منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    السارد في القصيدة

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    السارد في القصيدة Empty السارد في القصيدة

    مُساهمة   السبت ديسمبر 12, 2009 8:46 am

    السارد في القصيدة والمسرود عنه
    يبني الفرزدق في قصيدته أسلوبا في السرد ، يعتمد فيه على الالتفات ، تتوزع فيه شبكة الساردين والمسرود عنهم على النحو التالي :
    السارد البيت المسرود عنه
    نحن 1 – إن الذي سمك السماء بنى لنا نحن
    2 – بيتا بناه لنا المليك
    3 – بيتا زرارة محتب بفنائه
    4 – يلجون بيت مجاشع
    أنا 5 – لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم هم / أنتم
    7 – ضربت عليك العنكبوت
    8 – أين الذين بهم تسامي دارما
    أنا 9 – يمشون في حلق الحديد هم
    10 – والمانعون إذا النساء هم
    نحن 11 – يحمي ... نساءنا
    17 – ضخم المناكب
    أنا 18 – وإذا دعوت بني فقيم هم
    23 – الأكثرون إذا يعد..
    أنا 24 – وزحلت عن عتب الطريق أنت
    أنا 25 – إن الزحام لغيركم أنتم
    نحن 26 – حلل الملوك لباسنا نحن
    27 – أحلامنا تزن الجبال
    أنا 28 – فادفع بكفك ..... أنت
    أنا 29 – وأنا ابن حنظلة .... أنا / نحن / هم
    " عشيرته "
    43 – وعشية الجمل المجلل ...
    أنا 44 – يا ابن المراغة .... أنتم / نحن
    أنا 45 – خالي الذي ..... هو
    أنا 46 – ولئن جدعت .... أنت
    نحن 47 – إنا لنضرب ... نحن
    أنا 49 – وشغلت عن حسب .... أنت
    أنا 50 – إن التي فقئت بها .... أنتم
    أنا 51 – وهب القصائد لي ... أنا
    62 – فيهن شاركني ....
    أنا 65 – إن استراقك يا جرير .... أنت
    104 – إن الحياة إلى الرجال .....
    لا تتوزع ضمائر المسرود عنهم هنا توزيعا عشوائيا ، بل تبدو كأن الفرزدق قد خطط لها مسبقا ليأتي كل ضمير سرد في موضعه من القصيدة ، ولكي تتبين خريطة توزيع الضمائر ، يجب أن تبحث عن الضمير المركزي فيها ، والضمير المركزي هنا ليس ضمير " نحن " على ما قد يظن المتلقي ، برغم أنه يبدو كذلك ، فهو الضمير الاستهلالي في القصيدة ، ونسبة تواتره فيها عال جدا ، برغم ذلك لا يمثل مركز الثقل في القصيدة ، الذي يمثل مركز الثقل فيها هو ضميري " أنت / أنتم " وكل القصيدة تقريبا تدور حولهما ، والفرزدق ينثرهما داخل القصيدة بطريقة مقصودة ليمارس عليهما أعلى تأثير ، تجد أحدهما موضوعا في أول ثلثين من القصيدة بين ضميرين يشيران دائما إلى الفرزدق أو إلى عشيرته أو أجداده ، كأنه بذلك يمارس ضغطا عليه من الجانبين ، ولا يحتل الضمير الذي يتحدث فيه عن عشيرته بيتا واحدا أو بيتين وإنما يحتل مساحة كبيرة من السرد ، وحين يريد الحديث عن جرير أو عشيرته ، فإنه يكتفي بالبيت أو البيتين ، ولقد استمر الفرزدق في لعبته هذه حتى البيت الثالث والأربعين ، ليبدأ بعد ذلك – في أبيات متبادلة – في الانتقال بين ضميري أنا وأنت ، حتى يصل إلى الثلث الأخير من القصيدة الذي يكرسه كله في الهجوم على جرير وعشيرته .
