[center
تجليـّات الصـراع و آلياتـه النفسيـة
في قصيدة "الذبيـح الصاعـد"
لـ "مُفـدي زكرياء"
"دراسةنقدنفسية"
إعداد: مولـدي بشينية
أستاذ مكلّف بالدروس
معهـد اللغـة العربيـة وآدابـها
المركز الجامعي بالطارف
mouluniver@hotmail.com:e-mail
ملخّص:
تنطلق
دراستنا لنصّ "الذبيح الصاعد" لـ" مفدي زكرياء " من قناعة لا يختلف فيها
اثنان وهي أنه نصّ صراعي بامتياز. والقناعة ذاتها ولّدت لدينا تساؤلات لها
علاقة ببشاعة اللحظة السيكولوجية الرهيبة التي دفعت الشاعر للكتابة. إذ:
ماهو موضوع النص ؛هل هو وصف مشهد دموي أم اختبار قدْرات الذات على التحمّل؟ هل أراد "مفدي" كتابة الصراع أم كتابة الألم؟ وماهو الحد
الفاصل بين الكتابة عن الصراع والكتابة عن الألم؟ ماهي الآليات النفسية
التي لجأ إليها"مفدي" لإخفاء ألمه والتصدّي للصراع الذي رأى أنه وُجد له؟ وهل
يمكن كتابة الألم إبداعا، فضلا عن البحث عنه في النصوص الإبداعية؟هل توجد
خلفية نظرية وآليات إجرائية يمكن الارتكاز عليهما في هذا المجال؟ ذلك ما سنعمل عل الإجابة عنه في هذا المقال.
Résumé :
Manifestations des conflits et les mécanismes psychologiques
dans le poème "sacrifier montant" pour : moufdi Zakaria.
Notre
étude sur « le sacrifier montant » du poète « Moufdi ZAKARIA », se
basse sur une conviction que le texte est très conflictuel. Et la
conviction en elle-même pose plusieurs questions liée aux horreurs du
terrible moment psychologiques qu’a poussé « MOUFDI »à écrire comme :
- Quel est le thème du texte ?
- Est-ce que « Moufdi » a voler écrire sur le conflit ou examinant ses capacité à cacher la douleur ?
- Quelle frontière y-a-t-il entre la douleur et l’écriture ?
- Quels sont les mécanismes psychologiques utilisés par le poète pour dissimuler les maux et confrontes le fait conflictuel ?
مقدّمة:
تقتضي
دراسة نصّ أدبيّ ما وفق تصوّرات النقد النفسي و أطروحاته ، أنْ يكون
الدارس بالإضافة إلى مؤهلاته النقدية مؤهّلا "علمنفسيّا" لتقديم تلك
الدراسة. و من بين المؤهلات التي يجب الإلمام بها، أن يكون مطّلعا على
منشأ وأسس ومنطلقات النظرية السيكولوجية و مختلف التطوّرات و التنقيحات
التي مرّت بها خلال مقاربتها للظاهرة الأدبيّة. و يتوقّف أيضا عند الهنّات
المسجّلة عليها من قبل الباحثين ليستطيع بعد ذلك أن يتّخذ لدراسته المسار الذي ترتضيه.
و الحديث عن "الصراع و آلياته النفسيّة" في نصّ أدبي ما، يقتضي أوّلاّ معرفة كشوفات علم النفس فيما يخصّ فكرة "الصراع" عموما ،و عند الأدباء
بشكل خاص و كيفيات تجلّيها في النصوص الأدبيّة كذلك. ثمّ تحديداته لفكرة
"الآليات النفسية" و صور تمظهرها في تلك النصوص؛ أيّ أن حيازة الدارس
معرفة "علمنفسية" أمرّ لا مناص منه للحديث عن الصراع و آلياته النفسيّة في
نصّ أدبيّ ما، حتى يتمكّن من القبض على اللحظة السيكولوجية، التي نرى
أنّها فعّالة في فهم النصّ و في إعادة إنتاجه ما إن تمّ القبض عليها.
و
الحديث عن الموضوع ذاته في قصيدة "الذبيح الصاعد" لـ "مفدي زكريا"، لا
يعني مطلقا الوقوف عند كشوفات علم النفس و إغفال مجموعة من العلوم و
المعارف و القضايا الأخرى ذات الصلة؛ كعلم الاجتماع و
نظريات الأدب و التاريخ و غيرها…كما لا يعني مطلقا إغفال معرفة تاريخ
النصّ – مناط الدرس- و تعاقب الأحداث التي أدّت إلى وجوده، ثم تأثير كلّ
ذلك على سيكولوجيّته؛إن عدم إغفال كل ذلك يساهم بقسط كبير في إنارة بعض
العتمة التي قد تعترض القراءة النقد نفسية .
وانطلاقا
من هذه المبادئ، سنقسم هذه المداخلة إلى قسمين: قسم أوّل نتعرّض فيه إلى
التعريف بالنظرية السيكولوجية مع التطرّق إلى أبرز التطورات التي لحقت بها
في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، والتركيز على أهم مقولاتها بخصوص فكرة
"الصراع و آلياته النفسيّة" لدى الأدباء على وجه الخصوص.
و
قسم ثان نتعرّض فيه لتجليّات الصراع و آلياته النفسيّة في قصيدة "الذبيح
الصاعد" لـ "مفدي زكرياء". و ذلك من خلال الوقوف عند تيمات الصراع
السطحيّة و العميقة في القصيدة، وأسبابه(الصراع) الظاهرة و الخفيّة، و
آلياته النفسية و دلالاته و أبعاده أيضا، بهدف القبض على القيمة الجمالية و المعرفية التي يمكن أن يخلقهما تضافر الحقل النفسي مع بقية الحقول في النص.
1- النظرية السيكولوجية و الظاهرة الأدبية:
ينصبُّ
اهتمام النظرية السيكولوجية في تفاعلها مع الظاهرة الأدبية تحليلا و نقدا
"على الدلالات الباطنية في العمل الأدبي و الفني الذي قد يتأثّر بالعقل
الباطن عند الفنان أكثر من تأثره بعّقله الواعي"(1)( 1).
و تفيد النظرة الشموليّة لإنجازاتها إنّه يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات رئيسية ذلك
بالنظر إلى الكيفية التي تعامل بها كلّ اتجاه مع الظاهرة نفسها؛ فهناك
الاتجاه التحليلي الذي رأى أن التركيز على شخصية الأديب قمين بتفسير جوانب
كثيرة في العمل الأدبي. و هناك الاتجاه شبه التحليلي؛ الذي رأى أن
المزاوجة بين الابستومولوجيا و التحليل النفسي قادر على الإجابة عن
التساؤلات التي يثيرها ذلك العمل. و هناك الاتجاه الثالث الذي رأى بأن
دراسة العمل الأدبي دراسة نفسية تتمّ من خلال الربط بين التحليل النفسي و
النقد الأدبي، فأنجز ما يسمى بالنقد النفسي للأدب.
فما هي أبرز إسهامات كل اتجاه في تعامله مع الظاهرة الأدبية، و ما هي تحاليلهم لفكرة "الصراع و آلياته النفسية " ؟
أ- الاتجاه التحليلي النفسي للأدب :
يتّفق الجميع على عدّ "س. فرويد"(S.Freud) ،من العلماء الأوائل الذين دعوا إلى "ارتباط العالم النفسي بعالم الأدب الفني"(2)
،ليس هذا فحسب، بل إلى تحليل العديد من النصوص الأدبية و غيرها تحليلا
نفسيا، إلى درجة أنه "لم يعد في وسع أحد أن يتجاهل كشوف هذا الرائد العظيم
في مجال المعنى"(3).
و بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أن النداء الذي أطلقه "سانت بيف" (Sainte Beuve) ،مطالبا بإنشاء "سيكولوجيا للكتّاب" يكون عملها الالتفات و الولوج إلى
الوجدان الإنساني المبدع، قد شجّع النفسانيين للخروج عن حدود مهنتهم و
الالتفات إلى الآثار الفنية و الأدبية، و أخذوا يعون بنسبة كبيرة علاقة
الإبداع الأدبي بالسيكولوجيا، "فإذا كان الأثر الأدبي يجد تجانسه في روح
عاطفي يسري في بنياته ،فالسيكولوجيا – هي قبل كل شيء-فهم للعاطفي"( 4).
و ينبني التحليل النفسي للظاهرة الأدبية عند "فرويد"، على اعتبار "المعنى بنية رمزية حافلة بأبعاد، و لها دقّة خاصة رغم تعميتها و تحريفها"( 5) .
و بالتالي يصبح من المهّم على المحلّل نفسه أن يضع في حسابه إن كل شيء
يمكن أن يكون رمزا. و فكّ شفرات تلك الرموز لا يكون إلا بالرجوع إلى حياة
الأديب و النبش في مكونات شخصيته للوصول إلى تركيبة دوافع الصراع لديه
الكامنة في عالم "اللاّشعور" .
و
يرجع "فرويد" كل الغرائز الإنسانية إلى "غريزة الجنس و الرغبة(…) و إلى
غريزة الموت. ويقصد بغريزة الموت، أن في كل إنسان، دوافع تضادّ، تهدف إلى
الفناء و الموت، و من جرائها يسعى الإنسان إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة"( 6). و بالتالي تغدو كل صورة من صوّر الخلق الفني لها جذورها العميقة في عالم "اللاّشعور" .
و فيما يخصّ فكرة "الصراع و آلياته النفسية" يذهب "فرويد" إلى اعتبار أن الشخصية تتكوّن من ثلاث قوى: الأنا، الأنا الأعلى، و الهو. و هي في صراع دائم و تتجلّى محصلته في تمظهرات سلوك الشخص في أي موقف. "و لهذا الصراع وسائل معينة يصل بها إلى تكوين المحصلة، يُطلق عيها "فرويد" اسم الآليات منها : القمع "Suppression " و الكبت " répression" و التسامي "sublimation" و التبرير، و القلب" conversion " و التقهقر… ( 7)".
و يرى "فرويد" أنه
في الحين الذي ينحلّ فيه الصراع إلى صورة مقبولة شخصيا بواسطة آلية
"القلب" باعتباره منفذا للطاقة المحتبسة، "فإن التسامي يؤدي إلى إظهار
عبقرية و امتياز في الفن أو في العلم"( 8).
وإذا كان" فرويد" يركّز في تحاليله بصورة عامة على "اللاّشعور الشخصي" و على "الصراع" باعتباره محصّلة شخصية، فإن "ك. يونج".( k.Yong)
يتجاوز ذلك إلى "اللاّشعور الجمعي"؛ و يرى "أن علّة الإبداع الفني الممتاز
هو تقلقل اللاّشعور الجمعي في فترات الأزمات الاجتماعية، ممّا يقلّل من
اتزان الحياة النفسية لدى الفنان و يدفعه إلى محاولة الوصول إلى اتزان
جديد" 9)). معتمدا في ذلك على مجموعة من الآليات الموصلة كآلية الإسقاط "projection" و آلية الحدس «intuition»؛ التي هي "القدرة على سبر أغوار المجهول دون الاعتماد على مشاهدات أو مقدمات أو خطوات عقلية سابقة(10).
و
قد كان لدعوة "فرويد" و "يونج" للاهتمام باللاّشعور، الأثر العميق في
تطوير الدراسات النفسية للظاهرة الأدبية، و في ذلك يقول أحد الدارسين :
"إن الدعوة إلى اللاّشعور قد أتاحت لنا تصفية إحساسنا بالشعر و تعميق ذلك
الإحساس و الشعور"(11).
