> المنهج التداولي النشأة و التطور المنهج التداولي النشأة و التطور
بقلم: أ.عبد الحكيم سحالة *
المحرر | دراسات وأبحاث | 2010.08.29 1tweetretweet
الملخص :
لقد اهتم الفلاسفة منذ القديم بقضية الدلالة، فالمنطق عندهم يهدف إلى الإقناع و إلى تقديم
الحجج و البراهين التي تثبت الأشياء و تربطها ببعض، فهذه الأدلة تسمح بربط الكلمة
ومدلولها، من هذا المنطلق تهدف المداخلة إلى تقديم تعريف للتداولية، ونشأتها، وتطورها، وصلتها بالسميائيات، عند شارل ساندرس بيرس ، الذي يركز على العلامة ،ومدلولاتها في العالم ، وداخل النص ، وعبر الخطاب، ثم عند شارل موريس ،الذي أضاف عنصر التفاعل إلى المنهج البيرسي، فالعلامة مرتبطة بمؤوليهالتحقق تواصلها النصي والخطابي ، ثم من خلال مساهمات فيجتنشتاين ، حيث جعلالاستعمال هو الذي يبث الحياة والحركة في اللغة، و التواصل هدفا.
لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة النضج والاكتمال للمنهج التداولي، من خلال العالم أوستين الذي قدم نظرية إجرائية للتداولية، ولتحليلالخطابات ، تسمى بنظرية أفعال الكلام ، وأكد على أن كل ملفوظ يحمل ، ويخفيبعدا كلاميا ،وترتكز نظريته على تقديم مجموعة من الأفعال ، (أفعال الأحكام، أفعال القرارات، أفعال التعهد، أفعال السلوك ،أفعال الإيضاح) ، ليختمهاالعالم سيرل بتقديم منهج إجرائي مكتمل بوضع عناصر تحليل الخطاب ، والنص ،بتطوير نظرية أفعال الكلام لأوستين ، وارتكزت على : الاشاريات ، والافتراض السابق ، و استلزام الحوار ، والأفعال الكلامية ، المتكونة من الاخباريات ، و التوجيهيات ، و الالتزاميات ، و التعبيريات ، والاعلانيات ).
المنهج التداولي النشأة و التطور
نشـأة التداوليـة و تطـورهـا :
لقد اهتم الفلاسفة منذ القديم بقضية الدلالة فالمنطق عندهم يهدف إلى الإقناع و إلى تقديم
الحجج و البراهين التي تثبت الأشياء و تربطها بعضها ببعض ،فهذه الأدلة تسمح بربط الكلمة
و مدلولها ،فمثلا يمكننا أن “سنستشف في نظرية العبارة التي دعا إليها لايبنتز المبادئ الأساسية
لتصور الدليل .فالعبارة حسب هذا الفيلسوف تمكننا من التحدث عن الأشياء فيما بينها باعتبار
حيثيات الكم و النوع و الشدة”(1) .
فالإنسان حسبهم مضطر إلى استخدام نظام من العلامات و الأدلة لتمثيل الواقع و الأشياء التي
تحيط به، و ذلك نظرا لتعقيد العالم فهو محتاج إلى اللغة و إلى استعمالها ليعبر عن حاجاته
فاللغات هي أحسن مرآة للفكر البشري(2)، الذي تطور في أوروبا فتداخلت حقوله المعرفية
1-الإرهاصات:
أ- عند شارل ساندرس بيرس:
يعتبر الفيلسوف و السيميائي تشارلز سندرس بيرس من الأوائل الذين أحدثوا تطورا في المجال
اللساني و الفلسفي .حيث “ارتبطت عنده التداولية بالمنطق ثم بالسيموطيقا” “(3) وارتبطت كذلك
بميدان المعرفة و المنهج العلمي، فقد ظهرت ملامح التداولية الأولى مع ظهور مقالة “كيف نجعل
أفكارنا واضحة “عام 1878و قد تساءل بيرس متى يكون للفكرة معنى ،و درس الدليل و علل
إدراكه بواسطة التفاعل الذي يحدث بين الذوات و النشاط السيميائي و قد حاول تطوير التجرب
الإنسانية من خلال الأدلة ،و ربطها بالواقع الاجتماعي “إن الواقع المدلول عليه يفترض تجربة
إنسانية مبنية لا على ما هو فردي بل على ما هو اجتماعي (4) و قد اختلف مفهوم بيرس للتداولية
بتطور مراحل فكره، إذ انطلق أولا بالتساؤل و البحث عن كيفية جعل أفكارنا أكثر وضوحا
و انتهى إلى أن تصورنا لموضوع ما يقاس بالنتائج العلمية المترتبة عند بيرس من حيث أنها
منهج متصل بالمنهج العلمي و لقد اهتم بيرس بالإشارة اهتمامابالغا، و بحث عن الطرق التي بواسطتها يتم الاتصال بين أفراد، وجعلهانظرية،ليعتبر من خلال ذلك التداولية فرعا من السميائيات، و ذلك فيما كتبه
وعبر عنه في تلخيصه لإطارها العام و ذلك، أن اللسانيات المتداولة تفترض كلا من الدراسةالتركيبية و الدلالية (5).
