منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    التأويل في السياق المعرفي الغربي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    التأويل في السياق المعرفي الغربي Empty التأويل في السياق المعرفي الغربي

    مُساهمة   الأحد ديسمبر 26, 2010 1:33 pm

    [center]السيرورة التأويلية للعلامة اللغوية
    السيميوزيس Semiosis
    د.عيد بلبع
    ـ تشارلز ساندرز بيرس Charles Sanders Peirce ( 1839 – 1914)
    لقد جاء فى نص تعريف بيرس للسميوطيقا قوله : " إننى من أوائل بل من المؤسسين فى عملية بدء وتوضيح ما أسميه سميوطيقا ، وهى الدستور والقانون للطبيعة الأساسية والتنوعات الرئيسية للسيميوزيس Semiosis الممكنة " ، ثم أوضح ما يعنيه بالسميوزيس بقوله : " وأعنى بالسميوزيس الحدث أو التأثير ، الذى هو ، أو الذى يتضمن ، تعاوناً بين ثلاثة موضوعات مثل : العلامة Sign وموضوعهاObject ومؤولها Interpretant ( المقصود هنا المؤول غير البشرى ، أو المفسرة ) ، وهذا التأثير ثلاثى العلاقة لا يمكن أن يوجد بحال من الأحوال فى تفاعل بين طرفين فقط . " ، وبذلك يتضح أن نظرية العلامة Representamen عند بيرس تقوم على بناء ثلاثى يتحدد فى :
    ـ العلامة Sign : اللغوية أو غير اللغوية .
    ـ والموضوع Object : الذى تحيل إليه هذه العلامة .
    ـ والمؤول ( المفسرة ) Interpretant : الذى تتم من خلاله إحالة العلامة إلى الموضوع فى عملية أطلق عليها بيرس السيميوزيس .
    ولقد شاب هذه المصطلحات قدر غير قليل من تضارب الرؤى فى تحديد مفاهيمها فى بعض المعالجات العربية ، وهذا يرجع بالطبع إلى تباين السياق الثقافى والمعرفى الذى نشأت فيه النظرية عن السياق الثقافى والمعرفى العربى ، بالإضافة إلى قضية الترجمة وما ينتج عنها من تأثير فى اضطراب العقل فى فهم هذه القضايا المتشابكة المركبة المعقدة فى آن واحد ، وهذا يدفعنا هنا إلى محاولة تحديد المفاهيم الاصطلاحية .
    أما العلامة Representamen فقد ترجمتها فريال غزول بالعلامة أو المصورة ، فى ترجمتها لتعريف بيرس : " العلامة أو المصورة هى شىء ما ينوب لشخص ما عن شىء ما ، من وجهة ما وبصفة ما " ، وقد حدد بيرس وظيفة هذا الفرع فى : " البحث فيما يجعل المصورة التى يستخدمها كل فكر علمى قادرة على تجسيد معنى ما " ، وقد عرف سعيد بنكراد العلامة Representamen بكلمة " الماثول " مشيراً إلى أنها تحيل إلى موضوع عبر مؤول ، ومن ثم فالعلامة بهذا هى نقطة الانطلاق فى عملية السميوزيس التأويلية .
    وأما الموضوع Object فقد ترجمته فريال غزول بكلمة : " الموضوعة " فى قول بيرس : " إن العلامة تنوب عن شىء ما وهذا الشىء هو موضوعتها Object ، وهى لا تنوب عن تلك الموضوعة من كل الوجهات بل تنوب عنها بالرجوع إلى نوع من الفكرة التى سميتها سابقاً ركيزة Ground المصورة " ، وقد جعلها بيرس الفرع الثانى من علم السميوطيقا وعرفها بالمنطق الصرف ، " وهو علم يبحث فى حقائق شبه ضرورية عن مصورات الفكر العلمى التى تجعلها تصلح لموضوعة ( موضوع ) أى تصح لها ، وبعبارة أخرى : فالمنطق الصرف هو العلم الشكلى لشروط صحة التصوير " أى لشروط إحالة العلامة إلى موضوع بعينه .
    وأما مفهوم المفسرة أو المؤول غير البشرى Interpretant فينبنى عند بيرس على أن العلامة : " توجه لشخص ما ، بمعنى أنها تخلق فى عقل ذلك الشخص علامة معادلة ، أو ربما علامة أكثر تطوراً ، وهذه العلامة التى تخلقها أسميها مفسرة ( وهى ما نعنى بالمؤول غير البشرى ) للعلامة الأولى . "
    ويمكن فهم فكرة العلامة والموضوع عند بيرس ـ بشكل ما ـ فى ضوء فكرة سوسير عن الدال والمدلول ، وإن كان الموضوع عند بيرس يأخذ أبعاداً تتجاوز الحدود الضيقة التى رسمها سوسير للدال والمدلول ، أما أهم الخطوط الفاصلة بين سميولوجيا سوسير وسميوطيقا بيرس ، وهى ـ فى الوقت نفسه ـ من أهم إضافات بيرس لفكرة السيميوطيقا ، فتتحدد فى شيئين :
    1 ـ السيميوزيس Semiosis
    2 ـ المفسرة ( المؤول غير البشرى ) Interpretant
    وسنتعرض لهذين المفهومين عند بيرث هنا ؛ لتكتمل الرؤية وإن كنا سنضطر إلى أن نعرض بعض ما يتعلق بهذه المفاهيم فى الفصل التالى فى الحديث عن التداولية والدلالة ، وسنضطر فى الوقت نفسه إلى تكرار بعض المقولات لربط هذه الأفكار ؛ لأن هاتين الفكرتين هما اللتان مهدتا لفكرة التداولية فى البناء الثلاثى للسميوطيقا عند موريس ، ومن ثم فهما بحق يمثلان الجذر الأساس الذى انبنت عليه فكرة التداولية ، وينبغى أن ننبه أيضاً إلى أن فهم أىٍ من المصطلحين يرتبط بفهم الآخر ، ومن هنا ننبه إلى ترتيب الحديث عنهما هنا اضطرارى ، وذلك لشدة تعلق أحدهما بالآخر .
