، في حقبة سابقة، مقولة شكلانية خالصة، تقول: إن ما ينبغي على الدرس الأدبي أن يهتم به، ليس ما تقوله النصوص؛ بل كيف تقوله. وعلى أصحاب هذه المقولة يعلق الدكتور صلاح فضل بقوله:
"أي أنهم لا يبحثون عن معنى الشعر، وإنما عن شكله. وأحسب أن في هذا إساءة لطرح المشكلة؛ إذ إن دلالة أي نص شعري، ليست في معنى افتراضي مسبق له، وإنما هي محصلة مجمِّعة لكل وسائله الإشارية والمجازية، وتكنيكه في التعبير والرمز. ومن هنا تصبح طريقة القول جزءاً جوهرياً، وعنصراً مكوناً، للقول ذاته"( ).
مقدمة نظرية:
كم تتسع القصيدة الحديثة للسرد، وكيف يوازن الشاعر بين فرديته الغنائية وشخصيات السرد، التي عليه أن يفسح لها مكاناً للتعبير عن ذواتها، خصوصاً عندما تكون مهمته الاضطلاع برواية قصة شعبه، كما كان يفعل شعراء الملاحم الكبرى؟.
لقد تداخلت الأجناس الأدبية اليوم، وانفتح الشعر الغنائي على الحكاية، كما انساحت المسافات بين كل من الدرامي والغنائي والسردي، خصوصاً بعد أن أخذت الأجناس الأدبية تقتبس من بعضها البعض تقنيات عديدة، حتى أوشك الكثير منها على الاستعصاء على التصنيف المتعارف عليه، كأنما صُهرت الأجناس في جنس واحد.
ورغم أن النظرية الأدبية الكلاسيكية ـ المتوارثة منذ الإغريق ـ ظلت حريصة دائماً على رفض اعتبار الشعر الغنائي نوعاً من أنواع المحاكاة، إلا أننا رأينا البحوث السردية الحديثة وقد اختارت وجهة أخرى، إذ وسعت مجال نظرية المحاكاة الأرسطية، بحيث أدرجت فيها الشعر الغنائي الصرف كذلك. وفي هذا يقول جيرار جينيت:
"إن الشعر الغنائي كذلك محاكاة، فهو يحاكي الأحاسيس... فالشعر الغنائي يندرج بصفة طبيعية ـ بل وضرورة ـ في المحاكاة، مع فارق وحيد يميزه ويبرره؛ أنها [أي الأحاسيس] الموضوع الخاص به: فالمادة الأساسية لأنواع الشعر الأخرى هي الأحداث، أما الشعر الغنائي فكله مخصص للأحاسيس: إنها موضوعه ومادته الجوهرية"( ).
وإذا كان من الممكن لهذه المقولة، من جيرار جينيت، أن توجه حركة تفسير جديدة للقصيدة الغنائية، التي طالما اعتبرتها نظرية المحاكاة( ) ذاتية صرفة؛ فلقد نرى العديد من القصائد الدرويشية تأتي على شكل نصوص جامعة، تمزج السردي بالغنائي، رغم كل هذا الشجن الذاتي المنبعث في الأساس من رحم الجماعة.
أما من الناحية الأخرى، فقد رأينا كيف تعودت الدراسات السردية ـ في مفارقة شديدة الوضوح ـ على تناول النصوص الروائية، أو القصصية، بالتحليل، على اعتبار أنها سرد خالص، يستجيب لأدوات التحليل السردي المستقل؛ مع أن جل هذه الدراسات ظلت تعتمد، منذ البدء، على المقولات الأولى المنقولة عن كتاب أرسطو (فن الشعر). ونحن نعلم أن أرسطو، في هذا الكتاب، قد اتخذ نماذجه الدراسية من المسرح الإغريقي، الذي لا يمكن القول بأنه سرد خالص. فكلنا نعلم أن المسرح الإغريقي مسرح شعري بالدرجة الأولى.
نخلص من هذا إلى أن أرسطو، ومن تابعوه، قد درسوا السرد في الشعر. وإنني لأحسب أن في هذا تأسيساً نقدياً ثانياً، يمكن لنا متابعة البناء عليه، إلى جانب مقولة جيرار جينينت آنفة الذكر.
إن علاقة الشعر بالسرد قديمة قدم الشعر نفسه؛ فكلنا نعلم أن "الملحمة قصة شعرية بطولية قومية خارقة، تختلط فيها الحقائق بالأساطير، وتتغلغل العقائد الروحية في حناياها"، كما يقول الدكتور محمد مندور( ). فاندماج الذاتي (الغنائي) في العام القومي، يولد السرد. وقد رأينا في أدبنا الشعبي مثالاً قريباً من ذلك، في السيرة الهلالية؛ بل لقد قيل إن هناك قصائد عربية قديمة، تميزت بنفس سردي، كما هو الحال في قصيدة (فتح عمورية) لأبي تمام.
لا يجادل أحد في حقيقة أن الملحمة بناء سردي بالأساس، قوامه الحكي واختراع الزمان والمكان والشخصيات، ثم الزج بهم في خضم صراع متواصل وممتد. ورغم أن الملحمة تحتوي على العديد من المقاطع الغنائية الصرفة( )، إلا أن ذلك لم يخرجها عن طبيعتها السردية. لذا يمكن القول ـ باطمئنان بالغ ـ إن الملحمة سرد، لكنه ليس سرداً صرفاً. فالسرد الصرف، الذي تغيب فيه ذات الراوي/ الشاعر، هو سرد غير موجود في أرض الواقع( ).
تقول الملحمة إن نجاة البطل، من المذبحة، مقدمة لقيامة جديدة، تتعالى على كل محاولات الإبادة. البطل الطروادي إينياس، يقود شعبه في دروب الحكاية، ليؤسس لهم مجد الكلام، بعد إذ تعذر عليه حماية مجد الجغرافيا. يوجد تشابه بين حكاية من تبقى من الطرواديين، بعد سقوط مدينتهم الذهبية، وبين ما جرى للفلسطينيين، بعد النكبة. فها نحن للمرة الأولى نقرأ في ملحمة ڤيرجيل رواية المهزومين.
ينوب مجد الكلام مؤقتاً عن مجد الجغرافيا، وتتأسس قوة الكلام من سرد يهدف إلى حفظ ما تبقى في الذاكرة، تمهيداً لانبعاث قوة المستقبل. من هنا يضطلع الشاعر بمهمة الراوي، الذي يقص على شعبه قصة الهزيمة، بهدف استخلاص العبر. ولقد تنبه محمود درويش إلى مهمتة مبكراً، وتحديداً منذ العام 1969، الذي نشر فيه مقالته في مجلة الجديد بعنوان: (من المونولوج إلى الديالوج)( ).
هكذا تحدد وعي محمود درويش الشعري، قبل أن يلتحق بمنظمة التحرير. وهكذا تمكن من بلورة وعيه شعرياً في مراحله التالية، بحيث أصبحت قصيدته "أكثر درامية وأكثر تعقيداً، وهي تنتقل من حالتها البسيطة إلى الحالة المركبة، ومن المونولوج إلى الديالوج"( ). وعلى سبيل المثال، يمكن لنا رؤية كيف تحقق لمحمود درويش هذا الانتقال، في العديد من قصائد ديوانه: (لماذا تركت الحصان وحيداً) الذي صدر في يناير عام 1995( ) بعد توقيع أوسلو ـ الذي كانت أهم مبادئه معلومة لديه، باعتباره عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في تلك الأثناء ـ فاستقال بعد أن قذفه بـ(أحد عشر كوكباً)( ) من الغنائيات الممعنة في البكاء والحسرة. وتلك بحد ذاتها قصة ولا شك، غير أننا نرى القصة الحقيقية فيما حدث من بعد.
من الطبيعي أن يعقب البكاءَ نوعٌ من التأمل الهادئ الحزين؛ بحثاً عن أجوبة أسئلة مطروحة، من مثل: لماذا حدث ما حدث، وما السبيل لكي لا يحدث مثل هذا مرة أخرى، وما هو المطلوب لكي نتجاوز الحاضر الأليم، إلى مستقبل أقل ألماً، إن لم يكن أكثر سعادة؟... من هنا تنبع الحكاية. ومن هنا تنبثق قصيدة الديالوج.
أولاً: تحولات وجهة النظر:
الحكاية ديمومة البدء، وديمومة الزمان المديد. منذ عرف الإنسان أشكال التجمع الأولى، قبل أن يكتشف الزراعة، اكتشف سحر السرد. يمكن لنا تصور كيف كان إنسان الكهف الأول يفغر فاه، بين يدي قاص القبيلة، وهو يروي حكاية صراعه مع الوحوش والطبيعة. وكلما توقف سأله بنفاد صبر: ثم ماذا بعد؟. مزجياً وقت فراغه، قبل أن يستسلم للنوم وسط الحطام والفضلات( ).
يبتدئ السرد عالماً ثم لا ينتهي: عالماً يرسمه الراوي ويحدد شروطه ومبتدأه ومنتهاه. وفي كل هذا يعتمد القص عليه اعتماداً كلياً، فهو الذي يقول دائماً، وهو الذي يفسر أحياناً، وهو الذي يتغلغل في وعي الشخصيات، كما أنه هو الذي يقدم كلامها المنطوق والمضمر. وحين نواجه راوياً عليماً كلي المعرفة، فإننا ندرك أننا نواجه من يمتلك سلطتي الحكي والتفسير كليهما. فلنقرأ الحوار الآتي من (أبد الصبار)( ):
ـ إلى أين تأخذني يا أبي؟
ـ إلى جهة الريح يا ولدي.
ها نحن نسمع ولداً يسأل وأباً يرد. لكن هل كان رد الأب محايداً موضوعياً، يقول ما يوافق العالم الخارجي؟. أم كان خطاباً متلبساً بوعيه، ومتأثراً بمنظومة القيم التي تحكمه؟.
إن الراوي هنا هو من يقول على لسان الأب: (إلى جهة الريح). ونحن نعرف أنه ما من أب فلسطيني مهاجر قد قال هذه الكلمة بمنطوقها. إن الراوي هو من أنطقه إياها. وإنه لراوٍ مفسرٌ هذا الذي يتنبأ بأن الهجرة ستكون إلى كل هذا الضياع!. ها هو الراوي يعيد إنشاء خطاب الأب، وفق ما سيتم من بعدُ، وإلا فكيف كان للأب أن يمتلئ بكل هذه الأحاسيس بمهانة الهجرة، منذ لحظة الرحيل الأولى تحت الرصاص، لولا أن الذي أنطقه كان هو محمود درويش، الذي سوف يرى ـ بعد ذلك ـ كيف تحول الأنظمة العربية لجوء الفلسطيني إلى رحلة عذاب، معلقة في فضاء لا قرار من تحته؟.
ألا يحق لنا أن نقول، بأن واقعة الفلسطيني في بلاد النظام العربي، هي التي أنتجت كل هذه الأحاسيس لدى الأب؛ إذ يصف جهة الرحيل بأنها جهة الريح؟.
لقد وقف الراوي هنا على مقربة من الأب وابنه، واستمع إلى ما يدور بينهما. ولو شئنا رصد مكانه، في هذه اللحظة، لرأينا شبحاً واقفاً في بؤرة اللوحة، أو في المنتصف منها، لا يراه أي من الأب أو الابن. فمن هو هذا؟.. ربما يمكن القول إنه جهاز تسجيل.