فالتداولية بهذا المنظور هي نقل للواقع و وسيلة من وسائلالمعرفة و الاتصال. و منه لجميع ميادين المعرفة، و لذلك رأى بيرس أنبالتحديد التداولي تتحدد العلامة اللسانية بحكم استعمالها في تنسيق مععلامات أخرى من طرف أفراد جماعة معينة (6)، فللعلامة اللسانيةعلاقة بظروف استعمالها و محيطها و من خلاله تحمل معناها.
ب- عند تشالز موريس:
من مؤسسي و منظري التداولية الباحث تشارلز موريس ، الذياعتبر التداولية جزءا من السيمائية عند تمييزه لثلاثة فروع لهذه الأخيرة ،و هي علم التراكيب ، و علم الدلالةو التداولية (7) و لقد نبهموريس إلى علاقة العلامة بمستعملها و طريقة توظيفها و أثرها في المتلقين،و نبه إلى علاقة الرموز بمؤوليها ،و كل هذه الفروع مرتبطة بعضها ارتباطاوثيقا فالتداولية تدرس كيفية تفسير المتلقي للعلامة، و هذا التفسير لا يتمبمعزل عن كل البنى
التركيبية و النحوية للغة المستخدمة، لأن النظام اللغوييتركز على الأشياء و العلامات كذلك بمراجع تخيل إليها في العالم الخارجي،و فهمها يستوجب الإحالة إلى مراجعها و هذا مبحث دلالي و التداولية تعتمدعلى علمي التركيب و الدلالة في محاولتها للكشف عن مقاصد المتكلم و لقد نظرموريس إلى الأدلة و بحث كيفيات تأثيرها على المرسل إليه .فقد نظر إليهانظرة سلوكية .و قال بأنها هي الطاغية على الموقف و هي التي تهيئ المخاطبإلى اتخاذ رد فعل معين فكل قول في وضع معين يؤدي إلى نفس الإجابة ،أو ردالفعل في كل مرة يستوجب دليل ما اتخاذ موقف لدى المتلقي سواء كان هذاالموقف ايجابيا، أم سلبيا إزاء حدث ما أم شيئا ما أم مقاما ما .
و مما سبق نستنتج أن موريس لا يبتعد كثيرا عن تصور بيرس إلامن حيث البعد السلوكي، لقد كان مفهوم موريس محفزا و سببا للنهوض بمجموعةمن الدراسات تضمنت دراسة بظواهر النفسيالإجتماعية الموجودة داخل أنظمةالعلامات بشكل عام، و داخل اللغة بشكل خاص و دراسة التصورات التجريديةالتي تشير إلى الفاعلين، و دراسة المفردات التأشيريةو الإشاريات.
ج- عند فينجنشتاين:
إن فكر فينجنشتاين متأثر بالفلسفة و المنطق وقد حاول الإسهام في حقل اللغة ،و إيجاد لغة مثالية
تتطابق و الفكر الفلسفي ،لكنه سرعان ما عدل عن ذلك و اتجه إلى دراسة اللغة العادية”(،
و تعتمد هذه الفلسفة على ثلاثة مفاهيم أساسية هي:الدلالة، القاعدة ألعاب اللغة (9).
