بسم الله الرحمن الرحيم
الرمز في شعر تيسير سبول
الرمز في شعر تيسير سبول
مــدخــل :
يسعى هذا البحث إلى تقديم محاولة متواضعة لدراسة ظاهرة من الظواهر التي غلبت على شعرنا المعاصر ألا وهي ظاهرة الرمز.
وقد تلمسنا دراسة الرمز لدى شاعر غلب على شاعريته الطابع الوجداني وراح
يستخدم الرمز في محاولة للدخول إلى عوالم نفسه وهمومها الذاتية. وهو
الشاعر الأردني تيسير سبول
وليس من شك أن في استخدام الرمز والابتعاد باللغة عن المألوف واليومي
والمباشر ما يحقق قيمة فنية وجمالية ، وقد عبر مالارميه عن قيمة ما يحققه
الرمز والغموض من لذة الكشف التدريجي بقوله " تعيينك للشيء هو حذف ثلاثة
أرباع لذته، لأن اللذة الحقيقية تكمن في الاستكشاف التدريجي ".(1)
والرمز الذي نجده في شعر تيسير سبول هو ذلك النوع من الرمز الذي يدور حول
مواجد النفس وأحوال الذات الباطنية ، وإذا حاولنا كشف المدارات التي تسير
فيها رموزه وجدناها تحوم في أعماق الحياة الإنسانية عامة وتسكن في مناخات
الحزن والحب والبحث الدائب عن الحقيقة ، رموزه صور من قلق رومانسي ونظرة
تشاؤمية تدفعه إلى بحث محموم عن الموت أو عن طريق الخلاص من غابات التيه
والضياع ولقد كان العثور على ملاذ آمن وعالم نقي غير ملوث ولا مزيف عالم
عابق بالحرية لا قائم على الخوف والسير مع الجدار أو الحلم بالبقاء لليلة
هو المسعى الذي لازم الشاعر في حياته ، لقد ظلت محاولاته الدائبة إلى
الحرية تدفعه إلى البحث عن اليقين ، لكن بحثه لا يلبث أن يتحول وبالتدريج
إلى إحساس مفجع بالوحشة والضياع إلى قهر ومرارة ليمتد هذا الإحساس فيصبح
حزناً ينقض نسج القلب ويمتد منه إلى ما لا نهاية ، ويصبح الموت بعد ذلك
وقبله آخر المغامرات المنتظرة .
لغة سبول في التعبير عن مشاعره لغة حادة متوترة والفكرة لديه تتحول مع ما
يغلفها من رمز إلى فكرة عابقة بالعمق والإثارة يحاول بها الشاعر أن يصل
إلى الذات ويقف على تفاصيل الواقع ويثور على ما فيه من فساد وتخلف ، أما
اختياره لرموزه فيقوم عن طريق التفاعل بين الذات والواقع .
الـرمــز :
مـفهـومـه ومـعـناه :
ورد في لسان العرب أن الرمز هو تصويت خفي باللسان كالهمس ، ويكون تحريك
الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إبانة بصوت إنما هو إشارة بالشفتين
والفم ، والرمز في اللغة كل ما أشرت إليه مما يبان بلفظ بأي شيء أشرت إليه
بيد أو بعين (2).
ولا تختلف هذه الدلالة عند بقية المعجميين العرب القدماء ، أما في معجم
دوزي وهو من المعاجم الحديثة فانه يعرف الرمز بقوله " رمز ، أومأ وأشار
ولم يصرح ، وهي من صّرح ومنه قصيدة مرموزة وهي يؤمأ فيها إلى الأشخاص
والأشياء إيماء خفياً… ورمز : كناية تلميح مجاز استعارة وحكمة ومثل يعبران
عن فكرة أو عاطفة تلميحاً، ورمز رقم علامة ورمزي مجازي استعاري تصوفي "(3).
أما الرمزية كمذهب أدبي فإن له دلالته المعاصرة فهو مذهب أدبي ظهر في
أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر واندثر مع بداية الثلاثينات من القرن
العشرين .
فما المقصود بالرمز وما هي دلالته ومفهومه ؟.
لقد تعرض مصطلح الرمز لكثير من الاضطراب والتناقض والعمومية ووردت له تعريفات عديدة .
أصل مادة الكلمة رمز symbol في اللغة اليونانية هو sumbolein التي تعني
الحزر والتقدير وهي مؤلفة من الكلمة sum بمعنى مع و boleinl بمعنى حزر
.وكلمة رمز مشتقة من الفعل اليوناني الذي يعني "القى في الوقت نفسه " أي
"الجمع في حركة واحدة ، بين الإشارة والشيء المشار إليه " (4) .
والفعل اليوناني يوحي بان فكرة التشابه بين الإشارة وما تشير إليه عنصر
أصيل في بناء الرمز وهي تعني " شيئاً ما يشير إلى شيء آخر مع عدم إغفال
مستوى الدلالة الحقيقية فيه"(5) وللرمز تعريفات عديدة وفق مستويات عديدة ؛
مستوى عام ومستوى لغوي ومستوى نفسي ومستوى أدبي.
أما المستوى العام فهو المعنى العام الذي عرفته دلالة الرمز ، وقد قسم
بيفان الرموز إلى نوعين : الرمز الاصطلاحي ، وهو نوع من الإشارات المتواضع
عليها كالألفاظ باعتبارها رموزاً لدلالتها "(6) والثاني الرمز الإنشائي
ويقصد به نوعاً من الرموز لم يسبق التواضع عليه(7).