دعونا الآن نتأمل كيف يغير هذا الراوي العليم من موقعه المكاني، حين يقول:
وَهُما يَخْرجانِ مِنَ السَهْل، حَيْثُ
أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ
الظلال على سور عَكََّا القديم ـ
يقولُ أَبٌ لابِنِه...
إذن فجهاز التسجيل هذا كان قد وضعه الراوي في بؤرة اللوحة، قبل أن يتراجع إلى الوراء قليلاً، ليتمكن من رؤية كامل المشهد، بين أركان الإطار الأربعة.
لكن هل استطاع هذا الراوي أن يحافظ على حياد موضوعي، من الناحية الأيديولوجية، أم أن حياده قد تعرض لنوع من الانزياح؟.
في البداية عندما يقول الراوي: (وهما يخرجان من السهل) فإننا نلمح في قوله هذا نوعاً من الموضوعية، إذ يصف ما يرى بعينيه فحسب. لكن هذه الموضوعية المفترضة، سرعان ما تتبدد، حين يقول من بعدُ: (حَيْثُ أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ الظلال على سور عَكََّا القديم). فجنود بونابرت ـ في نظر الراوي ـ لم يقيموا مجرد قلعة عسكرية، لرصد البشر وتحركاتهم المعادية؛ بل أقاموا تلاً لرصد الظلال!. فمن الذي يرى هذا؟. أهو راوٍ موضوعيٌ يصف ما يرى بعينيه، أم هو الراوي الأيديولوجي ذو وجهة النظر الأسطورية، الذي يرى في الأرض وأشيائها كائناتٍ حيةً مقاتلة!.
لا شك لدينا بأن الراوي في هذا المقطع يتحدث من وعي الأب: فالأب هو الذي يرى في الظلال على سور عكا صديقةً وحليفاً مقاوماً للغزاة. ولسوف يتأكد لنا موقع الراوي هذا، من خلال متابعتنا لحديث الأب لابنه إذ يقول:
لا تَخَفْ. لا
تخف من أَزيز الرصاص! التصِقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جَبَلٍ في الشمال، ونرجعُ حين
يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد.
فمن هذا الذي يعلم أن في الالتصاق بالأرض نجاةً؟. أليس هو الراوي، الذي يقف الشاعر من ورائه، ويُنطِقه بما يؤمن به هو شخصياً؟.
نحن نعلم أن محمود درويش هو شاعر الأرض بلا منازع، وقد اكتسب لقبه هذا من مزجه المستمر، بين كل من الأرض الفلسطينية والإنسان عليها والأشياء من حوله. وقد سبق أن قال الأب لابنه إن الرحيل عن الأرض هو رحيل إلى اللاشيء (جهة الريح)، حيث تتبدد الكينونة والهوية: فالفلسطيني فلسطيني لأنه ولد في فلسطين، حيث "نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني، عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ"( ) كما يقول محمود درويش نفسه، في موضع آخر.
سنحاول الآن رصد تحولات الراوي من الحاضر إلى المستقبل.
كنا فيما سبق قد رصدنا تحولات الراوي في الزمن الماضي، خصوصاً حين تطرقت القصيدة إلى الحديث عن جنود نابليون. لكننا في المقطع التالي نقرأ ما يأتي:
سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد.
فما زال الأب هو الذي يقول للابن. وما زال الابن هو من يستمع. وعندما يقول أب فلسطيني ـ وهو في طريق الهجرة ـ لابنه، إنه سوف يكبر ليروي (لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد)، فإن تساؤلاً مشروعاً سوف يطل برأسه هنا ليقول: ما هي سيرة الدم الفلسطيني هذه، وقد عهدنا لفظة السيرة محيلة إلى نوع من الاستمرارية والمداومة؟!. صحيح أن هناك مجازر ارتكبها الصهاينة في حق الفلسطيني، لدفعه إلى الهجرة، لكن حدوث هذه المجازر شيء، وتسميتها سيرة شيء آخر، وما ذاك إلا لأن تلك كانت بدايات المجازر، لا نهاياتها. والسيرة لا تصبح سيرة إلا مع سرد نهاياتها بعد طول امتداد.
الراوي هنا يروي حكاية زمن مضمر، يعرف أن المتلقي مؤهل لمعرفته، ويعلم أن نصه سيستدعيه. وما كان ذلك ليحدث، لولا معرفته بأن أعراف القص المستقرة، تتيح للمتلقي أن يعقد معه اتفاقاً يصادق بموجبه على قبول كل مزاعم هذا الراوي، برغم كل هذه التنقلات المختلفة في الزمن، دون أن يسأله كيف فعل ذلك( ).
إذن فالراوي ـ المرافق للأب والابن المهاجرين عام 1948 ـ يقول ما سيحدث في المستقبل، بعد أن يضم إلى مذبحة دير ياسين، التي حدثت في الزمن المحكي، مذابح أخرى ستحدث في زمن قادم، وفي بلاد أخرى من أمثال: أيلول الأسود، وصبرا وشاتنيلا، وتل الزعتر، ونهر البارد، وطرابلس، والبداوي... إلخ.
ثانياً: مشهد عين الطائر:
كثيراً ما نرى محمود درويش يقدم لنا مشاهد كلية، للمكان والشخوص فيه: فيبدأ بوصف المكان، ثم ينتقل إلى كلام الشخصيات. وهذه التقنية يسميها علماء السرديات (تقنية مشهد عين الطائر)( ): حيث يقف الراوي في مكان مرتفع، مشرف على المحيط. وبعد أن تمسح عيناه اللوحة، من طرف الإطار إلى الطرف الآخر، يركز نظره على جزئية محددة، هي موضع الاهتمام. لذا فليس غريباً أن نراه في قصيدته الأخيرة: (على محطة قطار سقط عن الخريطة)( )، يبتدئ بهذا المشهد:
عُشْبٌ، هواء يابسٌ، شَوْكٌ، وصَبَّارٌ على سِكَك الحديد. هناك شَكْلُ الشيء في عَبَثيَّة اللاشكل يمضغ ظلَّهُ... عَدَمٌ هناك مُوَثَّقٌ... ومُطَوَّقٌ بنقيضهِ، ويمامتان تُحَلِّقانِ على سَقيفةِ غرفةٍ مهجورةٍ عند المحطّةِ، والمحطّةُ مثل وَشْمٍ ذاب في جسد المكانِ، هناك أَيضاً سَرْوتان نحيلتان، كإبرتين طويلتينِ، تُطَرِّزان سحابةً صفراءَ ليمونيَّة.. وهناك سائحةٌ تُصَوِّر مَشْهَديْنِ: الأوَّلّ الشمس التي افترشتْ سرير البحرِ، والثاني خُلُوَّ المقعد الخشبيّ من كيس المسافرِ.
ثم يعلق بين قوسين:
(يَضْجَرُ الذَهَبُ السماويُّ المُنَافقُ من صلابَتِهِ)؛
قبل أن يصطنع شخصية تقص علينا بضمير المتكلم، فتقول:
وقفتُ على المحطَّة... لا لأنتظر القطارَ، ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليّات شيءٍ ما بعيدٍ؛ بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكان كجرّةٍ خزفيّة، ومتى وُلدتُ وأَين عشتُ، وكيف هاجرتِ الطيورُ إلى الجنوب أو الشمال. ألا تزال بَقِيَّتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ على فَسَاد الواقعيّ؟ ألا تزال غزالتي حبلى؟
هنا يبدأ الراوي سرده بوصف المكان، فيستعير عيني طائر يقف على رأس شجرة عالية، محدقاً في كل الموجودات، قبل أن ينتقل إلى ما يريد. إن عين الكاميرا هنا ـ أو عين الطائر ـ تقدم لنا رؤية عامة: (عشْبٌ، هواء يابسٌ، شَوْكٌ، وصَبَّارٌ على سِكَك الحديد.. )، قبل أن تنتقل إلى وصف جزئيات المشهد: (ويمامتان تُحَلِّقانِ على سَقيفة غرفة مهجورة... هناك أَيضاً سَرْوتان نحيلتان كإبرتين طويلتينِ).
ومثل أي قاص محترف، ينتقل بنا راوي محمود درويش من مرحلة الكلام المنظم، الخارجي الواصف للمحيط، إلى مرحلة المونولوج الداخلي، الذي تحدث فيه الشخصية نفسها، حديثاً حميماً خاصاً، يهدف إلى إطلاعنا على ما يمور في أعماقها، من قبل أن تنطق به وتهذبه، ومن قبل أن يصبح صالحاً للتداول البشري المتحضر ـ تيار الوعي( ) ـ فيقول: (يَضْجَرُ الذَهَبُ السماويّ المُنَافقُ من صلابَتِهِ)؛ تمهيداً لإفساح المجال لكلام الشخصية: (وقفتُ على المحطَّة، لا لأنتظر القطارَ، ولا عواطفيَ الخبيئةَ... بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ...).
كما يمكن لنا رؤية مشهد عين الطائر، مرة أخرى، في المقطع الأخير من قصيدة (أبد الصبار) حيث يختتم الراوي/ الشاعر القصيدة على طريقة أفلام هوليوود؛ عندما تُختَتمُ الأحداثُ بأسماء الممثلين، على خلفيةٍ تعرض في الغالب مشهداً كلياً للمدينة، بعماراتها العالية، أو للصحراء بامتداداتها المترامية، كما نرى في المقطع التالي:
وكان غَدُ طائشُ يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلةْ.
وكان جنودُ يُهُوشُعَ بن نونَ يبنون
قَلْعَتَهُمْ من حجارة بيتهما. وهما
يلهثان على درب (قانا)
ولئن ظل محمود درويش مدركاً أن قضيته ليست هي قصيدته تماماً، وأن قصيدته إذا كانت قد حققت العديد من الإنجازات، فإن قضيته لا تزال في بداياتها الأولى؛ فلقد نراه يلجأ إلى المزج بين خاتمة الفيلم الهوليوودي ونهايته ـ وكثيراً ما تتشابهان ـ فيختتم القصيدة بما تبدأ به الأفلام: !ذ تنتقل من العرض الكلي الواسع لسماوات المدينة، لتركز عين الكاميرا ـ على طريقة الزوم ـ على المشهد المقصود (الحدث)، ليبدأ الفيلم في حكاية القصة. فلننظر كيف يفعل محمود درويش ذلك في هذا المقطع من (أبد الصبار):
تفتحُ الأبديَّةُ أَبوابها، من بعيد،
لسيَّارة الليل. تعوي ذئابُ
البراري على قَمَرٍ خائفٍ. ويقولُ
أَب لابنه: كُنْ قوياً كجدِّك!
وأَصعَدْ معي تلَّة السنديان الأخيرةَ
..............
هنا
مرَّ سيَّدُنا ذاتَ يومٍ. هنا
جَعَل الماءَ خمراً. وقال كلاماً
كثيراً عن الحبَ، يا ابني تذكّر
غداً. وتذكّرْ قلاعاَ صليبيَّةً
قَضَمَتْها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود....