    السميوزيس Semiosis
    لقد نص بيرس على ما يعنيه بالسميوزيس فى قوله الذى أشرنا إليه آنفاً : " وأعنى بالسميوزيس الحدث أو التأثير ، الذى هو ، أو الذى يتضمن ، تعاوناً بين ثلاثة موضوعات مثل : العلامة Sign وموضوعهاObject ومؤولها Interpretant ."
    وبذلك يتضح أن ( تشارلز ساندرس بيرس Charles Sanders Peirce 1842 ـ 1914م ) كان أول من أدخل مفهوم السميوزيس Semiosis إلى ميدان السميوطيقا ضمن مفهوم المفسرة ، وهى تعنى نظام التدليل ، أى أن إنتاج الدلالات يمر عبر مفسرات فى سيرورة تشتغل من خلالها العلامة ، غير أن العلامة هنا غير منتهية الدلالة ، فالدلالة المنتجة عبر مفسرة هى علامة بالنسبة للمفسرة التالية ، وهكذا يكون استمرار هذه السيرورة بشكل لا يقف عند حد ، ومن ثم تكون النظرة إلى التجربة التأويلية باعتبار لانهائيتها فى المطلق الكونى ، ويفرق بيرس بين موضوعين للعلامة : الموضوع المباشر والموضوع الديناميكى ، وتتعلق بالموضوع الديناميكى السيرورة السميوزيسية التى لا تقف عند حد عند المؤول الديناميكى .

    ولم يكن فى الفقرات التى ترجمتها فريال غزول إشارة صريحة إلى مصطلح السيميوزيس بيد أنه جاء فى الفقرات التى ترجمتها ما يدل على مفهوم السميوزيس ، " فهى توجه لشخص ما ، بمعنى أنها تخلق فى عقل ذلك الشخص علامة معادلة ، أو ربما علامة أكثر تطوراً ، وهذه العلامة التى تخلقها أسميها مفسرة ( وهى ما نعنى بالمؤول غير البشرى ) للعلامة الأولى " ، فربما يحمل قصد بيرس بالعلامة المعادلة ، أو العلامة الأكثر تطوراً عملية السيرورة التى تتم عبر المفسرات ( المؤولات غير البشرية ) والمؤولين ( البشريين ) معاً .
    وقد ترجم محمد مفتاح مصطلح الـ Semiosis بالدالة التوليدية فى قوله : " إن التحويل شرط ضرورى فى نمو السيميائيات البرسية ، وهناك أنواع من التحويلات ؛ تحويل ميتافيزيقى ينتقل فيه المحوَّل من العماء إلى الكيفية فالتفرد فالقانون ، هناك تحويل لسانى يتم عبر التعميم أو التخصيص ، أو الشرح : المفردة تؤول المفردة ، والجملة تؤول الجملة والنص يؤول النص وهكذا دواليك ، وهناك مؤول إنسانى يفسر ويؤول ويحاكى : يتعامل مع المفردة أو الجملة أو النص : اللغة توليد لا نهائى ، إنها السميوسيس (الدالة التوليدية) كما هى فى الرياضيات ."
    وبذلك يتضح أن السميوزيس هى جوهر نظرية السميوطيقا عند بيرس فهى العلاقة الرابطة بين الفروع الثلاثة لعلم السميوطيقا ، وقد كان لغياب مصطلح السميوزيس فى الفقرات التى ترجمتها فريال غزول أثره الذى لا يُنكر فى غياب هذا البعد الجوهرى الحيوى عند بعض الدارسين الذين مثلت لهم الصفحات الست التى ترجمتها فريال غزول لبيرس المرجع الوحيد عن سميوطيقا بيرس ، على الرغم من تنبيهها فى مستهل الترجمة على أنها ترجمت بعض فقرات فقط من مجلد واحد ضمن ستة مجلدات ضمت أعمال بيرس .
    المفسرة Interpretant
    أما المفسرة فهى الحد الثالث داخل البناء الثلاثى للعلامة فى تصور بيرس ، فالعلامة دال يحيل إلى مدلول عبر مفسرات ، " وتشكل المؤولة أداة التوسط الإلزامى التى تقود معطيات التجربة الصافية إلى التزيِّى بزى القانون والضرورة والفكر ، إن غياب العنصر الثالث داخل سيرورة إنتاج العلامة معناه الاقتصار على تجربة غفل لا تعرف الفكر ولا تعرف الماضى ولا المستقبل ، إنها مثيرات لحظية تنتهى بانتهاء اللحظة التى أنتجتها ."
    وقد أولى بيرس المفسرة اهتماماً خاصاً يلائم دورها فى عملية التأويل ، إذ ذهب إلى تقسيم المفسرات إلى ثلاثة أنواع : " هناك فى المقام الأول المؤول المباشر الذى يكتفى بتقديم المعلومات الأولية الخاصة بموضوع ما (معنى الواقعة أو العلامة ) ، وهناك المؤول الديناميكى الذى يخرج بالعلامة من دائرة التعيين البسيط إلى التأويل بمفهومه الشامل ، فهذا المؤول لا يكتفى بما تقدمه العلامة فى مظهرها المباشر بل يمتح عناصر تأويله من المحيط المباشر وغير المباشر للعلامة ، ويرى بيرس أن هذه القوة الهائلة التى يطلق عنانها هذا المؤول يجب أن تتوقف في لحظة ما لكى تستقر الذات المؤولة على دلالة ما ، إن هذه الوظيفة التحجيمية يتكفل بها مؤول ثالث يطلق عليه المؤول المنطقى النهائى . " ، وإذا كان ذكر المؤول الديناميكى يُذكِّر بالمدلول ( الموضوع ) الديناميكى عنده أيضاً ، فإن ثم اختلاف بين الأمرين ، فالمدلول ( الموضوع ) الديناميكى يتوقف عند حدود تاريخ العلامة الدلالى والثقافى أو ما يطلق عليه بأنه نبش فى ذاكرة العلامة ، أما المؤول الديناميكى فهو غير متوقف عند حد ، ومن ثم يكون التأويل الديناميكى غير متوقف عند حد أيضاً .