أما الرمز بمفهومه اللغوي فيعد أرسطو أقدم من تناول الرمز وعنده أن
الكلمات رموز لمعاني الأشياء الحسية ثم الأشياء التجريدية المتعلقة بمرتبة
أعلى من مرتبة الحس … يقول " الكلمات المنطوقة رموز لحالات النفس والكلمات
المكتوبة رموز للكلمات المنطوقة "(.
ويقسم ستيفن اولمان الرموز إلى تقليدية كالكلمات منطوقة ومكتوبة ورموز
طبيعية وهي التي تتمتع بنوع من الصلة الذاتية بالشيء الذي ترمز إليه (9).
أما المستوى النفسي فهو يشير إلى أن قيمة الرمز إنما تكمن في مدى دلالته
على الرغبات المكبوتة في اللاشعور نتيجة الرقابة الاجتماعية الأخلاقية ،
ويقول فرويد إن الرمز نتاج الخيال اللاشعوري ، أما كارل يونج فهو يرى أن
الرمز مستمد من اللاشعور والشعور ممتزجين .
ويعرف الرمز وفق المستوى النفسي بأنه "أفضل طريقة للإفضاء بما لا يمكن
التعبير عنه ، وهو معين لا ينضب للغموض والإيحاء بل والتناقض كذلك (10).
أما على المستوى الأدبي فقد كان جوته أول من حدد بطريقة أدبية وحديثة
مفهوم الرمز وهو يفهمه على انه "امتزاج للذات بالموضوع والفنان بالطبيعة ".
وفي مطالع القرن العشرين بدأت محاولات تهدف إلى تحديد مفهوم الرمز ، وحصر بلليزييه خصائص الرمز في ثلاث :
*الرمز هو الطريق لملاحظة الشبه بين ما هو وجداني وما هو مادي .
*الرمز لا يتطلب ذهناً على درجة عالية من التجريد .
*الرمز تلقائي ذاتي وأساسه أن يتعقب الشاعر العلاقات الخفية بين أفكاره ومشاعره بوصفها
عناصر ذاتية من ناحية ، والأشياء بوصفها عناصر موضوعية من ناحية أخرى .
وجاء في موسوعة دائرة المعارف البريطانية الطبعة الرابعة عشرة ،م21 أن
الرمز "عبارة تطلق على شيء مرئي يمثل للذهن شيئاً غير مرئي لعلاقة بينهما
هي المشابهة".
ومن جملة التعريفات العديدة والكثيرة للرمز يمكن أن نخلص إلى أن الرمز يمر
بمرحلتين هما : * مرحلة العطاء المباشر الذي يقدمه الرمز وعناصره مستمدة
من الواقع ، ألفاظه وعلاقاته اللغوية ذات دلالات سابقة .
* مرحلة تلقي الإيحاء الرمزي والاستسلام له ، الرمز ليس محاكاة للواقع
الجامد بل هو استكناه له وتحطيم لعلاقات الطبيعة حتى تغدو فكرة مجردة من
أوشاب المادة .
والرمزية حين ظهرت في الشعر الغربي سعت إلى تحقيق أهداف عديدة ولعل أهمها
إعادة الفكر إلى الشعر بعد أن اصبح الشعر زخارف وضعية في شعر البرناسيين
وإضاءة الأشياء بالفكر العميق ، ثم إن الشعر الرمزي معبر عن تغير تقدمي
وهو تغير اجتماعي أولا فهو تمرد فكري فني ينفجر داخل المجتمع وليس مجرد
حركة احتجاج ، فعندما تسد أمام الكاتب والقارئ كل منافذ التعبير والتلقي
تبدأ الرمزية والرمز تعمل على تخصيب الرؤية ويمكن الشاعر من استبطان
التجارب في الحياة مما يمنحه القدرة على استكناه المعاني استكناهاً عميقاً
(11).
والرمز يمكن الشاعر من التخاطب مع المتلقي بشيفرة ذاتية خاصة لا تحدها
حدود ولا تضبطها ضوابط تقليدية ، عن طريق الدلالات الرامزة التي تفتح
قنوات عديدة لإثراء الانفعال الذي لا ينفصل عن الفكر المصقول (12).
والرمز بمفهومه العام يعني فن التعبير عن الأفكار والمواقف بطريقة غير مباشرة .
وما لا يمكن في وسائل التعبير الأخرى يمكن في الشعر الرمزي لذا فإنه فن التمكن من اللاممكن(13).
الـرمز فـي شعـر تيـسيـر سـبـول
رمـوز سـبـول الـشعـريـة ….
عندما تطالع ديوان أحزان صحراوية نجد أن هناك قوتين تتجاذبان الشاعر
وتغلبان على ديوانه وهما قوة الحزن الشديد الظاهر من خلال صور قصائده
وإيحاءاتها وقوة الحب الذي أومضت به قصائده ، ولقد شكلت هاتين القوتين
الرموز الشعرية التي طفح بها الديوان وظهرت مستمدة من عوالم النفس الذاتية
ومتشحة برداء رومانسي ممتزج بنظرة سوداوية متشائمة ، وجملة هذه القوى لا
يكاد ينفصل بعضها عن بعض إذ إن الحب متصل بالحزن والحزن متصل بالنفس
المرهفة الحس المتأثرة بكل ما يحيط بها ، ولم يكن سبول يعيش بمعزل عن
محيطه بل كان يعاني من معظم ما عاناه الشباب العربي من شعور بفقدان للحرية
والمرارة العميقة نتيجة المؤثرات السياسية والاجتماعية، ولذا فان سبول
حاول أن يعبر عن كل ما كان يعتور نفسه الشاعرة ويصوغه شعراً وشعوراً يجسد
الألم وجملة الأحاسيس التي كانت تطارده وتضيق على نفسه .
