مـاذا يريـدون حقيقـة ؟!
إنها فتنة ممتدة هائجة!
فمن ينجو منها ؟
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
ماذا يجري في العالم الإسلامي !؟ إنه يمرّ بأقسى مرحلة في تاريخ الإسلام كله . إنه ظلام يمتد في فلسطين ، في دار فور ، في الصومال ، في العراق ، في أفغانستان ، في الشيشان ، في كوسفو ، في البوسنة ، في كشمير ، وفي غيــرها مـن بلاد الإسلام .
إنه ظلام يمتدّ من ناحية ، وانحسار للإسلام والحق من ناحية أخري ! بقاع لم يعد للإسلام فيها ذكر إلا قتل المسلمين ، أو مطاردتهم ، أو سجنهم لا لذنب ارتكبوه إلا أنهم مسلمون ! وديار تجفّفت فيه منابع الإسلام ، وديـار يُخنق فيها صوته ! والناس ساهون ! لا يفيقون ! وإذا أفاقوا ، فلا يكون ذلك إلا عند نزول العذاب الشديد عليهم خاصة ، فييجأرون ، ويستغيثون ، ويفرّون ، من استطاع الفرار ، ويركضون ، ويلهثون وراء آمال تطوى وسراب يغيب !
أكبر نسبة من اللاجئين في العالم كله هي من العالم الإسلامي ، تركوا ديارهم وأموالهم، وفرّوا إلى فضاء واسع . وأغنى بقاع الأرض خيراً وبركة هي أرض العالم الإسلامي نعماً من الله وابتلاءً : أيشكرون أم يكفرون ، أيفيقون وينهضون إلى عهدهم مع الله وأمانتهم وخلافتهم ، أم يغيبون في غفوة طويلة لا يوقظهم منها إلا العذاب والبلاء العظيم ؟!
ما الذي يجري في العالم الإسلامي اليوم ؟! كانت قضية فلسطين هي القضية الرئيسة ، والعالم الإسلامي الممزّق لم تكن قد غزته النكبات والفواجع كما نشهدها الآن ! ثم إذا بالفواجع تمتد وتتنقل من بلدٍ إلي بلدٍ ، ومازالت تمتدّ وتتسع !
كانت الحرب على العالم الإسلامي وعلى المسلمين وعلى الإسلام ممتّدة ثائرة منذ سنين طويلة 0 وقبل أكثر من عشرين عاماً كتبت مقالاً بعنوان : لماذا يعادون الإسلام ويحاربونه ؟! وبيّنت يومها رأيي في مقالتي تلك أن الإسلام الذي جاء به محمد r ، وهو دين جميع الأنبياء والمرسلين ، دين لا يتنازل عن حق ولا يساوم على حق ، وأن المجرمين في الأرض يعبدون أطماعهم ويريدون نهب ثروات الأرض ، لتغنى فئة وتفقر فئات . فوجدوا جداراً صلباً من الإسلام خلال تجارب طويلة في التاريخ ، لم يستطيعوا أَنْ يخترقوه . فوجدوا الحلّ في أن يزيحوا هذا الجدار الصلب ، إما بالفتنة يدخلونها في قلوب المسلمين ، أو بالحرب والقهر وعمليات الإبـادة ، أو تقسيم العالم الإسلامي وتمزيقه . ولكنهم ، لشدّة أطماعهم ولهفتهم على ثروات العالم الإسلامي ، قاموا بهذه الخطوات الثلاث معاً في وقت واحد ! وأسوأ ما نراه اليوم هو المجازر الملتهبة في نواح كثيرة من العالم الإسلامي ، والفتن التي يتلو بعضها بعضاً . أما المجازر والتدمير والقتل والسجون فإنها أمور بارزة للعيان ، أَشْعَرَت الكثيرين بظلم المجرمين وشدّة عُتُوِّهم وفسادهم ، أَما الفتن فخطرها أشد ، فقد كان من أوائل نتائجها أن أصبح المسلمون يقاتل بعضهم بعضاً ، كل طرف آخذ بصورة من صور الفتنة . انظر ماذا جرى ويجرى في أفغانستان والعراق ، والصومال ، ودارفور ، وفلسطين وغيرها .
أخذت تنشر بين المسلمين في السنوات الأخيرة عدة شعارات ، سبق طرحها ولكنها اشتدت الآن ، شِعارات تحمل الزخرف الذي يُغري والضلال الذي يُخْفى أو يُعْلن ! ولقد أثَّرت هذه الشعارات المضلِّلة والمصطلحات المضطربة والمذاهب المختلطة في واقع المسلمين حتى أصبح لها دعاةٌ وإعلام ودويّ ، وحتى كانت أحدَ الأسباب الرئيسة في تمزيق الأُمة شيعاً وأحزابـاً ، يصارع بعضها بعضاً ، حتى أُصِيبَت الأمة بهزائم تلو الهزائم ، وفواجع بعد فواجع ، ومازال ذلك كله ممتداً ومتزايداً .
ولكن كيف أثرت هذه المذاهب في واقع الأمة ، وكيف مزّقتها ، وكيف دوّت شعاراتها في الآذان والقلوب ، وكيـف غاب العهـد مع الله وأسسه وقواعده ؟!
إن المجرمين في الأرض كانوا يعملون منذ زمن بعيد ، يدرسون ويخططون ويعملون ! وكانوا يعملون على عدة جبهات في آن واحد . ولعلّ من أولى الجبهات كان محاربة اللغة العربية ومحاولة نزعها من بين المسلمين ، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً ، حتى استبدلوا بها لغة المعتدي الظالم : الإنكليزية أو الفرنسية أو الايطالية ، أو اللهجات العامية أو اللغات المحلية ، حتى صارت اللغة العربية غريبة بين أهلها المسلمين لا يكاد يحسنها الكثيرون . وقصة هذه المعركة مع اللغة العربية طويلة لا مجال لذكرها هنا . ولكن المهم أن الهدف من هذه المعركة أَن تكون ممهّدة لهدف آخر هو نزع القرآن الكريم من قلوب المسلمين ومن على ألسنتهم . فبعد أن تصبح اللغة العربية غريبة بين الملايين من المسلمين، يهجر هؤلاء المسلمون كتاب الله ويجهلونه شيئاً فشيئاً . وكلُّ ذلك كان يتمُّ بعمل منهجيٍّ مخطط له ومدروس ومُبّيّت ، حتى جاءت اللحظة التي عمّ فيها الجهل باللغة العربية وبالكتاب والسنة بين ملايين المسلمين ، تم أخذت القلوب تتعلّق بالدنيا ويغيب عنها تصّور الآخـرة والموت والحساب ، فقست القلوب . وفي هذه الحالة أصبح انتشار الأفكار اللادينّية بين المسلمين واسعاً ، مما زاد في الفتنة وامتدادها . ولكن الفتنة والخطر لم يقف عند افتتان بعض الناس وارتدادهم عن الإسلام ، ولكنها امتدّت إلى قلوب بعض المسلمين الذين يُصَلُّون ويصومون ويحجُّون ، ويؤدُّون بعض الشعائر . ولكن قلوبهم لم تعدْ تحمل صفاء الإيمان وصِدق العلم بمنهاج الله ، وإنما اختلطت لديهم التصورات والمبادئ والأفكار . وامتدت هذه الحالة إلى بعض الدعاة من المسلمين ، والى بعض العلماء والفقهاء ، الذين تحوَلوا من الدعوة إلى الله ورسوله وإلى الإسلام ، إلى الدعوة إلى المذاهب اللادينية في ألوانها المختلفة التي تعزل الإنسان عمليّاً عن الدار الآخرة والموت والبعث والحساب ، وتجعل الدنيا هي أكبر همها وأبعد غاياتها . وتصبح جهود الإنسان كلها تَصُبُّ في الدنيا ومصالحها ومتعها ، حتى لا يكاد يجد فسحة من الوقت ليفكِّر في نفسه وفي مصيره . وتُصبح غاية الإصلاح الذي يُنادى به هو إصلاح الدنيا ومتعها وزخرفها . وإذا بهذه الأجواء تفتح المنافذ والأبواب للمجرمين في الأرض ليتسلّلوا إلى قلوب العالم الإسلامي ، ليزيدوه فتناً واشتعالاً حتى تضعف قواه وتنهار مقاومته ، فيبدأ الزحف العسكري بجنـوده وسلاحه المدمّر ، ومكره وكيده ، وخداعه وكذبه ، فيحتل الأرض وينهب الثروات ويغتصب النساء ، ويُفسد في الأرض إفساداً عظيماً ، تحت شعارات الديمقراطية والحرّية والعدالة والمساواة ، حتى إذا استحكم وحكم طُوِيَتْ كلُّ الشعارات ، وطويت الحرّية وطويت العدالة ، وامتدت الهزائم والفواجع والمجازر في أرض المسلمين : سجون غوتنتنامو وسجن أبو غريب ، وسجون فلسطين ، ومجازر العراق وأفغانستان وغيرها .
