[center]
وكالة واتا للانباء » الأخبار » دراسات وبحوث
مقاربة تأويلية معرفية تداولية لقصة " خلود" للقاص أنيس الرافعي
بواسطة: admin
بتاريخ : الخميس 17-07-2008 08:53 مساء
[نسخة للطباعة] [أرسل الى صديق] [PDF انشاء ملف]
[ترجمة الموضوع]
إسماعيل البويحياوي/ ناقد أدبي من المغرب
النص المدروس :
خلود
أثقلت كاهله السنون المتعاقبة كالرياح التي تصهل عند مسقط رأسه وصيده فوق قمة الجبل، لكنه استطاع أن يعطي لنفسه عن نفسه انطباعا مغايرا:
( مازلت...) مازلت شابا ناصع سواد الفرو. (مازلت...) مازلت حاد البصر والبصيرة.(مازلت...) مازلت السيد المطلق لإخوتي في الرضاعة والمصير. (مازلت...) مازلت ناشر العواء الرهيب.(مازلت...) مازلت قادرا على الإحساس بنشوة انطلاق الروح أوان تمسك بالقلب الساخن لضحية.(مازلت...)
مازلت مهاب الجانب والأنياب من قبل جميع الكائنات التي تدب في القرب أوالبعد كما هو خليق بذئب براري لايرحم .
وبذات الانطباع الشاهق، وبكامل تراثه كقاتل محترف شاهد لتوه طريدة سانحة،عوى عاليا في سكون الليل البهيم واستعد للانقضاض،غير أن قلبه خانه.. توقف على حين غرة.
رغم ذلك ولردح طويل من الزمن،لم تجرؤ أية دابة على الدنو من منطقة نفوذه،كان هناك على ارتفاع عشرة آلاف متر يربض محنطا ومتجمدا من الصقيع.انطفأت أنفاسه إلى الأبد،لكنه ظل جليلا وراسخا،وكل عابر كان بمقدوره أن يرى البريق الأحمر المشع الذي ينبعث من عينيه المخيفتين!.
ـــــ
المصدر: أنيس الرافعي، ثقل الفراشة فوق سطح الجرس ، قصص مينيمالية ، الدار للنشر والتوزيع ، القاهرة ، ط1، ص64.
الدراسة:
سننطلق في مقارتنا التداولية المعرفية هذه من النظرية التداولية المعرفية الجديدة للتخييل كما تطرحها (أن روبول) (1) في العديد من مؤلفاتها ومقالاتها، انطلاقا من قناعتنا بجدواها في مقاربة التخييل السردي العربي عامة، والتخييل السردي العربي التجريبي خاصة كما يزاوله كوكبة من الكتاب ، ومنهم الكاتب المغربي أنيس الرافعي.
إن التصور الذي تنطلق منه (أن روبول) امتداد للنجاحات التي حققتها التداوليات المعرفية التأويلية.فما عرفته اللسانيات من تطور مع اللسانيات التوليدية امتدادا لما حققته علوم أخرى كفلسفة اللغة والتداوليات وعلم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي وغيرها من العلوم المعرفية، أدى إلى ظهور نموذج جديد في مقاربة التواصل وسيروراته وأدواته. وهو ما رافقه انفتاح لبعض الدارسين على الخطاب الأدبي بصفة عامة، والسردي منه بصفة خاصة، بتكييف المفاهيم والأدوات والتركيز على جوانب أهملتها السرديات البنيوية الشعرية وجعلتها المقاربة المعرفية التداولية التأويلية من أولوياتها. بل إن العديد من السرديين البنيويين انفتحوا على هذه المقاربة الجديدة بشكل أو بآخر كما لدى (جيرار جنيت) و(دوريت كوهين) وغيرهما.لقد استفادت المقاربة المعرفية التداولية التأويلية مما حققه(أوستين )و(سورل) و(كرايس) ونظرية الملاءمة كما قدمها الفرنسي ( دان سبربر) والإنجليزي ( ديدر ولسون) في كتابهما ( الملاءمة: التواصل والمعرفة) ، اللذان اهتما بالبحث في الإواليات والميكانيزمات الضمنية المضمرة في السيكولوجيا البشرية المفسرة لكيفية التواصل البشري معتمدين قانون التعاون ومبادئ الحوار لدى كرايس منطلقا للتحليل النظري لهذه الميكانيزمات المضمرة منتقدين الجانب الحدسي فيه مقترحين تبني مصطلحات ومفاهيم مستمدة من علم النفس المعرفي كالمحيط المعرفي وقالبية الذهن البشري/ أنساق الإدخال المحيطية والأنساق المركزية، والمعرفة المشتركة والمقصدية والنموذج الاستدلالي والفرضية بجميع أنواعها كإوليات لخلق سياق الفهم والتأويل. ومن اقتراحاتها الأساسية أن تحليل الشكل المنطقي(2) للتصور/ المفهوم يتم عبر مداخل ثلاثة تساعد القارئ على الفهم انطلاقا من تكوين فرضيات استباقية كخطوة أولى في مسار متشعب للوصل إلى الشكل الجملي القضوي (3)للتصور/ المفهوم.
