منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المشــرق المتخيـّـل . تحولات تذاوت روائي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 01/01/1970

    المشــرق المتخيـّـل . تحولات تذاوت روائي Empty المشــرق المتخيـّـل . تحولات تذاوت روائي

    مُساهمة   الأربعاء فبراير 24, 2010 9:02 am

    شرف الدين ماجدولين: المشــرق المتخيـّـل . تحولات تذاوت روائي PDF طباعة إرسال إلى صديق
    1- تمهيد
    يُمثِّل "الموضوع المشرقي"، بما هو حد جغرافي، ومجاز ثقافي، ومجال عاطفي، أحد المثيرات الأساسية للسرد الروائي والسير الذاتي المغربي المعاصر، ويشكل مرجعا أثيرا للوصف والتخييل، والاستبطان الجمالي. كما أن الولع الحسي والمعنوي بمباهج العواصم المشرقية الشهيرة، وعبق التاريخ، وسحر الصور المنتسجة عبر آلاف المرويات والسرود، حدا بالروائيين المغاربة عبر توالي عقود القرنين الماضي والحالي، إلى ابتداع محكيات تباينت رؤاها ومراميها، ومناحيها التمثيلية؛ بيد أنها تقاربت في سعيها إلى استكناه الإلغاز المشرقي، المزاوج بين متناقضات النهضة والهزيمة، الوحدة والتشظي، الانفتاح والانكفاء على الجرح العميق... وغيرها من الثنائيات الضدية المحيرة، التي صورت لبنان ومصر وسوريا والعراق وفلسطين، بمثابة صقع ملتبس، ووجود حافل بمثيرات الخيال، وأفق "لممارسة "تذاوت" عبر الكتابة، مع مجازات وتفاصيل حياتية، ورحابة مبهرة، غائرة في الذوات العميقة للمغاربة، وباعتبارها هوية لمجتمع لم يتحول يوما إلى كيان "غيري"، وإنما بات امتدادا للذات، ومكونا من مكونات الإحساس باللغة والزمن والمحيط الإنساني.
    والظاهر أنه منذ خمسينيات القرن الماضي، مع البدايات المبكرة لهذا الفن، وتحديدا مع نص: "جاسوسة على حدود فلسطين" لعبد العزيز بن عبد الله (1950)، مرورا بروايات: "النار والاختيار" لخناثة بنونة، و"القاهرة تبوح بأسرارها" لعبد الكريم غلاب، و"رفقة السلاح والقمر" لمبارك ربيع، و"مجنون الحكم" لبنسالم حميش، و"أحلام النساء" لفاطمة المرنيسي، و"القاهرة الأخرى" لرشيد يحياوي، و"المخدوعون" لأحمد المديني، و"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة، و"المصري" لمحمد أنقار، ... اكتسبت عوالم الشرق العربي في تجلياتها الفضائية، والرمزية، والتخييلية، مجموعة من "الصور" و"التمثيلات"، الفكرية والفنية والسياسية، شهدت تحولات في مضمونها الروائي، عبر تراكم التجارب والأسفار، والتواصل الفكري، لتتحول تدريجيا من "قيمة فضائية" ثابتة تستبطن قيما عاطفية وذهنية ذات صبغة تعميمية من قبيل "القومية" و"النهضة" و"المركزية الثقافية"... مطلع القرن الماضي، إلى تجليات وقيم أكثر التصاقا بالعملية الإبداعية، من قبيل الاستحضار المباشر للرموز المشرقية التي قد تبتدئ بالعواصم الشهيرة: القاهرة ، وبيروت، وبغداد، ودمشق، ولا تنتهي بتضمين الأهواء والانحيازات الأدبية لكتاب وقادة وفنانين، ومآثر ثقافية، ولنصوص أدبية مشرقية خالدة.

    2- الفضاء القومي: القضية أفقا للاستعارة.
