التناص التراثي في شعر أحمد العواضي (ملخص رسالتي للماجستير)
اشتغلَ هذا البحثُ في الدراسةِ على ثلاثِ مجموعاتٍ شعريةٍ للشاعرِ أحمدَ ضيف الله العواضي، وهي على التوالي "إنّ بيْ رغبةً للبكاءِ، ومقاماتُ الدهشةِ، وقصائدُ قصيرةٌ"، وقدْ صدرَتْ في فتراتٍ متلاحقةٍ ثم أُعيدَ جمعُها في كتابٍ واحدٍ أُطلِقَ عليْهِ ديوانُ أحمدَ ضيفِ اللهِ العواضي.. ويأتيْ هذا الديوانُ لافتاً للنظرِ في بنياتِه سيميائيا ولغويَّا، ويأتي انفتاحُهُ على التراثِ من بينِ أبرزِ خصائصِهِ الفنيةِ اللافتَةِ وهو ما جَعَلَهُ يستجيبُ لمقولةِ التناصِّ الذي يُعَدُّ إجراءً يظْهرُ مكوناتِ الخطابِ الإبداعي، ويظهرُ النصوصَ السابقةَ المتمفصلةَ فيهِ، وتجلياتِها بشكلٍ دقيقٍ، وبالرغمِ منْ أنَّهُ ظلَّ مصطلحاً نظرياً فضفاضاً منذُ استمدَتْهُ "جوليا كرستيفا من أفكارِ الناقدِ الروسي "ميخائيل باختين" ومن أتى من بعدِ "كرستيفا" فقد قنَنَهُ الباحثُ الفرنسيُّ "جيرار جينيت، ووضعَ لَهُ خصائِصَهُ، وحددَ آلياتِه، واعتبرَهُ عنصراً من عناصرِ المتعالياتِ النصيةِ التي تحددُ شعريةَ العملِ الإبداعيِّ، فعدَّ ذلكَ حافزاً ودافعاً محورياً للباحثِ في اتخاذِ هذا الإجراءِ أداةً لمقاربتِهِ واستكناهِ شعريتِهِ، منطلقاً من جملةٍ من التساؤلاتِ الجوهريَّةِ التي يأتي من بينِ أهمها:
كيفَ تناصَّ المتنُ معَ التراثِ، كيفَ وظفَهُ، وماذا وظفَ منْهُ، وماذا أضافَ إليهِ؟ هل استطاعَ بهذا التوظيفِ أنْ يستثمرَ ما فيهِ من مدَّخراتٍ وجدانيةٍ وفكريةٍ؟، كيفَ يتجلى هذا التناصُّ في عتبةِ العنونةِ، وكيفَ تتعالقُ فيما بينها، ومع المتنِ؟، ومن ثمَّ كيف يتشكلُ هذا التناصُّ داخلَ المتنِ، وكيفَ يتحركُ فيه؟ وبمَ يتميزُ عن غيرِهِ من المتونِ التي تناصَّتْ مع التراثِ؟ وما دلالةُ هذا التناصِ، وما أبعادُهُ الجماليةُ؟ وما الغايةُ منْهُ؟؟.
وقد اعتمَدَ البحثُ المنهجَ السيميائيَّ الذي يسعى إلى تحليلِ شكلِ المعنى، في أنساقِ المتنِ الإبداعيِّ، واكتفى منها بأفكارِ جريماس؛ لدقةِ مفاهيمِها، وابتغاءِ استكناهِ شعريةِ التناصِ وجمالياتِ تمفصلاتِهِ في المتنِ وكيفياتِها، وقدْ أخذَ البحثُ منهُ ما يتواءَمُ معَ الخطابِ الشعريِّ من جهةٍ ومع غايةِ البحثِ من جهةٍ أخرى.
ولا يزعمُ البحثُ أنَّهُ قد أحاطَ بكلِّ المظاهرِ التناصِّيَّةِ، التي يضجُّ بها المتنُ، كالتناصِ معَ "الأماكنِ التاريخيةِ"، و"الأحلامِ والرؤى الصوفيةِ"… وغيرِها، وإنما لامسَ منها ما اقتضتْهُ الغايةُ المتوخَّاةُ منهُ من جهةٍ، وما يكوِّنُ مدخلاً لدراسةِ ما تبقى من جهةٍ ثانية، لعلَّ الفرصةَ تسنحُ لتفحصِهِ في مستقبلِ الأيامِ، وقد اكتفى بالتناصِ مع التراثِ، واكتفى منهُ بالتراثِ القرآني، والشعري القديمِ، وكذا توظيفِ الشخصياتِ التراثيةِ، معتمداً على دمجِ النظريةِ والتطبيقِ معاً دونَ فصلٍ بينهُما؛ لأنَّ الفصلَ بينهما غيرُ مجدٍ.
