د.مصطفى بن صالح باجو
كلية الشريعة والقانون. مسقط
محاضرة ألقيت
في قاعة المحاضرات بجامع السلطان الأكبر في مسقط، مساء السبت 14/5/1/2005م،
وحضرها بعض السفراء من الدول العربية الشقيقة، بدعوة من السفارة الجزائرية
بمسقط، كما شرفها سعادة الشيخ سعيد بن ناصر المسكري الأمين العام لمركز
السلطان قابوس للثقافة الإسلامية، والذي تكرم بفتح القاعة ليتم هذا اللقاء
العلمي الأدبي.
تمهيد
أصحاب السعادة والفضيلة، السفراء والعلماء، أيتها السيدات الفضليات، الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
تغمرني
سعادة عارمة وأنا أتشرف بالمثول أمامكم لنتحاور معا في رحاب الشعر والأدب،
ونصل رحما تجمعنا وآصرة تربطنا، ونستذكر تاريخا يشرفنا، وأعلاما كانوا غرة
في جبين أمتنا.
تلبية لدعوة كريمة من سعادة سفير الجمهورية الجزائرية
بسلطنة عمان المحترم محمد عباد لإقامة نشاط ثقافي بمناسبة يوم العلم الذي
تحييه الجزائر في السادس عشر أبريل من كل عام، وإحياء لأحداث الثامن من ماي
التي تذكرنا بسقوط أكثر من خمسين ألف شهيد حصدوا برشاش الاستعمار الفرنسي
سنة 1945، بمدن شمال شرق الجزائر، في سطيف وقالمة وخراطة، فكانت شرارة
التحرير الخالدة، التي انطلقت ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954، وكللت
باستقلال الجزائر يوم الخامس من يوليو سنة 1962، بعد ليل دام قرنا وثلث قرن
من الزمان. ونحن اليوم ننعم بشمس الحرية والحمد لله.
لهذه المناسبات
التاريخية المجيدة، كانت استجابتي لتقديم صفحة مشرقة عن إسهام الشعر في
تاريخ الجزائر الحديث متمثلا في الشاعر الكبير مفدي زكرياء.
ولكن قبل
البداية، ربما يتساءل بعضكم عن صلة عالم الفقه والشريعة برياض الشعر
والأدب،1 فأسارع إلى الجواب أن الشعر روح اللغة، واللغة وعاء الشريعة،
فبينهما وشائج ورحم يجب أن توصل، وحقوق ينبغي أن تؤدى، ومن حُرم نعمة الأدب
بخس الشريعة حقها، ولم يحسن عرضها، وربما نفّر الناس منها لما يلبسها من
لبوس التزمت والوقار، وينأى بها عن روح التيسيير التي حث عليها محمد
البشير، عليه الصلاة والسلام.
سادتي الكرام، يدور حديثي إليكم حول شخصية
هذا الشاعر الخالد الذي وقع خطو التحرير بألحان شعره، فصدح بها في الدنيا،
وكتب الأناشيد الوطنية، و أصبح حقا شاعر وحدة المغرب العربي الكبير، وشاعر
الثورة الجزائرية التي عرفت في العالم بثورة المليون ونصف المليون شهيد.
ويُجمع
الدارسون أن هناك علاقة تأثير وتأثر بين ثورة التحرير الجزائرية وشاعرها
العملاق مفدي زكرياء، فالثورة ألهمت شاعرها، والشاعر خلد ثورته في جل
قصائده؛ إذ لا نلبث أن نذكر أحدهما حتى نتذكر الآخر.
أما الهدف من هذه الورقة فيتلخص في نقاط أساسية، هي:
أولا:
التعريف بأعلام المغرب العربي وتقديم صورة منصفة عن إسهامهم الفكري
والتاريخي لإخواننا المشارقة، والاستجابة لدعوات مخلصة نسمعها من أهل هذه
الأرض الطيبة لإزالة الصورة الغامضة التي انطبعت عن عروبة وإسلام المغرب
العربي في أذهان الكثيرين، مما كان له أسبابه التاريخية والجغرافية، ولكن
لم تعد لها مبرراتها في عصر العولمة والأنترنت، حيث تيسرت سبل الاتصال
والتواصل، وكان واجبا عينيا على أهل كل قطر عربي أن يعرف ويعرّف بباقي
أشقائه في أرجاء الوطن الكبير.
ثانيا: دعم مسيرة التواصل الثقافي
والعلمي بين جناحي الوطن العربي مشرقه ومغربه، دفعا لجهود المخلصين لتقويم
هذا النتاج العلمي والاستفادة منها، وبيان ما له وما عليه بكل موضوعية
وإنصاف.
ثالثا: إبراز أحد أوجه المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي الذي
جثم على أرض الجزائر مائة واثنتين وثلاثين سنة كاملة، وسعى لمحو المقومات
الشخصية للجزائر العربية المسلمة، وتحليل بعض مضامين هذا النتاج الشعري في
أبعاده الفنية والموضوعية.
ولعل من يمن الطالع أن يجمع شهر نوفمبر بين
الجزائر وعمان، فيكون منطلقا لعهد جديد، عهد خير وازدهار، يتحقق فيه
للشعبين الانطلاق في مسيرة البناء والتقدم لبناء الإنسان الذي يعمر الأوطان
وينشر الخير والعدل في كل مكان.
من خلال هذه الأهداف الثلاثة ننطلق
لنتعرف على الشاعر مفدي زكرياء، في لمحة عجلى تترسم منشأه ومرباه، وعوامل
نبوغه الشعري، ومضامين شعره، والمحاور الكبرى التي عالجها، مع إشارة إلى
بعض خصائصه الفنية ومميزاته الجمالية.
ولا تعدو هذه الورقات أن تكون
فتحا للشهية وإشارة متواضعة إلى هذا النبع الثر، والتراث الشعري الذي خلد
به زكرياء أمجاد وطنه، وقضى حياته يوظفه لخدمة الحق والخير والعدل، وحداء
قافلة الوطن إلى رياض الحرية والاستقلال.
وقد تناولت دراسات أكاديمية
وبحوث مستفيضة نتاج زكرياء الشعري، ونالت شهادات جامعية عليا، وأقيمت له
ندوات عديدة، كما تكرمت رئاسة الجمهورية الجزائرية بتأسيس مؤسسة باسم مفدي
زكرياء، في أكتوبر سنة 2001، وبمناسبة مرور ربع قرن على رحيله خصصت سنة
كاملة لإحياء مآثره، هي سنة 2002، سمتها "سنة مفدي زكرياء"، كانت سنة حافلة
بالندوات والأنشطة الثقافية إشادة وتنويها بما قدمه هذا الشاعر الكبير
لأمته ووطنه 2.
كما بُرمج إقامة ملتقى دولي بعنوان" الأبعاد الدينية والفلسفية والتربوية لآثار مفدي زكرياء" بمدينة غرداية في: 08-09 ماي 2005.
أعمال حول مفدي زكرياء
لا
تدعي هذه القراءة سبقا ولا إبداعا في تناول شعر زكرياء، بل هي فتح شهية
وإشارة إلى معينه وما فيه من روائع خالدات، تناولتها دراسات مستفيضة
متخصصة، نذكر من أبرز الأعمال التي تناولت شعر مفدي زكرياء، الدراسات
الآتية:
1-كتاب "مفدي زكرياء شاعر النضال والثورة"
يعد هذا الكتاب
رائد الدراسات الأكاديمية، والبوابة التي دلف منها الباحثون لهذا الشاعر
الكبير، ومن الإنصاف الاعتراف بالفضل لمؤلفه الدكتور محمد ناصر على هذا
الجهد العلمي الطيب، لما تميز به من تحليل دقيق لنتاج زكرياء الشعري، من
الناحيتين الفنية والموضوعية على حد سواء، ولما نشره من تراث مخطوط لزكرياء
لأول مرة يرى النور. وطبع الكتاب طبعة أولى سنة 1984، وثانية 1989.
2- شعر الثورة عند مفدي زكرياء، دراسة فنية تحليلية.
للدكتور
يحي الشيخ صالح، وأصل الكتاب رسالة ماجستير نوقشت بجامعة قسنطينة
بالجزائر، سنة 1986م. تناول فيها بالتحليل مضمون شعر زكرياء المتعلق
بالثورة الجزائرية.
3-شعر مفدي زكرياء.دراسة موضوعية وفنية.
للدكتور حواس بري، تناوله في رسالة ماجستير بجامعة عين شمس، بالقاهرة، سنة 1987م.
4-مفدي زكرياء شاعر مجد ثورة.
للباحث بلقاسم بن عبد الله، تاريخ النشر: الطبعة الأولى 1990، الثانية 2003
والكتاب
عبارة عن وثائق ومقابلات وشهادات في حق هذا الشاعر الكبير، الذي لم ينل
بعد حقه من التقدير رغم مرور ربع قرن على أفول نجمه عن عالم الأحياء. لكن
نجم شعره ظل ماثلا في القلوب والضمائر، يتحدى الزمان والمكان. لما يحوي من
خصوبة التجربة الشعرية والصدق والصراحة والجمال التصوير الذي عز أن يجتمع
لشاعر مثلما تسنى لزكرياء.
هذا الكتاب ثمرة جهود جادة متواصلة عبر
ثلاثين سنة، استهلها بلقاسم بن عبد الله بأول و أهم حوار مطول مع الشاعر
مفدي زكريا في صيف 1972 ليواصل المشوار بسلسلة من المقابلات و المقالات
لإنصاف الشاعر، فجاء كتابه في مائتين وأربعين صحيفة، جمع بين المادة
الأدبية و التاريخية، والأسلوب الصحفي المنهجي، وتضمن حوارات و ذكريات
وقصائد مخطوطة ومغمورة ووثائق وصورا نادرة.
5-مفدي زكريا في ذاكرة الصحافة الوطنية الجزائرية
صدر
حديثا عن مؤسسة مفدي زكريا كتاب تحت عنوان كلمات.. "مفدي زكريا في ذاكرة
الصحافة الوطنية" للمؤلف محمد عيسي وموسي وهو عبارة عن رحلة في ذاكرة
الصحافة الوطنية وذلك بمناسبة سنة حصاد مفدي زكريا. ويقع الكتاب في 345
صفحة من القطع الكبير ويعد رحلة في ذاكرة الصحافة الوطنية مع عينة مختارة
محددة امتدادها تسع سنوات من سنة 1985 إلى 1993.
فمن هو مفدي زكرياء:
الاسم: زكرياء بن سليمان بن يحي بن الشيخ سليمان، ولقب أسرته آل الشيخ.
ولد
سنة 1908م. بل ذهب بعضهم إلى تحديده بدقة، وهو يوم الجمعة 12 جمادى الأولى
1326 هـ الموافق 12 يونيه/حزيران 1908م، ببلدة بني يزجن، ولاية غرداية
جنوب الجزائر.
لقبَّه زميل دراسته سليمان بو جناح بـ "مُفدي" فأصبح لقبه الأدبي الذي اشتهر به.
المسار التاريخي:
بدأ
مفدي زكرياء مساره في مسقط رأسه متعلما بكتّاب البلدة، حيث حفظ جزاء من
القرآن ومبادئ العربية والفقه، ثم اصطحبه والده معه وهو ابن سبع سنين إلى
مدينة عنابة شمال شرق الجزائر التي كان تاجرا بها، وفيها أتم حفظ القرآن،
ثم جعل يتردد بينها وبين مسقط رأسه ولم تنتظم دراسته، حتى سنة 1922 إذ قرر
والده إرساله إلى تونس، فالتحق بمدرسة السلام القرآنية، وبعد سنتين انتقل
إلى المدرسة الخلدونية، ثم تحول إلى جامع الزيتونة، وأخذ عن علمائها دروس
اللغة والبلاغة والأصول، وكان خلال ذلك طالبا ذكيا نجيبا، برزت مواهبه
الشعرية مبكرا، وشغف بندوات الشعر والأدب التي كان يعقدها الأديب العربي
الكبادي. كما كان يتلقف ما يصل إلى تونس من مجلات شرقية تبعث النخوة
والوطنية فيتشربها ويتخذ مواضيعها مجالا للتدرب على الإنشاء والكتابة. نثرا
وشعرا. وكان يعرض شعره على أساتذته في البعثة العلمية الميزابية بتونس
لتقويمه، حتى انقاد له القريض.
وتعد فترة مكوثه بتونس مرحلة التكوين الأصيل التي وجهته التوجيه الأدبي والسياسي بعد ذلك.
وكان
للبيئة الإسلامية الأصيلة التي نشأها ولمصادر ثقافته الدينية ولما عاينه
من استبداد الاستعمار الفرنسي أكبر الأثر في تشكيل شخصيته الشعرية
والمتحدية التي طبعت إنتاجه الأدبي.
ثم رجع من تونس إلى الجزائر، وتوجه
للعمل التجاري ولكنه لم ينقطع عن مجال الفكر والأدب، وإن لم يكتب له النجاح
في المجال التجاري رغم تقلبه في أنواع من النشاط وانطلاقه في مشاريع عديدة
كان نصيبه فيها الفشل 3.
وكان من رواد الحركة الوطنية التي تبنت مبدأ
الاستقلال، مثل حزب نجم شمال افريقية وحزب الشعب، وقد نظم فيها شعرا وطنيا
صادقا، كما كان مؤيدا لجهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولكنه آثر
الانضمام إلى الحركات الوطنية الأخرى، حتى جاءت الثورة فكان سباقا إلى
رحابها فارتمى فيها ولقي في سبيلها ألوان العذاب، وسجنته السلطات
الاستعمارية خمس مرات، دامت في مجموعها عدة سنوات 4.
وكان ضمير ثورة
التحرير الحي ورائد قافلتها، يردد الوطنيون أشعاره في ساحات المعارك، وعلى
أعواد المشانق، حتى بزغ فجر الحرية، فاستقر بالجزائر في نشاط وفتح مكتبا
للتمثيل التجاري، ولكنه كان عاثر الحظ في هذا المجال، ولم تسعفه الظروف
للاستقرار، فتوجه إلى تونس سنة 1963 ومكث بها إلى سنة 1969 حيث يمم شطر
المغرب واستقر بالدار البيضاء وفتح مدرسة للتعليم الثانوي، وفتح خطا لنقل
البضائع.
وظل يجمع كما دأب طول حياته بين أعماله التجارية والإدارية
وإبداعاته الأدبية، وتردد كثيرا بين أقطار المغرب العربي مشاركا في
تظاهراته ونشاطاته الثقافية والسياسية، وشارك بشعره ومناقشاته في جل
ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر 5.
وختم حياته برائعته الخالدة "إلياذة
الجزائر" جمع فيها ما تفرق في غيرها، وأبرز فيها لوح الجمال ولوح الجلال،
جمال الطبيعة الساحر، وجلال التاريخ الزاخر.
وكانت وفاته يوم الأربعاء
02 رمضان 1397هـ الموافق 17 أوت 1977م بتونس وعمره تسعة وستون عاما ونقل
جثمانه إلى الجزائر ودفن بمسقط رأسه في بني يزقن - ولاية غرداية.
