تحولات الزمن وحركية الصور.. إخلاص محمود عبد الله
قراءة في قصيدة البستان لبشرى البستاني
البستان
(( أشجار البستان
تعدو نحوي في الليل
ترعبني،
تتلون ألوانا،
ألوان
فعجوزاً شمطاءً ،
أو جنية بئر مسحور
أو همجيا مسعور
يدهمني ،
يقبض جيدي ويدور…
أو بركانا تمتد سواعده نحوي
تغلق نافذتي
تقذف فوق سريري النار
أشجار البستان…
أحيانا تدخل في الليلِ
بحلتها الخضراءْ
غرفة نومي..
وتُظل سريري بالثمر الريانِ
تمد غصوناً فرعاءَ ,
تراقصني
تتثنى حولي بحنانْ
تقطف لي نجمات الفجرِ ،
تخبئها تحت وسادي
وتغني لي أغنية الحوريات
مع ابن السلطانْ
ليلة أمس سمعت صفير الريح
عُري الشرفةِ ,
أوجاع الشباك
حين نهضتُ ،
لمحت الشجر الأخضرَ
يرحل في قافلةٍ ،
والبستانْ
خاوية إلا من أعشاش يمام ينزفْ
أقفلت القضبانَ ،
وواصلت الكابوس…
. . . . .
أشجار البستان
تدنو في وجل مني
تهمس:
هذا ليل آخر يمضي
هذا يوم آخر يأتي…
سر اللعبة عندك,
سر اللعبة عندي… )) ([b][1])[/b]
(1)
يتناول
هذا البحث دراسة قصيدة (البستان) للشاعرة (بشرى البستاني) دراسة تأويلية
هدفها الكشف عن تحولات الزمن وحركية الصور التي آزرتها وعبرت عنها في
مكنونات النص.
إن
شعرية النص تنبع من بلاغته الخاصة ومن التغيرات التي تعرضت لها الكلمات
المتجاورة داخل السياق النصي مما يجعل التأويل ضروريا حسب مقتضيات النص
بالأساس.([2])
ولابد من إلقاء نظرة على أهمية التأويل رغبة منا في إيضاح الطريقة التي سيسير على وفقها البحث.
فالتأويل
مصطلح قديم جديد دال على عملية معرفية، وهو من أكثر العمليات المعرفية
تداخلا مع سواه، فهو يتداخل مع القراءة والنقد والتفسير والتحليل…الخ.
والتأويل في اصطلاحه التقليدي يتوجه إلى النص في محاولة فهم ما يؤول إليه،
وتوجه مفهومه الاصطلاحي الحديث إلى ما هو وراء النص لفهم الحالة المنتجة
له وبناء فهم النص على فهم منتجه([3])، فيذهب إلى ما يقع خلف النص حيث منابت الكلمة ([4])
محاولة لفهمه على حقيقته بل محاولة لإقامة تواصل مع النص، وهو كعملية
معرفية ضمنية، يحاول بدأب الانفراد بالنص متوسطا بينه وبين قارئه فيتمتع
بسلطتين في آن واحد سلطة النص على قارئه وسلطة القارئ الانعكاسية ثم ينطلق
بها باتجاه المعنى المطلوب. ([5])
ويحاول
التأويل إدراك المعنى حين يكون خفيا وملتبسا، يغامر سعيا إلى تأسيس معنى
مفقود أو غائب، والمعنى هو نقطة الارتكاز التي من اجلها يستفز المؤول كل
طاقاته المعرفية لتشكيله ، ومن هنا ارتبطت كلمة التأويل بفكرة البحث عن
المعنى العميق الخفي، والتعامل مع الجانب الرمزي الذي يحتاج إلى أدوات
خاصة. ([6])
إن
الحقل المعرفي الذي يشتغل عليه فن التأويل هو فحص النصوص داخليا وربطها
بسياقها العام خارجيا، لكن هذا لا يعني انه خاضع لمعايير ثابتة يظل
بموجبها هو نفسه بل انه يتميز من متلق إلى آخر. ([7]) فيصطبغ بوعي المتلقي، لأنه يكشف رؤيته للنص وهي رؤية ليست مطابقة لما أراده الشاعر، لهذا لا يمكننا أن نقصر النص على تأويل واحد. ([8])
كما
إن التساؤلات المستمرة هي لب التأويل لكنه لا يبحث عن إجابات حاسمة
جازمة، فالقارئ نفسه يسائل اللغة ويضطره التساؤل إلى البحث عما قد غاب عن
النص، وعمله هو توضيح نمو اللغة الداخلية والعلاقات المتبادلة بين أجزائها
من جهة وصلتها بروح العصر من جهة أخرى. ([9])
وقد يتحول التأويل إلى أداة تمارس من خلالها القراءة التأويلية سلطتها
المعرفية والأيدلوجية على النص، إذ تفرض عليه أفكارا قد تكون غريبة
ومستمدة من نظرة مسبقة عن الإبداع وغيرها. ([10]) وفي ذلك تكمن خطورة لاتخلو من القصر 0
(2)
إن
الصورتنهض عادة” على (التخييل والتشكيل) سواء كان بناؤها عبر الطريق
الذهني الذي يعني التحليق بعيدا عن الزمن وصيغته المادية، أو الطريق الحسي
الذي يمزج بين الحضور الزمني أو إلغائه، ومن هنا تتضح العلاقة بينها وبين
الزمن.