ومن ثمَّ فقدِ اختارَ نماذجَ محددةٍ من المتنِ تهيمنُ هذه الظاهرةُ عليها، وتفحَّصَها كثيراً حتى رأى أنَّها تدلُ على بقيةِ المتنِ، أو تمثِّلُهُ، ولا تغني -بالرغمِ من ذلك- عنهُ تماماً، ولا يعني ذلكَ أنَّ انتقاءَ نماذجَ محددةٍ تجاهلٌ لبقيةِ المتنِ، أو تقليلٌ من جمالياتِهِ، وقيمتِهِ، لكنَّ غايةَ البحثِ وطبيعتَهُ لم تستوعبا الكلَّ، التزاماً بالمنهجيةِ التي يقومُ عليها.
وقدِ انقسمَ البحثُ إلى أربعةِ فصولٍ فضلا عن المقدمة والخاتمة.
تناولََ الفصلُ الأولُ منها التناصَ التراثيَّ في بنيةِ العنونةِ، مبتدئاً بمبحثٍ يتناولُ ماهيةَ العنونةِ ووظائفَها وأنماطَها، مبيناً أنَّها جزءٌ من المتنِ، وليسَتْ نصوصاً موازيةً له كالعتباتِ الأخرى المتمثلةِ في الإهداءاتِ والمقدماتِ، ومن ثمَّ تحدَّثَ المبحثُ الثانيُّ عنِ التناصِ التراثيِّ في العناوينِ الخارجيةِ متناولاً عنوانَ المجموعةِ الأولى والثانيةِ؛ لأنَّهما يتناصانِ مع التراثِ على نحوٍ بيَّنٍ، إذْ يتناصُّ الأولُ مع معلقةِ امرئِ القيسِ، ويتناصُّ الثانيُّ معَ اللغةِ الصوفيةِ، ومن ثمَّ يبينُ كيفيةَ تناصهما مع المتنِ اللاحقِ ومعَ العناوينِ الداخليةِ، وقدْ أهملَ البحثُ العنوانَ الثالثَ لأنَّهُ لا يتناصُ معَ التراثِ.. أمَّا المبحثُ الثالثُ فقدْ تناولَ التناصَ التراثيَ فيْ العناوينِ الداخليةِ متخذاً نموذجينِ اثنينِ يغنيانِ عن البقيةِ، العنوانُ الأولُ هو "مواقيتٌ لأحزانِ سبأٍ" والعنوانُ الثانيُّ "قبرُ مالكٍ بنِ الرَّيبِ"، متوصلاً في الأخيرِ إلى أنَّ العناوينَ إنما هي عتباتٌ قدْ تشي بدلالاتِ المتونِ، وتعطي المتلقيَ صورةً استباقيَّةً عنها، وهذا ليسَ قانوناً قاراً وإنما يختلفُ من نصٍ إلى آخرَ..
أما الفصلُ الثانيُّ فقدْ تناولَ التناصَّ مع القرآنِ الكريمِ مبيناً ماهيتَهُ وحوافزَهُ الروحيةَ والأيديولوجيةَ والفكريةَ، وقد انقسمَ إلى ثلاثةِ مباحثٍ، تناولَ أولُها التناصَ الاقتباسيَّ، مبيناً فيهِ ماهيةَ الاقتباسِ الذي يمثلُ في أدقِ حالاتِهِ تكرارَ وحدةٍ خطابيةٍ من خطابٍ في خطابٍ آخرَ، ومن ثمَّ مبيناً كيفَ اقتبسَ النصُ من القرآنِ الكريمِ، وماذا اقتبسَ منهُ تحديداً، فوجدَ البحثُ أنَّهُ قد اعتمدَ على نصوصٍ تحملُ أبعاداً ذاتَ محمولاتِ نصرٍ أو هزائمَ، أو ذاتَ أبعادٍ متحولةٍ من نصرٍ إلى هزائمَ والعكس، ومن ثمَّ فقد تناولَ المبحثُ الثانيُّ التناصَ الإحاليَّ، الذي يمثلُ دمجَ مفردةٍ أو جزءٍ من الملفوظِ القرآنيِّ وإخفاءِ بقيةِ الدوالِّ، ولكنَّ قيمةَ الملفوظِ تبقى متمفصلَةً فيما وراءَ هذهِ الدوالِّ المستدعاةِ فقط؛ لأنَّ وجودَ دالٍّ بالضرورةِ يستدعي معهُ سياقَهُ وبقيةَ الدوالّ المأخوذ منها، سيما إذا كانَ هذا الملفوظُ معروفاً وقاراً في الذاكرةِ القرائيةِ كما هو الحالُ مع الكثيرِ من دوالِّ القرآنِ الكريمِ التي تناصَ معها النصُّ قيدَ الدراسةِ، أما المبحثُ الثالثُ فقد تناولَ التناصَّ الإيحائيَ الذي يأتيَ أكثرَ تكثيفاً وتخفياً في المتنِ من حيثُ إنه يعمدُ إلى إزاحةِ كلِّ الدوالِّ والإبقاءِ على مدلولاتِها متخفيةً وراءَ ملفوظاتٍ أخرى تحيلُ بالضرورةِ إليها، ولا يتأتَّى ذلكَ إلاَّ بعدَ تأملٍ وتفحصٍ دقيقينِ..