أ. الدلالة: وقد فرق بين الجملة والقول وجعل الجملة أقل اتساعا من القول.
ب. القاعدة: وهي مجموعة المثل الصالحة لعدد كبير من الأحوال والمتكلمين والتي تسمح بتنويع
النشاط اللغوي وهي القاعدة النحوية الصحيحة في الترتيب والاستعمال.
ج. الألعاب اللغوية: إنه مفهوم لا ينفصل عن مفهومي القاعدة والدلالة، وهي في نظره شكلا من
أشكال الحياة، فقد تنوع النشاط اللغوي وتعددت الطرائق في استخدام الجملة الواحدة كالشكر
والتحية فحسب فينجنشتاين اللغة ليست حسابا منطقيا، بل كل لفظة لها معنى معين، ولكل جملة
معنى في سياق محدد، فالكلمة والجملة تكسب معناها من خلال استخداماتها، “فالمعنى عنده هو
الاستعممال (Meaning is use)”(10)، لقد ساهم هذا الفيلسوف مساهمة فعالة في مجال
التداولية، حيث جعل الاستعمال هو الذي يبث الحياة والحركة في اللغة، وجعل التواصل هدفا.
و بالرغم من الجهود الفلسفية في مجال للغة، و التداولية على وجه الخصوص، إلا أن البحث
فيها لم تتضح و إجراءاتها التحليلية لم ترق إلى العلمية و الموضوعية إلا بمجيء الفيلسوف جون أوستين.
2- مرحلة الاكتمال و النضج:
أ عند أوستين:
تأثرا بمن سبقه كالفيلسوف فنجنشتاين الذي اعتبراللغةإنماتستخدم لتصف العالم و ما هي إلا أداة رمزية تشير إلى الواقع، والوقائع الخارجية و قد تصدى أوستين لهذه الأفكار، و نقدها و أنكر أن تكونالوظيفة الأساسية للغة هي الأخبار” لقد أنكر أوستين أن تكون الوظيفةالوحيدة للعبارات الإخبارية هي وصف حال الوقائع وصفا إما يكون صادقا أوكاذبا و أطلق عليه “المغالطة
الوصفية” (11) ليميز بين نوعين من العبارات التي تكون أفعال منجزة فالأولى تخبر عن وقائع
العالم الخارجي و يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب والثانية تنجز بها أفعال فهي لا تحتمل صدقا أو كذبا. من خلال ما سبق يمكنالقول أن أوستين وضع نظرية الأفعال الكلامية ، و يمكن تلخيص فكره
في نقطتين اثنتين (12).
فنظرية أفعال الكلام تؤكد على أن كل ملفوظ يخفي بعدا كلامياأي الفعل الذي تشكله واقعة الكلام بالذات فنحن لما نستخدم أمرا مثلا، لانتحدث بجملة تتضمن أمرا فحسب، بل تصدر أمرا و هنا نقوم بفعل ،و قد ميزأوستين في نظريته بين نوعين من الأفعال اللغوية.
1.أفعال إخبارية : تتمثل في جملة الوقائعالخارجية التي يحكم عليها بمعيار الصدق و الكذب”و يلخص أوستين وجود جملةوصفية إثباتيه أو تقريرية يمكن أن تكون كاذبة أو صادقة “(13)فقولنامثلا أن الأرض تدور حول نفسها ،فهذا يمثل فعلا إخباريا يتأكد صدقه من خلالمطابقته للواقع ،أو كقولنا توفي ملك تونس فهو فعل إخباري كاذب لأنه مخالفلواقع تونس التي لا ملك لها بل لها رئيس .و قد أشار كذلك إلى وجود “جهلذوات نمط خاص لا يمكن أن يجري عليها
هذا المعيار “(14) ، لذلك وضع تسمية ثانية لهذه الأفعال و هي:
2. أفعال أدائية (إنشائية): و هي أفعال لا تصف الواقع و يحكم عليها بمعيار ثاني و هي النجاح
والتوفيق أوالإخفاق،ويسمي أوستين هذه الأقوال بالأفعال الإنشائية على عكس الزمرة
الأولى (15) .و قد نفى وصفها بالصدق أو الكذب، و أكد على أن هذه الأقوال قد تنجح أو قد تخفق، أو أنها
تستجيب لمقتضى الحال أولا (16) ،وصفة التوفيق لن تتحقق إلا بتحقق شروط معينة، و هي
نوعان: (17)
أ الشروط التكوينية : و هي ضرورية لتحقيق الفعل الأدائي و تتمثل في :
1. وجود إجراء عرفي مقبول، أو أثر عرفي مقبول كالزواج و الطلاق .
