[right]
هذه التقاليد النقدية
تحولات المفهوم النقدي:
"العملية النقدية ليست تطبيقا آليا لمنهج مرسوم، ولا تنظيما عقليا
لمقدمات تحددت نتائجها سلفا، ولا تبريرا مزينا لأحكام تعسفية، وإنما هي مغامرة
محسوبة، ومحاولة منظمة لاكتشاف عالم النص الأدبي والقوانين التي تحكم حركته…"(1).
بهذا
المفهوم النقدي العميق وجهنا الدكتور صلاح فضل نحو رؤية نقدية جديدة، هدفها تعطيل
الآلية النقدية القائمة على الأحكام المعيارية والتقييمات ووجهات النظر والمزايدات
النظرية المشبوهة منها والمغلوطة والمسلطة على النص الأدبي بناء على افتراضات أو
إسقاطات خارجة عن مكوناته الفعلية…وهي رؤية سليمة ولها
مبرراتها النقدية التي تتوافق مع التطور المعرفي الذي تشهده العلوم التجريبية
والعلوم الإنسانية على حد سواء…في تعاملها مع مادتها
العملية الخام تقنيا وتنظيميا وتعبيريا.
هكذا تهيأت
الأسباب العلمية والأدبية لمجموعة من المفاهيم النقدية الجديدة أن تأخذ حيزا ضمن
الخريطة الكبرى لعلم الأدب. وصارت الساحة النقدية تتداول هذه المفاهيم تداولا
اصطلاحيا محدد الهدف، مؤسسا على مدلول نقدي. من هنا تبدأ الحاجة النقدية إلى
التعرف على الحقيقة الاصطلاحية لكثير من المفاهيم التي تواجهنا في مختلف معاملاتنا
النقدية وتحليلاتنا الأدبية. إن عدم الإلمام بالمعنى الفعلي لمصطلح نقدي يعني عدم
فهم واستيعاب المناهج والنظريات النقدية الجديدة المعاصرة. ويعرض الدارس لانزلاق
خطير، قد يمس بطبيعة المادة النقدية من جهة والمادة الإبداعية من جهة ثانية
وبالمنهج في عمقه(2) وأبعاده الأصيلة.
إن ما
تشهده الساحة النقدية من تحولات جذرية على مستوى التعامل مع النص الإبداعي يطرح
عمليا أسئلة معقدة متشابكة تنطلق من صميم البنية الأدبية المقروءة أو
الخاضعة-بمعنى أصح- إلى عملية اختبار نقدي متعدد الجوانب، إننا نعيش هذا التحول
العميق في المفهوم النقدي على أقل تقدير منذ أن بشر الألسني العالمي فرديناند دي
سوسير:
(DESAUSSURE) بنبوءته العلمية في مطلع هذا القرن والتي تضمنها كتابه الشهير:
"دروس في الألسنية العامة" محملا بمفاهيم بالغة الأهمية –نتعرف
عليها فيما بعد- والتي كان لها الأثر الفاعل في تغيير مجريات النقد الأدبي مثلما
كان لها أثر فاعل في تغيير مجريات علوم أخرى لها صلة بعلم اللغة على وجه الخصوص.
ويمكن القول أن ألسنية دي سوسير قد أحدثت شرخا بعيد المدى في تقاليدنا النقدية
التي كانت على تواصل-بطريقة أو بأخرى- مع التيارات النقدية الغربية التي استجابت
معرفيا لنظرية دي سوسير الألسنية، استجابة أثمرت جل المناهج والتحليلات الجارية
على قدم وساق في الفكر الإنساني النقدي الأدبي الأوروبي على وجه الخصوص، ويمثل
التحليل البنيوي قطبا مهما في ذلك. إلى جانب تحليلات منهجية أخرى تكمل النقد
البنيوي أو تدعمه أساسا، من ذلك ما يعرف بالتشريحية والشعرية، والتأويلية
والتفكيكية ونظرية القراءة، ونظرية النص من جهة. وكذا الأسلوبية والسيمائية وهما
العلمان اللذان يسعيان إلى تأسيس رؤية منهجية خاصة بهما، رغم أن المنطلق العميق
لكل منهما يغرف من صلب التحليل البنيوي.
تعددت
الأسئلة الموجهة إلى النص…وكان في كل خطوة يحضر
دي سوسير بمفاهيمه الحية، إلى جانب محفزات مدرسية نقدية أخرى ساهمت بقسط وفير أيضا
في كل هذه التحولات النقدية وعلى رأسها الجهد النقدي الخطير للمدرسة الشكلانية ومن
بعدها حلقة براغ وقد كانت كل هذه النظرات حافزا لإعادة النظر في الكيفيات التي
تمكننا من دخول عوالم النص المفتوحة المساحة، الممتدة إلى أسئلة حساسة تتصل جوهريا
بطبيعة المادة الخام التي يصاغ منها النص صياغة واحدة… لكنها مشحونة بقيم متعددة قابلة للتأويل والتفسير والمعاينة
والاختبار لمكوناتها المتحولة دوما على مستويات مختلفة.
الفرضيات المسبقة…وعملية القراءة:
لم تكن
المفاهيم النقدية التراثية والحداثية على حد سواء قادرة على تثمين وجودها…بعيدا عن
النص الإبداعي…ولذلك اضطرت جملة
المفاهيم التقليدية أو المستأنسة بهذه المفاهيم إلى الدخول في الهامش النقدي لعدم
قدرتها على مجاراة الدّقة المنهجية النقدية الجديدة. صارت بموجب ذلك مجرد تراث
نقدي مستهلك الأدوات…والأسس، رتيبا في
حركيته، غير فاعل في قيمه وخطوطه العريضة نظرا لكثرة تداوله، ونظرا لعدم قدرته على
تأسيس مفاهيم نقدية جديدة قابلة للأخذ والعطاء.
لقد كان
النقد الأدبي إلى حين غرة نوعا من المجادلة الحامية من طرف واحد، يجد فيها النص
الأدبي نفسه عاجزا عن البوح والاعتراف بمكنونه، نتيجة سلطة القارئ الناقد الذي
يمارس وفق إسقاطات مسبقة كل المسؤولية على النص، فيقدمه في طبق من ذهب إن شاء وفي
غربال مخروم إن أراد. لم يكن النص الأدبي بكل اندفاعه وقيمه حاضرا بالفعل، ولكن
حضوره كان مشوبا بفرضيات مشبوهة، يقوم قارئ النص بإعدادها على النحو الذي يريد
ويكون له الحق في إضفاء هذه الفرضيات على الأثر النصي، مكملا كل زوايا النص…القادرة
على البوح بأشياء لا تحصى.