وفي هذا الجو ، وقد وهنت النفوس وضعفَ إِيمانها ، سهل علي المجرمين في الأرض أن يشتروا كثيراً من هذه النفوس الرخيصة بدُريْهمات قليلة ، ليصبح ولاءُ هذه النفوس لهؤلاء المجرمين ، يرتبطون بهم سرّاً ثم علانية ، ويكفون المجرمين بعض أنشطتهم وإجرامهم وإفسادهم 0 ويصبح المسلمون حينئذٍ في بلاء عظيم وظلام ممتد ! أنظرْ كمْ اشترى هؤلاء المجرمون من النفوس التي هانت في العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال وغيرها0
وفي كتاب بوش محارباً " Bosh at War " ، يصف الكاتب عمليات الشراء بالتفصيل ، مع ذكر الأسماء والمبالغ والمساومات 0 وهذه النتيجة حتمية ، وقد نجحت الجهود في سحب الإيمان من القلوب بعد تجهيلها ثم إغرائها ثم فتنتها ، حتى أصبح المسلمون يحارب بعضهم بعضاً ، ويقتل بعضهم بعضاً ، تحت شعارات مختلفة متضاربة ، وقد يكون بينها شعار الإسلام يتخفى المفتونون به ، وقد خُدّروا بالفتنة وألوانها المتعدِّدة وأساليبها المتنوعة ووسائلها المتجدّدة0
ولعل من أَخطر الوسائل والأساليب نشر فتنة الجنس المتفلّت مع شعارات الحرية والديمقراطية والعلمانية ، ونشر الخمور ، والنساء العاريات ، وامتداد الفاحشة امتداداً رهيباً ، والجهر بها في مختلف وسائل الإعلام ، وحتى ينغمس فيها الشباب المراهقون ، وتُستْلّ مقاومتهم إلا من رحم الله ، وتمتلئ القلوب بالدنيا ومتعها ، وتشغل عن الآخرة ، ويتنافس الناس على الدنيا وزينتها في صراع محموم جنوني ، يدخـل فيه بعض المسلمين ليقتل بعضهم بعضاً في فواجع ونكبات ، ويُمزَّق المسلمون ، ليستبيح المجرمون في الأرض بيضتهم عندئذ :
فعن ثوبان رضي الله عنه عن الرسول r قال : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيتُ الكنزين الأحمر والأصفر ، وإني سألتُ ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنةٍ عامّة وأن لا يسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم . وإنّ ربي قال لي : إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد . وإني أَعْطَيتُ لأمتك أن لا أهلكهم بسَنـةٍ عامّة ، وأن لا أسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، أو قال : مَن بين أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ، وإنما أخاف على أُمتي الأئمة المضليّن ، وإذا وُضِع السيف في أمتي لم يُرفع عنها إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أُمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبيّ ، وأنا خاتم الأنبياء لا نبيّ بعدي 0 ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " .
[ رواه أبو داود وابن ماجه ، وروى بعضه مسلم وآخرون ] ([1])
هؤلاء المجرمون في الأرض ماذا يريدون ؟!
هؤلاء المجرمون يغلب على الظن أنهم لا يؤمنون حقّ الإيمان بدين أو بإِلاه ، إنما إلههم المصالح الماديّة وثروات الشعوب ، إلههم الدنيـا وزينتها ومتعها ، ملأت قلوبهم وأشغلتهم عن أي شيءِ آخر ، أشغلتهم عن التفكير بالدار الآخرة ، حتى يفجأهم الموت ولات ساعة مندم :
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )
[ المؤمنون :100،99]
من أجل ذلك يستغلون كل شي ، حتى الدين نفسه ، ويخضعونه لتأمين شهواتهم وأهوائهم ومصالحهم الدنيوية ، يطوّعون الدين إلى شعارات مزخرفة يخدعون بها الجماهير حتى يسهل انقيادها .
من أجل ذلك تراهم ، وهم دول علمانية يدّعون أنهم لا يؤمنون بالدين ، وأَن الدين قضية شخصية لكل إنسان ، تراهم يكوّنون الحركات التنصيرية وينفقون عليها ويتعّهدون رجالها ، لتكون هذه الحركات التنصيرية مع الشركات التجارية عملاً ممّهداً للغزو العسكري ، بعد أن تكون تلك الحركات والشركات وغيرها من الأجهزة والقوى اشترت النفوس ، وأشعلت الفتن ، وأثارت الناس بعضهم على بعض ، ونشرت الفساد والفاحشة والخمور ، حتى تتهاوى أمامهم الحصون والقلاع والنفوس .
إنهم يريدون نهب ثروات الشعوب وتقاسمها بينهم ، على أساس من ذلك يتخاصمون فيما بينهم أو يتعاونون ، ولكنهم أمام الإسلام متعاونون في عدائهم وحربهم ، دون أن يمنع ذلك وجود أناس من شعوبهم يعطفون على الإسلام أو ينظرون نظرة مختلفة في قليل أو كثير عن سادتهم المجرمين ، دون أن يُعطّل هذا الاختلاف مسيرة المجرمين . إن موقف الشعوب مهما قوي أو ضعف لم يُعطلْ مسيرتهم الإجراميـة في الأرض ، بل قد نجد منهم ما يُغذي هذه المسيرة الإجرامية ، وإن عارضها بعضهم فلا تأثير لصراخهم ومظاهراتهم وشعاراتهم .
في مؤتمر تنصيري كبير ، ولعله أكبر مؤتمر تنصيري يتمّ ، حضره أكبر الخبـراء في التنصير ، واجتمعوا في كولورادو في أمريكا ، واتخذوا عدة قرارات ، أكان أهمها : وجوب تحويل جميع مسلمي العالم إلى النصرانية !
فالنصرانية في واقعها اليوم لا تمثل رسالة عيسى عليه السلام ، فرسالته الإسلام ، دين جميع الأنبياء والمرسلين . والنصرانية لا تمنع الخمور ولا الفاحشة ولا العلمانية . ففي جميع المجتمعات الغربيّة تعيش النصرانية الحديثة في وئام وتناغم مع العلمانية والعولمة والديمقراطية وجرائمها وفواحشها وظلمها .
إذن ماذا يريدون من الإسلام ، ولماذا يحاربونه حرباً ممتدّة في التاريخ ، لا تكاد تهدأ حتى تثور ثانية أشدَّ وأعتى !
لقد عرف هؤلاء المجرمون من تاريخهم الطويل مع الإسلام أنه لم يقف أمام أطماعهم وجرائمهم إلا الإسلام الحق الذي جاء به محمد r في رسالته الخاتمة ، لقد وجدوا أنهم يمكنهم أن يساوموا ويشتروا ويبيعوا مع شعوب كثيرة إلا أمة الإسلام الواحدة التي تقف صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص متمسّكةً حقَّ التمسك برسالة محمد r ، مترابطين برباط أُخوة الإِيمان ، ولاؤهم الأول لله ، وعهدهم الأول مع الله ، وحبهم الأكبر لله ورسوله ، ولاءٌ وعهدٌ وحبٌ يبني بينهم أخوة الإيمان صافية صادقة ، يطلبون الدار الآخرة ورضوان الله والجنَّة ! هذه الأمة وقفت عبر التاريخ كله تنصر الله ورسوله ودينه ، لا تساوم على حقٍّ ، ولا تتخذ من دون الله أَنداداً ، ولا تُقيم في دنياها أوثاناً من مصالح وأهواء ورجال تعبدهم من دون الله !
هذه الأمة المسلمة الواحدة ، وهذا الدين الحق ، حاجةُ البشرية كلِّها لتمنع الظلم والفساد في الأرض ، ولينعم الناس حقاً بالحرية الطاهرة المنضبطة ، والعدالة الصادقة النابعة من منهاج الله . فذلك كله لا يمكن أن يقوم إلا بالإسلام الحق وفي الإسلام الحق !
لقد عرف هؤلاء المجرمون في الأرض أن هذه الأمة وهذا الدين هما العقبة الكبرى أمام أطماعهم وعدوانهم وجشعهم ! فقرروا إزاحة هذه العقبة من أمامهم باستخدام شتى الوسائل . وكان أولها ما ذكرناه قبل قليل ، إشاعة الفتن والجنس المتفلّت والفاحشة والخمر وسائر ما يفسد النفوس ، ثم محاربة اللغة العربية وكتاب الله وسنة رسوله r حتى يعمَّ الجهل بين المسلمين بلغة القرآن وبالقرآن والسنّة . ثمّ يتابعون وسائلهم وأساليبهم حتى يروا الغزوَ العسكري ضرورةً لتحطيم الأمة المسلمة الواحدة وتمزيقها بعد أن مهَّدت الوسائل الأخرى إلى ذلك . لقد خدّروا شعوبهم بكل وسائل التخدير من إباحة الفاحشة والجنس حتى أصبح ذلك جزءاً من القانون ومن واقعهم العلني . وبنفس الوسائل يريدون من المسلمين ، ولو مرحليّاً ، أن يُصَلُّوا ويصوموا ويحجُّوا ولا يقربوا السياسة أو الدفاع عن أنفسهم وأَرضهم وديارهم وأعراضهم بما يسميه الله سبحانه وتعالى " الجهاد في سبيل الله " فَمَنْ دافع عن شرفه وعرضه وداره فهو إرهابيٌّ شديد الخطر !
واختلطت المصطلحات ، وتاه الناس بينها ، حتى كأنه أصبح من المحرِّم أن نذكر لفظة الجهاد في سبيل الله ، أو الإسلام ، وغير ذلك مما هو محكم في دين الله . وعليك أن ترفع شعار الديمقراطية ، شعار العلمانية ، وأمثالها ، وتدافع عنها وتنشرها ، فإما أن تفعل ذلك خاضعاً مستسلماً ، وإِما أنت عدوّ للمجرمين يجب تصْفيتُك أو حِصارك أو تجميدك أو ... !
وأصبح الشعار : " إما أنت معي وإما أنت عدوّي " ! هذه هي الحرّية ، وهذه هي الديمقراطية ! لا رأي لك ولا حرّية لك إلا أن تكون " معي " مستسلماً صاغراً !
طرحوا من أجل ذلك شعاراتٍ كثيرةً ، دوّى بها الإعلام والندوات والمجالس ، بقي الناس حائرين ماذا يُراد منها وإلى أين تدفع الناس . لا بد أن نستعرض بعض هذه الشعارات والمصطلحات لنكون أمناء مع ربنا ومع أنفسنا ومع أمتنا ، لا نَخْدَع ولا نُخْدَع ، صرحاء واضحين مع الحجة والبيّنة !
أولاً : " مع الآخر " !