    ولعله لم يكن من قبيل المصادفة المحض، أن تلتصق المتون الروائية المغربية الأولى بالهم المشرقي متمثلا في القضية الفلسطينية، التي حضرت في عنوان رواية عبد العزيز بن عبد الله، ثم في الحبكة الحكائية لنص "النار والاختيار" لخناثة بنونة، قبل أن يشكل المشرق، متمثلا في مدينة "القاهرة" (عاصمة القومية العربية، ومركز النهوض والإشعاع الثقافيين) مفصلا مركزيا في حياة "إدريس" بطل رواية "جيل الظمأ" لمحمد عزيز لحبابي، وقاعدة التكوين الثقافي والسياسي للسارد في نص "القاهرة تبوح بأسرارها"، لعبد الكريم غلاب؛ ففي هذه السرود جميعا، سواء منها الروائية الصرف، أم ذات المنحى السير ذاتي، شكل المشرق لحظة الحماس الإيديولوجي الهادر، ولم تكن الثورة الفلسطينية، وخطب الزعيم عبد الناصر، والحراك الفكري الحامل لأفكار التحرر والاشتراكية، ومقاومة الاستعمار، على إيقاع التطور الدرامي للصراع العربي الإسرائيلي، إلا خلفية ذهنية لمشهد مغربي محكوم بشغف الانتماء إلى ما سمي آنذاك بالوطن العربي الممتد من المحيط إلى الخليج. ولا جرم، من ثم، أن يخصص روائي مغربي كمبارك ربيع رواية حول حرب أكتوبر، تدور أحداثها بين دمشق وبيروت والقاهرة، متغلغلة في التفاصيل الفضائية والشخصية لتلك المدن ومحيطها الإنساني، مشخصة وهجها الدنيوي، وما تحفل به من ثراء يمتد من الكلام إلى العقائد، ومن الجدران إلى النسوغ،... مشكلة لحظة تصويرية فارقة في مسار الجدل الروائي المغربي مع القضية القومية، ومولدة صيغة استعارية بالغة الدلالة لحلم الضمير الجمعي.
    في "رفقة السلاح والقمر" يقدم مبارك ربيع محكية روائية عن التجريدة المغربية المشاركة في حرب رمضان، في الجبهة السورية، وما رافق رحيل أفرادها، من الجنود البسطاء، من حماس وإيمان عميق بنبل القضية وقداستها، وتستدعي، عبر تداخل طباقي دال تفرزه في السياق النصي ذاكرة شخصية "ميمون"، صورة حرب عبثية خاضها الجنود المغاربة إلى جانب الجيش الفرنسي في جبهة "الهند الصينية"، وعبر التداعي الحدثي تتبلور علة النصر، حيث لن يكون إلا محصلة لتلازم قيم "الحق" و"وحدة المصير"، و"عدالة القضية"، وهو التلازم الذي يذكي إحساس الجندي المغربي بالانتماء والتماهي مع امتداده القومي. ومن خلال الاسترسال السردي، تتشظى الفصول إلى مشاهد ومحطات فرعية، تطل بالقارئ على تفاصيل غميسة من أحياء القاهرة وبيروت ودمشق تكشف ولعا إبداعيا واضحا بإعادة تمثيل مشاهد نصية متواترة، وإخراجها إلى حيز الخبرة الحية المباشرة، وتحويلها من موضوع للتلقي، إلى مرجع للإنجاز الروائي المتجدد.
    ويخيل إلينا أن رهان "القضية" لم يشكل في رواية "رفقة السلاح والقمر" إلا قناعا خارجيا لذلك الانجذاب الوجداني المؤثل للمغربي تجاه أمكنة وأصوات وملامح، تكتسب العديد من مقومات الثراء التخييلي؛ من هنا فإن الصور المشكلة للمدن، لامست حدوسا غائرة في اللاوعي، حول مسارات وأحداث تنطوي على إيحاءات ملتبسة، تبدو واضحة وقريبة بقدر ما هي قصية وملغزة؛ نقرأ في أحد المشاهد التصويرية لبيروت:"وحين يتجمد الموج مع الفجر، وتمتصه من جديد ملتقى كل الأجناس والضمائر، بيروت الصخب والتناقض، تظل "سامية" ونسخ مماثلة لها على الطريق. لم تعد أزقة بيروت الضيقة ولا شوارعها الفسيحة، لا براءتها ولا عهارتها بقادرة على أن تمتصها من جديد. مشردة فلسطينية ونسخ مماثلة لها من بقايا الخضم الذي أتعبه السعي والهدير، تقف على طريق الشام العتيد المستقيم وتخطو فيه بلا أضواء زاهية ولا ألوان، ربما لأول مرة في تاريخ الطريق .. حتى الفجر الكاذب غاب ضياؤه، تخطو في الظلام ووراءها خطوات بعزم وتصميم. بقصيدة شعر وبندقية!"[1].