ب- الاتجاه شبه التحليلي النفسي للأدب (*):
بعد
انحسار موجة المحللين النفسيين في دراسة الأعمال الأدبية نظرا للانتقادات
التي وجهت لإنجازاتهم، من مثل افتقارها للحسّ النقدي و الجمالي نظرا لعدم
قدرتها على إدراك استقلالية الظاهرة الأدبية، و خلوّ طرائق الدراسة فيها
من الآليات النقدية و العدّة الإجرائية الكفيلة بحفظ خصوصية الأدب و عدم
تحويله إلى عميل من عملاء المصحّات النفسية. ظهر اتجاه جديد عمل على
الاستفادة من كشوف التحليل النفسي، دون الوقوع في مطبّات التوجّه الطبّي
السريري للأعمال الأدبية و أصحابها. و وضع لنفسه – بالإضافة إلى ذلك-
خلفية تنظيريّة و أساليب تحليلية أيضا .
و يعدّ " غاستون باشلار" ( Gaston.Bachelard )
، رائدا لهذا الاتجاه، إذ أهّلته حصيلته المعرفية و العلمية الثرّة إلى
المزج بين فلسفة العلوم و التحليل النفسي، فأنجز ما يربو على الثلاثين
كتابا في مختلف حقول المعرفة الإنسانية مثل:" التجانس المتعدد في الكيمياء
الحديثة"، و" الروح العلمية الحديثة"، و" حدس اللحظة"، و" جماليات المكان" و "شعرية أحلام اليقظة"، و" حق الحلم"، و" التحليل النفسي للنار"، و" الماء و الأحلام" و
"لهب الشمعة"… و تعدّ أفكاره و تصوراته حول" أحلام اليقظة" من أكثر أفكاره
وتصوراته شيوعا و استلهاما من قبل المبدعين و النقّاد على حدّ سواء، إذ
استطاع أن يجد محددات نفسية لها تقوم على الجمع بين الإدراك والإبداع .
و لأن علاقته بالنقد لم تكن أصيلة – فهو ابستمولوجي بالأساس- "فإن آراءه و
تحليلاته النقدية كانت ذات طابع علمي مرتبط بتوظيف الأنساق الفكرية و فهم
معطياتها المادية، ممّا جعل خطابه النقدي يميل نحو الخطاب الفلسفي ويستعير
منه أكثر الأدوات و المفاهيم"(12).
ج- النقد النفسي:
تعاقبت الجهود الرامية إلى ردم الهوّة بين الجانب الجمالي في الفن و الأدب و
الجانب العلمي للتحليل النفسي على يدّ مجموعة كبيرة من الدارسين، الذين
عملوا على توظيف القسط الضروري فقط من التحليل النفسي، بحيث يضمنوا للأدب
استقلاليته، إلى حين ظهور "شارل مورون" Charles.Mauron) ، الذي ظهر معه "النقد النفسي".
تحقّّق اللقاء بين النقد الأدبي و التحليل النفسي على يد "شارل مورون"، "الذي لايتردّد في تسمية مذهبه بالنقد النفسي" Psychocritique"(13). فقد تكونت لهذا الناقد ثقافة علمية و أدبية في وقت معا، و قد كانت لدراساته عن "اللاشعور" في آثار "راسين" و "الاستعارات الملحّة و الأسطورة الشخصية" مساهمات قيّمة في مجال النقد الأدبي و التحليل النفسي.
انطلق
"مورون" في نقده النفسي من استبعاد أن يكون التحليل النفسي للأدب و الفن
مجرد تحليل "إكلينيكي"، تتحكّم فيه و تضبطه قواعد التشخيص الطبّي، عل
الرغم من أهميتها في تناول شخصية الأديب. و ركّز في دراسته لشخصية "راسين" و مسرحياته على "اللاشعور، و مركب أوديب. و مبدأ اللذة، و الصادية و المازوخية، و الكبت الشديد، و رقابة الأنا الأعلى …و لم يهمل أيضا تحليل الصراعات الكامنة وراء المآسي و استخلاص بنيتها المتجانسة بالاعتماد على العناصر البيوغرافية"(14).
و يعتبر "مورون" فن القراءة الدعامة الأساسية التي يقوم عليها منهجه النقد نفسي،
و الذي ينطلق فيه من رؤية تُحدّدُ الإبداعَ الأدبي في ثلاثة عوامل هي:
الوسط الاجتماعي وتاريخه ،وشخصية الأديب وتاريخها،واللغة وتاريخها.ويعتبر
عامل شخصية الأديب وتاريخها موضوع النقد النفسي في المقام الأول.
ويمكن إيجاز المبادئ التي اعتمدها "مورون" في منهجه كما يلي:
1- ارتياد عالم النص الأدبي باعتباره ظاهرة فنية ولغوية، وليس كوثيقة معرفية.
2-
التنقيب في مخبّآت النفس اللاشعورية للمبدع من خلال العناصر المكونة للأثر
الأدبي وفيما اختاره الأديب من عبارات وأفكار تمثل – في الحقيقة-الجانب
اللاّواعي من حياته الخفيّة،"وهي التي تقودنا إلى الصور الأسطورية
والحالات المأساوية والباطنية التي انطلق منها الأثر الأدبي"(15).
3-
دراسة النص الأدبي دراسة نقدية نفسية، لا تقتصر على تحليل الأثر تحليلا
شكليا ولغويا، ولا تقتصر على تحليله تحليلا نفسيا، وإنما بتأسيس وحدة بين
التحليلين.وذلك بالبحث في الصلة بين جوانب النفس اللاشعورية للشخصية
المبدعة – من جهة-،والشبكة الدلالية في العمل الإبداعي من جهة أخرى.
وكخاتمة
لهذا المدخل النظري نقول أن موضوع "الصراع وآلياته النفسية"في الأعمال
الأدبية، من المواضيع الأساسية في النظرية السيكولوجية، وان اتجاه النقد
النفسي وما حققه على المستويين التنظيري والتطبيقي ووضعه التحليل النفسي
في خدمة النصوص الأدبية، هو المنهج الأنسب لهذه المداخلة في قسمها
التطبيقي. ومن أجل تحقيق ذلك اخترنا الخطّة الإجرائية التالية:
1- تجليات الصراع وعناصره في قصيدة"الذبيح الصاعد".
2- الآليات النفسية للصراع ودلالاتها في القصيدة.
3- خاتمة.
1- تجليّات الصراع وعناصره في قصيدة "الذبيح الصاعد":
لن
نجانب الصواب إن قلنا أن ديوان"اللهب المقدس" برمّته،ينبني على فكرة
الصراع، ويتخذها كأيديولوجيا.إذ من خلال العنوان الرئيس والعناوين الفرعية
أيضا يمكن أن نقرأ ذلك. وبواسطة فن القراءة دائما ندرك إن المطابقات و
المقابلات و الحضور الكثيف للثنائيات الضدّية و غيرها فيه، لم يأت صياغة
فحسب، و إنما هي تغذية راجعة لثقافة مرحلة تاريخية بأكملها؛ مورس فيها
الصراع على المجتمع الجزائري، فانعكس على تعابيره المختلفة ومنها ديوان
"اللهب المقدس" الذي غدا "الصراع" فيه بمثابة الدم في جسم الإنسان.
و
لم تخرج قصيدة "الذبيح الصاعد" –التي تتصدّر الديوان- عن الحلبة الصراعية
التي وضع "مفدي" نفسه و فنّه في أتونها، بل جاءت لتأخذ مكان الصدارة فيه
أيضا ، و لهذا السبب وقع اختيارنا عليها بالذات، لما رأينا في حقلها
النفسي من صلاحية لتقديم دراسة نقد نفسية، و لما تحمله من تعابير ظاهرة
ومعاني خفية تعبر عن مكونات الشاعر و المتلقي النفسية، وما تحتويه من علاقات عاطفية موجبة و سالبة شديدة الثراء و ما تتناوله من تيمات سيكولوجية تنمّ عن ثقافة عالية تعبر بدورها عن موقف واضح المعالم من الوجود.
أ- تاريخ النص / تاريخ الصراع :
إذا
كان المقام لا يتسع للحديث عن العلاقة بين التاريخ و الأدب و لا عن علاقة
الصراع الإنساني بالفن تاريخيا، فإنه لن يضيق في وجه البحث عن العلاقة بين
النص – مناط الدرس- و اللحظة التاريخية التي وُلد من رحمها.و كذا علاقته باللحظة الخافية للصراع، و التي تضرب بجذورها في عمق "المطموس".
و
إذا كانت عملية القبض على اللحظة التاريخية التي ولّدتْ النص أمرا يسيرا
لأنها بادية فيه، فإن القبض على اللحظة الخافية يستوجب الغوص في المكونات
النفسية للشاعر و في لا شعوره الجمعي بالخصوص .لأننا نعتقد أن الشاعر في
مواجهته للحظة التاريخية المأساوية التي ولّدت الإبداع لديه استخار موروث
شعبه و أمّته – ليس هذا فحسب - و استخار موروث الإنسانية جمعاء أيضا، بطرق
واعية حينا و بطرق لاواعية أحيانا أخرى لتحقيق جملة من الأهداف، سنعمل على
كشفها في حينه .
يتشكّل
النص بالاعتماد على الخيط الشعوري السائد فيه من لحظتين سيكولوجيتين تتوزع
اللحظة السيكولوجية الأولى في القصيدة من البيت الأول إلى البيت الواحد و
العشرين، و يصف فيها الشاعر "المثير" الذي أفاض كأس الإبداع لديه، و
المتمثل في تلك اللحظة التاريخية الهامّة و المأساوية من تاريخ الثورة
الجزائرية، و التي سيق فيها الشهيد "أحمد زبانا" من قبل الهمجية
الاستعمارية ليدشّن مقصلة سجن بربروس بقطع رأسه. و ذلك في ليلة الثامن عشر
من جويلية سنة 1955.
و
لأن الحادثة كانت عظيمة في مأساويتها، فقد انعكس ذلك على لغة الخطاب
الشعري في هذا القسم من النص، فجاءت حلميّة مُثخنة بسطوة اللاوعي من فرط
الصدمة. و سنوضح ذلك في أثناء حديثنا المقبل عن الآليات النفسية للصراع في
النص.
أمّا
اللحظة السيكولوجية الثانية، فتتوزع على باقي أبيات القصيدة، و يتكفل
الشاعر خلالها بالرد و الإجابة على تلك الحادثة المأساوية و السياق الذي
أوجدها، الظاهر منه و الخفي.و قد تميزت لغة هذا القسم
بسيطرة لغة الشعور مع حضور فجائي لبعض الخطابات اللاشعورية، و التي
سنستثمرها في حديثنا عن الصراع الخفي في النص و علاقته بالمكونات النفسية
للشاعر و لاشعوره الجمعي.
و
النص بالنظر إلى خيطه الشعوري و أجوائه النفسية و التاريخ الذي أوجده، و
علاقة ذلك التاريخ بسيكولوجية الشاعر، هوعبارة عن "مثير" و "استجابة" بحسب
التعبير "الجشطالتي". و فيما يلي سنقوم بتحديد أطراف الصراع و أسبابه
الظاهرة و الباطنية، لنمرّ بعد ذلك إلى آلياته النفسية.