    وعبر هذه المفسرات تكون العلامة شيئاً تفيد معرفته معرفة شىء آخر ، وهذه السلسلة من المعانى المضافة ـ على حد قول إكو ـ تدل على أن الانتقال من مؤول إلى أخر يكسب العلامة تحديدات أكثر اتساعا سواء كان ذلك على مستوى التقرير أو على مستوى الإيحاء ، إن التأويل ، باعتبار موقعه داخل نسيج السميوزيس اللامتناهية ، يقترب أكثر فأكثر من المؤول النهائى المنطقى ، فالسيرورة التأويلية تنتهى ، فى مرحلة ما ، إلى إنتاج معرفة خاصة بمضمون الماثول ( العلامة ) أرقى من تلك التى شكلت نقطة انطلاق هذه السيرورة ، ويشير إكو إلى أنه " لا ينكر أن بيرس فكر أيضاً فى المفسرة ، وهى الشىء ( الذى كان علامة أخرى تترجم وتفسر الأولى ، وهكذا إلى ما لا نهاية ) بوصفه حدثاً نفسياً داخل عقل المؤول ( الإنسان ) Interpreter الممكن أو المحتمل ، إننى فقط أؤكد على أنه من الممكن تأويل تعريف بيرس بطريقة غير مُتصوَّرة فى شكل بشرى Non-anthropomorphic way ، والحق أن هذا التأويل نفسه يمكن أن يناسب عرض سوسير ، بيد أن تعريف بيرس يمدنا بالمزيد ، إذ إنه لا يتطلب ـ بوصفه جزءاً من تعريف العلامة ـ خواص ظهورها عن قصد وعمد وإنتاجها بصورة مصطنعة ."
    كما يشير إكو أيضاً إلى أنه من الواضح أن الفواعل فى سميوطيقا بيرس ليست فواعل إنسانية بشرية ، ولكنها بالأحرى ثلاثة كينونات سميوطيقية معنوية ، والجدل بينها لا يتأثر بسلوك اتصالى ملموس ، وطبقاً لرؤية بيرس فإن العلامة "هى شىء ما يواجه شخصاً ما ، لغرض ما فى بعض المجالات ، إن العلامة يمكن أن تعنى شيئاً آخر لشخص ما فقط لأن العلاقة فى ( أن تعنى ) تتوسط بمؤول Interpreter ( المقصود هنا هو المؤول الإنسان ) تتم خلاله عملية السيميوزيس ، أى سيرورة العلامة فى عملية التأويل ، وهذا يدفعنا إلى وقفة متأنية عند تمييز إكو بين المؤول البشرى Interpreter ، الإنسان متلقى الرسالة اللغوية ، والمؤول غير البشرى ( المفسرة ) Interpretant أى ما تُؤَوَّلُ به العلامة ، يقول إكو :
    " تختلف المفسرة the interpretant عن المؤول البشرى the interpreter ، ( على الرغم من ظهور خلط عند بيرس فى هذا النوع ) . فالمفسرة هى التى تضمن صحة العلامة ، حتى فى حالة غياب المؤول البشرى .
    وطبقاً لنظرية بيرس فهو ما تنتجه العلامة فى العقل التقريبى the quasi-mind الذى هو المؤول البشرى ، إلا أنه يمكن أن يُفهم على أنه تعريف للماثول the representamen ومن ثم المقصود منه ، إلا أن التخمين الأكثر إثماراً قد يبدو أن يكون فهم المفسرة كتمثيل آخر والذى يشار به إلى نفس الهدف .
    بمعنى آخر ، لكى نقرر كينونة مفسرة ( ما تؤول به ) العلامة ، فيجب أن نسميها بواسطة علامة أخرى ، التى لها مفسرة أخرى تسمى بعلامة أخرى ... وهكذا ...
    عند هذه النقطة تبدأ عملية لا متناهية من سيرورة العلامات Unlimited Semiosis الوهمية ، وهى تعد الضمان الوحيد لتأسيس نظام علاماتى Semiotic System قادر على كبح نفسه بشكل تام بوسائله الخاصة ، وبهذا تكون اللغة ذات نظام تصفية ذاتى ، أو على الأقل فهى تصفى من خلال نظم متتابعة من الأعراف التى تفسر بعضها البعض .
    بناء على ذلك ، يمكن تعريف العلامة على أنها : " أى شىء يعمل على تحديد شىء آخر (مفسرتها its interpretant) لكى تشير إلى شىء معين والتى هى نفسها تشير إليه ( الشىء its object ) بنفس الطريقة ، فالمفسرة تصبح بالتناوب علامة ، و هكذا بشكل لا نهائى " وهكذا فان ذات تعريف العلامة Sign يتضمن عملية لانهائية من تتابع العلامات .
    فالعلامة تحل محل الشىء المتعلق بالفكرة التى تنتجها أو تعدلها... وذلك الذى تحل محله يسمى الشىء the object ، وذلك الذى تنقله هو معناه its meaning ، والفكرة التى تنقلها هى المفسرة its interpretant .
    قد يبدو من هذا التعريف أنه يترك مكاناً للشىء الممثل ، إلا أن بيرس قد أضاف بعد ذلك مباشرة " أن الشىء الممثل لا يمكن أن يكون إلا ماثولا حيث يكون الماثول الأول هو المفسرة ، إلا أن سلسلة لا نهائية من التمثيلات ، كل منها تأتى بمثابة ماثول للتى تليها ، قد يفهم أنها تتخذ شيئاً مطلقاً حدَّاً لها "، أطلق بيرس لاحقاً على هذا الشىء المطلق لفظ " العرف " وليس شيئاً ، يفهم على أنه المفسرة النهائية .