سنقوم، خلال مقاربتنا لقصة خلود لأنيس الرافعي، بنقل هذه الفكرة إلى العنوان معتبرين أن الولوج إلى عالم النص التخييلي يجد منطلقه الأول في العنوان. العنوان إذن علامة لسانية/ اسم علم اختاره الكاتب لقصة من قصصه المسماة قصص مينيمالية.و يمكن تحليل هذا العنوان وفق المداخل الثلاثة لتكوين فرضية استباقية سردية لقراءة القصة وتأويلها انطلاقا من السياق الذي سنبنيه في مواكبة لسيرورة القصة. استفادت( أن روبول) من هذه الاقتراحات وقامت بدمجها في تصورها التداولي للتخييل الذي ترى فيه أن الخاصية المميزة لخطاب التخييل ليست لسانية خالصة، كما لدى أقطاب التيار الشعري البنيوي، ولكنها مجموعة متماسكة من الخصائص التداولية يمكن أن نوجزها كما يلي:
1/ عدم مطابقة التخييل للواقع على اعتبار أن التخييل لايتوفر على مرجع يحيل عليه في العالم الخارجي الواقعي.
2/ عدم التزام المؤلف/ المتحدث بصدق ما يقول، أي أنه، بعبارات كرايس، يخرق مبدأ الصدق أو النزاهة المميز للتواصل اليومي العادي. وهو اتفاق ضمني بين المؤلف والمتلقي/القارئ.
نعود إلى اقتراحها حول الكيانات التخييلية التي تعتبرها كيانات استعارية مركبة يمكن معالجتها انطلاقا من إواليات الفرضيات الاستباقية أو المصاحبة لسيرورة الخطاب التخييلي ومبدأ الملاءمة(4) الحجر الأساس في النظرية التداولية المعرفية للتخييل. ويمكن للمتلقي/ القارئ الولوج إلى الكيانات التخييلية وكشف مقصدية المؤلف من خلال تحليل الكيانات التخييلية عبر ثلاثة مداخل:
1- المدخل المنطقي: وهو يحتوي على معلومات من طبيعة منطقية. وهي القواعد الاستنتاجية التي تنطبق على الأشكال المنطقية بصفة عامة . أي مجموعة من القواعد الاستنتاجية التي تصف، على شكل خطاطة، مدخلا متشكلا في مقدمة أو مقدمتين ثم مخرجا في شكل نتيجة أو خلاصة (5)كقواعد الحذف و الوصل والفصل والشرط وغيرها (6) وبالنسبة للعنوان فهو تصور/ كلمة/ اسم علم يدخل في علاقة احتواء أو تماثل أو تضاد مع طرف آخر. وفي هذه القصة المكون خلود مناقض لمفاهيم الزوال والاندثار والفناء. ويتضمن مجموعة من المفاهيم والأفعال كالتضحية والمعاناة والخير والبر والإحسان والصراع مع الشر وكل ما يدخل ضمن سيناريو الخلود بصفة عامة.