ومما يميز سبول أن لغته حادة متوترة فيها شفافية وانسياب لكنه انسياب
الفلسفة العاطفية اللاذعة حينا والساخرة حيناً، والواقفة على حقائق الأمور
والمطالبة بالثورة على مظاهر الجمود والتخلف .
وإذا نظرنا في رموزه وجدناه يستقيها من التراث الديني والتاريخي والشعبي
والأسطوري والأدبي ، ولكن سبول يركز على استخدام رموز شخصية ، وفي ذلك
يقول "استخدام الأسطورة كرمز أراه مفتعلاً لأننا غير متصلين حقيقة بتلك
الأساطير ثمة هوة زمنية وهوة أخرى أهم حضارية تفصلنا عن أسطورة الآشوريين
مثلاً … واعتقد انه قمين بالشاعر أن يخلق رموزه الخاصة بصفته خالقا بدلاً
من أن يترجم ويتكئ على موروث ميت "(14).
ورغم هذا الرأي إلا أننا نجد سبول يستخدم الأسطورة ويوظفها ولكن بصورة أقل
مما نلحظه في اعتماده على رموزه الخاصة ومن ذلك الرموز المستقاة من
الطبيعية كما يتخذ من المرأة رمزاً إضافة إلى ميله إلى الرمز عن طريق
الألوان والرائحة كما يستخدم مفردات اللغة استخداماً رمزيا وسبول في
تركيزه على عوالم ذاته الباطنة وربطه التجربة الرمزية بالجانب الإنساني ،
يستخدم الصورة الرمزية ويعتمد تبادل معطيات الحواس في التعبير عن مشاعره
وأحاسيسه .
وسنحاول أن نعرض لأبرز الرموز التي ظهرت في شعر سبول في محاولة لتبيان
كيفية توظيفه للرمز ومدى قدرة رمزه على حمل الرؤيا الداخلية والتعبير عنها
.
الـرمـوز الـشـخصية …
الرمز الشخصي هو ذلك الرمز الذي يبتكره الشاعر ابتكاراً محضاً أو يقتلعه
من حائطه الأول أو منبته الأساس ليفرغه جزئيا أو كليا من شحنته الأولى أو
ميراثه الأصلي من الدلالة ثم يشحنه بشحنة شخصية أو مدلول ذاتي مستمد من
تجربته الخاصة(15).
ولقد سعى سبول إلى محاولة خلق رموز شخصية خاصة به جاعلاً منها محوراً
للتعبير عن انفعالات نفسه ورؤيته تجاه الواقع وظهرت هذه الرموز إما من
خلال كثرة دورانها في شعره أو حين يتم التركيز عليها في قصيدة معينة .
ومـن الرموز الشخصية التي يستخدمها سبول الرموز المنتزعة من الطبيعة ومن
أكثرها دوراناً ؛ رمز الشتاء والربيع والقمر والرياح والجدب والأمواج
والشاطئ والبحر والملاح والنسر والكهوف والليل .
• رمـز الـشـتاء …
في قصيدته شتاء لا يرحل نجد الشاعر يستعير جزئيات الرمز من الواقع لكنه لا
يبقيها على واقعيتها بل يقوم بتحطيم علاقاتها الطبيعية حتى تغدو فكرة
مجردة من أوشاب المادة ويصبح الرمز المحوري الشتاء ذو دلالة مختلفة …وفي
هذه القصيدة تتكرر كلمتي (تناهى / الشتاء ) وهاتان اللفظتان تعتبران
مدخلاً لفهم النص والنفاذ إلى الفكرة التي تسيطر على الشاعر ويمكننا أن
نلمس ذلك من خلال النظر في النص الذي يبدأ متثاقلا بطيئا مؤذنا بزوال
الشتاء …
على أفقنا تتمطى الغيوم
تجوب ببطيء تخوم السماء
وتوشك تهمس أن الشتاء تناهى
وودع أيامنا
وخلف في الأرض أحلامنا
وعودا بخصب ..ثمارا لحب
وعاه ضمير الثرى والمطر
تناهى الشتاء… تناهى الضجر ..(16)
ولفظة الشتاء في هذا السياق ليست إلا إيحاء بما يعتمل في نفس الشاعر من
ضيق وألم وشعور بالضياع ؛ فالشتاء رمز للأيام الخاوية الباردة ورمز لبيات
المشاعر والأحاسيس ولذا فان الشتاء تناهى ليفرح الشاعر بمجيء الخصب وزوال
الضجر …
تناهى الشتاء ..تناهى الضجر
قريبا يطل علينا القمر
ينقل فوق التلال خطاه
ويسكب من عمقنا في ضياه
تناهى الشتاء … تناهى الضجر (17).