منابع ثقافة زكرياء:
1- القرآن،
2- التراث العربي الإسلامي،
3- البيئة المحافظة.
4- التحدي الاستعماري لاجتثاث المجتمع الجزائري من ثوابه ومقوماته.
فالمطلع
على آثار مفدي زكرياء، خاصة منها قصائده الشعرية، يدرك بجلاء أثر المصادر
الدينية الإسلامية فيها، خاصة تأثير القرآن الكريم، والسيرة النبوية
الشريفة والتاريخ الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات؛ كما أن آثار مفدي
الأدبية، لا تخلو من معانٍ فلسفية تتجلى في الفكرة العميقة، والحجة القوية،
والنقد الجرىء، ناهيك عن الرؤية الشاملة في تناول الموضوعات مما ينم عن
عبقرية فلسفية متفردة.
إلى جانب هذا فإن آثار مفدي مملوءة بالتوجيهات
التربوية؛ فآثاره وشعره بالأخص يعد مدرسة لتربية الأجيال، تبث القيم
النبيلة الداعية للتشبث بالأصالة والروح الوطنية، والسعي للذود عن الدين
والوطن.
إنتاج مفدي زكرياء:
أولا: الشعر
يمكن اختزال مضمون
ومعالم شعر زكرياء، أنه كان شعر قضية، إذ لم يكن في كتابته الشعرية لاهيا
أو متسليا، ولم ينظم الشعر مضاهاة أو مباهاة، ولكن كان شعره نبض مشاعر،
وصدى لأمة ذاقت ألوان العذاب وعرفت أقسى أنواع الاستعمار، إذا احتل الأرض
وسعى ليسلب العقل والقلب، ويمسخ الفكر واللسان، ويشوه التاريخ، وبذل في
سبيل ذلك كل حيلة واتخذ له ألف وسيلة.
ولكن يقظة الضمير الحر في أبناء
الشعب الجزائري حالت دون تحقيق هذه المطامح، فتضافر العلماء والمصلحون،
والشعراء والمثقفون، لتحصين الشعب من داء المسخ والفرنجة، وتركيز هويته
وأصالته، فتحقق المراد وبزغ فجر الاستقلال.
وانتظم شعر زكرياء في هذا
المسار منذ بواكير إنتاجه واستمر وفيا لهذا الخط إلى آخر رمق من حياته. ولم
تغيره الظروف المتقلبة والمحن المتتالية عن هدفه المرسوم، بل ظل يلهج بحب
الوطن ويشيد بالأمجاد والقيم، وينـزل بشعره حَمما على الظالمين، ويدعو إلى
وحدة العرب والمسلمين، حتى وافاه أجله ولحنه الخالد: الأصالة والوطنية،
والوحدة والحرية.
ويتمثل نتاجه الشعر في الدواوين الآتية:
1- اللهب المقدس. صدر سنة 1961
2- تحت ظلال الزيتون. سنة 1965
3- من وحي الأطلس. 1976
4- وإلياذة الجزائر في ألف بيت وبيت 1972.
كتب
شاعر الثورة مفدي زكرياء رائعته (إلياذة الجزائر) وألقاها لأول مرة في
جلسات الملتقى السادس للفكر الإسلامي المنعقد في قصر الأمم بالجزائر
العاصمة في شهر جويلية 1972، وفي السنة نفسها صدرت الإلياذة في واحدة وستين
مقطوعة (61)، تضم ست مائة وأحد عشر بيتا (611)، وفي السنة الموالية (1973)
صدر نصها الكامل في مائة مقطوعة (100)، تضم ألف بيت وبيتا (1001) من
الشعر، كتبها الخطاط الأستاذ عبد المجيد غالب، وكتب تقديمها المرحوم
الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، الذي كان وزيرا للشؤون الدينية حينئذ،
وكانت له مساهمة فعالة في ميلاد الإلياذة بما كان ينفح به زكرياء من حقائق
التاريخ ليصوغها شعرا نابضا بالحياة، بالاستعانة بالمؤرخ التونسي الكبير
عثمان الكعاك.
ثم توالى من بعد، صدور طبعات مصورة طبقا لاصل طبعة سنة 1973، وذلك في السنوات التالية: (1986، 1987، 1992، 1995، 2001 ، 2002).
5- أمجادنا تتكلم. تحقيق مصطفى بن بكير حمودة، وتقديم رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة.
يقع
الديوان في أكثر من 300 صفحة يحتوي على تسعة و سبعين قصيدة اختير عنوان
الديوان من رائعته عن أمجاد مدينة بجاية بمناسبة الملتقى الثامن للفكر
الإسلامي الذي انعقد في بجاية يوم 25 مارس 1974 وضع لها الشاعر عنوانًا هو
"أمجادنا تتكلم".
واعتمد المحقق مصادر عدة لتجميع هذه القصائد المتناثرة من مكتبة الشاعر ورفاقه وجهود بعض الباحثين خارج الجزائر.
وقد
حظي الديوان بتصدير بقلم فخامة رئيس الجمهورية جاء فيه: «إن إصدار آثار
مفدي زكرياء، وجعلها في متناول الأجيال لهو واجب يدخل في صميم رعاية أنصع و
أشرق ما نقشه المجاهدون والمجاهدات في ذاكرتنا الوطنية عبر العصور، إنها
تمثل صفحات فريدة من نوعها في ثبت أمجاد الجزائر والأمة العربية، ذلك لأنها
تجمع بين الشموخ والفداء و التألق في الإبداع الشعري والرفعة والسموق في
الإباء والجهاد بالفكر الكلمة في سبيل تحرير الوطن»
ولزكرياء بعد هذه
الدواوين الخمسة: جانب شعر كثير لا يزال متفرق في الصحافة الجزائرية
والتونسية والمغربية، ودواوين معدة للطبع (أو طُبعتْ بعد ذلك) منها:
6- أهازيج الزحف المقدس (أغاني الشعب الجزائري الثائر بلغة الشعب).
7- و"انطلاقة" ديوان المعركة السياسية في الجزائر من عام 1935 ـ 1954.
8- و"الخافق المعذب" من شعر الهوى والشباب، ومحاولات الطفولة التي كتبها الشاعر في صباه.
9-
كتب مفدي زكريا الأناشيد الوطنية، ومنها النشيد الوطني الجزائري، ونشيد
العلم الجزائري، ونشيد جيش التحرير الوطني، ونشيد المرأة الجزائرية، وغيرها
من الأناشيد.
النثر:
10- تاريخ الصحافة العربية في الجزائر لمفدي زكريا جمع وتحقيق د. أحمد حمدي.
تاريخ النشر: الجزائر – 2003
يعتبر
نشر هذا الكتاب لبنة جديدة للتعريف بتراث زكرياء النثري المغمور، رغم
أهميته، حيث يمكن من خلاله أن نتعرف على جانب آخر من عبقرية مفدي، وهي
المتعلقة بالناثر الجاد، وذلك من خلال كتابه "تاريخ الصحافة العربية
العربية بالجزائر" والذي سهر على جمعه وتحقيقه وإخراجه في شكل كتاب بعدما
كان حلقات إذاعية متسلسلة الأستاذ الدكتور أحمد حمدي.
وتضمن الكتاب رصد
ظهور الصحافة العربية بالجزائر، معركة الصحافة الإصلاحية، ونماذج بارزة من
هذه الصحف ودورها مثل "الشهاب" لابن باديس، و"المنهاج" لأبي إسحاق اطفيش،
و"وادي ميزاب" لأبي اليقظان.
11- كما كتب مفدي مسرحية بعنوان "الثورة الكبرى"،
12- واشترك مع الأديب التونسي الهادي العبيدي في تأليف كتاب الأدب العربي في الجزائر عبر التاريخ (أربعة أجزاء)،
13- وفي كتاب "أنتم الناس أيها الشعراء".
14- كما شارك الأديب التونسي الحبيب شيبوب في تأليف كتاب "صلة الرحم الفكرية بين أقطار المغرب العربي الكبير".
15- وبمشاركة المؤرخ التونسي محمد الصالح المهيدي كتب عن أقطاب الفكر المغربي على الصعيد العالمي. وغيرها من الأعمال المشتركة.
16- ومن أعماله النثرية: نحو مجتمع أفضل،
17- وست سنوات في سجون فرنسا،
18- وحواء المغرب العربي الكبير في معركة التحرير،
19- وقاموس المغرب العربي الكبير (في اللهجات المغربية)
20- وعوائق انبعاث القصة العربية،
21- وقصة اليتيم في يوم العيد،
22- والجزائر بين الماضي والحاضر، وغيرها.
23- أضواء على وادي ميزاب
24- الكتاب الأبيض
موضوعات شعر زكرياء
تناول
زكرياء في شعره موضوعات أساسية كانت تخدم فكرته وتعالج واقعه، وتلبي
طموحاته وما نذر نفسه له من فداء وطنه حتى تحقيق النصر والاستقلال. فكان
موضوعه الأساس الوطن، وما حام حوله، وسعى للحفاظ عليه ورفع شأنه وتحقيق
عزته وكرامته:
الوطن، الأمجاد، الحرية، الوحدة، الطبيعة، الأخلاق والقيم، محاربة الاستعمار، إنكار التفسخ الخلقي والانحلال.
ويمكن تحديد أهم أغراض الشعر عند زكرياء في النقاط الآتية:
1- التغني بالتاريخ والبطولات. والأمجاد، وهو جانب الجلال.
2- الإشادة بالوطن، وما يزخر به من جمال ساحر.
3- السخرية بالمستعمر وتحدي بطشه وجبروته.
4- التقريع والتشهير بالخونة والعملاء الذي يعينون المستعمر على بني جلدتهم.
5- الإشادة بالقيم والأصالة والدعوة للاستمساك بها.
6- التحذير من الانسلاخ والانبهار بالوافد من العادات التي تخالف أصالتها وتنافيها.
يقول في الاعتزاز بمقومات الأصالة:
شربت العقيدة حتى الثمالــــة فأسلمت وجهي لـرب الجلالــه
ولولا الوفـاء لإسلامنــــا لمـا قرر الشعب يومـا مآلـــه
ولولا استقامــة أخلاقنــــا لمـا أخلص الشعب يوما نضالــه
ولولا تحالف شعـب وربٍّ لمـا حقق الرب يومــا سؤالـه
هو الدين يغمـر أرواحنــا بنـور اليقيـن ويرسي العدالــه
إذا الشعب أخلـف عهد الإلــه وخـان العقيــدة فارقُب زواله
7- الدعوة إلى الوحدة بكل معانيها ودوائرها، على المستوى الوطني، والمغربي، والعربي والإسلامي.
وقد
جسد هذه الدعوة في نص دبجه بيده وتلاه على المؤتمر الربع لطلبة شمال
إفريقيا بتونس سنة 1934، سماه "ميثاق التوحيد" وجعله إيديولوجية وعقيدة،
محددة في عشرة بنود. مما جاء فيها:
1. «آمنت بالله ربا وبالإسلام دينا،
وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، وبشمال
إفريقيا وطنا واحدا لا يتجزأ.
2. أقسم بوحدانية الله أنني أومن بوحدانية شمال إفريقيا وأعمل لها ما دام فيّ قلب خافق ودم دافق ونفس عالق.
3.
كل مسلم، بشمال إفريقيا، يؤمن بالله ورسوله ووحدة شماله، هو أخي، وقسيم
روحي، فلا أفرق بين تونسي وجزائري ومغربي، وبين مالكي وحنفي وشافعي وإباضي
وحنبلي، ولا بين عربي وقبائلي، ولا بين مدني وقروي، ولا بين حضري وآفاقي،
بل كلهم إخواني أحبهم وأحترمهم وأدافع عنهم ماداموا يعملون لله والوطن،
وإذا خالفت هذا المبدأ فإنني أعتبر نفسي أعظم خائن لدينه ووطنه.
4.
وطننا شمال إفريقيا جزء لا يتجزأ من جسم الشرق العربي، نفرح لفرحه ونتألم
لألمه، ونتحرك لتحركه، ونسكن لسكونه، تربطنا به إلى الأبد روابط اللغة
والعروبة والإسلام»…
إلى آخر البنود العشرة.
صلة زكرياء بالمشارقة:
يتضح
من نص ميثاق التوحيد الحضور المشرقي القوي في فكر زكرياء، ودعوته للتوحيد
تتجه دائما إلى هذا الأفق الرحيب الذي يحتضن العالم العربي والإسلامي
قاطبة، وهو بحكم تكوينه الديني والأدبي يظل يعتبر القبلة صوب المشرق، فمنها
المنهل وإليها يتجه الأمل.
والجدير بالتنويه أن من المحطات البارزة في
مسار زكرياء الشعري انتداب جبهة التحرير له سنة 1961 ليمثل الجزائر في
مهرجان الشعر العربي بدمشق، فتعرف عليه الشعراء العرب عن كثب، بعدما سمعوا
روائع أشعاره من بعيد، وشد الانتباه إليهم بنتاجه المتميز المتقد حماسا
ووطنية، وعزة وإباء. وزار في تلك الرحلة عددا من بلدان المشرق كالقاهرة
ودمشق وبيروت، والأردن والعراق والسعودية والكويت وقطر. وسجل فيها أحاديث
إذاعية ومقابلات صحفية وأمسيات شعرية. ودامت رحلته أربعة أشهر، حقق فيها
نجاحا إعلاميا رائعا، كان فيها سفير الجزائر دون أوراق اعتماد. 6
ولكن
هذا الصيت الداوي لزكرياء لم يستمر إلا لأمد محدود، إذ تنكر له الأقارب،
فكان منطقيا أن ينساه الأباعد، ودارت عجلة الزمان، فأنصفته الأيام، وأعيد
له الاعتبار، وعاد باقتدار إلى شرفاته في قصر الأدب العربي الشامخ.
ويأسف
العارفون بزكرياء من الباحثين المشارقة أن اسمه لا يتردد بين شعراء العرب
اللامعين، وإن بدأ يعرف طريقه مؤخرا بجهود فردية موفقة، منها «مقالات
الشاعر الكبير فاروق شوشة بجريدة الأهرام، والتي أعاد نشرها في كتابه
"الشعر أولا والشعر أخيرا" فتحدث عنه باعتباره رمز الارتفاع عن قيد العرق
أو الجنس، إلى سماء النـزعة الوطنية والقومية والإسلامية، منفتحا على أفق
إنساني رحب، وقيم سامية للخير والحق والجمال» 7.
خصائص شعر زكرياء:
السمة البارزة في شعر زكرياء هي الصدق الشعري وأثر المعاناة الشعورية فيه. السجون والتعذيب، محنة الشعب الجزائري في ظل الاحتلال.
ويمكن الإشارة إلى خصائص شعر زكرياء في النقاط الآتية:
1- أنه شعر أصيل حتى النخاع.
2- شعر صادق لأنه نابع من تجربة شعورية ومعاناة قاسية.