أما الفصلُ الثالثُ فقد تناولَ التناصَّ معَ الشعرِ العربيِّ القديمِ، مبيناً ماهيتَهُ وكيفياتِه وآلياتِه، وقد انقسمَ إلى ثلاثةِ مباحثٍ أولُها التناصُّ الاقتباسيُّ، الذي بواسطته يقتبسُ المتنُ مجموعةً من النصوصِ الشعريةِ فيسخرُ من دلالاتِها، ويحولُها ليبنيَ على أنقاضِها دلالاتٍ مغايرةً تنسجمُ مع الرؤيةِ العامةِ التي يتغيَّاها المتنُ ولكنَّهُ لا يسخرُ من النصوصِ لذاتِها وفي ذاتِها وإنَّما يسخرُ من أفعالِها التي تمتدُ إلى زمنٍ غيرِ زمانِها، ومن ثمَّ فقد جاءَ المبحثُ الثانيُّ متناولاً التناصَّ الإحاليَّ الذي أتى موظِّفاً لمجموعةٍ من نصوصِ امرئِ القيسِ وطرفةَ بن العبدِ وغيرهِما والمحيلةِ إلى الاغترابِ والحزنِ وضياعِ موضوعاتِ القيمةِ، مستبدلاً مجموعةً من الحوافزِ والعواملِ التي قامَتْ عليْها النصوصُ السابقةُ.. ومعالجاً قضايا قوميةً وإنسانيةً كبرى، أما التناصُّ الإيحائيُّ فإنَّهُ لا يبتعدُ كثيراً عن تناولِ مجموعةٍ من القضايا الوطنيةٍ والإنسانيةٍ الكبرى أيضاً، فيبرِزُ مجموعةً من القضايا المتهافتةِ، ويدعوَ إلى رفضِها أو يجسدِ قضايا خلاقةً ويدعوَ إلى التمسكِ بها…
بينما تناولَ الفصلُ الرابعُ التناصَّ مع الشخصياتِ التراثيةِ مبيناً ماهيتَهُ وأنواعَهُ وأقسامَهُ، وقد جاءَتِ الشخصياتُ التراثيةُ في المتنِ على ثلاثةِ أنواعٍ أولُها رمزٌ جزئيٌ من نصٍ، وثانيها رمزُ كليٌّ منه، وثالثُها قناعٌ محوريٌّ فيهِ، وقد جاءَ هذا الفصلُ موزعاً في ثلاثةِ مباحثٍ، تناولَ الأول منها الشخصيةَ التراثيةَ جزءاً من نصٍ مبيناً في بدايتِه ماهيةَ الرمزِ ومن ثمَّ تناولَ نماذجَ من الرموزِ المتناثرةِ في نصوصٍ شتَّى، منها ما هو قرآنيٌّ كشخصيتي أيوبَ وموسى عليهما السلامُ، ومنها ما هو شعريٌّ كشخصيتي عنترةَ وحبيبتِهِ عبلةَ مبيناً أنَّ هذهِ الرموزَ قد تأتي على شكلِ اقتباسٍ ظاهرٍ أو إحالةٍ، أو إيحاءٍ متخفٍّ وراءَ ملفوظاتٍ مكثفةٍ، أمَّا المبحثُ الثاني فقدْ تناولَ الشخصيةَ رمزاً كليَّاً في نصٍّ مبيناً أنَّ الشخصيةَ تأتي في هذا النوعِ رمزاً مهيمناً على كلِّ دقائقِ النصِّ، متمفصلاً فيهِ منذُ بنيةِ العنوانِ إلى جملتيِهِ الافتتاحيةِ والاختتاميةِ، كما جاءَ في نصِ "باتجاهِ السمحِ بنِ مالكٍ الخولاني" الذي تمتدُ فيهِ شخصيةُ الفاتحِ اليمنيِّ منذُ عنوانِهِ وحتى آخرَ دالٍّ فيهِ، أمَّا المبحثُ الثالثُ فقد تناولَ الشخصيةَ قناعاً محورياً في نصٍ، مبيناً في بدايتِهِ ماهيةَ القناعِ وأنَّهُ شخصيةٌ تراثيةٌ أو معاصرةً يتكئُ عليها النصُ، وينهضُ على سماتِها التاريخيةِ والدلاليةِ، مضيفاً إليها أو مهذباً فيها ومعدلاً؛ لتتواءمَ معَ تجربتِهِ هوَ كما جاءَ في نصِ "خماسياتِ الملكِ الضليلِ" الذي هيمنَ على كلِ مفاصلِ النصِّ، وتمفصلَ فيهِ منذُ عنوانِهِ وحتى آخرَ ملفوظاتِهِ…
وقدْ توصَّلَ البحثُ في الأخيرِ إلى جملةٍ من النتائجِ يأتي من بينِ أهمِها:
- إن التناصَّ يمثلُ أحدَ جمالياتِ متنِ العواضي، وأحدَ لبناتِه الفنيَّةِ والفكريةِ والبنائيةِ.
