[center]أ- التطور في حركة الزمن:
- من الواضح أن معظم القص القديم منذ بدايته وحتي الستينيات قد صيغ في إطار التتابع الزمني، ثم تغير النظر إلي الزمن، وعلاقته بالنص القصصي وذلك في إطار التطور الحضاري والتقني الذي شهدته الساحة الثقافية في الفترة المعاصرة، فأصبح ثمة محاولة للخروج علي البناء التقليدي؛ إذ تتلاشى فكرة التتابع الزمني، ومبدأ السببية بحيث تنساب الأحداث دون منطق زمني، فتتداخل الأزمنة، وعلى المتلقي إعادة تنظيمها مرة أخرى، ثم جاءت المدرسة الشكلية لتقدم رؤية جديدة للزمن، قائمة على تقسيم المؤلف القصصي إلي قصة، وخطاب، أو متن ومبني، فالقصة عبارة عن حركة الفعل من خلال الشخصية التي تقيم معه علاقات نصية تدفع وقائع الحكي إلي الأمام ولذا فبينهما علاقة جدلية يقول "تودوروف ": ليس هناك شخصيات خارج الفعل، ولا فعل مستقل عن الشخصيات...وإذا كان الاثنان مرتبطين دائما، فإن أحدهما مع ذلك أكثر أهمية من الآخر...."(3) ولها زمنها الخاص بها.
والخطاب أو المبنى الحكائي يتضمن كل الوسائل والأساليب الفنية التي تقوم بعرض العلاقات النصية بين أجزاء القصة وتنظيمها بشكل جيد يستوعبه المتلقي، وهو[ يتألف من نفس الأحداث، بيد أنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا(4) ومن ثم فله - أيضا - زمنه الخاص به، ولقد طرح الرؤية (تودوروف) في مقالته "مقولات السرد الأدبي" عند حديثه عن "معني العمل الأدبي.
ب- الزمن وعلاقته بالمكون القصصي:
يؤدي الزمن دورًا مهماً في تكوين السرد؛ فهو يكسبه الحيوية، والتدفق، والاستمرارية؛ ولذا لا يتحقق وجوده وتكامله التقني إلا في إطاره، فالسرد فعل زماني، فهو يتحقق في الزمان، لأنه يتحرك في مجراه، وبوساطته، لأنه يتقدم متصلاً به (5)
وهو تقنية مهمة تعمل على ربط الفعل القصصي بالحياة، وتمنحه عناصر التشويق، والإيقاع الجيد، والديمومة، وتحدد طبيعته وطريقة صوغه، وتؤثر في تكوين الشخصية جسديا وفكريا، حيث تتبعها كظلها وهي تؤدي الفعل وتطوره؛ ولذا فالزمن عامل مشترك بين الفعل والفاعل.. ويرتبط بالمكان ارتباطا وثيقًا، صنعته الفطرة، والترابط العقلى، فلا "مكان يتشكل ويتحول ويتجلي إلا بعامل زمني معين، ولا زمان، يرصد، ويقوم، ويحدد، إلا بمكان يحتويه، ويجعل من ذاته مسكنا للزمن، فالمكان يزمن بالزمان، وإن الزمان يمكن بالمكان.."(6) ويطلق عليهما معاً "ميشال بوتور" المدي الروائي.."(7)
جـ النسق الزمني:مفهومه، وأنواعه.
يعد النسق الزمني، أحد العناصر المهمة التي يتكون منها الخطاب القصصي عند الشكلانين الروس، التي تحدث عنها تودوروف في مقالته السابقة، ويعني الحالة التي يتواجد عليها الزمن في النص، والتي تؤثر على تكوينه التقني، أي محاولة البحث عن حركة الزمن، وتواتره في الحكاية، ودوره في خلق آليات التماسك النصى. وتبدو هذه الحركة الزمنية ضابطة لإيقاع النص، ومنظمة لمجموعة العلاقات السردية التي تنتج المعني، وتوجهه نحو تجسيد رؤية المبدع. وينقسم الحديث عن تقنية الزمن في الخطاب القصصى إلى مبحثين:
المبحث الأول:المفارقة الزمنية.
المبحث الثاني:التواتر السردي.
المبحث الأول
المفارقة الزمنية:
وهي الخروج عن الترتيب الطبيعي للزمن، سواء بعودة الأحداث إلي الوراء، أو محاولة استقراء لحظة المستقبل، ويتصل هذا الانزياح في الزمن بموقع السرد منه، وقد أشار(جيرار جنيت) إلي هذه التقنية في قوله:" تعني دراسة الترتيب الزمني في الخطاب السردي بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة، وذلك لأن نظام القصة هذا تشير إليه الحكاية صراحة أو يمكن الاستدلال عليه من هذه القرينة غير المباشرة أو تلك..."(
ويعنى هذا الخروج الزمني عن التسلسل المنطقى للأحداث إعادة ترتيب زمن القصة بشكل جديد، عن طريق قارئ واع بمجريات الفعل القصصى، ولديه القدرة على تنظيم المادة الحكائية، ضمن مؤشرات زمنية محددة تشير إلي أبعاده بدقة، وهو ما يدل على تعرض هذا الزمن إلي ثغرات عميقة في النظام الزمني، مما يحتاج إلي محاولة تأويل هذه الظاهرة ضمن الوعي العام للبنية الزمنية..."(9)
وتنقسم المفارقة الزمنية إلي نوعين:
أ- السرد الاستذكاري ونقطة الصفر.
ب- السرد الاستشرافي ونقطة الصفر.
1- السرد الاستذكاري ونقطة الصفر:
تستدعى الأحداث الماضية في لحظة الحاضر(نقطة الصفر) التي تكون دافعًا قويا للاستدعاء بما تحمله من مشاعر حزينة وقلقة فتأتي الذكري لتغيير الواقع النفسي للشخصية في هذه اللحظة، يقول (غاستون باشلار) عن علاقة الماضي بالحاضر "سرعان ما توصلنا إلي الاعتراف في الواقع بأن الذكري لا تعلم دون استناد جدلي إلي الحاضر ؟ فلا يمكن إحياء الماضى إلا بتقييده بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة بكلام آخر، حتي نشعر أننا عشنا زمنا - وهو شعور غامض دائما بشكل خاص - لابد لنا من معاودة وضع ذكرياتنا شيمة الأحداث الفعلية في وسط من الأمل أو القلق في تماوج جدلي، فلا ذكريات بدون هذا الزلزال الزمني، أو بدون هذا الشعور الحيوى(10) .