    وبصرف النظر عن النزعة التنميطية التي تجعل بيروت تتصادى في الصورة الحالية، مع عشرات الصور الحسية والتسجيلية في الرواية العربية، عن المدينة المنشطرة، الموزعة بين الأهواء الدنيوية والمنازع العقائدية، الهاجسة بالموت والعاشقة للحياة، فإن انصرافها في بنية المتخيل الروائي لـ"رفقة السلاح والقمر" إلى تمثيل التعلق العاطفي بـ"القضية"، يحولها من وجود مديني مولّد للتناقضات الإنسانية، إلى حامل لنوازع التعبير المونلوجي عن استعارة جاهزة، هي تلك التي تجعل من بيروت ذاكرة للحرب وعلامة على جرح مؤبد، وسيرة للتقاطب الذي يبدأ بالأفكار، ولا ينتهي بالشوارع؛ والذي يجعل منها أيضا مجرد خلفية لتمادي المأساة الفلسطينية. من هذا المنطلق يمكن فهم نزوع التصوير الروائي إلى تشخيص التشرد الفلسطيني عبر قيم أسلوبية تستنفر لها عدة الوصف الدرامي المفعم قتامة، حيث تنسرب الظلال الأسية إلى تجاويف الشخصية المأزومة، عاكسة الخراب الوجودي للذات الذي لا ينتشل في السياق النصي إلا بقدر الخروج من المدينة المنطفئة.
    لأجل ذلك تكتسب الصورة إيحائيين، الأول تاريخي - ثقافي يكثف علامات التجلي المفارق لبيروت في إطارها الزمني، ويعيد إنتاج حسيتها وكنهها المعنوي المجرد عبر العقود الأخيرة، في ارتباطها بتلازم الخطوب والمآزق الطائفية والفكرية والسياسية؛ والثاني جمالي ذو بعد استشرافي يصل صورة بيروت بتحولات الحوارية المجهضة والانفتاح المعطوب، و عجزها عن احتواء التعدد وتحولها إلى محطة عبور للشعارات والرموز المجاوزة لحجمها. كل ذلك عبر وضعها في صيغة "اللحظة العابرة"، التي تستبطن الجدل النفسي المؤقت مع ملامح وأفعال الشخصية العابرة لفضائها المتشعب، وهو ما يتجلى في الصورة المقتبسة في هيمنة الظلام والضيق على الدروب والشوارع، في تضامن رمزي مع مشاعر الفقدان لدى البطلة الفلسطينية المشردة.
    في صور لاحقة يستحضر مبارك ربيع، الأجواء الشعبية لحواري القاهرة وأزقة دمشق، بالحافز السردي ذاته، أي تمثيل القضية، وتمجيد لحظة فارقة للعنفوان القومي، وهي صور تتباين بالنظر إلى تطور محكي الانتصار العسكري في حرب أكتوبر، وتفاقم تفاصيل الأحداث المتشظية عبر الفضاءات والهويات، والأجيال، وتتنوع بقدر ما تتشربه كل مدينة من ظلال معنوية في المتخيل الروائي المغربي، وتختلف بالنظر إلى زاوية الرؤية والإحساس والسياق الدرامي الحاضن لها، يتساوى في ذلك مبارك ربيع في "رفقة السلاح والقمر"، بخناثة بنونة في "النار والاختيار"، بعبد الكريم غلاب في "القاهرة تبوح بأسرارها" ، بغيرهم من الروائيين المغاربة ممن ارتبطوا بالمشرق "القومي"، أو سافروا بين ربوعه، أو استوطنوا مدنه لردح من الزمن.

    2- فضاء الزمن الجميل: لحظة التخييل الانشطاري.
    وتبقى النصوص المستوحية للمدن/ المراكز المشرقية، بما هي مجاز كبير لصور الزمن الرومانسي الجميل، الذي يختصر كل الألق الفني والفكري والسياسي، متفاوتة في تمثيلها للحظات التوق والحنين، وإن كانت تطغى عليها جميعا، سمات التعبير عن "انكسار الحلم" و"خيبة الأمل" وفقدان الفضاء الوجداني "الملهم"، بفعل التحولات المتسارعة، وتلاحق الأزمات الاجتماعية والسياسية. من هذه الزاوية يمكن مقاربة أعمال أحمد المديني ومحمد برادة وحتى أعمال بنسالم حميش التاريخية، حيث تشخص مآزق الوقوع في دائرة السحر السلطوي، وتناقضات المثقف، في محاولة لتفسير الانحدار المأساوي للمجتمع العربي، وإخفاق مشاريع التنوير، وهيمنة الدولة التسلطية المصادرة للانفتاح والتعدد الثقافيين.