فتشكيل
الصور يخضع لعلاقة جدلية بين الحسي والذهني حيث لا توجد صورة ذهنية خالصة
كما لا توجد صورة حسية خالصة. فالصورة((هي حركة ذهنية تتم داخل الشعور
ولكنها في الوقت ذاته تعد انعكاسا مكثفا لمختلف جوانب الطبيعة والمجتمع
وظواهرهما مع الاحتفاظ بخصوصية التجربة وفرادتها)).([11])
وهي
تشير إلى أشياء غير مرئية موجودة في وجدان الشاعر وقد ترسخت عبر المسيرة
الحياتية حيث يتدخل لاوعي الشاعر في تشكيل الصورة المعبر عنها.([12])
وبهذا
يرتبط مفهوم الصورة برؤية الشاعر للعالم ودور الخيال في إبداعه عبر موهبة
الشاعر، وهكذا تتكون عناصر الصورة من خيال وفكر وعاطفة وشكل.
إن
الصورة بأشكالها كافة مكانية قائمة على العلاقة بالمكان أم زمانية تعد
حصيلة التفاعل بين البنى التعبيرية القائمة في النص بعضها مع بعض ومن هذه
البنى مجتمعة يتشكل النص الشعري، فهي تتيح فهم الواقع واستيعابه وبذلك
تبرز قيمة الصورة وجه الواقع الآخر أو الوجه المتصور له وتتحد أهميتها
كفعالية شعورية مرتبطة بالإحساس المتولد عن التجربة الإنسانية. ([13])
فالقيمة الكبرى للصورة تكمن في أنها تعمل على تنظيم التجربة الإنسانية الشاملة للكشف عن المعنى الأعمق للحياة والوجود.([14])
وهي ((توظف لبث الحيوية في الموضوع أو الكشف عن الحالة النفسية))([15])
والصور في فاعليتها على المستوى النفسي لا تستغل الترابطات والاستجابات
الايجابية فقط وإنما تركز أيضا على الاستجابات السلبية وثمة صور توحد بين
النمطين وتستغل التفاعل بينهما عبر ما يمكن أن يسمى ( بفاعلية التضاد ) .([16]) ولذلك فان التناقض في الصور ليس عيبا بل هو ضروري ضمن ديناميكية الحياة انه التعارض الذي يستوعب التعارضات الكونية([17]) وبهذا يقودنا الكشف عن حركية الصور الى علاقة مع البناء الجدلي للحياة فضلا” عن كونها ترتبط بالمشاعر العميقة لمبدعها 0
وتبرز
فعاليتها كذلك من كونها تعد بمثابة الموشور الضوئي الذي يظهر في النص
متألقا الأمر الذي يسمح بالدخول إليه واكتشاف طبيعته، والشعر الذي يعتمد
الصور هو ((فعل نفاذ وفعل إضاءة لجوهر الوجود، والصورة بهذا المعنى رؤية
فكرية وعاطفية في لحظة من الزمن إن تجردت من فعلها الرؤيوي أغلقت دوننا
أبواب الواقع)). ([18]) فهي ليست منهجا في بناء القصيدة وإنما هي أسلوب تفكير وتعبير وموقف من العالم. ([19]) فالوسيلة الجوهرية لنقل التجربة هي الصورة وما التجربة إلا صورة كبيرة والصورة تشارك في الحركة العامة للقصيدة.([20]) ومن هذا المفهوم كان منطلقنا في هذا البحث.
كما
يهدف البحث إلى إيضاح العلاقة بين الزمن وإنتاج الدلالة في محاولة للبحث
عن المعنى الكامن داخل نسيج النص، لهذا لا نغفل دور الكلمة في الخطاب
الشعري، إذ تعد وحدة دينامية، ويعود هذا إلى واقع وجودها في تعبير دينامي
ولا يمكن عزلها عن محيطها المباشر وعن سياق النص إذ منهما تستمد قوتها
يؤثران فيها وتؤثر فيهما. ([21])
( 3 )
تعمد
الشاعرة في هذا النص إلى الخلق المستمر لتوليفات جديدة لم يعهدها المتلقي
من قبل مما يؤدي إلى شعوره بالغربة أمام النص حين تستخدم سلسلة من الصور
والاستعمالات المتعالقة بواسطة التركيب. أي تنتمي إلى البنية نفسها وتكون
الصور الأخرى مشتقة من الأولى بحيث تقوم بتطويرها، وهذا ما سماه ميخائيل
ريفاتير (بالتعالق الاستعاري). ([22])
كما
توظف اللغة لتقدم لنا من خلالها تشكيلا جديدا للعالم والاشياء ينفصل عن
الواقع،ويذهب إلى اتجاه يبقى على احتمالات القراءة وكثرتها ويحملها إلى
تعدد المدلولات التي تنتظر قارئا يحررها ويقف على طاقتها وأبعادها ورموزها. ([23])
إن
حضور المكان (البستان) عنوانا للنص يرتبط بحضور الزمان وتحولاته، وهو يدعم
الفكرة الداخلية للنص كرمز شعري نحاول فك شفرته وسبر أغواره، وبهذا يشكل
العنوان مفتاحا لنا للولوج إلى أغوار النص العميقة قصد استنطاقها وتأويلها. ([24])
فالبستان هو من (البست) من السير، ويفيدنا هنا للتعبير عن سير الزمن المتواصل والبستان الحديقة. ([25])
وهو عنوان لسيولة الحياة وولادة الخضرة. ولن يفهم العنوان منقطعا عن نصه
ولا تدرك إشاراته إلا عبر العلاقة بينهما فتكون دراسة العنوان تأويلية
لاكتشاف دلالاته، من خلال رؤية خاصة. ([26])
فالعنوان ليس مجرد سطح ساكن لا يوحي بما يعتمل تحته من تفاعلات، ولئن كان
حضوره تأكيدا على انه مرسلة قائمة بذاتها، فان وظيفتها الاحالية على ما
تعنونه لا تتحقق فيه لانه يؤشر على موضوع عمله -أي الفكرة-، الموضوع الذي
يمتلك وجودا قبليا على العمل كنص شعري قائم بذاته. ([27]) لذا عمدنا إلى دراسة النص، ليقودنا إلى العنوان ودلالاته.