    على أى حال فهو فى هذا النص لم يصر على هذا المقتضى ، فقد استمر فى تطوير مبدأ تتابع العلامات غير المتناهى كما يلى : " فإن القصد من الماثول لن يكون أى شىء غير التمثيل ، فى الواقع هو لا شىء إلا التمثيل نفسه عندما تتصوره كتشكيلة غير متلائمة من الملابس المقلمة ، إلا أن هذه الملابس لا تبدو مقلمة عن بعد ، لكنها تتحول إلى شىء آخر أكثر شفافية ( وضوح ) ، وبذلك يكون هناك تقهقر لا نهائى ( فى الذهن ) فى هذه الحالة ، وفى النهاية ، فإن المفسرة لا تمثل شيئاً إلا ماثولا آخر والتى تدوم مادام مصباح الحقيقة معها على طول الطريق ، وبوصفها ماثولا ؛ فسوف تؤدى إلى مفسرة مجدداً ، وهكذا ، سلسلة لا نهائية أخرى ."
    إن هذا الافتتان بهذا الارتداد اللانهائى يظهر بطرق أخرى كثيرة : فعلى سبيل المثال " العلامة والتأويل يصنعان معاً علامة أخرى ، وبمجرد تحول التأويل إلى علامة فهو قد يحتاج إلى تأويل إضافى ، واللذان يؤخذان معاً ليكونا علامة موسعة والتى بدورها تؤدى إلى علامة مستمرة فى الاتساع ؛ وسيراً فى الطريق نفسها ، يجب علينا ـ أخيراً ـ أن نتوصل إلى علامة لنفسها ، تحتوى على تأويلها الخاص بها والتأويلات المتعلقة بأجزائها ذات المعنى ؛ وطبقاً لهذا التأويل يكون كل جزء له جزء آخر يمثل الشىء الذى يفسره ."
    فى هذا الاستشهاد الصورة الساحرة للعلامات التى تنتج علامات أخرى تتباعد للغاية ، فعلاً ، بقدر ما تمنع بيرس من إدراك أن العلامة النهائية التى تكلم عنها ليست فى الحقيقة علامة ، ولكنها هى المجال الدلالى بأكمله حتى يوصل الهيكل ويربط بين العلامات بعضها البعض ، سواء أكان هذا المجال الدلالى العالمى يمكن وجوده ، أم هيكل العلامات اللانهائية ، فأى منهما يجب أن يوضح بطريق أخرى .
    2- أنواع مختلفة للمفسرة Various sorts of interpretant
    لا شك فى أن فكرة المفسرة Interpretant قد أقلقت عدداً من الباحثين الذين شرعوا فى التخلص منها بواسطة سوء فهمها ( المفسرة Interpretant ـ المؤول البشرى Interpreter أو متلقى الرسالة ) ، إن فكرة المفسرة جعلت نظرية الدلالات the theory of signification علماً صارماً لظاهرة ثقافية ، و ذلك من خلال فصلها عن فلسفات الإحالة ، فالمفسرة قد تفترض أشكالا أخرى :
    1) فيمكن أن تكون المرادف " النظير " ( أو المرادف الظاهرى ) ، وسيلة نقل العلامة إلى نظام علاماتى آخر ، على سبيل المثال يمكن أن أجعل رسم الكلب يرسل إلى كلمة " كلب " .
    2) ويمكن أن تكون الإشارة الموجهة إلى شىء معين ، ربما تعمل على تضمين عنصر من عناصر المعايير العالمية ، " كل الأشياء الشبيهة لذلك ."
    3) يمكن أن تكون تعريف علمى بنفس شروط النظام العلاماتى ، مثال : " الملح " يشير إلى " كلوريد الصوديوم "
    4) يمكن أن تكون تداعى معانى عاطفى والذى يتطلب المعنى الدقيق لدلالة مؤكدة ، مثال : " كلب " تشير إلى " الوفاء " والعكس بالعكس .
    5) ويمكن أن تكون ببساطة ترجمة مصطلح من لغة لأخرى ، أو البديل له بواسطة مرادفه .
    من الوهلة الأولى ، داخل هذا الإطار من النهج القائم ، يمكن أن تعادل المفسرة أى صفة عاطفية مشفرة لنفس المحتوى ، مثال ذلك : مع المجال التام لمعانى الدلالات و دلالات المعانى لنقل العلامة ، قد يكون ذلك ـ فى الواقع ـ تحولا مناسباً جداً للمفهوم الغامض للمفسرة ، إلا أن ذلك قد يؤدى إلى إضعاف مقترحات بيرس ؛ لأن المفسرة تمثل أكثر من ذلك فى نظريته : حيث يمكن أن تكون خطابات مركبة لا تعمل فقط على ترجمة الاحتمالات المنطقية التى تعرضها العلامة ولكنها تطور هذه الاحتمالات عن طريق الاستنتاج والاستدلال للوصول إلى أقصى الاحتمالات ؛ بمعنى آخر ، يمكن أن تكون المفسرة أيضاً القياس المنطقى الذى تم استنتاجه من هذه المقدمات المنطقية ؛ مثال : كل الرجال بشر ـ سقراط رجل .
    بالإضافة إلى ذلك ، يمكن أن تكون المفسرة استجابة أو رد فعل ، أو عادة سلوكية تحدد بواسطة العلامة ، وأشياء أخرى كثيرة ؛ لذلك فسوف أفترض أن كل الإحالات الدلالية ( الدلالات المتعاقبة والمتنوعة ) Denotation ( إشارة اسم علامة دلالة معنى ) لانتقال العلامة هى بلا شك مفسرتها ، وبذلك يكون المعنى الإضافى المضمن ( الإيحائى ) Connotation هو مفسرة العلامة المضمنية Underlying Denotation ، وبذلك أيضاً يمثل المعنى الإضافى الأبعد الضمنى ( الإيحائى ) Further Connotation مفسرة للعلامات المضمنة .