    والحق أن هذه النماذج الروائية بقدر تباين منطلقاتها في ترجمة تفاصيل النظر إلى ذلك الماضي الآفل، والانتقاد المرير للحاضر الإنساني الذي انتهى إليه "الوعد المشرقي"؛ فإنها تتوحد جميعا في مزجها لسمات التسجيل، بالتخييل الشاعري، بالسخرية، بالتكثيف الرمزي، ويتقاطع في مبناها السردي الصوت الذاتي بأصوات شخصيات وأمكنة وتفاصيل تاريخية، ومرويات يومية،... ينجدل فيها الواقعي بالمتخيل والمرجعي بالمفترض المتوق إليه.
    ولعله إن كان لنا أن نختار نصا دالا على هذا النحو من التصوير لعوالم المشرق العربي في الرواية المغربية المعاصرة فلن يكون إلا نص "مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة، حيث يضحى الوجود في مدينة القاهرة، وتمثل ذاكرتها، والسعي إلى تضمين ما تسرب إلى اللاوعي، من انطباعات ووقائع وحدوس، في محكيات تتوسل كل الإمكانيات التعبيرية للفن الروائي، يضحى فرصة للتأمل في مسارات بدت منتهية، وتأويل امتدادات ومعاني اكتنفها قدر كبير من الغموض، ومراجعة نقدية لتحولات وعي جماعي تجاه الهوية والتاريخ والمجتمع والثقافة، بنحو ينفصم فيه المرجع والرؤية بين حدي الماضي والحاضر، والهنا (المغرب) و"الهناك (المشرق)، فتغدو المراوحة الزمنية والفضائية، قاعدة لتخييل انشطاري لا يكتفي بالاندماج في النوستالجيا المتداعية من روايات نجيب محفوظ وأشعار أحمد رامي وتشكيلات محمود مختار، والتماهي الحالم مع الظلال الناعمة لصوت أم كلثوم، وحماسة ناصر، وسنتمانتالية أفلام الأبيض والأسود، وطوباوية العقائد اليسارية ... بقدر ما يتيح الفرصة لتكوين ملامح رؤية خارجية، حيادية بمعيار ما، تتحول إلى حافز لنوع من المقايسة التصويرية بين زمن الآمال العريضة ومآل تضحى فيه القاهرة برموزها وصخبها الفني، وبذخها من الكلام والأحاسيس والصور، كناية عن إجهاض الإرادة في الأفق العاطفي الممتد من المحيط إلى الخليج، ومن جيل حماد الموعود بالتحرر والديمقراطية والاشتراكية، إلى الجيل الحاضر الحالم فقط بما يكفل أسباب العيش.
    وهي المقايسة التي تمتد، أيضا، بين اللحاء الخارجي، الظاهر، والشائع، الذي أفرزته التنميطات السردية الاختزالية، وبين العوالم السرية الخبيئة للقاهرة[2]؛ حيث تتجاور مظاهر الكبت، وتضييق الحريات، والتفاوتات الطبقية الرهيبة، وانتشار العنف بشتى تجلياته الحسية والمعنوية مع إرهاصات الارتداد الجماعي إلى معين العقيدة،... فيصير الفضاء المثقل بالذاكرة، قاعدة لإعادة إنتاج الكلام والصور المنسية أو المتكلسة في اللاوعي، والصوغ الدرامي لوقائع المسار الشخصي، وتحريك الرومانيسك الساخر.
    صحيح أن الانشطار في محكيات "مثل صيف لن يتكرر" يبث تأثيره في المبنى الروائي في حدود الرؤية الفردية لشخصية السارد البطل "حماد"، وصحيح كذلك أن الصور الانشطارية تسترسل على إيقاع واحد، عماده التكرار والاستدعاء المطرد لتفاصيل الزمن والفضاء، غير أن ما يمنح لعبة التأرجح بين العالمين المنفصمين وقعها وتأثيرها الذهني والجمالي، هو انتماؤها إلى تجربة بالغة العمق والثراء، وإلى ذات منجدلة مع السياق الحاضن ومع كيمياء التخييل، يقول السارد في أحد المقاطع:
    "لولا تلك الذاكرة المتناسلة المرسومة على الأمكنة والجدران، لما استطاعت القاهرة أن تستمر وأن تقاوم التدهور من خلال زخم ذاكرتها الزاهية ليتضاءل الحزن ويتألق الفرح عبر طوباوية التذكر وتجميل الماضي... أما الإنسان ففرحه ينبع من أكثر من ذاكرة. لا يكفي المتخيل الجماعي ومحكياته، ولا المتخيل الفردي واستيهاماته، بل هناك تلك الذاكرة المغايرة التي تنسجها نصوص الشعر والتخييل. لذلك لا أفصل روايات نجيب محفوظ عن تلك "ّالذاكرة المضافة" التي ترافق إقامتي وزياراتي لمصر..."[3].