تتشكل تحولات الزمن من خلال ثلاثة تحولات أساسية تبرزها الشاعرة في فضاء زمني سردي، وهي تحولات تتم عبر لحظات ترسم مسارها الصوري في:
1- لحظة سلب.
2- لحظة تختلط فيها الرؤية بين لحظات الإيجاب والسلب.
3- لحظة الكشف والاستجلاء تكشفها الخاتمة.
يبدأ
فضاء النص بـ(أشجار البستان) وتتكرر ثلاث مرات على رأس كل مقطع هذا
التكرار التركيبي يتناسب مع تحولات الزمن الثلاثة ، وهو يشبه إلى حد كبير
البناء الزمني الموسيقي الذي يتميز بتشابه الجملة الموسيقية ويقترب من
الحركة الدائرية للزمن بعض الشئ. وللتكرار ((وظيفة دلالية لأنه يعكس جانبا
من الموقف الشعوري والانفعالي لذلك ينبغي ألا ننظر إليه خارج السياق
الشعري لأنه يسهم في تمتين الوحدة العضوية عبر التركيز على وظيفة التماثل
ألموقعي)). ([28])
وبهذا تتضح الوظيفة النفسية للتكرار عندما ترتبط بتسليط الأضواء على
الفكرة، فهو جزء من الهندسة العاطفية للعبارة التي تعمل على تنظيم الكلمات
على أساس عاطفي من أي نوع كان. ([29])
وهذا التكرار تستخدمه الشاعرة للتعبير عن الرؤية الدائرية لحركة الزمن
داخل النص، والتي مكنتها من الحضور المتواصل بتكرارها كل مرة ليمثل الزمن
النفسي الذي يدور في فضاء القصيدة حالة للصراع الدائم ما بين لحظات السلب
والإيجاب. وقد شكل هذا التكرار حيزا زمنيا ظلت تفيض داخله استعارات وصور
عدة، وربما كان الهدف منها التأكيد على هذه المفردة (البستان) دون غيرها،
لأنها محور فضاء النص وقد عمدت من خلالها إلى بث شعرية صوتية _
دلالية، وهي ترسخ فاعلية المعنى داخل مكونات النسيج الكلي، لتفعيل الأثر
الحسي والذهني للزمن. فيكون العنوان(البستان) حاضرا في ثنايا وطيات النص
سواء كان حضوره هذا حرفيا أم من خلال إشارات توحي إليه وتدل عليه، ليعبر
عن أبعاد أيديولوجية تكثف دلالاتها في العنوان وتبثها في النص([30]). حينما نجد دلالات العنوان تهبط في تيارات منتشرة داخل متن النص. كما
إن رفع العنوان الداخلي الثاني إن استطعنا أن نسميه كذلك (أشجار البستان)
ليصبح عنوانا للنص كله يعني أن الشاعرة تتبنى دلالة العنوان لارتباطه
الوثيق بالحياة والانبعاث وقد نجح العنوان في تحديد مقاصد الشاعرة، وهذا
يؤيد رأي (شارل جريفال) من أن وظائف العنوان تتحدد في ثلاثة أمور،
التحديد والإيحاء ومنح النص قيمته([b][31]). وزيادة على ذلك ما قاله (بارت) من أن العنوان يفتح شهية المتلقي للقراءة.([32]) [/b]
تبدأ تحولات الزمن بلحظة السلب الزمني، وهي لوحة صورية تبدأ بـ:
أشجار البستان
تعدو نحوي في الليل
ترعبني،
تتلون ألوانا،
ألوان
فعجوزا شمطاء،
أو جنية بئر مسحور
أو همجيا مسعور
يدهمني،
يقبض جيدي ويدور…
أو بركانا تمتد سواعده نحوي
تغلق نافذتي
تقذف فوق سريري النار
وهي
تتلون ألوانا زمنية وصورية ( فعجوزا أو جنية أو همجيا أو بركانا)،
فالشاعرة تفجر لنا صورا خيالية خارقة للزمن، وكيف يتشكل الزمن عبر ألوان
وألوان يرسم لنا صورا زمنية شتى، قاهرة مرعبة وقادرة على هز كيان الإنسان
وإفقاده التوازن. فالعجوز الشمطاء/تشكل زمني تتمظهر فيه سلبية فعل الزمن
وتخربيه القبيح للإنسان وهي صورة مادية عيانية، أما جنية البئر المسحور
فهي تشكلٌ زمني غائب لا يوحي بأي حضور بل هما _ الجن والسحر _ رمز
للمجهول بكل مافيه من خوف ورعب وتوجس. وتبدأ هذه الصور الحركية بالتشكل
بـ(تعدو نحوي في الليل ترعبني) من حركة العدو حين أعطت لأشجار البستان
نوعاً من الأسطرة بدءاً من الفعل (تعدو) في سرعة زمنية متواصلة، هذا الفعل
منح الصورة ديناميكية، كون العدو يختزن قوة تصويرية حركية في ذاته، وهذه
الحركية تمثل القاعدة الأساسية التي تبث صورا فرعية وكلها تمارس العدو