ويقول تودوروف عن هذه التقنية: أما الاسترجاعات وهي الأكثر تواترا فتروي لنا فيما بعد ما قد وقع من قبل، فعادة يشفع - في الروايات الكلاسيكية إدخال شخصية جديدة بقص لماضيها، ويمكننا طبقا لتقاطع الاسترجاع مع القصة الرئيسة أو عدمه أن ننعته بباطني أو خارجي..."(11)
وتتفاوت المقاطع الاستذكارية من حيث [ طول أو قصر المدة التي تستغرقها أثناء العودة إلي الماضى، وتسمى هذه المسافة الزمنية التي يطالها الاستذكار بمدى المفارقة.."(12) وقد يستغرق المدى يوما أو أسبوعاً أو شهراً، بحيث يكون محددًا ومعلومًا للمتلقي، أمّا سعة الإرجاع فتقاس بعدد الصفحات التي يغطيها في الخط الزمني للسرد.
وتتمثل وظيفة هذه التقنية في ملئ " بعض الفجوات من حياة الشخصيات" المحورية؛ ولذا فهي تحتل وظيفة مركزية، إنها لا تأتي لتقديم مزيد من الأخبار عن الشخصية المقدمة أمامنا في الحاضر وحسب، بل إنها ذات وظيفة بنيوية."(13)
في قصة (حبات الرمل) من المجموعة القصصية (ربع رجل) يأتي الاستذكار هكذا " يشتعل في ذاكرته انكسار عينيه أمام نساء أسرته منذ ست سنوات لم يستطع حمايتهن رحلة عودته الحزينة إليهن هزت رجولته..انتزع نفسه من لحظة التذكر، قبض على الرمال نثرها في وجوه طابور الأسرى،..."(14)
في هذا النص تتذكر الشخصية لحظة إنسانية موغلة في الماضي ذات تأثير سلبي على المشاعر، لكنها تؤثر إيجابيا في تطور الفعل نحو الأمام، حيث تستقرئ مشاعرها وأحاسيسها في سنوات الاستنزاف؛ ومن ثم ارتبط هذا التذكر بالعوالم الداخلية للشخصية الرئيسة في القصة؛ غير أنه صيغ بضمير الغائب /السرد الموضوعي؛ ربما لأن فرصة الحديث عن النفس معدومة في مثل هذه المواقف المتأزمة؛ لذا تكفل القاص باستقراء الأفكار الداخلية لهذه الشخصية، وعرضها للمتلقي برؤيته هو.
وتميز هذا الاستذكار بمحدداته ومؤشراته الدالة على طبيعته كعبارة (يشتعل في ذاكرته)، وتحديد المدى الزمني في ست سنوات، وأما السعة فتتمثل في فقرة نصية واحدة، تستوعب موقفا إنسانيا، ارتبط بالفعل في تطوره، لأنه أثر على رؤية الفاعل وسلوكياته.
وفي قصة (مسافرة فوق الخطوط) من المجموعة نفسها يقول نص الاستذكار على لسان الأنا المتكلم (تذكرته ونحن صغار يوم أصيب بالحصبة لم يمنعني أحد من النوم بجواره... ضحك أبي وهو يهز رأسه:
- دعوها.. حتمًا ستصاب (15)
تتذكر الشخصية إحدى مواقفها الإيجابية مع أخيها يوم أصيب بالحصبة، وقد أضاف هذا جديدًا للفعل القصصي، وفسر اندفاع الشخصية نحو البحث عن أخيها؛ ولهذا فقد ارتبطت حالة الاسترجاع بالغائب / الأخ، والمتكلم/ الأنا، وفي إطارها طرح القاص مدى العلاقة الإنسانية التي تربط بينهما.
ومن محدداته الدالة عليه ذكر لفظة التذكر، وقد تحدد وقت الاستذكار في هذه العبارة [ ونحن صغار]، ومدته - تقريبا- يوم واحد، وأما سعته فهو قصير في حجمه، لا يتجاوز السطرين في النص، وتركزت في الكشف عن موقف إنساني جمع بين الأخ والابن والأب، وهو لا يدل إلا على مدى التراحم بينهما. وكان الدافع إلي تذكر هذا الموقف إحساسها بالخطر القادم تجاه الأخ.
.
Digg this Post!Add Post to del.icio.usBookmark Post in TechnoratiTweet this Post!
رد مع اقتباس
قديم July 13, 2007, 03:31 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
غروب الوفاء
كاتبة وشاعرة
غروب الوفاء غير متواجد حالياً
وفي قصة (الشرك) من المجموعة القصصية التي تحمل نفس الاسم، يعود السارد إلي نقطة زمنية معينة تسبق لحظة الحاضر / الصفر فيقول: [عادت لصباها..تلميذة تنهل من الحياة تشع حيوية... تقفز بالكرة في الملاعب.. يجلجل صوتها الرخيم في الإذاعة المدرسية، تتقمص الشخصيات ببراعة على مسرح المدرسة.. تتحرك بكبرياء... لم تكن تتعمد ذلك..لكن..جسدها الطويل الممشوق.. وجهها حلو الملامح.. وفي الجامعة كان البعض يناديها بالدكتورة.. والبعض الآخر بالزعيمة..أغمضت..ذكرتها نبرات الممرضة الحنون بأمها (راضية)..كم عانت من أجل أسرتها دون تذمر... تذكرت يوما عاد والدها منهمك القوى.. يتلمس الدفء بين أسرته...](16)
يقطع السارد حركة الفعل القصصي في لحظة الحاضر، ليعود بشخصيته إلي ما قبل هذه اللحظة عن طريق الارتداد، ليعرض للمتلقي فترة من حياتها عندما كانت تلميذة في سنوات الدراسة الأولي، حيث الملامح الجسدية والنفسية الإيجابية،والعلاقات الإنسانية بينها وبين الآخرين،ورؤيتها للآخر /الرجل، ثم أشار إلي معاناة أمها معها، ودور والدها في الأسرة.