ماذا يُراد بالآخر ، وماذا يراد له ومنه . منهم من يقول يجب الاعتراف بالآخر ، ومنهم من يقول : يجب الاعتراف بحقوق الآخر ! ويبقى الآخر مجهولاً ، كلٌّ يرسم له صورة عنده . هل الآخر هم اليهود الذين اغتصبوا فلسطين ؟! هل هم النصارى الذين وقفوا مع الغزاة للعالم الإسلامي ؟! هل هو الذي يعلن كلمة الكفر مدوّيةً يسبُّ الله ورسوله ويعلن ذلك ؟! لقد اختلطت الصور والمعاني بين خوف ورجاء . لكننا نريد أن نوضِّح حقيقةً ثابتة في الواقع هي أنه لا يوجد " آخر " ضاعت حقوقه ويستحق أن يُعْرَفَ فلا يُنكر ، ويستحقُّ أن تردَّ إِليه حقوقه ، إلا " المسلم " اليوم . " فالمسلم " اليوم هو الوحيد الذي ضاعت حقوقه ، وطاف الأرض لاجئاً مستغيثاً ! هو الذي لا يُعَترف به ، وهو الغريب في داره وبين أهله ! فإذا كان هو الآخر الذي يُراد الاعتراف به وبحقوقه ، فذلك حق ! وليس في التاريخ البشريّ كله من أوفى حقوق الآخرين ورعاهم مثل الإسلام !
ثانياً " الإنسانية " :
شعار كان أول من رفعه الماسونيّة ، وانتشرت هذه اللفظة ليتخفّى وراءها أعتى المجرمين في الأرض ، ويضلَّل بها المغفّلون ، وليحشرها بعض العلماء والدعـاة والفقهاء حشراً في الإسلام بصورة غريبة .
إن مفهوم الإنسانية في الإسلام مفهوم يختلف كلية عن مفهومها لدى الماسونيّة والعلمانيين والليبراليين والديمقراطيين وغيرهم . وربما يتحدث بعض هؤلاء عن الإنسانيّة شعاراً ، من بقية فطرتهم التي فطرهم الله عليها والتي شوَّهوها وأفسدوها حتى انحرفت وطُمِستْ فيها معظم معاني الفطرة السويّة . والإِنسانية عندهم كلمة تخرج من أفواههم يتاجرون بها ، أو قاعدة يضعونها في بيان أو شعار لا رصيد لها في الواقع أَبداً . إنها كلمة وشعار لا يتمثل بخطوات تشريعية واقعية في ميدان الممارسة والتطبيق . أين الإنسانية في سجون غوانتنامو ، أو سجون العراق المحتل ، أو أعمال اليهود في فلسطين ، أو أعمال أمريكا وحلفائها في أفغانستان ؟!
الإنسانية الحقيقية لا يمكن أن توجد خارج الإسلام . إنها في الإسلام ، وفي الإسلام فقط ، لأنه دين من عند الله ، ولأنه دين الفطرة السليمة التي فطر الله الناس جميعاً عليها ، ولأن تشريعـه أقام الإنسانية عملياً في واقع الحياة ، ولأن الإسلام قدّم أروع النماذج العملية في تاريخه الطويل ، ابتداءً سيرة الرسول r ، وسيرة الخلفاء الراشدين ، وسيرة الصحابة والتابعين والصالحين على مرّ التاريخ ، ويبرأ الإسلام ونبرأ نحن من كلّ ظُلْمٍ وقع من أي مسلم في الأرض ، لأن الله حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّماً بين الناس ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
وأعجب جداً من أحد الفقهاء يكتب مقالة فيها اجتهادات كثيرة منحرفة عن الإسلام ، رددتُ عليها في حينها وعلى غيره في كتابي : " الانحراف " ! يقول في مقالته : إن الإسلام لم يُقرَّ أخوة الإيمان فقط بل أقر أخوة الوطنية وأخوة القومية وأخوة الإنسانية ، ثم استشهد بحديث نسبه إلى الرسول r رواه الإمام أحمد : " أنا شهيد على الناس إخوة في الإنسانية " . وبحثت في كل ما ورد عن الإمام أحمد فما وجدت لهذا الحديث أصلاً ولا أثراً . ويقول رجل آخر في إحدى الفضائيات في حوار له حول النشاط النووي هنا وهناك ، فلما سأله المحاور عن الدين ومدى استفادته منه وما موقعه من العرب والمسلمين ، قال كلاماً كثيراً جاء فيه ما معناه : أنا أعمل على صعيد دولـي ، ونعمل على أساس " الإنسانية ! وأي إنسانية يريدها صاحبنا ، إنسانية ، إنسانية اليهود أم أمريكا أم .. أم ... !؟ أصبحت لفظة الإنسانية شعاراً خالياً من أي معنى ، يتاجر بها الطغاة والمجرمون والمفلسون !
وشعار الإنسانية لم يَرد في التاريخ الإسلامي ليُتاجَر به ، وإِنما وردت الإنسانية في الإسلام تشريعاً كاملاً وتطبيقاً كاملاً ، حتى كأنّ الإسلام هو الإنسانية .
من خلال هذا الشعار قُتِلت الإنسانية ، وتسلَّل المجرمون إلى جرائمهم المريعة .
ثالثاً : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " :
شعار أطلقه دعاةٌ مسلمون وعلماء مسلمون يقصدون به أن لليهود والنصارى في حكم الإسلام ما للمسلمين ، ويزعمون كاذبين أن هذا حديث لرسول الله r ، وما كان لرسول الله r أن يقول ما يخالف كتاب الله وما يخالف أحاديثه الصحيحة والثابتة . الإسلام حفظ حقوق أهل الكتاب كما أمر الله ورسوله في أعلى درجة من العدل والرعاية والحماية ، ولكن لا يمكن أن يساوي المسلم بغير المسلم ، وقد جاءت النصوص من عند الله على غير ذلك . ولكن الذين افتروا هذه الفريّة إنما حرّفوا حديثاً صحيحاً لرسول الله r ، حَذفوا معظمه وأخذوا بآخر جملة فيه . فالحديث الصحيح : عن أنس رضي الله عنه عن الرسول r قال : " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم ، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " .
[ رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن حبان وغيره]([2])
وهذا هو معنى الآية الكريمة من سورة التوبة :
( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ التوبة : 10]
فهذا الشعار الذي أطلقوه افتراءٌ على الله ورسوله r . وكلُّ ما يُنسَب إلى الرسول r مخالفاً لكتاب الله أو لحديث صحيح فهو كذب وتحريف باطل . ففي ندوة فقهية على إحدى القنوات تحدّث أحد الفقهاء وردّد هذه المقولة مدَّعياً أنها جزء من عهد الرسول r إلى نصارى نجران . نعم إن هذا النص موجود في تلك الوثيقة التي لم تثبتْ صحتها وصدقها . وكما قال د. محمد حميد الله في كتابه " مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة " ، " أما الوثائق التي لا تشمل إلا على الحقوق دون الواجبات أو التي تذكر أشياء لم توجد في عصر النبيّ r فنعدّها موضوعة ، كبعض العهود التي زعموا أن النبي r كتبها للنصارى واليهود والمجوس " . ثم يفصّل د. محمد حميد الله ويضرب أمثلة على ذلك . ونحن نقول إنه مهما كانت الوثائق والأوراق ، ومهما كان مصدرها فإنها كذبٌ إذا خالفت نصّ القرآن الكريم أو الحديث الصحيح .
وهنا يثور السؤال : لماذا تواترت في هذه الآونة هذه المقولة على لسان بعض الدعاة والشيوخ ؟! أكان ذلك دفاعاً عن دين الله ؟! أم دفاعاً عن فئة ظالمةٍ اعتدت على حقوق الناس ولم يعتدِ أحد على حقوقها .
أم يريد بعضهم إثارة ذلك كجزء من مخطط كبير يهدف إلى تغيير واقع المسلمين إلى صورةٍ من صور العلمانية وعزل الإسلام عن الحياة !
فمن هذه الأمثلة وغيرها ندرك أن غاية الغرب العلماني في هجومه الجنونيّ على العالم الإسلامي ، أن يحوّل المجتمع الإسلامي إلى ما هم عليه من انحلال وفاحشة وفساد ، إلى العلمانية ، لينسلخ المسلمون عن دينهم . ولقد تواترت الأحداث والوقائع التي تشير إلى هذه النيّة الإجرامية الفاسدة ، ونسوا أن الله هو حافـظ دينه وكتابه والمؤمنين الصادقين أبد الدهر .
إنها فتنة كبيرة جداً ، ممتدَّة في التاريخ ، ولكنها اليوم آخذة بالاتساع والازدياد ، يقودها الغرب كله بقيادة أمريكا ، يريدون سلخ المسلمين عن دينهم ، وجعل المسلمين يلقُون سلاحهم ويستسلموا لهم ، ويتخلّوا عن أرضهم وثرواتهم !
إنها فتنة كبيرة ، تمضي على نهج وخطة ماكرة يديرها شياطين الإنس والجن في الأرض :
( .... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [ الأنفال : 30 ]
فهل يستيقظ المسلمون ، ويعودون إلى ربهم يلجؤون إليه صادقين تائبين منيبين إليه ، فعسى أن ينقذنا الله إن صدقنا وأوفينا .
إنهم يريدون أن يصبح المسلمون مثلهم علمانيين ، يفضِّلون الدنيا على الإيمان بالله واليوم الآخر والدار الآخرة ، يؤثرون الدنيا على الآخرة ! فذلك ما أشار إليه القرآن الكريم في آيات نأخذ قبساتٍ منها :
( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ..... ) [ البقرة : 109]
( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ آل عمران : 69]
( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ...)
