تحولات الضمائر واثرها فى الابداع الشعرى
خلال دراستنا للأدب العربي يلفت انتباهنا الاستعمال الخاص للضمائر والأفعال بما يخالف قواعدها الأصولية. وقد أصبح مقرراً لدى نقاد الأدب وعلماء الألسنة المعاصرين، أن الضمائر والأفعال لا تستعمل دائماً لما وضعت له في أصولها اللغوية:
" إن استخدام أزمنة الأفعال بعلاقتها مع الضمائر يقدم للكاتب لعبة تحولات بالغة الغنى في المستويات اللغوية، تسمح له بتبديل الإضاءة حول الرسالة وهذا أحد المصادر الكبرى للتنوعات الأسلوبية " (جيرو-ص70)
ولا نبالغ إذا قلنا إن أهم التقنيات الروائية والقصصية هو العدول في استعمال الضمائر، وانتقال بؤرة الرؤية من المتكلم إلى الغائب، والتوسع في استعمال أزمنة الافعال بين المضارع والأمر والماضي. كذلك التداخل بين الأشخاص والأزمنة مما هو شائع في النصوص الادبية.
وقد يخيل إلى الدارس أنها صفة أسلوبية منقولة عن الآداب الأجنبية، وفدت مع الأنواع الأدبية التي دخلت أدبنا، كالقصة والرواية والمسرحية. لكن مراجعة سريعة لتراثنا البلاغي تثبت أنها صفة أسلوبية راسخة الأصول في اللغة العربية. بل لقد اعتقد البلاغيون العرب أنها سمة بلاغية مقصورة على العربية دون غيرها من اللغات.
الحقيقي والمجازي :
الأصل في المفردات اللغوية أن تدل على أشياء محددة في الواقع، أو معان متصورة في النفس، أو مدركة بالفكر، ويكاد معظم البلاغيين القدماء يتفقون مع ابن الاثير في قوله: " الحقيقة اللغوية هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التى هي ذات الشيء أي نفسه وعينه. فالحقيقة اللفظية إذن هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة . والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له الى لفظ آخر غيره " ( عتيق – ص 13 ).
لقد اتخذ " المجاز " معنى أشمل في اصطلاح الأسلوبية الحديثة. ويعبر عنه بكلمة Ecart الفرنسية، ويترجم بكلمة الانزياح أو الفارق، ولم يتبلور تماما في الدراسات الاسلوبية لاختلاف نظرة الدارسين إلى حقيقة العملية اللغوية. ويدور خلافهم حول الأسئلة التالية:
هل الانزياح أسلوب قائم بذاته يتوازى مع لغة وضعية خالية منه ؟
هل هو الأسلوب نفسه، أو أنه جزئية من مكونات الأسلوب ؟
هل يمكن تصور لغة طبيعية ( اللغة الأم ) خالية من الانزياح ؟
ويمتد خلافهم هذا إلى حقله الإجرائي. فهل يدرس الانزياح على أنه جزء من اللغة الطبيعية ويعتبر بذلك من ميدان الألسنة ؟ أم أنه استعمال مؤقت يدخل في علم المعاني Semantique ؟
ويتساءل " ريتشارد " ساخراً " هل ينبغي اعتبار الماء انزياحاً عن الجليد ؟"
لن نهتم حالياً بهذا الخلاف المتشعب إلى عدد من المذاهب، ونحاول محاورة اللغة في واقعها الحالي أي كما وصلت الينا بعد قرون من الممارسة والإبداع، وبما استقرت عليه من السنن والمعايير. وسوف نقصر بحثنا على الضمائر في اللغة العربية كما حدد النحاة والبلاغيون وظيفتها، ثم نقارنها بواقعها الإجرائي الذي فجر طاقته التعبيرية الاستعمال الفني. ونختم هذا البحث بنقاش أوحت به هذه المقارنة بين الضمائر في إطارها التنظيري واستخدامها الفني.
