منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    موضوعة الجبل في شعر الثورة مفدي زكرياء نموذجا بقلم

    سامية الزمردة الخضراء
    سامية الزمردة الخضراء


    عدد المساهمات : 42
    تاريخ التسجيل : 23/12/2010

    موضوعة الجبل في شعر الثورة مفدي زكرياء نموذجا بقلم  Empty موضوعة الجبل في شعر الثورة مفدي زكرياء نموذجا بقلم

    مُساهمة  سامية الزمردة الخضراء الأحد يناير 16, 2011 6:53 am

    موضوعة الجبل في شعر الثورة مفدي زكرياء نموذجا
    بقلم : أ.دحبيب مونسي
    [ شوهد : 307 مرة ]

    موضوعة الجبل في شعر الثورة مفدي زكرياء نموذجا بقلم  1278173799

    موضوعة الجبل في شعر الثورة
    مفدي زكرياء نموذجا
    التجلي الجمالي

    حبيب مونسي
    1-تقديم:
    يبدو أن الأطر المعرفية لموضوعة "الجبل" توقفنا على مرجعية هائلة. فهي
    تتسع طولا وعرضا، لتمتدّ في أعماق التاريخ. وتتعدد موضوعا في النشاط الفني
    لكل شاعر وناثر. إننا واجدون الشعراء لا يتورعون من التوظيف الديني،
    والخرافي، والفني، على صعيد واحد لخلق الحيرة الفنية عند التلقي، ولإشباع
    النص بالتوترات التاريخية والفنية معا.
    وكلما كان إحساس الشاعر بعمق المرجعية التي يركن إليها، كلما تعددت في يده
    إمكانات الاستعمال، وأسعفته القدرة الإبداعية على المزج والتركيب بين
    العناصر الدينية، والتارخية والخرافية، حتى يؤلف منها "تركيبة" غاية في
    الجدة والإبداع. وقد رأينا "ابن خفاجة" يعمد إلى خاصية" الإحساس والحياة"
    التي نبّه إليها القرآن الكريم، ليجعل منها مادة للحوار، وكأنه يرى تأويب
    الجبال مع "داود" ( ) مدعاة لبث الحياة في جبله الخاص قائلا:
    وقور على ظهر الفــــلاة كأنه
    طوال الليالي مفكر في العواقب.( ).
    لم يكن "مفدي زكرياء" بدعا من الشعراء، وإنما كان يعي خطورة هذه المرجعية
    المعرفية ل"موضوعة الجبل". ولم يتوان في استغلالها استغلالا قويا. وهو في
    معرض الحديث عن الثورة التحريرية، والتغني بها. وليس بين يديه سوى الجبال
    ملاجئ للثوار يأوون إليها، فتتحول إلى ثكنات، ومدارس، ومستشفيات، وإقامات
    ممنّعة.. هذه الجبال بصلابتها وثباتها توحي للمستعمر بصلابة عود أهل البلد
    وثباتهم. فهي رمز ذلك الإصرار الذي توارثته الأجيال منذ القدم.
    وقد وجد "مفدي زكرياء" في الأطر المعرفية مرجعية يغترف منها صوره. مادام
    يدرك أنها تلامس شغاف كلّ عربي. ولا حاجة له في الإفاضة والإطالة. وإنما
    تكفي الإشارة المختصرة العامرة بالدلالة. والتي تفتح في ذهن المتلقي سيلا
    من التداعيات، يرجع بها القهقرى إلى ذلك الأصل الذي يمتد به بعيدا في
    أعماق الثقافة الواحدة.
    2-الفضاء المادي، الدال والمدلول:
    إن أيسر السبل في التعامل مع المكان، استعماله على وجه الحقيقة، كأن يدل
    على موقع معلوم، أو مجهول. ومن ثم يأتي نعته مناسبا للمقام الذي استعمل من
    أجله. بيد أن أساليب العرض تتفاوت جودة وحسنا بحسب السبك وقوة العبارة،
    وبناء النسق اللغوي المصاحب له.