هكذا كان
الانطباعيون وهكذا كان المؤرخون الأدبيون والنفسانيون والاجتماعيون والجماليون
والواقعيون حتى يتعاملون مع النص طبق ما يمتلكونه من معطيات مسبقة عن العمل الأدبي
الذي يسعون إلى تحليله ودراسته…انطلاقا من هذه
النظرات النقدية المعيارية الجاهزة كنا نقرأ كوميديا دانتي أو رسالة الغفران بنفس
المواصفات التي نقرأ بها أي نص رديء، ونطبق مقاييس النقد الشعري على إلياذة
هوميروس أو معلقة من المعلقات، أو رائعة من روائع البحتري وابن زيدون، مثلما نطبق
هذه المقاييس على أي شاعر آخر دخل عالم الشعرية من باب: "حديث صحيح"
وبجرة قلم كان يمكن إلغاء نص إبداعي وربما لمبدع واحد…وإعلاء شأن
آخر في رمشة عين، وقد وجدنا في نقدنا العربي نماذج بالغة الخطورة من هذا النمط
النقدي الذي يساوم النص من بعيد… بل يمكن القول أن ساحتنا النقدية تفيض بهذا الغثاء النقدي
الذي يفسد على القارئ ما يلذ له أن يقرأ… ولأن الزمن لا يستر العورات المفضوحة فقد ظل النص الرديء رديئا،
والجيد جيدا، وظلت المعرفة نوعا من الخليط النقدي وتحت مسميات مختلفة…ولم يكن
بوسع الممارسين لهذا النوع من النقد أن يقدموا لنا نمط الرداءة القائمة فيه ولا
نمط الجودة…كان النص يقرأ دفعة واحدة ويصدر في حقه حكم
نهائي بجدوى الحياة أو ضرورة الفناء. لم يكن بوسع العناصر الفاعلة في نص ما أن
تستثمر نقديا في ظل هذه الأحكام المعيارية التي كان بوسعها أن تقول عن شاعر أنه
مصاب بعقدة أوديب أو الانفصام في الشخصية، أو أنه رجعي أو معقد أو نرجسي.. كما كان
بوسعها أن تقول إن هذا النص رديء لأنه لا يتماشى مع المجتمع أو لا يعبر عنه، وتقول
عكس ذلك عن نص رديء إنه نص جماهيري لأنه يقدم نفسه بلغة العوام ويطرح مشكلات
المجتمع، مكرسة الفعل الإبداعي –معياريا- في الحقل
الأدبي… الذي يطمح دائما
إلى الخلق والتجديد… والغريب أن ينساق في هذا المضمار بعض المتحمسين لما يسمى
"البنيوية التكوينية" ويقرّون بهذا المعيار، وسنرى ذلك عندما نتطرق
لبنائية التوالد في اجتماعية الأدب عند غولدمان. لقد قدر لنصوص وصفت –نقديا-
بناء على مفهوم إديولوجي محض- بالجماهيرية أن تخرج مدحورة إلى الهامش الأدبي بفعل
عملية التلقي التي تحسن في كثير من الحالات تصفية النصوص التي تأخذ بعين الاعتبار
القارئ… على اختلاف
مستوياته الفكرية. وكان من نتيجة ذلك أن تتخذ قصائد وروايات وقصص ومسرحيات مأخذ
الهزل، لعدم تجانس مادتها اللغوية أولا وأخيرا…مع هذا
المتلقي، الذي لم يدخر جهدا في استقبال نصوص أخرى من نفس النمط الفكري لكنها تنبني
على قيم أدبية محكمة…
وأكبر دليل
على ذلك ما تمتلكه الجريمة والعقاب لدوستويفسكي لغوركي مثلا أو الأم لغوركي
(مكسيم) من تأثير وقبول، إن النص القادر على مواجهة القارئ هو ذلك النص الذي يحسن
صناعة مادته الخام بغض النظر عن المنحى الفكري الذي يعبر عنه بنحو أو بآخر…إن المعاني
الفكرية في النص ليست هي كل شيء في النص بل ربما كانت تحصيل حاصل…إنها
بمفهوم الجاحظ معان مطروحة في الطريق وبوسع أي كان اكتسابها…إن الكيفية
التي نقدم بها هذه المادة كفيلة بأن تزين لنا شيئا كان يبدو لنا تافها أو رتيبا.
اللغة الفاعلة … وبوسعها أن تسحرنا فيما تنسج لنا من سبل أدائية هدفها تحقيق
الوظيفة الأدبية على أكثر من مستوى.
عبر هذا
الامتداد النقدي كانت هناك فعاليات رائدة حملت على عاتقها مهمة إرساء مفهوم نقدي
جاد، محاولة أن تنفتح على الإبداع الأدبي على محور من المحاور مركزة على عضو من
أعضائه. فكان الناقد في كثير من الأحيان يلامس النص أو يكاد، ثم يغرق في تفصيلات
جنس النص أو في حياة صاحب الأثر وقراءة النص بعد ذلك في ضوء تلك المعطيات الجاهزة
سلفا. كانت تلك الجهود النقدية فذة وحصيفة وموسوعية إلى حد كبير…ما قدمته
جماعة الديوان مثلا من طروحات نقدية…نموذج نقدي كان قوامه…فعالا في
الكتابة النقدية الحديثة…ولكنه أصبح بالنسبة
لنا –على قمة وفعالية مادته- تراثا نقديا مستهلكا ورتيبا…وصار محتما
علينا أن نقرأ النصوص التي تناولها العقاد وشكري والمازني وفق رؤية منهجية جديدة
تأخذ النص بعين ثابتة….لا تخرج عنه إلى إسقاطات أو افتراضات خارجة عنه…وسيحملنا
الموقف النقدي أن نكتشف هذه النصوص من جديد استنادا إلى القيم التركيبية والدلالية
والصوتية التي تتضافر لتجعل منها مادة أدبية…قابلة
للقراءة والتفسير…إن تقييم نص أدبي يعني
انتهاك حرمته…يعني إلغاء عناصر فيه، إلغاء قسريا لا يضع في
الحسبان طبيعته البنيوية الشمولية وقيمه الأسلوبية المتضافرة ونظامه السيميائي
المشحون بهذا الإحساس العميق في تجاوز الذات ومن ثم تجاوز الأزمنة والأمكنة، تجاوز
التصورات الفكرية والإديولوجية. وبالتالي تجاوز الدلالات المرجعية الأحادية التي
ليست شيمة من شيم النص الإبداعي الخلاق المتوهج بالأدبية. المصاغ صياغة أبدية…المفتوح
على كل التأويلات…المتجه إلى دلالات غير
محددة. إننا لا نستطيع مع ذلك كله…التقليل من شأن سجلنا
النقدي العارم والذي لا يمكن للحقل الأدبي الإبداعي منه أو النقدي أن يتجاهله أو
ينكر فضله. ناقش طه حسين "في الشعر الجاهلي"(3) مادة أدبية لم يعش
محتواها إلا من خلال مركبات النص الذي قرأه على نحو رآه هو اعتمادا على مفاهيم
منهجية اعتقدَ أنها سليمة وأنها أفكار جديدة… واعترض الدارسون على ما دعا إليه طه حسين الدكتور في هذا الكتاب
الذي مثّل آنذاك قمة نقدية صنعت ضجة، وتجاوز الزمن هذا الكتاب كمعطى نقدي ليصبح
شيئا من التراث النقدي، ويأتي بعد سنوات طويلة باحث فذ مثل الدكتور كمال أبو ديب
ليقدم لنا المادة الشعرية الجاهلية بوجه آخر، قراءة لا تحكم…ولا تقدم
قرائن جماليات هذا الشعر استنادا إلى براهين وحجج ونصوص وشواهد…بل تسعى
إلى اكتشاف تلك المادة الشعرية الجاهزة كبنية شمولية ضمن بنية شمولية أوسع مركزة
أولا وأخيرا على البنية النصية الواحدة ثم مجموع البنيات الشعرية الجاهلية، طبق
منهج بنيوي…محددا الإطار الزماني والمكاني الذي يسمح له
بالقراءة.