الضمائر:
الضمائر والنحو: الاسم في العربية يكون ظاهراً مثل: زيد، عمرو. ويكون مضمراً أو مكنياً مثل: هو، هي ، نحن. ويصفه النحاة بأنه: اسم جامد يدل على متكلم أو مخاطب أو غائب. وبالنظر الى جنسه يكون مذكراً أو مؤنثاً وبالنظر إلى عدده يكون مفرداً، أو مثنى أو جمعاً.
الضمير إذن " كناية" عن اسم العلم. فكانه معدول عن الاسم الظاهر. أي أن الاستعمال الأصلي هو إطلاق اسم علم على الموجودات، ثم عدل هذا الاستعمال إلى الضمائر.
مرجع الضمير: " وهذه الضمائر كلها لا تخلو من إبهام وغموض.. فلابد من شيء يزيل ابهامها ويفسر غموضها. فأما ضمير المتكلم والمخاطب فيفسرهما وجود صاحبهما وقت الكلام .. وأما ضمير الغائب فصاحبه غير معروف لأنه غير حاضر ولا مشاهد، فلابد لهذا الضمير من شيء يفسره ويوضح المراد منه. والأصل في هذا الشيء المفسر الموضح أن يكون مقدماً على الضمير ومذكوراً قبله، ليبين معناه .. ثم يجيء بعده الضمير فيكون خالياً من الإبهام والغموض. ويسمى ذلك المفسر الموضح: مرجع الضمير " ( حسن. ص 181 – 182 ).
الغائب المعلوم: أن ضمير الغائب كبقية الضمائر، لابد له من مرجع لفظي أو معنوي. وإذا كان المرجع معنوياً أي مفهوماً من المناسبة أو السياق في غير ألفاظ سمي "القرينة المعنوية " أو "الغائب المعلوم" أو " المقام " ومثلوا له بقول الشاعر:
وقولي لها وقد جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
يعني: النفس.
ضمير القصة: يبقى بين الضمائر ضمير يطرح على النحاة. يدعونه ضمير الشأن أو ضمير القصة أو ضمير الأمر أو ضمير الحال.
" وبيانه: أن العرب الفصحاء ومن يحاكيهم اليوم، إذا أرادوا أن يذكروا جملة أسمية أو فعلية تشتمل على معنى هام أو غرض فخم .. لم يذكروها مباشرة خالية، مما يدل على تلك الأهمية والمكانة، وإنما يقدمون لها بضمير يسبقها .. فتجئ الجملة بعده والنفس متلهفة لها، مقبلة عليها في حرص ورغبة. فتقديم الضمير ليس إلا تمهيداً لهذه الجملة الهامة .. "
( عباس حسن ، ص 177 ) ومن أمثلته: قوله تعالى " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا "، وقوله : " انها لا تعمى الأبصار .. ) وقول الشريف الراضي:
هي الأيام جائرة القضايا وملحقة الأواخر بالأوالي
والوصف السابق الذي قدمه " عباس حسن " تذوق جمالي يعتمد على الحس الفني، مما يؤكد أن ضمير القصة يتجاوز " التخريج " النحوي بالمعنى الدقيق إلى مجال دلالي، كما سنرى.
الضمائر والبلاغة: وصف " ابن الاثير " هذه الميزة الأسلوبية بقوله : " وحقيقته البلاغية على عدد من فروع البديع: الالتفات – التجرد – التضمين – التوسع .