ها نحن نرى أباً وابنه يسيران مع السائرين باتجاه فوهة الأبدية. ورغم كل هذا السواد، لا تهمل عين الراوي رصد ما يقوله الأب لابنه: إنه يسرد عليه سيرة الحب، الذي غرسه السيد المسيح ـ عليه السلام ـ في هذه الأرض المباركة، مقرراً الحقيقة الأزلية القائلة بأن هذه الأرض عرفت دائماً كيف تأكل غزاتها.
إنه يمهد للختام، كما يمهد أي راوٍ يروي قصة أو سيرة. صحيح أنه شاعر، لكن الصحيح كذلك، أن هذا الشاعر لا يذهل عن استخلاص نتيجةٍ ما، من كل هذا السرد الممعن في الشجن. لذا فقد أمكن لنا أن نراه ينهي المشهد، وسط خضم من حركات تشبه نهايات العالم: حيث البراري الواسعة تكون الإطار العام للمشهد، المكون من عدة عناصر، أهمها أبدية فاتحة فمها، تنتظر شعباً يضرب وسط غياهب الليل (سيارة الليل) باتجاه المجهول، فيما ذئاب متوحشة تعوي على قمر خائف، وغرباء يبنون قلعتهم من حجارة بيوت لا يملكونها.
ثالثاً: السرد المشهدي:
أما في قصيدة (إلى آخري وإلى آخره)( ) فيمكن لنا رؤية نوع من السرد المشهدي. ولئن كانت تدخلات الراوي متعددة ومتكاثرة في (أبد الصبار) كما رأينا؛ فلقد يغيب الراوي هنا عن المشهد، مفسحاً المجال للشخصيات لتعبر عن ذواتها، في حوار يدور بين أب وابنه، ويستغرق القصيدة كلها. لكأننا نجلس في صالة مسرح، يعرض علينا مشهداً تديره شخصيتان، على هذه الشاكلة:
ـ هل تَعِبْتَ من المشي
يا ولدي، هل تعبتْ؟
ـ نعم، يا أبي
طال ليلُك في الدربِ،
والقلبُ سالَ على أرضِ ليلِكَ
ـ ما زلتَ في خِفَّةِ القطِّ
فاصعدْ إلى كتفيَّ.
لقد علمنا، من قبل، أن المشهد الحواري هو موضع تركيز درامي، متحرر من العوائق الوصفية والخطابية والتداخلات الخارجية( ). أي أن له سمتين أساسيتين هما: المحاكاة الخالصة، والانضباط الزمني.
1. فهو محاكاة خالصة تغيب فيها ذات الراوي، مفسحة المجال للشخصيات المتكلمة، لتعبر عن ذواتها دون أي تدخل من الخارج.
2. وهو لحظة انضباط زمني، لأن الزمن الذي تستغرقه أقوال الشخصيات، في الحوار، لا يختلف عن الزمن الذي يستغرقه المتلقي في استهلاك المشهد. فهو يشكل تلك اللحظة المتكافئة المضبوطة التي يلتقي فيها المكان بالزمان. فالمشهد ـ بلغة البحوث السردية ـ يمثل "حالة قصوى من تعادل القول مع الفعل"( ).
هنا لا يختلف الزمن السردي عن الزمن المحكي البتة، حيث يلتقي المكان ـ الذي هو درب العودة ـ بالزمان الذي يدور فيه الحديث. المشاهدون يشاهدون أباً وابنه مسافرين في طريقهما من لبنان إلى فلسطين ويتحدثان. الراوي والمشاهدون والشخصيات، كلهم، يشاهدون الحدث على الأرض وقت وقوعه. كأن لم تعد هناك حاجة للراوي.. ينزوي الراوي، في هذا النوع من القص المشهدي، ويدع الشخصيات تتحدث. إنها لحظة المحاكاة التامة، بلغة أفلاطون( ).
إن رحلة عودة الأب والابن تبتدئ من لحظة باكرة، لعلها لحظة النكبة نفسها. نعرف ذلك من كون الابن في خفة القط، فيما الأب متمتع بالشباب. الأب هو الذي يحمل الابن. وهذا هو ما يدعونا إلى القول بأننا بين يدي لحظة من لحظات العودة المبكرة، كما في هذا المقطع:
سنقطع عما قليل
غابة البُطْمِ والسنديان الأخيرةَ
هذا شمال الجليلْ
ولبنانُ من خلفنا.
ها هو لبنان صار من خلفهم، فيما كان في السابق من أمامهم.
اللافت هنا أن السماء ـ في وعي الأب ـ كلها للفلسطيني، من دمشق إلى سور عكا!. أليست هذه هي الوحدة العربية وقد قامت؟.
والسماء لنا كلها من دمشقَ
إلى سور عكا الجميلْ.
لا يحقق العودة غير الوحدة العربية. إن النص يريد تأكيد هذا المعنى، مرة أخرى، عن طريق دفع الراوي للابن أن يسأل أباه مرة أخرى:
ـ ثم ماذا؟.
ليرد الأب:
ـ نعود إلى البيت.
لكن الراوي ـ الذي يصطنع كل هذا الحوار ـ يشعر أنه في حاجة إلى تفسير كل هذا الحجم من الأيديولوجيا؛ ومن هنا نراه يختلق هذا السؤال على لسان الأب:
هل تعرف الدرب يا ابني؟.
ثم لا يكتفي بوضع الجواب على لسان الابن، على هذا الشكل:
ـ نعم، يا أبي.
بل يتبعه بكل هذه التفصيلات الشارحة:
شرقَ خرّوبةِ الشارع العامِّ
دربٌ صغيرٌ يضيقُ بصُبّارهِ
في البداية، ثم يسير إلى البئرِ
أوسعَ أوسعَ، ثم يُطلُّ
على كرم عمي "جميلْ"
بائعِ التبغِ والحَلَوِيَّات،
ثم يضيع على بيدرٍ قبل
أن يستقيم ويجلس في البيت،
في شكل بَبْغاءَ.
لا يكتفي الراوي بكل هذا الشرح للدرب من الابن، بل لا بد كذلك من شرح من الابن للأب عن تفصيلات البيت من الداخل. كأن الأب يمتحن ذاكرة ابنه، التي اصطنعها له طوال مراحل العودة المبكرة، التي استمرت متحققة في الوعي، رغم سنوات اللجوء السابقة:
ـ هل تعرف البيت، يا ولدي
ـ مثلما أعرف الدرب أعرفهُ:
ياسمينٌ يُطوِّق بوابةً من حديد
ودعساتُ ضوءٍ على الدرج الحجريِّ
وعبّادُ شمسٍ يُحدّق في ما وراء المكان
ونحلٌ أليفٌ يُعِدُّ الفطور لجدّي
على طبق الخيزران،
وفي باحة البيت بئرٌ وصفصافةٌ وحصان
وخلف السياج غدٌ يتصفّحُ أوراقنا.
يجب ألا ننسى أننا الآن نقرأ نصاً سردياً ـ حتى وهو يلبس ثوب الشعر ـ أي أننا نقرأ كلمات تنشئ لنا شخصياتٍ ورقيةً: فالكلمات ليست هي القصة، والشخصيات ليست حقيقية. إننا نخلق القصة والشخصيات ذهنياً، ومادتنا في ذلك هي الكلمات المطبوعة. أي أننا نمارس عملية استدلالية، تعودنا عليها في السابق. وهذا هو ما يجعل دور المتلقي إبداعياً، بشكل أو بآخر( ).
في قراءة السرد إذن، نترجم النص إلى حكي، باتباع الشفرات التي كنا قد تمثلناها. ولو أعدنا رواية القصة فستكون كالآتي:
يستمر الحوار، بين الأب والابن، ويستمر السفر إلى البيت، ونستمر ـ نحن المتلقين المدربين ـ في تصور مرور السنوات. وفي غضون ذلك يكبر الابن، ويشيخ الأب، ونحن لا نزال نتلقى، ونستمع إلى حوار يعيد إنتاج نفسه بطريقة مقلوبة، بالصورة الآتية:
ـ يا أبي، هل تعبت
أرى عرقاً في عيونكَ؟
ـ يا ابني تعبتُ... أتحملني؟
ـ مثلما كنتَ تحملني يا أبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أوّلي وإلى أوَّلِهْ
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري... وإلى آخرهْ!.
في السابق كان الأب هو الذي يحمل الابن، أما الآن فالابن هو الذي يحمل الأب، إلى بيت يعرف طريقه وتفصيلاته الداخلية وشكله الخارجي. نحن الآن ندرك ـ بخبراتنا القرائية ـ أننا في مواجهة حالة من حالات السيولة، حيث يؤبد الراوي اللحظة الحوارية، ويسمو بها إلى مرتبة العام، أو الجوهر. وإن استخدام الراوي لهذه التقنية لكفيل بإيقاف سيرورة الزمن، في وعي المتلقي، أو جعله يواصل السير ضمن أفق محدود لا يتعداه: فمهما طالت قراءتنا للحوار؛ فسوف يستمر الأب والابن مسافرين. هذا ما يدعوني ـ أيها السادة ـ إلى القول بأننا أمام حالة من حالات الزمن المستمر (time continuous): فالسرد يصر على إيقاف اللحظة العابرة، أو مواصلة عرضها، رغبة منه في منحها طابع الأبدية، أو القيمة المطلقة( ).
رابعاً: السرد الملحمي:
أول شيء يواجهنا في قصيدة (أحمد الزعتر)( )، هو صوت الراوي، الذي يعلن أنه سينشد قصة البطل الملحمي؛ مبتدئاً بتوجيه التحية، إلى صاحب اليدين من الحجر والزعتر:
ليدين من حجرٍ وزعترْ
هذا النشيدُ.. لأحمدَ المنسيِّ بين فراشتين.
إنه يتغنى ببطولة بطل لا مثيل له، إحدى يديه من الحجر ـ رمز الصلابة والقوة ـ والأخرى من الزعتر، رمز الخير والخضرة والصمود؛ فيما هو أثيري طائر بين فراشتين.. هوذا بطل يبتدعه الشاعر/ الراوي، من كل هذا التراكم الأسطوري الذي امتلأ به وعيه.
نحن إذن أمام بداية ذات علاقتين: تحية البدء، واختلاق البطل الخارق.
1. أما تحية البدء، فشنشنةٌ نعرفها من هوميروس، الذي ربما كان أول من سن للشعراء/ الرواة الابتداء بهذه التحية الغنائية، بين يدي السرد، حين قال في الأنشودة الأولى من (الإلياذة) ما يلي:
"تغني أيتها الربة بغضب أخيل بن بيليوس، ذلك الغضب المدمر الذي نكب الآخيين بآلام لا تُحصى، وبعث إلى هاديس بكثير من أرواح المحاربين الباسلة، وجعلها غنيمة للكلاب وشتى أنواع الطير. وبذا تحققت مشيئة زوس. ولتبدئي الغناء بقصة الشجار الذي اشتبك فيه ابن أتريوس ملك البشر مع أخيل الطيب"( ).
2. وأما اختلاق البطل الخارق، فعادة اعتادتها البشرية مذ عرفت فن السرد. لكن مزج هذا الخارق بالطبيعة، وجعله إحدى تجلياتها، ربما يمكن الزعم بأنه من اختراع الأديان، الوثنية والسماوية على حد سواء. ونحن لن ننسى أن تراثنا لا يزال يتغنى ـ بكثير من الحب الصوفي ـ بالخضر، الذي ينبت الزرع من وقع خطواته، وينهزم الأعداء تحت هول ضرباته( ).