وتبدو محددات التذكر -هنا- واضحة، حيث ذكر لفظ العودة في قول الراوي [عادت لصباها..]، وتحددت مدة التذكر في فترة الدراسة الأولي حتى الجامعة، ولم يكن استدعاء هذه المدة من الماضى إلا بفعل ما ألم بها نتيجة حادث الاصطدام، وقد أخذت هذه المدة مقاطع نصية ليست بالقليلة، زادت على الصفحتين، وكشفت بصراحة عن مواقف إنسانية في دقائق محدودة.
ويبدو أن الارتداد -هنا - قد أدي وظيفة بنيوية وأساسية في النص؛ حيث أبرز جزءاً مهما من حياة الشخصية في الماضى، وربط الإخبار عنه بنقطة الصفر التي كانت دافعا قوياً لاستقرائه؛ ولذا جاء الاستذكار لملئ الفجوات، بقراءة خصوصية الغائب عن دائرة الخطاب. وهذا يعني أنه [أبرز القيمة الدلالية الخاصة لبعض عناصر الحكاية.. وذكر بأحداث سابقة لتأويلها تأويلاً جديدًا حسب معطيات جديدة متأنية من الأحداث الواردة بعدها..](17)
وفي المجموعة القصصية (عودة العجوز إلي البحر) في قصة (فلما اعتلي الرجل الكوبري) تقول الأنا الساردة (هذه الحالة أعرفها تماماً عندما قضيت أسبوعًا كاملاً، مقيداً بالسرير بسبب إصابتي بالتهاب في حوض الكلي.. فلا أستيقظ إلا لحاجة.ثم أنام وأنام، تجرعت الأدوية غريبة المذاق، حتى قال الطبيب "اخرج وسيب السرير." (18)
ويبدو أن هذا الاستذكار،جاء كرد فعل طبيعي للحظة الحاضر المليئة بالوهن والاضطراب، والنوم العميق،والكسل تلك التى عرف مفرداتها فيما سبق، عندما قضى أسبوعًا كاملاً في المستشفى. ولم يذكر النص من محددات الارتداد إلاّ مدته التي حددها الأنا السارد بنفسه في أسبوع، وحجمه قصير جدًا؛ ولذا فسعته لا تزيد عن ثلاثة أسطر، يتم فيها تعرية موقف خاص جدًا بالشخصية.
والواضح من هذا التصور أن الدلالات في اللحظتين متساوية، ولم يكن ثمة تأويل جديد للمنتج النصي في الماضي.
وفي قصة (الذبابة الزرقاء) من المجموعة القصصية نفسها، يحاول الراوي أن يكشف عن اللحظة الغائبة في حياة الشخصية، بفعل الحالة النفسية المتردية التي أحاطت بها، يقول: (للمرة الأولي يتململ العجوز.يرمى نظرة ساكنة إلي إحدى ساقيه، وقد كسرت عنوة من غريم في مباراة شرسة.. لكن فريقه خرج منتصرًا فابتسم، هانت عليه جلسته المحفورة في كتلة أشعة الشمس، فحرك ذراعه الأيمن، وتحسس شفته وأسنانه الأمامية، وقد تحطمتا عمدًا من لكمة غريم لا يرحم.. لكن فريقه حصل على كأس المسابقة...)(19)
يستقرئ الراوي اللحظة الآنية المحيطة بشخصية العجوز التي كانت دافعاً قويا لإعادة لحظة الماضى، وقراءتها بشكل جديد، ولم تتحدد مؤشرات الارتداد إلاّ بشكل غير مباشر، مما فعّل دور المتلقي في استنتاجها من خلال البنية الكلية للنص، وتتمثل في السنوات التي كان فيها العجوز يمتلك شخصية قوية ومرموقة في مجال الرياضة. وأمّا السعة فهي تستوعب موقفا مهما من حياة العجوز، أخذ جزءًا محدودًا من صفحات القصة، ولم يشغل من زمن الكتابة إلاّ بعض الدقائق، لكنه أمد السرد بمعلومات مهمة عن شخصية العجوز. فسرت صبره على ما هو فيه.
والواضح من هذا التصور أن الدلالات المنتجة من لحظة الاستذكار إيجابية، ممّا أثر فيما بعدها من لحظات بشكل إيجابي - أيضًا-؛ ولذا كان تأويل الفعل القصصى في الماضي لقراءة الحاضر بشكل مغاير.
2- السرد الاستشرافي؛ ونقطة الصفر.
ونعني به عرض أحداث لاحقة لا يتصف معظمها باليقين وتمثل قطعا لزمن السرد الحاضر، وتتنافي هذه التقنية مع التشويق النصي الذي يفضله المتلقي المتفاعل مع النص.إذ يجب أن يكون ثمة نقط غامضة لا يكشفها إلاّ بنفسه حتي تمنحه قدرة على مواصلة القراءة، وهذه المفارقة بين تقنية الاستشراف وما تؤدي إليه، كانت دافعًا لمقولة جيرار جنيت:" إن الاهتمام بالتشويق السردي الخاص بتصور الرواية الكلاسي بمعناه العام...لا ينسجم كثيرًا مع هذه الممارسة.." (20).