الالتفات: وصف " ابن الاثير " هذه الميزة الأسلوبية بقوله: " وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله .. لأنه ينتقل فيه عن صيغة إلى صيغة كالانتقالات من خطاب حاضر إلى غائب، أو من خطاب غائب الى حاضر، أو من فعل ماض إلى مستقبل، أو من مستقبل إلى ماضٍ. ويسمى أيضاً: شجاعة العربية. وانما يسمى كذلك لأن الشجاعة هي الإقدام. وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره. ويتورد ما لا يتورده سواه. وكذلك الالتفات في الكلام. فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات " (عتيق ، ص 139) ومن أمثلته، قوله تعالى " هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموت من كل مكان .. "
التجرد: ويصفه البلاغيون بأن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك وهو نوعان:
( التجرد المحض ) كقول الصمة بن عبد الله:
حننت إلى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا
ب- ( التجرد غير المحض ) كقول سلمة الجعفي:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها " لك الويل ما هذا التجلد والصبر ؟ "
ويمكن اعتباره نوعاً من المناجاة الداخلية أو المونولوغ المسرحي.
التضمين: أشار " ابن جني " إلى هذا الاستعمال بقوله:
" أعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فأن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبة إيذانا بأن هذا الفعل في معنى الآخر. فلذلك جيء مع الحرف المعتاد ما هو معتاد في معناه. وذلك كقول الله عز اسمه: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " وانت لا تقول رفثت إلى المرأة وإنما تقول: رفثت بها أو معها ".
التوسع: من الكلام السابق يمكن اعتبار التوسع مصطلحاً شاملاً لعدد من السمات الأسلوبية المعدولة عن أصلها الوضعي إلى استعمال جديد لغاية إنشائية. فهو يشمل الانتقال من الحقيقي الى المجازي، كما يشمل العدول في استعمال الأفعال والحروف والضمائر.
وسيكون هدف الصفحات التالية الاقتصار على دراسة: التبادل في استعمال الضمائر، محاولة منا لوصف هذا التبادل أولاً، والوصول إلى الغاية الأسلوبية منه ثانيا. وقد نخفق في تحقيق أحد هذين الهدفين فلا نملك إلا أن نردد مع البلاغيين " وهكذا كانت عادة العرب في أساليب كلامهم " وتلك " عصا العميان " كما يدعوها ابن الأثير.
معدولات الضمائر:
( أنا ) محول إلى (أنت) يرد ضمير المفرد المتكلم منذ بداية الشعر العربي الى استعمالات بديلة ، وخاصة في مطلع القصائد:
امرؤ القيس:
ألا رب يوم لك منهن صالح ولاسيمـا يومـا بداره جلجـل
ويوم دخلت خـدر عنيـزة فقالت: لك الويلات انك مرجلي
الأعشى الأكبر:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا؟
علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب بعيد الشباب عصر حسان مشيب
واستمر هذا التقليد الشعري في العصر الأموي والعباسي:
أعشى همدان:
طلبت الصبا إذ علاك المكبر وشــاب القــذال ومـا تقصـر
أبو نواس:
بادر صبوحك وأنعم أيها الرجل واعص الذين بجهل في الهوى عذلوا
وقد ترسخ هذا الاستعمال حتى وجدنا امرأة شاعرة هي الخنساء، تعبر عن نفسها بضمير المذكر:
قذي بعينك أم بالعيـن عـوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار
وبعد بيت أو عدة أبيات يعود الشاعر إلى استعمال ضمير المتكلم استعمالاً أصوليا.فهل يكون عدول الشاعر عن ( أنا ) في مطالع القصائد محاولة منه لاعتباره ضميراً محايداً لا يقصد به شخص معين ؟ أم هي محاولة فنية ترمي إلى دمج الوعيين: وعي المرسل بوعي المتلقي؟
(أنا) محول إلى (هو): يستعمل هذا الانزياح على أوسع مداه في رسم الصورة الذاتية سواء في الشعر أو النثر. وهو الضمير الذي يستخدمه الكتاب المحدثون في رواية سيرتهم الشخصية، فيروون أحداثها مستخدمين كلمة " الفتى " – طه حسين في الأيام – أو " الصديق " – سامي الدهان في دروب الشوك .. ولا يمكن تحديد الوظيفة الإنشائية لهذا العدول منقطعاً عن الدور ROLE والوضعية STATUT للشاعر أو الكاتب. وسوف نأتي بأمثلة تبين بعض هذه الوظائف دون الإحالة بها كلها:
كثير عزة:
سيهلك في الدنيا شفيق عليكم إذا غاله من حادث الدهر غائله
ويخفي لكم حباً شديداً ورهبة وللناس أشغال وحبك شاغله
كريم يميت السر حتى كأنه إذا حدثوه عن حديثك جاهله
فالشاعر ينظر إلى تجربته مختفياً وراء " الآخر " لئلا يتناقل الناس اسمه أو يشيع حبه.