والسرعة الزمنية وهي:
فعجوزا شمطاء،
أو جنية بئر مسحور
أو همجيا مسعور
يدهمني،
يقبض جيدي ويدور…
أو بركانا تمتد سواعده نحوي
فالحركة تعبر عن تغير أو عن رحلة زمنية في التغير. ([33])
وهذه لقطات صورية متحركة مبنية على التقاط الأثر النفسي من ألاشياء،
وتمثل التدرج في الانتقال والتحول بالصور أو التحولات الزمنية المتخيلة
عبر الصور لتأكيد الزمن النفسي السلبي. كما مثلته جملة (تقبض جيدي وتدور)،
فالدوران يمثل حركة سلبية لأنه يمثل التفافا حول الذات أو الموضوع دون
تقدم، فضلاً عن عدوانية الدلالة الناتجة عن تركيب جملة (يقبض جيدي ويدور)
الهادفة إلى إيقاع الهلاك بالساردة _ الشاعرة.
ان
التكثيف الصوري المستخدم وما فيه من حدة وإشاعة فضاء شعري دافق بالحركة
والزمنية يعمل على نقض اللغة العادية وتحطيمها ليعيد بناءها على مستوى
أعلى من هنا تنبثق للدلالات المتغيرة التي تشيعها الصور أزمنة متغيرة غير
متوقعة يتم بها مخالفة زمن الخطاب أو توكيده أو إدامة الحاضر بتوكيده لحظة
انجاز الكلام.([34]) لكن لماذا هذا الجمع بين هذه المفردات والصور المتخيلة دون غيرها!؟
إن
الشاعرة ترسم لنا الصورة الزمنية المتخيلة لأشجار البستان المرعبة أو
السلبية التي يتصورها أي فرد في الليل. هذه الصور خيالية أو يمكن تخيلها
ليلا حين يدخل زمن الخوف قلب الذات، ويمارس تأثيرا بعيدا و متخيلا، يهدف
إلى إثارة كوامن في المخيلة البشرية وفي أعماق شجونها.
إن
الزمن هنا مختص بفضاء (الليل) ويتمثل بهيمنته القوية التي تقتحم الكون
الإنساني، فتثير داخله قضايا شتى تسعى لوضع تصورات عن طبيعة التأملات
الداخلية والدلالات المرافقة ويشكل الليل الحيز الزمني الذي تكتنفه
التحولات والصور على مدار القصيدة ككل، وفي هذه اللحظة كانت الصور
المنبثقة باعثة للخوف والقلق، وكان الليل زمنا للرعب لارتباطه بصور سلبية
مرعبة تتماشى وطبيعته. وكلما رسمت هذه الصور في إطار الليل قابلتها صور
ايجابية أخرى في اللحظة الثانية ذلك لان الليل ظاهرة أطلت وتطل على
الإنسان كل يوم فتعامل معها بما توحي له من خير أو شر، فصيرها جزءا من
حياته ومنحها ما تستوجبه من هذه الحياة([35])،
لهذا ارتبط الليل بلحظات ايجابية وسلبية معا. وتقدم لنا مفردة (ترعبني)
أهم الإيحاءات التي تميز سر العلاقة بين الإنسان الشاعر والليل والأشجار
والرهبة التي تولدها هذه العلاقة. ويعد الزمان هنا بناء نفسيا يتبادل
عملية الخلق الفني مع الشاعرة حتى يكاد يتحول إلى الزمن الحقيقي الذي
تحياه. ([36])
أما
اخطر الصور الحركية وأكثرها تأثيرا فهي (بركانا تمتد سواعده نحوي، تغلق
نافذتي، تقذف فوق سريري النار) . ارتبطت باللحظات الزمنية السلبية المؤثرة
تأثيرا مباشرا.
وتغير
زمن الصور وتحوله من زمن الصور المتخيلة أو الخيالية إلى زمن الصور
الواقعية عبر التشخيص الإحيائي-إن صح التعبير- فالبركان صورة واقعية، لكن
من غير المألوف تشبيه (أشجار البستان) بـ (البركان) لتصبح الصورة الواقعية
غير مألوفة، وبهذا يمارس الزمن تغيرا وتحولا بالصور، حين يمثل (البركان)
سلطة الزمن السلبي وسطوته المدمرة التي لا تمنح أملا بانفراج خارجي ليبقى
زمن الذات الداخلي معزولاً ومقفلاً: (تغلق نافذتي) كي يمارس البركان فعله
التدميري دون أية مقاومة .
ليس الهدف من هذه الصور وحركيتها هو التشخيص فقط بل المقصود منها التعريف بموقع الذات والقوى التي تتسلط عليها.والآلية
التي تحكم حركة عناصر الصور التي يتم التركيز فيها على غياب الفعالية
الإرادية للذات. فإذا بها تنفلت من قيود المعقول لتتشكل حسبما توحيه حركة
التجربة الإبداعية في فضائها النفسي الأبعد والقصي.