    ومن هنا قامت الأساليب على تدبير مواقع الكلمات داخل نسق معين، لأن: »
    اختيار الكلمات لا يكون مفيدا إلاّ إذا أحكم توزيع هذه الكلمات، وهي تتوزع
    على مستويين: حضوري وغيابي. فهي تتوزع سياقيا على امتداد خطي، ويكون
    لتجاورها تأثير دلالي وصوتي وتركيبي.. وهي أيضا تتوزع غيابيا في شكل
    تداعيات للكلمة المنتمية لنفس الجدول الدلالي.« ( )
    وتتحدد القدرة التأليفية في ضبط التقاطع الحاصل بين ركني الحضور والغياب،
    حتى تأخذ اللفظة حظها من الأدبية ( الشعرية) حين يكون الصوتي عاملا نفسيا
    لتوليد الانثيال الخيالي، وتعاقب الصور الحية لدى التلقي. ومنه ينشأ
    "الاتساع" . وهو المبدأ الثالث الذي تقوم عليه دراسة الأسلوب عند كل من
    "سبيتزر" "SPITZER" و"ماروزو" "MAROUZOU" بعد مبدأ التركيب، أو التنظيم.(
    ) والذي يجعل من الأسلوب "بناء واعيا" لا مجال فيه للعفوية والاتفاقية
    الميكانيكية التي عرفها الفن السريالي والانطباعي.. فإذا كانت اللسانيات
    قد أقرت للدال مدلولا، فإن : »الأدب يخترق هذا القانون، فيجعل للدال
    إمكانية تعدد مدلولاته، وهو ما عبر عنه الأسلوبيون بمصطلح "الاتساع". ومن
    هنا ينشأ مبدأ طاقة الشحن. فالدلالة الذاتية ليست حافزا للدلالة الحافة.«(
    ) وعندما تتسع الهوة الدلالية بين الدال والدلالة وتتلاشى معالم المرجعية
    الأولى، تتعدد الاحتمالات الممكنة. الأمر الذي ينشئ التذبذب بين لذة
    التقبل وخيبة الانتظار. أو ما أسماه "ريفاتير" "RIFFATERRE" "المفاجأة"
    وأسند إليها قوانين خاصة. فاستعمال الدال على وجه الحقيقة لا يفقده شيئا
    من أدبيته. وقد استطاع "مفدي زكرياء" أن يجريه غير مرة على هذا النسق،
    فتنفتح دلالته على التعدد. وهي تحيل على مرجعية معرفية أكثر اتساعا وأشمل
    دلالة.
    واندفعـنا مثـل الكواسـر
    نرتاد المنـايا ونلتقي البـارودا
    من جبال رهيبة شامخـات
    قد رفعنا على ذراها البنـودا
    وشعـاب ممنّـعات براهــا
    مبدع الأكوان للوغى أخدودا. ( ).
    تبدو هندسة التركيب جلية بيّنة، عندما نراقب مقاييس مقولة الأسلوب:
    (اختيار، تركيب، اتساع)، لأن الإنشاء "الواعي" للنسق يفرض توزيعا للعناصر
    على مساحة محدودة (الوزن الشعري، البحر). فالشاعر يريد أن يعلل الاندفاع
    الكاسر الذي يرتاد الموت.. وفيه مفارقة أولية في لفظ "نرتاد" لما له من
    خلفية تعمرها البهجة والاكتشاف. فهو سياحة وريادة، غير أنها للموت ولقاء
    البارود.. ولا بدّ لهذا الفعل "الغريب" المفارق للعادة، من ميدان ( مكان)
    يناسبه طردا في غرابته ومفارقته أولا..
    فإذا علمنا أن الاندفاع كان من جبال "رهيبة شامخات" تحققنا أن المفارقة في
    "نرتاد" نشأت من لقائها بالجبال الرهيبة الشامخة، التي رفعت على ذراها
    بنود الجهاد، ومن "شعاب ممنعات". هذا الفضاء العالي/ العميق، الرهيب/
    المنيع، لم يخلق بهذه الصفات إلاّ لأنّ "مبدع الكون" أراده أن يكون ميدانا
    للوغى والاحتراب.
    وإذا أعدنا توزيع "التركيب" توزيعا أسلوبيا، ألفينا الاختيار يقع في
    (نرتاد، جبال رهيبة شامخات، شعاب ممنعات، براها مبدع الكون أخدودا) ومنه
    كان التركيب الواعي يقرن بين (نرتاد المنايا، نلتقي البارودا، رفعنا على
    ذراها البنودا). وكان المزج بين العناصر على المستوى الشعري، هو البناء
    الأخير للإبداع الفني، وقد غدت عناصره أكثر جاذبية، وأكثر قدرة على
    الإيحاء. وليس ارتياد المنايا يتحقق عقلا، إلاّ لأن مبدع الكون برا الجبال
    والشعاب للجهاد والشجاعة.