وهنا في (أحمد الزعتر) نرى شيئاً قريباً من ذلك: إذ بعد أن يفرغ الراوي من تقديم التحية إلى البطل الأسطوري، نراه وقد أقام من نفسه شاعراً جوالاً ـ مثل سلفه العظيم هوميروس ـ يغني ملحمة قومه، ويحدثنا بما جرى للبطل وللعالم من حوله، بهذه الطريقة:
مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني
.. نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل
البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي...
آه يا وحدي؟
وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين.
مثل أي سرد ـ ملحمي أو روائي أو درامي ـ يوجد لدينا في هذه القصيدة شخصيات ومكان وزمان وحدث.
أما الشخصيات فهي:
1. الراوي الذي يسرد علينا بضمير المتكلم.
2. البطل الأسطوري الذي يمثل قوة الخير وامتداداته الكونية.
3. قوى الشر التي على البطل أن يصارعها.
وأما المكان فهو الكون كله (مضت الغيوم وشردتني/ ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني)، فيما يمثل المخيم بؤرته المتوترة، التي كثيراً ما تشارك في صنع الأحداث، على طريقة السرد الروائي الحديث (مخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين).
وأما الزمان فقد قام في القصيدة وفق علاقتين:
1. فمن ناحية أولى، هو امتداد لانهائي، يؤكد تشابه ما يجري اليوم، بكل ما يجري في كل وقت؛ حاضراً وماضياً ومستقبلاً (.. وكانت السنة انفصال البحر عن مدن/ الرماد).
2. وهو، من ناحية أخرى، زمنٌ متسارع قوامه حركة متواصلة، متولدة من العديد من الصور المتتابعة، حيث يستدعي الإيقاع إيقاعاً قريباً، وتستدعي الصورة صورة لها بها نسب وقربى، دون تضحية بالبنية الداخلية للقصيدة، كما نرى في هذا المقطع:
وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين
وساعدا يشتدّ في النسيان
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين
كان اكتشاف الذات في العربات
أو في المشهد البحري
في ليل الزنازين الشقيقة
في العلاقات السريعة
والسؤال عن الحقيقة
في كل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاما كان يسأل
عشرين عاما كان يرحل
عشرين عاما لم تلده أمّه إلا دقائق في
إناء الموز
وانسحبت.
الإيقاع في هذه القصيدة قوي وصاخب، يقارب طبول الحرب، ويشبه صخب علاقات الفلسطيني بالمحيط. والإيقاع كما نعلم سمة خاصة بالشعر، خصوصاً عندما يكون نشيداً، كما هو الحال هنا، بل كما أعلن الراوي منذ المفتتح (هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين).
لكن أهم سمات السردية تتجلى هنا في هذه الصور الحية المتتابعة، المستفادة من تقنية المونتاج السينمائية، والتي تبني عوالم زمانية ومكانية، متقطعة ومتلاصقة، فيها شخوص يتحركون:
1. فأحمد مغترب دائم بين رصاصتين (تنقل مستمر).
2. وهو مخيم ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين (سيرورة الحياة وإرادة القتال).
3. وهو ساعد (قوة) يشتد في نسيان إساءات الإخوة في المحيط العربي.
4. كما أنه ذاكرة مستمدة من اغترابه الدائم في الأرصفة الخالية من المستقبلين والياسمين
وخلال كل ذلك، لا يني أحمد الزعتر يكتشف ذاته، في كل ما يواجهه. إنه يستفيد من كل شيء، في سبيل امتداده الكوني: خيراً وحباً وحياة دائمة.
بعد ذلك يتحول الشاعر إلى راوٍ ومفسر في آن، حين يقول لنا عن أحمد الزعتر بأنه:
يريد هويّة فيصاب بالبركان
1. فرغبة أحمد الزعتر في الهوية، يمكن للراوي أن بقدمها لنا من الخارج. أما البركان فلا يمكن له رؤيته من الخارج، لأنه توتر داخلي يمور في وعي الشخصية: أي أن أحمد، كلما أراد هوية ومقاماً، شعر بخطورة ذلك على قضيته!. وإنها لمعاناة وجودية قاسية هذه التي تقيم كل هذا التناقض، بين حاجات الفلسطيني اليومية، وانتمائه الوطني المهدد لدى أقل محاولة للاستقرار!. لكأن قدر الفلسطيني أن يظل مهجراً وملاحقاً.
2. وبعد هذا السطر الشعري، نرى الراوي يتراجع ـ كأي راوٍ في رواية ـ مفسحاً المجال أمام وعي الشخصية (أحمد) كي تقول هي:
سافرت الغيوم وشرّدتني
ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني.
3. ثم يعود للتدخل السردي، حين ينقل لنا كلام أحمد على هذه الشاكلة:
أنا أحمد العربيّ ـ قال
أنا الرصاص البرتقال الذكريات
وجدت نفسي قرب نفسي
فابتعدت عن الندى والمشهد البحريّ
تل الزعتر الخيمة
وأنا البلاد وقد أتت
وتقمّصتني
وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد
وجدت نفسي ملء نفسي...
4. ثم يوقف الراوي أحمدَ عن الكلام، لينوب عنه في وصف أفعاله في المكان، على هذه الشاكلة:
راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه
5. لكن هذا الراوي لا يدع أحمد الزعتر يلتقي بضلوعه، دون أن يتدخل، لتفسير فيم كان هذا الالتقاء، فنراه يقول:
كان الخطوة ـ النجمة.
6. ثم نرى هذا الراوي العليم يلتفت إلى المحيط، لينقل لنا أفعال باقي الشخوص:
ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط
كانوا يعدّون الرماح
وأحمد العربيّ يصعد كي يرى حيفا
ويقفز.
7. وعندما تنجح المؤامرة، يصف لنا هذا الراوي المتربص سير الأحداث، بصيغة الزمن الحاضر، كأنه يقف مع أحمد في نفس المكان، إذ يقول:
أحمد الآن الرهينة
8. ثم يتخذ نفس وجهة نظر أحمد الأيديولوجية، حين يصف مشهد المؤامرة التي ينسج خيوطها الأشقاء، بقوله:
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه
لتقتله
ومن الخليج إلى المحيط، و من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة.
الخلاصة:
لقد واصل محمود درويش رحلته، من الغنائي الخاص، إلى السردي العام ـ القصصي والدرامي والملحمي ـ بغية البحث عن إجابات لأسئلة شعبه الكبرى.
فقد رأيناه يقدم لنا قصيدة الديالوج، التي تعتمد على الحوار الخالص، في (إلى آخري وإلى آخره). وبذا فقد مزج الشعرية الغنائية بالمسرح.
كما رأيناه يستفيد من أحدث ما حققته السردية الروائية في العالم، في قصيدة (أبد الصبار) حين تنقل بوجهات نظر راويه المكانية والزمانية والأيديولوجية، مازجاً كل ذلك بتقنيات سينمائية لافتة، كما رأيناه يفعل في البدء وفي الختام.
ورأيناه يستخدم أخص خصائص السرد الحديث، وعلوم التحليل النفسي، حين مزج في قصيدته الأخيرة (على محطة قطار سقط عن الخريطة) بين صوت الراوي الخارجي وصوته الداخلي ـ تيار الوعي ـ ليقدم لنا محتويات الوعي قبل مرحلة الكلام المنظم عن قصد.
أما في قصيدة (أحمد الزعتر) فقد قدم لنا محمود درويش البطل الأسطوري، في شكل يقارب الملحمية ـ بل يلامسها ـ خصوصاً حين مزج الإيقاع الصاخب، الذي يشبه طبول الحرب، بالعديد من الصور الحية المتتابعة، التي تبني عوالم زمانية ومكانية، فيها شخوص يتحركون نحو الهدف العام، بكل القوة والصلابة والإصرار الذي يتميز به الأبطال الملحميون.
منقول
ملخص البحث:
"من المونولوج إلى الديالوج". كان هذا عنوان مقال مبكر، كتبه الشاب محمود درويش، في العام 1969، قبل أن يغادر الدولة اليهودية إلى منظمة التحرير الفلسطينية. ثم جاء ديوان (لماذا تركت الحصان وحيداً) في يناير عام 1995، أي بعد حوالي ستة وعشرين عاماً، قضاها في المنافي والتجريب، وتحديداً بعد توقيع أوسلو، الذي كانت أهم مبادئه معلومة لدى الشاعر، باعتباره عضو لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير، في تلك الأثناء. فاستقال بعد أن قذفه بـ(أحد عشر كوكباً) من الغنائيات الممعنة في البكاء والحسرة.
لم يكن البكاء وليد أوسلو فحسب، فقد سبق أن وسم البكاء كل مراحل الثورة، من مذبحة إلى مذبحة، ومن رحيل إلى رحيل. وفي كل مرة كان يعقب هذا البكاء ـ لدى درويش ـ نوع من التأمل الهادئ الحزين، بحثاً عن أجوبة لأسئلة مطروحة، من مثل: لماذا حدث ما حدث، وما السبيل لكي لا يحدث مثل هذا مرة أخرى، وما هو المطلوب لكي نتجاوز الحاضر الأليم إلى مستقبل أقل ألماً إن لم يكن أكثر سعادة؟. من هنا تنبع الحكاية. ومن هنا ظهرت في قصائد محمود درويش العديد من البنى السردية، التي يطمح هذا البحث إلى كشف أسرارها.
Narrative structure in a poem of Mahmoud Darwish
Abstract:
"From monologue to Aldialloj." This was the title of an article written by early man, Mahmoud Darwish, in 1969, before leaving the Jewish state to P LO. Then came the court (why do you left the horse alone) in January 1995, after about 26 years he spent in exile and experimentation, particularly after the signing of Oslo, which was the most important principles known to the poet, as a member of the executive committee of the PLO, resigned after the incident with (Eleven planets) of poems persists in tears and anguish.
The cry did not born from Oslo only, The crying has already been marking all stages of the revolution, from a massacre to another, and from departure to another. Each time the cry of Darwish was followed by a kind of sad reflection regions in search of answers to questions, such as: Why it happened, and what the way does not happen such a time again, what is required in order to move beyond the painful present to a future less painful, if not happier?. Here exists in Mahmoud Darwish poems many narrative structures, which are to be revealed secrets of this research.
تمهيد:
لقد أصبح معروفاً أن بنية أي حكاية، تتكون من مجموع العلاقات الشكلية الناظمة للمحتوى. وقد يكون هذا تعريفاً أقترحه، لكنه بالتأكيد لا يقع خارج المتعارف عليه في الشعريات السردية الحديثة. إذ أصبح معتاداً أن نحلل بنية الحكاية، من خلال تقسيم النص السردي إلى زمان ومكان وشخصيات وفعل. كل ذلك ـ وبالأساس ـ من خلال عين الكاميرا المصورة للمشهد: الراوي (Narrator)، أو السارد، كما تقترح بعض الترجمات المغاربية.