    إلا أن طبقة " المفسرة " تأتى أبعد من فئتى الدلالة والمعنى الإيحائى ، يجب أن أعرف كلاً من الدال Denotation والمعنى المضمن الإيحائى Connotation على أنهما علامات دلالية ، تنتمى إلى التمثيل الدلالى لوحدة دلالية تسمى " the Sememe " ، ويجب أن افترض أن المجموعة الكاملة من المفسرات الممكنة للـ Sememe هى أوسع من المجموعة الخاصة بعلاماتها الدلالية .
    بقدر ما تقدم نظرية الشفرات وصف لكل الدلالات التى توصف بشفرة أو أكثر للـ sememe الفردى ، كذلك تعد المفسرة بوضوح فئة تأخذ مكانها بطريقة ملائمة فى إطار نظرية الشفرات ، إلا أن ـ فى الوقت نفسه ـ فائدتها تذهب إلى ما وراء هذه النظرية ؛ فالمفسرة يجب أيضاً أن تعد فى فئة تمكنها من إيجاد مكان لها بطريقة ملائمة داخل إطار نظرية " إنتاج العلامة " ، من أجلها أيضاً تعرف عدة أنواع من الافتراضات والحجج التى ـ فيما وراء قواعد نظرية الشفرات ـ توضح وتطور وتؤول العلامة المعطاه ، بهذا المعنى يجب على المرء أن يعد مثل المفسرات جميع الآراء العلاماتيه الممكنة التى أجازت الشفرة للمرء أن يجزم بوجود وحدة دلالية معطاه ، مساوية للكثير من الآراء الواقعية .
    3- السيرورة اللانهائية للعلامات :Unlimited Semiosis
    لأن هذه فئة أوسع ، فقد تصبح المفسرة بدون فائدة على الإطلاق ، ونظراً لأنها قادرة على تعريف أى فعل علاماتى ، ربما فى هذا التحليل الأخير تصبح مجرد تكرار ، بل ويعد غموضها فى نفس الوقت مركز قوتها وشرط وضوحها نظرياً .
    إن خصوبة هذه الفئة وثرائها يجعلها مثمرة حتى إنها توضح لنا كيف أن العلامات ـ بالمساواة مع التواصل ، وبواسطة التغيرات المستمرة التى تشير إلى علامة بالعودة إلى علامة أخرى و خيط من العلامات ـ تحصر الوحدات الثقافية داخل Asymptotic fashion ، دون السماح لأحد بلمسها مباشرة ، على الرغم من جعلها سهلة المنال من خلال وحدات أخرى ، ومن ثم فإن الوحدة الثقافية لا تلزم المرء أبداً بأن يبدلها بكيان آخر غير علاماتى ، ولا تطلب أبدأً أن يتم تفسيرها بكيان نفسى أو غائى .
    فالعلامات المتتابعة تفسر نفسها بنفسها ؛ هذه الحركة الدائرية المستمرة هى الحالة الطبيعية للعلامات حتى عند تمكين التواصل من استخدام العلامات للإشارة إلى أشياء ، لكى نسمى هذه الحالة " يأس " المرء يرفض الطريقة البشرية لاستخدام العلامات ، طريقة برهنت على نفسها أنها مثمرة إلى حد أن هذا يكون فقط من خلال أن لديها تاريخاً ثقافياً تم تطويره .
    فى الواقع يمكننا " لمس " المفسرات ، ( مثال : يمكننا أن نقوم باختبار تجريبى لوحدة ثقافية ) ، الثقافة تنقل باستمرار علامات إلى علامات أخرى ، وتعريفات إلى تعريفات أخرى ، كلمات إلى صور ، الصور إلى علامات ظاهرة ، العلامات الظاهرة إلى تعريفات جديدة ، التعريفات الجديدة إلى وظائف افتراضية ، الوظائف الافتراضية إلى عبارات تمثيلية ... وهكذا ؛ بهذه الطريقة فهى تقدم لأعضائها سلسلة غير منقطعة من الوحدات الثقافية مكونة وحدات ثقافية أخرى ، ومن ثم مترجمة ومفسرة لها .
    يمكننا أن نقول إن الوحدات الثقافية ـ مادياً ـ هى فى قبضتنا ، فهى تأخذ فى حسابها العلامات التى وضعتها الحياة الاجتماعية تحت تصرفنا : الصور تفسر الكتب ، أجوبة مناسبة تفسر أسئلة مبهمة ، الكلمات تفسر التعريفات والعكس بالعكس ، السلوك الشعائرى لكتيبة من الجنود يفسر إشارة النداء بالصوت العالى ( انتباااااااه ) تعطينا معلومات عن الوحدة الثقافية ( انتبااااااااه ) تصل إلينا عن طريق وسيلة النقل الموسيقية للعلامة .
    جنود ، أصوات ، صفحات من كتب ، ألوان على حائط ، كل هذه الكيانات ـ مادياً ـ يمكن خضوعها للفحص ، تتصدى الوحدات الثقافية لإمكانية المجتمع للتسوية بين العلامات بعضها البعض ، الوحدات الثقافية هى المسلمة العلاماتية المتطلبة لإنصاف الحقيقة التى تقول بان المجتمع يعمل على التسوية بين الشفرات بعضها البعض ، وسائل نقل العلامة بالمعنى الدلالى ، وأسلوب التعبير بالمضمون ، غير مرئية ولكنها مستخدمة من جانب عامة الشعب ، هم غير مستخدمين ولكنهم مرئيون بواسطة علم العلامات ، الذى هو ببساطة علم هذه الكفاءة الثقافية التامة .