    لكن مشكلة السرد الشعري لا تقتصر فقط على خريطة توزيع ضمائر السرد داخل القصيدة ، ولا على النظام الذي يحكمه ، بل تتعدى ذلك إلى البحث عمن يتحدث في القصيدة ، وعم يتحدث ، وبخاصة أن هناك جملا في القصيدة تثير مشكلة عن طبيعة الموضوع الذي تطرحه ، في حالة السارد نحن هنا أمام أمر ملتبس ، هناك ضميران ظاهران في القصيدة هما " أنا " و " نحن " ، فإذا كان مفهوما أن يتحدث فرد بضمير " أنا " فكيف يمكن تفسير الحديث بضمير " نحن " التفسير الشائع هنا أن السارد الحقيقي هو " أنا " ، وهو الذي يتحدث بضمير الجمع " نحن " وهو تفسير قد يبدو مقبولا للوهلة الأولى ، لكن وقائع اللغة تقول إن الحاضر في القصيدة هو " نحن " وليس " أنا " . لا يحل هذا الإشكال إلا العودة إلى القضية المطروحة في كل جملة تستخدم ضمير نحن ، فإذا كان مسموحا للسارد أن يطرح ما يتفرد به على الآخرين في حالة استخدامه لضمير " أنا " ، فليس مسموحا له أن يفعل ذلك في حالة استخدامه لضمير " نحن " " نحن " هنا تعني المشترك بين أفراد عشيرته ، أما " أنا " فتعني المشترك كما تعني ما يتفرد به كل فرد ، لذلك جاز له أن يقول :
    وأنا ابن حنظلة الأغر وإنني في آل ضبة للمعم المخول
    وهو ما قد يقوله أي فرد آخر من أفراد عشيرته ، كما جاز له أن يقول :
    وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو اليزيد وذو القروح وجرول
    وهو ما ينفرد به دون سواه من أبناء عشيرته ، أما عم يتحدث ، فهناك جملة في مثل هذا البـيت :
    لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم أبدا إذا عد الفعال الأفضل
    يبدو أنها تحتمل قضيتين أساسيتين فيها ، فالشاعر هنا يتحدث عن قبيلته ، وهو هنا في مجال الفخر ، كما أنه يعرض بعشيرة جرير ، وهنا يكون في مجال الهجاء ، وهذه إحدى مشكلات المعنى من وجهة نظر تداولية كما سيتضح بعد ذلك .
    يتبع جرير أسلوبا مختلفا في التعامل مع ضمائر السرد في القصيدة ، فإذا كان الفرزدق يحاول أن يضغط على جرير من خلال وضعه بين ضميري " أنا / نحن " ، فإن جرير يفعل ذلك بأسلوب مختلف .
    لا يبدأ جرير قصيدته كما بدأها الفرزدق ، إنه يبدؤها بمقدمة غزلية تستوعب أبياتا عشرة ، ثم يدخل إلى " التيمة " الأساسية في القصيدة بدءا من البيت الحادي عشر ، وذلك على النحو التالي :
    السارد البيت المسرود عنه
    أنا 10 – أعدد للشعراء سما.. هم
    11 – لما وضعت على الفرزدق..
    أنا 13 – أخزى الذي سمك السماء.. هم
    أنا 14 – بيتا يحمم قينكم ..... أنتم
    أنا 15 – ولقد بنيت أخس بيت ... أنت
    أنا 16 – إني بني لي ...... نحن
    أنا 17 – أعيتك مأثرة القيون..... أنت
    أنا 19 – ودع البراجم.... أنت
    أنا 20 – إني انصببت..... أنا
    أنا 22- ولقد وسمتك.... أنت
    أنا 23 – حسب الفرزدق... هو
    أنا 25 – قتل الزبير وأنت.... أنت
    26 – وافاك غدرك بالزبير....
    أنا 27 - بات الفرزدق...... هو
    أنا 28 – أين الذين عددت... أنت
    29 – أسلمت جعثن....
    أنا 31 – لا تذكروا حلل الملوك.. أنتم
    32 – أبني شعرة.....
    أنا 33 – ما كان ينكر .... هم
    أنا 36 – إني إلى جبلي تميم.... نحن
    نحن 37 – أحلامنا تزن الجبال... نحن
    أنا 38 – فارجع إلى حكمي..... أنت
    39 – فاسأل إذا خرج الخدام...