والسؤال الذي لا تزال تطرحه العديد من المناهج التاريخية، في كل مرة يتم التصدي فيها لبحث هذه العلاقات الشكلية في الحكاية، هو: ما الفائدة من بحث محتويات الشكل، فيما نحن نتمتع بالمعنى؟.
ولا ريب في أن هذا السؤال كان من الممكن له أن يكون مقبولاًً، لو كان كل ما يهمنا في الفن معناه، والقضايا التي يناقشها. ولكننا نعلم جميعاً أن الحقيقة في الفن هي غير الحقيقة في الفلسفة وعلم الأخلاق، بل ربما كانت على العكس من ذلك في كثير من الأحيان: فنحن نعلم أن ما يمتعنا في الفن هو شكل الكلام، أو إيقاع المضمون ـ على حد تعبير غيورغي غاتشڤ( ) ـ لا الكلام ذاته، أو المضمون الموضوعي فحسب.
إن معرفة بم يقوم الشكل في الفن ليست مجرد مسألة شكلية، لا تقدم ولا تؤخر؛ فالحياة تقول غير ذلك. ونحن ـ كما تقول رقية حسن ـ "في حياتنا اليومية، نعرف أناساً يحسنون قص الحكايات، وآخرين يميتونها. ما الذي يجعل هذا الفرق؟. إنها الطريقة التي تجعل من الحكاية خطاباً، والأسلوبُ الذي توَظف به أنماط اللغة، لخلق هذه الحكاية"( ).
إذن فلدينا شيء آخر، من وراء المعنى المباشر البسيط، هو المبنى؛ أو كيف تقول الحكاية ما تقول: أي أننا أمام نوع من التمثيل المعرفي، الذي يجسد بنية القول. ولا شك أن هناك فرقاً جلياً بين منهج شكلي، ينحاز إلى الشكل وينغلق على ذاته، وبين المفاهيم التي أنتجها البحث في محتوى الشكل، والتي بإمكان النقد أن يفيد منها، لكشف أسرار البنية، ولمعرفة التقنيات التي تقوم بها. بل إن ذلك سوف يساعد بالفعل، على قراءة معاني النص، وحوار دلالته: فالبنية دالة، والشكل يقول( ).
وعلى عكس هذا المضمر، الذي يطرحه التساؤل السابق، عن قيمة البحث الشكلي، يمكن لنا رؤية كيف سادت، في حقبة سابقة، مقولة شكلانية خالصة، تقول: إن ما ينبغي على الدرس الأدبي أن يهتم به، ليس ما تقوله النصوص؛ بل كيف تقوله. وعلى أصحاب هذه المقولة يعلق الدكتور صلاح فضل بقوله:
"أي أنهم لا يبحثون عن معنى الشعر، وإنما عن شكله. وأحسب أن في هذا إساءة لطرح المشكلة؛ إذ إن دلالة أي نص شعري، ليست في معنى افتراضي مسبق له، وإنما هي محصلة مجمِّعة لكل وسائله الإشارية والمجازية، وتكنيكه في التعبير والرمز. ومن هنا تصبح طريقة القول جزءاً جوهرياً، وعنصراً مكوناً، للقول ذاته"( ).
مقدمة نظرية:
كم تتسع القصيدة الحديثة للسرد، وكيف يوازن الشاعر بين فرديته الغنائية وشخصيات السرد، التي عليه أن يفسح لها مكاناً للتعبير عن ذواتها، خصوصاً عندما تكون مهمته الاضطلاع برواية قصة شعبه، كما كان يفعل شعراء الملاحم الكبرى؟.
لقد تداخلت الأجناس الأدبية اليوم، وانفتح الشعر الغنائي على الحكاية، كما انساحت المسافات بين كل من الدرامي والغنائي والسردي، خصوصاً بعد أن أخذت الأجناس الأدبية تقتبس من بعضها البعض تقنيات عديدة، حتى أوشك الكثير منها على الاستعصاء على التصنيف المتعارف عليه، كأنما صُهرت الأجناس في جنس واحد.
ورغم أن النظرية الأدبية الكلاسيكية ـ المتوارثة منذ الإغريق ـ ظلت حريصة دائماً على رفض اعتبار الشعر الغنائي نوعاً من أنواع المحاكاة، إلا أننا رأينا البحوث السردية الحديثة وقد اختارت وجهة أخرى، إذ وسعت مجال نظرية المحاكاة الأرسطية، بحيث أدرجت فيها الشعر الغنائي الصرف كذلك. وفي هذا يقول جيرار جينيت:
"إن الشعر الغنائي كذلك محاكاة، فهو يحاكي الأحاسيس... فالشعر الغنائي يندرج بصفة طبيعية ـ بل وضرورة ـ في المحاكاة، مع فارق وحيد يميزه ويبرره؛ أنها [أي الأحاسيس] الموضوع الخاص به: فالمادة الأساسية لأنواع الشعر الأخرى هي الأحداث، أما الشعر الغنائي فكله مخصص للأحاسيس: إنها موضوعه ومادته الجوهرية"( ).
وإذا كان من الممكن لهذه المقولة، من جيرار جينيت، أن توجه حركة تفسير جديدة للقصيدة الغنائية، التي طالما اعتبرتها نظرية المحاكاة( ) ذاتية صرفة؛ فلقد نرى العديد من القصائد الدرويشية تأتي على شكل نصوص جامعة، تمزج السردي بالغنائي، رغم كل هذا الشجن الذاتي المنبعث في الأساس من رحم الجماعة.
أما من الناحية الأخرى، فقد رأينا كيف تعودت الدراسات السردية ـ في مفارقة شديدة الوضوح ـ على تناول النصوص الروائية، أو القصصية، بالتحليل، على اعتبار أنها سرد خالص، يستجيب لأدوات التحليل السردي المستقل؛ مع أن جل هذه الدراسات ظلت تعتمد، منذ البدء، على المقولات الأولى المنقولة عن كتاب أرسطو (فن الشعر). ونحن نعلم أن أرسطو، في هذا الكتاب، قد اتخذ نماذجه الدراسية من المسرح الإغريقي، الذي لا يمكن القول بأنه سرد خالص. فكلنا نعلم أن المسرح الإغريقي مسرح شعري بالدرجة الأولى.
نخلص من هذا إلى أن أرسطو، ومن تابعوه، قد درسوا السرد في الشعر. وإنني لأحسب أن في هذا تأسيساً نقدياً ثانياً، يمكن لنا متابعة البناء عليه، إلى جانب مقولة جيرار جينينت آنفة الذكر.
إن علاقة الشعر بالسرد قديمة قدم الشعر نفسه؛ فكلنا نعلم أن "الملحمة قصة شعرية بطولية قومية خارقة، تختلط فيها الحقائق بالأساطير، وتتغلغل العقائد الروحية في حناياها"، كما يقول الدكتور محمد مندور( ). فاندماج الذاتي (الغنائي) في العام القومي، يولد السرد. وقد رأينا في أدبنا الشعبي مثالاً قريباً من ذلك، في السيرة الهلالية؛ بل لقد قيل إن هناك قصائد عربية قديمة، تميزت بنفس سردي، كما هو الحال في قصيدة (فتح عمورية) لأبي تمام.
لا يجادل أحد في حقيقة أن الملحمة بناء سردي بالأساس، قوامه الحكي واختراع الزمان والمكان والشخصيات، ثم الزج بهم في خضم صراع متواصل وممتد. ورغم أن الملحمة تحتوي على العديد من المقاطع الغنائية الصرفة( )، إلا أن ذلك لم يخرجها عن طبيعتها السردية. لذا يمكن القول ـ باطمئنان بالغ ـ إن الملحمة سرد، لكنه ليس سرداً صرفاً. فالسرد الصرف، الذي تغيب فيه ذات الراوي/ الشاعر، هو سرد غير موجود في أرض الواقع( ).
تقول الملحمة إن نجاة البطل، من المذبحة، مقدمة لقيامة جديدة، تتعالى على كل محاولات الإبادة. البطل الطروادي إينياس، يقود شعبه في دروب الحكاية، ليؤسس لهم مجد الكلام، بعد إذ تعذر عليه حماية مجد الجغرافيا. يوجد تشابه بين حكاية من تبقى من الطرواديين، بعد سقوط مدينتهم الذهبية، وبين ما جرى للفلسطينيين، بعد النكبة. فها نحن للمرة الأولى نقرأ في ملحمة ڤيرجيل رواية المهزومين.
ينوب مجد الكلام مؤقتاً عن مجد الجغرافيا، وتتأسس قوة الكلام من سرد يهدف إلى حفظ ما تبقى في الذاكرة، تمهيداً لانبعاث قوة المستقبل. من هنا يضطلع الشاعر بمهمة الراوي، الذي يقص على شعبه قصة الهزيمة، بهدف استخلاص العبر. ولقد تنبه محمود درويش إلى مهمتة مبكراً، وتحديداً منذ العام 1969، الذي نشر فيه مقالته في مجلة الجديد بعنوان: (من المونولوج إلى الديالوج)( ).
هكذا تحدد وعي محمود درويش الشعري، قبل أن يلتحق بمنظمة التحرير. وهكذا تمكن من بلورة وعيه شعرياً في مراحله التالية، بحيث أصبحت قصيدته "أكثر درامية وأكثر تعقيداً، وهي تنتقل من حالتها البسيطة إلى الحالة المركبة، ومن المونولوج إلى الديالوج"( ). وعلى سبيل المثال، يمكن لنا رؤية كيف تحقق لمحمود درويش هذا الانتقال، في العديد من قصائد ديوانه: (لماذا تركت الحصان وحيداً) الذي صدر في يناير عام 1995( ) بعد توقيع أوسلو ـ الذي كانت أهم مبادئه معلومة لديه، باعتباره عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في تلك الأثناء ـ فاستقال بعد أن قذفه بـ(أحد عشر كوكباً)( ) من الغنائيات الممعنة في البكاء والحسرة. وتلك بحد ذاتها قصة ولا شك، غير أننا نرى القصة الحقيقية فيما حدث من بعد.
من الطبيعي أن يعقب البكاءَ نوعٌ من التأمل الهادئ الحزين؛ بحثاً عن أجوبة أسئلة مطروحة، من مثل: لماذا حدث ما حدث، وما السبيل لكي لا يحدث مثل هذا مرة أخرى، وما هو المطلوب لكي نتجاوز الحاضر الأليم، إلى مستقبل أقل ألماً، إن لم يكن أكثر سعادة؟... من هنا تنبع الحكاية. ومن هنا تنبثق قصيدة الديالوج.
أولاً: تحولات وجهة النظر:
الحكاية ديمومة البدء، وديمومة الزمان المديد. منذ عرف الإنسان أشكال التجمع الأولى، قبل أن يكتشف الزراعة، اكتشف سحر السرد. يمكن لنا تصور كيف كان إنسان الكهف الأول يفغر فاه، بين يدي قاص القبيلة، وهو يروي حكاية صراعه مع الوحوش والطبيعة. وكلما توقف سأله بنفاد صبر: ثم ماذا بعد؟. مزجياً وقت فراغه، قبل أن يستسلم للنوم وسط الحطام والفضلات( ).