وهكذا
استطاع الدكتور كمال أبو ديب في كتابه العلمي المثمر "الرؤى المقنعة"،
نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي(4). أن يمسح محاكمة طه حسين للنص الشعري
الجاهلي التي أقامها دون دلائل فعلية مرجعية مكتشفة من النص نفسه أو بناء على
مصادر نقدية أو تاريخية موثقة توثيقا سليما. وكان لهذا السبب بحث الرؤى المقنعة
مشروعا نقديا مبررا بدلائل نصية ينطوي عليها المتن الشعري الجاهلي الزاخر في
مستوياته التعبيرية الدالة وما توصل إليه الباحث الناقد من نتائج باهرة تهم الدارس
النقدي المعاصر، وتؤكد المشروعية التراثية العميقة للمادة الشعرية الجاهلية بما
تحمله من معان ثقافية وفكرية وأسطورية. الأمر الذي أوقع المفهوم النقدي الذي قدمه
طه حسين في حرج بعيد المدى وأثبت أن نظرة طه حسين النقدية كانت مجرد شبهة نقدية لا
أكثر بكيفية أو بأخرى، وهو ما يثبته البحث علميا في الملحق المتصل بالكتاب حين
يقول: "أشرت في أكثر من موضع إلى ضمور العمل التحليلي في دراسة الشعر الجاهلي
ومحدودية المادة التي تستند إليها الأحكام التي أطلقت عليه منذ بن قتيبة حتى اليوم
الحاضر… كما اقترحت أن
التصور الشائع لطغيان الأطلال في الشعر الجاهلي لا أساس له من الصحة وأنه يقوم على
تقبل الفكر الموروث أكثر مما يقوم على نتائج الدراسة التحليلية…وليس ثمة
من دراسة واحدة للمجموعات الشعرية التي احتفظت لنا بالنصوص الأساسية منه. ونحن ما
نزال نكرر أحكاما قاصرة ورثناها عن دارسين ورثوها بدورهم في صيغتها القاصرة عن
أسلاف لهم. "(5) ويضيف الدكتور كمال أبوديب في هدوء علمي رزين" وكانت
لهذه الخطوة المنهجية نتائج حاسمة الأهمية تسمح لنا للمرة الأولى في تصوري بتجاوز
الأحكام التقليدية التي تعبت من مادة محدودة جدا لا تتجاوز في كثير من الأحيان
المعلقات وعددا من القصائد المشهورة للشعراء البارزين,,,"(6)
إن ما قدمه
الدكتور طه حسين ليس جريمة أدبية بقدر ما يمثل نقلة نقدية جريئة في نطاق رؤية
منهجية ديكارتية قادت المفهوم النقدي لدى طه حسين إلى إثارة جدل اعتقد آنذاك أنها
صلب العلمية في الأدب, وهو ما نلمسه عنده أيضا في دراسته عن أبي العلاء المعري
والذي تتجلى فيه هذه النرجسية الزائدة التي يغدق بموجبها كل جميل على الشاعر، دون
أن يحقق برؤيته تلك مفهوما نقديا ولم يرس منهجا علميا يؤهل المعري لأن يكون مفهوما
ومقبولا.. على مستوى عملية التلقي.. إلى درجة أن النص الشعري ظل عائما في فضاء
هلامي من الكلمات غير المؤسسة نقديا.
كان
علماؤنا- كما نرى على سعة علمهم وموسوعية فكرهم يتقمصون شخصيات فكرية ونقدية في
عمق سلوكهم المعرفي.. مما جعل قراءتهم النقدية للنصوص جاهزة ومستهلكة لنص جاهز
الأدوات، شامل الرؤية، قائم البنية، مكتمل المعاني. أدت تلك القراءة إلى أن يصبح
النص بموجب ذلك مقطوع الصلة بكينونته،
منكسر الإرادة في تقديم مادته الأولية إلى القارئ. كان مجرد افتراضات تفتقر
إلى اليقين العلمي والتحليل الشمولي المنطلق من النص.. مادة الاختبار. الأمر الذي
ساهم في تقطع الصلة بين القارئ والمقروء.