أ- أطراف الصراع و عناصره في النص:
جاء
في النص التقديمي للقصيدة أن هذه الأخيرة "نُظمت بسجن بربروس في القـاعة
التاسعة في الهزيع الثاني من الليل أثناء تنفيذ حكم الإعدام على أول شهيد
دشّن المقصلة المرحوم "أحمد زبانا" و ذلك ليلة 18 جويلية 1955 " (16)ونفهم
من ذلك أن النص ولد في مكان غير عادي و في زمن غير عادي وفي سياق غير عادي
أيضا, وقد تضافرت هذه الفضاءات غير العادية مجتمعة لتشكل الفعل الضاغط على
نفسية الشاعر الذي لجأ بدوره إلى الشعر باعتباره تعبيرا غير عادي ليفسح من
خلاله عن محصلة الصراع لديه.
و تفيد القراءة الفنية للصراع في النص بأنه يتجلّى عبر مستويين أحدهما ظاهري و
الأخر باطني،ولكلّ مستوى من هده المستويات أطرافه وأسبابه، وتيماته،
وعلاقاته العاطفية أيضا. وتحديد مكونات المستوى الأول أمر يسير، أما
المستوى الثاني فإن تحديد مكوناته ليست كذلك،بل يحتاج منا أن نجتاز حدود
القراءة درجة درجة بحثا عن"النفسية" المنشأة للأفكار و الصور.
يقوم
الصراع الظاهري في النص بين طرفين، جَمَع كلُ طرف لزاويته مجموعة من
العناصر لتقوية جانبه، نظرا لما لتلك العناصر من علاقات عاطفية بينها.
ويشكّل (الشاعر+ الشهيد+ المجتمع الجزائري الثائر)، عناصر الطرف الظاهري
الأول في عملية الصراع في النص. أما العلاقة الجامعة بين عناصر هذا الطرف
فهي التضحية في سبيل الوطن لنيل الاستقلال. نفهم ذلك من مقول القول
التالية الواردة في النص:
:"نحن ثرنا فلات حين رجوع * أو ننال استقلالنا المنشودا"(17)
ويشكّل
المستعمر وجنوده في الجزائر وأتباعه من الجزائريين الذين استمالتهم
مغرياته، العناصر الأساسية للطرف الظاهري الثاني. أما العلاقة الجامعة بين
العناصر المكونة لهذا الطرف، فهي استعباد الشعب الجزائري السيدّ في أرضه
ونهب خيراته. ويعّبر الشاعر عن ذلك بقوله:
دولة الظلــم للزوال إذا ما * أصبح الحرّ للطغام مسـودا
يا ضلال المستضعفين إذا هم * ألفوا الذلّ واستطابوا القعـودا18))
أما
باطنيا فإن الصراع أعمق من هذا، إذ يتجاوز حادثة إعدام الشهيد"أحمد زبانا"
واغتصاب الأرض الجزائرية من قبل الاستعمار الفرنسي، ليصل إلى الثورة التي
شكلها الدين الإسلامي الحنيف والتي هزت أركان العالم القديم، ويعرّج
ليستحضر الحروب الصليبية الآثمة والحاقدة التي اكتوى بنارها العالم
الإسلامي.
ومن
هذا المنظور لم يعد الصراع صراعا من أجل استرداد الأرض المغتصبة وإنما
استرداد الوظيفة الحضارية المستلبة، والاتزان النفسي الغائب بفعل دلك
الاستلاب.
والاستلاب
عنصر أساسي من العناصر التي تدخل في صميم الوظيفة الاستعمارية أين يشكّل
التحريف والحقد أبرز أعمدته. نجد ذلك في قول الشاعر:
سوف لا يعدم الهلال صلاح الد * ين فاستصرخي الصليب الحقودا(19)
فهذا الخطاب الشعري الذي تمكّن من الإفلات من السياق الواعي الذي سبقه وتلاه،
يختزن بداخله مجموعة من الرموز(الهلال،صلاح الدين)،وهي بذاتها تعدّ من
مقومات المجتمع الجزائري التي عمل الاستعمار -خلال حملته الشرسة ضد
المجتمع الجزائري- على طمسها وتغييبها.. ويكفي أن نستمع"للكاردينال لا
فيجري" حين يصرّح قائلا:"علينا أن نخلّص هذا الشعب. ونحرّره من قرآنه،
وعلينا أن نعتني على الأقل بالأطفال لتنشئتهم على مبادئ ما شبّ عليها
أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل، أو طردهم إلى أقاصي الصحراء بعيدين عن العالم المتحضر"(20).
فالصراع
الخافي-مثلما عبّر عنه النص- يضرب بجذوره في عمق التاريخ؛ هذا التاريخ
المخزون في الضمير الجمعي للشاعر، فسح له المجال ليتٌمّ توظيفه عبر
رمز"الهلال" الرامز إلى الأمة الإسلامية، ورمز"الصليب الحاقد"، الرامز إلى
المسيحية المنحرفة الحاقدة على الإسلام. ويأتي اسم "صلاح الدين" ليرمز إلى
مآل ذلك الصراع وخاتمته، من باب أن التاريخ يعيد نفسه.
ب-أسباب الصراع في النص:
تنقسم
أسباب الصراع في النص بانقسام أطرافه إلى أسباب ظاهرة وأخرى خفيّة، ويبوح
النص بالكثير عن الأسباب الظاهرة، بينما يكتفي بالتلميح للأسباب الخفية،
تاركا للمتلقي المشاركة في الكشف عنها، من منطلق أن القراءة نقطة التقاء
بين سيكولوجيتين بالأساس.
تكشف
الأساليب الاستفهامية المتعجّبة والمتعاقبة بشكل لافت للانتباه، الحالة
النفسية الثائرة والغاضبة لصاحب النص، وتكشف أيضا عن الأسباب الظاهرة
للصراع القائم بين أطرافه الظاهرين.وهي أسباب قائمة على واقع موضوعي أساسه
الاغتصاب؛ أي بين مستعمر غصب الحقوق، وأصحاب حقوق يريدون استردادها. نجد
ذلك في قول الشاعر:
ليس في الأرض سـادة و عبيد * وكيف نرضى بأن نعيش عبيدا؟!
أمن العدل صاحب الدار يشـقى * و دخيل بها يعيش سعيـــدا؟!
أمن العدل صاحب الدار يعرى * و غريب يحتل قصرا مشيـدا؟!
ويجوع ابنها فــيعدم قوتــا * و ينال الدخيل عيشا رغيـدا؟!
ويبـيح المسـتعمرون حماهـا * ويظل ابنها طريدا شريــدا؟؟(21)
أما
الأسباب الخفيّة للصراع فأنها لا تكاد تبدو حتى تختفي، ولا تكاد تختفي حتى
تبدو بأشكال مختلفة، وكأنّ ما تحمله من قدْرات على الظهور أقوى من قدرة
الشاعر على إخفائها، فبين الحين والآخر تعلن عن شدّة قوتها وسطوتها على
"أنا" الشاعر وضغطها على ساحة شعوره ولو من بعيد،كاشفة بذلك عن مكونات
نفسيته وعناصر هويته، ومبتغاه من الصراع أيضا.
إن
الصراع لدى"مفدي" في المرحلة التاريخية التي يمثّلها، ليست بين غاصب
للحقوق زجّ به في أعماق سجن "بربروس"، وذبح رفيقه ، ونهب خيرات شعبه
السيّد في أرضه فحسب؛وإنّما هو صراع متصل الحلقات بين الصليب المسيحي
المحرّف والحاقد، والتعاليم الإسلامية
تجليـّات الصـراع و آلياتـه النفسيـة
في قصيدة "الذبيـح الصاعـد"
لـ "مُفـدي زكرياء"
"دراسةنقدنفسية"
إعداد: مولـدي بشينية
أستاذ مكلّف بالدروس
معهـد اللغـة العربيـة وآدابـها
المركز الجامعي بالطارف
mouluniver@hotmail.com:e-mail
ملخّص:
تنطلق
دراستنا لنصّ "الذبيح الصاعد" لـ" مفدي زكرياء " من قناعة لا يختلف فيها
اثنان وهي أنه نصّ صراعي بامتياز. والقناعة ذاتها ولّدت لدينا تساؤلات لها
علاقة ببشاعة اللحظة السيكولوجية الرهيبة التي دفعت الشاعر للكتابة. إذ:
ماهو موضوع النص ؛هل هو وصف مشهد دموي أم اختبار قدْرات الذات على التحمّل؟ هل أراد "مفدي" كتابة الصراع أم كتابة الألم؟ وماهو الحد
الفاصل بين الكتابة عن الصراع والكتابة عن الألم؟ ماهي الآليات النفسية
التي لجأ إليها"مفدي" لإخفاء ألمه والتصدّي للصراع الذي رأى أنه وُجد له؟ وهل
يمكن كتابة الألم إبداعا، فضلا عن البحث عنه في النصوص الإبداعية؟هل توجد
خلفية نظرية وآليات إجرائية يمكن الارتكاز عليهما في هذا المجال؟ ذلك ما سنعمل عل الإجابة عنه في هذا المقال.
Résumé :
Manifestations des conflits et les mécanismes psychologiques
dans le poème "sacrifier montant" pour : moufdi Zakaria.
Notre
étude sur « le sacrifier montant » du poète « Moufdi ZAKARIA », se
basse sur une conviction que le texte est très conflictuel. Et la
conviction en elle-même pose plusieurs questions liée aux horreurs du
terrible moment psychologiques qu’a poussé « MOUFDI »à écrire comme :
- Quel est le thème du texte ?
- Est-ce que « Moufdi » a voler écrire sur le conflit ou examinant ses capacité à cacher la douleur ?
- Quelle frontière y-a-t-il entre la douleur et l’écriture ?
- Quels sont les mécanismes psychologiques utilisés par le poète pour dissimuler les maux et confrontes le fait conflictuel ?
مقدّمة:
تقتضي
دراسة نصّ أدبيّ ما وفق تصوّرات النقد النفسي و أطروحاته ، أنْ يكون
الدارس بالإضافة إلى مؤهلاته النقدية مؤهّلا "علمنفسيّا" لتقديم تلك
الدراسة. و من بين المؤهلات التي يجب الإلمام بها، أن يكون مطّلعا على
منشأ وأسس ومنطلقات النظرية السيكولوجية و مختلف التطوّرات و التنقيحات
التي مرّت بها خلال مقاربتها للظاهرة الأدبيّة. و يتوقّف أيضا عند الهنّات
المسجّلة عليها من قبل الباحثين ليستطيع بعد ذلك أن يتّخذ لدراسته المسار الذي ترتضيه.
و الحديث عن "الصراع و آلياته النفسيّة" في نصّ أدبي ما، يقتضي أوّلاّ معرفة كشوفات علم النفس فيما يخصّ فكرة "الصراع" عموما ،و عند الأدباء
بشكل خاص و كيفيات تجلّيها في النصوص الأدبيّة كذلك. ثمّ تحديداته لفكرة
"الآليات النفسية" و صور تمظهرها في تلك النصوص؛ أيّ أن حيازة الدارس
معرفة "علمنفسية" أمرّ لا مناص منه للحديث عن الصراع و آلياته النفسيّة في
نصّ أدبيّ ما، حتى يتمكّن من القبض على اللحظة السيكولوجية، التي نرى
أنّها فعّالة في فهم النصّ و في إعادة إنتاجه ما إن تمّ القبض عليها.