2. أن يتضمن الإجراء نطق كلمات محددة منطرف أناس معيين في ظروف معينة ،مثلا في الزواج يشترط التلفظ بكلمات من مثلقول زوجني ابنتك، والرد زوجتك ابنتي على ما كان بيننا من مهر.
3. أن يكون الناس مؤهلين لتنفيذ هذا الإجراء مثل الشروط الواجب توفرها في الزوجين كالبلوغ و العقل…….الخ
4. أن يكون التنفيذ صحيحا، ففي الطلاق مثلالا يقع إلا بنطق كلمة الطلاق ،و إلا لما كان الطلاق، لأنه لم يؤد أداءصحيحا، فيجب الابتعاد عن استعمال الكلمات الغامضة.
5. أن يكون التنفيذ كاملا، فعقد البيع لايتم إلا من خلال تأكيد كل من البائع و المشتري عل المسألة بذكرالاستعمالات اللغوية المناسبة، لذلك مثل قول البائع: بعتك كذا فيقولالمشتري قبلت،فإذا لم يقل الثاني قبلت كان الأداء ناقصا.
ب. الشروط القياسية: وهي ليست ضرورية مثل الشروط الملائمة لأن الفعل يتم و إن لم يتوفر القول، ولكن حضور هذه الشروط لازم للحكم على الفعل بالتوفيق أو عدمه و هذه الشروطتتلخص فيما يلي :
1. ضرورة كون المشارك في الإجراء صادقا في أفكاره و مشاعره و نواياه، فإذا قلت لشخصك
“أهنئك لهذه المناسبة السعيدة” و أنت في قرارة نفسك لا تشعر بذلك ،بل بنقيضه فقد أسأت أداءالفعل .
2. أن يلتزم القائل بما يقول فعلا :فإذا قلت لشخص أرحب بك ثم سلكت سلوكا غير مرحب فقد
أسأت أداء الفعل.و لما اتضح لأوستين أن كثيرا من ألفعالالإخبارية تقوم بوظيفة الأفعال الأدائية برغم ما بذله أوستين من جهد فيالتمييز بين الأفعال الأدائية و الإخبارية، فقد ظل يرجع النظر في هذاالتقسيم
حتى تتبين له في النهاية أن الحدود بين هذين النوعين من الأفعال لا تزال غير واضحة، فرجع
عودا إلى السؤال كيف ننجز أفعالا حين ننطق أقوالا؟(18)،فمثلا قولنا ” أنا عطشان ” فهي في الحقيقة فعل إخباري، لكنه يؤدي وظيفةالأفعال الأدائية لأنها تؤدي معنى الطلب، أي أحضر لي كوب ماء، و فيمحاولته للإجابة عن التساؤل المطروح رأى أن الفعل الكلامي مركب من ثلاثةأفعال تعد جوانب مختلفة في فعل كلامي واحد “يحتوي الفعل اللغوي على ثلاثةأفعال، تشكل كيانا واحدا، علما بأن هذه الأفعال الثلاثة يقع حدوثها في وقتو احد” (19)، فهي أفعال لا ينفصل جانب من جوانبها عن الآخر إلا في الدراسة و هي (20):
*المركز الجامعي ـ الطارف ـ الجزائ
بقلم: أ.عبد الحكيم سحالة *
المحرر | دراسات وأبحاث | 2010.08.29 1tweetretweet
الملخص :
لقد اهتم الفلاسفة منذ القديم بقضية الدلالة، فالمنطق عندهم يهدف إلى الإقناع و إلى تقديم
الحجج و البراهين التي تثبت الأشياء و تربطها ببعض، فهذه الأدلة تسمح بربط الكلمة
ومدلولها، من هذا المنطلق تهدف المداخلة إلى تقديم تعريف للتداولية، ونشأتها، وتطورها، وصلتها بالسميائيات، عند شارل ساندرس بيرس ، الذي يركز على العلامة ،ومدلولاتها في العالم ، وداخل النص ، وعبر الخطاب، ثم عند شارل موريس ،الذي أضاف عنصر التفاعل إلى المنهج البيرسي، فالعلامة مرتبطة بمؤوليهالتحقق تواصلها النصي والخطابي ، ثم من خلال مساهمات فيجتنشتاين ، حيث جعلالاستعمال هو الذي يبث الحياة والحركة في اللغة، و التواصل هدفا.
لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة النضج والاكتمال للمنهج التداولي، من خلال العالم أوستين الذي قدم نظرية إجرائية للتداولية، ولتحليلالخطابات ، تسمى بنظرية أفعال الكلام ، وأكد على أن كل ملفوظ يحمل ، ويخفيبعدا كلاميا ،وترتكز نظريته على تقديم مجموعة من الأفعال ، (أفعال الأحكام، أفعال القرارات، أفعال التعهد، أفعال السلوك ،أفعال الإيضاح) ، ليختمهاالعالم سيرل بتقديم منهج إجرائي مكتمل بوضع عناصر تحليل الخطاب ، والنص ،بتطوير نظرية أفعال الكلام لأوستين ، وارتكزت على : الاشاريات ، والافتراض السابق ، و استلزام الحوار ، والأفعال الكلامية ، المتكونة من الاخباريات ، و التوجيهيات ، و الالتزاميات ، و التعبيريات ، والاعلانيات ).
المنهج التداولي النشأة و التطور
نشـأة التداوليـة و تطـورهـا :
لقد اهتم الفلاسفة منذ القديم بقضية الدلالة فالمنطق عندهم يهدف إلى الإقناع و إلى تقديم
الحجج و البراهين التي تثبت الأشياء و تربطها بعضها ببعض ،فهذه الأدلة تسمح بربط الكلمة
و مدلولها ،فمثلا يمكننا أن “سنستشف في نظرية العبارة التي دعا إليها لايبنتز المبادئ الأساسية
لتصور الدليل .فالعبارة حسب هذا الفيلسوف تمكننا من التحدث عن الأشياء فيما بينها باعتبار
حيثيات الكم و النوع و الشدة”(1) .
فالإنسان حسبهم مضطر إلى استخدام نظام من العلامات و الأدلة لتمثيل الواقع و الأشياء التي
تحيط به، و ذلك نظرا لتعقيد العالم فهو محتاج إلى اللغة و إلى استعمالها ليعبر عن حاجاته
فاللغات هي أحسن مرآة للفكر البشري(2)، الذي تطور في أوروبا فتداخلت حقوله المعرفية
1-الإرهاصات:
أ- عند شارل ساندرس بيرس:
يعتبر الفيلسوف و السيميائي تشارلز سندرس بيرس من الأوائل الذين أحدثوا تطورا في المجال
اللساني و الفلسفي .حيث “ارتبطت عنده التداولية بالمنطق ثم بالسيموطيقا” “(3) وارتبطت كذلك
بميدان المعرفة و المنهج العلمي، فقد ظهرت ملامح التداولية الأولى مع ظهور مقالة “كيف نجعل
أفكارنا واضحة “عام 1878و قد تساءل بيرس متى يكون للفكرة معنى ،و درس الدليل و علل
إدراكه بواسطة التفاعل الذي يحدث بين الذوات و النشاط السيميائي و قد حاول تطوير التجرب
الإنسانية من خلال الأدلة ،و ربطها بالواقع الاجتماعي “إن الواقع المدلول عليه يفترض تجربة
إنسانية مبنية لا على ما هو فردي بل على ما هو اجتماعي (4) و قد اختلف مفهوم بيرس للتداولية
بتطور مراحل فكره، إذ انطلق أولا بالتساؤل و البحث عن كيفية جعل أفكارنا أكثر وضوحا
و انتهى إلى أن تصورنا لموضوع ما يقاس بالنتائج العلمية المترتبة عند بيرس من حيث أنها
منهج متصل بالمنهج العلمي و لقد اهتم بيرس بالإشارة اهتمامابالغا، و بحث عن الطرق التي بواسطتها يتم الاتصال بين أفراد، وجعلهانظرية،ليعتبر من خلال ذلك التداولية فرعا من السميائيات، و ذلك فيما كتبه
وعبر عنه في تلخيصه لإطارها العام و ذلك، أن اللسانيات المتداولة تفترض كلا من الدراسةالتركيبية و الدلالية (5).