يبتدئ السرد عالماً ثم لا ينتهي: عالماً يرسمه الراوي ويحدد شروطه ومبتدأه ومنتهاه. وفي كل هذا يعتمد القص عليه اعتماداً كلياً، فهو الذي يقول دائماً، وهو الذي يفسر أحياناً، وهو الذي يتغلغل في وعي الشخصيات، كما أنه هو الذي يقدم كلامها المنطوق والمضمر. وحين نواجه راوياً عليماً كلي المعرفة، فإننا ندرك أننا نواجه من يمتلك سلطتي الحكي والتفسير كليهما. فلنقرأ الحوار الآتي من (أبد الصبار)( ):
ـ إلى أين تأخذني يا أبي؟
ـ إلى جهة الريح يا ولدي.
ها نحن نسمع ولداً يسأل وأباً يرد. لكن هل كان رد الأب محايداً موضوعياً، يقول ما يوافق العالم الخارجي؟. أم كان خطاباً متلبساً بوعيه، ومتأثراً بمنظومة القيم التي تحكمه؟.
إن الراوي هنا هو من يقول على لسان الأب: (إلى جهة الريح). ونحن نعرف أنه ما من أب فلسطيني مهاجر قد قال هذه الكلمة بمنطوقها. إن الراوي هو من أنطقه إياها. وإنه لراوٍ مفسرٌ هذا الذي يتنبأ بأن الهجرة ستكون إلى كل هذا الضياع!. ها هو الراوي يعيد إنشاء خطاب الأب، وفق ما سيتم من بعدُ، وإلا فكيف كان للأب أن يمتلئ بكل هذه الأحاسيس بمهانة الهجرة، منذ لحظة الرحيل الأولى تحت الرصاص، لولا أن الذي أنطقه كان هو محمود درويش، الذي سوف يرى ـ بعد ذلك ـ كيف تحول الأنظمة العربية لجوء الفلسطيني إلى رحلة عذاب، معلقة في فضاء لا قرار من تحته؟.
ألا يحق لنا أن نقول، بأن واقعة الفلسطيني في بلاد النظام العربي، هي التي أنتجت كل هذه الأحاسيس لدى الأب؛ إذ يصف جهة الرحيل بأنها جهة الريح؟.
لقد وقف الراوي هنا على مقربة من الأب وابنه، واستمع إلى ما يدور بينهما. ولو شئنا رصد مكانه، في هذه اللحظة، لرأينا شبحاً واقفاً في بؤرة اللوحة، أو في المنتصف منها، لا يراه أي من الأب أو الابن. فمن هو هذا؟.. ربما يمكن القول إنه جهاز تسجيل.
دعونا الآن نتأمل كيف يغير هذا الراوي العليم من موقعه المكاني، حين يقول:
وَهُما يَخْرجانِ مِنَ السَهْل، حَيْثُ
أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ
الظلال على سور عَكََّا القديم ـ
يقولُ أَبٌ لابِنِه...
إذن فجهاز التسجيل هذا كان قد وضعه الراوي في بؤرة اللوحة، قبل أن يتراجع إلى الوراء قليلاً، ليتمكن من رؤية كامل المشهد، بين أركان الإطار الأربعة.
لكن هل استطاع هذا الراوي أن يحافظ على حياد موضوعي، من الناحية الأيديولوجية، أم أن حياده قد تعرض لنوع من الانزياح؟.
في البداية عندما يقول الراوي: (وهما يخرجان من السهل) فإننا نلمح في قوله هذا نوعاً من الموضوعية، إذ يصف ما يرى بعينيه فحسب. لكن هذه الموضوعية المفترضة، سرعان ما تتبدد، حين يقول من بعدُ: (حَيْثُ أَقام جنودُ بونابرتَ تلاَّ لِرَصْدِ الظلال على سور عَكََّا القديم). فجنود بونابرت ـ في نظر الراوي ـ لم يقيموا مجرد قلعة عسكرية، لرصد البشر وتحركاتهم المعادية؛ بل أقاموا تلاً لرصد الظلال!. فمن الذي يرى هذا؟. أهو راوٍ موضوعيٌ يصف ما يرى بعينيه، أم هو الراوي الأيديولوجي ذو وجهة النظر الأسطورية، الذي يرى في الأرض وأشيائها كائناتٍ حيةً مقاتلة!.
لا شك لدينا بأن الراوي في هذا المقطع يتحدث من وعي الأب: فالأب هو الذي يرى في الظلال على سور عكا صديقةً وحليفاً مقاوماً للغزاة. ولسوف يتأكد لنا موقع الراوي هذا، من خلال متابعتنا لحديث الأب لابنه إذ يقول:
لا تَخَفْ. لا
تخف من أَزيز الرصاص! التصِقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو على
جَبَلٍ في الشمال، ونرجعُ حين
يعود الجنودُ إلى أهلهم في البعيد.
فمن هذا الذي يعلم أن في الالتصاق بالأرض نجاةً؟. أليس هو الراوي، الذي يقف الشاعر من ورائه، ويُنطِقه بما يؤمن به هو شخصياً؟.
نحن نعلم أن محمود درويش هو شاعر الأرض بلا منازع، وقد اكتسب لقبه هذا من مزجه المستمر، بين كل من الأرض الفلسطينية والإنسان عليها والأشياء من حوله. وقد سبق أن قال الأب لابنه إن الرحيل عن الأرض هو رحيل إلى اللاشيء (جهة الريح)، حيث تتبدد الكينونة والهوية: فالفلسطيني فلسطيني لأنه ولد في فلسطين، حيث "نما وتطور وأبدع وجوده الإنساني، عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع، بين الشعب والأرض والتاريخ"( ) كما يقول محمود درويش نفسه، في موضع آخر.
سنحاول الآن رصد تحولات الراوي من الحاضر إلى المستقبل.
كنا فيما سبق قد رصدنا تحولات الراوي في الزمن الماضي، خصوصاً حين تطرقت القصيدة إلى الحديث عن جنود نابليون. لكننا في المقطع التالي نقرأ ما يأتي:
سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديد.
فما زال الأب هو الذي يقول للابن. وما زال الابن هو من يستمع. وعندما يقول أب فلسطيني ـ وهو في طريق الهجرة ـ لابنه، إنه سوف يكبر ليروي (لمن يرثون بنادقهم سيرة الدم فوق الحديد)، فإن تساؤلاً مشروعاً سوف يطل برأسه هنا ليقول: ما هي سيرة الدم الفلسطيني هذه، وقد عهدنا لفظة السيرة محيلة إلى نوع من الاستمرارية والمداومة؟!. صحيح أن هناك مجازر ارتكبها الصهاينة في حق الفلسطيني، لدفعه إلى الهجرة، لكن حدوث هذه المجازر شيء، وتسميتها سيرة شيء آخر، وما ذاك إلا لأن تلك كانت بدايات المجازر، لا نهاياتها. والسيرة لا تصبح سيرة إلا مع سرد نهاياتها بعد طول امتداد.
الراوي هنا يروي حكاية زمن مضمر، يعرف أن المتلقي مؤهل لمعرفته، ويعلم أن نصه سيستدعيه. وما كان ذلك ليحدث، لولا معرفته بأن أعراف القص المستقرة، تتيح للمتلقي أن يعقد معه اتفاقاً يصادق بموجبه على قبول كل مزاعم هذا الراوي، برغم كل هذه التنقلات المختلفة في الزمن، دون أن يسأله كيف فعل ذلك( ).
إذن فالراوي ـ المرافق للأب والابن المهاجرين عام 1948 ـ يقول ما سيحدث في المستقبل، بعد أن يضم إلى مذبحة دير ياسين، التي حدثت في الزمن المحكي، مذابح أخرى ستحدث في زمن قادم، وفي بلاد أخرى من أمثال: أيلول الأسود، وصبرا وشاتنيلا، وتل الزعتر، ونهر البارد، وطرابلس، والبداوي... إلخ.
ثانياً: مشهد عين الطائر:
كثيراً ما نرى محمود درويش يقدم لنا مشاهد كلية، للمكان والشخوص فيه: فيبدأ بوصف المكان، ثم ينتقل إلى كلام الشخصيات. وهذه التقنية يسميها علماء السرديات (تقنية مشهد عين الطائر)( ): حيث يقف الراوي في مكان مرتفع، مشرف على المحيط. وبعد أن تمسح عيناه اللوحة، من طرف الإطار إلى الطرف الآخر، يركز نظره على جزئية محددة، هي موضع الاهتمام. لذا فليس غريباً أن نراه في قصيدته الأخيرة: (على محطة قطار سقط عن الخريطة)( )، يبتدئ بهذا المشهد:
عُشْبٌ، هواء يابسٌ، شَوْكٌ، وصَبَّارٌ على سِكَك الحديد. هناك شَكْلُ الشيء في عَبَثيَّة اللاشكل يمضغ ظلَّهُ... عَدَمٌ هناك مُوَثَّقٌ... ومُطَوَّقٌ بنقيضهِ، ويمامتان تُحَلِّقانِ على سَقيفةِ غرفةٍ مهجورةٍ عند المحطّةِ، والمحطّةُ مثل وَشْمٍ ذاب في جسد المكانِ، هناك أَيضاً سَرْوتان نحيلتان، كإبرتين طويلتينِ، تُطَرِّزان سحابةً صفراءَ ليمونيَّة.. وهناك سائحةٌ تُصَوِّر مَشْهَديْنِ: الأوَّلّ الشمس التي افترشتْ سرير البحرِ، والثاني خُلُوَّ المقعد الخشبيّ من كيس المسافرِ.
ثم يعلق بين قوسين:
(يَضْجَرُ الذَهَبُ السماويُّ المُنَافقُ من صلابَتِهِ)؛
قبل أن يصطنع شخصية تقص علينا بضمير المتكلم، فتقول:
وقفتُ على المحطَّة... لا لأنتظر القطارَ، ولا عواطفيَ الخبيئةَ في جماليّات شيءٍ ما بعيدٍ؛ بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ وانكسر المكان كجرّةٍ خزفيّة، ومتى وُلدتُ وأَين عشتُ، وكيف هاجرتِ الطيورُ إلى الجنوب أو الشمال. ألا تزال بَقِيَّتي تكفي لينتصر الخياليُّ الخفيفُ على فَسَاد الواقعيّ؟ ألا تزال غزالتي حبلى؟
هنا يبدأ الراوي سرده بوصف المكان، فيستعير عيني طائر يقف على رأس شجرة عالية، محدقاً في كل الموجودات، قبل أن ينتقل إلى ما يريد. إن عين الكاميرا هنا ـ أو عين الطائر ـ تقدم لنا رؤية عامة: (عشْبٌ، هواء يابسٌ، شَوْكٌ، وصَبَّارٌ على سِكَك الحديد.. )، قبل أن تنتقل إلى وصف جزئيات المشهد: (ويمامتان تُحَلِّقانِ على سَقيفة غرفة مهجورة... هناك أَيضاً سَرْوتان نحيلتان كإبرتين طويلتينِ).