3- مستمد من التراث الإسلامي. مشبع بقيمه ومثله متأثر بعظمائه وتاريخه.
4- رائع في رسم الصور الشعرية الحية المؤثرة.
5- بارع في الاقتباس والتضمين. سواء للمفردات أم الأحداث، من القرآن أم من التاريخ.
ويمكن اختيار مقطعين من قصيدتين، تجليان هذه الخصائص في شعر غاية الجلاء:
الأولى
في وصف مدينة قسنطينة، المعروفة تاريخيا باسم سرتا، وهي مدينة محصنة بين
الجبال، يحتضنها وادٍ سحيق يجري في سفوح جبالها، وتصل بين أجزاء المدينة
جسور عالية بعضها معلقة بحبال من حديد، تعطي المدينة منظرا بديعا يتمازج
فيه الجمال والجلال، يقول فيها:
وانزل بدارات سرتا مطرقا، أدبًـا فبيـن أضلعها آباؤنـا الصيـد
وامش الهوينـا، ففي أحشائها أمم وفي جوانحهـا أسد معاميـــد
دم الصحابة معجون بتـربتهــا قد خلدتهـا على الدنيـا الأسانيد
تياهة تزدهـي عجبا بشاهقــة من الجبال لهــا لله توحيــد
"وادي الهوا" بالهوى نشوان خاصرها وخاصرته كأن الأمر مقصــود
لدى خريـر من الأمواه تحسبهـا لحنـا من الخلد قد غناه داود
الكوثر العذب يحكيهـا ويحسدهـا وحوضها الحلو مثل الحوض مورود
ونسمة مثل أنفاس الحسان سـرت لطفًـا يراقصها في الروض أملـود
مرعى الظبا وعرين الأسد لا عجب كلاهما في "جبال الوحش" موجود
مناظر من صنيع الله قد ملئــت سحرا وشعرا بهـا الخلاق معبـود
والصورة
الثانية صدّر بها رائعته الخالدة "الذبيح الصاعد" التي كتبها متأثرا بمشهد
إعدام رفيقه "أحمد زبانا" بالمقصلة في سجن بربروس، فراح يصور مشهد الجنازة
عرسا نحو دار الخلود يمتلئ بالأناشيد، لا جنازة تخيم عليها الكآبة والحزن
الشديد،
قام يختال كالمسيح وئيدا يتهادى نشوانَ، يتلو النشيدا
باسمَ الثغر، كالملائك، أو كالط فل، يستقبل الصباح الجديدا
شامخاً أنفه، جلالاً وتيهاً رافعاً رأسَه، يناجي الخلودا
رافلاً في خلاخل، زغردت تم لأ من لحنها الفضاء البعيدا!
حالماً، كالكليـم، كلّمــه المجـ د، فشد الحـبال يبغـي الصـعودا
وتسامى، كالــروح، في ليلة القد ر، سلامـاً، يشِعُّ في الـكون عيدا
وامتطى مذبـح البطولـة مــع راجاً، ووافى السمـاءَ يرجو المزيدا
وتعالى، مثـل المؤذن، يتـلـو… كلمات الهـدى، ويدعـو الرقودا
صرخة، ترجف العـوالم منهـا ونـداءٌ مضـى يهـز الوجـودا:
"اشنقوني، فلسـت أخـشى حبالا واصلبوني فلست أخشى حديـدا"
يعلق
الدكتور محمد ناصر على هذا المقطع قائلا: « وقد وُفق الشاعر كل التوفيق
إلى توظيف أدواته الفنية التي تضافرت جميعها على تفجير الإحساس بالموقف في
نفس المتلقي، لهذا استغل مفدي –بدافع رؤيوي صادق- كل ما في الألفاظ
والكلمات من طاقة إيحائية نغمًا وصورة ومعنى، فقدم بين أعيننا هذه اللوحة
الخالدة التي تعدّ من أصدق اللوحات المجسدة لعظمة الثورة التحريرية
الجزائرية» 8.
نماذج شعر زكرياء
لعلنا بحاجة إلى أن نسمع
لزكرياء أكثر من أن نسمع عنه، وندع مجال التحليل والقراءة النقدية
للمتخصصين، ونحاول التملي في بعض عيون شعر زكرياء، والتعرف على أهم القضايا
التي تناولها وعالجها. وصرح بمواقفه الواضحة الثابتة أزاءها. مثل الشعر
وموقفه من الشعر الحر، ومكانة الثورة في قلوب أبنائه، والدعوة إلى الوحدة،
وغيرها من القضايا.
رسالة الشعر عند زكرياء:
يرى أن الدمع والبكاء لا يجدي إذا لم يصغه قالب شعري صادق يخلده ويبعث به موات القلوب:
وما الدمع بالسلـوى إذا لـم يكن ترقرَقَ في شعــر تردده الورقـا
هو الشعر أسـرار القلوب تقمصت لديــه فأولاهـا الصراحة والنطقا
هو الشعر أبيات النبوغ تفجـرت بكاساته البيضا فناولهـا الخلقــا
هو الشعر أنات القلوب تــرددت بمـزهره الصـداح تخترق الأفقـا
هو الشعر للإحساس أهدى من القطا وأبصر في بحر العواطف من زرقــا
ويقول عن المنغمسين في مطالب الماديات ومن حُرموا نعمة الشعر:
دنياهمُ دنّس الأطمـاع حرمتَهــا والشعر كالوحي، أصفانا فزكّانــا
وإننا الشعراء النــاس، ما فتئـت أرواحنـا تغمر الإنسان إيمانـــا
رســالة الشعر في الدنيـا مقدسة لولا النبوة كان الشعر قرآنـــا
فكم هتكنا بها الأستــار مغلقـة وكم غزونا بها في الغيب أكوانــا
وكم جلونا بها الأسرار مبهمـــة وكم أقمنا بها للعدل ميــزانا
وكم صرعنا بها في الأرض طاغيـة وكم رجمنا بها في الإنس شيطانـا
وكم حصدنا بها الأصنام شاخصـة وكم بعثنا من الأصنام إنسانـــا
وكم رفعنا بها أعلام نهضتنـــا فخلد الشعر في الدنيــا مزايانـا
رأيه في الشعر الحر:
كان
وفيا لكل أصيل يمت إلى جذور الأمة وتاريخها، وكان يرفض التجديد الذي يقفز
على الثوابت والقواعد، ومن ذلك رفضه للشعر الحر باعتباره سطوا على نظام
الشعر الأصيل، لأن النظم هو الذي يحفظ إيقاع الكلام ويعطيه موسيقاه الخاصة،
وإذا تفلت منها صار نثرا، ويمكن تعليل رفضه للشعر الحر باعتباره نموذجا
لهذا الوافد المتنافي مع شعرنا الأصيل.
فقد أورد بلقاسم بن عبد الله في
كتابه "مفدي زكرياء شاعر مجد ثورة" حوارا مع الشاعر حول حياته وإنتاجه
الشعري، وموقفه من الشعر القديم والجديد أو الحر والعمودي، وكان رأيه
صريحا، إذ قال: «لا يوجد في اعتقادي، وفي مفهوم بني آدم، شعر قديم أو جديد،
فإما شعر أو لا شعر، وكفى. وأنا أومن بالأصالة وبصلة الرحم بين المعاني
والكلمات، وبالنبض الموسيقي المتجاوب مع نبضات القلب، وما عدا ذلك فسموه إن
شئتم نثرا مجنحا، وإن خلا من البيان وأصالة الكلمة، فسموه رطانة ولغوا
وهراء، وإذا شذ عن كل ذلك فسموه شعر الخنافيس، أو شعر الهيبي، أو شعر
النايلون أو شعر الساندويتش، أو ما شاء لكم الخيال. والموضوع على بساطته
يحتاج إلى كثير من الإسهاب، وفي برنامج يُذاع لي حاليا بإذاعة الرباط
"الصراع بين الشعر الأصيل والشعر الدخيل" الجواب الكافي". »
كما اعتبر هذا الشعر لقيطا لأنه مبتور الصلة بتراثنا العربي الإسلامي، معنى ووزنا:
وعابثين أرادو الشعر مهزلـــة فأزعجوا برخيص القول آذانــا
تنكروا للقوافي حين أعجزهــم صوغ القوافي، وضلوا عن ثنايانــا
قالوا: جمود على الأوضاع وزنكمُ فشعرنا الحر لا يحتاج ميزانــا
فأين من جرس الإيقاع خلطكــم ما الشعر؟ إن لم يكن دوحًا وأغصانا
وهل أعار رواة الشعر لغوكــم وزنا، وهل حشوكمُ بالحفظ أغرانا؟
وما الذي يصل الأرحام في غدكـم إن كان ماضيكمُ زورا وبهتانـــا
"رجعى" العروبة لا "عدوى" الدخيل بنا شتان ما بين عدواكمُ ورُجعانــا
وظل
يقرع دعاة الشعر الحر كلما سنحت له فرصة، فهذه واحدة أرسلها في إلياذته
منددا بدعاة التقدم الأهوج، القائم على نقض الأصول وعدم التمييز بين
الثوابت والمتغيرات:
وقــالوا: التقـدم شِعـر لقيـط تطير الأصالة فيه شظـايـــا
تفاعيلـه كضمير اليهــــود يصوغ مبـانيه خبث النــوايــا
وقد أصبح الشعر كالجيل خنثــى تذيب الميـوعة فيه الخلايـــا
تصوير عظمة الثورة في نفوس أبنائها:
يحشد صورا رمزية مكثفة لبيان عظمة هذه الثورة وما حققته من معجزات شبيهة بمعجزات الأنبياء، فيقول:
وما دلنا عن موت من ظن أنــه "سليمـان" منساة على وهمها خرَّا
ورثنا عصى موسى، فجدد صنعَها حِجانا، فراحت تلقَّف النار لا السحرا
وكلم موسى اللهُ في الطور خفيـةً وفي الأطلس الجبـار كلّمنا جهـرا
وأنطق عيسى الإنس بعد وفاتهـم فألهمنـا في الحرب أن نُنطق الصخرا
وكانت لإبراهيم بـردًا جهنــمٌ فعلمنـا في الخطب أن نمضغ الجمرا
وحدثنا عن يوم بـدر محمــد فقمنا نضاهي في جـزائرنا بـدرا
تباركت شهرا بالخـوارق طافحا وسبحان من بالشعب في ليله أسرى
ونجده يكرر الصورة نفسها في إلياذته عن مناسبة نفمبر إذ يقول:
تأذن ربك ليلـة قــــــدر وألقى الستــار على ألف شهـر
وقال لـه الشعب: أمـرَك ربــي وقال لـه الرب: أمــرُك أمـري
ولعلع صـوت الرصاص يــدوّي فعـاف اليراع خـرافة حبـــر
وتأبى المــدافع صوغ الكلام إذا لم يكـن من شواظ وجمــر
وتأبى القنـابل طبع الحــروف إذا لم تكـن من سبائك حُمـــر
وتأبى الصفائح نشر الصحـائف ما لم تكــن بالقرارات تســري
ويأبـى الحديد استمـاع الحديث إذا لم يـكن من روائـع شعـري
نفمبــر غيرت فجر الحيــاة وكنت نفمبـر مطلـع فجــر
وذكرتنـا في الجـزائر بــدرا فقمنـا نضاهـي صحابــة بدر
الدعوة إلى الوحدة الكبرى:.
تشكل
قضية الوحدة مرتكزا محوريا في فكر وشعر مفدي زكرياء، وقد ظل ينادي بها
ويتغنى بها بإصرار متواصل منذ بواكير إنتاجه الشعري، وظل وفيا لهذا المبدإ
الذي اعتنقه ودافع عنه في كل مناسبة، وجسده بنشاطه العملي من توطنه بلدان
المغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب حتى آخر حياته.
ويعتقد أن توحيد
الصف كان السبب الرئيس لتحقيق استقلال الوطن، ولذلك كان يدعو للتمسك به كل
من أراد النجاح، ويتجه للأشقاء في فلسطين أن يأخذوا العبرة من هذا الدرس
الثمين:
نوفمبر جل جلالك فينــــا ألست الذي بث فينـا اليقينــا
سبحنا على لجـج من دمانــا وللنصـر رحنـا نسوق السفينـا
ولولا التحام الصفـوف وقانـا لكنـا سماسـرة مجرمينـــا
فليت فلسطيـن تقفو خطانــا وتطوي كما قد طوينــا السنينا
وبالقدس تهتـم لا بالكراسي تميـل يســارا بها ويمينــــا
ويشيد
بوحدة الأمة العربية التي تجمعها عوامل الدين واللسان والتاريخ، والآمال
والآلام. ويؤكد حقيقة بدهية هي أن الفرقة شقاء وذل وهوان:
يقول في قصيدة ألقاها بالجزائر العاصمة سنة 1932:
كفانـا شقـاء من وباء شقاقنـا وتمـزيق مجموع وتشتيـت أفـراد
فهل نحن إلا أمة عربيــــــة شقيقـة أرواح، قسيمـة أكبـاد
وهل نحن إلا أمـة أحمــديــة مقدسـة، غــرَّا، سليـلة أمجاد
ويلح على هذا المطلب في مؤتمر تلمسان سنة 1935، قائلا:
إن الجزائر في الغـرام وتونسًـــا والمغـرب الأقصـى خلقـن سواءَ
نحـن العروبة والشمـال بلادنــا وبـه نعيـش أعـزة كرمـــاء
أرض مطـهرة تضــمّ ضلوعها مُهجًـا هناك زكيــة ودمــاء
بـدم الصحابة قد تعطّـر ظهرهـا قِدْمًـا، وآوى بطنُهـا الشهــدَاءَ
وتعـانقت فيها البنـود خوافقًــا حمـراء تحمـل للأنـام رفـــاء
شعب أغرّ وأمــة عربيــــة ما إن تطيق مـذلـة وشقـــاء
ولا
يسعفنا المقام لاستقراء كل نصوصه الشعرية في هذه القضية، ونجتزئ ببعض
الإشارات إلى هذا الهم الذي سكن قلبه، والأمل الذي طالما راوده، وكان موقنا
بتحققه يوما، وإن رآه البعض ضربا من الأوهام والخيال. ووضع في طريقه سدودا
من البحار والجبال.