2- المدخل المعجمي: و يحتوي معلومات حول العبارة اللسانية لهذا التصور أي المركب أو الكلمة الذي يعبر به/ بها عن التصور في اللغة. وهي معطيات معجمية تضم معلومات صوتية وتركيبية كما في المداخل المعجمية للنحو التوليدي. ويمكن اعتبار هذا المصطلح مشابها للتركيب اللغوي الصوتي المعجمي الدلالي في الاتجاه البنيوي إن صح القول.
وبالنسبة لقصة ( خلود) فإن العودة إلى المعاجم العربية القديمة تنعش الذاكرة اللغوية للكلمة ( خلود) من جهة وتساعد القارئ على تكوين فرضية استباقية يدخل بها عالم هذه القصةالمينيمالية. فالمعاجم العربية القديمة تدلنا على أن الخلد: دوام البقاء في دار لا يخرج منها.و خلد يخلد خلدا وخلودا: بقي وأقام. ودار الخلد: الآخرة لبقاء أهلها فيها.
وخلًده الله وأخلده تخليدا، وقد أخلده الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم، وأهل الجنة خالدون مخلدون آخر الأبد. وقد أخلد الله أهل الجنة إخلادا، وقوله تعالى” أيحسب أن ماله أخلده ” أي يعمل عمل من لايظن مع يساره أنه يموت، والخلد اسم من أسماء الجهة. وفي التهذيب: من أسماء الجنان. وخلد بالمكان يخلد خلودا، وأخلد أقام. والمخلد من الرجال: الذي أسن ولم يشب كأنه مخلد لذلك، وخلد يخلد خلدا وخلودا: أبطأ به الشيب كأنما خلق ليخلد. التهذيب: ويقال للرجل إذا بقي سواد رأسه ولحيته على الكبر: إنه لمخلد، ويقال للرجل إذا لم تسقط أسنانه من الهرم: إنه لمخلد(7). مع العلم أن خلود أيضا اسم علم مؤنث.
ومن الناحية النحوية فالعنوان:خلود: مركب اسمي. اسم مفرد نكرة مصدر خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو.
3- المدخل الموسوعي: و يحتوي على معلومات حول المصادق أو الدلالة التقريرية للتصور كالمواضيع والأحداث وخاصيات أخرى داخلة تحت هذا التصور. وقد أنجزت دراسات حول نظام الإخبار التصوري للذاكرة البشرية ووضعت عدة نماذج تهدف إلى إضاءة بنية المداخل والعلاقات القائمة بين مختلف أنماط الفرضيات المحتواة في المداخل والعلاقات بين المداخل نفسها. من هذه النماذج الخطاطة والإطار والسيناريو والسكر يبت وغيرها. هذه الفرضيات والاستباقات الخطاطية مخزنة في الذاكرة يعاد تشغيلها إما كفرضيات وقائعية ( أوكخطاطات للفرضيات يمكنها أن تتحول إلى فرضيات أخرى مستقلة بذاتها (9).