    إن اللعبة المنتسجة عبر فصول محكيات "مثل صيف لن يتكرر" هي السعي إلى إبقاء الزمن في حدود "المشابهة"، في حيز افتراضي محتمل، تخترقه الالتباسات المتأتية عن فقدان اليقين تجاه المصائر والناس والتحولات، لذا لم يكن غريبا أن يردد السارد في غير ما مقطع من النص سؤال: "و مثل ماذا أيضا؟.." حيث تصير لعبة التمثيل، غاية لتشكيل معنى مفارق، مستقل، ومضاف؛ لا يتصل بالأصل والمآل إلا بصلات التأويل والافتراض، لملء "الثقوب" التي تخترق المرجع الذهني، وتحصين هشاشة الظلال والأطياف، وبقايا الضياء، من التلف والتلاشي، وحماية مراتع الأحلام المشرقية من الوقوع في وهدة النسيان.
    وفي المقطع المقتطف تلوح بقوة هيمنة الذاكرة وقدرتها الهادية، المكيفة للرؤية، والحامية من الفقدان، في موازاة التوق الفطري إلى تجميد الزمن المترقرق في غفلة من الذات، وستكون للذاكرة سلطة الكشف الاستشرافي الذي لا يكتفي بالاسترجاع، وإنما يتعدى ذلك إلى سربلة المرئيات بغلالة من الحدوس واللمع، النابعة من عمق الفرد المتماهي مع السياق والفضاء والمحيط الجماعي؛ من هنا فإن السارد حماد، حين يتأمل اليوم في "القاهرة"، فإنه لا يستطيع فصلها عن "ذاتيته"، المنشطرة بين أكوان المرجع الواقعي والمحتمل التخييلي وخبرة الوعي التأويلي لتفاصيل المسارات المتحولة.
    تلك كانت تجليات ولع مختلف بالمشرق وصوره الأثيرة، قدمت عبر فصول سردية متعددة الأوجه، تصل السيرة الشخصية، بالتأمل النقدي، بالتحليل السياسي، بالتسجيل الشاعري لوقائع فنية وتفاصيل تاريخية، وطرائف يومية، أنجزتها لغة عذبة واسترسال سردي آسر، هو من أعمق ما كتب الروائي محمد برادة ، وأبهى ما كتب، عموما، عن القاهرة والزمن الجميل في السرد العربي المعاصر .

    3-مرجعية نجيب محفوظ: الرواية المغربية والحوارية النصية.
    ولا يخرج الإصدار الروائي الموسوم بـ"المصري"[4] للكاتب المغربي محمد أنقار عن هذا الولع المشرقي ورهاناته الجمالية، فهي رواية تحكي مأزق الوقوع بين سلطتي "الإمكان" و"الوهم"، وتصور الخيبة الناجمة عن محاولة الانسراب -عبر شرنقات الخيال- من واقع الانتماء الحسي إلى مدينة مغربية بذاتها (تطوان)، إلى إبدالها المشرقي المتخيل (القاهرة). كما تسعى إلى تخييل منزع المقارنة بين النماذج البشرية، واستعارة الوظائف والملامح والصفات، عند بطله "أحمد الساحلي"، بالارتكاز الدائم على صور شخصيات الفضاء القاهري البديل، والاستدعاء المطرد لمواقفها ومفارقاتها العابثة وحواراتها المنغرسة في محيطها الشعبي، بحيث تتغلغل تقاسيم هذا الولع في النسيج الداخلي للرواية ككل، مولفة لحمتها النصية، دامغة أفقها بصبغة البحث المحموم عن "ماهية" المدينة، ومعدن عراقتها.
    هكذا تنبني الحلقات النصية لرواية "المصري" على إيقاع "النأي" و"الارتداد"؛ ابتعاد متواصل عبر الزمن للبطل "أحمد الساحلي" عن تحقيق حلم الكتابة، وانفصال مسترسل عن الذات الدفينة، عبر الانغمار في العادات اليومية وعلائق الأسرة والأصدقاء، وعجز متفاقم عن الإمساك بكنه العالم "التطواني". يقابل كل ذلك ارتداد متواتر إلى ذاكرة الصور، ووقوع في دائرة السحر "المصري"، وإخفاق في استكشاف سر "العتاقة"، وانزياح -في كل مرة- من "الأصل" إلى "الإبدال"[5].وهي العملية المفضية في المحصلة إلى "الفراغ" الصادم، ذي الهالة المأساوية، الذي ينتهي إليه البطل "المحاكي" بعد هروب الكل: الأبناء والأصدقاء والعمر والمحيط وحلم الكتابة المؤرق.