العكوك:
ذاد ورد الغي عن صـدره فارعوى واللهو من وطره
وأبـت إلا الـوقـار لـه ضحكات الشيب في شعره
ندمي أن الشبـاب مضـى لـم أبلغـه مـدى أشـره
ذهبت أشيـاء كنـت لهـا صارفا حلمي إلى صـوره
يبدأ الشاعر قصيدته بضمير الغائب ثم يضيق دائرة الرؤية فيتراجع تدريجياً إلى ضمير المتكلم. وهذه الفسحة الزمانية ضرورة أساسية للتأمل، وركيزة هامة للذكرى.
سعد بن ناشب:
عليكم بداري فاهدموها فإنها تراث كريم لا يخاف العواقبا
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا
هذه اللقطة التصويرية معاكسة للأولى، تبدأ بضمير المتكلم ثم تنفصل عنه لتصف وصفاً موضوعياً شخصية أخرى لها قسمات ثابتة قد يجهلها الأعداء ولكن الحديث عنها بضمير الغائب يوحي بقدمها ورسوخها.
وقد يجمع الشاعر بين عدد من الضمائر المعدولة عن (أنا) ليرسم صورته كما يتخيلها وليس ضروريا أن يكون ذلك في مجال الفخر أو الغزل. ونأتي على ذلك بمثالين:
أبو دلامة:
ألا أبلغ إليـك أبا دلامـة فلست من الكرام ولا كرامه
إذا لبس العمامة كان قردا وخنـزيرا إذا نزع العمامه
إن دور الشاعر ووضعيته كمهرج في بلاط الخليفة سمحتا له بأن يهجو ذاته على اعتباره شخصاً آخر. وكأنه بذلك يحمي نفسه من الآخرين ويمنح لنفسه الحرية المطلقة في هجائهم والنيل منهم بعد أن بدأ بنفسه.
قد تكون (الأنا) بؤرة لعدد من التحولات المعقدة. كما في قصيدة المتنبي:
كل خصاله أرق من الخمر بقلب أقسى من الجلمود
جمعت بين جسم (أحمد) والسقم، وبين الجفون والتسهيد
أحمد هو أنا
هـذه مهجتـي لديـك لجيتـي فانقصى من عذابها أو فزيدي
أهل ما بي من الضنى ( بطل ) صيـد بتصفيـف طره وبجيد
بطل هو أنا
ولعلي مـؤمل بعـض ما أبلـغ باللطيف من عزيز حميد
(سري) لباسـه خشـن القطـن ومروي مرو لبس القرود
سري هو أنا
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود
فهذا البيت موجه إلى القارئ كما يراه الشراح . ولكن إذا وضعناه في سياقه التركيبي من القصيدة وجدناه موجهاً من " المرسل" إلى نفسه، ولا يصل إلى " المتلقى " ألا منقطعاً عن بقية الأبيات. وسنحاول إعادة كتابته:
عش عزيزاً ( يا احمد ) أو مت وأنت كريم ( يا احمد )
لا عش عزيزاً ( انا ) أو لا مت كريماً ( انا )
هذه التحويلات كلها تقوم بوظيفة أساسية في قصيدة المتنبي هي تعظيم الذات التي بلغت من التضخم بحيث انفصلت عن حاملها واكتسبت وجوداً ذاتيا يدعوه الشاعر: أحمد أو بطل أو سري.