    لقد أدرك الأسلوبيون أن التعامل مع المدلول بعد تحديد "الاختيار والتنظيم"
    لا يكون على مستوى "الاتساع" إلاّ ضربا من المقاربة الحدسية الباطنية، ذلك
    أن المدلول: »لا يقاس ولا يعدّل ولا يسجل، ولا نستطيع أن نحلله إلاّ
    بطريقة تقريبية مبهمة، مع أننا نتلقاه بشكل مباشر في تعقيده الخصب الهائل.
    ففي أبسط القصائد نجد المدلول عالما بأكمله. « ( )
    3-الفضاء المعنوي، المرجعية والتاريخ:
    يرى "طه وادي" أن الحقيقة المجردة وحدها لا تكفي للتعبير عن تجربة الفنان،
    ولا يمكنها أن تستغرق انفعالاته ورؤياه. ولذلك يلجأ دوما إلى الاستعانة
    بالتراث: »وإحداث ما يسمى ب "التحويل الرمزي" "transformation
    symbolique". وأن يعبر عن تجربته الخاصة موظفا في ذلك كلّ ما يستطيع
    الاستعانة به من عناصر التراث البشري، يثري به فكره الفني، ورؤيته
    الأدبية.« ( ) وهنا لن تصبح أداته اللغوية إشارية تقريرية ذات بعد دلالي
    واحد، وإنما سوف تصبح كما أسماها "ريتشاردز" لغة مشخِّصة "Figuratif
    langage”. ولولا عمليات التحويل الرمزي ما كان للشعراء أن يتجاوزوا جفاف
    اللغة التقريرية، وإبعاد شبحها عن ساحة الشعر. لأن اللغة المشخِّصة لغة
    تعبث بشخوص العقل، واستقامة المنطق، ومعقولية الأشياء. فهي تعيد ترتيب
    الموجودات: (حي/ميت، متحرك/ جامد، لا شعور/ شعور..) حتى تتمكن من إحداث
    تبادلات يخلقها التشخيص في الجماد والمَوَات.. يقول "مفدي زكرياء":
    وطن يعزّ على البقاء وما انقضـى
    رغم البلاء عن البـلى متمنّعــا
    لم يرض يوما بالوثاق، ولم يــزل
    متشامخـا مهما النكـال تنوّعــا
    هذه الجبال الشاهقات شـواهــد
    سخرت بمن مسخ الحقائق وادعـى
    سل "جُرجرة" تنبـيك عن غضباتها
    واستفت "شيليـا" لحظة و"شلعلعـا"
    واخشع ب "وانشريس" إن ترابـها
    ما انفكّ للجـند المعطـر مصرعـا ( )
    تلعب الأطر المعرفية لموضوعة "الجبل" دورا بارزا في بناء هذه الأبيات،
    وخلق الاتساع في الدلالة من خلال نظام التحويل الرمزي واللغة المشخِّصة.
    لقد أدرك الشاعر أن الحديث عن بقاء الوطن بواسطة التقرير المجرد عملية لا
    ترقى إلى التعبير الفني الجمالي، فعدل عنه إلى التحويل الرمزي مرتكزا إلى
    إطارين معرفيين في ذات الوقت: إطار ديني، وآخر فني. بل يمكن إرجاعها إلى
    إطار ديني واحد.. فالسؤال والاستفتاء.. مطلبهما المرجعي "ديني" الأول يطلب
    المعرفة، والثاني يطلب الفقه والفهم. بيد أن الموقف الفني يفرض علينا
    اختيار الإطار الفني لما فيه من مشابهة. فالجبال الشاهقات في ثباتها عبر
    الأزمنة المتطاولة، قد اكتسبت "معرفة" وخبرت الحوادث والأحوال، وقد رزقت
    فهما من صبرها ذاك. وهي في موقفها هذا تضارع "جبل ابن خفاجة" كأنه طوال
    الليالي مفكر في العواقب. فإذا سألناها عن "غضباتها" حدثتنا عنها منذ فجر
    التاريخ إلى يوم الناس هذا. وكذا الأمر إذا استفتيناها في بغي الإنسان
    وعدوانه، وأكل القوي للضعيف واستعباده.. إنها أحوال خبرتها من تعاقب
    الأجيال والحقب عليها.
    أما التحويل الثاني، في(واخشع) فمشبع بحيثيات "قدسية". فإذا حولنا "اخشع"
    إلى "اخلع" لتبادر إلى أذهاننا موقف "موسى"  بوادي طوى، وخلع النعلين.