الفكر النقدي حلقة
متواصلة :
إن
الأوروبيين على الرغم من كل ما حدث من تحول في عمق الفكر الأوروبي لا يزالون في
سريرتهم يدينون بالولاء العميق لأعلامهم , لا يزال سانت بيف وتين وبرونتيير ومدام
دي ستال وشاتوبريان وغيرهم من النقاد المحدثين حاضرين في الفكر النقدي ولا تزال
الممارسة النقدية تتخذ من مطارحاتهم النقدية مادة ثقافية في التعامل المنهجي مع
الظواهر الأدبية المختلفة…على الرغم من التطور
الإجرائي الحاصل في الممارسة النقدية المعاصرة عندهم…وهو تطور
رافق التحولات الثقافية والعلمية والاقتصادية الجارية في العالم الأوروبي على وجه
الخصوص…إلى جانب ما يحدث في العالم الأمريكي والآسيوي من تطور هائل
في مختلف النظرات العلمية والإنسانية…
إن العملية
النقدية تنبني على التواصل والتحول، ولكي يحدث التفاعل بين القارئ والمقروء فلابد
من الأخذ بعين الاعتبار متطلبات الواقع الفكري وتحولاته العميقة… ولهذا لا يجب أن نحس بعقدة نقص نقدي تسعى إلى تجاوز الطروحات
النقدية الحداثية لجيل طه حسين والعقاد وشكري والمازني ونازك الملائكة ومحمد مندور
وغالي شكري وعبد الواحد لؤلؤة وأنيس المقدسي وغنيمي هلال وعبد القادر القط وغيرهم
من الأسماء النقدية التي كتب لها أن تقرأ إلى حين، مع ما تفتقر إليه من قدرة على
إضاءة الجوانب الأدائية الفاعلة في النصوص الأدبية التي كانت تسميها عادة باسم
"الأعمال الأدبية". إننا نكن لهذا الجيل كل التقدير النقدي ولكن الحقيقة
النقدية لابد أن تتجلى بصورة أعمق مما هي عليه… وقد صار من الواجب أن يتعرف الباحثون والطلبة على أسماء نقدية
جديدة تحمل في مفكرتها النقدية هذا التحول القائم في الفكر النقدي العالمي…
إن طلبتنا
يجهلون –مع الأسف- باحثين على أعلى مستوى من أمثال الدكتور صلاح فضل
والدكتور عبد السلام المسدي والدكتور جابر عصفور والدكتور رجاء عيد والدكتور عاطف
جودة نصر والدكتور أحمد فتوح أحمد والدكتور مصطفى ناصف والدكتور محمد الهادي
الطرابلسي والدكتور محمد بنّيس والدكتور كمال أبو ديب والدكتور عبده الراجحي
والدكتور تمام حسان والدكتورة اعتدال عثمان والدكتور عبد الله الغذامي والدكتور
سعد مصلوح وغيرهم من أعلام النقد المعاصر ممن يعملون بعمق على تطور المفهوم النقدي
العربي بما يمتلكونه من إمكانات وفيرة علميا وأدبيا… ولما لهم من صلات ثقافية مع الثقافة النقدية العالمية… والتي يمكنها أن تعمق وعينا الحضاري ومفهومنا النقدي… ودورهم الثقافي المنهجي لا يقل عمليا عما يقدمه الأعلام الغربيون
والأمريكيون والآسيويون في تنوير الفكر الإنساني وتحديد الهوية العلمية للمصطلح
النقدي الذي يمكن أن يتحد عالميا تماما مثل الذي تقوم عليه العلوم الفيزيائية
والرياضية والطبية.
إن المصطلح
النقدي مفهوم يمكن أن يتلاقى في النظام الفكري العالمي… ولا يعطي لهذه الإمكانية حضورها إلا مثل هؤلاء الأعلام… ومساهمتنا النقدية جديرة بالحضور الفعلي الذي منحه لنا قبل قرون
أعلام مثل بن خلدون والفارابي وبن سينا والكندي وبن قتيبة والمرزباني وعبد القاهر
الجرجاني وحازم القرطاجني وبن رشد وأبو هلال العسكري وبن فارس والجاحظ وبن رشيق
وبن جني….إلخ.
عمل
الحداثيون من نقادنا على تكريس الأصول الثقافية النقدية المعيارية، ودعوا عبر
مدارس نقدية مختلفة في وجهاتها إلى فلسفة نقدية تعليمية الهدف والمنطلق فكانت كفاءتهم
النقدية قسرية على النص الإبداعي الذي ظل مغلقا على نفسه، جاءت هذه التحليلات التي
ظلت قاعدية إلى حد بعيد متوافقة مع طبيعة المرحلة الفكرية والحضارية وكان الزاد
النقدي فيها يتطلب ذلك أيضا.
إن
الثقافية السائدة في مرحلة من مراحل الفكر النقدي لها دورها البالغ في تحديد
الوجهة النقدية دون شك. ولهذا لا نستطيع أن نضرب عرض الحائط بيحي حقي مثلا لاتجاهه
التأثري ولا بطه حسين لاتجاهه التاريخي أو موقفه الديكارتي(7) أو قراءاته
النرجسية(*) ولا نستطيع إلغاء لويس عوض أو أمين العالم لرؤيتهما النقدية
الإيديولوجية ولا نستطيع عزل المفهوم النقدي الأدونيسي على موسوعيته لأنه يتضمن
رؤية نقدية توغل في التفسير الهدمي( ولا نستطيع أيضا نكران الزيات ولا الرافعي
للتقليدية البعيدة في كتاباتهم النقدية التي تكرس المفهوم البلاغي القديم في صورته
التي تعمل على تحنيط العمل بشكل يكون فيه النص علبة كبريت محسوبة، يمكنها أن تحترق
ببساطة. كما أننا لا نستطيع أن نحنط أو نشك في الرؤى الفكرية والفلسفية واللغوية
والبلاغية والنقدية التي تشكل قالب المفهوم النقدي التراثي، ومن حقهم علينا أن
نؤازرهم في كل منتوجهم الفكري حرصا على هويتنا الثقافية واستئناسا بمجهوداتهم التي
لا تخلو من فائدة علمية…مهما اتسع نطاق التحول
الفكري والعلمي في المجال النقدي.
على أنه لا
يجب أن تتحول هذه المؤازرة إلى عامل محبط مثبط للعزائم.. في عمق التحول الثقافي
المتماشي مع المتغيرات العلمية السريعة…. المرافقة لتحولات الفكر في مختلف نشاطاته الإنسانية.
إن العالم
الإنساني لم يتناس بدوره ما قدمه أفلاطون ولا أرسطو ولا هيغل، لم ينس بابلونيرودا
ولا فرويد، ويحتضن اليوم بكل قوة العلم والإخلاص الإنساني ما قدمه أو يقدمه أعلام
جدد من أمثال رولان بارت وغريماس وشارل بالي ولوتمان وجوليا كريستيفا وجان كوهن
وغولدمان وتودوروف ريفاتير… لم يتناس الفكر الغربي عبقرياته النقدية الفذة ولم يتجاهل الذين
فسحوا المجال لعلم النقد أن يتحرك بجدارة وعمق من أمثال دي سوسير وجاكبسون، بل
يمكن القول أن احتضانه لمجهودات هذين العالمين كانت سر تطور المصطلح النقدي وقد
كان دي سوسير وجاكبسون بارعين علميا في عملية تحريك المفهوم النقدي وانحساره عن
الوجهة التقييمية المعيارية إلى وجهة تعتمد بعمق عنصر المعاينة الدقيقة وتحليل
ودراسة الأثر الأدبي فيما يختزنه من قيم تركيبية وصوتية ودلالية مولدة طبقا
لمستويات نقدية وأدائية وتعبيرية ولغوية.. ساهمت بكيفية ما في صنعة النص وخلقه… فكانت الممارسة النقدية بذلك فعلا خلاقا آزر فعل الكتابة…بل صار له
الأهمية القصوى في الفعل الإبداعي….أهّل الخطاب الأدبي أن يمتلك كيانه المستقل وجعله ثمينا في ذاته… في قيمه المتضافرة المتبلورة في سياق يجسد بنية شمولية، قابلة
للقراءة والتأويل.