أن فرحة الشاعر بزوال الشتاء الضجر القاسي هي نظير فرحته باستقبال النور
والضياء ؛ فالقمر رمز للخير والسعادة وهو نقيض الظلمة التي تجلب القسوة
والوحشة وهو يفرح بزوال الشتاء بقدر ما يخيفه مجيئه ولذلك يبدو التحول في
البنية اللفظية تحولاً فنياً بارعاً .
واعلم أنى احب الربيع
وأصبو إليه صبو اشتهاء
ولكن قلبي يعاني شتاء
يلوح بلا موسم منتظر (18).
والربيع دلالة على الخير والعطاء والإشراق والتجديد لكن الشتاء وما فيه من
ضجر وخمول لا يزال الوجه الذي يطارد الشاعر ويسيطر على نفسه ،وتبدو جزئيات
الرمز مفصحة عن هذا الشعور بالضيق ؛ فأمطار الشتاء دموع وللرياح صوت
كالخواء..
أحس الدموع به تنهمر
واسمع فيه خواء الرياح
شتاء ..شتاء
أرى للغيوم
وأنصت في خاطري للخواء
وأعرف أنى ما زلت ذاك القديم
وعمري شتاء (19).
ومثل هذا الرمز الذي يتكرر كثيراً على يد الشاعر يعد رمزاً نموذجياً
فالشتاء يعتري مظاهر الطبيعة ليحيلها معالم شاحبة ، ولكن الشتاء لم يكن
إلا قالباً رمزياً لأحاسيس الشاعر وهو شتاء عاطفي فيه الخوف والقلق
والشعور بالوحشة والضيق فصل لبيات المشاعر وجمودها وموعد للحزن والإحساس
بالضياع وليس مجرد فصل من فصول السنة .
وفي قصيدته "عودة الشيخ "يجرد سبول من الشتاء رجلا شيخا ثم يصف هذا الشيخ
رجلاً هائلاً اغلق الأفق وأخذ ينقر بعصاه الشارع وراح يخرج ألوانه وريشته
ليرسم أقواساً ولم يكن البرق إلا ضوء زناده والغيوم هي بعض ما يخرج من
غليونه وصار مجيء الشتاء حدثاً أسطوريا يتطلب الوقوف والتأمل من خلال ما
يثيره من إعجاب .
وتصويره الشتاء على هذا النحو يكشف عن موقف الشاعر منه إذ يوحي بالقدرية
التي ينبغي للمرء أن يخضع لها ولا يملك إزاءها إلا أن يصمت ويترك لغو
الكلام .
هو ذا شيخ الشتاء اغلق الأفق وجاء
هو ذا ينقل في الشارع نقرات عصاه
قادم يحمل في سر إهابه
أدوات من فنون السحرة
ريشة ترسم أقواسا على عرض السماء
وزنادا يشعل البرق
وغليونا لتصعيد الغمام
فقفوا .. ودعوا لغو الكلام
واهتفوا مرحبا شيخ الشتاء (20).
رمـز اللـيل….
ويحتل الليل مكانا رئيسيا في الرموز التي تستأثر باهتمام سبول فيتجلى بصور
مختلفة ليعبر عن الحزن المستمر والمقيم في نفسه؛ والليل مثير للشجون ومجدد
للمخاوف والظنون ومجيئه رهين ببعث الحزن واستحضار الذكريات المضيئة
الممضة، والليل نقيض للحب ورمز للجفاء وجفاف العواطف .
في قصيدته "المستحيل " يظهر الحب رغبة غامضة خطرت في ذهن الشاعر في إحدى
الليالي وينظر الشاعر لليل على أنه جالب للأفكار الغريبة الغامضة المتعلقة
بالحب وهذا مناقض لحقيقة الحب الذي هو عاطفة إنسانية نبيلة وتجربة قد
تتهيأ لمعظم الناس باختلاف مستوياتهم الثقافية. ولكن حب الشاعر كان تجربة
مؤلمة ألقته في مدّ المحال وصارت عنوانا لمأساته …
حينما أنسلت إليه خلسة إحدى الليالي
رغبة غامضة ألقته في مد المحال
أن يطول القمرا
وبكى مذ شعرا
أن سيبقى أبداً في أسر صدري
بعدها لون بالمأساة عمري(21).
والليل في قصيدته "من مغترب " رمز للوحدة والوحشة ففي النهار نقيض الليل
يهرب الشاعر من وحدته ويغدو الصباح طريقا للحلم باللقاء واستحضار الذكرى
والأمل المشرق باستعادة الحب ، وليس الخوف إلا من مجيء الليل بأحزانه
وآلامه …
صديقتي في المنتأى أغالب العياء
أنسج في الصباح من ذكراك أمنيه
أحلم بالمعاد إذ يضمنا لقاء
أروغ من توحدي سحابة النهار
لكنما يدركني المساء
أخاف يا صديقتي من أوبة المساء
غيومه تعبرني مثقلة نشيج
مواكب الأحزان فيه تملأ الدروب (22).
والليل رمز للضياع والقسوة والخديعة وجمود العواطف كما يظهر في قصيدته "ثلاث أغنيات للضياع"..
ظلام
عيناك ظلام .. عيناي ظلام
ما جدوى ..ما جدوى البسمه
والقلب تغلفه الظلمه
صدئين سيظهر قلبانا
عيناك ظلام(23).