- إن العنونةَ جزءٌ من النصوصِ وليسَتْ نصوصاً موازيةً لها. وهي بانفتاحِها على التراثِ تعطيَ المتلقيَّ صورةً استباقيةً عنِ المتنِ وتجعلُ القارئَ يتوقعُ ما سيأتيَ من تراثٍ، وبذلكَ ينشدُّ إلى البحثِ عنْ جمالياتِ هذا التراثِ، في حركةٍ بندوليةٍ من العنوانِ إلى النصِ، والعكس، متخذاً كلاً منهما آلةً لتفكيكِ الآخرِ وقراءتِه.
- يمثلُ القرآنُ الكريمُ أحدَ مرجعياتِ متنِ العواضي، وأحدَ سماتِه الشعريَّةِ، وأحدَ مفاتيحِهِ القرائيَّةِ. وقد أتى التناصُّ معه وفقاً للاقتباسِ والإحالةِ والإيحاءِ. وجاءَ الاقتباسُ منه متعلقاً بالمدينةِ التاريخيةِ صنعاءَ ليثبتَ عدمَ سقوطِها برغمِ ما مرَّتْ به من حروبٍ وكوارثَ بالفعلِ وبالقوةِ.
- ولم تأتِ الإحالةُ إليهِ بشكلٍ سكونيٍّ بل عملَتْ على إعادةِ خلخلةِ المرجعيةِ، وإدماجِها في المتنِ، وإفراغِها من حمولاتِها الدلاليةِ القارةِ فيها، وتحميلِها محمولاتٍ دلاليةٍ مغايرةٍ لها.. منتزعةٍ من الواقعِ ومتوائمةٍ مع الدلالةِ الكليةِ التي يتغيَّاها المتنُ.
- أما الإيحاءُ فإنَّهُ يعمدُ إلى خلخلةِ المرجعيةِ وتخريبِ معمارِها وتذويبِهِ حتى يصبحُ جزءاً متخفياً تركيبياً وراءَ النصوصِ، وقد جاءَتْ معظمُ الإيحاءاتِ متعلقةً بانهيارِ حضارةِ سبأٍ والآياتِ الدالةِ عليها.
- ومن ثمَّ فقد جاءَ تناصُّ المتنِ معَ الشعرِ العربيِّ القديمِ لأنَّهُ يحتوي على تجاربِ إنسانيةٍ وفنيةٍ متعددةٍ، ولمْ يتناصْ معه لغرضِ الاستعاضةِ عن الحاضرِ بالماضي، وإنما بهدفِ إضفاءِ الأصالةِ على نصوصهِ. وقد تناصَ معهُ عن طريقِ الاقتباسِ والإحالةِ والإيحاءِ.
- وكانَ انفتاحَه عليهِ انفتاحاً فيه رفضٌ ومساءلةٌ، ونفيٌ للموجودِ الراهنِ بغيةِ تأسيسِ واقعٍ مغايرٍ يرفضُ الأنماطَ المستهلكةَ القابعةَ في التراثِ.
- وهو حينما يستحضرُ التيماتِ القارةَ في الشعرِ العربيِّ القديمِ يسخرُ من معظمِها، وينفي هالةَ القداسةِ المحيطةِ بها، ولا يسخرُ منها في ذاتها ولذاتِها، وإنما يسخرُ ممن لا يزالون يؤمنون بما فيها من قيمٍ قارةٍ عفا عليها الزمنُ وينبغي تجاوزُها بشكلٍ أو بآخرَ.
- أما التناصُ مع الشخصياتِ التراثيةِ فإنهُ يأتي تجسيداً لمفهومٍ مفادَهُ إنَّ النصوصَ لم تعدْ هي المادةُ المرجعيةُ للنصوصِ فحسب، وإنما أصبحَتْ إحدى تلكَ المرجعياتِ.
- وقد جاءَتِ الشخصياتُ التراثيةُ على أشكالٍ متعددةٍ أبرزُها أنَّها جاءَتْ على شكلِ رمزٍ جزئيٍّ من نصٍ أو رمزٍ كليٍّ أو قناعٍ محوريٍّ.