ومثل أي قاص محترف، ينتقل بنا راوي محمود درويش من مرحلة الكلام المنظم، الخارجي الواصف للمحيط، إلى مرحلة المونولوج الداخلي، الذي تحدث فيه الشخصية نفسها، حديثاً حميماً خاصاً، يهدف إلى إطلاعنا على ما يمور في أعماقها، من قبل أن تنطق به وتهذبه، ومن قبل أن يصبح صالحاً للتداول البشري المتحضر ـ تيار الوعي( ) ـ فيقول: (يَضْجَرُ الذَهَبُ السماويّ المُنَافقُ من صلابَتِهِ)؛ تمهيداً لإفساح المجال لكلام الشخصية: (وقفتُ على المحطَّة، لا لأنتظر القطارَ، ولا عواطفيَ الخبيئةَ... بل لأعرف كيف جُنَّ البحرُ...).
كما يمكن لنا رؤية مشهد عين الطائر، مرة أخرى، في المقطع الأخير من قصيدة (أبد الصبار) حيث يختتم الراوي/ الشاعر القصيدة على طريقة أفلام هوليوود؛ عندما تُختَتمُ الأحداثُ بأسماء الممثلين، على خلفيةٍ تعرض في الغالب مشهداً كلياً للمدينة، بعماراتها العالية، أو للصحراء بامتداداتها المترامية، كما نرى في المقطع التالي:
وكان غَدُ طائشُ يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلةْ.
وكان جنودُ يُهُوشُعَ بن نونَ يبنون
قَلْعَتَهُمْ من حجارة بيتهما. وهما
يلهثان على درب (قانا)
ولئن ظل محمود درويش مدركاً أن قضيته ليست هي قصيدته تماماً، وأن قصيدته إذا كانت قد حققت العديد من الإنجازات، فإن قضيته لا تزال في بداياتها الأولى؛ فلقد نراه يلجأ إلى المزج بين خاتمة الفيلم الهوليوودي ونهايته ـ وكثيراً ما تتشابهان ـ فيختتم القصيدة بما تبدأ به الأفلام: !ذ تنتقل من العرض الكلي الواسع لسماوات المدينة، لتركز عين الكاميرا ـ على طريقة الزوم ـ على المشهد المقصود (الحدث)، ليبدأ الفيلم في حكاية القصة. فلننظر كيف يفعل محمود درويش ذلك في هذا المقطع من (أبد الصبار):
تفتحُ الأبديَّةُ أَبوابها، من بعيد،
لسيَّارة الليل. تعوي ذئابُ
البراري على قَمَرٍ خائفٍ. ويقولُ
أَب لابنه: كُنْ قوياً كجدِّك!
وأَصعَدْ معي تلَّة السنديان الأخيرةَ
..............
هنا
مرَّ سيَّدُنا ذاتَ يومٍ. هنا
جَعَل الماءَ خمراً. وقال كلاماً
كثيراً عن الحبَ، يا ابني تذكّر
غداً. وتذكّرْ قلاعاَ صليبيَّةً
قَضَمَتْها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود....
ها نحن نرى أباً وابنه يسيران مع السائرين باتجاه فوهة الأبدية. ورغم كل هذا السواد، لا تهمل عين الراوي رصد ما يقوله الأب لابنه: إنه يسرد عليه سيرة الحب، الذي غرسه السيد المسيح ـ عليه السلام ـ في هذه الأرض المباركة، مقرراً الحقيقة الأزلية القائلة بأن هذه الأرض عرفت دائماً كيف تأكل غزاتها.
إنه يمهد للختام، كما يمهد أي راوٍ يروي قصة أو سيرة. صحيح أنه شاعر، لكن الصحيح كذلك، أن هذا الشاعر لا يذهل عن استخلاص نتيجةٍ ما، من كل هذا السرد الممعن في الشجن. لذا فقد أمكن لنا أن نراه ينهي المشهد، وسط خضم من حركات تشبه نهايات العالم: حيث البراري الواسعة تكون الإطار العام للمشهد، المكون من عدة عناصر، أهمها أبدية فاتحة فمها، تنتظر شعباً يضرب وسط غياهب الليل (سيارة الليل) باتجاه المجهول، فيما ذئاب متوحشة تعوي على قمر خائف، وغرباء يبنون قلعتهم من حجارة بيوت لا يملكونها.
ثالثاً: السرد المشهدي:
أما في قصيدة (إلى آخري وإلى آخره)( ) فيمكن لنا رؤية نوع من السرد المشهدي. ولئن كانت تدخلات الراوي متعددة ومتكاثرة في (أبد الصبار) كما رأينا؛ فلقد يغيب الراوي هنا عن المشهد، مفسحاً المجال للشخصيات لتعبر عن ذواتها، في حوار يدور بين أب وابنه، ويستغرق القصيدة كلها. لكأننا نجلس في صالة مسرح، يعرض علينا مشهداً تديره شخصيتان، على هذه الشاكلة:
ـ هل تَعِبْتَ من المشي
يا ولدي، هل تعبتْ؟
ـ نعم، يا أبي
طال ليلُك في الدربِ،
والقلبُ سالَ على أرضِ ليلِكَ
ـ ما زلتَ في خِفَّةِ القطِّ
فاصعدْ إلى كتفيَّ.
لقد علمنا، من قبل، أن المشهد الحواري هو موضع تركيز درامي، متحرر من العوائق الوصفية والخطابية والتداخلات الخارجية( ). أي أن له سمتين أساسيتين هما: المحاكاة الخالصة، والانضباط الزمني.
1. فهو محاكاة خالصة تغيب فيها ذات الراوي، مفسحة المجال للشخصيات المتكلمة، لتعبر عن ذواتها دون أي تدخل من الخارج.
2. وهو لحظة انضباط زمني، لأن الزمن الذي تستغرقه أقوال الشخصيات، في الحوار، لا يختلف عن الزمن الذي يستغرقه المتلقي في استهلاك المشهد. فهو يشكل تلك اللحظة المتكافئة المضبوطة التي يلتقي فيها المكان بالزمان. فالمشهد ـ بلغة البحوث السردية ـ يمثل "حالة قصوى من تعادل القول مع الفعل"( ).
هنا لا يختلف الزمن السردي عن الزمن المحكي البتة، حيث يلتقي المكان ـ الذي هو درب العودة ـ بالزمان الذي يدور فيه الحديث. المشاهدون يشاهدون أباً وابنه مسافرين في طريقهما من لبنان إلى فلسطين ويتحدثان. الراوي والمشاهدون والشخصيات، كلهم، يشاهدون الحدث على الأرض وقت وقوعه. كأن لم تعد هناك حاجة للراوي.. ينزوي الراوي، في هذا النوع من القص المشهدي، ويدع الشخصيات تتحدث. إنها لحظة المحاكاة التامة، بلغة أفلاطون( ).
إن رحلة عودة الأب والابن تبتدئ من لحظة باكرة، لعلها لحظة النكبة نفسها. نعرف ذلك من كون الابن في خفة القط، فيما الأب متمتع بالشباب. الأب هو الذي يحمل الابن. وهذا هو ما يدعونا إلى القول بأننا بين يدي لحظة من لحظات العودة المبكرة، كما في هذا المقطع:
سنقطع عما قليل
غابة البُطْمِ والسنديان الأخيرةَ
هذا شمال الجليلْ
ولبنانُ من خلفنا.
ها هو لبنان صار من خلفهم، فيما كان في السابق من أمامهم.
اللافت هنا أن السماء ـ في وعي الأب ـ كلها للفلسطيني، من دمشق إلى سور عكا!. أليست هذه هي الوحدة العربية وقد قامت؟.
والسماء لنا كلها من دمشقَ
إلى سور عكا الجميلْ.
لا يحقق العودة غير الوحدة العربية. إن النص يريد تأكيد هذا المعنى، مرة أخرى، عن طريق دفع الراوي للابن أن يسأل أباه مرة أخرى:
ـ ثم ماذا؟.
ليرد الأب:
ـ نعود إلى البيت.
لكن الراوي ـ الذي يصطنع كل هذا الحوار ـ يشعر أنه في حاجة إلى تفسير كل هذا الحجم من الأيديولوجيا؛ ومن هنا نراه يختلق هذا السؤال على لسان الأب:
هل تعرف الدرب يا ابني؟.
ثم لا يكتفي بوضع الجواب على لسان الابن، على هذا الشكل:
ـ نعم، يا أبي.
بل يتبعه بكل هذه التفصيلات الشارحة:
شرقَ خرّوبةِ الشارع العامِّ
دربٌ صغيرٌ يضيقُ بصُبّارهِ
في البداية، ثم يسير إلى البئرِ
أوسعَ أوسعَ، ثم يُطلُّ
على كرم عمي "جميلْ"
بائعِ التبغِ والحَلَوِيَّات،
ثم يضيع على بيدرٍ قبل
أن يستقيم ويجلس في البيت،
في شكل بَبْغاءَ.
لا يكتفي الراوي بكل هذا الشرح للدرب من الابن، بل لا بد كذلك من شرح من الابن للأب عن تفصيلات البيت من الداخل. كأن الأب يمتحن ذاكرة ابنه، التي اصطنعها له طوال مراحل العودة المبكرة، التي استمرت متحققة في الوعي، رغم سنوات اللجوء السابقة:
ـ هل تعرف البيت، يا ولدي
ـ مثلما أعرف الدرب أعرفهُ:
ياسمينٌ يُطوِّق بوابةً من حديد
ودعساتُ ضوءٍ على الدرج الحجريِّ
وعبّادُ شمسٍ يُحدّق في ما وراء المكان
ونحلٌ أليفٌ يُعِدُّ الفطور لجدّي
على طبق الخيزران،
وفي باحة البيت بئرٌ وصفصافةٌ وحصان
وخلف السياج غدٌ يتصفّحُ أوراقنا.
يجب ألا ننسى أننا الآن نقرأ نصاً سردياً ـ حتى وهو يلبس ثوب الشعر ـ أي أننا نقرأ كلمات تنشئ لنا شخصياتٍ ورقيةً: فالكلمات ليست هي القصة، والشخصيات ليست حقيقية. إننا نخلق القصة والشخصيات ذهنياً، ومادتنا في ذلك هي الكلمات المطبوعة. أي أننا نمارس عملية استدلالية، تعودنا عليها في السابق. وهذا هو ما يجعل دور المتلقي إبداعياً، بشكل أو بآخر( ).
في قراءة السرد إذن، نترجم النص إلى حكي، باتباع الشفرات التي كنا قد تمثلناها. ولو أعدنا رواية القصة فستكون كالآتي:
يستمر الحوار، بين الأب والابن، ويستمر السفر إلى البيت، ونستمر ـ نحن المتلقين المدربين ـ في تصور مرور السنوات. وفي غضون ذلك يكبر الابن، ويشيخ الأب، ونحن لا نزال نتلقى، ونستمع إلى حوار يعيد إنتاج نفسه بطريقة مقلوبة، بالصورة الآتية:
ـ يا أبي، هل تعبت
أرى عرقاً في عيونكَ؟
ـ يا ابني تعبتُ... أتحملني؟
ـ مثلما كنتَ تحملني يا أبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أوّلي وإلى أوَّلِهْ
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري... وإلى آخرهْ!.