وفي الليل يضيع الحب الصادق الصافي وتحل مكانه اللقاءات العابرة واللذة العجلى..
جمعتنا الصدفة ذات مساء
ثرثرنا الليل تواعدنا
والآن سئمت حكاياتي
كل منا سئم الآخر(24).
وفي الليل يضيع الصدق ويحل المكر والخداع والكذب وتتوارى المشاعر والحقيقة خلف قناع الزيف والظلمة …
الليل أغان تنتحب
أشواق تهدأ تضطرب
تتضور روحي فأنادي
لو أنت تمهلت الليله
كنا ثرثرنا وكذبنا
وزعمنا خيط العتم شعاع(25).
رمـز الـمرأة ..
لقد أكثر الشاعر من الارتكاز على رمز الليل رابطا بينه وبين مشاعر نفسه ،
لكنه ظهر بشكل خاص في التعبير عن مواجد الحب أو في الإشارة إلى العلاقة
بالمرأة على اختلاف صورها .
ولم تكن المرأة عنده امرأة بمفهومها المجرد كمخلوق حيّ بلحم ودم لكنها غدت رمزاً ذو دلالة غنية ومكثفة كذلك.
في قصيدة "غجرية" تفتتح القصيدة بالإشارة إلى الليل في التعبير عن القسوة واللؤم والغموض الماثل في تلك الغجرية رمز المرأة اللعوب ..
وحشة الليل على العينين تجثم
ونداء الغاب في البؤبؤ مبهم
غجريه
كعمود النار قدّ يتلوى
وشفاه مترعات عنجهيه(26).
إن موقفه من هذه المرأة يجسد موقفه من جملة النساء اللائي يعشن هذه الحياة
العابثة، وهي كذلك صورة من صور التردي الذي يعيشه المجتمع ، ويستخدم سبول
المفردات التي توحي بموقفه من هذه المرأة ؛وحشة الليل ، نداء مبهم ، عمود
النار ، عنجهيه .
ولكنه بالرغم من هذا الموقف مشدود نحوها يعلم أنها تهدم نفسه ولكنه لا
يحاول الخلاص منها بل يطلب إليها أن تسرقه من واقعه المضني وتنسيه الألم
ولو كان بألم آخر يتمثل بهدم قيمه ..
غجريه
قدم تضرب صدر الأرض تعلو
وتدق الأرض دقا
زوبعات من غبار ودوار
أمطريني أمطريني
من سديم الغيب زخات سخيه
ألصقيني بالتراب (27)
الشاعر يسعى نحو الحياة الفطرية البسيطة والبعيدة عن جفاف الدينة وجدبها
وتلك نظرة مثالية تهرب من دنيا الواقع التعس إلى عالم وهمي ، هي رحلة
رمزية إلى الحياة الفطرية الخالية من الآثام والمفاسد وهي فرار من برودة
الحزن إلى دفء العاطفة .
وتكمن المفارقة في أن الشاعر في هروبه إلى هذه الغجرية يقف أمام ما هرب
منه فتتجسد أمامه معاناته في واقعه ؛ وقد عبر عن ذلك بقوله .. قدم تضرب
صدر الأرض تعلو .. وتدق الأرض دقا.
إنها قدم الاستعباد والحرية المصادرة .. القدم التي هرب منها يجدها أمامه
في صورة هذه المرأة التي تدق بقدميها الأرض وهي تدق الأرض ولا تضربها
وكأنما تحفر فيها لتترك أثراً أو تقيم أساسا ولو قال تدق القلب دقا لما
اختلف المعنى وموقفه من هذه الغجرية يجليه قوله .. ألصقيني بالتراب ، ومع
أن لفظة التراب تحمل دلالات عديدة لكن سياق القصيدة يشير إلى أن فيها ما
يجلب العار ويلوث النفس وهي نظير للقول تمرغ في التراب أو تمرغ وجهه في
الوحل ..
لقد خرج الشاعر باحثا عما يبعده عن الحياة التي يعيش يبعده عما فيها من
ماس وتناقض ، فكانت النتيجة أنه عاد بخيبة أمل حينما وجد نفسه في صورة
تعكس واقعه..
أنا من خلف ليل المدنيه
ظامئا لم يسقني إلا السراب
غجريه
جثث تهوي تموت
مثلما ينتفض الطير الذبيح
مثلما تعصف بالأوراق ريح (28).
ويكشف الشاعر عن موقفه الذي دارت حوله القصيدة بقوله ..
غجريه
هارب يحملني مدّ الدروب
قدري الأسود مجهول رهيب
وتناهى بي مطافي
عند عينين هما مقبرتا كل الخوافي(29).
وفي هذه القصيدة يظهر الرمز في مفارقة واضحة فالغجرية المرأة التي لجا
إليها الشاعر اختارها رمزا للنقاء والطهر والبراءة وأصبح اللجوء إليها
نزوعا نحو البساطة والفطرة والنقاء …
أمطريني أنت ما زلت غنيه
لم يلطخ شفتيك الطين بنيا وأخضر
لم تخوني منحة الشمس فهذا الوجه أسمر
ما كسته حلل الوجه المزور(30)
ولكن التحول الذي نلمسه بعد ذلك هو تعبير عن شعور الشاعر تجاه المرأة
والذي يكشف كذلك عن تجربة حب مفعمة بالألم والمرارة ، ففي بحثه في المرأة
(المحبوبة) عن النقاء والطهر صورها إلها يمنح العفو ويعطي الخلاص ، ولكن
حلمه لا يدوم فهو سرعان ما يصطدم بالواقع الأليم الذي يحيله إلى الفراغ
والوحدة.