    بالإضافة إلى ذلك ، أثبتت فكرة المفسرة ثانيةً أنه فى الحياة الثقافية كل كيان يمكن أن يهدف إلى أن يصبح كلاً من المعنى الدلالى ووسيلة نقل العلامة بشكل مستقل ، " الملح " هو المفسرة لـ " كلوريد الصوديوم " ولكن " كلوريد الصوديوم " هو مفسرة " الملح " ، فى موقف معطى يمكن أن تكون حفنة ملح هى مفسرة /ملح/ ، بالضبط كما يمكن لتقليد إيماء من شخص أخذ مقداراً من شىء مملح على طرف لسانه .
    4- المفسرات فى نظرية الشفرات : Interpretant in a theory of codes
    لذلك فإن تعريف المفسرة الذى سيكون مجال عمله فى إطار نظرية الشفرة ( والذى بذلك سيكون مقيداً ) يجب أن يغطى هذه الطوائف السيميائية الثلاثة :
    أ) معنى وسيلة نقل العلامة ، مفهوم كوحدة ثقافية تعرض خلال وسيلة نقل أخرى ومن ثم تظهر استقلالها الدلالى عن وسيلة النقل الأولى .
    ب)التحليل الحاد أو العنصرى الذى تتفتت بواسطته الوحدة الثقافية إلى عناصرها الأولية ، أو العلامات الدلالية ، وبذلك تمثل على أنها Sememe والذى يستطيع أن يدخل ـ بواسطة دمج قراءاته ـ إلى تراكيب سياقية مختلفة .
    ج ) كل وحدة من الوحدات تشكل عناصر شجرة Sememe ، كل وحدة ( or seme أو المعنى الدلالى ( فيصبح وحدة ثقافية أخرى ( ممثلة بواسطة وسيلة نقل علامة أخرى ) والذى يفتح إلى تحليلها العنصرى ( بمعنى آخر ، يمكن أن يمثل بواسطة نظام جديد لوسائل نقل العلامات ) . "
    ويعلق د.سعيد بنكراد على هذه الفكرة نفسها عند بيرس بقوله : " إن مصدر هذه المعرفة هو أننا نقوم بتأويل العلامة بهذه الصفة أوبتلك الطريقة ، فالعلامة تحتوى أو تشير إلى مجمل مكوناتها الأكثر إيغالا فى القدم ، إلا أن معرفة هذه المكونات هى مجرد احتمال سيموزيسى لا يمكن أن يتحقق إلا ضمن سياق محدد أو من زاوية بعينها ، فالسميوزيس لامتناهية فى المطلق ، إلا أن غاياتنا المعرفية تقوم بتأطير وتنظيم وتكثيف هذه السلسلة غير المحددة من الإمكانات ، فمع السيرورة السميوزيسية ينصب اهتمامنا على معرفة ما هو أساس داخل كون خطابى محدد ." ، ومن ثم تأتى هذه الغايات المعرفية التى أشار إليها إكو والكون الخطابى المحدد إيقافاً لهذه اللانهائية فى رؤية بيرس ، وليس هذا الإيقاف من صنع إكو ولكن بيرس من قبل قد حدد هذا فيما أطلق عليه المؤول المنطقى النهائى .
    إن نظرة بيرس السميوطيقية لا تقف عند حدود حملها للبذور الأولى للتداولية ، بل تأتى مثقلة بفكرة التداولية ، نلمح ذلك جلياً فى مفهوم الموضوع المباشر والديناميكى عنده ، الذى يعد ـ بشكل ما ـ هو المدلول ، فإن بيرس ـ كما أشرنا ـ يميز بين موضوعين ، أحدهما مباشر والثانى ديناميكى ، الأول معطى مع العلامة ذاتها بشكل مباشر، أما الثانى فيحتاج للوصول إليه إلى النبش فى ذاكرة العلامة ، مثال ذلك إذا أخذت كلمة "مطر" ، فإنني سأكون أمام معرفتين ، الأولى هى ما تقوله الكلمة مباشرة من خلال موضوعها ( مؤولها ) المباشر : "ماء ينزل من السماء على شكل زخات وهو نتيجة لعوامل طبيعية متعددة " ، يطلق بيرس على هذه المعرفة " الموضوع المباشر " ، لكن المتكلم يعرف عن المطر أشياء كثيرة ، ويتعلق الأمر بمجمل رموزه المباشرة وغير المباشرة كالخير والخصوبة والتطهير الخ ، وهذه المعرفة غير المباشرة هى ما يُطلق عليه الموضوع الديناميكى ." ، وبذلك يمكننا القول بأن النظر إلى العلامة يأتى عنده آخذاً بُعدين فى علاقتها بالموضوع ، البعد الأول هو البعد المباشر ، والبعد الثانى ضارب بجذوره فى التاريخ الدلالى للدال ، إن المتلقى بوصفه مؤولاً " ليس كياناً هامداً ولهذا فإنه يفعل فى النص ويلونه بما يحمله من قناعات وأفكار وعواطف ، وهكذا فمقابل الباث الذى ينتج رسالة ، متسلحاً بكفاءات لغوية ومصاحبة للغة وإيديولوجية وثقافية ومحددات سيكولوجية ومحاطاً بعالم الخطاب ، نجد المتلقى المسلح هو أيضاً بنفس هذه الكفاءات التى لا تكون متطابقة مع مثيلاتها عند الباث ؛ وهذا التباين الطبيعى هو الذى يجعل المتلقى لا يعيد إنتاج الرسالة التى يتلقاها ، وإنما يعمد إلى تأويلها ."