[ النساء : 89]
إنّ هذه الآيات الكريمة لتكشف حقيقة المعركة الدائرة في التاريخ البشري ، والدائرة اليوم . إنها محاولة أولئك عزل الإيمان عن الحياة الدنيا ، وتصوير التقدّم والحضارة مجرد عمائر وعلم مادي وترف وبذخ لطائفة من الناس ، وفقرٍ وقهرٍ لطوائف أخرى ، خدراً يخدّر الجميع :
( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) [الزخرف : 33ـ35]
هنا لا بد أن يقف كلُّ إنسان عاقل منصف ليفكر في لحظات الموت التي يفارق فيها كلَّ متاع الحياة الدنيا إِلى حفرة يهالُ عليه فيها التراب ، ثم يغادره الأهلون والأصحاب ويبقى وحده ليلاقي شيئاً جديداً . شيئاً إنه من علم الغيب ! كلّ علوم الإنسان ووسائله لا تستطيع أن تكشف أيَّ شيءٍ من ذلك ، من علم الغيب ، ولا مصدر لمعرفته إلا من الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله على مرّ التاريخ يدعون الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ويدينون بدين واحد هو الإسلام ، حتى ختموا بالنبي الخاتم محمد r :
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) [ النحل :36]
من هنا ، مما أوحى به الله لعباده المرسلين نعرف بعضاً من نبأ الغيب ، فالغيب لا يعلمه إلا الله :
( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) [ النمل : 65]
والذين ينكرون الغيب ، لا ينكرونه إلا بالظنّ والوهم ، فليس لديهم أيُّ علم يبنون عليه إنكارهم للغيب ، فلا حجّة لديهم أبداً :
( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) [ النجم : 28]
ولقد عُرِف الأنبياء والمرسلون بخصائص رئيسة : أنهم لا يكذبون ، على مستوى عالٍ متميّز من الخلق والعقل ، مع كل رسول آية معجزة تصديقاً له ، ورسالة يوحى بها إليه من عند الله ليبلّغها لقومه خاصّة ، وأما محمد r خاتم الأنبياء والمرسلين فقد بعثه الله للعالمين ، للناس كافة ، ليحمل رسالته من بعده أمَّتُه التي اختارها الله خير أمة أخرجت للناس : فحجّة الرسل والأنبياء معهم : صدقُ بلاغ ، معجزاتٌ وبرهان ، يخاطبون الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، آيات بيّنات في السمـوات والأرض وفي أنفسنا ! أما أولئك المنكرون فمالهم من حجة إلا الظن والوهم !
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... ) [ آل عمران : 110]
هذه هي أهم خصائص الأمة التي اختارها الله لتكون خير أمة : تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله ... ! فأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس الإيمان بالله فهو تبليغ رسالة الله إلى الناس كافّة وتعهّدهم عليها ، تبليغها إلى الناس كافّة كما أنزلت على محمد r .
ولقد جعلنا نهج مدرسة لقاء المؤمنين نهجاً يحقّق تبليغ ذلك تبليغاً دقيقاً وتعهّداً كاملاً ، نسأل الله المغفرة والقبول والهداية والتثبيت !
رابعاً : الإسلام والعروبة :
منذ القرن التاسع عشر اشتد التغنّي بالعروبة من خلال دعوة تسلخ المسلم عن دينه :
بـلاد العـرب أوطانـي
مـن الشـام لبغـدان
ومـن نجـدٍ إلى يمـنٍ
إلى مصـر فتطـوانٍ
فـلا حـدٌّ يبـاعـدنـا
ولا ديـنٌ يـفـرّقنـا
لسان الضـاد يجمعنـا
بغـسـان وعـدنـان
وانتشرت هذه الأناشيد وأمثالها انتشار النار في الهشيم ، بصورة عجيبة غريبة ، لا تكاد تدرك ما هي القوى التي تنشرها وتغذّيها ، قوى خفيّة وقوى ظاهرة ، وجرأة غريبة ، وأما المسلمون فغائبون لا يبلّغون دينهم ورسالتهم كما أمرهم الله ! ولا يبذلون الجهد الحق ! وإن دعوا إلى شيء من الإسلام ، فإنما يدعون إليه مع شيء من التحريف يسمونه الاجتهاد ، ولكنه اجتهاد ظاهر الخلل والانحراف . وكان أول أثر هذه الدعوة العروبية أن انسلخ بعض المسلمين عن دينهم ، وتمسّك النصارى بدينهم وضاعفوا جهدهم في حركات تنصيرية ممتدّة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، يجعلون " دعوى العروبة " باباً لسلخ المسلم من دينه أولاً ، ثم إغرائه بالنصرانية ، وما يدّعون من افتراءات ومصالح مادية دنيوية ، يغذّي ذلك ويحميه قوى كبيرة في الأرض ، قوى الغرب العلماني الديمقراطي العولمي ! وفُتِن كثير من المسلمين عن دينهم . ومنهم من اكتشف الحقيقة بعد سنوات طويلة فعاد ، وهم قلة ، ومنهم من مضى في ضلاله يضع جهده كله في خدمـة النصْرانيّة والعلمانية والديمقراطية تحت شعار الإسلام .
هذه إحدى مظاهر الفتنة الكبيرة ، لأنها تمسُّ مصالح قريبة من النفس ، قضايا فطريَّة حرّفوها وشوّهوها . ثم تكونت حركات سياسية وأحزاب وشيع تركت الإسلام ، وأخذت تدعو إلى : القومية العربيّة ، البعث الاشتراكي ، ... !
نعم إن الله سبحانـه وتعالى أكرم العرب وشرّفهم باختيار خاتم الرسل منهم ، وكذلك باختيار لغتهم ـ اللغة العربية ـ لتكون لغة المسلمين ، لغة كل مسلم . ولكن الله سبحانه وتعالى حرّم في الوقت نفسه أن يَتحول هذا التكريم والتشريف إلى عصبية جاهلية تمزّق المسلمين أحزاباً وشيعاً . وكان أمر الله لرسوله وللمؤمنين واضحاً وحاسماً :
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [ الروم : 30ـ32 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : " إن الله عزّ وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء ، مؤمن تقيُّ وفاجر شقيّ . أنتم بنو آدم ، وآدم من تراب ، ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام ، إنما هم فحمٌ من فحم جهنم ، أو لَيَكُوننَّ أهونَ على الله من الجُعْلان التي تدفع بأنفها النتن " [ أخرجه أبو داود والترمذي ] ([3])
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول r قال : " من قاتل تحت راية عِمِّيَّة ، يدعو إلى عصبية ، أو يغضب إلى عصبية ، فقتله (فقتاله) جاهلية " [ رواه ابن ماجه ومسلم والنسائي ] ([4])
وكان من العرب من حارب الله ورسوله ، ومن نزل به حكم الله فكان مصيره إلى جهنم وساءت مصيراً ، مثل أبي لهب ، وغيره . فلم يكن تكريم العرب لدمهم أو عرقهم ، فقد أكد الله سبحانه وتعالى أنه رب الخلائق أجمعين لا يفضل عرقاً على عرق ، وإنما التفاضل بالتقوى والطاعة والتزام الإسلام :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [ الحجرات : 13]
وفي خطبته r في حجة الوداع ، حيث جاء فيها :
" أيّها الناس : إِن ربكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربيّ على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى ، ألا هل بلّغت ؟! اللهمّ اشهد ! قالوا : نعم ! قال : فليبلّغ الشاهدُ الغائب " ([5])
ولكن هذا التكريم للعرب كما ذكرناه باختيار خاتم الأنبياء منهم وباختيار اللغة العربية لغة الرسالة للعالمين ، تكريم قائم ما داموا يتنافسون مع غيرهم بالتقوى ، وبالتقوى فقط ، وبحمْلِ الرسالة كما حملوها أول مرّة . فإن تراخوا عن ذلك ، ولم يلتزموا أمر الله وأمر رسوله عن إيمان صاف صادق ، فلا يعود لهم من التشريف والتكريم حق ، ويستبدل الله قوماً غيرهم !
( ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [ محمد : 38]
ويظل النداء الربّاني مدوّياً في الكتاب والسنة : أطيعوا الله ورسوله ! أطيعوا الله ورسوله ! أطيعوا الله ورسوله ! لتكون هذه الطاعة هي أساس التقوى ، ومصدرَ كلّ قوة ، وبابَ كلِّ نجاة ، وبغيرها يُفقد ذلك كله .
خامساً : المواطنة :
وانتشر هذا المصطلح ، وأخذ يدعو إليه بعض الدعاة المسلمين ، حتى قال بعضهم : " إن أُخوّة الإيمان ، وأهل الكتاب ، والمسلمين ، هذه أمور كانت عندما كان للإسلام دولة ، أما اليوم فلا دولة للإسلام ، فهذه كلها أصبحت قضايا تاريخية ، وأصبح الوطن اليوم للجميع من يهود ونصارى لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " ! لم يعد أعداء الله من المجرمين في الأرض بحاجة أن يبذلوا الجهود للدعوة إلى ذلك ، فقد كفاهم بعض المسلمين مؤونة ذلك !
إن الإسلام أعاد صياغة جميع العلاقات البشرية صياغة إيمانيّة ربانيّة لتظلَّ القضيّة الأولى في حياة البشرية هي قضية الإيمان والتوحيد ، قضية الدار الآخرة ، قضية الموت والبعث والحساب والجنة والنار .
ويريد العلمانيون أن يسخّروا العلاقات البشرية من وطنية ، وقومية ، وإقليمية ، وعائلية ، وحزبية ، لتظلّ القضية الأولى في حياة البشرية هي الدنيا ، والحياة الدنيا وزينتها ، وزخارفها ، ولهوها وفجورها :
نهجان قد ميّـز الرحمـن بينهمـا
نهجُ الضلال ونهجُ الحقّ والرشَـدِ
لا يجمع الله نهـج المؤمنـين على
نهج الضـلالِ ولا صدقاً على فَنَـدِ
إنه ابتلاء من الله لعباده ، ليختار كلُّ إنسان السبيل الذي يريده ثم يلقى الجزاء العادل الحق ، فمن آمن واهتدى فجزاؤه الجنّة ، ومن ضلّ وكفر فجزاؤه جهنم خالداً فيها :
( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) [ الكهف :30،29 ]
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سنن أبي داود : 29/1/4252 . ابن ماجه في كتاب الفتن باب ما يكون منها رقم 3952 ، مسلم رقم 2889 في الفتن ، الترمذي في الفتن رقم : 2203 .
(1) صحيح ابن حبان : ج13 ص 215 رقم 5895 .
(1) سنن أبي داود : 35/120/5116 ، الترمزي : 50/75/3955 ، 3956 .
(2) ابن ماجه : 31/7/3996 ، النسائي : 27/28/4115 .
(1) جمهرة خطب العرب : ج1 : ص : 157 .
إنها فتنة ممتدة هائجة!
فمن ينجو منها ؟
بقلم الدكتور عدنان علي رضا النحوي
ماذا يجري في العالم الإسلامي !؟ إنه يمرّ بأقسى مرحلة في تاريخ الإسلام كله . إنه ظلام يمتد في فلسطين ، في دار فور ، في الصومال ، في العراق ، في أفغانستان ، في الشيشان ، في كوسفو ، في البوسنة ، في كشمير ، وفي غيــرها مـن بلاد الإسلام .