(أنا) محولا إلى (نحن)- الوظيفة الأولى لإنتقال ضمير المتكلم بالمفرد إلى الجمع هي تعظيم الذات. ونعتقد أنه مقتصر على "الذات العلية" كما ورد في القرآن الكريم " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .. " ولم يستعمله الرسول (ص) أو الخلفاء الأوائل. والله عندما يتحدث عن ذاته يقول (نحن)، ولم ترد مخاطبة الناس له بضمير (أنتم) إلا في عصور متأخرة. ولا نعرف تاريخا محدداً لعودة العرب إلى استعمال ضمير المفرد بصيغة الجمع، لكن المؤكد ان هذا الاستعمال أصبح متداولاً في الشعر الأموي وشائعاً في العصر العباسي شعراً ونثراً:
الحارث بن خالد (ت/ بعد 100هـ):
ما ضركم لو قلتم سدادا إن المنية عاجل غدها
ولها علينا نعمة سلفت لنا على الأيام نجحدها
لو تمت أسباب نعمتها تمت بذلك عندنا يدها
ابن زيدون:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
ونشير إلى أن الحارث بن خالد شغل منصب وإلي مكة لعبد الملك بن مروان، وأن ابن زيدون ولي الوزارة والكتابة.
لكن العدول عن ضمير المفرد إلى الجمع قد تكون له وظيفة إنشائية معاكسة لا علاقة لها بالامتياز أو التكبير:
الأعشى:
صدت هريرة عنا ما تكلمنـا جهـلاً بـأم خليد حبل من تصل
قالت هريرة لما جئت زائرها "ويلي عليك وويلي منك يا رجل"
من الواضح أن الشاعر يتحبب إلى أم خالد بشتى الوسائل. فيدعوها" أم خليد" تدليلا لها، ويدعوها " هريرة" – قطة صغيرة – على عادة الفرنسيين اليوم. ويعيد علينا دعاءها الذي ما يزال شائعاً على السنة نسائنا. ويلي عليك.
العدول عن صيغة الضمير بالمفرد إلى الجمع يوحي بالوقار والثقة والاحترام المتبادل كما نراه في المراسلات الدبلوماسية والتجارية، ويفضل استعمال ضمير الجمع في الأبحاث العلمية والأدبية دليلاً على الموضوعية أو التواضع الكاذب. وأنتهى الأمر بهذا العدول إلى أن أصبح لكثرة استعماله نوعاً من المسبوكات CLICHES الخاوية من الدلالة.
(أنت) محولا إلى (هو): ويستعمل في مخاطبة الرؤساء وأصحاب السلطة: "لو شاء جلالة الملك لأمر بإصدار المراسيم .."، " فليتفضل الأديب الفاضل باستلام جائزته .. " وهذا شائع متداول.
(أنت) محولا إلى (أنتما): هذا العدول نادر الوقوع، ومثلوا له بقول سويد بن كراع:
فان تزجراني يا ابن عفان انزجر وان تدعاني أحم عرضا ممنعا
لكن الابيات السابقة تؤكد ان الشاعر يخاطب رجلين احدهما ابن عفان. ومن المفيد الاشارة الى أن الدارجة الجزائرية والمغربية تخاطب المفرد على التثنية احتراما وتقديراً. ولعلها لهجة عربية قديمة حجبتها لغة قريش.