وفي هذه الممارسة الزمنية أحيانا يستخدم الراوي " الصيغ الدالة على المستقبل، لكونه يسرد أحداثا لم تقع بعد، على أن هذه الصيغ تتغير وفقا لطريقة السارد / الراوي..."(21) ويرى (توماشفسكى) أن هذا النوع من السرد، (يمثل الحالة الأكثر ندرة فهي حالة Nachgeschichte أي سرد ما سيحدث لاحقا، والذي يدمج في الحكي قبل أن تقع الأحداث الممهدة لما سيأتي. ويكتسي أحيانا شكل حلم منبئ أو نبوءة، أو افتراضات صحيحة أو غير صحيحة بصدد المستقبل."(22)
ووظيفة هذا النوع من السرد تتمثل (في خلق حالة انتظار عند القارئ، لكن من الواجب ألا نخلط بين هذه الإنباءات التي لا ترد إلا بصفة صريحة، والنواتج، وهي معطيات لا يفهم معناها إلا فيما ترتبط بفن التمهيد القصصي..."(23)
في قصة(الفنار) من المجموعة القصصية (المغيب) يقول الاستشراف: [ سأنتظرك في العاشرة بمقهي الفنار قرب البحر.."(24)
والواضح أن هذا النص يرتبط بشخص غائب عن دائرة الخطاب في لحظته الآنية، وسيكشف عنه النص في نهاية الفعل القصصي؛ ولذا فلحظة الاستشراف، مداها الزمني قريب، لم يخرج عن دائرة النص، وتكشف - في الوقت نفسه- عن جزء مهم من حياة الشخصية الرئيس؛ يفسر واقعها النفسى،ويكتشف عن لحظات تطوره، وهذا ما جسده السارد في قوله نفس الموعد، يوم سفر أبيه الأخير..)(25)
والاستشراف قصير، وحيزه النصى لا يتعدى السطر الواحد وقد تحدد وقته في الساعة العاشرة مساءً، ومكانه مقهي الفنار قرب البحر، ومحدداته اللغوية تنحسر في عبارة (سأنتظرك).(فالسين) دالة على الاستقبال، بالإضافة إلي الفعل المضارع الذي يعطي نفس الدلالة.
وفي قصة (جاسر) من المجموعة نفسها، يجئ الاستشراف على هيئة نبوءة ستحدث مفرداتها في المستقبل؛ يقول النص: (وضعت الرسالة تحت الوسادة، تمددت مسترخيًا، فغفوت فقمت من نومي فزعًا.. انتفضت، كانت الغرفة مظلمة أشبه بالقبو، دموع غزيرة تسيل على وجنتي من هول ما رأيت.. عربة بيجو زرقاء، تسير في الضباب مسرعة... ركاب سبعة يغطون في نوم عميق، سائق يشبهني يتشبث بمقود السيارة، يحدق في الظلام والساتر الضبابي،يحاول الخروج من نفق مظلم !! صراخ واستغاثة وارتطام... أدخنة تتصاعد للسماء... رجال ونساء يعبرون الجسر، يحملون المشاعل المصابيح، يقتربون من مدخل النفق ؟!.."(26)
ويبدو أن الدافع النفسي إلي هذه النبوءة، لحظة الفعل السابق عليها، المتمثلة في الرسالة التي أبلغت الأنا السارد بتعينه في المستشفي، والواضح أن هذه النبوءة قد أوقفت زمن السرد، وزادت من زمن القصة واستقرأت لحظة المستقبل؛ حيث تم الالتحاق الفعلى بالوظيفة، وظهر للسارد كل المفردات التي رآها في منامه وهي؛ عربة بيجو زرقاء، وركاب سبعة يغطون في نوم عميق، والسائق الذي يشبهه، والساتر الضبابي، والصراخ، والاستغاثة، والارتطام، والأدخنة.
ويبدو أن زمن الاستشراف لا يتعدي ثلاثة أيام؛ ولذا فهو لم يتوغل في المستقبل البعيد، إذ إن شفراته قد فسرت بعد عرضه بأيام قلائل،ويتسم مكانه بالانفتاحية، والتشتت الذي يتوازى مع تشتت السارد، وسعته تتحدد في الدقائق القليلة التي نام فيها، ومن ثم أخذ مساحة نصيّة قصيرة لا تزيد - تقريباً- على الفقرة في القصة.
يلاحظ في هذا التصور أن الدافع، لم تتحدد هويته، فلم يقم دليل لفظى لدى المتلقي على سلبيته أو إيجابيته، والمنتج الدلالي في النبوءة كان سلبيًا أثر على سلوكيات الأنا، وهذا ما لمسته في نهاية القصة؛ حيث رأت فعليا نثريات الحلم، ودلالاته السيئة.
في قصة "آخر العنقود" من المجموعة القصصية (حضن المسك)، يقول الاستشراف:" فليحفظني الله حتي أشهد عرسها..."(27)
تأتي لحظة المستقبل على لسان الوالد الذي يتمني أن يحفظه الله حتي يشهد عرس ابنته. والواضح أن الاستشراف، يجسد لحظة الحاضر في حياة المتكلم، ولم تتحدد مدته؛ ولذا فهو يتوغل في المستقبل البعيد، أما سعته فلا تتعدى سطرًا واحدُا من القصة، وتحتل -تقريبا- دقيقة واحدة، أوقف بها القاص حركة السرد نهائيا، ليترك فرصة التأويل للمتلقي؛ لاستقراء البنية الغائبة عن دائرة الخطاب، ومن محدداته اللغوية استخدام الفعل المضارع الدال على الاستقبال كـ (أشهد - ويحفظ).
وفي القصة نفسها تقول الشخصية الساردة: "ولو كان حبيبي قادراً، لخطفني إلي بلاد بعيدة، عشبها زعفران، وترابها المسك، وأشجارها تطرح اللؤلؤ والمرجان والياقوت وطيورها خضر وبيض وزرق، وكأنها أفاقت من حلم.."(28)
في النص تطمح الشخصية إلي حياة فطرية، بعيدة عن جفاف الحاضر، لا تتحقق إلا في مدينة لها مواصفات خاصة، عشبها من الزعفران، وترابها من المسك، وأشجارها لا تطرح إلا اللؤلؤ والمرجان، والياقوت، وطيورها خضر، وبيض، وزرق، وتلك نظرة أقرب إلي المثال تهرب بصاحبتها من واقع متأزم مليء بالهموم، إلي عالم وهمي رحب، يتضمن رؤى جديدة، ومغايرة للحظة الحاضر.
ويتوغل الاستشراف في المستقبل البعيد الذي يستحيل تحققه إلاّ في عالم الخيال؛ ولذا فمدته التي يستغرقها ليست محددة، وأما سعته فهو قصير الحجم، لا يتعدى ثلاثة أسطر.
والواضح أن ثمة مفارقة بين لحظتين زمنيتين في الدلالة الإنسانية؛ لحظة الحاضر التي أصبحت ماضيا، والمستقبل الذي أصبح للمتكلم هو الحاضر الذي يطمح إلى الاستمرار فيه.