إنه ظلام يمتدّ من ناحية ، وانحسار للإسلام والحق من ناحية أخري ! بقاع لم يعد للإسلام فيها ذكر إلا قتل المسلمين ، أو مطاردتهم ، أو سجنهم لا لذنب ارتكبوه إلا أنهم مسلمون ! وديار تجفّفت فيه منابع الإسلام ، وديـار يُخنق فيها صوته ! والناس ساهون ! لا يفيقون ! وإذا أفاقوا ، فلا يكون ذلك إلا عند نزول العذاب الشديد عليهم خاصة ، فييجأرون ، ويستغيثون ، ويفرّون ، من استطاع الفرار ، ويركضون ، ويلهثون وراء آمال تطوى وسراب يغيب !
أكبر نسبة من اللاجئين في العالم كله هي من العالم الإسلامي ، تركوا ديارهم وأموالهم، وفرّوا إلى فضاء واسع . وأغنى بقاع الأرض خيراً وبركة هي أرض العالم الإسلامي نعماً من الله وابتلاءً : أيشكرون أم يكفرون ، أيفيقون وينهضون إلى عهدهم مع الله وأمانتهم وخلافتهم ، أم يغيبون في غفوة طويلة لا يوقظهم منها إلا العذاب والبلاء العظيم ؟!
ما الذي يجري في العالم الإسلامي اليوم ؟! كانت قضية فلسطين هي القضية الرئيسة ، والعالم الإسلامي الممزّق لم تكن قد غزته النكبات والفواجع كما نشهدها الآن ! ثم إذا بالفواجع تمتد وتتنقل من بلدٍ إلي بلدٍ ، ومازالت تمتدّ وتتسع !
كانت الحرب على العالم الإسلامي وعلى المسلمين وعلى الإسلام ممتّدة ثائرة منذ سنين طويلة 0 وقبل أكثر من عشرين عاماً كتبت مقالاً بعنوان : لماذا يعادون الإسلام ويحاربونه ؟! وبيّنت يومها رأيي في مقالتي تلك أن الإسلام الذي جاء به محمد r ، وهو دين جميع الأنبياء والمرسلين ، دين لا يتنازل عن حق ولا يساوم على حق ، وأن المجرمين في الأرض يعبدون أطماعهم ويريدون نهب ثروات الأرض ، لتغنى فئة وتفقر فئات . فوجدوا جداراً صلباً من الإسلام خلال تجارب طويلة في التاريخ ، لم يستطيعوا أَنْ يخترقوه . فوجدوا الحلّ في أن يزيحوا هذا الجدار الصلب ، إما بالفتنة يدخلونها في قلوب المسلمين ، أو بالحرب والقهر وعمليات الإبـادة ، أو تقسيم العالم الإسلامي وتمزيقه . ولكنهم ، لشدّة أطماعهم ولهفتهم على ثروات العالم الإسلامي ، قاموا بهذه الخطوات الثلاث معاً في وقت واحد ! وأسوأ ما نراه اليوم هو المجازر الملتهبة في نواح كثيرة من العالم الإسلامي ، والفتن التي يتلو بعضها بعضاً . أما المجازر والتدمير والقتل والسجون فإنها أمور بارزة للعيان ، أَشْعَرَت الكثيرين بظلم المجرمين وشدّة عُتُوِّهم وفسادهم ، أَما الفتن فخطرها أشد ، فقد كان من أوائل نتائجها أن أصبح المسلمون يقاتل بعضهم بعضاً ، كل طرف آخذ بصورة من صور الفتنة . انظر ماذا جرى ويجرى في أفغانستان والعراق ، والصومال ، ودارفور ، وفلسطين وغيرها .
أخذت تنشر بين المسلمين في السنوات الأخيرة عدة شعارات ، سبق طرحها ولكنها اشتدت الآن ، شِعارات تحمل الزخرف الذي يُغري والضلال الذي يُخْفى أو يُعْلن ! ولقد أثَّرت هذه الشعارات المضلِّلة والمصطلحات المضطربة والمذاهب المختلطة في واقع المسلمين حتى أصبح لها دعاةٌ وإعلام ودويّ ، وحتى كانت أحدَ الأسباب الرئيسة في تمزيق الأُمة شيعاً وأحزابـاً ، يصارع بعضها بعضاً ، حتى أُصِيبَت الأمة بهزائم تلو الهزائم ، وفواجع بعد فواجع ، ومازال ذلك كله ممتداً ومتزايداً .
ولكن كيف أثرت هذه المذاهب في واقع الأمة ، وكيف مزّقتها ، وكيف دوّت شعاراتها في الآذان والقلوب ، وكيـف غاب العهـد مع الله وأسسه وقواعده ؟!
إن المجرمين في الأرض كانوا يعملون منذ زمن بعيد ، يدرسون ويخططون ويعملون ! وكانوا يعملون على عدة جبهات في آن واحد . ولعلّ من أولى الجبهات كان محاربة اللغة العربية ومحاولة نزعها من بين المسلمين ، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً ، حتى استبدلوا بها لغة المعتدي الظالم : الإنكليزية أو الفرنسية أو الايطالية ، أو اللهجات العامية أو اللغات المحلية ، حتى صارت اللغة العربية غريبة بين أهلها المسلمين لا يكاد يحسنها الكثيرون . وقصة هذه المعركة مع اللغة العربية طويلة لا مجال لذكرها هنا . ولكن المهم أن الهدف من هذه المعركة أَن تكون ممهّدة لهدف آخر هو نزع القرآن الكريم من قلوب المسلمين ومن على ألسنتهم . فبعد أن تصبح اللغة العربية غريبة بين الملايين من المسلمين، يهجر هؤلاء المسلمون كتاب الله ويجهلونه شيئاً فشيئاً . وكلُّ ذلك كان يتمُّ بعمل منهجيٍّ مخطط له ومدروس ومُبّيّت ، حتى جاءت اللحظة التي عمّ فيها الجهل باللغة العربية وبالكتاب والسنة بين ملايين المسلمين ، تم أخذت القلوب تتعلّق بالدنيا ويغيب عنها تصّور الآخـرة والموت والحساب ، فقست القلوب . وفي هذه الحالة أصبح انتشار الأفكار اللادينّية بين المسلمين واسعاً ، مما زاد في الفتنة وامتدادها . ولكن الفتنة والخطر لم يقف عند افتتان بعض الناس وارتدادهم عن الإسلام ، ولكنها امتدّت إلى قلوب بعض المسلمين الذين يُصَلُّون ويصومون ويحجُّون ، ويؤدُّون بعض الشعائر . ولكن قلوبهم لم تعدْ تحمل صفاء الإيمان وصِدق العلم بمنهاج الله ، وإنما اختلطت لديهم التصورات والمبادئ والأفكار . وامتدت هذه الحالة إلى بعض الدعاة من المسلمين ، والى بعض العلماء والفقهاء ، الذين تحوَلوا من الدعوة إلى الله ورسوله وإلى الإسلام ، إلى الدعوة إلى المذاهب اللادينية في ألوانها المختلفة التي تعزل الإنسان عمليّاً عن الدار الآخرة والموت والبعث والحساب ، وتجعل الدنيا هي أكبر همها وأبعد غاياتها . وتصبح جهود الإنسان كلها تَصُبُّ في الدنيا ومصالحها ومتعها ، حتى لا يكاد يجد فسحة من الوقت ليفكِّر في نفسه وفي مصيره . وتُصبح غاية الإصلاح الذي يُنادى به هو إصلاح الدنيا ومتعها وزخرفها . وإذا بهذه الأجواء تفتح المنافذ والأبواب للمجرمين في الأرض ليتسلّلوا إلى قلوب العالم الإسلامي ، ليزيدوه فتناً واشتعالاً حتى تضعف قواه وتنهار مقاومته ، فيبدأ الزحف العسكري بجنـوده وسلاحه المدمّر ، ومكره وكيده ، وخداعه وكذبه ، فيحتل الأرض وينهب الثروات ويغتصب النساء ، ويُفسد في الأرض إفساداً عظيماً ، تحت شعارات الديمقراطية والحرّية والعدالة والمساواة ، حتى إذا استحكم وحكم طُوِيَتْ كلُّ الشعارات ، وطويت الحرّية وطويت العدالة ، وامتدت الهزائم والفواجع والمجازر في أرض المسلمين : سجون غوتنتنامو وسجن أبو غريب ، وسجون فلسطين ، ومجازر العراق وأفغانستان وغيرها .