(انت أنت) محولا الى (أنتم): ووظيفة هذا العدول الاجلال والاحترام:
منصور النمري مخاطباً هارون الرشيد:
ان الخلافة كانت ارث والدكم من دون تيم وعفو الله متسع
وكثيراً ما يعمد شعراء الغزل إلى مخاطبة المرأة بصيغة الجمع إجلالاً وتذللاً، وهي ملاطفة مأنوسة لديهم، كالأبيات التي ذكرناها لكثير عزة، وأبيات العباس بن الأحنف:
إذا أنا لم أمنحكم الود والهوى فمن ذا الذي يا فوز أهدي وأمنح
أكاتم خلق الله ما بي وربمـا ذكـرتكم حتـى أكاد أصـرح
(أنتِ) محولا إلى (أنت) : إن التداخل في استخدام هذين الضميرين شائع في شعر الغزل خاصة. ويصعب التمييز أحياناً بين الاستعمال الأصولي والأنزياحي، وخاصة بعد انتشار الغزل بالمذكر:
أبو العتاهية:
يا من تفرد بالجمـال فما تـرى عيني على أحـد سـواك جمالا
أكثرت من قولي عليك من الرقي وضربت في شعري لـك الأمثالا
فأبيــت إلا جفـوة وقطيعــة وأبيــت إلا نخـــوة ودلالا
ثم ينتقل الشاعر إلى ضمير التأنيث:
بالله قولي إن سألتك واصدقي أوجدت قتلي في الكتاب حلالا
فلا نجد عقبة لغوية بالغة تعترض الشاعر فتلزمه بإجراء شعره على ضميرين. ولعلها الموضة الأدبية الشائعة في العصر العباسي دفعت الشعراء إلى " التفكه " بالتكنية عن المرأة بضمير المذكر، أو أنها ذريعة فنية تريد الإفلات من الرتابة والإملال بتنويع الضمائر، وهذه الفائدة الأساسية لدى البلاغيين العرب ويسببها دعوا هذا العدول: الالتفات. وتكون مهمة التمييز سهلة لدى بعض الشعراء كقول العباس ابن الأحنف:
إليك أشكو رب ما حل بي من ظلم هذا الظالم المذنب
فقد عرف تعلقه بصاحبته "فوز" واقتصار شعره عليها، لكن الصعوبة مع شعراء تغزلوا بالجنسين أو خفيت علينا تفاصيل حياتهم.
(أنتما) محولا إلى (أنتم): لدينا على هذا العدول شاهد فريد من القرآن: " إن تصلحا وترجعا إلى الله فقد صغت قلوبكما" حيث الجمع " قلوب " معدول عن المثنى.
(هو) محولا الى (هم): ورد هذا العدول في القرآن: " من أسلم وجهه وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "، كذلك قوله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون". ولا نجد في الشعر دليلاً على هذا العدول، ولعله تقصير منا في البحث. ونعتقد أن المتنبي يعمد إليه بعد القيام بعدة تحويلات ضمائرية استناداً إلى الدور الذي يقوم به المرسل (المتنبي) والمتلقي (سيف الدولة) في مثل هذه الأبيات:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم
وسياق الموقف يقتضي منا قراءة جديدة:
إذا ترحلت عنه وقد قدر ألا أفارقه فالراحل هو
إذا ترحلت عنك وقد قدرت ألا أفارقك فالراحل أنت
هم هو أنت
(هي) محولة إلى (هم): وهو عدول تابع لتحويل أنت إلى أنتم كما رأينا ووظيفته إخفاء اسم المحبوبة خشية الافتضاح وتنزيه اسمها عن التداول:
العباس بن الأحنف:
أبكي الذين أذاقوني مودتهـم حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
جاروا على ولم يوفوا بعهدهم قد كنت أحسبهم يوفون إذ وعـدوا
وما يزال هذا الاستعمال وارداً على ألسنة المعاصرين في حديثهم عن الزوجة أو البنات فيكنون عنهن بقولهن: أهل البيت، الجماعة .. الى آخره.
الضمائر والتصوف: أفردنا عنوانا خاصا بالضمائر لدى المتصوفة، لانها ضمائر رمزية لا يمكن فهمهما منقطعة عن سياقها الفلسفي. وهي وسيلة المتصوفة الى الإيهام بامتزاج النفوس البشرية بالنفس الكلية. وقد استغلوا هذه " الشجاعة " الاسلوبية بما يتلائم مع مفاهيمهم الروحية. وقد أعتبرنا الضمير الوضعي للدلالة على الله تعالى ضمير الغائب (هو)، وكل ما عداه من الضمائر معدولات عنه.