- من الواضح أن معظم القص القديم منذ بدايته وحتي الستينيات قد صيغ في إطار التتابع الزمني، ثم تغير النظر إلي الزمن، وعلاقته بالنص القصصي وذلك في إطار التطور الحضاري والتقني الذي شهدته الساحة الثقافية في الفترة المعاصرة، فأصبح ثمة محاولة للخروج علي البناء التقليدي؛ إذ تتلاشى فكرة التتابع الزمني، ومبدأ السببية بحيث تنساب الأحداث دون منطق زمني، فتتداخل الأزمنة، وعلى المتلقي إعادة تنظيمها مرة أخرى، ثم جاءت المدرسة الشكلية لتقدم رؤية جديدة للزمن، قائمة على تقسيم المؤلف القصصي إلي قصة، وخطاب، أو متن ومبني، فالقصة عبارة عن حركة الفعل من خلال الشخصية التي تقيم معه علاقات نصية تدفع وقائع الحكي إلي الأمام ولذا فبينهما علاقة جدلية يقول "تودوروف ": ليس هناك شخصيات خارج الفعل، ولا فعل مستقل عن الشخصيات...وإذا كان الاثنان مرتبطين دائما، فإن أحدهما مع ذلك أكثر أهمية من الآخر...."(3) ولها زمنها الخاص بها.
والخطاب أو المبنى الحكائي يتضمن كل الوسائل والأساليب الفنية التي تقوم بعرض العلاقات النصية بين أجزاء القصة وتنظيمها بشكل جيد يستوعبه المتلقي، وهو[ يتألف من نفس الأحداث، بيد أنه يراعي نظام ظهورها في العمل، كما يراعي ما يتبعها من معلومات تعينها لنا(4) ومن ثم فله - أيضا - زمنه الخاص به، ولقد طرح الرؤية (تودوروف) في مقالته "مقولات السرد الأدبي" عند حديثه عن "معني العمل الأدبي.
ب- الزمن وعلاقته بالمكون القصصي:
يؤدي الزمن دورًا مهماً في تكوين السرد؛ فهو يكسبه الحيوية، والتدفق، والاستمرارية؛ ولذا لا يتحقق وجوده وتكامله التقني إلا في إطاره، فالسرد فعل زماني، فهو يتحقق في الزمان، لأنه يتحرك في مجراه، وبوساطته، لأنه يتقدم متصلاً به (5)
وهو تقنية مهمة تعمل على ربط الفعل القصصي بالحياة، وتمنحه عناصر التشويق، والإيقاع الجيد، والديمومة، وتحدد طبيعته وطريقة صوغه، وتؤثر في تكوين الشخصية جسديا وفكريا، حيث تتبعها كظلها وهي تؤدي الفعل وتطوره؛ ولذا فالزمن عامل مشترك بين الفعل والفاعل.. ويرتبط بالمكان ارتباطا وثيقًا، صنعته الفطرة، والترابط العقلى، فلا "مكان يتشكل ويتحول ويتجلي إلا بعامل زمني معين، ولا زمان، يرصد، ويقوم، ويحدد، إلا بمكان يحتويه، ويجعل من ذاته مسكنا للزمن، فالمكان يزمن بالزمان، وإن الزمان يمكن بالمكان.."(6) ويطلق عليهما معاً "ميشال بوتور" المدي الروائي.."(7)
جـ النسق الزمني:مفهومه، وأنواعه.
يعد النسق الزمني، أحد العناصر المهمة التي يتكون منها الخطاب القصصي عند الشكلانين الروس، التي تحدث عنها تودوروف في مقالته السابقة، ويعني الحالة التي يتواجد عليها الزمن في النص، والتي تؤثر على تكوينه التقني، أي محاولة البحث عن حركة الزمن، وتواتره في الحكاية، ودوره في خلق آليات التماسك النصى. وتبدو هذه الحركة الزمنية ضابطة لإيقاع النص، ومنظمة لمجموعة العلاقات السردية التي تنتج المعني، وتوجهه نحو تجسيد رؤية المبدع. وينقسم الحديث عن تقنية الزمن في الخطاب القصصى إلى مبحثين:
المبحث الأول:المفارقة الزمنية.
المبحث الثاني:التواتر السردي.
المبحث الأول
المفارقة الزمنية:
وهي الخروج عن الترتيب الطبيعي للزمن، سواء بعودة الأحداث إلي الوراء، أو محاولة استقراء لحظة المستقبل، ويتصل هذا الانزياح في الزمن بموقع السرد منه، وقد أشار(جيرار جنيت) إلي هذه التقنية في قوله:" تعني دراسة الترتيب الزمني في الخطاب السردي بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة، وذلك لأن نظام القصة هذا تشير إليه الحكاية صراحة أو يمكن الاستدلال عليه من هذه القرينة غير المباشرة أو تلك..."(
ويعنى هذا الخروج الزمني عن التسلسل المنطقى للأحداث إعادة ترتيب زمن القصة بشكل جديد، عن طريق قارئ واع بمجريات الفعل القصصى، ولديه القدرة على تنظيم المادة الحكائية، ضمن مؤشرات زمنية محددة تشير إلي أبعاده بدقة، وهو ما يدل على تعرض هذا الزمن إلي ثغرات عميقة في النظام الزمني، مما يحتاج إلي محاولة تأويل هذه الظاهرة ضمن الوعي العام للبنية الزمنية..."(9)
وتنقسم المفارقة الزمنية إلي نوعين:
أ- السرد الاستذكاري ونقطة الصفر.
ب- السرد الاستشرافي ونقطة الصفر.
1- السرد الاستذكاري ونقطة الصفر:
تستدعى الأحداث الماضية في لحظة الحاضر(نقطة الصفر) التي تكون دافعًا قويا للاستدعاء بما تحمله من مشاعر حزينة وقلقة فتأتي الذكري لتغيير الواقع النفسي للشخصية في هذه اللحظة، يقول (غاستون باشلار) عن علاقة الماضي بالحاضر "سرعان ما توصلنا إلي الاعتراف في الواقع بأن الذكري لا تعلم دون استناد جدلي إلي الحاضر ؟ فلا يمكن إحياء الماضى إلا بتقييده بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة بكلام آخر، حتي نشعر أننا عشنا زمنا - وهو شعور غامض دائما بشكل خاص - لابد لنا من معاودة وضع ذكرياتنا شيمة الأحداث الفعلية في وسط من الأمل أو القلق في تماوج جدلي، فلا ذكريات بدون هذا الزلزال الزمني، أو بدون هذا الشعور الحيوى(10) .