إن
البعد النفسي للصور كفيل بإضاءة بنيتها العميقة التي تغور داخل النفس لذا
جاء التشخيص كتعويض عن الشعور القاسي بالزمن، يقوم بألغاء التناقض بين
الحي والجامد ، المتحرك والساكن ، وبهذا يكون الشعور دافعا” لخلق صور
قاسية ومؤثرة ، تعمل على خرق المألوف 0 إذ نلمح في هذه اللحظة الزمنية
السلبية المتحولة استخدام ثلاث صور فرعية وهي:
أو بركانا تمتد سواعده نحوي
تغلق نافذتي
تقذف فوق سريري النار
حيث
شكلت الصورة الاستعارية للبركان سواعد تمتد نحو الذات لتمارس عملية تدمير
يتم بفعل التغيير المباشر عليها.لكن لماذا استخدمت الشاعرة (سواعد) ولم
تستخدم (أيادي) مثلا!؟ ربما لان الأيادي مرتبطة بالخير والسواعد بالاقتحام
والمداهمة. وبهذا خدمت المفردة اللحظة الزمنية السلبية في فضاء النص.
و
(تغلق نافذتي) هي محاولة غلق منفذ الذات ووسيلة اتصالها بالآخر أو بالزمن
الآخر. وإغلاق النافذة حدث يعلن عن فضاء مقفل صار ملعبا مخصصا لفعل الخراب
والتدمير. إن الذات الشاعرة أتقنت تشكيل محنتها باللغة فقد رسمت صورة
احتلال الدمار وانفراده بالذات في حيز ضيق مقفل لم تفصح عن حدوده ، وان
كان السرير يوحي بكونه غرفة نوم ، لكن أي غرفة نوم تتسع لدوران همجي مسعور
قابضة جيــد امرأة مستوحدة في فضاء مظلم لا أمل فيه لانفراج فعوامل الخراب
تهيئ لإتقان فعلها فهي تعي أهمية إقفال النافذة منعا لكل سبل المقاومة.
و(تقذف فوق سريري النار) والقذف بالشئ قذفا والتقاذف الترامي([b][37]) وهو
يكون من بعيد وقد جاء استخدامه موافقا لاستخدام مفردتي (البركان والنار)
ليناسب معنى البركان ما يتصل به من مفردات، لكن هذا القذف مس خصوصية الذات
لأنه يكون ( فوق سريري). ونلمح استخدام الأفعال (تمتد، تغلق، تقذف) وهي
أفعال حركية لها قوة التأثير أولا ثم التغيير ثانيا في الزمن السلبي.
فالبركان يمارس تأثيرا زمنيا وتحولا بثلاث نقاط أساسية وهي (تمتد، تغلق،
تقذف) وما تحمله الأفعال من قوة وحركة ليس في صيغتها كأفعال مضارعة وإنما
في حركيتها وعنفها وفي طبيعتها التي تؤكد إمكانية التأثير والتغيير. [/b]
إن
الأفعال التي رسمت اللحظة الزمنية السلبية الأولى تتشكل من الأفعال
المضارعة لتكرس الحاضر الزمني المخيف، وهي ترسم تأثيرا زمنيا سلبيا يملك
فعل التأثير والقوة عبر صورة سردية والسرد يجسد الحركة ويقدم الأحداث
بواسطة الأفعال التي تغني الحركة بطبيعتها. وربما أفاد التعبير في سياق
الفعل المضارع إلى انه بالرغم من ديمومة الحركة إلا إنها تبقى قاصرة عن
مواكبته أو اللحاق به، وهذا يؤدي إلى تموضعها خارج دائرة قدرة الشاعرة على
تملكها. فتراكمات الفعل المضارع تقوم على تفاعل عناصر الصورة وتمركزها في
فضاء من التصور الشعوري الداخلي المتنامي. من هنا تأخذ حركة الصورة
بالتنامي مجسدة الحركة النفسية التي تتفاعل في الوجدان.
(4)
أما اللحظة الزمنية الثانية: فهي لحظة تداخل الأيجاب بالسلب معاً وتبدأ كذلك بـأشجار البستان):
أشجار البستان…
أحيانا تدخل في الليل
بحلتها الخضراء
غرفة نومي..
وتظل سريري بالثمر الريان
تمد غصونا فرعاء,
تراقصني
تتثنى حولي بحنان
تقطف لي نجمات الفجر،
تخبئها تحت وسادي
وتغني لي أغنية الحوريات
مع ابن السلطان
ليلة أمس سمعت صفير الريح
عري الشرفة,
أوجاع الشباك
حين نهضت،
لمحت الشجر الأخضر
يرحل في قافلة،
والبستان
خاوية إلا من أعشاش يمام ينزف
أقفلت القضبان،
وواصلت الكابوس…
وتبدأ
بالزمن الايجابي وقد وظفت هذه اللحظة الإيجابية الأفعال والمفردات التي
تتناسب مع أشجار البستان وهي تدخل بحلتها الخضراء وتظل الساردة بالثمر
الريان، وتمد غصونا فرعاء،…..