قوة الإبداع… ترفض قوة
الوصاية:
إن التحليل
النقدي لأي أثر أدبي…يتضمن إجابات متعددة
تنطوي خلف المركب النصي، ولعل أهم سؤال حيوي دقيق يتبادر إلينا للوهلة الأولى هو:
كيف جاء هذا المولود النص الأدبي إلى هذا الوجود؟ إن من طبيعة النقد التقليدي أن
يحمل الجواب على هذا السؤال إلى عوامل نفسية تبعا للظروف النفسية التي عايشها صاحب
الأثر ولذلك سيطبق إجراءات المنهج النفسي مضيفا على المادة التعبيرية للنص مادة
صماء من خارجها…يسقطها دون مراعاة
كرامة النص المأثور المستقل الوجود…. وقد يحيل الجواب إلى ظروف اجتماعية أو واقعية أو ذوقية… وفي كل مرة يمارس عملية إسقاطية على هذا المولود المتكامل في
أعضائه البنائية…القادر على ممارسة
التأثير والتواصل وتحقيق التلقي لدى قراء…يستوعبون
مادته المركبة بصور مختلفة، وفوق كل اعتبارات الأسئلة التقليدية النقدية…فإن
الإجابة على مثل هذا السؤال تبدو في ظل الإجراءات النقدية الجديدة البنيوية
والأسلوبية والسيميولوجية مفعمة بكثير من العطاء النقدي الذي ينجم دون شك عن
انفتاح هذه المناهج بصورة طبيعية على طبيعة الأثر الأدبي كمادة طبيعية قابلة
للتحليل والتفسير من جهة وكمادة ثابتة مكتملة الرؤية متناسقة البنية، متعددة
الدلالة.
من هذا
المنطلق يبدو أن الناقد التقليدي بأحكامه المعيارية وإجراءاته المستهلكة السابقة
لميلاد النص غير قادر على طرح مثل هذا السؤال النقدي، لأنه ليس في متناوله ولأنه
ببساطة لا يستطيع دخول عوالم النص. ولذلك لا يستطيع تقديم جواب فاعل لسؤال ميلاد
النص… إنه عاجز عن الفعل النقدي لأنه يتخذ
موقعا خارجيا معرفيا-عادة- مربطا للقراءة، ولذلك ينتج نوعا من النص المناهض أو
المدعم لميلاد النص…لا المحلل له… وهكذا يخضع النص-مجبرا- إلى قراءة (بروتوكولية) تعتمد على
المساومة للمركب النصي، يميز بموجبها النص ويوضع في خانة من الخانات تنطبق مع جنسه
(قد يكون ذكرا وقد يكون أنثى)…متخذا من هذا الموقف
مسوغا لإضفاء هوية على هذا النص بالاعتماد على معطيات تهيأ له أنها من صلب الأثر،
وهي في حقيقتها لا تنتمي إلى زمرته اللغوية الثابتة كبناء كلي شمولي متكامل القدرات
والوظائف.
إن التحليل
النقدي التقليدي-إن صح لنا أن نسميه تحليلا- كان في عمق مادته مستهلكا تتجاذبه
المادة التعليمية على أوسع المستويات، تمارس فيه الوصاية على النصوص الإبداعية،
وصاية تبلغ حد التلقين والتوجيه إلى حد مطالبة صاحب الأثر بأنه كان عليه أن يقول (كذا)
ولا يقول (كذا)…متجاهلة بذلك أسباب
وحيثيات خلق النص الإبداعي الشعري منه والنثري…وظروف
إنتاجه القصوى التي لا تقبل كلحظة خلق عميقة عمليات الوصاية مهما كانت طبيعتها
وقوتها وملابساتها.
والمختصون
في التحليل النفسي –مع الأسف أو حسن
المصادفة- يمتلكون القرائن المعرفية في هذا المضمار(9) ولكنهم لا يترددون في تقديم
أنفسهم أوصياء على المنبع الإبداعي. ويصنع الواقعيون والاجتماعيون الفعل نفسه،
منطلقين من الضرورة التي تقول إن النص مرآة المجتمع(10) يفسرون النص في ضوء هذه
الحيثية، فإذا لم يكن يتماشى مع هذه الرؤية الاجتماعية المبنية على ما يعرف بنظرية
الانعكاس، وجهوا إليه أسئلة كثيرة مرتابة، واستنطقوا صاحبه أولا وأخيرا. وطالبوه
أن يكون على هذا النحو، مع أنهم هم أول العارفين أن الإبداع أعمق من أن يوضع في
زجاجة مغلقة…إن النص الإبداعي بحيويته وثرائه قابل للتجدد
والتحول ومن ثم فإن عملية قراءته تقتضي أن تتماشى مع تحولاته هذه… بل تقتضي أعمق من ذلك وهو أن يفسر النص نفسه بنفسه- كما سنرى فيما
بعد في ضوء النظرات النقدية التي تتجسد في مناهج النقد الأدبي المعاصر-في خضم
تحولات الموقع الثقافي التاريخي الوجداني الاجتماعي والنص الخالد هو القادر على
تجاوز الأزمنة والأمكنة المفتوح على الأمزجة بمادته التعبيرية المتعددة الوظائف من
شعرية وإشارية".
من هذه
الزاوية كانت الطروحات النقدية الجديدة من بنيوية وأسلوبية وسيميولوجية بما تستند
إليه من قيم معرفية منهجية عميقة في مفهومها الذي تتعامل من خلاله مع النص المبدع
والذي تتطلب قراءته الحيطة كل الحيطة في تجنب كل حكم ما قبلي خصوصا… وتجنب فكرة الموضوعية على الطريقة الماركسية أو على طريقة موضوعية
برونتيير(11) والتي تعتمد في صلبها على رغبة عارمة في امتلاك النص….ووصفه بمقياسها…مما يعني إفقار النص
في مردوده…
وتكميم
فضائه… إن النص بما
يمتلكه من إرادة، جدير بأن يخلق لنفسه أسباب حياته، ويأخذ قوامه المشهود ويحرره من
ربقة المناهج التقليدية التي أصبحت على عمق ما قدمته-قاصرة ومهزوزة، بل صارت
مضحكة.. في سلوكها القرائي للنصوص الأدبية. ولن يتأتى لهذه الدراسات الأدبية التقاليدية
أن تتموقع بمظهرها البالي في الخريطة النقدية المعاصرة، لأن النقد قد تجاوز كونه
مجرد رأي يقال أو حكم يصدر في حق نسيج إبداعي معين. إن نقدا مثل الذي يرسم معالمه
الدكتور أحمد كمال زكي في قوله: النقد هو حكم على الأعمال الأدبية بمقدار ما في
صياغتها من فن ومقدار ما في مضمونها من قيم…"(2) هو تفسير فيه إصرار واضح على تجزيء النص وفق النظرية
التقليدية القائمة على فكرة الشكل والمضمون.