ونزوعه نحو الحب ثم تشبثه به هو آخر المحاولات التي يواجه بها الواقع
فيحاول التمسك بعلاقة يشكل الحب ظاهرها ولو كان ذلك إيهاماً للناس ..
رغم أن الحب مات
رغم أن الذكريات
لم تعد شيئا ثمينا
ما الذي نخسر إن نحن التقينا
ابتسمنا وانحنينا
ليس يدرى ما الذي نضمره في خافقين(31)
وعلى الرغم من هذه المحاولة إلا أنه يفشل مجددا في إقامة مثل هذه العلاقة
فيزداد شعوره العميق بالشك والمرارة ويتحول الحب الجارف الذي كان يحمله
إلى عداء لما يجسد الحب (المرأة) فيهجره ويهجر معه الحياة ، ثم ينكفئ على
ذاته متخليا عن آمال الحب وأحلامه ويعلن أنه لم يعد أهلاً للحب بعد أن
لاقى الأسى والألم مما جره عليه فؤاده ، ويستعين الشاعر بقيس بن الملوح
وليلى العامرية رمزا للتعبير عن الحب العذري النقي والصادق ..
لا وعمق السر في عينيك ما كان غراما
وانكفاءاتي ونزفي وأناشيدي اليتامى
لم تكن صرخة قيس خلف ليلى
ففؤادي لم يعد للحب أهلا(32)
ولكننا لا نفهم كيف لا يكون غراما وحبا ذلك الذي دفع الشاعر للانكفاءات
والنزف والبكاء والحزن والعذاب ، والحقيقة أن ذلك هو الثمن الذي دفعه في
بحثه عن الحب النقي ، ولذا فإننا نجد أن الحب عنده يتحول إلى فكرة رمزية
تمثل طريقا هي النهاية الحتمية لكل من يسلك دروبه .
حينما انسلت إليه خلسة إحدى الليالي
رغبة غامضة ألقته في مد المحال
أن يطول القمرا
وبكى مذ شعرا
أن سيبقى أبدا في أسر صدري
بعدها لون بالمأساة عمري (33)
لقد حملت المرأة في قصائد سبول رمزاً دالا على الشعور بالاغتراب وصورة المرأة جسدت ألم الاغتراب كما كشفت عن مظاهر البهرجة والزيف.
في قصيدته "عودة إلى الرفاق المتعبين" يستخدم سبول رمز الغجرية للتعبير عن
النقاء الأنثوي والبساطة ، وفي سبيل البحث عن الحب الصادق والنقاء الفطري
يلجأ إليها..
غجريه ..يا لهاث الرمل يا إنساني الضائع
في أصداء موال حزين
فأعيدي كل ما كان
ولا تقسي على جساس
من أجل خيانه
كلنا كان يخون(34).
ثم تتحول الرؤية من جديد وتنتهي إلى ما انتهت إليه المحاولات السابقة ..
غجريه ..
كذب من قال في عينيك أسرار خفيه
مثلما تسعى على الأرض الديادين الغبية
أنت تسعين
خواء ملء عينيك بلاهه
وغباء مطبق يقعي وسقم وتفاهه(35).
ويكون لجوء الشاعر إلى الحب هو طريق الخلاص والنجاة من الواقع الذي يعيش
فيه ، لكن الحب يخفق في تخفيف الحزن وإخراجه من الألم وتحقيق الخلاص.
وهذه الصورة الرمزية التي تظهر للمرآة في كل حين تغلب على ديوان الشاعر
لكنه يتناولها بإيحاءات رمزية متعددة وهي تصادفنا كلما توسع الرمز وأصبح
أكثر تركيبا وأوسع دلالة فهو يتمثل من خلال الرمز الأسطوري والرمز اللوني
والرمز المشموم.
ويستخدم سبول المرأة رمزا للتعبير عن الأرض فتصبح المرأة رمزاً للأرض التي
تتجسد أما رؤوما حانية على أبنائها حاضنة لهم ومهدهدة لآلامهم وأوجاعهم أو
حبيبة وعشيقة يخاطب الشاعر من خلالها أهله ووطنه وتاريخه ، وهي كل ما
يمثله الموطن من أهل ومعشر وحنينه إليها حنين إلى بلده ..
صديقتي
تحية من متعب حزين
تحية ترعش بالحنين
للمسة لكلمتي عزاء
صديقتي.. في المنتأى أغالب العياء
أنسج في الصباح من ذكراك أمنيه
أحلم بالمعاد إذ يضمنا لقاء(36)
في قصيدته "شهوة التراب" يتناول الشاعر المرأة تناولا رمزيا وتتجسد الفكرة
فيها من خلال الحديث عن خلق المرأة من ضلع الرجل وهي دلالة تشير إلى
اللحمة القوية بين الرجل والمرأة …
هنا معي
يا ضلعي المقدود بين أضلعي
مفقودتي
هنا معي هنا معي(37)
وهذا المقطع وهو يعتمد على التكرار في التأكيد على الرابطة اللحمية التي
تجمع الذكر بالأنثى فإنما تشي كذلك بإحساس الخوف الذي سيطر على الشاعر من
فقد حبيبته..