اشتغلَ هذا البحثُ في الدراسةِ على ثلاثِ مجموعاتٍ شعريةٍ للشاعرِ أحمدَ ضيف الله العواضي، وهي على التوالي "إنّ بيْ رغبةً للبكاءِ، ومقاماتُ الدهشةِ، وقصائدُ قصيرةٌ"، وقدْ صدرَتْ في فتراتٍ متلاحقةٍ ثم أُعيدَ جمعُها في كتابٍ واحدٍ أُطلِقَ عليْهِ ديوانُ أحمدَ ضيفِ اللهِ العواضي.. ويأتيْ هذا الديوانُ لافتاً للنظرِ في بنياتِه سيميائيا ولغويَّا، ويأتي انفتاحُهُ على التراثِ من بينِ أبرزِ خصائصِهِ الفنيةِ اللافتَةِ وهو ما جَعَلَهُ يستجيبُ لمقولةِ التناصِّ الذي يُعَدُّ إجراءً يظْهرُ مكوناتِ الخطابِ الإبداعي، ويظهرُ النصوصَ السابقةَ المتمفصلةَ فيهِ، وتجلياتِها بشكلٍ دقيقٍ، وبالرغمِ منْ أنَّهُ ظلَّ مصطلحاً نظرياً فضفاضاً منذُ استمدَتْهُ "جوليا كرستيفا من أفكارِ الناقدِ الروسي "ميخائيل باختين" ومن أتى من بعدِ "كرستيفا" فقد قنَنَهُ الباحثُ الفرنسيُّ "جيرار جينيت، ووضعَ لَهُ خصائِصَهُ، وحددَ آلياتِه، واعتبرَهُ عنصراً من عناصرِ المتعالياتِ النصيةِ التي تحددُ شعريةَ العملِ الإبداعيِّ، فعدَّ ذلكَ حافزاً ودافعاً محورياً للباحثِ في اتخاذِ هذا الإجراءِ أداةً لمقاربتِهِ واستكناهِ شعريتِهِ، منطلقاً من جملةٍ من التساؤلاتِ الجوهريَّةِ التي يأتي من بينِ أهمها:
كيفَ تناصَّ المتنُ معَ التراثِ، كيفَ وظفَهُ، وماذا وظفَ منْهُ، وماذا أضافَ إليهِ؟ هل استطاعَ بهذا التوظيفِ أنْ يستثمرَ ما فيهِ من مدَّخراتٍ وجدانيةٍ وفكريةٍ؟، كيفَ يتجلى هذا التناصُّ في عتبةِ العنونةِ، وكيفَ تتعالقُ فيما بينها، ومع المتنِ؟، ومن ثمَّ كيف يتشكلُ هذا التناصُّ داخلَ المتنِ، وكيفَ يتحركُ فيه؟ وبمَ يتميزُ عن غيرِهِ من المتونِ التي تناصَّتْ مع التراثِ؟ وما دلالةُ هذا التناصِ، وما أبعادُهُ الجماليةُ؟ وما الغايةُ منْهُ؟؟.
وقد اعتمَدَ البحثُ المنهجَ السيميائيَّ الذي يسعى إلى تحليلِ شكلِ المعنى، في أنساقِ المتنِ الإبداعيِّ، واكتفى منها بأفكارِ جريماس؛ لدقةِ مفاهيمِها، وابتغاءِ استكناهِ شعريةِ التناصِ وجمالياتِ تمفصلاتِهِ في المتنِ وكيفياتِها، وقدْ أخذَ البحثُ منهُ ما يتواءَمُ معَ الخطابِ الشعريِّ من جهةٍ ومع غايةِ البحثِ من جهةٍ أخرى.
ولا يزعمُ البحثُ أنَّهُ قد أحاطَ بكلِّ المظاهرِ التناصِّيَّةِ، التي يضجُّ بها المتنُ، كالتناصِ معَ "الأماكنِ التاريخيةِ"، و"الأحلامِ والرؤى الصوفيةِ"… وغيرِها، وإنما لامسَ منها ما اقتضتْهُ الغايةُ المتوخَّاةُ منهُ من جهةٍ، وما يكوِّنُ مدخلاً لدراسةِ ما تبقى من جهةٍ ثانية، لعلَّ الفرصةَ تسنحُ لتفحصِهِ في مستقبلِ الأيامِ، وقد اكتفى بالتناصِ مع التراثِ، واكتفى منهُ بالتراثِ القرآني، والشعري القديمِ، وكذا توظيفِ الشخصياتِ التراثيةِ، معتمداً على دمجِ النظريةِ والتطبيقِ معاً دونَ فصلٍ بينهُما؛ لأنَّ الفصلَ بينهما غيرُ مجدٍ.