فالتداولية بهذا المنظور هي نقل للواقع و وسيلة من وسائلالمعرفة و الاتصال. و منه لجميع ميادين المعرفة، و لذلك رأى بيرس أنبالتحديد التداولي تتحدد العلامة اللسانية بحكم استعمالها في تنسيق مععلامات أخرى من طرف أفراد جماعة معينة (6)، فللعلامة اللسانيةعلاقة بظروف استعمالها و محيطها و من خلاله تحمل معناها.
ب- عند تشالز موريس:
من مؤسسي و منظري التداولية الباحث تشارلز موريس ، الذياعتبر التداولية جزءا من السيمائية عند تمييزه لثلاثة فروع لهذه الأخيرة ،و هي علم التراكيب ، و علم الدلالةو التداولية (7) و لقد نبهموريس إلى علاقة العلامة بمستعملها و طريقة توظيفها و أثرها في المتلقين،و نبه إلى علاقة الرموز بمؤوليها ،و كل هذه الفروع مرتبطة بعضها ارتباطاوثيقا فالتداولية تدرس كيفية تفسير المتلقي للعلامة، و هذا التفسير لا يتمبمعزل عن كل البنى
التركيبية و النحوية للغة المستخدمة، لأن النظام اللغوييتركز على الأشياء و العلامات كذلك بمراجع تخيل إليها في العالم الخارجي،و فهمها يستوجب الإحالة إلى مراجعها و هذا مبحث دلالي و التداولية تعتمدعلى علمي التركيب و الدلالة في محاولتها للكشف عن مقاصد المتكلم و لقد نظرموريس إلى الأدلة و بحث كيفيات تأثيرها على المرسل إليه .فقد نظر إليهانظرة سلوكية .و قال بأنها هي الطاغية على الموقف و هي التي تهيئ المخاطبإلى اتخاذ رد فعل معين فكل قول في وضع معين يؤدي إلى نفس الإجابة ،أو ردالفعل في كل مرة يستوجب دليل ما اتخاذ موقف لدى المتلقي سواء كان هذاالموقف ايجابيا، أم سلبيا إزاء حدث ما أم شيئا ما أم مقاما ما .
و مما سبق نستنتج أن موريس لا يبتعد كثيرا عن تصور بيرس إلامن حيث البعد السلوكي، لقد كان مفهوم موريس محفزا و سببا للنهوض بمجموعةمن الدراسات تضمنت دراسة بظواهر النفسيالإجتماعية الموجودة داخل أنظمةالعلامات بشكل عام، و داخل اللغة بشكل خاص و دراسة التصورات التجريديةالتي تشير إلى الفاعلين، و دراسة المفردات التأشيريةو الإشاريات.
ج- عند فينجنشتاين:
إن فكر فينجنشتاين متأثر بالفلسفة و المنطق وقد حاول الإسهام في حقل اللغة ،و إيجاد لغة مثالية
تتطابق و الفكر الفلسفي ،لكنه سرعان ما عدل عن ذلك و اتجه إلى دراسة اللغة العادية”(،
و تعتمد هذه الفلسفة على ثلاثة مفاهيم أساسية هي:الدلالة، القاعدة ألعاب اللغة (9).