في السابق كان الأب هو الذي يحمل الابن، أما الآن فالابن هو الذي يحمل الأب، إلى بيت يعرف طريقه وتفصيلاته الداخلية وشكله الخارجي. نحن الآن ندرك ـ بخبراتنا القرائية ـ أننا في مواجهة حالة من حالات السيولة، حيث يؤبد الراوي اللحظة الحوارية، ويسمو بها إلى مرتبة العام، أو الجوهر. وإن استخدام الراوي لهذه التقنية لكفيل بإيقاف سيرورة الزمن، في وعي المتلقي، أو جعله يواصل السير ضمن أفق محدود لا يتعداه: فمهما طالت قراءتنا للحوار؛ فسوف يستمر الأب والابن مسافرين. هذا ما يدعوني ـ أيها السادة ـ إلى القول بأننا أمام حالة من حالات الزمن المستمر (time continuous): فالسرد يصر على إيقاف اللحظة العابرة، أو مواصلة عرضها، رغبة منه في منحها طابع الأبدية، أو القيمة المطلقة( ).
رابعاً: السرد الملحمي:
أول شيء يواجهنا في قصيدة (أحمد الزعتر)( )، هو صوت الراوي، الذي يعلن أنه سينشد قصة البطل الملحمي؛ مبتدئاً بتوجيه التحية، إلى صاحب اليدين من الحجر والزعتر:
ليدين من حجرٍ وزعترْ
هذا النشيدُ.. لأحمدَ المنسيِّ بين فراشتين.
إنه يتغنى ببطولة بطل لا مثيل له، إحدى يديه من الحجر ـ رمز الصلابة والقوة ـ والأخرى من الزعتر، رمز الخير والخضرة والصمود؛ فيما هو أثيري طائر بين فراشتين.. هوذا بطل يبتدعه الشاعر/ الراوي، من كل هذا التراكم الأسطوري الذي امتلأ به وعيه.
نحن إذن أمام بداية ذات علاقتين: تحية البدء، واختلاق البطل الخارق.
1. أما تحية البدء، فشنشنةٌ نعرفها من هوميروس، الذي ربما كان أول من سن للشعراء/ الرواة الابتداء بهذه التحية الغنائية، بين يدي السرد، حين قال في الأنشودة الأولى من (الإلياذة) ما يلي:
"تغني أيتها الربة بغضب أخيل بن بيليوس، ذلك الغضب المدمر الذي نكب الآخيين بآلام لا تُحصى، وبعث إلى هاديس بكثير من أرواح المحاربين الباسلة، وجعلها غنيمة للكلاب وشتى أنواع الطير. وبذا تحققت مشيئة زوس. ولتبدئي الغناء بقصة الشجار الذي اشتبك فيه ابن أتريوس ملك البشر مع أخيل الطيب"( ).
2. وأما اختلاق البطل الخارق، فعادة اعتادتها البشرية مذ عرفت فن السرد. لكن مزج هذا الخارق بالطبيعة، وجعله إحدى تجلياتها، ربما يمكن الزعم بأنه من اختراع الأديان، الوثنية والسماوية على حد سواء. ونحن لن ننسى أن تراثنا لا يزال يتغنى ـ بكثير من الحب الصوفي ـ بالخضر، الذي ينبت الزرع من وقع خطواته، وينهزم الأعداء تحت هول ضرباته( ).
وهنا في (أحمد الزعتر) نرى شيئاً قريباً من ذلك: إذ بعد أن يفرغ الراوي من تقديم التحية إلى البطل الأسطوري، نراه وقد أقام من نفسه شاعراً جوالاً ـ مثل سلفه العظيم هوميروس ـ يغني ملحمة قومه، ويحدثنا بما جرى للبطل وللعالم من حوله، بهذه الطريقة:
مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني
.. نازلا من نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل
البلاد وكانت السنة انفصال البحر عن مدن
الرماد وكنت وحدي
ثم وحدي...
آه يا وحدي؟
وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين.
مثل أي سرد ـ ملحمي أو روائي أو درامي ـ يوجد لدينا في هذه القصيدة شخصيات ومكان وزمان وحدث.
أما الشخصيات فهي:
1. الراوي الذي يسرد علينا بضمير المتكلم.
2. البطل الأسطوري الذي يمثل قوة الخير وامتداداته الكونية.
3. قوى الشر التي على البطل أن يصارعها.
وأما المكان فهو الكون كله (مضت الغيوم وشردتني/ ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني)، فيما يمثل المخيم بؤرته المتوترة، التي كثيراً ما تشارك في صنع الأحداث، على طريقة السرد الروائي الحديث (مخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين).
وأما الزمان فقد قام في القصيدة وفق علاقتين:
1. فمن ناحية أولى، هو امتداد لانهائي، يؤكد تشابه ما يجري اليوم، بكل ما يجري في كل وقت؛ حاضراً وماضياً ومستقبلاً (.. وكانت السنة انفصال البحر عن مدن/ الرماد).
2. وهو، من ناحية أخرى، زمنٌ متسارع قوامه حركة متواصلة، متولدة من العديد من الصور المتتابعة، حيث يستدعي الإيقاع إيقاعاً قريباً، وتستدعي الصورة صورة لها بها نسب وقربى، دون تضحية بالبنية الداخلية للقصيدة، كما نرى في هذا المقطع:
وأحمد
كان اغتراب البحر بين رصاصتين
مخيّما ينمو، وينجب زعتراً ومقاتلين
وساعدا يشتدّ في النسيان
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وأرصفة بلا مستقبلين وياسمين
كان اكتشاف الذات في العربات
أو في المشهد البحري
في ليل الزنازين الشقيقة
في العلاقات السريعة
والسؤال عن الحقيقة
في كل شيء كان أحمد يلتقي بنقيضه
عشرين عاما كان يسأل
عشرين عاما كان يرحل
عشرين عاما لم تلده أمّه إلا دقائق في
إناء الموز
وانسحبت.
الإيقاع في هذه القصيدة قوي وصاخب، يقارب طبول الحرب، ويشبه صخب علاقات الفلسطيني بالمحيط. والإيقاع كما نعلم سمة خاصة بالشعر، خصوصاً عندما يكون نشيداً، كما هو الحال هنا، بل كما أعلن الراوي منذ المفتتح (هذا النشيد لأحمد المنسي بين فراشتين).
لكن أهم سمات السردية تتجلى هنا في هذه الصور الحية المتتابعة، المستفادة من تقنية المونتاج السينمائية، والتي تبني عوالم زمانية ومكانية، متقطعة ومتلاصقة، فيها شخوص يتحركون:
1. فأحمد مغترب دائم بين رصاصتين (تنقل مستمر).
2. وهو مخيم ينمو وينجب زعتراً ومقاتلين (سيرورة الحياة وإرادة القتال).
3. وهو ساعد (قوة) يشتد في نسيان إساءات الإخوة في المحيط العربي.
4. كما أنه ذاكرة مستمدة من اغترابه الدائم في الأرصفة الخالية من المستقبلين والياسمين
وخلال كل ذلك، لا يني أحمد الزعتر يكتشف ذاته، في كل ما يواجهه. إنه يستفيد من كل شيء، في سبيل امتداده الكوني: خيراً وحباً وحياة دائمة.
بعد ذلك يتحول الشاعر إلى راوٍ ومفسر في آن، حين يقول لنا عن أحمد الزعتر بأنه:
يريد هويّة فيصاب بالبركان
1. فرغبة أحمد الزعتر في الهوية، يمكن للراوي أن بقدمها لنا من الخارج. أما البركان فلا يمكن له رؤيته من الخارج، لأنه توتر داخلي يمور في وعي الشخصية: أي أن أحمد، كلما أراد هوية ومقاماً، شعر بخطورة ذلك على قضيته!. وإنها لمعاناة وجودية قاسية هذه التي تقيم كل هذا التناقض، بين حاجات الفلسطيني اليومية، وانتمائه الوطني المهدد لدى أقل محاولة للاستقرار!. لكأن قدر الفلسطيني أن يظل مهجراً وملاحقاً.
2. وبعد هذا السطر الشعري، نرى الراوي يتراجع ـ كأي راوٍ في رواية ـ مفسحاً المجال أمام وعي الشخصية (أحمد) كي تقول هي:
سافرت الغيوم وشرّدتني
ورمت معاطفها الجبال وخبّأتني.
3. ثم يعود للتدخل السردي، حين ينقل لنا كلام أحمد على هذه الشاكلة:
أنا أحمد العربيّ ـ قال
أنا الرصاص البرتقال الذكريات
وجدت نفسي قرب نفسي
فابتعدت عن الندى والمشهد البحريّ
تل الزعتر الخيمة
وأنا البلاد وقد أتت
وتقمّصتني
وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد
وجدت نفسي ملء نفسي...
4. ثم يوقف الراوي أحمدَ عن الكلام، لينوب عنه في وصف أفعاله في المكان، على هذه الشاكلة:
راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه
5. لكن هذا الراوي لا يدع أحمد الزعتر يلتقي بضلوعه، دون أن يتدخل، لتفسير فيم كان هذا الالتقاء، فنراه يقول:
كان الخطوة ـ النجمة.
6. ثم نرى هذا الراوي العليم يلتفت إلى المحيط، لينقل لنا أفعال باقي الشخوص:
ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط
كانوا يعدّون الرماح
وأحمد العربيّ يصعد كي يرى حيفا
ويقفز.
7. وعندما تنجح المؤامرة، يصف لنا هذا الراوي المتربص سير الأحداث، بصيغة الزمن الحاضر، كأنه يقف مع أحمد في نفس المكان، إذ يقول:
أحمد الآن الرهينة
8. ثم يتخذ نفس وجهة نظر أحمد الأيديولوجية، حين يصف مشهد المؤامرة التي ينسج خيوطها الأشقاء، بقوله:
تركت شوارعها المدينة
وأتت إليه
لتقتله
ومن الخليج إلى المحيط، و من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدّون الجنازة
وانتخاب المقصلة.
الخلاصة:
لقد واصل محمود درويش رحلته، من الغنائي الخاص، إلى السردي العام ـ القصصي والدرامي والملحمي ـ بغية البحث عن إجابات لأسئلة شعبه الكبرى.
فقد رأيناه يقدم لنا قصيدة الديالوج، التي تعتمد على الحوار الخالص، في (إلى آخري وإلى آخره). وبذا فقد مزج الشعرية الغنائية بالمسرح.
كما رأيناه يستفيد من أحدث ما حققته السردية الروائية في العالم، في قصيدة (أبد الصبار) حين تنقل بوجهات نظر راويه المكانية والزمانية والأيديولوجية، مازجاً كل ذلك بتقنيات سينمائية لافتة، كما رأيناه يفعل في البدء وفي الختام.
ورأيناه يستخدم أخص خصائص السرد الحديث، وعلوم التحليل النفسي، حين مزج في قصيدته الأخيرة (على محطة قطار سقط عن الخريطة) بين صوت الراوي الخارجي وصوته الداخلي ـ تيار الوعي ـ ليقدم لنا محتويات الوعي قبل مرحلة الكلام المنظم عن قصد.
أما في قصيدة (أحمد الزعتر) فقد قدم لنا محمود درويش البطل الأسطوري، في شكل يقارب الملحمية ـ بل يلامسها ـ خصوصاً حين مزج الإيقاع الصاخب، الذي يشبه طبول الحرب، بالعديد من الصور الحية المتتابعة، التي تبني عوالم زمانية ومكانية، فيها شخوص يتحركون نحو الهدف العام، بكل القوة والصلابة والإصرار الذي يتميز به الأبطال الملحميون.
منقول