ويقول تودوروف عن هذه التقنية: أما الاسترجاعات وهي الأكثر تواترا فتروي لنا فيما بعد ما قد وقع من قبل، فعادة يشفع - في الروايات الكلاسيكية إدخال شخصية جديدة بقص لماضيها، ويمكننا طبقا لتقاطع الاسترجاع مع القصة الرئيسة أو عدمه أن ننعته بباطني أو خارجي..."(11)
وتتفاوت المقاطع الاستذكارية من حيث [ طول أو قصر المدة التي تستغرقها أثناء العودة إلي الماضى، وتسمى هذه المسافة الزمنية التي يطالها الاستذكار بمدى المفارقة.."(12) وقد يستغرق المدى يوما أو أسبوعاً أو شهراً، بحيث يكون محددًا ومعلومًا للمتلقي، أمّا سعة الإرجاع فتقاس بعدد الصفحات التي يغطيها في الخط الزمني للسرد.
وتتمثل وظيفة هذه التقنية في ملئ " بعض الفجوات من حياة الشخصيات" المحورية؛ ولذا فهي تحتل وظيفة مركزية، إنها لا تأتي لتقديم مزيد من الأخبار عن الشخصية المقدمة أمامنا في الحاضر وحسب، بل إنها ذات وظيفة بنيوية."(13)
في قصة (حبات الرمل) من المجموعة القصصية (ربع رجل) يأتي الاستذكار هكذا " يشتعل في ذاكرته انكسار عينيه أمام نساء أسرته منذ ست سنوات لم يستطع حمايتهن رحلة عودته الحزينة إليهن هزت رجولته..انتزع نفسه من لحظة التذكر، قبض على الرمال نثرها في وجوه طابور الأسرى،..."(14)
في هذا النص تتذكر الشخصية لحظة إنسانية موغلة في الماضي ذات تأثير سلبي على المشاعر، لكنها تؤثر إيجابيا في تطور الفعل نحو الأمام، حيث تستقرئ مشاعرها وأحاسيسها في سنوات الاستنزاف؛ ومن ثم ارتبط هذا التذكر بالعوالم الداخلية للشخصية الرئيسة في القصة؛ غير أنه صيغ بضمير الغائب /السرد الموضوعي؛ ربما لأن فرصة الحديث عن النفس معدومة في مثل هذه المواقف المتأزمة؛ لذا تكفل القاص باستقراء الأفكار الداخلية لهذه الشخصية، وعرضها للمتلقي برؤيته هو.
وتميز هذا الاستذكار بمحدداته ومؤشراته الدالة على طبيعته كعبارة (يشتعل في ذاكرته)، وتحديد المدى الزمني في ست سنوات، وأما السعة فتتمثل في فقرة نصية واحدة، تستوعب موقفا إنسانيا، ارتبط بالفعل في تطوره، لأنه أثر على رؤية الفاعل وسلوكياته.
وفي قصة (مسافرة فوق الخطوط) من المجموعة نفسها يقول نص الاستذكار على لسان الأنا المتكلم (تذكرته ونحن صغار يوم أصيب بالحصبة لم يمنعني أحد من النوم بجواره... ضحك أبي وهو يهز رأسه:
- دعوها.. حتمًا ستصاب (15)
تتذكر الشخصية إحدى مواقفها الإيجابية مع أخيها يوم أصيب بالحصبة، وقد أضاف هذا جديدًا للفعل القصصي، وفسر اندفاع الشخصية نحو البحث عن أخيها؛ ولهذا فقد ارتبطت حالة الاسترجاع بالغائب / الأخ، والمتكلم/ الأنا، وفي إطارها طرح القاص مدى العلاقة الإنسانية التي تربط بينهما.
ومن محدداته الدالة عليه ذكر لفظة التذكر، وقد تحدد وقت الاستذكار في هذه العبارة [ ونحن صغار]، ومدته - تقريبا- يوم واحد، وأما سعته فهو قصير في حجمه، لا يتجاوز السطرين في النص، وتركزت في الكشف عن موقف إنساني جمع بين الأخ والابن والأب، وهو لا يدل إلا على مدى التراحم بينهما. وكان الدافع إلي تذكر هذا الموقف إحساسها بالخطر القادم تجاه الأخ.
.
Digg this Post!Add Post to del.icio.usBookmark Post in TechnoratiTweet this Post!
رد مع اقتباس
قديم July 13, 2007, 03:31 AM رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
غروب الوفاء
كاتبة وشاعرة
غروب الوفاء غير متواجد حالياً
وفي قصة (الشرك) من المجموعة القصصية التي تحمل نفس الاسم، يعود السارد إلي نقطة زمنية معينة تسبق لحظة الحاضر / الصفر فيقول: [عادت لصباها..تلميذة تنهل من الحياة تشع حيوية... تقفز بالكرة في الملاعب.. يجلجل صوتها الرخيم في الإذاعة المدرسية، تتقمص الشخصيات ببراعة على مسرح المدرسة.. تتحرك بكبرياء... لم تكن تتعمد ذلك..لكن..جسدها الطويل الممشوق.. وجهها حلو الملامح.. وفي الجامعة كان البعض يناديها بالدكتورة.. والبعض الآخر بالزعيمة..أغمضت..ذكرتها نبرات الممرضة الحنون بأمها (راضية)..كم عانت من أجل أسرتها دون تذمر... تذكرت يوما عاد والدها منهمك القوى.. يتلمس الدفء بين أسرته...](16)
يقطع السارد حركة الفعل القصصي في لحظة الحاضر، ليعود بشخصيته إلي ما قبل هذه اللحظة عن طريق الارتداد، ليعرض للمتلقي فترة من حياتها عندما كانت تلميذة في سنوات الدراسة الأولي، حيث الملامح الجسدية والنفسية الإيجابية،والعلاقات الإنسانية بينها وبين الآخرين،ورؤيتها للآخر /الرجل، ثم أشار إلي معاناة أمها معها، ودور والدها في الأسرة.