وفي هذا الجو ، وقد وهنت النفوس وضعفَ إِيمانها ، سهل علي المجرمين في الأرض أن يشتروا كثيراً من هذه النفوس الرخيصة بدُريْهمات قليلة ، ليصبح ولاءُ هذه النفوس لهؤلاء المجرمين ، يرتبطون بهم سرّاً ثم علانية ، ويكفون المجرمين بعض أنشطتهم وإجرامهم وإفسادهم 0 ويصبح المسلمون حينئذٍ في بلاء عظيم وظلام ممتد ! أنظرْ كمْ اشترى هؤلاء المجرمون من النفوس التي هانت في العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال وغيرها0
وفي كتاب بوش محارباً " Bosh at War " ، يصف الكاتب عمليات الشراء بالتفصيل ، مع ذكر الأسماء والمبالغ والمساومات 0 وهذه النتيجة حتمية ، وقد نجحت الجهود في سحب الإيمان من القلوب بعد تجهيلها ثم إغرائها ثم فتنتها ، حتى أصبح المسلمون يحارب بعضهم بعضاً ، ويقتل بعضهم بعضاً ، تحت شعارات مختلفة متضاربة ، وقد يكون بينها شعار الإسلام يتخفى المفتونون به ، وقد خُدّروا بالفتنة وألوانها المتعدِّدة وأساليبها المتنوعة ووسائلها المتجدّدة0
ولعل من أَخطر الوسائل والأساليب نشر فتنة الجنس المتفلّت مع شعارات الحرية والديمقراطية والعلمانية ، ونشر الخمور ، والنساء العاريات ، وامتداد الفاحشة امتداداً رهيباً ، والجهر بها في مختلف وسائل الإعلام ، وحتى ينغمس فيها الشباب المراهقون ، وتُستْلّ مقاومتهم إلا من رحم الله ، وتمتلئ القلوب بالدنيا ومتعها ، وتشغل عن الآخرة ، ويتنافس الناس على الدنيا وزينتها في صراع محموم جنوني ، يدخـل فيه بعض المسلمين ليقتل بعضهم بعضاً في فواجع ونكبات ، ويُمزَّق المسلمون ، ليستبيح المجرمون في الأرض بيضتهم عندئذ :
فعن ثوبان رضي الله عنه عن الرسول r قال : " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإنّ أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ، وأعطيتُ الكنزين الأحمر والأصفر ، وإني سألتُ ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنةٍ عامّة وأن لا يسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم . وإنّ ربي قال لي : إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد . وإني أَعْطَيتُ لأمتك أن لا أهلكهم بسَنـةٍ عامّة ، وأن لا أسلّط عليهم عدوّاً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، أو قال : مَن بين أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً ، وإنما أخاف على أُمتي الأئمة المضليّن ، وإذا وُضِع السيف في أمتي لم يُرفع عنها إلى يوم القيامة ، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد قبائل من أُمتي الأوثان ، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبيّ ، وأنا خاتم الأنبياء لا نبيّ بعدي 0 ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرّهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " .
[ رواه أبو داود وابن ماجه ، وروى بعضه مسلم وآخرون ] ([1])
هؤلاء المجرمون في الأرض ماذا يريدون ؟!
هؤلاء المجرمون يغلب على الظن أنهم لا يؤمنون حقّ الإيمان بدين أو بإِلاه ، إنما إلههم المصالح الماديّة وثروات الشعوب ، إلههم الدنيـا وزينتها ومتعها ، ملأت قلوبهم وأشغلتهم عن أي شيءِ آخر ، أشغلتهم عن التفكير بالدار الآخرة ، حتى يفجأهم الموت ولات ساعة مندم :
( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )
[ المؤمنون :100،99]
من أجل ذلك يستغلون كل شي ، حتى الدين نفسه ، ويخضعونه لتأمين شهواتهم وأهوائهم ومصالحهم الدنيوية ، يطوّعون الدين إلى شعارات مزخرفة يخدعون بها الجماهير حتى يسهل انقيادها .
من أجل ذلك تراهم ، وهم دول علمانية يدّعون أنهم لا يؤمنون بالدين ، وأَن الدين قضية شخصية لكل إنسان ، تراهم يكوّنون الحركات التنصيرية وينفقون عليها ويتعّهدون رجالها ، لتكون هذه الحركات التنصيرية مع الشركات التجارية عملاً ممّهداً للغزو العسكري ، بعد أن تكون تلك الحركات والشركات وغيرها من الأجهزة والقوى اشترت النفوس ، وأشعلت الفتن ، وأثارت الناس بعضهم على بعض ، ونشرت الفساد والفاحشة والخمور ، حتى تتهاوى أمامهم الحصون والقلاع والنفوس .
إنهم يريدون نهب ثروات الشعوب وتقاسمها بينهم ، على أساس من ذلك يتخاصمون فيما بينهم أو يتعاونون ، ولكنهم أمام الإسلام متعاونون في عدائهم وحربهم ، دون أن يمنع ذلك وجود أناس من شعوبهم يعطفون على الإسلام أو ينظرون نظرة مختلفة في قليل أو كثير عن سادتهم المجرمين ، دون أن يُعطّل هذا الاختلاف مسيرة المجرمين . إن موقف الشعوب مهما قوي أو ضعف لم يُعطلْ مسيرتهم الإجراميـة في الأرض ، بل قد نجد منهم ما يُغذي هذه المسيرة الإجرامية ، وإن عارضها بعضهم فلا تأثير لصراخهم ومظاهراتهم وشعاراتهم .
في مؤتمر تنصيري كبير ، ولعله أكبر مؤتمر تنصيري يتمّ ، حضره أكبر الخبـراء في التنصير ، واجتمعوا في كولورادو في أمريكا ، واتخذوا عدة قرارات ، أكان أهمها : وجوب تحويل جميع مسلمي العالم إلى النصرانية !
فالنصرانية في واقعها اليوم لا تمثل رسالة عيسى عليه السلام ، فرسالته الإسلام ، دين جميع الأنبياء والمرسلين . والنصرانية لا تمنع الخمور ولا الفاحشة ولا العلمانية . ففي جميع المجتمعات الغربيّة تعيش النصرانية الحديثة في وئام وتناغم مع العلمانية والعولمة والديمقراطية وجرائمها وفواحشها وظلمها .
إذن ماذا يريدون من الإسلام ، ولماذا يحاربونه حرباً ممتدّة في التاريخ ، لا تكاد تهدأ حتى تثور ثانية أشدَّ وأعتى !
لقد عرف هؤلاء المجرمون من تاريخهم الطويل مع الإسلام أنه لم يقف أمام أطماعهم وجرائمهم إلا الإسلام الحق الذي جاء به محمد r في رسالته الخاتمة ، لقد وجدوا أنهم يمكنهم أن يساوموا ويشتروا ويبيعوا مع شعوب كثيرة إلا أمة الإسلام الواحدة التي تقف صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص متمسّكةً حقَّ التمسك برسالة محمد r ، مترابطين برباط أُخوة الإِيمان ، ولاؤهم الأول لله ، وعهدهم الأول مع الله ، وحبهم الأكبر لله ورسوله ، ولاءٌ وعهدٌ وحبٌ يبني بينهم أخوة الإيمان صافية صادقة ، يطلبون الدار الآخرة ورضوان الله والجنَّة ! هذه الأمة وقفت عبر التاريخ كله تنصر الله ورسوله ودينه ، لا تساوم على حقٍّ ، ولا تتخذ من دون الله أَنداداً ، ولا تُقيم في دنياها أوثاناً من مصالح وأهواء ورجال تعبدهم من دون الله !
هذه الأمة المسلمة الواحدة ، وهذا الدين الحق ، حاجةُ البشرية كلِّها لتمنع الظلم والفساد في الأرض ، ولينعم الناس حقاً بالحرية الطاهرة المنضبطة ، والعدالة الصادقة النابعة من منهاج الله . فذلك كله لا يمكن أن يقوم إلا بالإسلام الحق وفي الإسلام الحق !
لقد عرف هؤلاء المجرمون في الأرض أن هذه الأمة وهذا الدين هما العقبة الكبرى أمام أطماعهم وعدوانهم وجشعهم ! فقرروا إزاحة هذه العقبة من أمامهم باستخدام شتى الوسائل . وكان أولها ما ذكرناه قبل قليل ، إشاعة الفتن والجنس المتفلّت والفاحشة والخمر وسائر ما يفسد النفوس ، ثم محاربة اللغة العربية وكتاب الله وسنة رسوله r حتى يعمَّ الجهل بين المسلمين بلغة القرآن وبالقرآن والسنّة . ثمّ يتابعون وسائلهم وأساليبهم حتى يروا الغزوَ العسكري ضرورةً لتحطيم الأمة المسلمة الواحدة وتمزيقها بعد أن مهَّدت الوسائل الأخرى إلى ذلك . لقد خدّروا شعوبهم بكل وسائل التخدير من إباحة الفاحشة والجنس حتى أصبح ذلك جزءاً من القانون ومن واقعهم العلني . وبنفس الوسائل يريدون من المسلمين ، ولو مرحليّاً ، أن يُصَلُّوا ويصوموا ويحجُّوا ولا يقربوا السياسة أو الدفاع عن أنفسهم وأَرضهم وديارهم وأعراضهم بما يسميه الله سبحانه وتعالى " الجهاد في سبيل الله " فَمَنْ دافع عن شرفه وعرضه وداره فهو إرهابيٌّ شديد الخطر !
واختلطت المصطلحات ، وتاه الناس بينها ، حتى كأنه أصبح من المحرِّم أن نذكر لفظة الجهاد في سبيل الله ، أو الإسلام ، وغير ذلك مما هو محكم في دين الله . وعليك أن ترفع شعار الديمقراطية ، شعار العلمانية ، وأمثالها ، وتدافع عنها وتنشرها ، فإما أن تفعل ذلك خاضعاً مستسلماً ، وإِما أنت عدوّ للمجرمين يجب تصْفيتُك أو حِصارك أو تجميدك أو ... !
وأصبح الشعار : " إما أنت معي وإما أنت عدوّي " ! هذه هي الحرّية ، وهذه هي الديمقراطية ! لا رأي لك ولا حرّية لك إلا أن تكون " معي " مستسلماً صاغراً !
طرحوا من أجل ذلك شعاراتٍ كثيرةً ، دوّى بها الإعلام والندوات والمجالس ، بقي الناس حائرين ماذا يُراد منها وإلى أين تدفع الناس . لا بد أن نستعرض بعض هذه الشعارات والمصطلحات لنكون أمناء مع ربنا ومع أنفسنا ومع أمتنا ، لا نَخْدَع ولا نُخْدَع ، صرحاء واضحين مع الحجة والبيّنة !
أولاً : " مع الآخر " !
ماذا يُراد بالآخر ، وماذا يراد له ومنه . منهم من يقول يجب الاعتراف بالآخر ، ومنهم من يقول : يجب الاعتراف بحقوق الآخر ! ويبقى الآخر مجهولاً ، كلٌّ يرسم له صورة عنده . هل الآخر هم اليهود الذين اغتصبوا فلسطين ؟! هل هم النصارى الذين وقفوا مع الغزاة للعالم الإسلامي ؟! هل هو الذي يعلن كلمة الكفر مدوّيةً يسبُّ الله ورسوله ويعلن ذلك ؟! لقد اختلطت الصور والمعاني بين خوف ورجاء . لكننا نريد أن نوضِّح حقيقةً ثابتة في الواقع هي أنه لا يوجد " آخر " ضاعت حقوقه ويستحق أن يُعْرَفَ فلا يُنكر ، ويستحقُّ أن تردَّ إِليه حقوقه ، إلا " المسلم " اليوم . " فالمسلم " اليوم هو الوحيد الذي ضاعت حقوقه ، وطاف الأرض لاجئاً مستغيثاً ! هو الذي لا يُعَترف به ، وهو الغريب في داره وبين أهله ! فإذا كان هو الآخر الذي يُراد الاعتراف به وبحقوقه ، فذلك حق ! وليس في التاريخ البشريّ كله من أوفى حقوق الآخرين ورعاهم مثل الإسلام !