    يسعى"أحمد الساحلي" المدرس الذي أزفت ساعة تقاعده، المفتون بالرافعي وطه حسين والمنفلوطي ومنشورات الهلال ودار الكتب ودار المعارف، والمدمن العتيق لروايات نجيب محفوظ وصور "جمال قطب" و"حسين بيكار" و"اللباد" و"التوني"، إلى تقديم ما يمكن أن نسميه رواية "العمر "، نصا يستقطر فتنة مدينة تنشد من يخلدها، ولوحة تعوض عما ذهب من سنوات في الاستكانة إلى فتنة الاستيعاب والتلقي. ولقد شكل هذا المثير الموضوعي معبرا لهيكلة روائية لا تخلو من حذق؛ حيث تلتقي حلقات بحث البطل عن مادة الكتابة، برغبة الروائي الأصلية في إبداع رواية "المدينة". كما يتحول التجوال "الكاريكاتوري" للشخصية الحالمة بين معابر المدينة العتيقة، إلى تخطيط جدي من قبل الروائي لاستكناه دروب تطوان وحوماتها، واقتناص طرائفها، وتسجيل مخزونها الكلامي ورصد إيقاعها الدنيوي. بل إن عملية الارتداد المطرد إلى عوالم "نجيب محفوظ"، التي تبدو ظاهريا قناعا يعوق "البطل" عن النفاذ إلى سر الأمكنة وإيحاءاتها الأصلية، تضحى لعبة قصدية في الموازنة بين "الحسي/المحتمل" وارتداداته المجازية، حيث لا يمثل البطل إلا بوصفه تركيبا معقدا لمعادلة إبداعية ثلاثية الأبعاد، تتكثف رمزيتها بمزجها الظلال الصورية للشخصية المحلية بمثيلاتها القاهرية بالذاكرة التخييلية لأبطال روايات "خيبة الأمل" عموما.
    ولما كان التخطيط السردي مستندا إلى تقنية الربط الصوري بأبعاده تلك، فقد بات تكوين البطل تشكيلا متعدد الألوان للمحة رئيسة موحدة هي "التمادي في الحلم"، إذ ثمة دوما إصرار من قبل "أحمد الساحلي" على الاستمرار في الوهم، وعدم التسليم بالوقائع الملموسة حتى عندما تصدمه الحقيقة في الأسواق على يد "بائع السمك" السمج، أو في "الكازينو" في لحظات الثرثرة مع "المحامي" الحكيم، أو في البيت حين معايشة أهواء الزوجة العملية. وسرعان ما يتجلى السراب المطوح بوجدانه مزيجا من الشطح الفنطازي لـبطل "الشحاذ" والتطلع إلى أفق غامض عند "كمال عبد الجواد"، بطل الثلاثية.
    ولا شك أن الروائي حين يعيد تخطيط محطات حياته بين مفصلي زمن "العصر" و"الغروب"، فإنما ليذكي الإحساس بمأساوية مساره العبثي بين حدين زمنيين يطبق عليهما إيحاء الموت؛ وفي ما بينهما تتراكب بوتيرة "جنائزية"، فصول "الاستعداد النفسي" و"حومة البلد"، و"الطرانكات"، و"السويقة"، و"العيون"، باسترسال ينظر، في جزء منه، إلى إيقاع "بين القصرين" و"قصر الشوق" و"السكرية" في تجزيء المساحات المدينية، وتفصيل مكونات وهجها الحسي، وثرائها الرمزي، بيد أنه "ينأى" عنها في تناول المصائر، ونسج مولدات التداعي الحدثي.
    ويبدو محمد أنقار في أحسن أحواله حين يختار موضوعا له تمثيلَ المواجهة بين روائي "واهم" (أو وهمي)، ومادته المنتقاة بعناية عن مدينته "تطوان"، حيث تنبثق المفارقة طافحة بمثيرات الأسى والسخرية معا، فاسحة المجال لإنجاز أسلوبي ثنائي البعد؛ فعبر المواجهة المتوترة، المفضية إلى السراب، تتكون شبكة التمثيل الروائي المحبوك، في الآن ذاته الذي تستحضر فيه الكيمياء الفنية القمينة باستخلاص الصور على لسان الشخصية نفسها، حيث لا يفتأ أحمد الساحلي يردد التساؤل الحائر عن سبل تحويل مظاهر الحسي[6]، وكيفية: "استخلاص رحيقها وصوغه في سبيكة جذابة تفيد في كتابة رواية المدينة"[7]، كما لا يكل عن مناجاة مثاله المحفوظي واستجداء عبقريته: "المتمثلة في القدرة على استخلاص الحدث المنسجم مع موقعه القصصي"[8]، ومن ثم الإصرار على "مزيد من التعصير واستخلاص الرحيق"[9].