لقد كان
هذا المنطلق وغيره من وجهات النظر النقدية القائمة على القيم المنهجية لاتجاهات
نقدية اصطلح عليها الدارسون في النقد الحديث واختزلها ناقد مثل الدكتور أحمد كمال
زكي بوقار علمي وأدبي في اتجاهات أربع هي التكاملي والنفسي والاجتماعي والصحفي(13)
وقد كان لهذه الاتجاهات الأثر الكبير في تفسير نصوص ظلت على حالها… محافظة على طبيعتها الأدائية اللغوية منتصبة غير عابئة بجعجعة هي
أصلا دخيلة على الفطرة السليمة للنص المتوثب بالقيم الفكرية والإبداعية المتواترة.
وكان ما قدمه الدكتور مصطفى سويف العالم الفاضل، والدكتور عز الدين إسماعيل أستاذ
جيل من المثقفين في مصر من تحليل نفسي للأدب غاية في الأهمية من وجهة كون هذا
التحليل أعطى معلومات معرفية للقارئ لكنه بالمقابل لم يسع كلية إلى التعامل مع
الوحدات النصية في انتظامها وتآلفها كعناصر فاعلة متفاعلة تماما مثلما كان يفعل
البلاغيون في وقفتهم عند استعارة في نص شعري أو نثري دون تقديم التبريرات الصوتية
والتركيبية والدلالية لاستعمالها على هذا النحو. وفي هذا الموقع من النص بلغت هذه
النظرة التلقينية درجة بالغة الخطورة في المعاملات النقدية الأدبية، اختزلها باحث
موسوعي مثل الدكتور شكري فيصل(14) في خطوط منهجية أدبية حددها في مجموعة من
النظريات بدل المناهج أو الاتجاهات هي النظرية المدرسية، ونظرية الفنون الأدبية
ونظرية الجنس ونظرية الثقافات، ونظرية المذاهب الفنية والنظرية الإقليمية وهو
تقسيم لا يعرف عن النص إلا الاسم أو هكذا يمكن أن يلاحظ المتتبع…لأنه لا
يأخذ المادة النصية الأدبية في الحسبان إلا من زاوية صاحبه الذي تختزل حياته في
لفظة أو لفظتين (ترعرع وتتلمذ….) بالاعتماد على الموقع الجغرافي والزمني الذي وجد فيه النص. وقد
سعى مع كل ذلك إلى تقديم رؤية منهجية جديدة هدفها التعرف على أدق الخصائص الفردية
لكاتب أو شاعر، إلى الخصائص المشتركة التي تربط بين جماعة من الأدباء والشعراء
وطبيعة هذه الدراسة-كما يضيف-هي الاتجاه نحو اكتشاف التوحد الفني في مجموعات
الأدباء وراء هذه الكثرة المتكثرة في حياة أديب.
يقدم لنا
الدكتور شكري فيصل انطلاقا من هذا التصور النقدي البطيء في فعله النقدي وفي روح
النص الذي يؤلف المادة النقدية-المنهج الصحيح الذي يهدف أساسا إلى تحقيق المدارس
الأدبية في الأدب العربي والذي يعتقد أنه يمكن تلخيصه بأنه وحدة في الهدف وكثرة في
الوسائل…بمعنى أنه لابد من الإفادة في المناهج السابقة من نتائجها
التي بلغتها وحقائقها التي توصلت إليها… يدعو إلى تعاونها وتضامنها تعاونا مثمرا وتضامنا منتجا دون أن
يكون ذلك مبررا للخلط بين هذه المناهج المختلفة التي سبق عرضها…المنهج
الجديد حسب الدكتور شكري لا ينشد طريقة انتخابية ساذجة ولا يريد مزجا ضالا خابطا
ولا يعني هذا الإبقاء على المناهج السابقة بما هي عليه وإلا لاختلط الأمر وضاعت
الحدود وأمحت المعالم…ولكنما يبقى عليها مخالفا عن أصلها الذي كان لها
وعن مفهومها الذي عرفت به في الأدب العربي حتى اليوم. إنه لن يجعل منها غاية في
ذاتها ولكنها ستكون عنده أشياء يمر بها إلى الغاية الأصلية التي يهدف إليها….(15).
إن نمطا من
هذه الدراسة التقعيدية التي لا تقوى على شد مرادفاتها النقدية والتي تتجاهل النص
في بنيته الشمولية، لا تمتلك مسوغات الدخول إلى عوالم النص الأدبي لذلك تظل عقيمة
النتائج، رتيبة الخطوات…غير قادرة على تحقيق
فعل القراءة…ولا تمتلك الأدوات التي تؤهلها لذلك الفعل…إن المنهج
الذي تسعى إليه مثل هذه الدراسات الأدبية الكثيرة في سجلنا النقدي العربي الحديث
هو إيجاد مبررات تفسيرية انطلاقا من معطيات مسبقة عن النص أو جملة النصوص المقروءة
بطريقة مضلة غير قائمة على استراتيجية محددة أثناء عملية التفسير والتأويل. إن
النص لا يمكن بأي حال أن يكون زخرفة عمياء..لا تقبل المحاورة والمناورة أثناء
التدرج في عملية القراءة على مستويات متعددة تركيبية وصوتية ودلالية…إن النص
متوحش ولا يمكن دخول عوالمه بهذه السهولة التي يمتطي فيها التحليل (خارج النص)
محورا أساسيا فاعلا لتفسير "داخل النص".