ثانياً " الإنسانية " :
شعار كان أول من رفعه الماسونيّة ، وانتشرت هذه اللفظة ليتخفّى وراءها أعتى المجرمين في الأرض ، ويضلَّل بها المغفّلون ، وليحشرها بعض العلماء والدعـاة والفقهاء حشراً في الإسلام بصورة غريبة .
إن مفهوم الإنسانية في الإسلام مفهوم يختلف كلية عن مفهومها لدى الماسونيّة والعلمانيين والليبراليين والديمقراطيين وغيرهم . وربما يتحدث بعض هؤلاء عن الإنسانيّة شعاراً ، من بقية فطرتهم التي فطرهم الله عليها والتي شوَّهوها وأفسدوها حتى انحرفت وطُمِستْ فيها معظم معاني الفطرة السويّة . والإِنسانية عندهم كلمة تخرج من أفواههم يتاجرون بها ، أو قاعدة يضعونها في بيان أو شعار لا رصيد لها في الواقع أَبداً . إنها كلمة وشعار لا يتمثل بخطوات تشريعية واقعية في ميدان الممارسة والتطبيق . أين الإنسانية في سجون غوانتنامو ، أو سجون العراق المحتل ، أو أعمال اليهود في فلسطين ، أو أعمال أمريكا وحلفائها في أفغانستان ؟!
الإنسانية الحقيقية لا يمكن أن توجد خارج الإسلام . إنها في الإسلام ، وفي الإسلام فقط ، لأنه دين من عند الله ، ولأنه دين الفطرة السليمة التي فطر الله الناس جميعاً عليها ، ولأن تشريعـه أقام الإنسانية عملياً في واقع الحياة ، ولأن الإسلام قدّم أروع النماذج العملية في تاريخه الطويل ، ابتداءً سيرة الرسول r ، وسيرة الخلفاء الراشدين ، وسيرة الصحابة والتابعين والصالحين على مرّ التاريخ ، ويبرأ الإسلام ونبرأ نحن من كلّ ظُلْمٍ وقع من أي مسلم في الأرض ، لأن الله حرّم الظلم على نفسه وجعله محرّماً بين الناس ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .
وأعجب جداً من أحد الفقهاء يكتب مقالة فيها اجتهادات كثيرة منحرفة عن الإسلام ، رددتُ عليها في حينها وعلى غيره في كتابي : " الانحراف " ! يقول في مقالته : إن الإسلام لم يُقرَّ أخوة الإيمان فقط بل أقر أخوة الوطنية وأخوة القومية وأخوة الإنسانية ، ثم استشهد بحديث نسبه إلى الرسول r رواه الإمام أحمد : " أنا شهيد على الناس إخوة في الإنسانية " . وبحثت في كل ما ورد عن الإمام أحمد فما وجدت لهذا الحديث أصلاً ولا أثراً . ويقول رجل آخر في إحدى الفضائيات في حوار له حول النشاط النووي هنا وهناك ، فلما سأله المحاور عن الدين ومدى استفادته منه وما موقعه من العرب والمسلمين ، قال كلاماً كثيراً جاء فيه ما معناه : أنا أعمل على صعيد دولـي ، ونعمل على أساس " الإنسانية ! وأي إنسانية يريدها صاحبنا ، إنسانية ، إنسانية اليهود أم أمريكا أم .. أم ... !؟ أصبحت لفظة الإنسانية شعاراً خالياً من أي معنى ، يتاجر بها الطغاة والمجرمون والمفلسون !
وشعار الإنسانية لم يَرد في التاريخ الإسلامي ليُتاجَر به ، وإِنما وردت الإنسانية في الإسلام تشريعاً كاملاً وتطبيقاً كاملاً ، حتى كأنّ الإسلام هو الإنسانية .
من خلال هذا الشعار قُتِلت الإنسانية ، وتسلَّل المجرمون إلى جرائمهم المريعة .
ثالثاً : " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " :
شعار أطلقه دعاةٌ مسلمون وعلماء مسلمون يقصدون به أن لليهود والنصارى في حكم الإسلام ما للمسلمين ، ويزعمون كاذبين أن هذا حديث لرسول الله r ، وما كان لرسول الله r أن يقول ما يخالف كتاب الله وما يخالف أحاديثه الصحيحة والثابتة . الإسلام حفظ حقوق أهل الكتاب كما أمر الله ورسوله في أعلى درجة من العدل والرعاية والحماية ، ولكن لا يمكن أن يساوي المسلم بغير المسلم ، وقد جاءت النصوص من عند الله على غير ذلك . ولكن الذين افتروا هذه الفريّة إنما حرّفوا حديثاً صحيحاً لرسول الله r ، حَذفوا معظمه وأخذوا بآخر جملة فيه . فالحديث الصحيح : عن أنس رضي الله عنه عن الرسول r قال : " أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم ، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " .
[ رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن حبان وغيره]([2])
وهذا هو معنى الآية الكريمة من سورة التوبة :
( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) [ التوبة : 10]
فهذا الشعار الذي أطلقوه افتراءٌ على الله ورسوله r . وكلُّ ما يُنسَب إلى الرسول r مخالفاً لكتاب الله أو لحديث صحيح فهو كذب وتحريف باطل . ففي ندوة فقهية على إحدى القنوات تحدّث أحد الفقهاء وردّد هذه المقولة مدَّعياً أنها جزء من عهد الرسول r إلى نصارى نجران . نعم إن هذا النص موجود في تلك الوثيقة التي لم تثبتْ صحتها وصدقها . وكما قال د. محمد حميد الله في كتابه " مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة " ، " أما الوثائق التي لا تشمل إلا على الحقوق دون الواجبات أو التي تذكر أشياء لم توجد في عصر النبيّ r فنعدّها موضوعة ، كبعض العهود التي زعموا أن النبي r كتبها للنصارى واليهود والمجوس " . ثم يفصّل د. محمد حميد الله ويضرب أمثلة على ذلك . ونحن نقول إنه مهما كانت الوثائق والأوراق ، ومهما كان مصدرها فإنها كذبٌ إذا خالفت نصّ القرآن الكريم أو الحديث الصحيح .
وهنا يثور السؤال : لماذا تواترت في هذه الآونة هذه المقولة على لسان بعض الدعاة والشيوخ ؟! أكان ذلك دفاعاً عن دين الله ؟! أم دفاعاً عن فئة ظالمةٍ اعتدت على حقوق الناس ولم يعتدِ أحد على حقوقها .
أم يريد بعضهم إثارة ذلك كجزء من مخطط كبير يهدف إلى تغيير واقع المسلمين إلى صورةٍ من صور العلمانية وعزل الإسلام عن الحياة !
فمن هذه الأمثلة وغيرها ندرك أن غاية الغرب العلماني في هجومه الجنونيّ على العالم الإسلامي ، أن يحوّل المجتمع الإسلامي إلى ما هم عليه من انحلال وفاحشة وفساد ، إلى العلمانية ، لينسلخ المسلمون عن دينهم . ولقد تواترت الأحداث والوقائع التي تشير إلى هذه النيّة الإجرامية الفاسدة ، ونسوا أن الله هو حافـظ دينه وكتابه والمؤمنين الصادقين أبد الدهر .
إنها فتنة كبيرة جداً ، ممتدَّة في التاريخ ، ولكنها اليوم آخذة بالاتساع والازدياد ، يقودها الغرب كله بقيادة أمريكا ، يريدون سلخ المسلمين عن دينهم ، وجعل المسلمين يلقُون سلاحهم ويستسلموا لهم ، ويتخلّوا عن أرضهم وثرواتهم !
إنها فتنة كبيرة ، تمضي على نهج وخطة ماكرة يديرها شياطين الإنس والجن في الأرض :
( .... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) [ الأنفال : 30 ]
فهل يستيقظ المسلمون ، ويعودون إلى ربهم يلجؤون إليه صادقين تائبين منيبين إليه ، فعسى أن ينقذنا الله إن صدقنا وأوفينا .
إنهم يريدون أن يصبح المسلمون مثلهم علمانيين ، يفضِّلون الدنيا على الإيمان بالله واليوم الآخر والدار الآخرة ، يؤثرون الدنيا على الآخرة ! فذلك ما أشار إليه القرآن الكريم في آيات نأخذ قبساتٍ منها :
( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ..... ) [ البقرة : 109]
( وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ) [ آل عمران : 69]
( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ...)