وتبدأها
بالفعل (تدخل) فقد تحولت الصورة من العدو المصحوب بالسرعة والهجومية
والعدوان إلى الدخول المتسم بنوع من الهدوء لأنه مصحوب بظلال من الحنو
والرأفة تتضح عبر الحلة الخضراء والثمر الريان، وعبر حالة الرقص التي تزخر
بمشاعر شتى من انفعالات الفرح والحزن والسمو بالجسد نحو حالة روحية
وجدانية دليلا على فسحة زمنية فيها استرخاء ومهادنة. أي أصبح الزمن الذي
كان يعدو في الخارج داخليا في غرفة النوم، وليست الحالة دائمة كما في
الحركة الأولى لان الزمن هنا اختص بـ(أحيانا) والحين وقت من الدهر مبهم
يصلح لجميع الأزمان، والحين المدة، ووقت من الزمان. ([38])
فالزمن معبر عنه بأداة تقليدية ولكنها مبهمة غير إن إضافته إلى زمن متسم
بالحركة والحاضرية جعلت إبهامه قصدا في هذا الوضع اللغوي، وهو موضوع بمعنى
(تارة) والزمن هذا محدود بلحظات أو بوقت، ومن هذا الفهم فان الحين يوحي
بضيق الحيز الزمني، وهو يفقد مدلوله الزمني العادي فإذا هو متجدد مستمر
لان الحركة الزمنية المصاحبة له تظل متجددة فكلما وقعت حركة زمنية معينة
فاعلتها حركة زمنية أخرى وهي حركة مستمرة متجددة باقية ما بقيت هذه الحياة. ([39])
مؤكدة المعنى المكتشف في الخاتمة، وهي نقطة زمنية تكرس الحاضر أو هي نقطة
التقاء بين هذه الصور والصور السابقة أو هذه اللحظة واللحظة السابقة.
في
هذه اللحظة الزمنية تحولت الألوان والأشكال التي تتلون بها إلى لون واحد
وهو اللون الأخضر الذي هو لون الأشجار الطبيعي، فقد خلق الزمن النفسي
المتوازن معادله اللغوي في اللون والصور.
إن
استخدام (تُظِلُّ سريري بالثمر الريان) ربما يكون ردا على ما جاء في
اللحظة الزمنية السلبية الأولى (تقذف فوق سريري النار) من تشبيه الأشجار
بالبركان وهي تقذف النار، فهي تقدم المضاد للصورة الأولى أو المقابل لها،
وتمنح الذات الشاعرة فرصاً تعوضها عن عذاب النار بالثمر الريان لما يمثله
الثمر الريان من طاقة ايجابية ولونية تشمل كل الوان النضوج (احمر ، اصفر،
برتقالي) وهو تشبيه يرد على التشبيه الأول، كما نلمح استخدام (تراقصني)
مقابل (يدور) في اللحظة الأولى، وتراقصني هي نوع من الحركة الزمنية جاءت
مؤكدة اللحظة الايجابية، ولم تكن هذه الحركة إلا تنفيساً عن أزمة داخلية
ورغبة في التغلب على الإحساس الحاد بالزمن.(3) وتأتي بعدها
اللحظة السلبية لتكشف لنا أن ممارستها، وحركاتها الراقصة لم تكن أكثر من
أفعال آلية تفتقر إلى الروح القادرة على النماء والحيوية والمواجهة. ويعد
الرقص هنا فعلاً من أفعال مقاومة السلب
يؤازره
الغناء في: (وتغني لي أغنية الحوريات مع ابن السلطان)، ولابد من الإشارة
إلى أن الرقص هنا سابق للغناء على عكس المعهود لأن حركات الرقص طاوعت نداء
داخليا في النفس أعطته ذاتها ولم تكن استجابة لموسيقى الخارج ولا لنغم
الغناء.
الصورة الثانية: اللحظة الثانية الايجابية |
الصورة الأولى: اللحظة الزمنية السلبية |
أشجار البستان |
فعجوزا شمطاء أو جنية بئر مسحور أو همجيا مسعور يدهمني يقبض جيدي ويدور أو بركانا |
أشجار البستان |
أحيانا تدخل في الليل |
تمتد سواعده نحوي |
تغلق نافذتي |
بحلتها الخضراء |
تظل سريري بالثمر الريان |
تمد غصونا فرعاء تراقصني |
تقذف فوق سريري النار |
ومن
أعماق هذه اللحظة الايجابية الوارفة التي يبدو أنها قصيرة سريعة طافحة
بالبهجة تنبع صورة زمنية داخلية تتحول فيها إلى اللحظة السلبية (ليلة أمس
سمعت صفير الريح، لمحت الشجر الأخضر يرحل، أعشاش يمام ينزف)، هذا التحول
يشعرنا بان اللحظة الايجابية جاءت منشقة إلى سلبية أي أنها جاءت محصورة
بين لحظة كاملة سلبية ولحظة منشقة سلبية، مما يعني أن عوامل الإيجاب وفرح
الإنسان محاصر بالسلب مما يضعف فرص خلاصه. فالريح قوى مغيرة حركية تتسلط
على الذات، ومن حولها لأنها فعل متحرك يختزن الطاقة ويعبر عنها، وهي ترتبط
بلحظات الرحيل عبر صورة سمعية بصرية تتجسد في (سمعت صفير الريح، لمحت
الشجر الأخضر يرحل) ثمة عملية استذكار مفاجئة ولكنها ترى المشهد السمعي
البصري رؤية حلميه وهي صورة موفقة جاء التجسيد فيها ليسهم في تعميق
الإحساس بها عن طريق الانتقال مما هو سمعي إلى ما هو بصري. ويتحول الزمن
الايجابي إلى السلبي في اللحظة الزمنية نفسها، فالشجر الأخضر يرحل دلالة
على الجريان المستمر، والرحيل الدائم لكل شئ من زمن الذات أو السنين التي
ترحل، وهذا المعنى نجده مرتبطا بالخاتمة كما سنرى. فاللون الأخضر يعود
لكنه في حالة رحيل، والرحيل لحظة زمنية مفارقة وقاسية، تدل على الحركة
والانتقال والتغير، وارتبطت هذه المفردة بالقافلة للدلالة على لحظات
الرحيل الجماعي، والشامل. كما ارتبط اللون الأخضر ورحيله بالأحمر، فالأخضر
يرحل والأحمر يظهر، وهو يجسد الصراع مابين ألوان الطبيعة ورموزها فاللون
الأحمر لون الجراح وعذابات الإنسان، ولون الحياة ونبضها، ولون الحرية التي
تنتزع بالدم، وهو أكثر الألوان إثارة للبصر وللتشكيلات الصورية. ([40])
وتنتهي لحظة السلب بما يؤكدها من تراكيب صورية(أقفلت القضبان، واصلت
الكابوس) فالكابوس لحظة زمنية قاسية ترتبط بسمات انقباض نفسي وجسدي اليم
مما يشيع مشاعر السجن والانحباس.