(هو) محولا إلى (أنت):
ذو النون المصري:
أموت وما ماتت إليك صبابتي ولا رويت من صدق حبك أوطاري
(هو) محولاً إلى (هي):
ابن الفارض:
تقدم كل الكائنات حديثها قديمـاً ولا شكل هنـاك ولا رسـم
وهامت بها روحي بحيث تمازجا اتحادا، ولا جرم تخلله جرم
(هو) محولاً الى (أنتم):
ويمكن اعتباره عدولاً عن أنت إلى أنتم ، وهذه بداية لمخاطبة الله – كما نظن – بضمير الجمع بعد زوال شبهة التعدد:
السهروردي المقتول:
أبدا نحن إليكم الأرواح ووصالكم ريحانها والراح
(هو) محولا إلى (هم):
ابن عربي:
ومن عجب أني أحسن إليهم وأسال شوقا عنُهم وهُم معي
(هو) محولا إلى (اسم):
جرى المتصوفة على مذهب شعراء الغزل الخائفين من "ذيوع السر" وبخلاً بـ " المضنون به على غير أهله" فكنوا عن الذات العلية بأسماء علم أمثال: سعاد وليلى وسلمى:
السروري المقتول:
أشم منك نسيما لست أعرفه أظن "لمياء" جرت فيك أذيالا
واستبدل ابن الفارض بالذات العلية كلمة (ولاها) أي ولاءه لمحبوبته:
منحت (ولاها) يوم لا يوم قبل أن بدت عند أخذ العهد في أوليتي
فنلت (ولاها) لا بسمع وناظر ولا باكتساب واجتلاب جبلة
وقد لخص ابن عربي مذهب المتصوفة ورموزه الغنوصية بقوله:
فاصرف الخاطر عن ظاهرها واطلب الباطن حتى تعلما
هذا ما وصل اليه علمنا من التبادلات بين وظائف الضمائر وتمثلها بالجدول التالي:
أنا أنت – هو – نحن.
أنت هو- أنتما- انتم.
أنت أنت- أنتم.
أنتما انتم.
هو هي- أنت – هم.
هي هو – هي.
من المقارنة بين الضمائر الأصولية بجدول معدولاتها يمكن ملاحظة التوسع الهائل الذي عمدت اليه اللغة العربية على مدى العصور. فلا يمكن فهم الضمائر وتحديد وظائفها الا بالنسبة الى دور المشاركين في العملية اللغوية، ومعرفة وضعيتهم الزمانية والمكانية، وسياق منطوقاتهم الاجتماعية والثقافية. ولا نستطيع فهم النص الادبي دون الاعتماد على علم الدلالة Semantique الذي يمنحه معناه الحقيقي.
إن العدول في استخدام الضمائر برنامج أسلوبي يخطط له المرسل، وليس مصادفة لغوية مجانية. لذلك ينبغي رصد كل التبدلات الطارئة على مسيرة الضمائر، ومعرفة قدرتها على التوصيل والتعبير، ومدى نجاحها أو إخفاقها في الوصول إلى الأهداف المرسومة لها. وقد رأينا أمثلة من (أنا) المتنبي التي تنكرت بمختلف المظاهر اللغوية. كما أن ضمير (هو) قد احتواه التصوف احتواء بفضل ما حمله أصحابه من طاقات تعبيرية وقوى روحانية تجاوزت بمراحل شاسعة وضعيته الأصلية كعلاقة لغوية ويكفي أن نسمع صرخة أحدهم (ياهو) في لحظة التجلي لندرك الأبعاد الحقيقة لهذا الضمير.