و
الحديث عن الموضوع ذاته في قصيدة "الذبيح الصاعد" لـ "مفدي زكريا"، لا
يعني مطلقا الوقوف عند كشوفات علم النفس و إغفال مجموعة من العلوم و
المعارف و القضايا الأخرى ذات الصلة؛ كعلم الاجتماع و
نظريات الأدب و التاريخ و غيرها…كما لا يعني مطلقا إغفال معرفة تاريخ
النصّ – مناط الدرس- و تعاقب الأحداث التي أدّت إلى وجوده، ثم تأثير كلّ
ذلك على سيكولوجيّته؛إن عدم إغفال كل ذلك يساهم بقسط كبير في إنارة بعض
العتمة التي قد تعترض القراءة النقد نفسية .
وانطلاقا
من هذه المبادئ، سنقسم هذه المداخلة إلى قسمين: قسم أوّل نتعرّض فيه إلى
التعريف بالنظرية السيكولوجية مع التطرّق إلى أبرز التطورات التي لحقت بها
في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، والتركيز على أهم مقولاتها بخصوص فكرة
"الصراع و آلياته النفسيّة" لدى الأدباء على وجه الخصوص.
و
قسم ثان نتعرّض فيه لتجليّات الصراع و آلياته النفسيّة في قصيدة "الذبيح
الصاعد" لـ "مفدي زكرياء". و ذلك من خلال الوقوف عند تيمات الصراع
السطحيّة و العميقة في القصيدة، وأسبابه(الصراع) الظاهرة و الخفيّة، و
آلياته النفسية و دلالاته و أبعاده أيضا، بهدف القبض على القيمة الجمالية و المعرفية التي يمكن أن يخلقهما تضافر الحقل النفسي مع بقية الحقول في النص.
1- النظرية السيكولوجية و الظاهرة الأدبية:
ينصبُّ
اهتمام النظرية السيكولوجية في تفاعلها مع الظاهرة الأدبية تحليلا و نقدا
"على الدلالات الباطنية في العمل الأدبي و الفني الذي قد يتأثّر بالعقل
الباطن عند الفنان أكثر من تأثره بعّقله الواعي"(1)( 1).
و تفيد النظرة الشموليّة لإنجازاتها إنّه يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات رئيسية ذلك
بالنظر إلى الكيفية التي تعامل بها كلّ اتجاه مع الظاهرة نفسها؛ فهناك
الاتجاه التحليلي الذي رأى أن التركيز على شخصية الأديب قمين بتفسير جوانب
كثيرة في العمل الأدبي. و هناك الاتجاه شبه التحليلي؛ الذي رأى أن
المزاوجة بين الابستومولوجيا و التحليل النفسي قادر على الإجابة عن
التساؤلات التي يثيرها ذلك العمل. و هناك الاتجاه الثالث الذي رأى بأن
دراسة العمل الأدبي دراسة نفسية تتمّ من خلال الربط بين التحليل النفسي و
النقد الأدبي، فأنجز ما يسمى بالنقد النفسي للأدب.
فما هي أبرز إسهامات كل اتجاه في تعامله مع الظاهرة الأدبية، و ما هي تحاليلهم لفكرة "الصراع و آلياته النفسية " ؟
أ- الاتجاه التحليلي النفسي للأدب :
يتّفق الجميع على عدّ "س. فرويد"(S.Freud) ،من العلماء الأوائل الذين دعوا إلى "ارتباط العالم النفسي بعالم الأدب الفني"(2)
،ليس هذا فحسب، بل إلى تحليل العديد من النصوص الأدبية و غيرها تحليلا
نفسيا، إلى درجة أنه "لم يعد في وسع أحد أن يتجاهل كشوف هذا الرائد العظيم
في مجال المعنى"(3).
و بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أن النداء الذي أطلقه "سانت بيف" (Sainte Beuve) ،مطالبا بإنشاء "سيكولوجيا للكتّاب" يكون عملها الالتفات و الولوج إلى
الوجدان الإنساني المبدع، قد شجّع النفسانيين للخروج عن حدود مهنتهم و
الالتفات إلى الآثار الفنية و الأدبية، و أخذوا يعون بنسبة كبيرة علاقة
الإبداع الأدبي بالسيكولوجيا، "فإذا كان الأثر الأدبي يجد تجانسه في روح
عاطفي يسري في بنياته ،فالسيكولوجيا – هي قبل كل شيء-فهم للعاطفي"( 4).
و ينبني التحليل النفسي للظاهرة الأدبية عند "فرويد"، على اعتبار "المعنى بنية رمزية حافلة بأبعاد، و لها دقّة خاصة رغم تعميتها و تحريفها"( 5) .
و بالتالي يصبح من المهّم على المحلّل نفسه أن يضع في حسابه إن كل شيء
يمكن أن يكون رمزا. و فكّ شفرات تلك الرموز لا يكون إلا بالرجوع إلى حياة
الأديب و النبش في مكونات شخصيته للوصول إلى تركيبة دوافع الصراع لديه
الكامنة في عالم "اللاّشعور" .
و
يرجع "فرويد" كل الغرائز الإنسانية إلى "غريزة الجنس و الرغبة(…) و إلى
غريزة الموت. ويقصد بغريزة الموت، أن في كل إنسان، دوافع تضادّ، تهدف إلى
الفناء و الموت، و من جرائها يسعى الإنسان إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة"( 6). و بالتالي تغدو كل صورة من صوّر الخلق الفني لها جذورها العميقة في عالم "اللاّشعور" .
و فيما يخصّ فكرة "الصراع و آلياته النفسية" يذهب "فرويد" إلى اعتبار أن الشخصية تتكوّن من ثلاث قوى: الأنا، الأنا الأعلى، و الهو. و هي في صراع دائم و تتجلّى محصلته في تمظهرات سلوك الشخص في أي موقف. "و لهذا الصراع وسائل معينة يصل بها إلى تكوين المحصلة، يُطلق عيها "فرويد" اسم الآليات منها : القمع "Suppression " و الكبت " répression" و التسامي "sublimation" و التبرير، و القلب" conversion " و التقهقر… ( 7)".
و يرى "فرويد" أنه
في الحين الذي ينحلّ فيه الصراع إلى صورة مقبولة شخصيا بواسطة آلية
"القلب" باعتباره منفذا للطاقة المحتبسة، "فإن التسامي يؤدي إلى إظهار
عبقرية و امتياز في الفن أو في العلم"( 8).
وإذا كان" فرويد" يركّز في تحاليله بصورة عامة على "اللاّشعور الشخصي" و على "الصراع" باعتباره محصّلة شخصية، فإن "ك. يونج".( k.Yong)
يتجاوز ذلك إلى "اللاّشعور الجمعي"؛ و يرى "أن علّة الإبداع الفني الممتاز
هو تقلقل اللاّشعور الجمعي في فترات الأزمات الاجتماعية، ممّا يقلّل من
اتزان الحياة النفسية لدى الفنان و يدفعه إلى محاولة الوصول إلى اتزان
جديد" 9)). معتمدا في ذلك على مجموعة من الآليات الموصلة كآلية الإسقاط "projection" و آلية الحدس «intuition»؛ التي هي "القدرة على سبر أغوار المجهول دون الاعتماد على مشاهدات أو مقدمات أو خطوات عقلية سابقة(10).
و
قد كان لدعوة "فرويد" و "يونج" للاهتمام باللاّشعور، الأثر العميق في
تطوير الدراسات النفسية للظاهرة الأدبية، و في ذلك يقول أحد الدارسين :
"إن الدعوة إلى اللاّشعور قد أتاحت لنا تصفية إحساسنا بالشعر و تعميق ذلك
الإحساس و الشعور"(11).
ب- الاتجاه شبه التحليلي النفسي للأدب (*):
بعد
انحسار موجة المحللين النفسيين في دراسة الأعمال الأدبية نظرا للانتقادات
التي وجهت لإنجازاتهم، من مثل افتقارها للحسّ النقدي و الجمالي نظرا لعدم
قدرتها على إدراك استقلالية الظاهرة الأدبية، و خلوّ طرائق الدراسة فيها
من الآليات النقدية و العدّة الإجرائية الكفيلة بحفظ خصوصية الأدب و عدم
تحويله إلى عميل من عملاء المصحّات النفسية. ظهر اتجاه جديد عمل على
الاستفادة من كشوف التحليل النفسي، دون الوقوع في مطبّات التوجّه الطبّي
السريري للأعمال الأدبية و أصحابها. و وضع لنفسه – بالإضافة إلى ذلك-
خلفية تنظيريّة و أساليب تحليلية أيضا .
و يعدّ " غاستون باشلار" ( Gaston.Bachelard )
، رائدا لهذا الاتجاه، إذ أهّلته حصيلته المعرفية و العلمية الثرّة إلى
المزج بين فلسفة العلوم و التحليل النفسي، فأنجز ما يربو على الثلاثين
كتابا في مختلف حقول المعرفة الإنسانية مثل:" التجانس المتعدد في الكيمياء
الحديثة"، و" الروح العلمية الحديثة"، و" حدس اللحظة"، و" جماليات المكان" و "شعرية أحلام اليقظة"، و" حق الحلم"، و" التحليل النفسي للنار"، و" الماء و الأحلام" و
"لهب الشمعة"… و تعدّ أفكاره و تصوراته حول" أحلام اليقظة" من أكثر أفكاره
وتصوراته شيوعا و استلهاما من قبل المبدعين و النقّاد على حدّ سواء، إذ
استطاع أن يجد محددات نفسية لها تقوم على الجمع بين الإدراك والإبداع .
و لأن علاقته بالنقد لم تكن أصيلة – فهو ابستمولوجي بالأساس- "فإن آراءه و
تحليلاته النقدية كانت ذات طابع علمي مرتبط بتوظيف الأنساق الفكرية و فهم
معطياتها المادية، ممّا جعل خطابه النقدي يميل نحو الخطاب الفلسفي ويستعير
منه أكثر الأدوات و المفاهيم"(12).
ج- النقد النفسي:
تعاقبت الجهود الرامية إلى ردم الهوّة بين الجانب الجمالي في الفن و الأدب و
الجانب العلمي للتحليل النفسي على يدّ مجموعة كبيرة من الدارسين، الذين
عملوا على توظيف القسط الضروري فقط من التحليل النفسي، بحيث يضمنوا للأدب
استقلاليته، إلى حين ظهور "شارل مورون" Charles.Mauron) ، الذي ظهر معه "النقد النفسي".
تحقّّق اللقاء بين النقد الأدبي و التحليل النفسي على يد "شارل مورون"، "الذي لايتردّد في تسمية مذهبه بالنقد النفسي" Psychocritique"(13). فقد تكونت لهذا الناقد ثقافة علمية و أدبية في وقت معا، و قد كانت لدراساته عن "اللاشعور" في آثار "راسين" و "الاستعارات الملحّة و الأسطورة الشخصية" مساهمات قيّمة في مجال النقد الأدبي و التحليل النفسي.