والألوان
هي صور رمزية معبرة، واستخدامها لم يقتصر على صفتها الطبيعية بل اتجه
الوعي بها كطاقة تشكيلية ذات خصائص نفسية وبصرية متميزة. ([41])
فالنص لا يستسلم للتجريد الواقعي بل يتحول نحو الرمز، فمن الأخضر وما
يكتنفه من شعور بالتنامي والتجدد يمتد نحو الدم الذي يديم الحياة ويواصل
عطاءها. ([42]) حتى تنجح الشاعرة في إقناعنا بالانبعاث من خلال حركة لونية متصاعدة.
الدورة الحركية اللونية الزمنية في النص:
أشجار البستان الأخضر
في الليل الأسود
بركانا تمتد سواعده الأحمر
تقذف فوق سريري النار الأحمر
أشجار البستان الأخضر
تدخل في الليل الأسود
بحلتها الخضراء الأخضر
تظل سريري بالثمر الريان الأحمر
الشجر الأخضر يرحل الأخضر (في رحيل) تداخل لوني مع لون آخر
يمام ينزف الأحمر عبر حركة الرحيل
أشجار البستان الأخضر
ليل يمضي الأسود تداخل لوني عبر حركة
يوم يأتي أبيض وأخضر وأسود البدء والشروق ثم الليل
أن حركة اللون في النص عبر تداخلاته الواضحة إنما تعبر عن الحركة الدرامية
التي تشعل جذور الحياة من الأزل إلى الأبد والتي تلونها بأنواع الصراع
والتناقضات، فاللون عنصر أساسي من عناصر تشكيل الصور، ويمكن اعتباره ظاهر
الصورة المعبر عنها والخيال المركب يستطيع بقدرته التأليف بين الأشياء
والألوان والأحاسيس، فيبدع الصورة مستفيدا من التعاقب والحركية في الزمان
ومن التشكيلية في المكان.([43])
وعند
إحصاء هذا التدرج اللوني في القصيدة، نرى اللون الأخضر قد تكرر بواقع (6)
مرات, واللون الأحمر (4) مرات, واللون الأسود (4) مرات, وهذا التكرار
والتدرج اللوني يخدم اللحظات الزمنية المتدرجة والمتحولة ما بين سلبيتها
وايجابيتها, كما إن ورود الألوان الثلاثة دون غيرها (اخضر/احمر/اسود) إنما
هو إشارة إلى اللحظات الزمنية الثلاث المتصاعدة في فضاء النص الشعري.
فاللون
الأخضر يرمز إلى الزمن الايجابي يقابله الأسود الذي يرمز إلى التشاؤم أو
الزمن السلبي، وما بينهما يتأرجح اللون الأحمر الذي يرمز إلى القوة أو إلى
المخاض الحاصل في صراع اللونين السابقين (الأخضر والأسود) ما بين السلبي
والايجابي.
فاللون
الغالب هو اللون الأخضر من تصاعد تكراره في النص فهو المتفوق على اللون
الأسود. إن هذه الدورة الحركية اللونية الزمنية تسير على مبدأ العود
والرجوع شانها شان مضمون النص الشعري، فالنص يبدأ باللون الأخضر والأسود
وينتهي بهما في حالة من مزج السلبي بالايجابي والصراع المتنامي بينهما إلى
النهاية. وهكذا شكل النص الشعري حركية لونية وتحولا لونيا متناميا.