يقول في قصيدته "البردة الوطنية" سنة 1937:
تونس والجزائر اليوم، والمغـــرب شعب لن يستطيع انفصـــالا
وحدة أحكـم الإلـه سَـداهـا، مـــن يـرد قطعـه أراد محالا
نبتـت من أب كريـم وأمّ سمـتْ في الحــياة عمًّــا وخــالا
نصبـوا بينــها حـدودا من الـ ألـواح، جهلا وخدعـة، وضلالا
فاجعلـوا إن أردتـم الكون سـ ـدًّا، وضعوا البحر بيننا والجبـالا
نحن روح مـزاجه الضـاد والد يـن، فلـن يستطيع قطّ انحـلالا
كلما رمتـم افتراقــا قرُبنــا وعقدنــا محبة واتصــــالا
ويردد الفكرة ذاتها في غير ما قصيدة، منها: قوله:
إن الجزائر أمــة عربيـــــة تسعـى إلى استقـلالها وتجــاري
كفر الألـى قالوا الشمال ثلاثــة ودعوا إلى إذلالـــه بالنـــار
نصبـوا العصي على الحدود سفاهة وسعـوا إلى توزيعـه لضــرار
المغرب العربي شعب واحــــد مل العروق دم العــروبة جــاري
للشـرق لا للغـرب ولّـى وجهه فغـدا له سنـدًا، لخـوض غمـار
ويصل المغرب بالمشرق في هذه الدعوة الملحة التي أرسلها في الذكرى الثانية للثورة:
رسول الشرق قل للشـرق إنــا على عهـد العروبة سوف نبقــى
وإمـا بالجزائر أنكــرونـــا سنخرق وصمة الإجمـاع خرقــا
سيعتـرف الزمان غـدًا بأنـــا سبقنـا وثبـة الأقـدار سبــقا
وأنـا في الجزائـر خيـر شعب عروبتــه مدى الأجيـال وُثقَـى
وأن الوحـدة الكبرى إذا مـــا تحــررت الجزائر سوف تبقــى.
وبعد استقلال الجزائر يظل وفيا لندائه وغنائه بهذا الحلم الجميل، إذ يقول:
ويا عروبةُ من أمّ لـنــا وأبٍ هنـا العروبـة دوحـات وأغصان
هنا الأصالة في صلـب وفي رحـمٍ هنـا القرارات تدبيـر ورجحـان
هنـا فلسطين تمتـد انطلاقتهــا إن كان في العـرب أنصار وأعوان
ونحن للوحـدة الكبـرى دعامتها إن كان في العرب تفكيـر وميـزان
مدّوا يدًا نبـنِ دنيـانا موحـدة فمـا استقام بدنيـا الخلف بنيـان
ويستشهد بجبال الأطلس التي تمتد عبر بلدان المغرب الثلاثة، ويتخذها دليلا على وحدة هذه البلاد أرضا وأمة، وتاريخا ومستقبلا،
سل الأطلس الفرد عن جُـرجـرا تعالى يشد السما بالثـــرى
هو الأطلس الأزليّ الـــــذي قضى العمر يصنــع أسد الشرى
فيا من تردد في وحــــــدة بمغـربنا وادعى وامتــــرى
أما وحـد الأطلس المـغـربــ ـيّ معاقلنــا بوثيـق العـرى؟
أمـا طوقتنــا سلاسلـــه فطـوق تـاريخنـا الأعصــرا؟
وفي إلياذة الجزائر خصص مقطعا لتأكيد هذه الوحدة الغالية، يقول فيه:
تماوج في فاس رجــع الصــدى من القـرويين يغـزو المــدى
يساجـل زيتونـة للســــلا م مباركــة فتلبــي النــدا
هو المغرب الأكبـر المستمـــ ـدّ رسالاتــه من رسول الهـدى
ووحدة مغربنا اليوم خطــــوٌ إلى وحـدة المسلميــن غــدا
بتوحيــد بعض نوحـد كـلاًّ وهـل ينكر الخبـر المبـتـــدا
فربـمـا كــان مغربنـــا مثـالا قويمـا بــه يُقتـــدى
وإن سلـك العُـرب في أمرهــم سواء السبيـل مددنـا اليــدا
وقمنــا بأرواحنـا نفتديهــم ونحن الألـى أخلصـوا للفــدا
ويستبـدلون بالشعارات الفـعـل فاستوجبـوا العـز والســؤددا
وقد تملكه اليأس عندما تحطمت هذه الآمال إثر الاستقلال وبدرت بوادر الانشقاق، فعبر عن ذلك بقوله:
أنا حطّمت مزهـري، لا تسلنــي وسلوت ابتسامتي، لا تلمـنــي
مذ تراءى الشقـاق حطمت كأسا تــي، على مبسمي، وأحرقت دَنّي
مذ رأيت السفين يجرفهـا اليــ ـمّ لسوء المصير، أغرقت سفنـي
مذ رأيت الغصـون ينعى بها البــو م، تجافيتهـا، وودعـت غصنـي
ورأيت الرؤوس طافـت بهـــا حمّى الكراسـي، ونالها مسّ جـنّ
فتخيرت في الرقَى (سورة الإخــ لاص)، مـذ بات غيرها ليس يغنـي
التنديد بالميوعة والتفسخ والانحلال الخلقي: تخنث هذا الزمان.
أقام
زكرياء حربا عوانا على دعاة التفسخ والانحلال الذين ازدهرت دعوتهم في
السبعينيات من القرن العشرين، ووجدوا لهم آذانا صاغية وانبهارا حير عقلاء
المجتمع، فقال فيهم زكرياء ساخرا:
طبائعنا صالحات جليلــــه تعاف انحـلال النفوس الذليلــه
وتأبى رجولتنــا الابتـــذال وأحلاسـه والشعـور الطويلــه
تخنث هـذا الزمـان ودبـــت خنافيـس "هيبـي" تشيع الرذيله
ونافسَ آدم حــوّاءه دلالا، وغنجًا، وذبـح فضيلــه
ولولا النهـود لمـا كنـت تفــ ـرق بين جميــل وبين جميلــه
وشاع الشـذوذ وذاع الحشيـش وأصبـح للمـوبقات وسيــله
وتقرف آنافَنـا القــاذورات فلم تُجـد في صرفهـا أي حيلـه
وأرض الجـزائر أرض الفحـول فأين الشهامة أين الرجولــــه؟
ومن لم يـصن حرمات البــلاد ويذرو النفايـات قد خـان جيله
ومرة أخرى يتجه إليهم في سخرية جديدة:
ومستهترون أضاعوا الثنـــايـا وشاع تنكــرهم للسجايـــا
وقالوا: التقـدم خلـع العــذا ر، وهتك العفاف، ونشر الخطايـا
وجدل الشعور ولبـس الحلـيّ وحمل القـلائد مثل الصبايـــا
ويتفخـرون بشرب الخمـــور وفي الكأس ترسب كل البـــلايا
وحذر من الغزو الشيوعي الوافد بلونه القرمزي، وإن تستر بلباس العلم وحمله أصحاب شهادات جامعية مرموقة، فقال:
أمانًا من الخـطر الداهــــم ومن معـول قاصف هــادم
غـزا المذهبيـون عقول الشبــا ب بمستورَد آفــن آثــــم
وزاغوا بهـم دون إسلامهـــم إلى مذهـب ليـس بالسـالــم
ودسّـوا شيوعيـة كالوبــاء كما يصـرف السم للطاعـــم
فضل الشباب البــريء انخـدا عًـا برقطاء في جلدهـا الناعـم
وبث أساتذة في الشبـاب رواسب مستعمــر غاشــم
وقيل: دكاتــرة عالمـــون فويــل لمستهتــر عالـــم
ويؤكد الحقيقة نفسها في مقطع آخر قائلا:
بناةَ الجزائر صونــوا الشبابــا ولا تأمنـوا في الشباب الذئابــا
ولا تهملـوا أمر طلابنــــا فقد أصبح العقـل فيهم يبابـــا
فكم شوه المسخ فيهم عقــولا وكم أمعـن المسخ فيهم خرابـا
وحرّف من زاغ إسلامَهــــم وأفقدهم وعيـهم والصوابـــا
وأصبح تفكيــرهم قرمزيــا دخيلا، وإيمــانهم مسترابـا
الاعتداد بالنفس:
يجنح
الطموح بالإنسان أحيانا إلى آماد بعيدة، قد يكون أهلا لها، وقد تقصر عن
مناه مواهبه وقدراته، بيد أن زكرياء تملكته الثقة بالنفس فمضى بها بعيدا،
وقد نحسبه أحيانا قد تجاوز المتعارف عليه في بيئته المحافظة على الأقل، مما
يعد إفراطا غير محمود.
وربما كان لظروفه التاريخية دافع في تركيز روح
التحدي في نفسه، فضلا عن تأثره ببعض الشعراء المرموقين الذين سجل التاريخ
افتخارهم بأنفسهم، وفي مقدمتهم أبو الطيب المتنبي، الذي طفح ديوانه بهذه
الادعاءات، بل وادعى المعري السبق والإتيان بما لم تستطعه الأوائل. ولكن
زكرياء تجاوزهم جميعا بقوله في إلياذته:
تنبـأت فيهـا بإليـــاذتـي فآمن بـي وبهــا المتنبـــي
وكان من أواخر شعره قصيدة عيد العرش أهداها للملك الحسن الثاني، ختمها بقوله:
واسمـح للمجد يساجلـه عمـلاق الشعر وأوحده
وظل عمرَه يتحدى، ويهزأ بأدعياء الشعر، وأنهم لا يرقون إلى مقام الفحول، أمثاله، فيقول:
ورُضت القـوافي الجامحات فأسلمت وناديت عمـلاق القريض فلبـّاني
سهولتهـا تغري البسيـط، وإنهـا من العمـق تستعصي على كل وزّان
وما ذاك إلا أن شعـري من دمـي يفـجره وعيـي وحسّي ووجداني
وشعـرهمُ بِدع من الخلق مشكلٌ ولا رحمٌ فيـه لكعـبٍ وحسـان
تعلّقـت بالفصحى فأُشربت حبها وأرغمت فيهـا أنف من يتحداني
إذا كان للشيطان فضـل عليهـمُ فشعـري وحي لا وساوس شيطان
ولم
تهنأ نفس زكرياء حين قلّد الشعراء شوقيَ إمارة الشعر، ورأى نفسه جديرا بها
لو ساعفته عوامل الشهرة التي مهدت الطريق أمام شوقي لاعتلاء هذه الإمارة:
ليس الشمال بمثــل شوقي عاجزا لـو أن في بعـض النفوس سخاءَ
إن الجزائــر كــالكنانة حرة تلـد الرجال وتنجــب العظماء
نشـأ الأمير مــع الأمير منعمـا بين الــرياض يسـاجـل الورقاء
ونشأت مقصوص الجناح معذبـا أقضـي الحيـاة مضاضـة وعناء
لو ذقت من كاس النعيم صُبابــة لغـدوت أحـمل للقريـض لواء
مـا اليأس في طلب العلا من شيمتي إنــي أعـد القانطـين إماء
لا يـأس في هذا الوجود فإنــني لا أنثـــني أو أبلغ الجـوزاء.
وظل إلى آخر عمره يردد هذه الفكرة باعتزاز، وختم بها إلياذته قائلا:
بلادي وقفت لـذكراك شعـري فخلد مجدك في الكون ذكـــري
وألهمتِنـي فصـدعت الدنـــا بإليـاذتي باعتـزاز وفخـــر
وكنت أوقع في الشاهقــــا ت خطى الثائرين بألحان صدري
فخلـد قدس اللهيب بيانـــي وأذكى لهيب الجـزائر فكــري
وإن يجحدوني فحسبـيَ أنــي وهبت الجزائر فكري وعمـــري
فآمن بي كل حـــرّ أصيـل وأنكر شمس الضحى كل غَمـــر
وتقصـر دون خطايَ خطاهــم ويؤذيهم الورد من طيب عطــري
تركت الخوالـف تحسو الغبــا ر، وطرت أسـابق مطلع فجـر
ودست الصراصير بيـن الصخـو ر، فصعّر خـدَّ الحجـارة صخـري
وألقيت في الساحريـن عصـــا ي، تلقّف مـا يأفكون بسحــري
المرأة في شعر زكرياء:
من
المنطقي أن نتساءل عن موقع المرأة في نتاج شاعرنا، وهي ملهمة الشعراء
وباعثة الكوامن التي تلهم أروع صور الإبداع التي عرفتها البشرية في آدابها،
بيد أن زكرياء كانت المرأة عنده رمزا للوطن، واسما مستعارا لمرابع الصبا
وثرى الجدود ومهوى قلبه الذي تيمه حب الجزائر، فأنساه كل حبيب، أو شغله عن
كل حبيب.
وقد اتخذ لهذه الحبيبة أسماء عدة، كليلى وسلمى.
يقول في قصيدة كتبها سنة 1926 وهو ابن ثماني عشرة ربيعا:
الحب أرقني واليـأس أضنــاني والبيـن ضاعف آلامـي وأحزاني
والروح في حب "ليلايَ" استحال إلى دمـعٍ فأمطـره شعري ووجدانـي
أساهـر النجـم والأكـوان هامدة تصغـي أنيـني بأشواق وتحنـان
كأنمـا وغراب الليـل منحـدر روحي وقلبـي بجنبيــه جناحان
نطوي معًـا صهوات الليل في شغف ونرقب الطيـف مـن آن إلـى آن
لكِ الحيـاة ومـا في الجسم من رمق ومن دماء ومن روح وجثمــان
لك الحياة فجـودي بالوصـال فما أحلـى وصالك في قلبي ووجدانـي
وأحيانا يشير إلى وطنه باسم "سلمى"، فيقول:
رسول الهوى بلغ سلامي إلى سلمى وعاط حميّـا ثغرها الباسم الألمـى
وناج هواهـا، عـلّ في الغيب رحمة تَـدارَكُ هـذا القلب أن ينقضي همّا
وبثّ شكـاة من مشوق متـيّـم لـه كبـد حرّى تضيق به غـمّـا
فكم تحت هذا القلب من لاعج الهوى وكم بين هذا الجسم من أضلع كلمى
أبيت أناجي الليل نجما كأنمـــا حبيب فؤادي صار مستتـرًا ثَـمّـا
بلادي بلادي، ما ألـذّ الهـوى وما أمـرّ كؤوس الحب ممتزجـا سمّـا
بلادي ألا عطفٌ علـيّ بنظــرة حنانينك، ما هذا السلوّ، ولا إثمــا
ومذ فتحت عيني المـدامعُ أبصرَت هـواك، فلا عـار عليّ ولا لومـا
فلله ما حمّلتنـي من صبـابـــة ولو ذاك في "رضوى" لهدّمه هدمـا
ومن روائع غزله بوطنه قوله في المقاطع الأولى للإلياذة:
جزائر يا لحكـاية حبـــــي ويا من حملت السلام لقلبـــي
ويا من سكبت الجمـال بروحـي ويا من أشعت الضيـاء بدربــي
فلولا جمالك ما صــح دينــي وما إن عرفـت الطريق لربـــي
ولولا العقيدة تغمــر قلبـــي لما كنـت أومـن إلا بشعبـــي
وإما ذكرتك شع كيـــانــي وإما سمعـت نــداك ألبـــي
ومهما بعــدت، ومهمـا قربت غرامك فــوق ظنوني ولبــي
وكان
زكرياء من أنصار الأصالة والتمسك بالعادات الحميدة، وينعى على المولعين
باستيراد الزوجات من بيئة غربية غريبة، فنشأ الجيل على يديها أجنبيا في
بلده، ويدعو إلى إبطال عادة غلاء المهور لما نجم عنها من انفلات الشباب
وتفض
كلية الشريعة والقانون. مسقط
محاضرة ألقيت
في قاعة المحاضرات بجامع السلطان الأكبر في مسقط، مساء السبت 14/5/1/2005م،
وحضرها بعض السفراء من الدول العربية الشقيقة، بدعوة من السفارة الجزائرية
بمسقط، كما شرفها سعادة الشيخ سعيد بن ناصر المسكري الأمين العام لمركز
السلطان قابوس للثقافة الإسلامية، والذي تكرم بفتح القاعة ليتم هذا اللقاء
العلمي الأدبي.