انطلق
"مورون" في نقده النفسي من استبعاد أن يكون التحليل النفسي للأدب و الفن
مجرد تحليل "إكلينيكي"، تتحكّم فيه و تضبطه قواعد التشخيص الطبّي، عل
الرغم من أهميتها في تناول شخصية الأديب. و ركّز في دراسته لشخصية "راسين" و مسرحياته على "اللاشعور، و مركب أوديب. و مبدأ اللذة، و الصادية و
تجليـّات الصـراع و آلياتـه النفسيـة
في قصيدة "الذبيـح الصاعـد"
لـ "مُفـدي زكرياء"
"دراسةنقدنفسية"
إعداد: مولـدي بشينية
أستاذ مكلّف بالدروس
معهـد اللغـة العربيـة وآدابـها
المركز الجامعي بالطارف
mouluniver@hotmail.com:e-mail
ملخّص:
تنطلق
دراستنا لنصّ "الذبيح الصاعد" لـ" مفدي زكرياء " من قناعة لا يختلف فيها
اثنان وهي أنه نصّ صراعي بامتياز. والقناعة ذاتها ولّدت لدينا تساؤلات لها
علاقة ببشاعة اللحظة السيكولوجية الرهيبة التي دفعت الشاعر للكتابة. إذ:
ماهو موضوع النص ؛هل هو وصف مشهد دموي أم اختبار قدْرات الذات على التحمّل؟ هل أراد "مفدي" كتابة الصراع أم كتابة الألم؟ وماهو الحد
الفاصل بين الكتابة عن الصراع والكتابة عن الألم؟ ماهي الآليات النفسية
التي لجأ إليها"مفدي" لإخفاء ألمه والتصدّي للصراع الذي رأى أنه وُجد له؟ وهل
يمكن كتابة الألم إبداعا، فضلا عن البحث عنه في النصوص الإبداعية؟هل توجد
خلفية نظرية وآليات إجرائية يمكن الارتكاز عليهما في هذا المجال؟ ذلك ما سنعمل عل الإجابة عنه في هذا المقال.
Résumé :
Manifestations des conflits et les mécanismes psychologiques
dans le poème "sacrifier montant" pour : moufdi Zakaria.
Notre
étude sur « le sacrifier montant » du poète « Moufdi ZAKARIA », se
basse sur une conviction que le texte est très conflictuel. Et la
conviction en elle-même pose plusieurs questions liée aux horreurs du
terrible moment psychologiques qu’a poussé « MOUFDI »à écrire comme :
- Quel est le thème du texte ?
- Est-ce que « Moufdi » a voler écrire sur le conflit ou examinant ses capacité à cacher la douleur ?
- Quelle frontière y-a-t-il entre la douleur et l’écriture ?
- Quels sont les mécanismes psychologiques utilisés par le poète pour dissimuler les maux et confrontes le fait conflictuel ?
مقدّمة:
تقتضي
دراسة نصّ أدبيّ ما وفق تصوّرات النقد النفسي و أطروحاته ، أنْ يكون
الدارس بالإضافة إلى مؤهلاته النقدية مؤهّلا "علمنفسيّا" لتقديم تلك
الدراسة. و من بين المؤهلات التي يجب الإلمام بها، أن يكون مطّلعا على
منشأ وأسس ومنطلقات النظرية السيكولوجية و مختلف التطوّرات و التنقيحات
التي مرّت بها خلال مقاربتها للظاهرة الأدبيّة. و يتوقّف أيضا عند الهنّات
المسجّلة عليها من قبل الباحثين ليستطيع بعد ذلك أن يتّخذ لدراسته المسار الذي ترتضيه.
و الحديث عن "الصراع و آلياته النفسيّة" في نصّ أدبي ما، يقتضي أوّلاّ معرفة كشوفات علم النفس فيما يخصّ فكرة "الصراع" عموما ،و عند الأدباء
بشكل خاص و كيفيات تجلّيها في النصوص الأدبيّة كذلك. ثمّ تحديداته لفكرة
"الآليات النفسية" و صور تمظهرها في تلك النصوص؛ أيّ أن حيازة الدارس
معرفة "علمنفسية" أمرّ لا مناص منه للحديث عن الصراع و آلياته النفسيّة في
نصّ أدبيّ ما، حتى يتمكّن من القبض على اللحظة السيكولوجية، التي نرى
أنّها فعّالة في فهم النصّ و في إعادة إنتاجه ما إن تمّ القبض عليها.
و
الحديث عن الموضوع ذاته في قصيدة "الذبيح الصاعد" لـ "مفدي زكريا"، لا
يعني مطلقا الوقوف عند كشوفات علم النفس و إغفال مجموعة من العلوم و
المعارف و القضايا الأخرى ذات الصلة؛ كعلم الاجتماع و
نظريات الأدب و التاريخ و غيرها…كما لا يعني مطلقا إغفال معرفة تاريخ
النصّ – مناط الدرس- و تعاقب الأحداث التي أدّت إلى وجوده، ثم تأثير كلّ
ذلك على سيكولوجيّته؛إن عدم إغفال كل ذلك يساهم بقسط كبير في إنارة بعض
العتمة التي قد تعترض القراءة النقد نفسية .
وانطلاقا
من هذه المبادئ، سنقسم هذه المداخلة إلى قسمين: قسم أوّل نتعرّض فيه إلى
التعريف بالنظرية السيكولوجية مع التطرّق إلى أبرز التطورات التي لحقت بها
في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، والتركيز على أهم مقولاتها بخصوص فكرة
"الصراع و آلياته النفسيّة" لدى الأدباء على وجه الخصوص.
و
قسم ثان نتعرّض فيه لتجليّات الصراع و آلياته النفسيّة في قصيدة "الذبيح
الصاعد" لـ "مفدي زكرياء". و ذلك من خلال الوقوف عند تيمات الصراع
السطحيّة و العميقة في القصيدة، وأسبابه(الصراع) الظاهرة و الخفيّة، و
آلياته النفسية و دلالاته و أبعاده أيضا، بهدف القبض على القيمة الجمالية و المعرفية التي يمكن أن يخلقهما تضافر الحقل النفسي مع بقية الحقول في النص.
1- النظرية السيكولوجية و الظاهرة الأدبية:
ينصبُّ
اهتمام النظرية السيكولوجية في تفاعلها مع الظاهرة الأدبية تحليلا و نقدا
"على الدلالات الباطنية في العمل الأدبي و الفني الذي قد يتأثّر بالعقل
الباطن عند الفنان أكثر من تأثره بعّقله الواعي"(1)( 1).
و تفيد النظرة الشموليّة لإنجازاتها إنّه يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات رئيسية ذلك
بالنظر إلى الكيفية التي تعامل بها كلّ اتجاه مع الظاهرة نفسها؛ فهناك
الاتجاه التحليلي الذي رأى أن التركيز على شخصية الأديب قمين بتفسير جوانب
كثيرة في العمل الأدبي. و هناك الاتجاه شبه التحليلي؛ الذي رأى أن
المزاوجة بين الابستومولوجيا و التحليل النفسي قادر على الإجابة عن
التساؤلات التي يثيرها ذلك العمل. و هناك الاتجاه الثالث الذي رأى بأن
دراسة العمل الأدبي دراسة نفسية تتمّ من خلال الربط بين التحليل النفسي و
النقد الأدبي، فأنجز ما يسمى بالنقد النفسي للأدب.
فما هي أبرز إسهامات كل اتجاه في تعامله مع الظاهرة الأدبية، و ما هي تحاليلهم لفكرة "الصراع و آلياته النفسية " ؟
أ- الاتجاه التحليلي النفسي للأدب :
يتّفق الجميع على عدّ "س. فرويد"(S.Freud) ،من العلماء الأوائل الذين دعوا إلى "ارتباط العالم النفسي بعالم الأدب الفني"(2)
،ليس هذا فحسب، بل إلى تحليل العديد من النصوص الأدبية و غيرها تحليلا
نفسيا، إلى درجة أنه "لم يعد في وسع أحد أن يتجاهل كشوف هذا الرائد العظيم
في مجال المعنى"(3).
و بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أن النداء الذي أطلقه "سانت بيف" (Sainte Beuve) ،مطالبا بإنشاء "سيكولوجيا للكتّاب" يكون عملها الالتفات و الولوج إلى
الوجدان الإنساني المبدع، قد شجّع النفسانيين للخروج عن حدود مهنتهم و
الالتفات إلى الآثار الفنية و الأدبية، و أخذوا يعون بنسبة كبيرة علاقة
الإبداع الأدبي بالسيكولوجيا، "فإذا كان الأثر الأدبي يجد تجانسه في روح
عاطفي يسري في بنياته ،فالسيكولوجيا – هي قبل كل شيء-فهم للعاطفي"( 4).
و ينبني التحليل النفسي للظاهرة الأدبية عند "فرويد"، على اعتبار "المعنى بنية رمزية حافلة بأبعاد، و لها دقّة خاصة رغم تعميتها و تحريفها"( 5) .
و بالتالي يصبح من المهّم على المحلّل نفسه أن يضع في حسابه إن كل شيء
يمكن أن يكون رمزا. و فكّ شفرات تلك الرموز لا يكون إلا بالرجوع إلى حياة
الأديب و النبش في مكونات شخصيته للوصول إلى تركيبة دوافع الصراع لديه
الكامنة في عالم "اللاّشعور" .
و
يرجع "فرويد" كل الغرائز الإنسانية إلى "غريزة الجنس و الرغبة(…) و إلى
غريزة الموت. ويقصد بغريزة الموت، أن في كل إنسان، دوافع تضادّ، تهدف إلى
الفناء و الموت، و من جرائها يسعى الإنسان إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة"( 6). و بالتالي تغدو كل صورة من صوّر الخلق الفني لها جذورها العميقة في عالم "اللاّشعور" .
و فيما يخصّ فكرة "الصراع و آلياته النفسية" يذهب "فرويد" إلى اعتبار أن الشخصية تتكوّن من ثلاث قوى: الأنا، الأنا الأعلى، و الهو. و هي في صراع دائم و تتجلّى محصلته في تمظهرات سلوك الشخص في أي موقف. "و لهذا الصراع وسائل معينة يصل بها إلى تكوين المحصلة، يُطلق عيها "فرويد" اسم الآليات منها : القمع "Suppression " و الكبت " répression" و التسامي "sublimation" و التبرير، و القلب" conversion " و التقهقر… ( 7)".
و يرى "فرويد" أنه
في الحين الذي ينحلّ فيه الصراع إلى صورة مقبولة شخصيا بواسطة آلية
"القلب" باعتباره منفذا للطاقة المحتبسة، "فإن التسامي يؤدي إلى إظهار
عبقرية و امتياز في الفن أو في العلم"( 8).
وإذا كان" فرويد" يركّز في تحاليله بصورة عامة على "اللاّشعور الشخصي" و على "الصراع" باعتباره محصّلة شخصية، فإن "ك. يونج".( k.Yong)
يتجاوز ذلك إلى "اللاّشعور الجمعي"؛ و يرى "أن علّة الإبداع الفني الممتاز
هو تقلقل اللاّشعور الجمعي في فترات الأزمات الاجتماعية، ممّا يقلّل من
اتزان الحياة النفسية لدى الفنان و يدفعه إلى محاولة الوصول إلى اتزان
جديد" 9)). معتمدا في ذلك على مجموعة من الآليات الموصلة كآلية الإسقاط "projection" و آلية الحدس «intuition»؛ التي هي "القدرة على سبر أغوار المجهول دون الاعتماد على مشاهدات أو مقدمات أو خطوات عقلية سابقة(10).
و
قد كان لدعوة "فرويد" و "يونج" للاهتمام باللاّشعور، الأثر العميق في
تطوير الدراسات النفسية للظاهرة الأدبية، و في ذلك يقول أحد الدارسين :
"إن الدعوة إلى اللاّشعور قد أتاحت لنا تصفية إحساسنا بالشعر و تعميق ذلك
الإحساس و الشعور"(11).