    أنا 40 – والخيل تنحط بالكماة.... هم
    وهكذا تستمر القصيدة حتى نهايتها على هذا المنوال ، ما يُلاحظ هنا بدءا أن جرير لا يلجأ إلى السرد بصيغة الجمع إلا مرة واحدة ، عدا ذلك صوته هو الصوت الأكثر حضورا ، كما يبدو من ظاهر انتقالاته بين ضمائر مختلفة تخص المسرود عنهم أن هناك ارتباكا في هذه الانتقالات ، فلا يكاد جرير يستقر على " مسرود عنه " بعينه حتى يتحول إلى غيره ، ثم يعود إليه مرة أخرى ، لينتقل إلى ضمير ثالث ، على العكس من قصيدة الفرزدق التي تتوزع فيها ضمائر المسرود عنهم وفق تصور معين ، يمكن تفسير ذلك بأن هذا الاختلاف بين الشاعرين راجع إلى اختلافات أسلوبية بينهما ، ربما يبدو ذلك مقنعا ، لكن ما نراه هنا من اختلاف لا يرجع إلى الأسلوب بقدر ما يرجع إلى بنية القصيدة نفسها ، الفرزدق بنى قصيدته على هيئة معينة ، وجرير بناها على هيئة أخرى ، ربما بدت بنية القصيدة عند جرير مرتبكة ، لكن هذا الارتباك يعكس موقفا شديد الحذر منه في مواجهة الفرزدق ، فالرجلان – بحسب ما هو متواتر عنهما – مختلفان في أصولهما الاجتماعية ، الفرزدق ينتمي إلى عشيرة قوية وعريقة ومتشعبة وذات تاريخ كبير ، على حين لا تملك عشيرة جرير ذلك ، وهو – حسب ما ذكرت كتب التاريخ - من أصول اجتماعية متواضعة ، هنا لا يستطيع جرير أن يستخدم ضمير " أنا " أو " نحن " أو " هم " الذي يشير به إلى أجداده ، ويتوسع فيه مثلما فعل الفرزدق في قصيدته ، بحسبه أن يشير إلى " نحن " إشارات سريعة ، لذلك تجده يستخدم " أنا " في ضمير السارد في أغلب الأحيان ، ولم يلجأ إلى ضمير نحن إلا مرة واحدة ، وهو يكرس جزءا كبيرا من قصيدته في الهجوم على خصمه أو خصومه ، لذلك تكثر عنده ضمائر " أنت / أنتم / هم التي يشير بها إلى أجداد الفرزدق " أما الفرزدق فلديه ما يقوله عن نفسه ، كما أن لديه ما يقوله عن جرير ، لذلك كانت قصيدته أكثر ثراء ، ولتلاحظ أن الفرزدق يشير إلى عشرين اسم من أجداده ، كل واحد منها له قصة ، بينما يشير جرير إلى خمسة أسماء فقط .
    هذا العرض المفصل لمسارات الضمائر بأنواعها المختلفة في القصيدتين يشكل إجمالا ما يمكن تسميته موقع السارد الشعري ، وهو يشتبك هنا – كما يظهر – مع أسلوب الالتفات ، لكنه لا يتماهى معه ، فهناك مساحة من الاختلاف بينهما ، كما أن هناك مساحة من الاتفاق ، أما الاتفاق فباد من الانتقالات التي يقوم بها السارد بين جمل القصيدة ، وأما الاختلاف فهو في الموقع الذي يكون فيه كل من الأسلوبين ، السارد الشعري – حسب هذه القصائد – يتموضع في منعطفات النص الأساسية سواء بين الأبيات المفردة أو في كتل الأبيات التي يشكل كل منها " تيمة " أساسية داخل القصيدة ، أما الالتفات فيتوغل داخل الأبيات ليكون ظاهرة بين جمل النص نفسه ، وحتى أنه يتوغل إلى داخل الجملة الواحدة نفسها .