تمهيد
أصحاب السعادة والفضيلة، السفراء والعلماء، أيتها السيدات الفضليات، الحضور الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
تغمرني
سعادة عارمة وأنا أتشرف بالمثول أمامكم لنتحاور معا في رحاب الشعر والأدب،
ونصل رحما تجمعنا وآصرة تربطنا، ونستذكر تاريخا يشرفنا، وأعلاما كانوا غرة
في جبين أمتنا.
تلبية لدعوة كريمة من سعادة سفير الجمهورية الجزائرية
بسلطنة عمان المحترم محمد عباد لإقامة نشاط ثقافي بمناسبة يوم العلم الذي
تحييه الجزائر في السادس عشر أبريل من كل عام، وإحياء لأحداث الثامن من ماي
التي تذكرنا بسقوط أكثر من خمسين ألف شهيد حصدوا برشاش الاستعمار الفرنسي
سنة 1945، بمدن شمال شرق الجزائر، في سطيف وقالمة وخراطة، فكانت شرارة
التحرير الخالدة، التي انطلقت ليلة الفاتح من نوفمبر سنة 1954، وكللت
باستقلال الجزائر يوم الخامس من يوليو سنة 1962، بعد ليل دام قرنا وثلث قرن
من الزمان. ونحن اليوم ننعم بشمس الحرية والحمد لله.
لهذه المناسبات
التاريخية المجيدة، كانت استجابتي لتقديم صفحة مشرقة عن إسهام الشعر في
تاريخ الجزائر الحديث متمثلا في الشاعر الكبير مفدي زكرياء.
ولكن قبل
البداية، ربما يتساءل بعضكم عن صلة عالم الفقه والشريعة برياض الشعر
والأدب،1 فأسارع إلى الجواب أن الشعر روح اللغة، واللغة وعاء الشريعة،
فبينهما وشائج ورحم يجب أن توصل، وحقوق ينبغي أن تؤدى، ومن حُرم نعمة الأدب
بخس الشريعة حقها، ولم يحسن عرضها، وربما نفّر الناس منها لما يلبسها من
لبوس التزمت والوقار، وينأى بها عن روح التيسيير التي حث عليها محمد
البشير، عليه الصلاة والسلام.
سادتي الكرام، يدور حديثي إليكم حول شخصية
هذا الشاعر الخالد الذي وقع خطو التحرير بألحان شعره، فصدح بها في الدنيا،
وكتب الأناشيد الوطنية، و أصبح حقا شاعر وحدة المغرب العربي الكبير، وشاعر
الثورة الجزائرية التي عرفت في العالم بثورة المليون ونصف المليون شهيد.
ويُجمع
الدارسون أن هناك علاقة تأثير وتأثر بين ثورة التحرير الجزائرية وشاعرها
العملاق مفدي زكرياء، فالثورة ألهمت شاعرها، والشاعر خلد ثورته في جل
قصائده؛ إذ لا نلبث أن نذكر أحدهما حتى نتذكر الآخر.
أما الهدف من هذه الورقة فيتلخص في نقاط أساسية، هي:
أولا:
التعريف بأعلام المغرب العربي وتقديم صورة منصفة عن إسهامهم الفكري
والتاريخي لإخواننا المشارقة، والاستجابة لدعوات مخلصة نسمعها من أهل هذه
الأرض الطيبة لإزالة الصورة الغامضة التي انطبعت عن عروبة وإسلام المغرب
العربي في أذهان الكثيرين، مما كان له أسبابه التاريخية والجغرافية، ولكن
لم تعد لها مبرراتها في عصر العولمة والأنترنت، حيث تيسرت سبل الاتصال
والتواصل، وكان واجبا عينيا على أهل كل قطر عربي أن يعرف ويعرّف بباقي
أشقائه في أرجاء الوطن الكبير.
ثانيا: دعم مسيرة التواصل الثقافي
والعلمي بين جناحي الوطن العربي مشرقه ومغربه، دفعا لجهود المخلصين لتقويم
هذا النتاج العلمي والاستفادة منها، وبيان ما له وما عليه بكل موضوعية
وإنصاف.
ثالثا: إبراز أحد أوجه المقاومة الوطنية للاستعمار الفرنسي الذي
جثم على أرض الجزائر مائة واثنتين وثلاثين سنة كاملة، وسعى لمحو المقومات
الشخصية للجزائر العربية المسلمة، وتحليل بعض مضامين هذا النتاج الشعري في
أبعاده الفنية والموضوعية.
ولعل من يمن الطالع أن يجمع شهر نوفمبر بين
الجزائر وعمان، فيكون منطلقا لعهد جديد، عهد خير وازدهار، يتحقق فيه
للشعبين الانطلاق في مسيرة البناء والتقدم لبناء الإنسان الذي يعمر الأوطان
وينشر الخير والعدل في كل مكان.
من خلال هذه الأهداف الثلاثة ننطلق
لنتعرف على الشاعر مفدي زكرياء، في لمحة عجلى تترسم منشأه ومرباه، وعوامل
نبوغه الشعري، ومضامين شعره، والمحاور الكبرى التي عالجها، مع إشارة إلى
بعض خصائصه الفنية ومميزاته الجمالية.
ولا تعدو هذه الورقات أن تكون
فتحا للشهية وإشارة متواضعة إلى هذا النبع الثر، والتراث الشعري الذي خلد
به زكرياء أمجاد وطنه، وقضى حياته يوظفه لخدمة الحق والخير والعدل، وحداء
قافلة الوطن إلى رياض الحرية والاستقلال.
وقد تناولت دراسات أكاديمية
وبحوث مستفيضة نتاج زكرياء الشعري، ونالت شهادات جامعية عليا، وأقيمت له
ندوات عديدة، كما تكرمت رئاسة الجمهورية الجزائرية بتأسيس مؤسسة باسم مفدي
زكرياء، في أكتوبر سنة 2001، وبمناسبة مرور ربع قرن على رحيله خصصت سنة
كاملة لإحياء مآثره، هي سنة 2002، سمتها "سنة مفدي زكرياء"، كانت سنة حافلة
بالندوات والأنشطة الثقافية إشادة وتنويها بما قدمه هذا الشاعر الكبير
لأمته ووطنه 2.
كما بُرمج إقامة ملتقى دولي بعنوان" الأبعاد الدينية والفلسفية والتربوية لآثار مفدي زكرياء" بمدينة غرداية في: 08-09 ماي 2005.
أعمال حول مفدي زكرياء
لا
تدعي هذه القراءة سبقا ولا إبداعا في تناول شعر زكرياء، بل هي فتح شهية
وإشارة إلى معينه وما فيه من روائع خالدات، تناولتها دراسات مستفيضة
متخصصة، نذكر من أبرز الأعمال التي تناولت شعر مفدي زكرياء، الدراسات
الآتية:
1-كتاب "مفدي زكرياء شاعر النضال والثورة"
يعد هذا الكتاب
رائد الدراسات الأكاديمية، والبوابة التي دلف منها الباحثون لهذا الشاعر
الكبير، ومن الإنصاف الاعتراف بالفضل لمؤلفه الدكتور محمد ناصر على هذا
الجهد العلمي الطيب، لما تميز به من تحليل دقيق لنتاج زكرياء الشعري، من
الناحيتين الفنية والموضوعية على حد سواء، ولما نشره من تراث مخطوط لزكرياء
لأول مرة يرى النور. وطبع الكتاب طبعة أولى سنة 1984، وثانية 1989.
2- شعر الثورة عند مفدي زكرياء، دراسة فنية تحليلية.
للدكتور
يحي الشيخ صالح، وأصل الكتاب رسالة ماجستير نوقشت بجامعة قسنطينة
بالجزائر، سنة 1986م. تناول فيها بالتحليل مضمون شعر زكرياء المتعلق
بالثورة الجزائرية.
3-شعر مفدي زكرياء.دراسة موضوعية وفنية.
للدكتور حواس بري، تناوله في رسالة ماجستير بجامعة عين شمس، بالقاهرة، سنة 1987م.
4-مفدي زكرياء شاعر مجد ثورة.
للباحث بلقاسم بن عبد الله، تاريخ النشر: الطبعة الأولى 1990، الثانية 2003
والكتاب
عبارة عن وثائق ومقابلات وشهادات في حق هذا الشاعر الكبير، الذي لم ينل
بعد حقه من التقدير رغم مرور ربع قرن على أفول نجمه عن عالم الأحياء. لكن
نجم شعره ظل ماثلا في القلوب والضمائر، يتحدى الزمان والمكان. لما يحوي من
خصوبة التجربة الشعرية والصدق والصراحة والجمال التصوير الذي عز أن يجتمع
لشاعر مثلما تسنى لزكرياء.
هذا الكتاب ثمرة جهود جادة متواصلة عبر
ثلاثين سنة، استهلها بلقاسم بن عبد الله بأول و أهم حوار مطول مع الشاعر
مفدي زكريا في صيف 1972 ليواصل المشوار بسلسلة من المقابلات و المقالات
لإنصاف الشاعر، فجاء كتابه في مائتين وأربعين صحيفة، جمع بين المادة
الأدبية و التاريخية، والأسلوب الصحفي المنهجي، وتضمن حوارات و ذكريات
وقصائد مخطوطة ومغمورة ووثائق وصورا نادرة.
5-مفدي زكريا في ذاكرة الصحافة الوطنية الجزائرية
صدر
حديثا عن مؤسسة مفدي زكريا كتاب تحت عنوان كلمات.. "مفدي زكريا في ذاكرة
الصحافة الوطنية" للمؤلف محمد عيسي وموسي وهو عبارة عن رحلة في ذاكرة
الصحافة الوطنية وذلك بمناسبة سنة حصاد مفدي زكريا. ويقع الكتاب في 345
صفحة من القطع الكبير ويعد رحلة في ذاكرة الصحافة الوطنية مع عينة مختارة
محددة امتدادها تسع سنوات من سنة 1985 إلى 1993.
فمن هو مفدي زكرياء:
الاسم: زكرياء بن سليمان بن يحي بن الشيخ سليمان، ولقب أسرته آل الشيخ.
ولد
سنة 1908م. بل ذهب بعضهم إلى تحديده بدقة، وهو يوم الجمعة 12 جمادى الأولى
1326 هـ الموافق 12 يونيه/حزيران 1908م، ببلدة بني يزجن، ولاية غرداية
جنوب الجزائر.
لقبَّه زميل دراسته سليمان بو جناح بـ "مُفدي" فأصبح لقبه الأدبي الذي اشتهر به.
المسار التاريخي:
بدأ
مفدي زكرياء مساره في مسقط رأسه متعلما بكتّاب البلدة، حيث حفظ جزاء من
القرآن ومبادئ العربية والفقه، ثم اصطحبه والده معه وهو ابن سبع سنين إلى
مدينة عنابة شمال شرق الجزائر التي كان تاجرا بها، وفيها أتم حفظ القرآن،
ثم جعل يتردد بينها وبين مسقط رأسه ولم تنتظم دراسته، حتى سنة 1922 إذ قرر
والده إرساله إلى تونس، فالتحق بمدرسة السلام القرآنية، وبعد سنتين انتقل
إلى المدرسة الخلدونية، ثم تحول إلى جامع الزيتونة، وأخذ عن علمائها دروس
اللغة والبلاغة والأصول، وكان خلال ذلك طالبا ذكيا نجيبا، برزت مواهبه
الشعرية مبكرا، وشغف بندوات الشعر والأدب التي كان يعقدها الأديب العربي
الكبادي. كما كان يتلقف ما يصل إلى تونس من مجلات شرقية تبعث النخوة
والوطنية فيتشربها ويتخذ مواضيعها مجالا للتدرب على الإنشاء والكتابة. نثرا
وشعرا. وكان يعرض شعره على أساتذته في البعثة العلمية الميزابية بتونس
لتقويمه، حتى انقاد له القريض.
وتعد فترة مكوثه بتونس مرحلة التكوين الأصيل التي وجهته التوجيه الأدبي والسياسي بعد ذلك.
وكان
للبيئة الإسلامية الأصيلة التي نشأها ولمصادر ثقافته الدينية ولما عاينه
من استبداد الاستعمار الفرنسي أكبر الأثر في تشكيل شخصيته الشعرية
والمتحدية التي طبعت إنتاجه الأدبي.
ثم رجع من تونس إلى الجزائر، وتوجه
للعمل التجاري ولكنه لم ينقطع عن مجال الفكر والأدب، وإن لم يكتب له النجاح
في المجال التجاري رغم تقلبه في أنواع من النشاط وانطلاقه في مشاريع عديدة
كان نصيبه فيها الفشل 3.
وكان من رواد الحركة الوطنية التي تبنت مبدأ
الاستقلال، مثل حزب نجم شمال افريقية وحزب الشعب، وقد نظم فيها شعرا وطنيا
صادقا، كما كان مؤيدا لجهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولكنه آثر
الانضمام إلى الحركات الوطنية الأخرى، حتى جاءت الثورة فكان سباقا إلى
رحابها فارتمى فيها ولقي في سبيلها ألوان العذاب، وسجنته السلطات
الاستعمارية خمس مرات، دامت في مجموعها عدة سنوات 4.
وكان ضمير ثورة
التحرير الحي ورائد قافلتها، يردد الوطنيون أشعاره في ساحات المعارك، وعلى
أعواد المشانق، حتى بزغ فجر الحرية، فاستقر بالجزائر في نشاط وفتح مكتبا
للتمثيل التجاري، ولكنه كان عاثر الحظ في هذا المجال، ولم تسعفه الظروف
للاستقرار، فتوجه إلى تونس سنة 1963 ومكث بها إلى سنة 1969 حيث يمم شطر
المغرب واستقر بالدار البيضاء وفتح مدرسة للتعليم الثانوي، وفتح خطا لنقل
البضائع.
وظل يجمع كما دأب طول حياته بين أعماله التجارية والإدارية
وإبداعاته الأدبية، وتردد كثيرا بين أقطار المغرب العربي مشاركا في
تظاهراته ونشاطاته الثقافية والسياسية، وشارك بشعره ومناقشاته في جل
ملتقيات الفكر الإسلامي بالجزائر 5.
وختم حياته برائعته الخالدة "إلياذة
الجزائر" جمع فيها ما تفرق في غيرها، وأبرز فيها لوح الجمال ولوح الجلال،
جمال الطبيعة الساحر، وجلال التاريخ الزاخر.
وكانت وفاته يوم الأربعاء
02 رمضان 1397هـ الموافق 17 أوت 1977م بتونس وعمره تسعة وستون عاما ونقل
جثمانه إلى الجزائر ودفن بمسقط رأسه في بني يزقن - ولاية غرداية.