أ. الدلالة: وقد فرق بين الجملة والقول وجعل الجملة أقل اتساعا من القول.
ب. القاعدة: وهي مجموعة المثل الصالحة لعدد كبير من الأحوال والمتكلمين والتي تسمح بتنويع
النشاط اللغوي وهي القاعدة النحوية الصحيحة في الترتيب والاستعمال.
ج. الألعاب اللغوية: إنه مفهوم لا ينفصل عن مفهومي القاعدة والدلالة، وهي في نظره شكلا من
أشكال الحياة، فقد تنوع النشاط اللغوي وتعددت الطرائق في استخدام الجملة الواحدة كالشكر
والتحية فحسب فينجنشتاين اللغة ليست حسابا منطقيا، بل كل لفظة لها معنى معين، ولكل جملة
معنى في سياق محدد، فالكلمة والجملة تكسب معناها من خلال استخداماتها، “فالمعنى عنده هو
الاستعممال (Meaning is use)”(10)، لقد ساهم هذا الفيلسوف مساهمة فعالة في مجال
التداولية، حيث جعل الاستعمال هو الذي يبث الحياة والحركة في اللغة، وجعل التواصل هدفا.
و بالرغم من الجهود الفلسفية في مجال للغة، و التداولية على وجه الخصوص، إلا أن البحث
فيها لم تتضح و إجراءاتها التحليلية لم ترق إلى العلمية و الموضوعية إلا بمجيء الفيلسوف جون أوستين.
2- مرحلة الاكتمال و النضج:
أ عند أوستين:
تأثرا بمن سبقه كالفيلسوف فنجنشتاين الذي اعتبراللغةإنماتستخدم لتصف العالم و ما هي إلا أداة رمزية تشير إلى الواقع، والوقائع الخارجية و قد تصدى أوستين لهذه الأفكار، و نقدها و أنكر أن تكونالوظيفة الأساسية للغة هي الأخبار” لقد أنكر أوستين أن تكون الوظيفةالوحيدة للعبارات الإخبارية هي وصف حال الوقائع وصفا إما يكون صادقا أوكاذبا و أطلق عليه “المغالطة
الوصفية” (11) ليميز بين نوعين من العبارات التي تكون أفعال منجزة فالأولى تخبر عن وقائع
العالم الخارجي و يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب والثانية تنجز بها أفعال فهي لا تحتمل صدقا أو كذبا. من خلال ما سبق يمكنالقول أن أوستين وضع نظرية الأفعال الكلامية ، و يمكن تلخيص فكره
في نقطتين اثنتين (12).
- النقطة الأولى تتمثل في رفضه ثنائية الصدق و الكذب.
- النقطة الثانية تتمثل في إقراره بأن كل قول عبارة عن عمل .
فنظرية أفعال الكلام تؤكد على أن كل ملفوظ يخفي بعدا كلامياأي الفعل الذي تشكله واقعة الكلام بالذات فنحن لما نستخدم أمرا مثلا، لانتحدث بجملة تتضمن أمرا فحسب، بل تصدر أمرا و هنا نقوم بفعل ،و قد ميزأوستين في نظريته بين نوعين من الأفعال اللغوية.