    وتثير مشكلة الانتقالات بين ضمائر السرد في الشعر مشكلة كبيرة ، لأن استخدام ضمير معين في السرد هو في الوقت نفسه موقف من العالم المحيط ، وهذا ما أدركته السرديات الروائية ، ففصلت بين السرد بضمير " أنا " والسرد بضمير الغائب ، ثم قسمت السرد بضمير الغائب إلى قسمين : الرؤية مع ، والرؤية من الخارج ، وأعطت السرد بضمير الغائب ميزة حتى أن عبارة السارد الإله تتواتر كثيرا في السرديات ، فما شأن السرد الشعري هنا ؟ وهل يمكن الاستفادة من قوانين السرد الروائي في تحليل تحولات الضمائر داخل القصيدة ؟
    إن ما تطرحه السرديات طرحا أساسيا أن السرد بضمير " أنا " سرد جواني إذا تعلق الأمر بالسارد نفسه ، وسرد براني إذا تعلق بالآخرين ، لكن كيف يمكن فهم السرد بضمير نحن ؟ وكيف يمكن فهم السرد بضميري " أنا / نحن " في مواجهة تنوع كبير من الضمائر " أنت / أنت / هم " ؟ وهل ما تقدمه سرديات الرواية صالح في هذا الصدد ؟ يقول الفرزدق في مستهل قصيدته :
    إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
    من الذي يتحدث هنا ؟ إنه الفرزدق يتحدث بلسان عشيرته ، وقد خولته أن يتحدث عن أحلامها وأوهامها وأمجادها وغزواتها وشرفها بين العشائر الأخرى ، كأن الصوت هنا صوت جماعي في مقابل صوت الشاعر الفردي ، والصوت الجماعي هنا يشبه أن يكون صوتا ملحميا داخل القصيدة الغنائية ، فيه بعض سمات الصوت الملحمي دون أن يكون هو تماما ، ولعل ما فعلته قبيلة تغلب مع قصيدة عمرو بن كلثوم ما يؤكد الطابع شبه الملحمي للصوت الجماعي داخل القصيدة ، حتى قال قائل فيهم :
    ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
    ومن نافلة القول هنا التأكيد على أن كل بيت فيه صوت جماعي داخل قصيدة الفرزدق أو قصيدة جرير يحصر مضمونه فيما هو مشترك بين أفراد العشيرة الواحدة ، في مقابل ذلك هناك صوت فردي داخل القصيدة ، وينحو هذا الصوت منحى آخر ، ويثير إشكالات كثيرة ، حين يقول الفرزدق مثلا :
    وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا وأبو اليزيد وذو القروح وجرول
    فإن ما يريد التأكيد عليه يتجاوز ما يمكن فهمه داخل البيت ، إن الهبة – كما يريد الإيحاء بذلك – خاصة به وحده ، إنه هو الذي يستحوذ على قصائد هؤلاء وغيرهم ممن عددهم في الأبيات التالية ، يريد أن يقول إنه الوريث الوحيد للتراث الشعري الجاهلي ، وهو ما توحي به كلمة " لي " ، على الرغم من أنه عاد في نهاية هذا الجزء من القصيدة ليشرك معه آخرين ، إن دعوته لا دليل عليها ، فجرير أيضا وريث للشعراء الجاهليين وكذلك الأخطل وغيرهما من الشعراء الأمويين ، والفرزدق يعرف ذلك ، فما الذي يدعوه إلى قول هذا ؟ إنه يريد أن ينزع الشاعرية عن جرير في معرض الهجاء المتبادل بينهما ، وصوته الفردي هنا صوت متوحش عدواني ، وكذلك صوت جرير متوحش وعدواني ، وهو ما يظهر في هذين البيتين :
    أعددت للشعراء سمــا ناقعــا فسقيـت آخرهــم بكـأس الأول
    لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
    لا يمكن فهم كلمة " سم " هنا بمعناها الحقيقي ، وهذا بدهي بدرجة كبيرة ، لكن ما الذي يحول دون ذلك ؟ وما هي عمليات التأويل التي تقود إلى التفسير غير الحقيقي لكلمة سم ؟ وإذا لم تكن سما على الحقيقة فماذا تكون ؟ لا يتحدث جرير في البيت الأول عن كل الشعراء ، بل عن مجموعة منهم ، ذكر بعضهم في البيت التالي ، وإذن فإن " ال " في كلمة الشعراء هي " ال " العهد وليست " ال " الجنس ، هنا يتحكم السياق الاجتماعي في التأويل إضافة إلى بعض مؤشرات لغوية تالية ، وما يمكن فهمه هنا ناتج عن معرفة قبلية عند متلقي النص ، هذه المعرفة القبلية تساعدنا على فهم كلمة " سم " ، فجرير يتحدث هنا عن قصائد أعدها ، وليس عن سم ، وهي قصائد هجاء عنيف فاحش ، لكن لماذا لجأ إلى الاستعارة التصريحية هنا ؟ أو لماذا عدل عن كلمة قصائد إلى كلمة سم ؟ هنا يعود جرير إلى وظيفة الشعر الأولى حين كان الشعر يتماهى مع السحر والكهانة ، وحين كانت كلمة الشاعر تؤثر إلى درجة الموت ، وهو ما تحدث عنه الجاحظ في كتاب الحيوان بالتفصيل ، وختم كلامه بهذه الجملة الدالة " ولأمر ما بكت العرب بالدموع الغزار من وقع الهجاء " ، القصيدة هي السم الناقع ، والشعر هو الموت ، والصوت الفردي هنا صوت متوحش قاس .