يظهر ذلك من خلال المفردات … مفقودتي .. ضلعي المقدود. وتظل بنية القصيدة
في ارتفاع وتصعيد لتصل في النهاية إلى التوازن الذي هو انعكاس للتوازن
النفسي الذي أحس به الشاعر ..
يدفق حبا قلبها
أغنية لا تنتهي ، لا تنتهي
هنا معي
يا ضلعي الأحب بين أضلعي(38).
رمز الفكرة .. والتجربة الرمزية..
أما ما نجده في الديوان من ميل إلى تمثيل القصائد تمثيلا رمزيا فإنه يظهر
عن طريق تكوين الصورة الشعرية على أساس من تراسل معطيات الحواس مما يضفي
على الصورة مسحة من التجريد تحول فيه المحسوس إلى فكرة ، كما يستخدم
التعابير التي تقوم على تشبيه اللامحسوس بالمحسوس واستعارة المادي للمعنوي
، كما يميل سبول إلى استخدام الحوار والقصص الرمزي متخذا من الأشخاص
والموضوعات والحركة الحوارية والقصصية رموزا لأفكاره ومشاعره..
ونجد في قصيدته "لحظات من خشب" والتي يظهر من عنوانها هذا التجسيد للزمن مما جعلها تكتسب دلالة الجمود وانعدام المشاعر .
وفي قصيدة "قطعة قلب للبراءة " نجد معينا للصور الذهنية والرمزية التي
يوظفها سبول في سبيل التعبير عن الأبعاد النفسية لتجربته العاطفية …
تخنقني أصابع الندم
تجتثني تحيلني شريحة من الألم
لأنني بريء(39)
والصورة السابقة تكشف عن الحالة النفسية وهي صورة تبرزها المشاعر
والانفعالات التي توحي بالفكرة فهي صورة تعبر وبتلقائية عن الإحساس بالألم
والحزن والوحدة والسكون والضعف.
ويرسم سبول صورة كلية ورمزية للتعبير عن إحساسه بالحزن وتقوم على التشخيص..
صديقتي .. كل العيون ها هنا حزينه
فالحزن قد غزا المدينه
جنوده الأقزام قد تسلقوا البيوت
تشي الوجود ها هنا بأننا نموت(40)
والصورة هنا ومن خلال تعبيرها عن فكرة الحزن بالإيحاء والرمز فإنها تضيء
في الفكر معان ومشاعر ، هذه المعاني والإيحاءات تظهر حين يبدو الحزن في
صورة الجيش الغازي وله جنود من الأقزام الذين يتسلقون البيوت وهذه الصورة
الغريبة للحزن والتي تصوره جيشا تكوينه غريب وأفعاله غريبة هي صورة معبرة
عن إحساس مماثل بغرابة الحزن الذي سيطر على الشاعر بل على الناس جميعا.
أما في قصيدة "مرثية الشيخ" فإننا نجد صورة رمزية تعبر عن مسيرة والده أو
مسيرته هو في هذه الحياة بل هي تشير إلى الموقف الشعري والتجربة التي
عاشها وعانى مرارتها ، فيشبه تجربته بكل ما قاسى فيها من بؤس ومرارة
بسفينة واجهت غضب الأمواج والحيتان متحدية رافضة حتى ملّت في النهاية كل
شيء وفقدت الإحساس بطعم البحر ونكهته فاستسلمت أخيرا بعد أن فشلت فمالت
لتنام ..
إن هذا الهيكل الملآن أصداء
سنينا ومرارة
ذا الجبين الناتئ المشرع للأنواء
يومي بجساره
فلنقل: كان سفينه
مثلت أضلاعها للريح في عرض البحار
وتحدت مغضب الأمواج والحيتان
عاما بعد عام
وتناهت نكهة البحر وسر البحر فيها
فلنقل : داخت أخيراً
وتداعى برجها الآن ..فمالت لتنام(41)
يتناول الشاعر الفكرة من خلال صورة رمزية كلية تمتد أحيانا لتطغى على مجمل
القصيدة ، وفي هذه الفكرة الرمزية تظهر رموز جزئية عديدة تتضافر للتعبير
عن الصورة الكلية للرمز ، فما دلالة الريح أو الأمواج والحيتان والبحر ،
وما علاقة عنوان القصيدة "مرثية الشيخ" بالسفينة ، ولنحاول أن ننظر في
المقطع الأول والذي يسبق المقطع الذي أشرنا إليه ولنحاول إيجاد رابط
بينهما ..
كان صوتا شاحبا أعلن
أن الله أكبر
فحملنا الجسد الهش وسرنا
ثم فوق الأفق الغربي لاح .. القرص أصفر
سورة الإغماء شدت وجهه العاني عميقا
وبدا دغل من الزيتون أغبر
فوقفنا
للأصيل المجهد العريان ننظر(42)
الصوت الشاحب إشارة الانكسار والحزن والفجيعة والسبب موت الشيخ ، الشيخ
الذي يرمز للإرث القديم والمجد الغابر ،أصبح جسدا هزيلا مسجى في رقدة
الموت ، فتغيرت لموته مظاهر الحياة ؛قرص الشمس أصفر ؛والصفرة دلالة الخوف
والمرض والإيذان بالزوال والغروب ،وشجر الزيتون تغير لونه واغبر والأصيل
كذلك مجهد وعريان.