    أكيد أن محاولات البطل الحالم، الفاقد للموهبة، لن تجدي فتيلا، تماما كما لا يفضي الولع بشخصيات "أحمد عاكف" و"كمال عبد الجواد" و"المعلم كرشة" إلى بث الروح في أثرها الهارب. لن ينهار يوما الجدار السميك بين "الحب" و"المعرفة"، بين الكشف وامتلاك المهارة. بيد أن هذا العجز ذاته يضحى منفذا إلى إبراز حذق روائي بارع في تحويل بعد الخيبة (في "صوغ الحسي") إلا تعلة للإنابة الجمالية، وهنا يتجلى البعد الثاني المتمثل في موازنة الصور الأصلية بصور "الإبدال" القاهري عبر خطط تعيد تنظيم المكونات في خلفية المشاهد والمقاطع السردية والوقفات التأملية، بحيث تتجلى نديّة، محتفظة بقدرتها على الإدهاش، مع براعتها في جدل قيم "التنائي" مع المحيط الشخصي وتفاصيل الأمكنة وذاكرة الصور النصية.
    في كل الفصول تختلط "الصورة ببقايا الأصداء الجنائزية"[10]، في تزامن مع استعصاء الدروب والحومات والأسواق على الانصياع لمحاكاة البطل الواهم. وتطرز رحلة البحث عن "الخلود" بلمحات جسدية تذكي رمزية الخيبة ولوعة "النأي"، فيصير "العطش" المزمن، والغصص المتتالية، وحرقة المعدة، وآلام الدواخل منجدلة مع فقدان الموهبة واستعصاء الزمن على الثبات، وتلاشيه بسرعة البرق من صفحات العمر الأخيرة، فتبدو المحصلة الروائية تجميعا لسمات العجز النفسي والنكوص الجسدي و تبدد أي أمل في النهوض.
    ولعل هذا التداعي الذي يمركز الموت في بؤرة الإيحاءات النفسية والحسية والكلامية والحدثية الطافحة ألما، هو ما يجعل الأفق الصوري شبيها بالترجيعات النغمية للحن الرئيسي[11]؛ ثمة دوما رهان على تشظي الصورة المركزية إلى تنويعات تلتحم بالمكونات التخييلية والأبعاد الرمزية للأمكنة والشخصيات والمواقف، بما يخرجها من حسية "الإمكان" وعقلانيته، إلى رمزية "المحتمل" ومفارقاته. بالطبع تظل دوما رهانات الواقعية ذاتها متحكمة في نسج التفاصيل وتركيب خطوط الامتداد الدرامي، إلا أن اللغة الحاضنة والأوصاف المتواترة وشبكة الكلام الحواري المفتوح على الأفق المجازي "الموحد"، كل ذلك يجعل السياق النصي يكتسب بعدا فنطازيا قريبا من عوالم البلاغة المحفوظية بتنويعاتها الانشطارية والشذرية والحلقية... وفي هذا السياق تكاد تمثل رواية "المصري" النموذج السردي الأكثر تمثيلية لنزوع محمد أنقار إلى تجريب رهان "التصادي الصوري"، وإلى تجسيد خبرته القصصية في التكثيف المجازي واستقطاب الوقائع الحكائية إلى مركز درامي يشكل محور اللعبة السردية المتواترة. بل إن هذا الرهان هو الذي يحرك التوالي الحدثي على إيقاع "الجنائزية"، وينطق البطل بهواجسه المخترقة بطعم الخوف، وظلال الغروب ورائحة الانسداد في الآفاق. وهو الذي يجعل السارد، في النهاية، يستحضر مثاله الروائي، بوصفه تجسيدا للاستحالة التخييلية، ومرجعا لتضمين "الحرفية" الروائية في آن:
    "ما الذي انفرد به نجيب محفوظ حتى ألم في رواياته بتفاصيل القاهرة وأزقتها وملايين بشرها وأصناف عاداتها وآلاف مشاكلها وأحلامها؟. لابد من أن يكون ثمة سر يجمعني بالأديب المصري (...) الرطوبة التي تسري في دمي وفي دروب مدينتي، والإحساس بجنائزية العصر، والريح الشرقية، والتقزز من بيع الذمم، وتضارب الأهواء والأصوات والقيم على نحو بشع (...) وطلبت من الله أن يعينني فيما تبقى لي من أيام حتى أستخلص منها قيمة قصصية متماسكة أتحدَّاه بها"[12].