وتبدو محددات التذكر -هنا- واضحة، حيث ذكر لفظ العودة في قول الراوي [عادت لصباها..]، وتحددت مدة التذكر في فترة الدراسة الأولي حتى الجامعة، ولم يكن استدعاء هذه المدة من الماضى إلا بفعل ما ألم بها نتيجة حادث الاصطدام، وقد أخذت هذه المدة مقاطع نصية ليست بالقليلة، زادت على الصفحتين، وكشفت بصراحة عن مواقف إنسانية في دقائق محدودة.
ويبدو أن الارتداد -هنا - قد أدي وظيفة بنيوية وأساسية في النص؛ حيث أبرز جزءاً مهما من حياة الشخصية في الماضى، وربط الإخبار عنه بنقطة الصفر التي كانت دافعا قوياً لاستقرائه؛ ولذا جاء الاستذكار لملئ الفجوات، بقراءة خصوصية الغائب عن دائرة الخطاب. وهذا يعني أنه [أبرز القيمة الدلالية الخاصة لبعض عناصر الحكاية.. وذكر بأحداث سابقة لتأويلها تأويلاً جديدًا حسب معطيات جديدة متأنية من الأحداث الواردة بعدها..](17)
وفي المجموعة القصصية (عودة العجوز إلي البحر) في قصة (فلما اعتلي الرجل الكوبري) تقول الأنا الساردة (هذه الحالة أعرفها تماماً عندما قضيت أسبوعًا كاملاً، مقيداً بالسرير بسبب إصابتي بالتهاب في حوض الكلي.. فلا أستيقظ إلا لحاجة.ثم أنام وأنام، تجرعت الأدوية غريبة المذاق، حتى قال الطبيب "اخرج وسيب السرير." (18)
ويبدو أن هذا الاستذكار،جاء كرد فعل طبيعي للحظة الحاضر المليئة بالوهن والاضطراب، والنوم العميق،والكسل تلك التى عرف مفرداتها فيما سبق، عندما قضى أسبوعًا كاملاً في المستشفى. ولم يذكر النص من محددات الارتداد إلاّ مدته التي حددها الأنا السارد بنفسه في أسبوع، وحجمه قصير جدًا؛ ولذا فسعته لا تزيد عن ثلاثة أسطر، يتم فيها تعرية موقف خاص جدًا بالشخصية.
والواضح من هذا التصور أن الدلالات في اللحظتين متساوية، ولم يكن ثمة تأويل جديد للمنتج النصي في الماضي.
وفي قصة (الذبابة الزرقاء) من المجموعة القصصية نفسها، يحاول الراوي أن يكشف عن اللحظة الغائبة في حياة الشخصية، بفعل الحالة النفسية المتردية التي أحاطت بها، يقول: (للمرة الأولي يتململ العجوز.يرمى نظرة ساكنة إلي إحدى ساقيه، وقد كسرت عنوة من غريم في مباراة شرسة.. لكن فريقه خرج منتصرًا فابتسم، هانت عليه جلسته المحفورة في كتلة أشعة الشمس، فحرك ذراعه الأيمن، وتحسس شفته وأسنانه الأمامية، وقد تحطمتا عمدًا من لكمة غريم لا يرحم.. لكن فريقه حصل على كأس المسابقة...)(19)
يستقرئ الراوي اللحظة الآنية المحيطة بشخصية العجوز التي كانت دافعاً قويا لإعادة لحظة الماضى، وقراءتها بشكل جديد، ولم تتحدد مؤشرات الارتداد إلاّ بشكل غير مباشر، مما فعّل دور المتلقي في استنتاجها من خلال البنية الكلية للنص، وتتمثل في السنوات التي كان فيها العجوز يمتلك شخصية قوية ومرموقة في مجال الرياضة. وأمّا السعة فهي تستوعب موقفا مهما من حياة العجوز، أخذ جزءًا محدودًا من صفحات القصة، ولم يشغل من زمن الكتابة إلاّ بعض الدقائق، لكنه أمد السرد بمعلومات مهمة عن شخصية العجوز. فسرت صبره على ما هو فيه.
والواضح من هذا التصور أن الدلالات المنتجة من لحظة الاستذكار إيجابية، ممّا أثر فيما بعدها من لحظات بشكل إيجابي - أيضًا-؛ ولذا كان تأويل الفعل القصصى في الماضي لقراءة الحاضر بشكل مغاير.
2- السرد الاستشرافي؛ ونقطة الصفر.
ونعني به عرض أحداث لاحقة لا يتصف معظمها باليقين وتمثل قطعا لزمن السرد الحاضر، وتتنافي هذه التقنية مع التشويق النصي الذي يفضله المتلقي المتفاعل مع النص.إذ يجب أن يكون ثمة نقط غامضة لا يكشفها إلاّ بنفسه حتي تمنحه قدرة على مواصلة القراءة، وهذه المفارقة بين تقنية الاستشراف وما تؤدي إليه، كانت دافعًا لمقولة جيرار جنيت:" إن الاهتمام بالتشويق السردي الخاص بتصور الرواية الكلاسي بمعناه العام...لا ينسجم كثيرًا مع هذه الممارسة.." (20).