إن النص في
ضوء هذه القراءة يمثل قراءة مجردة القيمة مبتورة النتائج لأنه يجعل النص في موقع مساومة
سلبية في كل الحالات يكون فيها الناقد هو القارئ الأول والنهائي للنص مما يعمق
وصايته إلى حد تأسيس نقد يشبه عملية المزايدة التي تجري في سوق الخضر، مما يزيد في
غربة الأثر، وانكسار أدبية الأدب فيه.. ويحيلها إلى هامش يحفظها ولا يمس
مكوناتها..التي تحتفظ لنفسها بالحق في الحياة…ولهذا كنا
نجد نصوصا تختفي إلى حين ثم لا تلبث أن تتحرك في المحيط الثقافي بفعل تجانس مادتها…وقدرتها
على مواجهة الأزمنة والمفاهيم… وهو ما يحفز الدراسات النقدية المعاصرة إلى الفعل النقدي الجديد
الذي يعمل على نطاق واسع لإقامة جسر حميم بينه وبين النصوص التي تمتلك لنفسها
كيانها وصفاءها.
أصبح
المفهوم النقدي في خضم المعطيات المعرفية الواسعة في مختلف المجالات في حاجة ماسة
إلى تجاوز مادته المأثورة المحوصلة في سؤال يؤرق الطلاب عادة والمتحمسين لفعل
القراءة. وهذا السؤال هو:ما المراد من النقد وهل نقيم ما نقرأ أم نفسره، أم نقيم
ونفسر في الوقت نفسه؟
إن
الدراسات النقدية الجديدة قد تجاوزت هذا السؤال دون إخطار من يمثل مثل هذا السؤال،
لا لشيء إلا لأنها أدركت أن المفهوم النقدي حيوي ولا يمكنه أن يقف مكتوف الأفق بل
وجد الدارس الأدبي نفسه في حاجة إلى دخول المعترك العلمي المعرفي بكل قدراته…وكان لابد
أن يتجاوز هذا المنحى النقدي الذي وضعه نقاد مثل ت.س إليوت في كتابه فائدة الشعر
وفائدة النقد، وإلى تجاوز دعوة نور ثروب فراي إلى علمية النقد في كتابه البالغ
الأهمية تشريح النقد(16) والدافع إلى تجاوز هذا التصور النقدي وذاك هو اعتدادها
بالفعل النقدي وتسليطه على النص.
إن خطأ
المفهوم النقدي التقليدي على اختلاف وجهاته يعود إلى تعامله وفق هذه الرؤية
المسبقة مع النص أو مجموعة النصوص المقروءة. إن قراءتنا لأرض محمود درويش لا يجب
أن تختلف عن قراءتنا لأرض ت.س. إليوت انطلاقا من موقع كل منهما جغرافيا أو أدبيا،
وإنما يجب أن تكون منطلقة من جزئيات كل نص على حدة. وهو ما يمثل الشغل الشاغل
للدراسات النقدية المعاصرة والتي تسعى إلى تأسيس مفهوم نقدي قادر على مواجهة هذا
الركام النصي اعتمادا على ما في هذه النصوص من قيم أدبية، تمثل في صلبها بنية متماسكة،
تؤدي وظيفة لا بالشكل الاعتباطي، إنما انطلاقا من كون هذه المادة الخام أصبحت فعلا
أدبيا، ساهمت في انسجامه جملة من الآداءات الوظيفية ليصبح في نهاية المطاف على هذا
النحو المهيأ للقراءة والتفسير والتأويل، وليس بوسع الناقد أن يؤطر هذا النص في
وظيفة ما…
قبل أن يكتشف صورته البسيطة المتحولة من فعل معجمي بسيط إلى فعل خلاق مبدع…إننا في
مواجهة حامية مع العلوم المختلفة وعلى رأسها العلوم الطبيعية التي أبت أن يدخل
الإنسانيون فردوسها، فكان علم اللغة منفذا مهما في إحداث هذا الجسر بين النص
المبدع والعلوم التجريبية عموما…لأنه مادة حية زاخرة
بالقيم القابلة للتحليل والتجريب انطلاقا من مكونات اللغة التي تخضع للقياس
التجريبي العلمي خصوصا ما يتعلق بمظهرها الألسني البحث..إلى جانب ما يختفي خلف
الظلال الأدبية من دلالات، هي كفيلة بأن ترشدنا إلى ما نحتاجه في حياتنا الطبيعية…من أسرار
تتصل بصلب وجودنا…إننا نقر الآن اعتمادا
على ما قدمته العلوم الألسنية من دلائل. إن النص لم يعد مجرد كلام وأن النقد لم
يعد كلاما عن الكلام(17)…أصبح النص الأدبي
ظاهرة مشرعة الأبواب، ويمكن دخولها على النحو المنهجي الذي يخدم المفهوم النقدي
المتواتر مع طبيعة النص الذي ينطوي على قابليته للدراسة علميا انطلاقا من الطابع
اللساني الذي ينبني وفقه في كل صورته الصوتية الكاملة، وهو ما يفسح المجال للعلوم
المختلفة أن تتعامل معه من الزاوية التي تعطيه يقينا علميا، في تحقيق غاية علمية
محددة من وراء تحليل المادة اللغوية المركبة لهذا النص ابتداء بالتعرّف على هوية
الزمرة الدموية للنص ومن ثم معرفة قوانين وجوده التي اعتمدها وما يؤديه من وظائف
وما يستند إليه من وسائل تبليغية بغاية التأثير والتعبير والتواصل محققا من خلال
ذلك أسباب هذا التكامل والتضافر والتلاقح العلمي بين وحدات النص الصوتية الدالة
على اختلاف طبيعتها، وبين النص الأدبي من جهة ثانية والعلوم الإنسانية وبين النص
الأدبي والعلوم التجريبية من طبيعية وفيزيائية ورياضية من جهة أخرى… إن النص ثقافة متشابكة في قيمها المعرفية، إنسانية في روحها…ثقافة
مرهفة…تتجاوب مع المشاعر الإنسانية ومع الآلية العلمية في
انتظامها وصيرورتها.
إن النص
الأدبي الذي يخضع طرديا لعملية التواصل يجبرنا أن نتعرف عليه بشتى السبل، وقد كانت
التقاليد النقدية الموروثة مادة تدفعنا إلى تحقيق هذا التواصل بطرق نفسر بموجبها
النص تفسيرا نفسيا أو انطباعيا أو تاريخيا أو اجتماعيا أو جماليا أو واقعيا ونضطر
فيها مقتنعين أن النص صورة فعلية لإسقاطات محددة نفسر بموجبها النص، كأن نفسره
انطلاقا من حياة صاحب النص ونطرح حوله كل الشبهات والأسئلة في صورة ترعرع فلان
ودرس على يد فلان وأكل وشرب "ومشى في الأسواق…فكان نصه
صورة لحياته النفسية أو صورة لحياته الاجتماعية…وهكذا….