ب- الاتجاه شبه التحليلي النفسي للأدب (*):
بعد
انحسار موجة المحللين النفسيين في دراسة الأعمال الأدبية نظرا للانتقادات
التي وجهت لإنجازاتهم، من مثل افتقارها للحسّ النقدي و الجمالي نظرا لعدم
قدرتها على إدراك استقلالية الظاهرة الأدبية، و خلوّ طرائق الدراسة فيها
من الآليات النقدية و العدّة الإجرائية الكفيلة بحفظ خصوصية الأدب و عدم
تحويله إلى عميل من عملاء المصحّات النفسية. ظهر اتجاه جديد عمل على
الاستفادة من كشوف التحليل النفسي، دون الوقوع في مطبّات التوجّه الطبّي
السريري للأعمال الأدبية و أصحابها. و وضع لنفسه – بالإضافة إلى ذلك-
خلفية تنظيريّة و أساليب تحليلية أيضا .
و يعدّ " غاستون باشلار" ( Gaston.Bachelard )
، رائدا لهذا الاتجاه، إذ أهّلته حصيلته المعرفية و العلمية الثرّة إلى
المزج بين فلسفة العلوم و التحليل النفسي، فأنجز ما يربو على الثلاثين
كتابا في مختلف حقول المعرفة الإنسانية مثل:" التجانس المتعدد في الكيمياء
الحديثة"، و" الروح العلمية الحديثة"، و" حدس اللحظة"، و" جماليات المكان" و "شعرية أحلام اليقظة"، و" حق الحلم"، و" التحليل النفسي للنار"، و" الماء و الأحلام" و
"لهب الشمعة"… و تعدّ أفكاره و تصوراته حول" أحلام اليقظة" من أكثر أفكاره
وتصوراته شيوعا و استلهاما من قبل المبدعين و النقّاد على حدّ سواء، إذ
استطاع أن يجد محددات نفسية لها تقوم على الجمع بين الإدراك والإبداع .
و لأن علاقته بالنقد لم تكن أصيلة – فهو ابستمولوجي بالأساس- "فإن آراءه و
تحليلاته النقدية كانت ذات طابع علمي مرتبط بتوظيف الأنساق الفكرية و فهم
معطياتها المادية، ممّا جعل خطابه النقدي يميل نحو الخطاب الفلسفي ويستعير
منه أكثر الأدوات و المفاهيم"(12).
ج- النقد النفسي:
تعاقبت الجهود الرامية إلى ردم الهوّة بين الجانب الجمالي في الفن و الأدب و
الجانب العلمي للتحليل النفسي على يدّ مجموعة كبيرة من الدارسين، الذين
عملوا على توظيف القسط الضروري فقط من التحليل النفسي، بحيث يضمنوا للأدب
استقلاليته، إلى حين ظهور "شارل مورون" Charles.Mauron) ، الذي ظهر معه "النقد النفسي".
تحقّّق اللقاء بين النقد الأدبي و التحليل النفسي على يد "شارل مورون"، "الذي لايتردّد في تسمية مذهبه بالنقد النفسي" Psychocritique"(13). فقد تكونت لهذا الناقد ثقافة علمية و أدبية في وقت معا، و قد كانت لدراساته عن "اللاشعور" في آثار "راسين" و "الاستعارات الملحّة و الأسطورة الشخصية" مساهمات قيّمة في مجال النقد الأدبي و التحليل النفسي.
انطلق
"مورون" في نقده النفسي من استبعاد أن يكون التحليل النفسي للأدب و الفن
مجرد تحليل "إكلينيكي"، تتحكّم فيه و تضبطه قواعد التشخيص الطبّي، عل
الرغم من أهميتها في تناول شخصية الأديب. و ركّز في دراسته لشخصية "راسين" و مسرحياته على "اللاشعور، و مركب أوديب. و مبدأ اللذة، و الصادية و المازوخية، و الكبت الشديد، و رقابة الأنا الأعلى …و لم يهمل أيضا تحليل الصراعات الكامنة وراء المآسي و استخلاص بنيتها المتجانسة بالاعتماد على العناصر البيوغرافية"(14).
و يعتبر "مورون" فن القراءة الدعامة الأساسية التي يقوم عليها منهجه النقد نفسي،
و الذي ينطلق فيه من رؤية تُحدّدُ الإبداعَ الأدبي في ثلاثة عوامل هي:
الوسط الاجتماعي وتاريخه ،وشخصية الأديب وتاريخها،واللغة وتاريخها.ويعتبر
عامل شخصية الأديب وتاريخها موضوع النقد النفسي في المقام الأول.
ويمكن إيجاز المبادئ التي اعتمدها "مورون" في منهجه كما يلي:
1- ارتياد عالم النص الأدبي باعتباره ظاهرة فنية ولغوية، وليس كوثيقة معرفية.
2-
التنقيب في مخبّآت النفس اللاشعورية للمبدع من خلال العناصر المكونة للأثر
الأدبي وفيما اختاره الأديب من عبارات وأفكار تمثل – في الحقيقة-الجانب
اللاّواعي من حياته الخفيّة،"وهي التي تقودنا إلى الصور الأسطورية
والحالات المأساوية والباطنية التي انطلق منها الأثر الأدبي"(15).
3-
دراسة النص الأدبي دراسة نقدية نفسية، لا تقتصر على تحليل الأثر تحليلا
شكليا ولغويا، ولا تقتصر على تحليله تحليلا نفسيا، وإنما بتأسيس وحدة بين
التحليلين.وذلك بالبحث في الصلة بين جوانب النفس اللاشعورية للشخصية
المبدعة – من جهة-،والشبكة الدلالية في العمل الإبداعي من جهة أخرى.
وكخاتمة
لهذا المدخل النظري نقول أن موضوع "الصراع وآلياته النفسية"في الأعمال
الأدبية، من المواضيع الأساسية في النظرية السيكولوجية، وان اتجاه النقد
النفسي وما حققه على المستويين التنظيري والتطبيقي ووضعه التحليل النفسي
في خدمة النصوص الأدبية، هو المنهج الأنسب لهذه المداخلة في قسمها
التطبيقي. ومن أجل تحقيق ذلك اخترنا الخطّة الإجرائية التالية:
1- تجليات الصراع وعناصره في قصيدة"الذبيح الصاعد".
2- الآليات النفسية للصراع ودلالاتها في القصيدة.
3- خاتمة.
1- تجليّات الصراع وعناصره في قصيدة "الذبيح الصاعد":
لن
نجانب الصواب إن قلنا أن ديوان"اللهب المقدس" برمّته،ينبني على فكرة
الصراع، ويتخذها كأيديولوجيا.إذ من خلال العنوان الرئيس والعناوين الفرعية
أيضا يمكن أن نقرأ ذلك. وبواسطة فن القراءة دائما ندرك إن المطابقات و
المقابلات و الحضور الكثيف للثنائيات الضدّية و غيرها فيه، لم يأت صياغة
فحسب، و إنما هي تغذية راجعة لثقافة مرحلة تاريخية بأكملها؛ مورس فيها
الصراع على المجتمع الجزائري، فانعكس على تعابيره المختلفة ومنها ديوان
"اللهب المقدس" الذي غدا "الصراع" فيه بمثابة الدم في جسم الإنسان.
و
لم تخرج قصيدة "الذبيح الصاعد" –التي تتصدّر الديوان- عن الحلبة الصراعية
التي وضع "مفدي" نفسه و فنّه في أتونها، بل جاءت لتأخذ مكان الصدارة فيه
أيضا ، و لهذا السبب وقع اختيارنا عليها بالذات، لما رأينا في حقلها
النفسي من صلاحية لتقديم دراسة نقد نفسية، و لما تحمله من تعابير ظاهرة
ومعاني خفية تعبر عن مكونات الشاعر و المتلقي النفسية، وما تحتويه من علاقات عاطفية موجبة و سالبة شديدة الثراء و ما تتناوله من تيمات سيكولوجية تنمّ عن ثقافة عالية تعبر بدورها عن موقف واضح المعالم من الوجود.
أ- تاريخ النص / تاريخ الصراع :
إذا
كان المقام لا يتسع للحديث عن العلاقة بين التاريخ و الأدب و لا عن علاقة
الصراع الإنساني بالفن تاريخيا، فإنه لن يضيق في وجه البحث عن العلاقة بين
النص – مناط الدرس- و اللحظة التاريخية التي وُلد من رحمها.و كذا علاقته باللحظة الخافية للصراع، و التي تضرب بجذورها في عمق "المطموس".
و
إذا كانت عملية القبض على اللحظة التاريخية التي ولّدتْ النص أمرا يسيرا
لأنها بادية فيه، فإن القبض على اللحظة الخافية يستوجب الغوص في المكونات
النفسية للشاعر و في لا شعوره الجمعي بالخصوص .لأننا نعتقد أن الشاعر في
مواجهته للحظة التاريخية المأساوية التي ولّدت الإبداع لديه استخار موروث
شعبه و أمّته – ليس هذا فحسب - و استخار موروث الإنسانية جمعاء أيضا، بطرق
واعية حينا و بطرق لاواعية أحيانا أخرى لتحقيق جملة من الأهداف، سنعمل على
كشفها في حينه .
يتشكّل
النص بالاعتماد على الخيط الشعوري السائد فيه من لحظتين سيكولوجيتين تتوزع
اللحظة السيكولوجية الأولى في القصيدة من البيت الأول إلى البيت الواحد و
العشرين، و يصف فيها الشاعر "المثير" الذي أفاض كأس الإبداع لديه، و
المتمثل في تلك اللحظة التاريخية الهامّة و المأساوية من تاريخ الثورة
الجزائرية، و التي سيق فيها الشهيد "أحمد زبانا" من قبل الهمجية
الاستعمارية ليدشّن مقصلة سجن بربروس بقطع رأسه. و ذلك في ليلة الثامن عشر
من جويلية سنة 1955.
و
لأن الحادثة كانت عظيمة في مأساويتها، فقد انعكس ذلك على لغة الخطاب
الشعري في هذا القسم من النص، فجاءت حلميّة مُثخنة بسطوة اللاوعي من فرط
الصدمة. و سنوضح ذلك في أثناء حديثنا المقبل عن الآليات النفسية للصراع في
النص.
أمّا
اللحظة السيكولوجية الثانية، فتتوزع على باقي أبيات القصيدة، و يتكفل
الشاعر خلالها بالرد و الإجابة على تلك الحادثة المأساوية و السياق الذي
أوجدها، الظاهر منه و الخفي.و قد تميزت لغة هذا القسم
بسيطرة لغة الشعور مع حضور فجائي لبعض الخطابات اللاشعورية، و التي
سنستثمرها في حديثنا عن الصراع الخفي في النص و علاقته بالمكونات النفسية
للشاعر و لاشعوره الجمعي.
و
النص بالنظر إلى خيطه الشعوري و أجوائه النفسية و التاريخ الذي أوجده، و
علاقة ذلك التاريخ بسيكولوجية الشاعر، هوعبارة عن "مثير" و "استجابة" بحسب
التعبير "الجشطالتي". و فيما يلي سنقوم بتحديد أطراف الصراع و أسبابه
الظاهرة و الباطنية، لنمرّ بعد ذلك إلى آلياته النفسية.