وفي هذه الممارسة الزمنية أحيانا يستخدم الراوي " الصيغ الدالة على المستقبل، لكونه يسرد أحداثا لم تقع بعد، على أن هذه الصيغ تتغير وفقا لطريقة السارد / الراوي..."(21) ويرى (توماشفسكى) أن هذا النوع من السرد، (يمثل الحالة الأكثر ندرة فهي حالة Nachgeschichte أي سرد ما سيحدث لاحقا، والذي يدمج في الحكي قبل أن تقع الأحداث الممهدة لما سيأتي. ويكتسي أحيانا شكل حلم منبئ أو نبوءة، أو افتراضات صحيحة أو غير صحيحة بصدد المستقبل."(22)
ووظيفة هذا النوع من السرد تتمثل (في خلق حالة انتظار عند القارئ، لكن من الواجب ألا نخلط بين هذه الإنباءات التي لا ترد إلا بصفة صريحة، والنواتج، وهي معطيات لا يفهم معناها إلا فيما ترتبط بفن التمهيد القصصي..."(23)
في قصة(الفنار) من المجموعة القصصية (المغيب) يقول الاستشراف: [ سأنتظرك في العاشرة بمقهي الفنار قرب البحر.."(24)
والواضح أن هذا النص يرتبط بشخص غائب عن دائرة الخطاب في لحظته الآنية، وسيكشف عنه النص في نهاية الفعل القصصي؛ ولذا فلحظة الاستشراف، مداها الزمني قريب، لم يخرج عن دائرة النص، وتكشف - في الوقت نفسه- عن جزء مهم من حياة الشخصية الرئيس؛ يفسر واقعها النفسى،ويكتشف عن لحظات تطوره، وهذا ما جسده السارد في قوله نفس الموعد، يوم سفر أبيه الأخير..)(25)
والاستشراف قصير، وحيزه النصى لا يتعدى السطر الواحد وقد تحدد وقته في الساعة العاشرة مساءً، ومكانه مقهي الفنار قرب البحر، ومحدداته اللغوية تنحسر في عبارة (سأنتظرك).(فالسين) دالة على الاستقبال، بالإضافة إلي الفعل المضارع الذي يعطي نفس الدلالة.
وفي قصة (جاسر) من المجموعة نفسها، يجئ الاستشراف على هيئة نبوءة ستحدث مفرداتها في المستقبل؛ يقول النص: (وضعت الرسالة تحت الوسادة، تمددت مسترخيًا، فغفوت فقمت من نومي فزعًا.. انتفضت، كانت الغرفة مظلمة أشبه بالقبو، دموع غزيرة تسيل على وجنتي من هول ما رأيت.. عربة بيجو زرقاء، تسير في الضباب مسرعة... ركاب سبعة يغطون في نوم عميق، سائق يشبهني يتشبث بمقود السيارة، يحدق في الظلام والساتر الضبابي،يحاول الخروج من نفق مظلم !! صراخ واستغاثة وارتطام... أدخنة تتصاعد للسماء... رجال ونساء يعبرون الجسر، يحملون المشاعل المصابيح، يقتربون من مدخل النفق ؟!.."(26)
ويبدو أن الدافع النفسي إلي هذه النبوءة، لحظة الفعل السابق عليها، المتمثلة في الرسالة التي أبلغت الأنا السارد بتعينه في المستشفي، والواضح أن هذه النبوءة قد أوقفت زمن السرد، وزادت من زمن القصة واستقرأت لحظة المستقبل؛ حيث تم الالتحاق الفعلى بالوظيفة، وظهر للسارد كل المفردات التي رآها في منامه وهي؛ عربة بيجو زرقاء، وركاب سبعة يغطون في نوم عميق، والسائق الذي يشبهه، والساتر الضبابي، والصراخ، والاستغاثة، والارتطام، والأدخنة.
ويبدو أن زمن الاستشراف لا يتعدي ثلاثة أيام؛ ولذا فهو لم يتوغل في المستقبل البعيد، إذ إن شفراته قد فسرت بعد عرضه بأيام قلائل،ويتسم مكانه بالانفتاحية، والتشتت الذي يتوازى مع تشتت السارد، وسعته تتحدد في الدقائق القليلة التي نام فيها، ومن ثم أخذ مساحة نصيّة قصيرة لا تزيد - تقريباً- على الفقرة في القصة.
يلاحظ في هذا التصور أن الدافع، لم تتحدد هويته، فلم يقم دليل لفظى لدى المتلقي على سلبيته أو إيجابيته، والمنتج الدلالي في النبوءة كان سلبيًا أثر على سلوكيات الأنا، وهذا ما لمسته في نهاية القصة؛ حيث رأت فعليا نثريات الحلم، ودلالاته السيئة.
في قصة "آخر العنقود" من المجموعة القصصية (حضن المسك)، يقول الاستشراف:" فليحفظني الله حتي أشهد عرسها..."(27)
تأتي لحظة المستقبل على لسان الوالد الذي يتمني أن يحفظه الله حتي يشهد عرس ابنته. والواضح أن الاستشراف، يجسد لحظة الحاضر في حياة المتكلم، ولم تتحدد مدته؛ ولذا فهو يتوغل في المستقبل البعيد، أما سعته فلا تتعدى سطرًا واحدُا من القصة، وتحتل -تقريبا- دقيقة واحدة، أوقف بها القاص حركة السرد نهائيا، ليترك فرصة التأويل للمتلقي؛ لاستقراء البنية الغائبة عن دائرة الخطاب، ومن محدداته اللغوية استخدام الفعل المضارع الدال على الاستقبال كـ (أشهد - ويحفظ).
وفي القصة نفسها تقول الشخصية الساردة: "ولو كان حبيبي قادراً، لخطفني إلي بلاد بعيدة، عشبها زعفران، وترابها المسك، وأشجارها تطرح اللؤلؤ والمرجان والياقوت وطيورها خضر وبيض وزرق، وكأنها أفاقت من حلم.."(28)
في النص تطمح الشخصية إلي حياة فطرية، بعيدة عن جفاف الحاضر، لا تتحقق إلا في مدينة لها مواصفات خاصة، عشبها من الزعفران، وترابها من المسك، وأشجارها لا تطرح إلا اللؤلؤ والمرجان، والياقوت، وطيورها خضر، وبيض، وزرق، وتلك نظرة أقرب إلي المثال تهرب بصاحبتها من واقع متأزم مليء بالهموم، إلي عالم وهمي رحب، يتضمن رؤى جديدة، ومغايرة للحظة الحاضر.
ويتوغل الاستشراف في المستقبل البعيد الذي يستحيل تحققه إلاّ في عالم الخيال؛ ولذا فمدته التي يستغرقها ليست محددة، وأما سعته فهو قصير الحجم، لا يتعدى ثلاثة أسطر.
والواضح أن ثمة مفارقة بين لحظتين زمنيتين في الدلالة الإنسانية؛ لحظة الحاضر التي أصبحت ماضيا، والمستقبل الذي أصبح للمتكلم هو الحاضر الذي يطمح إلى الاستمرار فيه.