[ النساء : 89]
إنّ هذه الآيات الكريمة لتكشف حقيقة المعركة الدائرة في التاريخ البشري ، والدائرة اليوم . إنها محاولة أولئك عزل الإيمان عن الحياة الدنيا ، وتصوير التقدّم والحضارة مجرد عمائر وعلم مادي وترف وبذخ لطائفة من الناس ، وفقرٍ وقهرٍ لطوائف أخرى ، خدراً يخدّر الجميع :
( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ) [الزخرف : 33ـ35]
هنا لا بد أن يقف كلُّ إنسان عاقل منصف ليفكر في لحظات الموت التي يفارق فيها كلَّ متاع الحياة الدنيا إِلى حفرة يهالُ عليه فيها التراب ، ثم يغادره الأهلون والأصحاب ويبقى وحده ليلاقي شيئاً جديداً . شيئاً إنه من علم الغيب ! كلّ علوم الإنسان ووسائله لا تستطيع أن تكشف أيَّ شيءٍ من ذلك ، من علم الغيب ، ولا مصدر لمعرفته إلا من الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله على مرّ التاريخ يدعون الناس إلى عبادة الله الواحد الأحد ، ويدينون بدين واحد هو الإسلام ، حتى ختموا بالنبي الخاتم محمد r :
( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) [ النحل :36]
من هنا ، مما أوحى به الله لعباده المرسلين نعرف بعضاً من نبأ الغيب ، فالغيب لا يعلمه إلا الله :
( قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) [ النمل : 65]
والذين ينكرون الغيب ، لا ينكرونه إلا بالظنّ والوهم ، فليس لديهم أيُّ علم يبنون عليه إنكارهم للغيب ، فلا حجّة لديهم أبداً :
( وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) [ النجم : 28]
ولقد عُرِف الأنبياء والمرسلون بخصائص رئيسة : أنهم لا يكذبون ، على مستوى عالٍ متميّز من الخلق والعقل ، مع كل رسول آية معجزة تصديقاً له ، ورسالة يوحى بها إليه من عند الله ليبلّغها لقومه خاصّة ، وأما محمد r خاتم الأنبياء والمرسلين فقد بعثه الله للعالمين ، للناس كافة ، ليحمل رسالته من بعده أمَّتُه التي اختارها الله خير أمة أخرجت للناس : فحجّة الرسل والأنبياء معهم : صدقُ بلاغ ، معجزاتٌ وبرهان ، يخاطبون الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، آيات بيّنات في السمـوات والأرض وفي أنفسنا ! أما أولئك المنكرون فمالهم من حجة إلا الظن والوهم !
( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... ) [ آل عمران : 110]
هذه هي أهم خصائص الأمة التي اختارها الله لتكون خير أمة : تأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، وتؤمنون بالله ... ! فأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس الإيمان بالله فهو تبليغ رسالة الله إلى الناس كافّة وتعهّدهم عليها ، تبليغها إلى الناس كافّة كما أنزلت على محمد r .
ولقد جعلنا نهج مدرسة لقاء المؤمنين نهجاً يحقّق تبليغ ذلك تبليغاً دقيقاً وتعهّداً كاملاً ، نسأل الله المغفرة والقبول والهداية والتثبيت !
رابعاً : الإسلام والعروبة :
منذ القرن التاسع عشر اشتد التغنّي بالعروبة من خلال دعوة تسلخ المسلم عن دينه :
بـلاد العـرب أوطانـي
مـن الشـام لبغـدان
ومـن نجـدٍ إلى يمـنٍ
إلى مصـر فتطـوانٍ
فـلا حـدٌّ يبـاعـدنـا
ولا ديـنٌ يـفـرّقنـا
لسان الضـاد يجمعنـا
بغـسـان وعـدنـان
وانتشرت هذه الأناشيد وأمثالها انتشار النار في الهشيم ، بصورة عجيبة غريبة ، لا تكاد تدرك ما هي القوى التي تنشرها وتغذّيها ، قوى خفيّة وقوى ظاهرة ، وجرأة غريبة ، وأما المسلمون فغائبون لا يبلّغون دينهم ورسالتهم كما أمرهم الله ! ولا يبذلون الجهد الحق ! وإن دعوا إلى شيء من الإسلام ، فإنما يدعون إليه مع شيء من التحريف يسمونه الاجتهاد ، ولكنه اجتهاد ظاهر الخلل والانحراف . وكان أول أثر هذه الدعوة العروبية أن انسلخ بعض المسلمين عن دينهم ، وتمسّك النصارى بدينهم وضاعفوا جهدهم في حركات تنصيرية ممتدّة في جميع أنحاء العالم الإسلامي ، يجعلون " دعوى العروبة " باباً لسلخ المسلم من دينه أولاً ، ثم إغرائه بالنصرانية ، وما يدّعون من افتراءات ومصالح مادية دنيوية ، يغذّي ذلك ويحميه قوى كبيرة في الأرض ، قوى الغرب العلماني الديمقراطي العولمي ! وفُتِن كثير من المسلمين عن دينهم . ومنهم من اكتشف الحقيقة بعد سنوات طويلة فعاد ، وهم قلة ، ومنهم من مضى في ضلاله يضع جهده كله في خدمـة النصْرانيّة والعلمانية والديمقراطية تحت شعار الإسلام .
هذه إحدى مظاهر الفتنة الكبيرة ، لأنها تمسُّ مصالح قريبة من النفس ، قضايا فطريَّة حرّفوها وشوّهوها . ثم تكونت حركات سياسية وأحزاب وشيع تركت الإسلام ، وأخذت تدعو إلى : القومية العربيّة ، البعث الاشتراكي ، ... !
نعم إن الله سبحانـه وتعالى أكرم العرب وشرّفهم باختيار خاتم الرسل منهم ، وكذلك باختيار لغتهم ـ اللغة العربية ـ لتكون لغة المسلمين ، لغة كل مسلم . ولكن الله سبحانه وتعالى حرّم في الوقت نفسه أن يَتحول هذا التكريم والتشريف إلى عصبية جاهلية تمزّق المسلمين أحزاباً وشيعاً . وكان أمر الله لرسوله وللمؤمنين واضحاً وحاسماً :
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ . مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [ الروم : 30ـ32 ]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : " إن الله عزّ وجل قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء ، مؤمن تقيُّ وفاجر شقيّ . أنتم بنو آدم ، وآدم من تراب ، ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام ، إنما هم فحمٌ من فحم جهنم ، أو لَيَكُوننَّ أهونَ على الله من الجُعْلان التي تدفع بأنفها النتن " [ أخرجه أبو داود والترمذي ] ([3])
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول r قال : " من قاتل تحت راية عِمِّيَّة ، يدعو إلى عصبية ، أو يغضب إلى عصبية ، فقتله (فقتاله) جاهلية " [ رواه ابن ماجه ومسلم والنسائي ] ([4])
وكان من العرب من حارب الله ورسوله ، ومن نزل به حكم الله فكان مصيره إلى جهنم وساءت مصيراً ، مثل أبي لهب ، وغيره . فلم يكن تكريم العرب لدمهم أو عرقهم ، فقد أكد الله سبحانه وتعالى أنه رب الخلائق أجمعين لا يفضل عرقاً على عرق ، وإنما التفاضل بالتقوى والطاعة والتزام الإسلام :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) [ الحجرات : 13]
وفي خطبته r في حجة الوداع ، حيث جاء فيها :
" أيّها الناس : إِن ربكم واحد ، وإنّ أباكم واحد ، كلكم لآدم ، وآدم من تراب ، أكرمكم عند الله أتقاكم ، وليس لعربيّ على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى ، ألا هل بلّغت ؟! اللهمّ اشهد ! قالوا : نعم ! قال : فليبلّغ الشاهدُ الغائب " ([5])
ولكن هذا التكريم للعرب كما ذكرناه باختيار خاتم الأنبياء منهم وباختيار اللغة العربية لغة الرسالة للعالمين ، تكريم قائم ما داموا يتنافسون مع غيرهم بالتقوى ، وبالتقوى فقط ، وبحمْلِ الرسالة كما حملوها أول مرّة . فإن تراخوا عن ذلك ، ولم يلتزموا أمر الله وأمر رسوله عن إيمان صاف صادق ، فلا يعود لهم من التشريف والتكريم حق ، ويستبدل الله قوماً غيرهم !
( ... وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ) [ محمد : 38]
ويظل النداء الربّاني مدوّياً في الكتاب والسنة : أطيعوا الله ورسوله ! أطيعوا الله ورسوله ! أطيعوا الله ورسوله ! لتكون هذه الطاعة هي أساس التقوى ، ومصدرَ كلّ قوة ، وبابَ كلِّ نجاة ، وبغيرها يُفقد ذلك كله .
خامساً : المواطنة :
وانتشر هذا المصطلح ، وأخذ يدعو إليه بعض الدعاة المسلمين ، حتى قال بعضهم : " إن أُخوّة الإيمان ، وأهل الكتاب ، والمسلمين ، هذه أمور كانت عندما كان للإسلام دولة ، أما اليوم فلا دولة للإسلام ، فهذه كلها أصبحت قضايا تاريخية ، وأصبح الوطن اليوم للجميع من يهود ونصارى لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " ! لم يعد أعداء الله من المجرمين في الأرض بحاجة أن يبذلوا الجهود للدعوة إلى ذلك ، فقد كفاهم بعض المسلمين مؤونة ذلك !
إن الإسلام أعاد صياغة جميع العلاقات البشرية صياغة إيمانيّة ربانيّة لتظلَّ القضيّة الأولى في حياة البشرية هي قضية الإيمان والتوحيد ، قضية الدار الآخرة ، قضية الموت والبعث والحساب والجنة والنار .
ويريد العلمانيون أن يسخّروا العلاقات البشرية من وطنية ، وقومية ، وإقليمية ، وعائلية ، وحزبية ، لتظلّ القضية الأولى في حياة البشرية هي الدنيا ، والحياة الدنيا وزينتها ، وزخارفها ، ولهوها وفجورها :
نهجان قد ميّـز الرحمـن بينهمـا
نهجُ الضلال ونهجُ الحقّ والرشَـدِ
لا يجمع الله نهـج المؤمنـين على
نهج الضـلالِ ولا صدقاً على فَنَـدِ
إنه ابتلاء من الله لعباده ، ليختار كلُّ إنسان السبيل الذي يريده ثم يلقى الجزاء العادل الحق ، فمن آمن واهتدى فجزاؤه الجنّة ، ومن ضلّ وكفر فجزاؤه جهنم خالداً فيها :
( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) [ الكهف :30،29 ]
--------------------------------------------------------------------------------
(1) سنن أبي داود : 29/1/4252 . ابن ماجه في كتاب الفتن باب ما يكون منها رقم 3952 ، مسلم رقم 2889 في الفتن ، الترمذي في الفتن رقم : 2203 .
(1) صحيح ابن حبان : ج13 ص 215 رقم 5895 .
(1) سنن أبي داود : 35/120/5116 ، الترمزي : 50/75/3955 ، 3956 .
(2) ابن ماجه : 31/7/3996 ، النسائي : 27/28/4115 .
(1) جمهرة خطب العرب : ج1 : ص : 157 .