1.أفعال إخبارية : تتمثل في جملة الوقائعالخارجية التي يحكم عليها بمعيار الصدق و الكذب”و يلخص أوستين وجود جملةوصفية إثباتيه أو تقريرية يمكن أن تكون كاذبة أو صادقة “(13)فقولنامثلا أن الأرض تدور حول نفسها ،فهذا يمثل فعلا إخباريا يتأكد صدقه من خلالمطابقته للواقع ،أو كقولنا توفي ملك تونس فهو فعل إخباري كاذب لأنه مخالفلواقع تونس التي لا ملك لها بل لها رئيس .و قد أشار كذلك إلى وجود “جهلذوات نمط خاص لا يمكن أن يجري عليها
هذا المعيار “(14) ، لذلك وضع تسمية ثانية لهذه الأفعال و هي:
2. أفعال أدائية (إنشائية): و هي أفعال لا تصف الواقع و يحكم عليها بمعيار ثاني و هي النجاح
والتوفيق أوالإخفاق،ويسمي أوستين هذه الأقوال بالأفعال الإنشائية على عكس الزمرة
الأولى (15) .و قد نفى وصفها بالصدق أو الكذب، و أكد على أن هذه الأقوال قد تنجح أو قد تخفق، أو أنها
تستجيب لمقتضى الحال أولا (16) ،وصفة التوفيق لن تتحقق إلا بتحقق شروط معينة، و هي
نوعان: (17)
أ الشروط التكوينية : و هي ضرورية لتحقيق الفعل الأدائي و تتمثل في :
1. وجود إجراء عرفي مقبول، أو أثر عرفي مقبول كالزواج و الطلاق .
2. أن يتضمن الإجراء نطق كلمات محددة منطرف أناس معيين في ظروف معينة ،مثلا في الزواج يشترط التلفظ بكلمات من مثلقول زوجني ابنتك، والرد زوجتك ابنتي على ما كان بيننا من مهر.
3. أن يكون الناس مؤهلين لتنفيذ هذا الإجراء مثل الشروط الواجب توفرها في الزوجين كالبلوغ و العقل…….الخ
4. أن يكون التنفيذ صحيحا، ففي الطلاق مثلالا يقع إلا بنطق كلمة الطلاق ،و إلا لما كان الطلاق، لأنه لم يؤد أداءصحيحا، فيجب الابتعاد عن استعمال الكلمات الغامضة.
5. أن يكون التنفيذ كاملا، فعقد البيع لايتم إلا من خلال تأكيد كل من البائع و المشتري عل المسألة بذكرالاستعمالات اللغوية المناسبة، لذلك مثل قول البائع: بعتك كذا فيقولالمشتري قبلت،فإذا لم يقل الثاني قبلت كان الأداء ناقصا.
ب. الشروط القياسية: وهي ليست ضرورية مثل الشروط الملائمة لأن الفعل يتم و إن لم يتوفر القول، ولكن حضور هذه الشروط لازم للحكم على الفعل بالتوفيق أو عدمه و هذه الشروطتتلخص فيما يلي :
1. ضرورة كون المشارك في الإجراء صادقا في أفكاره و مشاعره و نواياه، فإذا قلت لشخصك
“أهنئك لهذه المناسبة السعيدة” و أنت في قرارة نفسك لا تشعر بذلك ،بل بنقيضه فقد أسأت أداءالفعل .
2. أن يلتزم القائل بما يقول فعلا :فإذا قلت لشخص أرحب بك ثم سلكت سلوكا غير مرحب فقد
أسأت أداء الفعل.و لما اتضح لأوستين أن كثيرا من ألفعالالإخبارية تقوم بوظيفة الأفعال الأدائية برغم ما بذله أوستين من جهد فيالتمييز بين الأفعال الأدائية و الإخبارية، فقد ظل يرجع النظر في هذاالتقسيم
حتى تتبين له في النهاية أن الحدود بين هذين النوعين من الأفعال لا تزال غير واضحة، فرجع
عودا إلى السؤال كيف ننجز أفعالا حين ننطق أقوالا؟(18)،فمثلا قولنا ” أنا عطشان ” فهي في الحقيقة فعل إخباري، لكنه يؤدي وظيفةالأفعال الأدائية لأنها تؤدي معنى الطلب، أي أحضر لي كوب ماء، و فيمحاولته للإجابة عن التساؤل المطروح رأى أن الفعل الكلامي مركب من ثلاثةأفعال تعد جوانب مختلفة في فعل كلامي واحد “يحتوي الفعل اللغوي على ثلاثةأفعال، تشكل كيانا واحدا، علما بأن هذه الأفعال الثلاثة يقع حدوثها في وقتو احد” (19)، فهي أفعال لا ينفصل جانب من جوانبها عن الآخر إلا في الدراسة و هي (20):
*المركز الجامعي ـ الطارف ـ الجزائ