أ- أطراف الصراع و عناصره في النص:
جاء
في النص التقديمي للقصيدة أن هذه الأخيرة "نُظمت بسجن بربروس في القـاعة
التاسعة في الهزيع الثاني من الليل أثناء تنفيذ حكم الإعدام على أول شهيد
دشّن المقصلة المرحوم "أحمد زبانا" و ذلك ليلة 18 جويلية 1955 " (16)ونفهم
من ذلك أن النص ولد في مكان غير عادي و في زمن غير عادي وفي سياق غير عادي
أيضا, وقد تضافرت هذه الفضاءات غير العادية مجتمعة لتشكل الفعل الضاغط على
نفسية الشاعر الذي لجأ بدوره إلى الشعر باعتباره تعبيرا غير عادي ليفسح من
خلاله عن محصلة الصراع لديه.
و تفيد القراءة الفنية للصراع في النص بأنه يتجلّى عبر مستويين أحدهما ظاهري و
الأخر باطني،ولكلّ مستوى من هده المستويات أطرافه وأسبابه، وتيماته،
وعلاقاته العاطفية أيضا. وتحديد مكونات المستوى الأول أمر يسير، أما
المستوى الثاني فإن تحديد مكوناته ليست كذلك،بل يحتاج منا أن نجتاز حدود
القراءة درجة درجة بحثا عن"النفسية" المنشأة للأفكار و الصور.
يقوم
الصراع الظاهري في النص بين طرفين، جَمَع كلُ طرف لزاويته مجموعة من
العناصر لتقوية جانبه، نظرا لما لتلك العناصر من علاقات عاطفية بينها.
ويشكّل (الشاعر+ الشهيد+ المجتمع الجزائري الثائر)، عناصر الطرف الظاهري
الأول في عملية الصراع في النص. أما العلاقة الجامعة بين عناصر هذا الطرف
فهي التضحية في سبيل الوطن لنيل الاستقلال. نفهم ذلك من مقول القول
التالية الواردة في النص:
:"نحن ثرنا فلات حين رجوع * أو ننال استقلالنا المنشودا"(17)
ويشكّل
المستعمر وجنوده في الجزائر وأتباعه من الجزائريين الذين استمالتهم
مغرياته، العناصر الأساسية للطرف الظاهري الثاني. أما العلاقة الجامعة بين
العناصر المكونة لهذا الطرف، فهي استعباد الشعب الجزائري السيدّ في أرضه
ونهب خيراته. ويعّبر الشاعر عن ذلك بقوله:
دولة الظلــم للزوال إذا ما * أصبح الحرّ للطغام مسـودا
يا ضلال المستضعفين إذا هم * ألفوا الذلّ واستطابوا القعـودا18))
أما
باطنيا فإن الصراع أعمق من هذا، إذ يتجاوز حادثة إعدام الشهيد"أحمد زبانا"
واغتصاب الأرض الجزائرية من قبل الاستعمار الفرنسي، ليصل إلى الثورة التي
شكلها الدين الإسلامي الحنيف والتي هزت أركان العالم القديم، ويعرّج
ليستحضر الحروب الصليبية الآثمة والحاقدة التي اكتوى بنارها العالم
الإسلامي.
ومن
هذا المنظور لم يعد الصراع صراعا من أجل استرداد الأرض المغتصبة وإنما
استرداد الوظيفة الحضارية المستلبة، والاتزان النفسي الغائب بفعل دلك
الاستلاب.
والاستلاب
عنصر أساسي من العناصر التي تدخل في صميم الوظيفة الاستعمارية أين يشكّل
التحريف والحقد أبرز أعمدته. نجد ذلك في قول الشاعر:
سوف لا يعدم الهلال صلاح الد * ين فاستصرخي الصليب الحقودا(19)
فهذا الخطاب الشعري الذي تمكّن من الإفلات من السياق الواعي الذي سبقه وتلاه،
يختزن بداخله مجموعة من الرموز(الهلال،صلاح الدين)،وهي بذاتها تعدّ من
مقومات المجتمع الجزائري التي عمل الاستعمار -خلال حملته الشرسة ضد
المجتمع الجزائري- على طمسها وتغييبها.. ويكفي أن نستمع"للكاردينال لا
فيجري" حين يصرّح قائلا:"علينا أن نخلّص هذا الشعب. ونحرّره من قرآنه،
وعلينا أن نعتني على الأقل بالأطفال لتنشئتهم على مبادئ ما شبّ عليها
أجدادهم، فإن واجب فرنسا تعليمهم الإنجيل، أو طردهم إلى أقاصي الصحراء بعيدين عن العالم المتحضر"(20).
فالصراع
الخافي-مثلما عبّر عنه النص- يضرب بجذوره في عمق التاريخ؛ هذا التاريخ
المخزون في الضمير الجمعي للشاعر، فسح له المجال ليتٌمّ توظيفه عبر
رمز"الهلال" الرامز إلى الأمة الإسلامية، ورمز"الصليب الحاقد"، الرامز إلى
المسيحية المنحرفة الحاقدة على الإسلام. ويأتي اسم "صلاح الدين" ليرمز إلى
مآل ذلك الصراع وخاتمته، من باب أن التاريخ يعيد نفسه.
ب-أسباب الصراع في النص:
تنقسم
أسباب الصراع في النص بانقسام أطرافه إلى أسباب ظاهرة وأخرى خفيّة، ويبوح
النص بالكثير عن الأسباب الظاهرة، بينما يكتفي بالتلميح للأسباب الخفية،
تاركا للمتلقي المشاركة في الكشف عنها، من منطلق أن القراءة نقطة التقاء
بين سيكولوجيتين بالأساس.
تكشف
الأساليب الاستفهامية المتعجّبة والمتعاقبة بشكل لافت للانتباه، الحالة
النفسية الثائرة والغاضبة لصاحب النص، وتكشف أيضا عن الأسباب الظاهرة
للصراع القائم بين أطرافه الظاهرين.وهي أسباب قائمة على واقع موضوعي أساسه
الاغتصاب؛ أي بين مستعمر غصب الحقوق، وأصحاب حقوق يريدون استردادها. نجد
ذلك في قول الشاعر:
ليس في الأرض سـادة و عبيد * وكيف نرضى بأن نعيش عبيدا؟!
أمن العدل صاحب الدار يشـقى * و دخيل بها يعيش سعيـــدا؟!
أمن العدل صاحب الدار يعرى * و غريب يحتل قصرا مشيـدا؟!
ويجوع ابنها فــيعدم قوتــا * و ينال الدخيل عيشا رغيـدا؟!
ويبـيح المسـتعمرون حماهـا * ويظل ابنها طريدا شريــدا؟؟(21)
أما
الأسباب الخفيّة للصراع فأنها لا تكاد تبدو حتى تختفي، ولا تكاد تختفي حتى
تبدو بأشكال مختلفة، وكأنّ ما تحمله من قدْرات على الظهور أقوى من قدرة
الشاعر على إخفائها، فبين الحين والآخر تعلن عن شدّة قوتها وسطوتها على
"أنا" الشاعر وضغطها على ساحة شعوره ولو من بعيد،كاشفة بذلك عن مكونات
نفسيته وعناصر هويته، ومبتغاه من الصراع أيضا.
إن
الصراع لدى"مفدي" في المرحلة التاريخية التي يمثّلها، ليست بين غاصب
للحقوق زجّ به في أعماق سجن "بربروس"، وذبح رفيقه ، ونهب خيرات شعبه
السيّد في أرضه فحسب؛وإنّما هو صراع متصل الحلقات بين الصليب المسيحي
المحرّف والحاقد، والتعاليم الإسلامية
تجليـّات الصـراع و آلياتـه النفسيـة
في قصيدة "الذبيـح الصاعـد"
لـ "مُفـدي زكرياء"
"دراسةنقدنفسية"
إعداد: مولـدي بشينية
أستاذ مكلّف بالدروس
معهـد اللغـة العربيـة وآدابـها
المركز الجامعي بالطارف
mouluniver@hotmail.com:e-mail
ملخّص:
تنطلق
دراستنا لنصّ "الذبيح الصاعد" لـ" مفدي زكرياء " من قناعة لا يختلف فيها
اثنان وهي أنه نصّ صراعي بامتياز. والقناعة ذاتها ولّدت لدينا تساؤلات لها
علاقة ببشاعة اللحظة السيكولوجية الرهيبة التي دفعت الشاعر للكتابة. إذ:
ماهو موضوع النص ؛هل هو وصف مشهد دموي أم اختبار قدْرات الذات على التحمّل؟ هل أراد "مفدي" كتابة الصراع أم كتابة الألم؟ وماهو الحد
الفاصل بين الكتابة عن الصراع والكتابة عن الألم؟ ماهي الآليات النفسية
التي لجأ إليها"مفدي" لإخفاء ألمه والتصدّي للصراع الذي رأى أنه وُجد له؟ وهل
يمكن كتابة الألم إبداعا، فضلا عن البحث عنه في النصوص الإبداعية؟هل توجد
خلفية نظرية وآليات إجرائية يمكن الارتكاز عليهما في هذا المجال؟ ذلك ما سنعمل عل الإجابة عنه في هذا المقال.
Résumé :
Manifestations des conflits et les mécanismes psychologiques
dans le poème "sacrifier montant" pour : moufdi Zakaria.
Notre
étude sur « le sacrifier montant » du poète « Moufdi ZAKARIA », se
basse sur une conviction que le texte est très conflictuel. Et la
conviction en elle-même pose plusieurs questions liée aux horreurs du
terrible moment psychologiques qu’a poussé « MOUFDI »à écrire comme :
- Quel est le thème du texte ?
- Est-ce que « Moufdi » a voler écrire sur le conflit ou examinant ses capacité à cacher la douleur ?
- Quelle frontière y-a-t-il entre la douleur et l’écriture ?
- Quels sont les mécanismes psychologiques utilisés par le poète pour dissimuler les maux et confrontes le fait conflictuel ?
مقدّمة:
تقتضي
دراسة نصّ أدبيّ ما وفق تصوّرات النقد النفسي و أطروحاته ، أنْ يكون
الدارس بالإضافة إلى مؤهلاته النقدية مؤهّلا "علمنفسيّا" لتقديم تلك
الدراسة. و من بين المؤهلات التي يجب الإلمام بها، أن يكون مطّلعا على
منشأ وأسس ومنطلقات النظرية السيكولوجية و مختلف التطوّرات و التنقيحات
التي مرّت بها خلال مقاربتها للظاهرة الأدبيّة. و يتوقّف أيضا عند الهنّات
المسجّلة عليها من قبل الباحثين ليستطيع بعد ذلك أن يتّخذ لدراسته المسار الذي ترتضيه.
و الحديث عن "الصراع و آلياته النفسيّة" في نصّ أدبي ما، يقتضي أوّلاّ معرفة كشوفات علم النفس فيما يخصّ فكرة "الصراع" عموما ،و عند الأدباء
بشكل خاص و كيفيات تجلّيها في النصوص الأدبيّة كذلك. ثمّ تحديداته لفكرة
"الآليات النفسية" و صور تمظهرها في تلك النصوص؛ أيّ أن حيازة الدارس
معرفة "علمنفسية" أمرّ لا مناص منه للحديث عن الصراع و آلياته النفسيّة في
نصّ أدبيّ ما، حتى يتمكّن من القبض على اللحظة السيكولوجية، التي نرى
أنّها فعّالة في فهم النصّ و في إعادة إنتاجه ما إن تمّ القبض عليها.