منابع ثقافة زكرياء:
1- القرآن،
2- التراث العربي الإسلامي،
3- البيئة المحافظة.
4- التحدي الاستعماري لاجتثاث المجتمع الجزائري من ثوابه ومقوماته.
فالمطلع
على آثار مفدي زكرياء، خاصة منها قصائده الشعرية، يدرك بجلاء أثر المصادر
الدينية الإسلامية فيها، خاصة تأثير القرآن الكريم، والسيرة النبوية
الشريفة والتاريخ الإسلامي الحافل بالأمجاد والبطولات؛ كما أن آثار مفدي
الأدبية، لا تخلو من معانٍ فلسفية تتجلى في الفكرة العميقة، والحجة القوية،
والنقد الجرىء، ناهيك عن الرؤية الشاملة في تناول الموضوعات مما ينم عن
عبقرية فلسفية متفردة.
إلى جانب هذا فإن آثار مفدي مملوءة بالتوجيهات
التربوية؛ فآثاره وشعره بالأخص يعد مدرسة لتربية الأجيال، تبث القيم
النبيلة الداعية للتشبث بالأصالة والروح الوطنية، والسعي للذود عن الدين
والوطن.
إنتاج مفدي زكرياء:
أولا: الشعر
يمكن اختزال مضمون
ومعالم شعر زكرياء، أنه كان شعر قضية، إذ لم يكن في كتابته الشعرية لاهيا
أو متسليا، ولم ينظم الشعر مضاهاة أو مباهاة، ولكن كان شعره نبض مشاعر،
وصدى لأمة ذاقت ألوان العذاب وعرفت أقسى أنواع الاستعمار، إذا احتل الأرض
وسعى ليسلب العقل والقلب، ويمسخ الفكر واللسان، ويشوه التاريخ، وبذل في
سبيل ذلك كل حيلة واتخذ له ألف وسيلة.
ولكن يقظة الضمير الحر في أبناء
الشعب الجزائري حالت دون تحقيق هذه المطامح، فتضافر العلماء والمصلحون،
والشعراء والمثقفون، لتحصين الشعب من داء المسخ والفرنجة، وتركيز هويته
وأصالته، فتحقق المراد وبزغ فجر الاستقلال.
وانتظم شعر زكرياء في هذا
المسار منذ بواكير إنتاجه واستمر وفيا لهذا الخط إلى آخر رمق من حياته. ولم
تغيره الظروف المتقلبة والمحن المتتالية عن هدفه المرسوم، بل ظل يلهج بحب
الوطن ويشيد بالأمجاد والقيم، وينـزل بشعره حَمما على الظالمين، ويدعو إلى
وحدة العرب والمسلمين، حتى وافاه أجله ولحنه الخالد: الأصالة والوطنية،
والوحدة والحرية.
ويتمثل نتاجه الشعر في الدواوين الآتية:
1- اللهب المقدس. صدر سنة 1961
2- تحت ظلال الزيتون. سنة 1965
3- من وحي الأطلس. 1976
4- وإلياذة الجزائر في ألف بيت وبيت 1972.
كتب
شاعر الثورة مفدي زكرياء رائعته (إلياذة الجزائر) وألقاها لأول مرة في
جلسات الملتقى السادس للفكر الإسلامي المنعقد في قصر الأمم بالجزائر
العاصمة في شهر جويلية 1972، وفي السنة نفسها صدرت الإلياذة في واحدة وستين
مقطوعة (61)، تضم ست مائة وأحد عشر بيتا (611)، وفي السنة الموالية (1973)
صدر نصها الكامل في مائة مقطوعة (100)، تضم ألف بيت وبيتا (1001) من
الشعر، كتبها الخطاط الأستاذ عبد المجيد غالب، وكتب تقديمها المرحوم
الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، الذي كان وزيرا للشؤون الدينية حينئذ،
وكانت له مساهمة فعالة في ميلاد الإلياذة بما كان ينفح به زكرياء من حقائق
التاريخ ليصوغها شعرا نابضا بالحياة، بالاستعانة بالمؤرخ التونسي الكبير
عثمان الكعاك.
ثم توالى من بعد، صدور طبعات مصورة طبقا لاصل طبعة سنة 1973، وذلك في السنوات التالية: (1986، 1987، 1992، 1995، 2001 ، 2002).
5- أمجادنا تتكلم. تحقيق مصطفى بن بكير حمودة، وتقديم رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة.
يقع
الديوان في أكثر من 300 صفحة يحتوي على تسعة و سبعين قصيدة اختير عنوان
الديوان من رائعته عن أمجاد مدينة بجاية بمناسبة الملتقى الثامن للفكر
الإسلامي الذي انعقد في بجاية يوم 25 مارس 1974 وضع لها الشاعر عنوانًا هو
"أمجادنا تتكلم".
واعتمد المحقق مصادر عدة لتجميع هذه القصائد المتناثرة من مكتبة الشاعر ورفاقه وجهود بعض الباحثين خارج الجزائر.
وقد
حظي الديوان بتصدير بقلم فخامة رئيس الجمهورية جاء فيه: «إن إصدار آثار
مفدي زكرياء، وجعلها في متناول الأجيال لهو واجب يدخل في صميم رعاية أنصع و
أشرق ما نقشه المجاهدون والمجاهدات في ذاكرتنا الوطنية عبر العصور، إنها
تمثل صفحات فريدة من نوعها في ثبت أمجاد الجزائر والأمة العربية، ذلك لأنها
تجمع بين الشموخ والفداء و التألق في الإبداع الشعري والرفعة والسموق في
الإباء والجهاد بالفكر الكلمة في سبيل تحرير الوطن»
ولزكرياء بعد هذه
الدواوين الخمسة: جانب شعر كثير لا يزال متفرق في الصحافة الجزائرية
والتونسية والمغربية، ودواوين معدة للطبع (أو طُبعتْ بعد ذلك) منها:
6- أهازيج الزحف المقدس (أغاني الشعب الجزائري الثائر بلغة الشعب).
7- و"انطلاقة" ديوان المعركة السياسية في الجزائر من عام 1935 ـ 1954.
8- و"الخافق المعذب" من شعر الهوى والشباب، ومحاولات الطفولة التي كتبها الشاعر في صباه.
9-
كتب مفدي زكريا الأناشيد الوطنية، ومنها النشيد الوطني الجزائري، ونشيد
العلم الجزائري، ونشيد جيش التحرير الوطني، ونشيد المرأة الجزائرية، وغيرها
من الأناشيد.
النثر:
10- تاريخ الصحافة العربية في الجزائر لمفدي زكريا جمع وتحقيق د. أحمد حمدي.
تاريخ النشر: الجزائر – 2003
يعتبر
نشر هذا الكتاب لبنة جديدة للتعريف بتراث زكرياء النثري المغمور، رغم
أهميته، حيث يمكن من خلاله أن نتعرف على جانب آخر من عبقرية مفدي، وهي
المتعلقة بالناثر الجاد، وذلك من خلال كتابه "تاريخ الصحافة العربية
العربية بالجزائر" والذي سهر على جمعه وتحقيقه وإخراجه في شكل كتاب بعدما
كان حلقات إذاعية متسلسلة الأستاذ الدكتور أحمد حمدي.
وتضمن الكتاب رصد
ظهور الصحافة العربية بالجزائر، معركة الصحافة الإصلاحية، ونماذج بارزة من
هذه الصحف ودورها مثل "الشهاب" لابن باديس، و"المنهاج" لأبي إسحاق اطفيش،
و"وادي ميزاب" لأبي اليقظان.
11- كما كتب مفدي مسرحية بعنوان "الثورة الكبرى"،
12- واشترك مع الأديب التونسي الهادي العبيدي في تأليف كتاب الأدب العربي في الجزائر عبر التاريخ (أربعة أجزاء)،
13- وفي كتاب "أنتم الناس أيها الشعراء".
14- كما شارك الأديب التونسي الحبيب شيبوب في تأليف كتاب "صلة الرحم الفكرية بين أقطار المغرب العربي الكبير".
15- وبمشاركة المؤرخ التونسي محمد الصالح المهيدي كتب عن أقطاب الفكر المغربي على الصعيد العالمي. وغيرها من الأعمال المشتركة.
16- ومن أعماله النثرية: نحو مجتمع أفضل،
17- وست سنوات في سجون فرنسا،
18- وحواء المغرب العربي الكبير في معركة التحرير،
19- وقاموس المغرب العربي الكبير (في اللهجات المغربية)
20- وعوائق انبعاث القصة العربية،
21- وقصة اليتيم في يوم العيد،
22- والجزائر بين الماضي والحاضر، وغيرها.
23- أضواء على وادي ميزاب
24- الكتاب الأبيض
موضوعات شعر زكرياء
تناول
زكرياء في شعره موضوعات أساسية كانت تخدم فكرته وتعالج واقعه، وتلبي
طموحاته وما نذر نفسه له من فداء وطنه حتى تحقيق النصر والاستقلال. فكان
موضوعه الأساس الوطن، وما حام حوله، وسعى للحفاظ عليه ورفع شأنه وتحقيق
عزته وكرامته:
الوطن، الأمجاد، الحرية، الوحدة، الطبيعة، الأخلاق والقيم، محاربة الاستعمار، إنكار التفسخ الخلقي والانحلال.
ويمكن تحديد أهم أغراض الشعر عند زكرياء في النقاط الآتية:
1- التغني بالتاريخ والبطولات. والأمجاد، وهو جانب الجلال.
2- الإشادة بالوطن، وما يزخر به من جمال ساحر.
3- السخرية بالمستعمر وتحدي بطشه وجبروته.
4- التقريع والتشهير بالخونة والعملاء الذي يعينون المستعمر على بني جلدتهم.
5- الإشادة بالقيم والأصالة والدعوة للاستمساك بها.
6- التحذير من الانسلاخ والانبهار بالوافد من العادات التي تخالف أصالتها وتنافيها.
يقول في الاعتزاز بمقومات الأصالة:
شربت العقيدة حتى الثمالــــة فأسلمت وجهي لـرب الجلالــه
ولولا الوفـاء لإسلامنــــا لمـا قرر الشعب يومـا مآلـــه
ولولا استقامــة أخلاقنــــا لمـا أخلص الشعب يوما نضالــه
ولولا تحالف شعـب وربٍّ لمـا حقق الرب يومــا سؤالـه
هو الدين يغمـر أرواحنــا بنـور اليقيـن ويرسي العدالــه
إذا الشعب أخلـف عهد الإلــه وخـان العقيــدة فارقُب زواله
7- الدعوة إلى الوحدة بكل معانيها ودوائرها، على المستوى الوطني، والمغربي، والعربي والإسلامي.
وقد
جسد هذه الدعوة في نص دبجه بيده وتلاه على المؤتمر الربع لطلبة شمال
إفريقيا بتونس سنة 1934، سماه "ميثاق التوحيد" وجعله إيديولوجية وعقيدة،
محددة في عشرة بنود. مما جاء فيها:
1. «آمنت بالله ربا وبالإسلام دينا،
وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، وبشمال
إفريقيا وطنا واحدا لا يتجزأ.
2. أقسم بوحدانية الله أنني أومن بوحدانية شمال إفريقيا وأعمل لها ما دام فيّ قلب خافق ودم دافق ونفس عالق.
3.
كل مسلم، بشمال إفريقيا، يؤمن بالله ورسوله ووحدة شماله، هو أخي، وقسيم
روحي، فلا أفرق بين تونسي وجزائري ومغربي، وبين مالكي وحنفي وشافعي وإباضي
وحنبلي، ولا بين عربي وقبائلي، ولا بين مدني وقروي، ولا بين حضري وآفاقي،
بل كلهم إخواني أحبهم وأحترمهم وأدافع عنهم ماداموا يعملون لله والوطن،
وإذا خالفت هذا المبدأ فإنني أعتبر نفسي أعظم خائن لدينه ووطنه.
4.
وطننا شمال إفريقيا جزء لا يتجزأ من جسم الشرق العربي، نفرح لفرحه ونتألم
لألمه، ونتحرك لتحركه، ونسكن لسكونه، تربطنا به إلى الأبد روابط اللغة
والعروبة والإسلام»…
إلى آخر البنود العشرة.
صلة زكرياء بالمشارقة:
يتضح
من نص ميثاق التوحيد الحضور المشرقي القوي في فكر زكرياء، ودعوته للتوحيد
تتجه دائما إلى هذا الأفق الرحيب الذي يحتضن العالم العربي والإسلامي
قاطبة، وهو بحكم تكوينه الديني والأدبي يظل يعتبر القبلة صوب المشرق، فمنها
المنهل وإليها يتجه الأمل.
والجدير بالتنويه أن من المحطات البارزة في
مسار زكرياء الشعري انتداب جبهة التحرير له سنة 1961 ليمثل الجزائر في
مهرجان الشعر العربي بدمشق، فتعرف عليه الشعراء العرب عن كثب، بعدما سمعوا
روائع أشعاره من بعيد، وشد الانتباه إليهم بنتاجه المتميز المتقد حماسا
ووطنية، وعزة وإباء. وزار في تلك الرحلة عددا من بلدان المشرق كالقاهرة
ودمشق وبيروت، والأردن والعراق والسعودية والكويت وقطر. وسجل فيها أحاديث
إذاعية ومقابلات صحفية وأمسيات شعرية. ودامت رحلته أربعة أشهر، حقق فيها
نجاحا إعلاميا رائعا، كان فيها سفير الجزائر دون أوراق اعتماد. 6
ولكن
هذا الصيت الداوي لزكرياء لم يستمر إلا لأمد محدود، إذ تنكر له الأقارب،
فكان منطقيا أن ينساه الأباعد، ودارت عجلة الزمان، فأنصفته الأيام، وأعيد
له الاعتبار، وعاد باقتدار إلى شرفاته في قصر الأدب العربي الشامخ.
ويأسف
العارفون بزكرياء من الباحثين المشارقة أن اسمه لا يتردد بين شعراء العرب
اللامعين، وإن بدأ يعرف طريقه مؤخرا بجهود فردية موفقة، منها «مقالات
الشاعر الكبير فاروق شوشة بجريدة الأهرام، والتي أعاد نشرها في كتابه
"الشعر أولا والشعر أخيرا" فتحدث عنه باعتباره رمز الارتفاع عن قيد العرق
أو الجنس، إلى سماء النـزعة الوطنية والقومية والإسلامية، منفتحا على أفق
إنساني رحب، وقيم سامية للخير والحق والجمال» 7.
خصائص شعر زكرياء:
السمة البارزة في شعر زكرياء هي الصدق الشعري وأثر المعاناة الشعورية فيه. السجون والتعذيب، محنة الشعب الجزائري في ظل الاحتلال.
ويمكن الإشارة إلى خصائص شعر زكرياء في النقاط الآتية:
1- أنه شعر أصيل حتى النخاع.
2- شعر صادق لأنه نابع من تجربة شعورية ومعاناة قاسية.