    فقد لامست رجلا "موسى"  تراب الوادي، وتلقى كلام الله  في خشوع ورهبة..
    ويتحول المكان-هنا- إلى فضاء مقدس، لأن التراب قد تخضب بدم الشهادة، فلامس
    منها القداسة والطهر.. فهو معطر من دماء الشهداء الزكية. إن الموقف القديم
    يتوازى، أو يقف في خلفية حية وراء الموقف الجديد. وتكتنف الفضاء قداسة
    واحدة ذات مصدر واحد.
    إننا ندرك الآن أن الحقيقة المجردة وحدها لم تكن قادرة على حمل هذه الظلال
    القدسية، وبثها من خلال الكلمات. بيد أن اللغة المشخِّصة ذات الأبعاد
    المشهدية -كما أسماها "ريتشاردز"- تجعل ذلك ممكنا من خلال توزيع جديد
    للعناصر، وتحويل عبقري في خصائص الأشياء و المعاني. وكأننا نخلق المعاني
    الجديدة بخلق لغة جديدة. فالفن قادر على تخصيب: »الكلمة لتبلغ نماءها في
    حقل المجتمع معتمدا على الإحاطة باختلاجات الوجدان الجماعي، وهو يجعلها
    تتسرب داخل أسوار الذهول الفني محافظة على وعيها وتحديقها نحو قضايا
    العصر«( ) عندها ندرك كيف تخدم وقفة "موسى"  في جبل "الطور" وقفة أخرى في
    جبل "الونشريس" وقد تباعد الزمن قرونا متطاولة. ذلك هو تحديق اللفظة إلى
    قضايا العصر وهي تختزن في إطارها المعرفي أثرا حاسما في حياة البشرية
    قديما.
    4 - المكان الزماني، النبوءة والوحي:
    تلقى موسى الوحي خاشعا بوادي "طوى" ، وكلمه الله  تكليما. وكان ذلك أعلى
    درجات الوحي، أما "الإلهام" و"التبليغ" فأدناها مرتبة. وهي مصطلحات يحتفل
    بها الإطار الديني، لما فيها من صلة بين الله وعباده، إمّا نفثا في الروع،
    وإمّا تبليغا برسول، وإمّا تكليما من دون واسطة.. ولم تفت شاعرنا هذه
    الدرجات، فهو يقول مخاطبا "نوفمبر":
    نوفمبر حدثنا عهدناــك صادقـا
    ألست الذي ألهمت أحجارنا النطقا؟
    ألست الذي كنت المسيـح بأرضنا
    وأشرقت من علياك تخلقـنا خلقـا؟
    ألست الذي بلّغـت شـمّ جبالنـا
    قرار السما فاستصرخت تنسف الرقّا؟ ( ).
    إن الشاعر في حاجة –دوما –إلى تخطي حدود السائد المألوف في فنه. فهو لا
    يركن إلى الواقعي الصرف، إلاّ بقدر ريثما يؤمّن لنفسه منطلقا أو مرتكزا،
    ثم يقفز بعد ذلك إلى أجواء الاستعارة محلقا بعدة أجنحة. آملا أن يقفز
    وراءه المتلقي مترسما خطاه. وينشأ هذا التجانس بين الشاعر والمتلقي بناء
    على أمل يسكن كل شاعر في قدرة متلقيه تتبع الظلال الهاربة وراء الإيحاءات
    والإشارات. فالشاعر لا يقول كلّ شيء، وإن كان يرغب -من أعماقه- أن يقول كل
    شيء. بيد أن حدود الفن المكانية والزمانية تحول دون ذلك. ولا يبقى أمام
    الشاعر غير ذلك "التواطؤ""complicite" بينه وبين المتلقي ليمرر من خلاله
    تيار التداعي والإحالة المرجعية. وإذا أحس الشاعر أن "الوتيرة" قد ضبطت
    راح يغرق في عتمات المعنى أكثر فأكثر، وتلفع شعره بالغموض والرمز.