إذا عدنا إلى عنوان هذه القصة فإننا نجده يستدعي المخزون المعرفي الديني/ التاريخي/ السياسي إلى ذاكرة القارئ. وهنا يحضر إلى الذهن مفهوم الخلود الذي يتبادر إلى ذهن كل عربي مسلم وهو، أولا وقبل كل شيء، الخلود في الجنة والتمتع بخيراتها ونعيمها يوم القيامة خلافا للكفار والمشركين الذين يخلدون في النار. ويحفل القرآن الكريم بقصص رسل و أنبياء و صالحين سيخلدون في الجنة جزاء لهم على تفانيهم وإخلاصهم من أجل تبليغ الرسالة السماوية . وفي مقابل ذلك يحضر إلى الذهن قصص من الثقافات الإنسانية المتعددة دينية وغير دينية حول سلوكات شاذة لطغاة ومتجبرين توهموا الخلود وتوسلوا إليه من طريق أخرى غير سالكة إلى الخلود الحقيقي. وقد تحدث القرآن الكريم عن أقوام توهموا الخلود وتجبروا وعاثوا في الأرض والعباد فسادا. وما خلدوا وما ظلوا فوق الزمان والمكان كما خيل لهم. ونتذكر فرعون ونتذكر عادا وثمودا وغيرهم. وهناك أنواع أخرى من الخلود، هي أقل قيمة من الأولى، لكن لها أهميتها في التاريخ والذاكرة البشرية كخلود الذكر بالبناء والتشييد الفكري واختراع النظريات العلمية والفلسفية والمدارس الأدبية ،أو خلود الذكر عن طريق بناء وتشييد المدن والممالك والدول أو الخلود بواسطة الكشوفات الجغرافية وغيرها مما يدخل في هذا الباب.
انطلاقا من كل المعطيات السابقة تتولد لدى القارئ فرضية استباقية أولى بسيطة مشوشة شيئا ما تخامر الذهن، وفحواها أن الخلود قيمة ثمينة تتطلب فعلا عظيما هو أساسا من طبيعة دينية يضمن لصاحبه ثواب الخلود في الجنة . وقد يكون من طبيعة دنيوية يضمن لصاحبه خلود الذكر في الدنيا و يسجل حضوره في الزمان والمكان لدى الأمم السابق واللاحقة. وبذلك يتم ولوج عالم هذه القصة بأفق انتظار يتشوف إلى الأفعال العظيمة الخيرة والصراع مع قوى الشر المعاكسة وانتصار قوى الخير والثواب. وقد يتعلق الأمر باسم علم مؤنث يمكن أن يفتح باب المماثلة بين الاسم وسلوكات الشخصية ويمكن أن يفتح باب المفارقة والسخرية بين الاسم وأفعال صاحبته. بكل هذه التشوفات يدخل القارئ عالم (خلود) القصصي التخييل
وكالة واتا للانباء » الأخبار » دراسات وبحوث
مقاربة تأويلية معرفية تداولية لقصة " خلود" للقاص أنيس الرافعي
بواسطة: admin
بتاريخ : الخميس 17-07-2008 08:53 مساء
[نسخة للطباعة] [أرسل الى صديق] [PDF انشاء ملف]
[ترجمة الموضوع]
إسماعيل البويحياوي/ ناقد أدبي من المغرب
النص المدروس :
خلود
أثقلت كاهله السنون المتعاقبة كالرياح التي تصهل عند مسقط رأسه وصيده فوق قمة الجبل، لكنه استطاع أن يعطي لنفسه عن نفسه انطباعا مغايرا:
( مازلت...) مازلت شابا ناصع سواد الفرو. (مازلت...) مازلت حاد البصر والبصيرة.(مازلت...) مازلت السيد المطلق لإخوتي في الرضاعة والمصير. (مازلت...) مازلت ناشر العواء الرهيب.(مازلت...) مازلت قادرا على الإحساس بنشوة انطلاق الروح أوان تمسك بالقلب الساخن لضحية.(مازلت...)
مازلت مهاب الجانب والأنياب من قبل جميع الكائنات التي تدب في القرب أوالبعد كما هو خليق بذئب براري لايرحم .
وبذات الانطباع الشاهق، وبكامل تراثه كقاتل محترف شاهد لتوه طريدة سانحة،عوى عاليا في سكون الليل البهيم واستعد للانقضاض،غير أن قلبه خانه.. توقف على حين غرة.
رغم ذلك ولردح طويل من الزمن،لم تجرؤ أية دابة على الدنو من منطقة نفوذه،كان هناك على ارتفاع عشرة آلاف متر يربض محنطا ومتجمدا من الصقيع.انطفأت أنفاسه إلى الأبد،لكنه ظل جليلا وراسخا،وكل عابر كان بمقدوره أن يرى البريق الأحمر المشع الذي ينبعث من عينيه المخيفتين!.