    لكن كيف يرى السارد الطرف الآخر ؟ كيف يرى الفرزدق جريرا وعشيرته ، والعكس ؟ هنا صوت السارد الشخصي الذي يخاطب آخر : فردا أو جماعة ، يقول الفرزدق :
    لا يحتبي بفنــاء بيتـك مثلهم أبدا إذا عد الفعــال الأفضل
    ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
    لا يتحدث الفرزدق هنا عن جرير نفسه ، ولا يدلف إلى أعماقه ، ولا يرى إلا ما يحاول أن يراه فيه : عشيرة جرير المتواضعة التي لا تضاهي عشيرة الفرزدق شرفا و رفعة ، هنا تغيب الشخصية ، وتتباعد الذات الفردية ليظهر في المواجهة جماعة يمثلها فرد في مواجهة جماعة يمثلها فرد آخر ، وما يقوله الفرزدق لجرير أو لعشيرته ، يقوله كذلك جرير ، وتتحول قصائد النقائض إلى ساحة قتال يحشد فيها كل فريق أعز ما لديه من أسلحة ووسائل تأثير ، والهدف دائما سحق الخصم ، وعلامة هذا السحق هي سيرورة شعره بين الناس .
    يكشف هذا العرض السابق للسارد الشعري في النقائض عن جملة من الأمور تتصل بقصيدة النقائض نفسها ، وتتصل بالقصيدة القديمة ، كما تتصل بالشعر العربي في مجمله ، أولى هذه الأمور أن تعدد الأصوات الظاهر في نص النقائض لم يكشف عن تعدد مماثل لعوالم النص ، فسواء أكان السرد بضمير أنا أو ضمير نحن ، وسواء أكان موجها إلى " أنت " أو " أنتم " أو " هم " فإنه ظل يراوح مكانه في منطقة محددة لا يكاد يخرج عنها : منطقة المشترك العام ، وقد أعطى بذلك انطباعا يمكن أن نسميه بكثير من الحذر " طابعا شبه ملحمي " هذا الطابع لم يكن حاضرا في وعي أصحابه ، فلم يطوروا قصائدهم ليخرجوا بها من نطاق هذا المشترك العام بين عشائرهم إلى المشترك العام بين جميع البشر ، لذلك ظلت القصائد تتحدث عن بطولات صغيرة ، وأحداث لا تهم إلا أصحابها ، ووقائع ارتبطت بتاريخ لا يهتم به إلا المتخصصون ، وأصبحت قراءة النقائض الآن تمثل عبئا على الدارسين ، بل على عامة قراء الشعر القديم ، ولم يبق منها إلا أبيات متناثرة في قصائد النقائض هي التي حفظتها كتب الأدب وتناقلتها ، ثاني هذه الأمور أن تعدد الأصوات في القصيدة لا يقتصر على النقائض ، بل يمتد إلى معظم الشعر القديم ، وإذا كانت قصيدة النقائض حصرت نفسها فيما هو مشترك عام بين عشائر الشعراء ، ولم تستطع توظيف تعدد الأصوات توظيفا ملائما ، فإن هناك قصائد كثيرة ، وشعراء كثر في الجاهلية وما بعدها استطاعوا أن يكشفوا عن وعي شديد بهذه الأداة ، وقدموا لنا رؤى مدهشة في ذلك ، ثالث هذه الأمور ما يتصل بالشعر العربي كله، ويبدو أن تعدد الأصوات أو فلنقل هنا الالتفات سمة في هذا الشعر ، كما أنه يمثل ظاهرة في النصوص الإبداعية ، وبخاصة القديمة منها ، وهنا لابد من وقفة أمام المصطلحين ، فقد ارتبط مصطلح تعدد الأصوات بميخائيل باختين ، وكان يعني به الطابع الحواري في النص الذي يجعله ملتقى لنصوص كثيرة ، وهو يمثل جذور مصطلح التناص الذي صكته كريستيفا ، أما الالتفات فإنه مصطلح بلاغي قديم حصر نفسه في تحولات الخطاب اعتمادا على استخدام الضمائر ، يبدو المصطلحان هنا أنهما يقفان على أرضيتين مختلفتين ، لكن هناك وجه شبه ظاهر بينهما ، هو أن الالتفات ينشئ تعددا في الأصوات بالمعنى القريب لهذا المصطلح دون أن يستوعب كل ما فيه من قضايا ، وعلى ذلك يمكن عد الالتفات جزءا من مصطلح تعدد الأصوات ، لكن إذا كان تعدد الأصوات ظاهرة في الخطاب اللغوي ، فإن الالتفات – وهو جزء منه – مجال تأثيره الكبير في الشعر والقرآن الكريم .

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 3:11 am