    "نوفمبر عهدناك صادقا "ذلك حظ "الواقعي" من النص. فإذا كان صادقا، فمعناه
    أن مصدر معرفته "علوي" لا يشوبه شك. لأنه هو الذي "ألهم"، وهو الذي
    "أشرق"، وهو الذي "بلَّغ". فإذا كان الإلهام يتأتى على شكل نفخ في الروع،
    أو في شكل استعداد فطري، يجده الملهم في ذاته كامنا، فيصدر عنه في شكل
    نزوع غريزي محض، كسلوك الحشرات والحيوانات والإنسان في بعض مواقفه، فإن
    "الإشراق" لون من الفيض يشع في كل خلايا الوجود، يملؤها إحساسا وحياة
    ومعرفة. وقد اعتقد المتصوفة أن حضور الله  في ملكوته يحدث على هذه
    الشاكلة من التجلي. أما التبليغ فلا يكون إلاّ جهرا.
    فإذا تملينا "الحركات" الثلاثة وجدناها تنطلق من إدراك حدسي باطني ذاتي لا
    يخص إلاّ الذات الملهمَة وحدها دون سواها من الذوات، وكأن أحجار الجبال
    تجد في قرارتها إرادة التعبير عن الجهاد والمقاومة، ثم يأتي "الإشراق"
    فيعم كل عناصر الوجود، يبعث فيها الحياة، غير أن الإشراق يظل- وإن عمّ-
    أمرا سريا يدب دبيبا، بينما يكون "التبليغ" وحده إعلانا جهوريا يملأ
    السماء والأرض نداء.
    وإذا عدنا مرة ثانية إلى الخطوات الثلاث، ألفينا سرا عجيبا، فالجبال قد
    اكتنزت في أحجارها تاريخ الثورات التي عرفها الوطن، فهو يحدث بها من خلال
    هيئات جباله ووديانه وشعابه وأحجاره.. وكأن الثورة كامنة فيها كمون الشرر
    في الزناد.
    ثم تأتي الخطوة الثانية، وقد تغلغلت الثورة في كل ذات جزائرية، ولكنها ما
    زالت في حالة تستر تنتظر اللحظة المواتية للانطلاق. ثم تكون الخطوة
    الثالثة صدعا بالأمر وتبليغا جهوريا بكل لغة ولسان. وقد نجد في صورة
    المسيح  وهو يعيد الحياة للموتى، - بإذن الله- صورة شعب بدأ يستيقظ من
    سبات عميق في النصف الأول من القرن الماضي.. إنه بعث، وخلق، وإحياء.
    لقد كان "نوفمبر" "ميقات" الانطلاقة، وكانت الجبال مكانها. وقد اقترن
    "نوفمبر" في المخيال الشعبي بالجبال، حتى تداخلت الدلالة الزمانية
    والمكانية في تداع واحد. فإذا ذكر الأول تبادر الثاني إلى الذهن، وإذا ذكر
    الثاني قفز الأول إلى العقل. وعلى هذا النحو يتحدد المكان زمنيا في
    الذاكرة الجماعية، إلى أن تمحوه ترابطات أخرى تكون أكثر تلاحما وتأثيرا في
    الجيل الذي تعاصره.
    5- الزمان المكاني، الوحي والمعجزة:
    يزعم "سارتر" "SARTRE" أن العمل الفني مهما بدا منتهيا، فهو ليس كذلك، بل
    يحتاج دوما إلى من يكمله. وهو في أثناء هذه العملية لا يمل من الاستزادة،
    كلما قلنا له هل اكتفيت قال هل من مزيد:» وقد سأل رسام مبتدئ أستاذه
    قائلا: متى أعُدّ اللوحة من لوحات رسمي كاملة؟ فأجابه الأستاذ قائلا: في
    الوقت الذي تستطيع النظر إليها دهشا قائلا في نفسك: أنا الذي فعلت هذا‍؟ (
    ) كما أدرك النقد الحديث أن حقيقة النص الأدبي تتخطى حدود الورقة
    المكتوبة، إذ لم يعد النص إلاّ حاملا "كاليغرافيا" باردا، مشحونا بالرموز
    الخطية. ولم يعد النص محمول تلك الرموز في منطوقها الصوتي، بل غدا "شيئا"
    آخر يقع على مسافة ما بين الكاتب والمتلقي. وهو "شيء" قد تخلق من نطفة
    أمشاج بين هـذا و ذاك، والمعرفة المحايثة التي تحتضنهما. وكلما تجدد
    الطرفان والوسط تجدد النص" الافتراضي" "TEXTE VIRTUEL"وتحوّل. وعندما نقرأ
    ل "مفدي زكرياء" قوله:
    ورثنا عصا موسى فجـدّد صنعـها
    حجانا فراحت تلقف النار لا السحرا
    وكلّم الله موسى في الطـور خفـية
    وفي الأطلس الجبار كلـمنا جـهرا
    وأنطق عيسى الإنـس بعد وفاتـهم
    فألهمنا في الحرب أن ننطق الصخرا. ( )
    فإننا نجد الشاعر يقف بين معجزتين يكتنفهما "المكان": "الطور" و"الأطلس
    الجبار". في الطور عرف موسى  القدرة العجيبة التي أودعها الله  في عصاه.