" وليست اللغة – كما كتب عبد الفتاح الديدي – استخداما للرمز بقدر ما هي تمييز للاختلافات بين الدلالات .. ولهذا تتكون اللغة وهي تقوم بتكوين نفسها، ويتم تكوينها عن طريق المشاركة الشعورية وعن طريق تداخل الذوات في تقاربها عند الأشياء المتفق عليها، ولا يصلح لها تكوين بغير أفق وبغير مستوى. فمن شأن الدلالات نفسها أن تبعث الحياة في الكلام. وتوقفها عند مرحلة معينة معناها الاقتصار على قدرة معينة "
(ص- 231)
لقد أصبحت إشكالية العدول في الضمائر والأفعال محور الكثير من الأبحاث الفلسفية والمقاربات اللغوية والنقدية والأسلوبية. وانصرف التساؤل الى موقع الفرد في العملية اللغوية وعلاقته بالاخر بعد النقد الشديد الذي وجهته الفلسفة الظواهرية الى " الكوجيتو " الديكارتي ( انا أفكر اذن انا موجود ).
كما اهتم النحاة وعلماء الالسنية بقضية الضمائر من حيث نشأتها واشتقاقها ومدى دلالتها على الاشخاص الناطقين بها. ولا يكاد يخلو مؤلف ألسنى من دراسة للضمائر وعدولها وعلاقتها بالاشخاص والاحداث.
ولعل أوضح انعكاس للحوار المحتدم بين الفلاسفة والألسنيين والنحاة يتجلى في النقد الأدبي الحديث الذي ربط مسيرة النص الروائي بتطور الضمائر ويشير "بارت" الى هذا المعني بقوله:
" يمتزج تاريخ الإنسان لدى الكثير من الروائيين الجدد بمسيرة الصرف. الإنسان/ الكاتب بانطلاقه من (أنا) الشكل الذي ما يزال الأكثر ملاءمة للاختفاء، قد اكتسب شيئا فشيئاً حقه في ضمير الغائب، مرتبطاً بتحول الوجود الى قدر، ومناجاة النفس إلى رواية" (ص 30)
***
أردنا بهذه الدراسة لفت النظر إلى دور الضمائر في فهم النص الأدبي، وأوجزنا الإشارة إلى الجو المعرفي الذي يدور فيه النقاش حول هذه الأشكالية لدى النقاد والمفكرين. ولابد لنا من الاعتراف بقصور هذه المحاولة وضيق مجالها الإجرائي. ولا نطمع في تجاوز حدود الإمكانية لئلا نقع في التعميم العشوائي قبل الحصول على نتائج دراسات أخرى مماثلة قد تؤكد نتائجنا أو تلغيها أو تعدلها بعض التعديل.
الهوامش
ترى الألسنية السلوكية أن " اللغة عادات لفظية تمارس وراء أبواب مغلقة هي الشفاة " واعتبر " بلومفيلد" : " أن الحديث إلى النفس هو التفكير ذاته ".
ذكر " كريسو" أن الكاثوليك يخاطبون الله بضمير الجمع بينما يخاطبه البروتستانت بالمفرد (ص 103) وسوف ترى أن الصوفية أستخدموا صيغة الجمع في مخاطبة الذات العلية.
من اللهجات الطريفة المعاصرة اللهجة التونسية الدارجة ولهجة شرق الجزائر حيث تخاطب المذكر بضمير التأنيث فيقولون للرجل: أنتِ.
المصادر والمراجع
حسن (عباس)، " النحو الوافي " دار المعارف بمصر، 1960.
الحصري (ابو اسحاق)، " زهر الاداب وثمر الالباب "، ت: مبارك، بيروت، 1972.
الديدي (عبد الفتاح)، " القضايا المعاصرة في الفلسفة" القاهرة، 1976.
عتيق (عبد العزيز)، " في البلاغة العربية" ، بيروت، 1970.
ديوان المتنبي.
الفضليات.
ديوان ابن الفارض.
ديوان ابن عربي.