من هذا
المنظور كان لابد لهذا النص…أن يتحرر من الأسئلة
الغيبية والعينية المأثورة أبا عن جد…يتحرر من مضايقات
النقد القياسي تحررا يتوافق مع طبيعته وخصوصيته ونمط أسلوبه، إن النص الأدبي
الناجم عن جملة إجراءات أدبية محضة هو الذي يدفعنا إلى تمييزه بنائيا وأسلوبيا
وسيميولوجيا، ولا يسمح لنا البته بالخضوع لقاعدة ما قبلية…إنها إرادة
النص التي تقودنا إلى التجانس مع النص بالشكل الذي يجعله جزيرتنا العجيبة…الساحرة..المفتوحة
على العوالم المتعددة، تجذبنا إليها عبر خيط دافىء هو هذه الدفقة الممتعة في هذه
الأنساق المتلاحمة على مستويات متعددة دلالية وتركيبية وصوتية منتظمة قابلة
للتحول، قادرة على الإضاءة وتجاوز الذات بالتالي، معبأة بمكنون اللغة العامرة
بالقيم الدلالية والمعاني الخالدة.
إننا نسعى
إلى اكتشاف النصوص، عبر قراءات متعددة نعتمدها في عملية التحليل والوصف والمعاينة،
جملة خطوات عملية هدفها إشعار النص بوجودها. تشكل هذه الخطوات في عمقها صبغة
منهجية حتى لا نسميها بداية منهجا…تاركين الأمر إلى
أوانه… إننا نقدم هذه
اللفتة النقدية من خلال ما نمتلكه من مادة مرجعية، محاولين الإلمام بالنظرات النقدية
التي تشكل صلب مادة النقد المعاصر…عاملين على تقديم
المفهوم النقدي وملابسات تأسيسه…نقدم الرؤية المنهجية
الجديدة كما قدمها أصحابها…مع شرح ما يحتاج إلى
شرح، دون أن نزعم أنها خطوة نهائية في عملية قراءة النص… ونحن إذ نركز أكثر على المادة النظرية فإننا نعد طلابنا وزملاءنا
بتقديم مادة تطبيقية نشرح فيها كل مفهوم نقدي استنادا إلى نص أو نصوص بعينها بشكل
أعمق. إننا على قناعة أن النص في بنيته الشمولية متوثب وحيوي وكفيل بأن يصنع لنفسه
النطاق الحركي المتعدد المفتوح.. ولهذا كان النص في حركيته الإبداعية موفورا في دلالاته،
متناسقا في وحداته الصوتية…متلاحما في إيقاعه….وكلما كانت هذه الحركية فيه على مستوى بالغ من الخلق والاكتشاف
لبنيات جديدة ذات شبكة علاقاتية جديدة بين الوحدات اللغوية التي يتركب منها النص
كلما كان هذا النص ثريا…وكلما اتسع نطاق
تفسيره وتأويله، كلما تجلت خطوة منهجية جديدة تتوافق مع إفرازات النص…تطرح أمامه
أسئلة وتعطيه قوامه الفعلي.. من خلال فعل نقدي متوثب يأخذ النص منطلقا كاملا
لمشروعه النقدي.
الهوامش:
1-أنظر:
صلاح فضل، إنتاج الدلالة الأدبية، ص. 33.
2-أنظر في هذا الشأن: مجلة فصول في عددها الرائع، قضايا المصطلح
الأدبي. العدد3/4. المجلد السابع. أبريل/سبتمبر 1987. أنظر على وجه الخصوص بحث
الدكتور حسان: المصطلح البلاغي القديم في ضوء البلاغة الحديثة، ص.
21-36.
3-في كتابه: في الشعر الجاهلي أثار الدكتور طه حسين جدلا
واسعا بسبب موقفه الاستشراقي من الشعر الجاهلي وكان تأثره بالمنهج الفلسفي
الديكارتي أحد أسباب الرؤية الشكية عنده. أنظر في هذا الشأن: المرايا المتجاره
دراسة في نقد طه حسين،(القاهرة، 1983)، ص. 251 وما بعدها.
4-د/كمال أبو ديب، الرؤى المقنعة. نحو منهج بنيوي في
دراسة الشعر الجاهلي،(الهيئة المصرية العامة 1986): لم يناقش هذا الكتاب طه
حسين تبعا للمنهج النقدي المطبق ولكنه تناول بالتحليل المادة الشعرية النصية
بالتحليل والوصف وهو ما يؤكده في مقدمة الكتاب: يتنامى هذا البحث في سياق تصوريٍ
مغايرٍ جذريا للسياق الذي تمت فيه دراسات الشعر الجاهلي حتى الآن…ويحاول البحث أن يموضع دراسة الشعر الجاهلي على
مستوى من التحليل يرتفع عن المستويات التاريخية والتعليقية والتوثيقية واللغوية
والبلاغية والانطباعية التي تتم عليها معظم الدراسات له الآن. "أنظر ص. 5.
ولكن الكتاب بموقعه العلمي يثبت خطأ طه حسين العلمي في كتابه "في الشعر
الجاهلي".
5-نفسه، أنظر ملحق الكتاب. ص. 670.
6-نفسه، ص. 670.
7-أنظر مجلة الفصول. العدد الرابع. المجلد الثالث يوليو
أغسطس سبتمبر 1983 الجزء الثاني الخاص بالأدب المقارن من خلال موضوع: طه حسين
وديكارت: عبد الرشيد الصادق محمودي والذي يناقش الشك المنهجي عند طه حسين مناقشة
جد جادة ومستوعبة. ص. 104-113.
-أنظر تجديد ذكرى أبي العلاء. المجلد الأول من الأعمال
الكاملة. تتجلى هذه الرؤية النرجسية لدى طه حسين وتبدو في سياقه النقدي مساومة
للشاعر ومحاولة لتقمص شعره بشكل أو بآخر.
8-ما يقدمه أدونيس من تصورات نقدية في الثابت والمتحول واجهت
موقفا يحمل على التساؤل رغم ثراء مادته النقدية، وقد كانت كتابته الشعرية سببا في
تعميق هذا التساؤل الذي يصف الشاعر الناقد بالهدمية. ويأتي كتابه: فاتحة
لنهايات القرن،(ط1؛ بيروت:دار العودة، 1980). محملا بدعوة إلى كتابة شعرية
جديدة يتهم فيها الشعر في تطوره بأنه بقي سطحيا..لذلك يدعو إلى تثوير الكتابة
الشعرية أنظر: ص. 280. الموقف قابل للنقاش.
9-د.مصطفى سويف: أنظر بحثه القيم: النقد الأدبي: ماذا يمكن
أن يفيد من العلوم النفسية الحديثة. مجلة فصول
ع/1/ج4/أكتوبر/نوفمبر/ديسمبر/1983/الهيئ