    ويمكن أن تتلاقى مفاهيم بيرس لسيرورة العلامة عبر مؤولات ( السيميوزيس ) مع المفاهيم التى أقرها عبد القاهر الجرجانى عن المعنى ومعنى المعنى على الرغم معرفتنا بالفوارق بين النظرتين ، ولكننا نصطنع منهجنا فى استدعاء المقولات التراثية العربية المتوافقة مع بعض المقولات الحديثة بوصفها مسوغاً لهذه المقولات الغربية تفهم فى ضوئها وعلى هدى منها ، وإن كانت لا تتطابق معها كل التطابق ، وذلك فيما نطلق عليه التسويغ السياقى ، فلسنا مدفوعين بهشاشة عاطفية ولا مسكونين بهاجس إثبات الشرعية لهذا المنجز أو ذاك ، لقد أشار عبد القاهر إلى أن الكلام على ضربين " ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلاً بالخروج على الحقيقة ، فقلت : خرج زيد ، وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذى يقتضيه موضوعه فى اللغة ، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض … وإذ قد عرفت هذه الجملة ، فههنا عبارة مختصرة وهى أن تقول : المعنى ، ومعنى المعنى ، تعنى بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذى تصل إليه بغير واسطة ، وبمعنى المعنى : أن تعقل من اللفظ معنى ثم يفضى بك ذلك المعنى إلى معنى آخر ."
    وقد التفت د. سعيد بنكراد إلى هذه العلاقة فى ربطه بين مقولات عبد القاهر وبيرس أثناء حديثه عن البُعدين التقريرى والإيحائى للمعنى ، " فقد نُظر إلى المعنى من زاوية ضيقة جداً ، فما يفهم بشكل مباشر من الواقعة دونما استعانة بشىء آخر يطلق عليه المعنى ، في حين تعد الدلالات غير المعطاة بشكل مباشر معانى ثانية ، أو دلالات مصدرها الثقافة والتاريخ ، وهي دلالات يتم الحصول عليها من خلال تنشيط ذاكرة الواقعة والدفع بها إلى تسليم كل دلالاتها ، ففى الحالة الأولى يطلق على المعنى التقرير ، ويطلق عليه فى الحالة الثانية الإيحاء ، وليس بعيدا عن ذلك ما نعثر عليه في التراث العربي حيث ميزت الشعرية العربية ممثلة في أحد رموزها الشامخة بين " المعنى " و" معنى المعنى " ، ... ، فالمعنى الأول كما يتجلى من خلال فعل الإحالة الأولى هو الإحالة المباشرة التي تتم داخل العلامة وبشكل مباشر ، أما معنى المعنى فهو الدلالة التى تشير إلى السياقات الممكنة التى تشتمل عليها العلامة . "
    ثم يشير د. سعيد بنكراد إلى أن تلك المنطلقات تمثل الأساس الذى انبنت عليه فكرة السميوزيس ، " أى السيرورة التى تشترطها الدلالات لكى توجد ، فالأصل واحد ، أى معنى معطى من خلال لحظة الإحالة الأولى ، والامتدادات متنوعة ، وهو أمر لا يخص كلمات اللسان فحسب ، بل يشمل كل ما تنتجه الممارسة الإنسانية من أشياء وإيماءات أو كلمات أو طقوس ، وفي هذا المستوى يقف التدليل عند حدود رصد النفعى المباشر فى السلوك الإنسانى ، أما في المستوى الثانى فيتم التخلص من العام المكره والضرورى للإيغال في المحلي والثقافى والخاص ، حينها تبرز قيمة المتعة التى تولدها الدلالات غير الإكراهية ، فى الحالة الأولى يشار إلى تأويل مباشر وعفوى ، ويشار فى الحالة الثانية إلى تأويل حيوى ينشط ذاكرة الكلمات والوقائع والموضوعات . "
    كما يمكننا أيضاً أن نفهم فكرة بيرس عن المؤول المنطقى ـ من ناحية أخرى ـ فى ضوء ما ذكره عبد القاهر فى موضع آخر فى حديثه عن معنى المعنى إذ يشير إلى عدم التجاوز المفرط لدلالة اللغة ، فقد اشترط عبد القاهر " أن يكون المعنى الأول الذى تجعله دليلاً على المعنى الثانى ووسيطاً بينك وبينه متمكناً فى دلالته ، مستقلاً بوساطته ، يسفر بينك وبينه أحسن سفارة ، ويشير لك إليه أبين إشارة ، حتى يخيل إليك أنك فهمته من خامة اللفظ ، وذلك لقلة الكلفة فيه عليك ، وسرعة وصوله إليك " ،
    بل لعله ليس من التكلف فى البحث عن علاقة بين أفكار عبد القاهر وأفكار بيرس أن نقول إن عبد القاهر لفت بذكاء شديد فى النص السابق إلى خفاء السميوزيس ، أى سيرورة العلامة عبر مؤولات ، يصل الأمر بهذا الخفاء إلى حدٍ يتوهم معه المؤول البشرى أن المعنى الثانى الذى تحيل عليه العلامة اللغوية الأولى مفهوم من خامة العلامة اللغوية نفسها .