ومن ثمَّ فقدِ اختارَ نماذجَ محددةٍ من المتنِ تهيمنُ هذه الظاهرةُ عليها، وتفحَّصَها كثيراً حتى رأى أنَّها تدلُ على بقيةِ المتنِ، أو تمثِّلُهُ، ولا تغني -بالرغمِ من ذلك- عنهُ تماماً، ولا يعني ذلكَ أنَّ انتقاءَ نماذجَ محددةٍ تجاهلٌ لبقيةِ المتنِ، أو تقليلٌ من جمالياتِهِ، وقيمتِهِ، لكنَّ غايةَ البحثِ وطبيعتَهُ لم تستوعبا الكلَّ، التزاماً بالمنهجيةِ التي يقومُ عليها.
وقدِ انقسمَ البحثُ إلى أربعةِ فصولٍ فضلا عن المقدمة والخاتمة.
تناولََ الفصلُ الأولُ منها التناصَ التراثيَّ في بنيةِ العنونةِ، مبتدئاً بمبحثٍ يتناولُ ماهيةَ العنونةِ ووظائفَها وأنماطَها، مبيناً أنَّها جزءٌ من المتنِ، وليسَتْ نصوصاً موازيةً له كالعتباتِ الأخرى المتمثلةِ في الإهداءاتِ والمقدماتِ، ومن ثمَّ تحدَّثَ المبحثُ الثانيُّ عنِ التناصِ التراثيِّ في العناوينِ الخارجيةِ متناولاً عنوانَ المجموعةِ الأولى والثانيةِ؛ لأنَّهما يتناصانِ مع التراثِ على نحوٍ بيَّنٍ، إذْ يتناصُّ الأولُ مع معلقةِ امرئِ القيسِ، ويتناصُّ الثانيُّ معَ اللغةِ الصوفيةِ، ومن ثمَّ يبينُ كيفيةَ تناصهما مع المتنِ اللاحقِ ومعَ العناوينِ الداخليةِ، وقدْ أهملَ البحثُ العنوانَ الثالثَ لأنَّهُ لا يتناصُ معَ التراثِ.. أمَّا المبحثُ الثالثُ فقدْ تناولَ التناصَ التراثيَ فيْ العناوينِ الداخليةِ متخذاً نموذجينِ اثنينِ يغنيانِ عن البقيةِ، العنوانُ الأولُ هو "مواقيتٌ لأحزانِ سبأٍ" والعنوانُ الثانيُّ "قبرُ مالكٍ بنِ الرَّيبِ"، متوصلاً في الأخيرِ إلى أنَّ العناوينَ إنما هي عتباتٌ قدْ تشي بدلالاتِ المتونِ، وتعطي المتلقيَ صورةً استباقيَّةً عنها، وهذا ليسَ قانوناً قاراً وإنما يختلفُ من نصٍ إلى آخرَ..
أما الفصلُ الثانيُّ فقدْ تناولَ التناصَّ مع القرآنِ الكريمِ مبيناً ماهيتَهُ وحوافزَهُ الروحيةَ والأيديولوجيةَ والفكريةَ، وقد انقسمَ إلى ثلاثةِ مباحثٍ، تناولَ أولُها التناصَ الاقتباسيَّ، مبيناً فيهِ ماهيةَ الاقتباسِ الذي يمثلُ في أدقِ حالاتِهِ تكرارَ وحدةٍ خطابيةٍ من خطابٍ في خطابٍ آخرَ، ومن ثمَّ مبيناً كيفَ اقتبسَ النصُ من القرآنِ الكريمِ، وماذا اقتبسَ منهُ تحديداً، فوجدَ البحثُ أنَّهُ قد اعتمدَ على نصوصٍ تحملُ أبعاداً ذاتَ محمولاتِ نصرٍ أو هزائمَ، أو ذاتَ أبعادٍ متحولةٍ من نصرٍ إلى هزائمَ والعكس، ومن ثمَّ فقد تناولَ المبحثُ الثانيُّ التناصَ الإحاليَّ، الذي يمثلُ دمجَ مفردةٍ أو جزءٍ من الملفوظِ القرآنيِّ وإخفاءِ بقيةِ الدوالِّ، ولكنَّ قيمةَ الملفوظِ تبقى متمفصلَةً فيما وراءَ هذهِ الدوالِّ المستدعاةِ فقط؛ لأنَّ وجودَ دالٍّ بالضرورةِ يستدعي معهُ سياقَهُ وبقيةَ الدوالّ المأخوذ منها، سيما إذا كانَ هذا الملفوظُ معروفاً وقاراً في الذاكرةِ القرائيةِ كما هو الحالُ مع الكثيرِ من دوالِّ القرآنِ الكريمِ التي تناصَ معها النصُّ قيدَ الدراسةِ، أما المبحثُ الثالثُ فقد تناولَ التناصَّ الإيحائيَ الذي يأتيَ أكثرَ تكثيفاً وتخفياً في المتنِ من حيثُ إنه يعمدُ إلى إزاحةِ كلِّ الدوالِّ والإبقاءِ على مدلولاتِها متخفيةً وراءَ ملفوظاتٍ أخرى تحيلُ بالضرورةِ إليها، ولا يتأتَّى ذلكَ إلاَّ بعدَ تأملٍ وتفحصٍ دقيقينِ..