3- مستمد من التراث الإسلامي. مشبع بقيمه ومثله متأثر بعظمائه وتاريخه.
4- رائع في رسم الصور الشعرية الحية المؤثرة.
5- بارع في الاقتباس والتضمين. سواء للمفردات أم الأحداث، من القرآن أم من التاريخ.
ويمكن اختيار مقطعين من قصيدتين، تجليان هذه الخصائص في شعر غاية الجلاء:
الأولى
في وصف مدينة قسنطينة، المعروفة تاريخيا باسم سرتا، وهي مدينة محصنة بين
الجبال، يحتضنها وادٍ سحيق يجري في سفوح جبالها، وتصل بين أجزاء المدينة
جسور عالية بعضها معلقة بحبال من حديد، تعطي المدينة منظرا بديعا يتمازج
فيه الجمال والجلال، يقول فيها:
وانزل بدارات سرتا مطرقا، أدبًـا فبيـن أضلعها آباؤنـا الصيـد
وامش الهوينـا، ففي أحشائها أمم وفي جوانحهـا أسد معاميـــد
دم الصحابة معجون بتـربتهــا قد خلدتهـا على الدنيـا الأسانيد
تياهة تزدهـي عجبا بشاهقــة من الجبال لهــا لله توحيــد
"وادي الهوا" بالهوى نشوان خاصرها وخاصرته كأن الأمر مقصــود
لدى خريـر من الأمواه تحسبهـا لحنـا من الخلد قد غناه داود
الكوثر العذب يحكيهـا ويحسدهـا وحوضها الحلو مثل الحوض مورود
ونسمة مثل أنفاس الحسان سـرت لطفًـا يراقصها في الروض أملـود
مرعى الظبا وعرين الأسد لا عجب كلاهما في "جبال الوحش" موجود
مناظر من صنيع الله قد ملئــت سحرا وشعرا بهـا الخلاق معبـود
والصورة
الثانية صدّر بها رائعته الخالدة "الذبيح الصاعد" التي كتبها متأثرا بمشهد
إعدام رفيقه "أحمد زبانا" بالمقصلة في سجن بربروس، فراح يصور مشهد الجنازة
عرسا نحو دار الخلود يمتلئ بالأناشيد، لا جنازة تخيم عليها الكآبة والحزن
الشديد،
قام يختال كالمسيح وئيدا يتهادى نشوانَ، يتلو النشيدا
باسمَ الثغر، كالملائك، أو كالط فل، يستقبل الصباح الجديدا
شامخاً أنفه، جلالاً وتيهاً رافعاً رأسَه، يناجي الخلودا
رافلاً في خلاخل، زغردت تم لأ من لحنها الفضاء البعيدا!
حالماً، كالكليـم، كلّمــه المجـ د، فشد الحـبال يبغـي الصـعودا
وتسامى، كالــروح، في ليلة القد ر، سلامـاً، يشِعُّ في الـكون عيدا
وامتطى مذبـح البطولـة مــع راجاً، ووافى السمـاءَ يرجو المزيدا
وتعالى، مثـل المؤذن، يتـلـو… كلمات الهـدى، ويدعـو الرقودا
صرخة، ترجف العـوالم منهـا ونـداءٌ مضـى يهـز الوجـودا:
"اشنقوني، فلسـت أخـشى حبالا واصلبوني فلست أخشى حديـدا"
يعلق
الدكتور محمد ناصر على هذا المقطع قائلا: « وقد وُفق الشاعر كل التوفيق
إلى توظيف أدواته الفنية التي تضافرت جميعها على تفجير الإحساس بالموقف في
نفس المتلقي، لهذا استغل مفدي –بدافع رؤيوي صادق- كل ما في الألفاظ
والكلمات من طاقة إيحائية نغمًا وصورة ومعنى، فقدم بين أعيننا هذه اللوحة
الخالدة التي تعدّ من أصدق اللوحات المجسدة لعظمة الثورة التحريرية
الجزائرية» 8.
نماذج شعر زكرياء
لعلنا بحاجة إلى أن نسمع
لزكرياء أكثر من أن نسمع عنه، وندع مجال التحليل والقراءة النقدية
للمتخصصين، ونحاول التملي في بعض عيون شعر زكرياء، والتعرف على أهم القضايا
التي تناولها وعالجها. وصرح بمواقفه الواضحة الثابتة أزاءها. مثل الشعر
وموقفه من الشعر الحر، ومكانة الثورة في قلوب أبنائه، والدعوة إلى الوحدة،
وغيرها من القضايا.
رسالة الشعر عند زكرياء:
يرى أن الدمع والبكاء لا يجدي إذا لم يصغه قالب شعري صادق يخلده ويبعث به موات القلوب:
وما الدمع بالسلـوى إذا لـم يكن ترقرَقَ في شعــر تردده الورقـا
هو الشعر أسـرار القلوب تقمصت لديــه فأولاهـا الصراحة والنطقا
هو الشعر أبيات النبوغ تفجـرت بكاساته البيضا فناولهـا الخلقــا
هو الشعر أنات القلوب تــرددت بمـزهره الصـداح تخترق الأفقـا
هو الشعر للإحساس أهدى من القطا وأبصر في بحر العواطف من زرقــا
ويقول عن المنغمسين في مطالب الماديات ومن حُرموا نعمة الشعر:
دنياهمُ دنّس الأطمـاع حرمتَهــا والشعر كالوحي، أصفانا فزكّانــا
وإننا الشعراء النــاس، ما فتئـت أرواحنـا تغمر الإنسان إيمانـــا
رســالة الشعر في الدنيـا مقدسة لولا النبوة كان الشعر قرآنـــا
فكم هتكنا بها الأستــار مغلقـة وكم غزونا بها في الغيب أكوانــا
وكم جلونا بها الأسرار مبهمـــة وكم أقمنا بها للعدل ميــزانا
وكم صرعنا بها في الأرض طاغيـة وكم رجمنا بها في الإنس شيطانـا
وكم حصدنا بها الأصنام شاخصـة وكم بعثنا من الأصنام إنسانـــا
وكم رفعنا بها أعلام نهضتنـــا فخلد الشعر في الدنيــا مزايانـا
رأيه في الشعر الحر:
كان
وفيا لكل أصيل يمت إلى جذور الأمة وتاريخها، وكان يرفض التجديد الذي يقفز
على الثوابت والقواعد، ومن ذلك رفضه للشعر الحر باعتباره سطوا على نظام
الشعر الأصيل، لأن النظم هو الذي يحفظ إيقاع الكلام ويعطيه موسيقاه الخاصة،
وإذا تفلت منها صار نثرا، ويمكن تعليل رفضه للشعر الحر باعتباره نموذجا
لهذا الوافد المتنافي مع شعرنا الأصيل.
فقد أورد بلقاسم بن عبد الله في
كتابه "مفدي زكرياء شاعر مجد ثورة" حوارا مع الشاعر حول حياته وإنتاجه
الشعري، وموقفه من الشعر القديم والجديد أو الحر والعمودي، وكان رأيه
صريحا، إذ قال: «لا يوجد في اعتقادي، وفي مفهوم بني آدم، شعر قديم أو جديد،
فإما شعر أو لا شعر، وكفى. وأنا أومن بالأصالة وبصلة الرحم بين المعاني
والكلمات، وبالنبض الموسيقي المتجاوب مع نبضات القلب، وما عدا ذلك فسموه إن
شئتم نثرا مجنحا، وإن خلا من البيان وأصالة الكلمة، فسموه رطانة ولغوا
وهراء، وإذا شذ عن كل ذلك فسموه شعر الخنافيس، أو شعر الهيبي، أو شعر
النايلون أو شعر الساندويتش، أو ما شاء لكم الخيال. والموضوع على بساطته
يحتاج إلى كثير من الإسهاب، وفي برنامج يُذاع لي حاليا بإذاعة الرباط
"الصراع بين الشعر الأصيل والشعر الدخيل" الجواب الكافي". »
كما اعتبر هذا الشعر لقيطا لأنه مبتور الصلة بتراثنا العربي الإسلامي، معنى ووزنا:
وعابثين أرادو الشعر مهزلـــة فأزعجوا برخيص القول آذانــا
تنكروا للقوافي حين أعجزهــم صوغ القوافي، وضلوا عن ثنايانــا
قالوا: جمود على الأوضاع وزنكمُ فشعرنا الحر لا يحتاج ميزانــا
فأين من جرس الإيقاع خلطكــم ما الشعر؟ إن لم يكن دوحًا وأغصانا
وهل أعار رواة الشعر لغوكــم وزنا، وهل حشوكمُ بالحفظ أغرانا؟
وما الذي يصل الأرحام في غدكـم إن كان ماضيكمُ زورا وبهتانـــا
"رجعى" العروبة لا "عدوى" الدخيل بنا شتان ما بين عدواكمُ ورُجعانــا
وظل
يقرع دعاة الشعر الحر كلما سنحت له فرصة، فهذه واحدة أرسلها في إلياذته
منددا بدعاة التقدم الأهوج، القائم على نقض الأصول وعدم التمييز بين
الثوابت والمتغيرات:
وقــالوا: التقـدم شِعـر لقيـط تطير الأصالة فيه شظـايـــا
تفاعيلـه كضمير اليهــــود يصوغ مبـانيه خبث النــوايــا
وقد أصبح الشعر كالجيل خنثــى تذيب الميـوعة فيه الخلايـــا
تصوير عظمة الثورة في نفوس أبنائها:
يحشد صورا رمزية مكثفة لبيان عظمة هذه الثورة وما حققته من معجزات شبيهة بمعجزات الأنبياء، فيقول:
وما دلنا عن موت من ظن أنــه "سليمـان" منساة على وهمها خرَّا
ورثنا عصى موسى، فجدد صنعَها حِجانا، فراحت تلقَّف النار لا السحرا
وكلم موسى اللهُ في الطور خفيـةً وفي الأطلس الجبـار كلّمنا جهـرا
وأنطق عيسى الإنس بعد وفاتهـم فألهمنـا في الحرب أن نُنطق الصخرا
وكانت لإبراهيم بـردًا جهنــمٌ فعلمنـا في الخطب أن نمضغ الجمرا
وحدثنا عن يوم بـدر محمــد فقمنا نضاهي في جـزائرنا بـدرا
تباركت شهرا بالخـوارق طافحا وسبحان من بالشعب في ليله أسرى
ونجده يكرر الصورة نفسها في إلياذته عن مناسبة نفمبر إذ يقول:
تأذن ربك ليلـة قــــــدر وألقى الستــار على ألف شهـر
وقال لـه الشعب: أمـرَك ربــي وقال لـه الرب: أمــرُك أمـري
ولعلع صـوت الرصاص يــدوّي فعـاف اليراع خـرافة حبـــر
وتأبى المــدافع صوغ الكلام إذا لم يكـن من شواظ وجمــر
وتأبى القنـابل طبع الحــروف إذا لم تكـن من سبائك حُمـــر
وتأبى الصفائح نشر الصحـائف ما لم تكــن بالقرارات تســري
ويأبـى الحديد استمـاع الحديث إذا لم يـكن من روائـع شعـري
نفمبــر غيرت فجر الحيــاة وكنت نفمبـر مطلـع فجــر
وذكرتنـا في الجـزائر بــدرا فقمنـا نضاهـي صحابــة بدر
الدعوة إلى الوحدة الكبرى:.
تشكل
قضية الوحدة مرتكزا محوريا في فكر وشعر مفدي زكرياء، وقد ظل ينادي بها
ويتغنى بها بإصرار متواصل منذ بواكير إنتاجه الشعري، وظل وفيا لهذا المبدإ
الذي اعتنقه ودافع عنه في كل مناسبة، وجسده بنشاطه العملي من توطنه بلدان
المغرب العربي، تونس والجزائر والمغرب حتى آخر حياته.
ويعتقد أن توحيد
الصف كان السبب الرئيس لتحقيق استقلال الوطن، ولذلك كان يدعو للتمسك به كل
من أراد النجاح، ويتجه للأشقاء في فلسطين أن يأخذوا العبرة من هذا الدرس
الثمين:
نوفمبر جل جلالك فينــــا ألست الذي بث فينـا اليقينــا
سبحنا على لجـج من دمانــا وللنصـر رحنـا نسوق السفينـا
ولولا التحام الصفـوف وقانـا لكنـا سماسـرة مجرمينـــا
فليت فلسطيـن تقفو خطانــا وتطوي كما قد طوينــا السنينا
وبالقدس تهتـم لا بالكراسي تميـل يســارا بها ويمينــــا
ويشيد
بوحدة الأمة العربية التي تجمعها عوامل الدين واللسان والتاريخ، والآمال
والآلام. ويؤكد حقيقة بدهية هي أن الفرقة شقاء وذل وهوان:
يقول في قصيدة ألقاها بالجزائر العاصمة سنة 1932:
كفانـا شقـاء من وباء شقاقنـا وتمـزيق مجموع وتشتيـت أفـراد
فهل نحن إلا أمة عربيــــــة شقيقـة أرواح، قسيمـة أكبـاد
وهل نحن إلا أمـة أحمــديــة مقدسـة، غــرَّا، سليـلة أمجاد
ويلح على هذا المطلب في مؤتمر تلمسان سنة 1935، قائلا:
إن الجزائر في الغـرام وتونسًـــا والمغـرب الأقصـى خلقـن سواءَ
نحـن العروبة والشمـال بلادنــا وبـه نعيـش أعـزة كرمـــاء
أرض مطـهرة تضــمّ ضلوعها مُهجًـا هناك زكيــة ودمــاء
بـدم الصحابة قد تعطّـر ظهرهـا قِدْمًـا، وآوى بطنُهـا الشهــدَاءَ
وتعـانقت فيها البنـود خوافقًــا حمـراء تحمـل للأنـام رفـــاء
شعب أغرّ وأمــة عربيــــة ما إن تطيق مـذلـة وشقـــاء
ولا
يسعفنا المقام لاستقراء كل نصوصه الشعرية في هذه القضية، ونجتزئ ببعض
الإشارات إلى هذا الهم الذي سكن قلبه، والأمل الذي طالما راوده، وكان موقنا
بتحققه يوما، وإن رآه البعض ضربا من الأوهام والخيال. ووضع في طريقه سدودا
من البحار والجبال.