    بل لعله ليس من التكلف فى البحث أيضاً أن نلفت إلى أن تنبه عبد القاهر المبكر إلى السلاسة فى سيرورة العلامة يحمل فى طيه تنبيهاً ضمنياً على بعد التكلف فى التأويل ، ذلك المسلك الذى أطلق عليه ( أمبرتو إكو ) الافتقار إلى عنصر الاقتصاد فى التأويل فى تعريفه للتأويل المفرط ، بأنه " يكون حين يفتقر التأويل إلى عنصر الاقتصاد والذى بمقتضاه يتم البحث فى العناصر الأكثر اتصالاً بالموضوع ، وكذا بالنظر إلى غير النصوص الدينية باعتبارها نصوصاً مقدسة مما يخضعها لعمليات تفسير مسرفة بالمبالغة فى تقدير مفاتيح واهية وغير منتمية إلى الموضوع ، فى الوقت الذى يتم فيه إهمال المفاتيح المرتبطة بالمعنى بنحو مباشر وقوى وإن بدت غامضة " ، وذلك ـ فى الوقت نفسه ـ ما عناه (كوللر) بالتفسير الممكن والتفسير المستحيل ، وقد أشرنا فى دراسة سابقة إلى أن التأويل المفرط ينطوى علـى محاولة لتطويع النص ، وسواء تعمد التأويل الإفراط أو جانبه فإنه يظل دون الهدف الذى يرمى إليه النقد ، وإن كان الوقوف على عدة تأويلات يفيد فى التحليل النقدى بشكل أو بآخر ، وليس ذلك إلا من تباين البغية فى الحالين ، فالمؤول باحث عن المعنى ـ بصورة أو بأخرى ـ أما الناقد فباحث عن الأبعاد الجمالية والوسائل التأثيرية ـ بصورة أو بأخرى أيضاً ـ ومن ثم يلزم أن نفرق بين تعدد المعنى الذى تختص به عملية التأويل ، وتعدد الرؤى النقدية ، وقد تلقى بعض الضوء على هذا التفريق تساؤلات جون كوين :
    " هل التعددية الدلالية قابلة للتحقق أو متحققة بالفعل فى النص الذى معنا ؟ فإذا كانت قابلة للتحقق فإنها تبقى غير متجسدة أمام القارئ أو يتجسد فقط واحد من احتمالاتها أمامه ، وإذا كانت التعددية متحققة فيمكن إذن أن نطرح السؤال : هل من الممكن وجود شرح متعدد ومتزامن ؟ نحن نعلم جميعاً أنه يمكن للمرء فهم نص فى لغة أجنبية من خلال ترجمته ترجمة كلية إلى لغته ، لكن ، هل من الممكن أن نقدم للنص ترجمات عدة ومتزامنة ؟ وإذا كان الرد بالإيجاب فهل تظل جميع هذه الترجمات شعرية ؟
    إن التأويلات المختلفة قد تتواجد وتتزامن ، ولكن الصائب فيها قد يكون واحداً وقد لا يكون ، أما الرؤى النقدية فيمكن أن تتواجد وتتزامن ولا تحتمل من الحكم بالصواب أو الخطأ ما يحتمله التأويل ، فتزامن المعانى والتأويلات المتعددة لا يعنى صوابهــا ، فالصائب فيها ـ كما ذكرنا ـ قد يكون تأويلا واحداً وقد لا يكون ، وإن كان بعضها يظل محتملاً ؛ لأن المؤول ـ غالباً ـ باحث عن قصد المنشىء ، أو مدفوع بقصده هو إسقاطاً على النص ، أما الرؤى النقدية فليس ثم ما يحول دون تواجدها ، كما أنه ليس ثم ما يحول دون صوابها ، لأنها لا تنحصر فى السعى إلى الوقوف على قصد المنشئ .
    وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن التأويلات المتعددة يسعى كل منها إلى نفى الآخر؛ لأن وجود الآخر يعنى نفيه هو ، أما الرؤى النقدية فتترافد ، وتتماس ، وتتداخل ، ولا يعنى وجود أى منها نفى ما سواها ، لأن التأويل فى سعيه لتلمس قصد المنشىء إنما هو وجود معادل للنص ، أما الرؤى النقدية فهى إفرازات النص ذاته .
    ولعل التأويل المباشر هو ما عرف فى التراث الإسلامى بالمعنى الظاهر وظاهر اللفظ هو ما يسبق إلى الفهم ، أما التأويل فى التراث العربى الإسلامى الذى يعنى صرف اللفظ عن ظاهره فهو أقرب إلى التأويل الدينامى وفق المفهوم الذى أقره بيرس مع اختلاف جوهرى يحسن بنا التنبيه عليه ، التأويل الدينامى عند بيرس هو تنقل العلامة بين مؤولات ( مفسرات ) تحتملها هذه العلامة ، ونقصد باحتمال العلامة لهذه التأويلات حياد عملية التأويل ، أى دون قسر من المؤول البشرى ، فإن المنطقية التى يعنيها بيرس فى قوله بالتأويل المنطقى ضابطاً لسيرورة العلامة عبر مؤولات غير متناهية فى التأويل الدينامى إنما هى منطقية حيادية غير مدفوعة بعوامل مذهبية وأبعاد عقائدية فرقية .
    إن هذه المنطقية تحتكم إلى السياق ، ولا تخضع ـ فى حياديتها ـ إلى الأهواء أو قسر النص على احتمال ما لا يحتمل كالتأويل الباطنى مثلا الذى يرى فيه المؤول أنه قادر على التأويل دون مرجعية إلى الأعراف اللغوية ، أو الضوابط السياقية ، مثال ذلك فى التاريخ الإسلامى بعض تأويلات الشيعة والصوفية ، ومن هنا كان رفض بعض المسلمين للتأويل جملة لتداخل التأويل مع قضايا عقائدية تختص بالمحكم والمتشابه فيما يتعلق بأسماء الله تعالى وصفاته ، ومن هنا أيضاً كان رفض بعض تأويلات المعتزلة نتيجة موقف عقائدى على الرغم من احتمال اللفظ والسياق لها ، ومن هنا أيضاً كان قول ابن قدامة بذم التأويل إلى حد نفى معه التأويل عن بعض الألفاظ التى تُستعمل استعمالا مجازياً إنما : " نحن لم نتأول شيئاً ، وحمل هذه اللفظات على هذه المعانى ليس بتأويل ، ... ، ولذلك كان ظاهر الأسماء العرفية المجاز دون الحقيقة ، كاسم الراوية والظعينة وغيرهما من الأسماء العرفية ، فإن ظاهر هذا المجاز دون الحقيقة ، وصرفها إلى الحقيقة يكون تأويلاً يحتاج إلى دليل ، وكذلك الألفاظ التي لها عرف شرعى ، وحقيقة لغوية كالوضوء والطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج ، وإنما ظاهرها العرف الشرعى دون الحقيقة اللغوية " ، فإلى هذا الحد صار التبرؤ من كلمة التأويل فى الفكر الإسلامى ، والأمر فى الحقيقة قد شغل غير واحد من الباحثين والدارسي قديماً وحديثاً وما يزال بحاجة إلى جهود كثيرة .

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 9:03 pm