ـــــ
المصدر: أنيس الرافعي، ثقل الفراشة فوق سطح الجرس ، قصص مينيمالية ، الدار للنشر والتوزيع ، القاهرة ، ط1، ص64.
الدراسة:
سننطلق في مقارتنا التداولية المعرفية هذه من النظرية التداولية المعرفية الجديدة للتخييل كما تطرحها (أن روبول) (1) في العديد من مؤلفاتها ومقالاتها، انطلاقا من قناعتنا بجدواها في مقاربة التخييل السردي العربي عامة، والتخييل السردي العربي التجريبي خاصة كما يزاوله كوكبة من الكتاب ، ومنهم الكاتب المغربي أنيس الرافعي.
إن التصور الذي تنطلق منه (أن روبول) امتداد للنجاحات التي حققتها التداوليات المعرفية التأويلية.فما عرفته اللسانيات من تطور مع اللسانيات التوليدية امتدادا لما حققته علوم أخرى كفلسفة اللغة والتداوليات وعلم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي وغيرها من العلوم المعرفية، أدى إلى ظهور نموذج جديد في مقاربة التواصل وسيروراته وأدواته. وهو ما رافقه انفتاح لبعض الدارسين على الخطاب الأدبي بصفة عامة، والسردي منه بصفة خاصة، بتكييف المفاهيم والأدوات والتركيز على جوانب أهملتها السرديات البنيوية الشعرية وجعلتها المقاربة المعرفية التداولية التأويلية من أولوياتها. بل إن العديد من السرديين البنيويين انفتحوا على هذه المقاربة الجديدة بشكل أو بآخر كما لدى (جيرار جنيت) و(دوريت كوهين) وغيرهما.لقد استفادت المقاربة المعرفية التداولية التأويلية مما حققه(أوستين )و(سورل) و(كرايس) ونظرية الملاءمة كما قدمها الفرنسي ( دان سبربر) والإنجليزي ( ديدر ولسون) في كتابهما ( الملاءمة: التواصل والمعرفة) ، اللذان اهتما بالبحث في الإواليات والميكانيزمات الضمنية المضمرة في السيكولوجيا البشرية المفسرة لكيفية التواصل البشري معتمدين قانون التعاون ومبادئ الحوار لدى كرايس منطلقا للتحليل النظري لهذه الميكانيزمات المضمرة منتقدين الجانب الحدسي فيه مقترحين تبني مصطلحات ومفاهيم مستمدة من علم النفس المعرفي كالمحيط المعرفي وقالبية الذهن البشري/ أنساق الإدخال المحيطية والأنساق المركزية، والمعرفة المشتركة والمقصدية والنموذج الاستدلالي والفرضية بجميع أنواعها كإوليات لخلق سياق الفهم والتأويل. ومن اقتراحاتها الأساسية أن تحليل الشكل المنطقي(2) للتصور/ المفهوم يتم عبر مداخل ثلاثة تساعد القارئ على الفهم انطلاقا من تكوين فرضيات استباقية كخطوة أولى في مسار متشعب للوصل إلى الشكل الجملي القضوي (3)للتصور/ المفهوم.
سنقوم، خلال مقاربتنا لقصة خلود لأنيس الرافعي، بنقل هذه الفكرة إلى العنوان معتبرين أن الولوج إلى عالم النص التخييلي يجد منطلقه الأول في العنوان. العنوان إذن علامة لسانية/ اسم علم اختاره الكاتب لقصة من قصصه المسماة قصص مينيمالية.و يمكن تحليل هذا العنوان وفق المداخل الثلاثة لتكوين فرضية استباقية سردية لقراءة القصة وتأويلها انطلاقا من السياق الذي سنبنيه في مواكبة لسيرورة القصة. استفادت( أن روبول) من هذه الاقتراحات وقامت بدمجها في تصورها التداولي للتخييل الذي ترى فيه أن الخاصية المميزة لخطاب التخييل ليست لسانية خالصة، كما لدى أقطاب التيار الشعري البنيوي، ولكنها مجموعة متماسكة من الخصائص التداولية يمكن أن نوجزها كما يلي:
1/ عدم مطابقة التخييل للواقع على اعتبار أن التخييل لايتوفر على مرجع يحيل عليه في العالم الخارجي الواقعي.