يقول في قصيدته "البردة الوطنية" سنة 1937:
تونس والجزائر اليوم، والمغـــرب شعب لن يستطيع انفصـــالا
وحدة أحكـم الإلـه سَـداهـا، مـــن يـرد قطعـه أراد محالا
نبتـت من أب كريـم وأمّ سمـتْ في الحــياة عمًّــا وخــالا
نصبـوا بينــها حـدودا من الـ ألـواح، جهلا وخدعـة، وضلالا
فاجعلـوا إن أردتـم الكون سـ ـدًّا، وضعوا البحر بيننا والجبـالا
نحن روح مـزاجه الضـاد والد يـن، فلـن يستطيع قطّ انحـلالا
كلما رمتـم افتراقــا قرُبنــا وعقدنــا محبة واتصــــالا
ويردد الفكرة ذاتها في غير ما قصيدة، منها: قوله:
إن الجزائر أمــة عربيـــــة تسعـى إلى استقـلالها وتجــاري
كفر الألـى قالوا الشمال ثلاثــة ودعوا إلى إذلالـــه بالنـــار
نصبـوا العصي على الحدود سفاهة وسعـوا إلى توزيعـه لضــرار
المغرب العربي شعب واحــــد مل العروق دم العــروبة جــاري
للشـرق لا للغـرب ولّـى وجهه فغـدا له سنـدًا، لخـوض غمـار
ويصل المغرب بالمشرق في هذه الدعوة الملحة التي أرسلها في الذكرى الثانية للثورة:
رسول الشرق قل للشـرق إنــا على عهـد العروبة سوف نبقــى
وإمـا بالجزائر أنكــرونـــا سنخرق وصمة الإجمـاع خرقــا
سيعتـرف الزمان غـدًا بأنـــا سبقنـا وثبـة الأقـدار سبــقا
وأنـا في الجزائـر خيـر شعب عروبتــه مدى الأجيـال وُثقَـى
وأن الوحـدة الكبرى إذا مـــا تحــررت الجزائر سوف تبقــى.
وبعد استقلال الجزائر يظل وفيا لندائه وغنائه بهذا الحلم الجميل، إذ يقول:
ويا عروبةُ من أمّ لـنــا وأبٍ هنـا العروبـة دوحـات وأغصان
هنا الأصالة في صلـب وفي رحـمٍ هنـا القرارات تدبيـر ورجحـان
هنـا فلسطين تمتـد انطلاقتهــا إن كان في العـرب أنصار وأعوان
ونحن للوحـدة الكبـرى دعامتها إن كان في العرب تفكيـر وميـزان
مدّوا يدًا نبـنِ دنيـانا موحـدة فمـا استقام بدنيـا الخلف بنيـان
ويستشهد بجبال الأطلس التي تمتد عبر بلدان المغرب الثلاثة، ويتخذها دليلا على وحدة هذه البلاد أرضا وأمة، وتاريخا ومستقبلا،
سل الأطلس الفرد عن جُـرجـرا تعالى يشد السما بالثـــرى
هو الأطلس الأزليّ الـــــذي قضى العمر يصنــع أسد الشرى
فيا من تردد في وحــــــدة بمغـربنا وادعى وامتــــرى
أما وحـد الأطلس المـغـربــ ـيّ معاقلنــا بوثيـق العـرى؟
أمـا طوقتنــا سلاسلـــه فطـوق تـاريخنـا الأعصــرا؟
وفي إلياذة الجزائر خصص مقطعا لتأكيد هذه الوحدة الغالية، يقول فيه:
تماوج في فاس رجــع الصــدى من القـرويين يغـزو المــدى
يساجـل زيتونـة للســــلا م مباركــة فتلبــي النــدا
هو المغرب الأكبـر المستمـــ ـدّ رسالاتــه من رسول الهـدى
ووحدة مغربنا اليوم خطــــوٌ إلى وحـدة المسلميــن غــدا
بتوحيــد بعض نوحـد كـلاًّ وهـل ينكر الخبـر المبـتـــدا
فربـمـا كــان مغربنـــا مثـالا قويمـا بــه يُقتـــدى
وإن سلـك العُـرب في أمرهــم سواء السبيـل مددنـا اليــدا
وقمنــا بأرواحنـا نفتديهــم ونحن الألـى أخلصـوا للفــدا
ويستبـدلون بالشعارات الفـعـل فاستوجبـوا العـز والســؤددا
وقد تملكه اليأس عندما تحطمت هذه الآمال إثر الاستقلال وبدرت بوادر الانشقاق، فعبر عن ذلك بقوله:
أنا حطّمت مزهـري، لا تسلنــي وسلوت ابتسامتي، لا تلمـنــي
مذ تراءى الشقـاق حطمت كأسا تــي، على مبسمي، وأحرقت دَنّي
مذ رأيت السفين يجرفهـا اليــ ـمّ لسوء المصير، أغرقت سفنـي
مذ رأيت الغصـون ينعى بها البــو م، تجافيتهـا، وودعـت غصنـي
ورأيت الرؤوس طافـت بهـــا حمّى الكراسـي، ونالها مسّ جـنّ
فتخيرت في الرقَى (سورة الإخــ لاص)، مـذ بات غيرها ليس يغنـي
التنديد بالميوعة والتفسخ والانحلال الخلقي: تخنث هذا الزمان.
أقام
زكرياء حربا عوانا على دعاة التفسخ والانحلال الذين ازدهرت دعوتهم في
السبعينيات من القرن العشرين، ووجدوا لهم آذانا صاغية وانبهارا حير عقلاء
المجتمع، فقال فيهم زكرياء ساخرا:
طبائعنا صالحات جليلــــه تعاف انحـلال النفوس الذليلــه
وتأبى رجولتنــا الابتـــذال وأحلاسـه والشعـور الطويلــه
تخنث هـذا الزمـان ودبـــت خنافيـس "هيبـي" تشيع الرذيله
ونافسَ آدم حــوّاءه دلالا، وغنجًا، وذبـح فضيلــه
ولولا النهـود لمـا كنـت تفــ ـرق بين جميــل وبين جميلــه
وشاع الشـذوذ وذاع الحشيـش وأصبـح للمـوبقات وسيــله
وتقرف آنافَنـا القــاذورات فلم تُجـد في صرفهـا أي حيلـه
وأرض الجـزائر أرض الفحـول فأين الشهامة أين الرجولــــه؟
ومن لم يـصن حرمات البــلاد ويذرو النفايـات قد خـان جيله
ومرة أخرى يتجه إليهم في سخرية جديدة:
ومستهترون أضاعوا الثنـــايـا وشاع تنكــرهم للسجايـــا
وقالوا: التقـدم خلـع العــذا ر، وهتك العفاف، ونشر الخطايـا
وجدل الشعور ولبـس الحلـيّ وحمل القـلائد مثل الصبايـــا
ويتفخـرون بشرب الخمـــور وفي الكأس ترسب كل البـــلايا
وحذر من الغزو الشيوعي الوافد بلونه القرمزي، وإن تستر بلباس العلم وحمله أصحاب شهادات جامعية مرموقة، فقال:
أمانًا من الخـطر الداهــــم ومن معـول قاصف هــادم
غـزا المذهبيـون عقول الشبــا ب بمستورَد آفــن آثــــم
وزاغوا بهـم دون إسلامهـــم إلى مذهـب ليـس بالسـالــم
ودسّـوا شيوعيـة كالوبــاء كما يصـرف السم للطاعـــم
فضل الشباب البــريء انخـدا عًـا برقطاء في جلدهـا الناعـم
وبث أساتذة في الشبـاب رواسب مستعمــر غاشــم
وقيل: دكاتــرة عالمـــون فويــل لمستهتــر عالـــم
ويؤكد الحقيقة نفسها في مقطع آخر قائلا:
بناةَ الجزائر صونــوا الشبابــا ولا تأمنـوا في الشباب الذئابــا
ولا تهملـوا أمر طلابنــــا فقد أصبح العقـل فيهم يبابـــا
فكم شوه المسخ فيهم عقــولا وكم أمعـن المسخ فيهم خرابـا
وحرّف من زاغ إسلامَهــــم وأفقدهم وعيـهم والصوابـــا
وأصبح تفكيــرهم قرمزيــا دخيلا، وإيمــانهم مسترابـا
الاعتداد بالنفس:
يجنح
الطموح بالإنسان أحيانا إلى آماد بعيدة، قد يكون أهلا لها، وقد تقصر عن
مناه مواهبه وقدراته، بيد أن زكرياء تملكته الثقة بالنفس فمضى بها بعيدا،
وقد نحسبه أحيانا قد تجاوز المتعارف عليه في بيئته المحافظة على الأقل، مما
يعد إفراطا غير محمود.
وربما كان لظروفه التاريخية دافع في تركيز روح
التحدي في نفسه، فضلا عن تأثره ببعض الشعراء المرموقين الذين سجل التاريخ
افتخارهم بأنفسهم، وفي مقدمتهم أبو الطيب المتنبي، الذي طفح ديوانه بهذه
الادعاءات، بل وادعى المعري السبق والإتيان بما لم تستطعه الأوائل. ولكن
زكرياء تجاوزهم جميعا بقوله في إلياذته:
تنبـأت فيهـا بإليـــاذتـي فآمن بـي وبهــا المتنبـــي
وكان من أواخر شعره قصيدة عيد العرش أهداها للملك الحسن الثاني، ختمها بقوله:
واسمـح للمجد يساجلـه عمـلاق الشعر وأوحده
وظل عمرَه يتحدى، ويهزأ بأدعياء الشعر، وأنهم لا يرقون إلى مقام الفحول، أمثاله، فيقول:
ورُضت القـوافي الجامحات فأسلمت وناديت عمـلاق القريض فلبـّاني
سهولتهـا تغري البسيـط، وإنهـا من العمـق تستعصي على كل وزّان
وما ذاك إلا أن شعـري من دمـي يفـجره وعيـي وحسّي ووجداني
وشعـرهمُ بِدع من الخلق مشكلٌ ولا رحمٌ فيـه لكعـبٍ وحسـان
تعلّقـت بالفصحى فأُشربت حبها وأرغمت فيهـا أنف من يتحداني
إذا كان للشيطان فضـل عليهـمُ فشعـري وحي لا وساوس شيطان
ولم
تهنأ نفس زكرياء حين قلّد الشعراء شوقيَ إمارة الشعر، ورأى نفسه جديرا بها
لو ساعفته عوامل الشهرة التي مهدت الطريق أمام شوقي لاعتلاء هذه الإمارة:
ليس الشمال بمثــل شوقي عاجزا لـو أن في بعـض النفوس سخاءَ
إن الجزائــر كــالكنانة حرة تلـد الرجال وتنجــب العظماء
نشـأ الأمير مــع الأمير منعمـا بين الــرياض يسـاجـل الورقاء
ونشأت مقصوص الجناح معذبـا أقضـي الحيـاة مضاضـة وعناء
لو ذقت من كاس النعيم صُبابــة لغـدوت أحـمل للقريـض لواء
مـا اليأس في طلب العلا من شيمتي إنــي أعـد القانطـين إماء
لا يـأس في هذا الوجود فإنــني لا أنثـــني أو أبلغ الجـوزاء.
وظل إلى آخر عمره يردد هذه الفكرة باعتزاز، وختم بها إلياذته قائلا:
بلادي وقفت لـذكراك شعـري فخلد مجدك في الكون ذكـــري
وألهمتِنـي فصـدعت الدنـــا بإليـاذتي باعتـزاز وفخـــر
وكنت أوقع في الشاهقــــا ت خطى الثائرين بألحان صدري
فخلـد قدس اللهيب بيانـــي وأذكى لهيب الجـزائر فكــري
وإن يجحدوني فحسبـيَ أنــي وهبت الجزائر فكري وعمـــري
فآمن بي كل حـــرّ أصيـل وأنكر شمس الضحى كل غَمـــر
وتقصـر دون خطايَ خطاهــم ويؤذيهم الورد من طيب عطــري
تركت الخوالـف تحسو الغبــا ر، وطرت أسـابق مطلع فجـر
ودست الصراصير بيـن الصخـو ر، فصعّر خـدَّ الحجـارة صخـري
وألقيت في الساحريـن عصـــا ي، تلقّف مـا يأفكون بسحــري
المرأة في شعر زكرياء:
من
المنطقي أن نتساءل عن موقع المرأة في نتاج شاعرنا، وهي ملهمة الشعراء
وباعثة الكوامن التي تلهم أروع صور الإبداع التي عرفتها البشرية في آدابها،
بيد أن زكرياء كانت المرأة عنده رمزا للوطن، واسما مستعارا لمرابع الصبا
وثرى الجدود ومهوى قلبه الذي تيمه حب الجزائر، فأنساه كل حبيب، أو شغله عن
كل حبيب.
وقد اتخذ لهذه الحبيبة أسماء عدة، كليلى وسلمى.
يقول في قصيدة كتبها سنة 1926 وهو ابن ثماني عشرة ربيعا:
الحب أرقني واليـأس أضنــاني والبيـن ضاعف آلامـي وأحزاني
والروح في حب "ليلايَ" استحال إلى دمـعٍ فأمطـره شعري ووجدانـي
أساهـر النجـم والأكـوان هامدة تصغـي أنيـني بأشواق وتحنـان
كأنمـا وغراب الليـل منحـدر روحي وقلبـي بجنبيــه جناحان
نطوي معًـا صهوات الليل في شغف ونرقب الطيـف مـن آن إلـى آن
لكِ الحيـاة ومـا في الجسم من رمق ومن دماء ومن روح وجثمــان
لك الحياة فجـودي بالوصـال فما أحلـى وصالك في قلبي ووجدانـي
وأحيانا يشير إلى وطنه باسم "سلمى"، فيقول:
رسول الهوى بلغ سلامي إلى سلمى وعاط حميّـا ثغرها الباسم الألمـى
وناج هواهـا، عـلّ في الغيب رحمة تَـدارَكُ هـذا القلب أن ينقضي همّا
وبثّ شكـاة من مشوق متـيّـم لـه كبـد حرّى تضيق به غـمّـا
فكم تحت هذا القلب من لاعج الهوى وكم بين هذا الجسم من أضلع كلمى
أبيت أناجي الليل نجما كأنمـــا حبيب فؤادي صار مستتـرًا ثَـمّـا
بلادي بلادي، ما ألـذّ الهـوى وما أمـرّ كؤوس الحب ممتزجـا سمّـا
بلادي ألا عطفٌ علـيّ بنظــرة حنانينك، ما هذا السلوّ، ولا إثمــا
ومذ فتحت عيني المـدامعُ أبصرَت هـواك، فلا عـار عليّ ولا لومـا
فلله ما حمّلتنـي من صبـابـــة ولو ذاك في "رضوى" لهدّمه هدمـا
ومن روائع غزله بوطنه قوله في المقاطع الأولى للإلياذة:
جزائر يا لحكـاية حبـــــي ويا من حملت السلام لقلبـــي
ويا من سكبت الجمـال بروحـي ويا من أشعت الضيـاء بدربــي
فلولا جمالك ما صــح دينــي وما إن عرفـت الطريق لربـــي
ولولا العقيدة تغمــر قلبـــي لما كنـت أومـن إلا بشعبـــي
وإما ذكرتك شع كيـــانــي وإما سمعـت نــداك ألبـــي
ومهما بعــدت، ومهمـا قربت غرامك فــوق ظنوني ولبــي
وكان
زكرياء من أنصار الأصالة والتمسك بالعادات الحميدة، وينعى على المولعين
باستيراد الزوجات من بيئة غربية غريبة، فنشأ الجيل على يديها أجنبيا في
بلده، ويدعو إلى إبطال عادة غلاء المهور لما نجم عنها من انفلات الشباب
وتفض