نلمح
في النص الشعري عموما استخدام الفعل المضارع بكثرة طاغية على باقي الأفعال
والسبب يرجع إلى أن المضارع: ((يعد مركز الزمن اللغوي فهذا الزمن له مركز
مولد محوري معا في حاضر استعمال الكلام وكل مرة يستعمل فيها المتكلم الشكل
النحوي للحاضر أو الذي يقارنه بموضوع الحدث كمعاصر لاستعمال الحديث الذي
يبنيه وهذا الحاضر يجدد ابتكاره كلما تكلم الإنسان لأنه حرفيا لحظة جديدة
غير معيشة بعد وهذا ما يجعل النص يختزن طاقته وتجربته القابلة للتجدد مع
كل قراءة، وبنية الزمان في النص وهي المحصورة في الحاضر تعطينا إمكانية
مهمة لإدراك العالم المقدم لنا من طرف الشاعر)).([44])
فالتوارد
للأفعال المضارعة يتجلى في شكل حركة داخلية ينبني عليها الفعل ذاته ومن
ورائه النص بأسره حيث تنبع الحركة من الفعل وتمضي باتجاه جميع جوانب النص
الشعري.([45]) ومن ثم يتحول الفعل إلى وحدة دلالية وإيقاعية مهمة.
كما
ويرجع السبب وراء تزايد الأفعال على مسار فضاء النص ثم التناقص في
الخاتمة إلى أن التجربة الشعورية تدرجت متصاعدة في فضاء سياق سردي متصاعد
إلى الخاتمة.
(6)
أما اللحظة الأخيرة التي تمثل لحظة الكشف والاستجلاء فنلحظ فيها التشكيلات الآتية:
أشجار البستان
تدنو في وجل مني
تهمس:
هذا ليل آخر يمضي
هذا يوم آخر يأتي…
سر اللعبة عندك,
سر اللعبة عندي…
أن
سر اللعبة يكمن في ما يفسره الشجر الأخضر الذي يرحل واليمام الذي ينزف إذ
يصب التركيبان في معنى واحد من المضي والعودة الزمنية الدائرية المستمرة،
فكل شئ يمضي ليأتي غيره.
كما
أن اسم الإشارة (هذا) يفيد في تحديد عنصري الحضور والغياب اللذين يشكلان
صورا فنية تغذي السياق بدلالته العامة وإدامة حاضره النصيّ، واستخدام اسم
الإشارة السابق على الليل يوحي بان الليل ليس طارئا وإنما تشكل منذ زمن
وأصبح له تأثير سلبي حتى غدت الإشارة إليه تخصيصا لا تعريفا([46]) وأصبح الليل هنا مرادفا للدهر فهو الذي يغير من القوة إلى العجز أو الذي ينقل من الحياة إلى الموت، والعكس صحيح أيضاً.
إن
اللحظة الأخيرة هي لحظة زمنية متعالية قادرة على الإمساك باللعبة نستشف
منها خبايا المكنونات لنجد (البستان) يرمز إلى الحياة، وأشجاره ترمز إلى
السنين أو العمر وسنينه التي تمضي ليأتي غيرها، إن النص يزرع لغما دلاليا
يشير إلى غلبة النظرة الايجابية إلى الحياة من خلال (ليل يمضي ويوم يأتي)
ويعطي استمرارية في الحصول والتداول ما بين الزمن السلبي والايجابي ما بين
الموت والحياة والموت والولادة.
لقد
مثل الموت حالة تصدع عضوي نفسي مستمر، دفع الإنسان للبحث عن سلام عقلي
يحاول التماسك وسط دوامة الانهيار وبهذا تكون الحياة النفسية بأكملها حركة
تأثر وتأثير متبادلة تخلق تفاعلا واستجابة في الزمان والمكان فالشعور وحده
يملك القدرة الكيفية في السلب والإيجاب.فالنص يسير وفق مبدأ العود والرجوع، وربما يكون هذا وجها من وجوه التعبير عن طبيعة الصراع المستمر بين الإنسان والزمن.
إن
الحركة والاستمرارية الزمنية استمدت حيويتها من الأفعال المضارعة المستمرة
في التتابع، فهناك نوع من الدائرية الفعلية ما بين الفعل الأول في النص في
اللحظة الزمنية الأولى (تعدو) الدال على المضيّ إلى الأمام، والفعل الأول
من اللحظة الأخيرة لحظة الكشف (تدنو) يكشف عن نهاية زمن اللعبة حيث إن
نهاية العدو والسرعة الزمنية انتهت بلحظة القرب والدنو الزمني لكنها
مرتبطة بلحظة زمنية تتسم بالخوف (تدنو في وجل مني تهمس). فضلا عما تثيره
لفظة الهمس من إشعاعات نفسية وأصداء صوتية تجعلها متجانسة وإطارها الشعوري
الذي يكثف الإحساس بالزمن.
إن استخدام الفعل (يأتي) في النهاية، وهو فعل يفيد استخلاص المقومات ولكنه يسمح لنا بالنظر إليه سياقيا([47])
في علاقة مع أول فعل ابتدأ به فضاء النص، وهو (تعدو) إشارة إلى عملية الشد
والجذب الزمنية ما بين الليل والنهار كاشفة كل ما يحمله الليل من معنى
الثقل والعتمة في عمر الذات.
وبهذا
تكون نهاية النص مرتبطة ببدايته من خلال الموقف الشعوري المهيمن على
دلالاته فهي (( ترتبط بالبداية ارتباطا عضويا ولكنها ليست هي البداية إنها
نهاية مفتوحة)). ([48])
فالمقطع الأخير إيضاح لكل ما تقدم وهو من هذه الزاوية بطاقة تعريف للمقاطع المتقدمة.
[font:bac8=Times New Ro