2/ عدم التزام المؤلف/ المتحدث بصدق ما يقول، أي أنه، بعبارات كرايس، يخرق مبدأ الصدق أو النزاهة المميز للتواصل اليومي العادي. وهو اتفاق ضمني بين المؤلف والمتلقي/القارئ.
نعود إلى اقتراحها حول الكيانات التخييلية التي تعتبرها كيانات استعارية مركبة يمكن معالجتها انطلاقا من إواليات الفرضيات الاستباقية أو المصاحبة لسيرورة الخطاب التخييلي ومبدأ الملاءمة(4) الحجر الأساس في النظرية التداولية المعرفية للتخييل. ويمكن للمتلقي/ القارئ الولوج إلى الكيانات التخييلية وكشف مقصدية المؤلف من خلال تحليل الكيانات التخييلية عبر ثلاثة مداخل:
1- المدخل المنطقي: وهو يحتوي على معلومات من طبيعة منطقية. وهي القواعد الاستنتاجية التي تنطبق على الأشكال المنطقية بصفة عامة . أي مجموعة من القواعد الاستنتاجية التي تصف، على شكل خطاطة، مدخلا متشكلا في مقدمة أو مقدمتين ثم مخرجا في شكل نتيجة أو خلاصة (5)كقواعد الحذف و الوصل والفصل والشرط وغيرها (6) وبالنسبة للعنوان فهو تصور/ كلمة/ اسم علم يدخل في علاقة احتواء أو تماثل أو تضاد مع طرف آخر. وفي هذه القصة المكون خلود مناقض لمفاهيم الزوال والاندثار والفناء. ويتضمن مجموعة من المفاهيم والأفعال كالتضحية والمعاناة والخير والبر والإحسان والصراع مع الشر وكل ما يدخل ضمن سيناريو الخلود بصفة عامة.
2- المدخل المعجمي: و يحتوي معلومات حول العبارة اللسانية لهذا التصور أي المركب أو الكلمة الذي يعبر به/ بها عن التصور في اللغة. وهي معطيات معجمية تضم معلومات صوتية وتركيبية كما في المداخل المعجمية للنحو التوليدي. ويمكن اعتبار هذا المصطلح مشابها للتركيب اللغوي الصوتي المعجمي الدلالي في الاتجاه البنيوي إن صح القول.
وبالنسبة لقصة ( خلود) فإن العودة إلى المعاجم العربية القديمة تنعش الذاكرة اللغوية للكلمة ( خلود) من جهة وتساعد القارئ على تكوين فرضية استباقية يدخل بها عالم هذه القصةالمينيمالية. فالمعاجم العربية القديمة تدلنا على أن الخلد: دوام البقاء في دار لا يخرج منها.و خلد يخلد خلدا وخلودا: بقي وأقام. ودار الخلد: الآخرة لبقاء أهلها فيها.
وخلًده الله وأخلده تخليدا، وقد أخلده الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم، وأهل الجنة خالدون مخلدون آخر الأبد. وقد أخلد الله أهل الجنة إخلادا، وقوله تعالى” أيحسب أن ماله أخلده ” أي يعمل عمل من لايظن مع يساره أنه يموت، والخلد اسم من أسماء الجهة. وفي التهذيب: من أسماء الجنان. وخلد بالمكان يخلد خلودا، وأخلد أقام. والمخلد من الرجال: الذي أسن ولم يشب كأنه مخلد لذلك، وخلد يخلد خلدا وخلودا: أبطأ به الشيب كأنما خلق ليخلد. التهذيب: ويقال للرجل إذا بقي سواد رأسه ولحيته على الكبر: إنه لمخلد، ويقال للرجل إذا لم تسقط أسنانه من الهرم: إنه لمخلد(7). مع العلم أن خلود أيضا اسم علم مؤنث.