أما الفصلُ الثالثُ فقد تناولَ التناصَّ معَ الشعرِ العربيِّ القديمِ، مبيناً ماهيتَهُ وكيفياتِه وآلياتِه، وقد انقسمَ إلى ثلاثةِ مباحثٍ أولُها التناصُّ الاقتباسيُّ، الذي بواسطته يقتبسُ المتنُ مجموعةً من النصوصِ الشعريةِ فيسخرُ من دلالاتِها، ويحولُها ليبنيَ على أنقاضِها دلالاتٍ مغايرةً تنسجمُ مع الرؤيةِ العامةِ التي يتغيَّاها المتنُ ولكنَّهُ لا يسخرُ من النصوصِ لذاتِها وفي ذاتِها وإنَّما يسخرُ من أفعالِها التي تمتدُ إلى زمنٍ غيرِ زمانِها، ومن ثمَّ فقد جاءَ المبحثُ الثانيُّ متناولاً التناصَّ الإحاليَّ الذي أتى موظِّفاً لمجموعةٍ من نصوصِ امرئِ القيسِ وطرفةَ بن العبدِ وغيرهِما والمحيلةِ إلى الاغترابِ والحزنِ وضياعِ موضوعاتِ القيمةِ، مستبدلاً مجموعةً من الحوافزِ والعواملِ التي قامَتْ عليْها النصوصُ السابقةُ.. ومعالجاً قضايا قوميةً وإنسانيةً كبرى، أما التناصُّ الإيحائيُّ فإنَّهُ لا يبتعدُ كثيراً عن تناولِ مجموعةٍ من القضايا الوطنيةٍ والإنسانيةٍ الكبرى أيضاً، فيبرِزُ مجموعةً من القضايا المتهافتةِ، ويدعوَ إلى رفضِها أو يجسدِ قضايا خلاقةً ويدعوَ إلى التمسكِ بها…
بينما تناولَ الفصلُ الرابعُ التناصَّ مع الشخصياتِ التراثيةِ مبيناً ماهيتَهُ وأنواعَهُ وأقسامَهُ، وقد جاءَتِ الشخصياتُ التراثيةُ في المتنِ على ثلاثةِ أنواعٍ أولُها رمزٌ جزئيٌ من نصٍ، وثانيها رمزُ كليٌّ منه، وثالثُها قناعٌ محوريٌّ فيهِ، وقد جاءَ هذا الفصلُ موزعاً في ثلاثةِ مباحثٍ، تناولَ الأول منها الشخصيةَ التراثيةَ جزءاً من نصٍ مبيناً في بدايتِه ماهيةَ الرمزِ ومن ثمَّ تناولَ نماذجَ من الرموزِ المتناثرةِ في نصوصٍ شتَّى، منها ما هو قرآنيٌّ كشخصيتي أيوبَ وموسى عليهما السلامُ، ومنها ما هو شعريٌّ كشخصيتي عنترةَ وحبيبتِهِ عبلةَ مبيناً أنَّ هذهِ الرموزَ قد تأتي على شكلِ اقتباسٍ ظاهرٍ أو إحالةٍ، أو إيحاءٍ متخفٍّ وراءَ ملفوظاتٍ مكثفةٍ، أمَّا المبحثُ الثاني فقدْ تناولَ الشخصيةَ رمزاً كليَّاً في نصٍّ مبيناً أنَّ الشخصيةَ تأتي في هذا النوعِ رمزاً مهيمناً على كلِّ دقائقِ النصِّ، متمفصلاً فيهِ منذُ بنيةِ العنوانِ إلى جملتيِهِ الافتتاحيةِ والاختتاميةِ، كما جاءَ في نصِ "باتجاهِ السمحِ بنِ مالكٍ الخولاني" الذي تمتدُ فيهِ شخصيةُ الفاتحِ اليمنيِّ منذُ عنوانِهِ وحتى آخرَ دالٍّ فيهِ، أمَّا المبحثُ الثالثُ فقد تناولَ الشخصيةَ قناعاً محورياً في نصٍ، مبيناً في بدايتِهِ ماهيةَ القناعِ وأنَّهُ شخصيةٌ تراثيةٌ أو معاصرةً يتكئُ عليها النصُ، وينهضُ على سماتِها التاريخيةِ والدلاليةِ، مضيفاً إليها أو مهذباً فيها ومعدلاً؛ لتتواءمَ معَ تجربتِهِ هوَ كما جاءَ في نصِ "خماسياتِ الملكِ الضليلِ" الذي هيمنَ على كلِ مفاصلِ النصِّ، وتمفصلَ فيهِ منذُ عنوانِهِ وحتى آخرَ ملفوظاتِهِ…
وقدْ توصَّلَ البحثُ في الأخيرِ إلى جملةٍ من النتائجِ يأتي من بينِ أهمِها:
- إن التناصَّ يمثلُ أحدَ جمالياتِ متنِ العواضي، وأحدَ لبناتِه الفنيَّةِ والفكريةِ والبنائيةِ.