و
الحديث عن الموضوع ذاته في قصيدة "الذبيح الصاعد" لـ "مفدي زكريا"، لا
يعني مطلقا الوقوف عند كشوفات علم النفس و إغفال مجموعة من العلوم و
المعارف و القضايا الأخرى ذات الصلة؛ كعلم الاجتماع و
نظريات الأدب و التاريخ و غيرها…كما لا يعني مطلقا إغفال معرفة تاريخ
النصّ – مناط الدرس- و تعاقب الأحداث التي أدّت إلى وجوده، ثم تأثير كلّ
ذلك على سيكولوجيّته؛إن عدم إغفال كل ذلك يساهم بقسط كبير في إنارة بعض
العتمة التي قد تعترض القراءة النقد نفسية .
وانطلاقا
من هذه المبادئ، سنقسم هذه المداخلة إلى قسمين: قسم أوّل نتعرّض فيه إلى
التعريف بالنظرية السيكولوجية مع التطرّق إلى أبرز التطورات التي لحقت بها
في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، والتركيز على أهم مقولاتها بخصوص فكرة
"الصراع و آلياته النفسيّة" لدى الأدباء على وجه الخصوص.
و
قسم ثان نتعرّض فيه لتجليّات الصراع و آلياته النفسيّة في قصيدة "الذبيح
الصاعد" لـ "مفدي زكرياء". و ذلك من خلال الوقوف عند تيمات الصراع
السطحيّة و العميقة في القصيدة، وأسبابه(الصراع) الظاهرة و الخفيّة، و
آلياته النفسية و دلالاته و أبعاده أيضا، بهدف القبض على القيمة الجمالية و المعرفية التي يمكن أن يخلقهما تضافر الحقل النفسي مع بقية الحقول في النص.
1- النظرية السيكولوجية و الظاهرة الأدبية:
ينصبُّ
اهتمام النظرية السيكولوجية في تفاعلها مع الظاهرة الأدبية تحليلا و نقدا
"على الدلالات الباطنية في العمل الأدبي و الفني الذي قد يتأثّر بالعقل
الباطن عند الفنان أكثر من تأثره بعّقله الواعي"(1)( 1).
و تفيد النظرة الشموليّة لإنجازاتها إنّه يمكن حصرها في ثلاثة اتجاهات رئيسية ذلك
بالنظر إلى الكيفية التي تعامل بها كلّ اتجاه مع الظاهرة نفسها؛ فهناك
الاتجاه التحليلي الذي رأى أن التركيز على شخصية الأديب قمين بتفسير جوانب
كثيرة في العمل الأدبي. و هناك الاتجاه شبه التحليلي؛ الذي رأى أن
المزاوجة بين الابستومولوجيا و التحليل النفسي قادر على الإجابة عن
التساؤلات التي يثيرها ذلك العمل. و هناك الاتجاه الثالث الذي رأى بأن
دراسة العمل الأدبي دراسة نفسية تتمّ من خلال الربط بين التحليل النفسي و
النقد الأدبي، فأنجز ما يسمى بالنقد النفسي للأدب.
فما هي أبرز إسهامات كل اتجاه في تعامله مع الظاهرة الأدبية، و ما هي تحاليلهم لفكرة "الصراع و آلياته النفسية " ؟
أ- الاتجاه التحليلي النفسي للأدب :
يتّفق الجميع على عدّ "س. فرويد"(S.Freud) ،من العلماء الأوائل الذين دعوا إلى "ارتباط العالم النفسي بعالم الأدب الفني"(2)
،ليس هذا فحسب، بل إلى تحليل العديد من النصوص الأدبية و غيرها تحليلا
نفسيا، إلى درجة أنه "لم يعد في وسع أحد أن يتجاهل كشوف هذا الرائد العظيم
في مجال المعنى"(3).
و بالعودة إلى الوراء قليلا نجد أن النداء الذي أطلقه "سانت بيف" (Sainte Beuve) ،مطالبا بإنشاء "سيكولوجيا للكتّاب" يكون عملها الالتفات و الولوج إلى
الوجدان الإنساني المبدع، قد شجّع النفسانيين للخروج عن حدود مهنتهم و
الالتفات إلى الآثار الفنية و الأدبية، و أخذوا يعون بنسبة كبيرة علاقة
الإبداع الأدبي بالسيكولوجيا، "فإذا كان الأثر الأدبي يجد تجانسه في روح
عاطفي يسري في بنياته ،فالسيكولوجيا – هي قبل كل شيء-فهم للعاطفي"( 4).
و ينبني التحليل النفسي للظاهرة الأدبية عند "فرويد"، على اعتبار "المعنى بنية رمزية حافلة بأبعاد، و لها دقّة خاصة رغم تعميتها و تحريفها"( 5) .
و بالتالي يصبح من المهّم على المحلّل نفسه أن يضع في حسابه إن كل شيء
يمكن أن يكون رمزا. و فكّ شفرات تلك الرموز لا يكون إلا بالرجوع إلى حياة
الأديب و النبش في مكونات شخصيته للوصول إلى تركيبة دوافع الصراع لديه
الكامنة في عالم "اللاّشعور" .
و
يرجع "فرويد" كل الغرائز الإنسانية إلى "غريزة الجنس و الرغبة(…) و إلى
غريزة الموت. ويقصد بغريزة الموت، أن في كل إنسان، دوافع تضادّ، تهدف إلى
الفناء و الموت، و من جرائها يسعى الإنسان إلى الهروب بمحاولة إعادة الحياة"( 6). و بالتالي تغدو كل صورة من صوّر الخلق الفني لها جذورها العميقة في عالم "اللاّشعور" .
و فيما يخصّ فكرة "الصراع و آلياته النفسية" يذهب "فرويد" إلى اعتبار أن الشخصية تتكوّن من ثلاث قوى: الأنا، الأنا الأعلى، و الهو. و هي في صراع دائم و تتجلّى محصلته في تمظهرات سلوك الشخص في أي موقف. "و لهذا الصراع وسائل معينة يصل بها إلى تكوين المحصلة، يُطلق عيها "فرويد" اسم الآليات منها : القمع "Suppression " و الكبت " répression" و التسامي "sublimation" و التبرير، و القلب" conversion " و التقهقر… ( 7)".
و يرى "فرويد" أنه
في الحين الذي ينحلّ فيه الصراع إلى صورة مقبولة شخصيا بواسطة آلية
"القلب" باعتباره منفذا للطاقة المحتبسة، "فإن التسامي يؤدي إلى إظهار
عبقرية و امتياز في الفن أو في العلم"( 8).
وإذا كان" فرويد" يركّز في تحاليله بصورة عامة على "اللاّشعور الشخصي" و على "الصراع" باعتباره محصّلة شخصية، فإن "ك. يونج".( k.Yong)
يتجاوز ذلك إلى "اللاّشعور الجمعي"؛ و يرى "أن علّة الإبداع الفني الممتاز
هو تقلقل اللاّشعور الجمعي في فترات الأزمات الاجتماعية، ممّا يقلّل من
اتزان الحياة النفسية لدى الفنان و يدفعه إلى محاولة الوصول إلى اتزان
جديد" 9)). معتمدا في ذلك على مجموعة من الآليات الموصلة كآلية الإسقاط "projection" و آلية الحدس «intuition»؛ التي هي "القدرة على سبر أغوار المجهول دون الاعتماد على مشاهدات أو مقدمات أو خطوات عقلية سابقة(10).
و
قد كان لدعوة "فرويد" و "يونج" للاهتمام باللاّشعور، الأثر العميق في
تطوير الدراسات النفسية للظاهرة الأدبية، و في ذلك يقول أحد الدارسين :
"إن الدعوة إلى اللاّشعور قد أتاحت لنا تصفية إحساسنا بالشعر و تعميق ذلك
الإحساس و الشعور"(11).
ب- الاتجاه شبه التحليلي النفسي للأدب (*):
بعد
انحسار موجة المحللين النفسيين في دراسة الأعمال الأدبية نظرا للانتقادات
التي وجهت لإنجازاتهم، من مثل افتقارها للحسّ النقدي و الجمالي نظرا لعدم
قدرتها على إدراك استقلالية الظاهرة الأدبية، و خلوّ طرائق الدراسة فيها
من الآليات النقدية و العدّة الإجرائية الكفيلة بحفظ خصوصية الأدب و عدم
تحويله إلى عميل من عملاء المصحّات النفسية. ظهر اتجاه جديد عمل على
الاستفادة من كشوف التحليل النفسي، دون الوقوع في مطبّات التوجّه الطبّي
السريري للأعمال الأدبية و أصحابها. و وضع لنفسه – بالإضافة إلى ذلك-
خلفية تنظيريّة و أساليب تحليلية أيضا .
و يعدّ " غاستون باشلار" ( Gaston.Bachelard )
، رائدا لهذا الاتجاه، إذ أهّلته حصيلته المعرفية و العلمية الثرّة إلى
المزج بين فلسفة العلوم و التحليل النفسي، فأنجز ما يربو على الثلاثين
كتابا في مختلف حقول المعرفة الإنسانية مثل:" التجانس المتعدد في الكيمياء
الحديثة"، و" الروح العلمية الحديثة"، و" حدس اللحظة"، و" جماليات المكان" و "شعرية أحلام اليقظة"، و" حق الحلم"، و" التحليل النفسي للنار"، و" الماء و الأحلام" و
"لهب الشمعة"… و تعدّ أفكاره و تصوراته حول" أحلام اليقظة" من أكثر أفكاره
وتصوراته شيوعا و استلهاما من قبل المبدعين و النقّاد على حدّ سواء، إذ
استطاع أن يجد محددات نفسية لها تقوم على الجمع بين الإدراك والإبداع .
و لأن علاقته بالنقد لم تكن أصيلة – فهو ابستمولوجي بالأساس- "فإن آراءه و
تحليلاته النقدية كانت ذات طابع علمي مرتبط بتوظيف الأنساق الفكرية و فهم
معطياتها المادية، ممّا جعل خطابه النقدي يميل نحو الخطاب الفلسفي ويستعير
منه أكثر الأدوات و المفاهيم"(12).
ج- النقد النفسي:
تعاقبت الجهود الرامية إلى ردم الهوّة بين الجانب الجمالي في الفن و الأدب و
الجانب العلمي للتحليل النفسي على يدّ مجموعة كبيرة من الدارسين، الذين
عملوا على توظيف القسط الضروري فقط من التحليل النفسي، بحيث يضمنوا للأدب
استقلاليته، إلى حين ظهور "شارل مورون" Charles.Mauron) ، الذي ظهر معه "النقد النفسي".
تحقّّق اللقاء بين النقد الأدبي و التحليل النفسي على يد "شارل مورون"، "الذي لايتردّد في تسمية مذهبه بالنقد النفسي" Psychocritique"(13). فقد تكونت لهذا الناقد ثقافة علمية و أدبية في وقت معا، و قد كانت لدراساته عن "اللاشعور" في آثار "راسين" و "الاستعارات الملحّة و الأسطورة الشخصية" مساهمات قيّمة في مجال النقد الأدبي و التحليل النفسي.
انطلق
"مورون" في نقده النفسي من استبعاد أن يكون التحليل النفسي للأدب و الفن
مجرد تحليل "إكلينيكي"، تتحكّم فيه و تضبطه قواعد التشخيص الطبّي، عل
الرغم من أهميتها في تناول شخصية الأديب. و ركّز في دراسته لشخصية "راسين" و مسرحياته على "اللاشعور، و مركب أوديب. و مبدأ اللذة، و الصادية و