ومن الناحية النحوية فالعنوان:خلود: مركب اسمي. اسم مفرد نكرة مصدر خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو.
3- المدخل الموسوعي: و يحتوي على معلومات حول المصادق أو الدلالة التقريرية للتصور كالمواضيع والأحداث وخاصيات أخرى داخلة تحت هذا التصور. وقد أنجزت دراسات حول نظام الإخبار التصوري للذاكرة البشرية ووضعت عدة نماذج تهدف إلى إضاءة بنية المداخل والعلاقات القائمة بين مختلف أنماط الفرضيات المحتواة في المداخل والعلاقات بين المداخل نفسها. من هذه النماذج الخطاطة والإطار والسيناريو والسكر يبت وغيرها. هذه الفرضيات والاستباقات الخطاطية مخزنة في الذاكرة يعاد تشغيلها إما كفرضيات وقائعية ( أوكخطاطات للفرضيات يمكنها أن تتحول إلى فرضيات أخرى مستقلة بذاتها (9).
إذا عدنا إلى عنوان هذه القصة فإننا نجده يستدعي المخزون المعرفي الديني/ التاريخي/ السياسي إلى ذاكرة القارئ. وهنا يحضر إلى الذهن مفهوم الخلود الذي يتبادر إلى ذهن كل عربي مسلم وهو، أولا وقبل كل شيء، الخلود في الجنة والتمتع بخيراتها ونعيمها يوم القيامة خلافا للكفار والمشركين الذين يخلدون في النار. ويحفل القرآن الكريم بقصص رسل و أنبياء و صالحين سيخلدون في الجنة جزاء لهم على تفانيهم وإخلاصهم من أجل تبليغ الرسالة السماوية . وفي مقابل ذلك يحضر إلى الذهن قصص من الثقافات الإنسانية المتعددة دينية وغير دينية حول سلوكات شاذة لطغاة ومتجبرين توهموا الخلود وتوسلوا إليه من طريق أخرى غير سالكة إلى الخلود الحقيقي. وقد تحدث القرآن الكريم عن أقوام توهموا الخلود وتجبروا وعاثوا في الأرض والعباد فسادا. وما خلدوا وما ظلوا فوق الزمان والمكان كما خيل لهم. ونتذكر فرعون ونتذكر عادا وثمودا وغيرهم. وهناك أنواع أخرى من الخلود، هي أقل قيمة من الأولى، لكن لها أهميتها في التاريخ والذاكرة البشرية كخلود الذكر بالبناء والتشييد الفكري واختراع النظريات العلمية والفلسفية والمدارس الأدبية ،أو خلود الذكر عن طريق بناء وتشييد المدن والممالك والدول أو الخلود بواسطة الكشوفات الجغرافية وغيرها مما يدخل في هذا الباب.
انطلاقا من كل المعطيات السابقة تتولد لدى القارئ فرضية استباقية أولى بسيطة مشوشة شيئا ما تخامر الذهن، وفحواها أن الخلود قيمة ثمينة تتطلب فعلا عظيما هو أساسا من طبيعة دينية يضمن لصاحبه ثواب الخلود في الجنة . وقد يكون من طبيعة دنيوية يضمن لصاحبه خلود الذكر في الدنيا و يسجل حضوره في الزمان والمكان لدى الأمم السابق واللاحقة. وبذلك يتم ولوج عالم هذه القصة بأفق انتظار يتشوف إلى الأفعال العظيمة الخيرة والصراع مع قوى الشر المعاكسة وانتصار قوى الخير والثواب. وقد يتعلق الأمر باسم علم مؤنث يمكن أن يفتح باب المماثلة بين الاسم وسلوكات الشخصية ويمكن أن يفتح باب المفارقة والسخرية بين الاسم وأفعال صاحبته. بكل هذه التشوفات يدخل القارئ عالم (خلود) القصصي التخييل