- إن العنونةَ جزءٌ من النصوصِ وليسَتْ نصوصاً موازيةً لها. وهي بانفتاحِها على التراثِ تعطيَ المتلقيَّ صورةً استباقيةً عنِ المتنِ وتجعلُ القارئَ يتوقعُ ما سيأتيَ من تراثٍ، وبذلكَ ينشدُّ إلى البحثِ عنْ جمالياتِ هذا التراثِ، في حركةٍ بندوليةٍ من العنوانِ إلى النصِ، والعكس، متخذاً كلاً منهما آلةً لتفكيكِ الآخرِ وقراءتِه.
- يمثلُ القرآنُ الكريمُ أحدَ مرجعياتِ متنِ العواضي، وأحدَ سماتِه الشعريَّةِ، وأحدَ مفاتيحِهِ القرائيَّةِ. وقد أتى التناصُّ معه وفقاً للاقتباسِ والإحالةِ والإيحاءِ. وجاءَ الاقتباسُ منه متعلقاً بالمدينةِ التاريخيةِ صنعاءَ ليثبتَ عدمَ سقوطِها برغمِ ما مرَّتْ به من حروبٍ وكوارثَ بالفعلِ وبالقوةِ.
- ولم تأتِ الإحالةُ إليهِ بشكلٍ سكونيٍّ بل عملَتْ على إعادةِ خلخلةِ المرجعيةِ، وإدماجِها في المتنِ، وإفراغِها من حمولاتِها الدلاليةِ القارةِ فيها، وتحميلِها محمولاتٍ دلاليةٍ مغايرةٍ لها.. منتزعةٍ من الواقعِ ومتوائمةٍ مع الدلالةِ الكليةِ التي يتغيَّاها المتنُ.
- أما الإيحاءُ فإنَّهُ يعمدُ إلى خلخلةِ المرجعيةِ وتخريبِ معمارِها وتذويبِهِ حتى يصبحُ جزءاً متخفياً تركيبياً وراءَ النصوصِ، وقد جاءَتْ معظمُ الإيحاءاتِ متعلقةً بانهيارِ حضارةِ سبأٍ والآياتِ الدالةِ عليها.
- ومن ثمَّ فقد جاءَ تناصُّ المتنِ معَ الشعرِ العربيِّ القديمِ لأنَّهُ يحتوي على تجاربِ إنسانيةٍ وفنيةٍ متعددةٍ، ولمْ يتناصْ معه لغرضِ الاستعاضةِ عن الحاضرِ بالماضي، وإنما بهدفِ إضفاءِ الأصالةِ على نصوصهِ. وقد تناصَ معهُ عن طريقِ الاقتباسِ والإحالةِ والإيحاءِ.
- وكانَ انفتاحَه عليهِ انفتاحاً فيه رفضٌ ومساءلةٌ، ونفيٌ للموجودِ الراهنِ بغيةِ تأسيسِ واقعٍ مغايرٍ يرفضُ الأنماطَ المستهلكةَ القابعةَ في التراثِ.
- وهو حينما يستحضرُ التيماتِ القارةَ في الشعرِ العربيِّ القديمِ يسخرُ من معظمِها، وينفي هالةَ القداسةِ المحيطةِ بها، ولا يسخرُ منها في ذاتها ولذاتِها، وإنما يسخرُ ممن لا يزالون يؤمنون بما فيها من قيمٍ قارةٍ عفا عليها الزمنُ وينبغي تجاوزُها بشكلٍ أو بآخرَ.
- أما التناصُ مع الشخصياتِ التراثيةِ فإنهُ يأتي تجسيداً لمفهومٍ مفادَهُ إنَّ النصوصَ لم تعدْ هي المادةُ المرجعيةُ للنصوصِ فحسب، وإنما أصبحَتْ إحدى تلكَ المرجعياتِ.
- وقد جاءَتِ الشخصياتُ التراثيةُ على أشكالٍ متعددةٍ أبرزُها أنَّها جاءَتْ على شكلِ رمزٍ جزئيٍّ من نصٍ أو رمزٍ كليٍّ أو قناعٍ محوريٍّ.