    بيد أن الشاعر لا يريد نقل المعجزة الإلهية بكليتها- وأنى له ذلك- فهو
    يحوِّلها على طريقة الفن ومنهجه، من خلال التحويل الرمزي، وينسب ذلك إلى
    الحجا، إشارة إلى تدبير قادة الثورة وعبقرية الشعب حين غدت "عصيهم" تلقف
    النار بدل السحر. فالمكان هو الذي أتاح تحويل وظيفة العصا مجازا ورمزا.
    والمكان هو الذي أتاح تحويل التكليم من الخفية إلى الجهر. لأن الله 
    انفرد بموسى  في الطور، وهو هنا يخاطب شعبا مجاهدا بأكمله.
    لقد أدرك الشاعر أن توظيف الإطار الديني يحي في نفوس المتلقين سيلا من
    التداعيات، يستعيدون من خلالها جملة من المواقف والصور التي كررها القرآن
    الكريم في مواضع عدّة. ومن ثم يُكسب الصورة الشعرية طاقة تعبيرية،
    إقناعية، ما كان لها أن تكتسبها لو عمدت إلى التعابير المألوفة في أحاديث
    الناس. لقد خلق حضور "العصا" بمعجزاتها وحضور "الطور" بخشيته، و"عيسى" 
    بمعجزته، جوا من القداسة ينداح ليصل عبر الزمان إلى ساحات الجهاد في جبال
    الجزائر.
    إن استدعاء التراث -بهذه الصورة- الغزيرة في أبيات قليلة، لا يسمح للشاعر
    بالشرح والتفسير، وإنما يحيل ذلك إلى الألفاظ في اتساعها تعانق كل ظل هارب
    من ظلال المواقف القديمة. فقد تسأل كيف كان التكليم؟ وبأي صورة أحيا عيسى
     الموتى؟ قد تبحث عن دقائق الجزئيات وراء كل حادث، ولكنك تظفر في آخر
    المطاف بفيض من الأحاسيس وهي تعمر وجدانك وأنت تقرأ مثل هذا الشعر..إننا
    نشهد أن استعمال "المكان" عند "مفدي زكرياء" يتدرج من الحقيقة الواقعية (
    ص:12 ) إلى التشخيص والمحاورة (ص:32 .65. 66) إلى تلقي الوحي ( ص:198.199
    ) إلى تحقيق المعجزة (ص:306) وكأنه تطور مطّرد يشهد على صدقه ديوانُه
    كلُّه. بل تشهد على صحته مراحل الثورة التحريرية نفسها.
    هوامش:
    - لاحظ أن الشاعر ابن خفاجة استعمل لفظة "مؤوب" في : وكم مرّ بي من مدلج و
    مؤوب. قال تعالىSadوآتينا داود فضلا يا جبال أوّبي معه) (فاطر)
    - ابن خفاجة. الديوان. ص: 43.42. دار بيروت للطباعة والنشر.(د.ت).
    - توفيق الزيدي . أثر اللسانيات في النقد العربي الحديث. ص:83 . الدار العربية للكتاب . ليبيا.1984.
    - تبنى مقولة الأسلوب على ثلاثة مقاييس:الاختيار. التركيب. الاتساع.
    - توفيق الزيدي.م.س.ص:86.
    - مفدي زكرياء. اللهب المقدس. المؤسسة الوطنية للكتاب.ص:12.( الذبيح الصاعد).
    - صلاح فضل. علم الأسلوب :106. الهيئة المصرية العامة للكتاب.ط2. 1985.
    - طه وادي. جماليات القصيدة العربية.ص:74. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1985.
    - اللهب المقدس.ص:66.65.
    -رجاء عيد. فلسفة الالتزام في النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق. ص:80. منشأة المعارف بالأسكندرية.1986.
    - اللهب المقدس.ص:199.198.
    - جان بول سارتر. ما الأدب؟ (ت) محمد غيمي هلال. ص:46. دار العودة. بيروت.(د.ت).
    - اللهب المقدس. ص:306.




      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 8:32 pm