    لعل في هذا المقطع بعض ما يشف عن امتزاج صوتي السارد والروائي، الكاتب بالفعل والساعي إلى الكتابة بالقوة، بيد أنه إذا كان وعي البطل بتلازم السمات الإنسانية (الظاهرة والخفية) في إخصاب التخييل الناجح، غير ذي جدوى، فإن ذلك الوعي يضحى معبرا إلى إحكام نسيج الرؤية النصية للروائي، وتشكيل شبكة المعنى المحتوية لمفارقات "النأي" و"الانفصال" و"الخيبة" و"الانغمار في الوهم" و"التسليم بالهزيمة"؛ وهي الدعائم الصورية الموجهة لوظائف الفعل والكلام والاسترداد التأملي لتفاصيل الفضاء والشخصيات في رواية "المصري".

    هوامش
    [1] - رفقة السلاح والقمر، شوسبريس، الدار البيضاء، 1984، ص 49.
    [2] - يقول أحد الباحثين في هذا السياق: "على هذا النحو يمضي الكاتب في نسج فضاء آخر للقاهرة غير ذلك الفضاء الذي صورته السينما الرومانسية أو روايات إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي، أو الفضاء الذي نسجته الخطابات الثقافية والاجتماعية السائدة؛ إنه فضاء القاهرة السرية أو مجاهل القاهرة الأخرى التي لا نكتشفها إلا في النصوص الإبداعية"؛ را:
    - محمد مشبال، الهوى المصري في المخيلة المغربية، منشورات بلاغات، القصر الكبير، 2007، ص 103.
    [3] - مثل صيف لن يتكرر، منشورات الفنك، الدار البيضاء، 1999، ص 168.
    [4] - منشورات دار الهلال، القاهرة، 2003، (سلسلة روايات الهلال -العدد: 659).
    [5] - يشكل هذا الانزياح مظهرا لازما لماهية الصور عموما، حيث يشكل التحول من المحيط الحسي إلى مدارات الوهمي، والمجرد، علة للتصوير، ليس فقط في حقل السرد وإنما في مجمل الأعمال الفنية، من هنا يغدو البحث عن طرائق الاستبدال عبر صيغ المماثلة ولاستدعاء والترميز، ذات الوظائف النسقية الممتدة، عماد التكوين الجمالي للنصوص والآثار الإبداعية؛ را:
    -Martine Cornuejols, Sens du mot, sens de l’image, Ed : L’harmattan, Paris, 2003.
    [6] - واضح أن جوهر الصور –كما يسعى إلى تخليدها الروائي- لا يكمن فقط في الوجود العيني، بل أساسا في الأثر الذي ينجم عن ذلك الوجود، لا باعتباره في ذاته، بل من حيث هو وجود من أجل شئ ما. بناء على ذلك تغدو الصور المنشودة ملتبسة الطابع، وذات كيان برزخي، بيني وهجين، وذات تخوم غير واضحة. والحال أن هذا الالتباس هو ما يشكل "هوية" الصور باعتبارها دائما تتجاوز دلالتها في ذاتها، وتتموقع بين المحايثة والتعالي، وبين تعيين اللامرئي والإمساك بالمرئي. وهي من ثم صيغة مثلى للعرض الحسي للأشياء والكائنات، بيد أنها ما أن تمثل المحسوس حتى تنفلت من كل امتلاك وتغدو سلطة في ذاتها. أنظر:
    - فريد الزاهي، العين والمرآة: الصورة والحداثة البصرية، منشورات وزارة الثقافة، الرباط، 2005، ص 30-32.
    [7] - المصري، ص 69.
    [8] - نفسه، ص 98.
    [9] - نفسه، ص 179.
    [10] - نفسه، ص 33.
    [11] - يخيل إلي في كثير من الأحيان أن التصوير الروائي ليس شيئا آخر إلا امتلاك القدرة على حبك الصلات الذهنية بين مواقف و حالات إنسانية متباينة، تحدث في سياقات ملتبسة، ثم امتلاك المهارة في استخلاص الأثر الصوري الواصل بين تلك الحالات والموحد لظلالها، بحيث لا تبقى مجرد تفاصيل حياتية متباعدة، وإنما تضحى تنويعات على مغزى جوهري في الوجود. أنظر بخصوص هذا المعنى:
    -Jean- Jacques Wuremburger, La vie des image, Ed :Presses Universitaires de Gronoble, 2002.

    [12] - المصري، ص 53.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:57 pm