هذا التغير في مظاهر الكون يعني أن الشيخ لم يكن شخصا عاديا وحياته لم تكن
حياة عادية ، ولذا فالشاعر في تقريبه لصورة الشيخ ، يقول ..فلنقل كلن
سفينه ..ولكن هل تستطيع السفينة التدليل على قيمته ومكانته الحقيقية ،
صحيح أن السفينة تحدت المصاعب وقطعت الآفاق لكنها لا تكاد تبلغ التعبير عن
صفته فيقول.. فلنقل : سيف جليل نائم ، والسيف كالسفينة جاب أمداء وخلى
أثرا ولم يكن سيفا جبانا ، ولكن نهايته كانت كنهاية السفينة..
أغمدوه
الآن يستلقي مسجى في الغماد
في جدار المنزل الأرحب صدرا
علقوه
وليكن عالي النجاد
حق بعد اليوم ألا يشهرا(43)
لقد كان الشيخ سيفا جليلا لكنه الآن موضوع في غمده ومعلق في جدار لمنزل
رحب وكتب عليه ألا يرتفع بعد اليوم ، السيف رمز الكرامة العربية أو
التاريخ العربي الذي كان مليئا بالإصرار والتحدي والانتصارات والمفاخر،
نجده اليوم معلقا في جدار المنزل مجردا من الفعل.
وبازاء رموز الخير السيف والسفينة والشيخ والهيكل والقرصان المغامر وقرص
الشمس والزيتون تقف رموز الشر الممثلة بالأمواج والحيتان والريح والمعول
الذي ينهش الأحشاء والمعول هو آخر القوى الشريرة التي واجهتها القوة
العربية فماذا كانت النتيجة ..
وحين رنّ معول
ينهش أحشاء الصفاه
أصخت
من يصرخ (وافجعتاه)
سمعت ريحا
في الذرى تولول(44)
والشاعر في الحديث عن السفينة (الهيكل اليابس) والسيف يشير إلى الحال التي
أصبحا عليها فماذا كانا قبل ذلك أو كيف كانت الأمجاد العربية قبل هذا
الوقت..
ربما قبل عصور
كان هذا الهيكل اليابس يوما
سنديانه
شمخت تستشرف الوديان
مدّت جنبات
عششت فيها نسور من عل(45)
هكذا بدا المجد العربي بشموخه واستشرافه كسنديانة تعيش فيها النسور رمزاً
للقوة والعلو،تحملت وتعالت فوق الجراحات ، وقاومت بيأس وصلابة كل ما
جابهها من عدوان..
راقبت الذئبان تقتات بحملان
فهزت عطف غصن مطمئنه
ألف فأس جرّحتها ..قطّعت أوصالها
سالت نسوغا.. دون أنه
مدّت القشرة من فوق جراح الكبرياء(46)
لكنها ضعفت وتهاوت ثم صارت إلى الحال التي وصلت إليه السفينة ..
هي ذا الآن تهاوت
بعد أن برحها طول اعتوار
من شموس وصقيع
كتلة جرداء ملأى .. بغضون العمر
توقيع زمان(47)
وتكشف القصيدة عن جزء من الرمز من خلال قول الشاعر ..
لا تقولوا (لم تكن)
كانت
وهذا الهيكل اليابس
من نفس الأرومه بورك الشيخ سليل السنديان
ذلك الشيخ الذي يغفو
مليئا بالزمان(48)
الهيكل اليابس هو الشيخ والهيكل من نفس أرومة السنديانة والشيخ سليل
السنديانة والسنديانة كانت تعيش في عزة وقوة رمزا للشموخ العربي والشيخ
الذي هو من سلالتها رمز للإنسان العربي الضاربة جذوره في أعماق التاريخ ،
فهل رثاء الشيخ يعني موتا للإنسان العربي وموتا لكرامته وانتهاء مجده
.والشاعر لا يعلن ذلك فهو عاد ليقول إن الشيخ يغفو مليئا بالزمان وإغفاءة
الشيخ تعني أن هنالك وقتا للاستيقاظ ، وإذن فكيف يتم استيقاظه وما سبب
الغفوة التي هي أشبه بالموت ثم إلى أين يمضي إن هو أغفى ..
أي سر سحيق
أنت والكبرياء
آن أن ترحلا
فالمسا ينتظر .. والشجر
مدّ أيديه عاشقاً
سائلا أن تعود
لنسوغ الجدود(49)
إنها العودة إلى دماء الجدود وجذورهم ، فالشيخ في رحلة العودة إلى نسغ
الجدود إنما يتسلح بالمجد الغابر والكرامة العربية فهما السبيل للعودة
للحياة.
ومن الأشكال التي يوظف سبول الرمز فيها هي توظيفه عن طريق البناء الدرامي
واستخدام الحوار معبرا عن الفكرة بأسلوب رمزي يعتمد تجسيم الموقف واستخدام
الحركة ورصد المتناقضات ..
ويعرض سبول مشهدا حيا يمثل التجربة الذاتية وبأسلوب رمزي ..يقول
أنا والمذياع والليلة عيد
والمغني يمضغ الفرحة في مط بليد
ولفافاتي استقرت
جثثا بين الرماد ..
كنت أشتاق لو أني
لي بهذا العيد أفراح صغير
لو أني لي به فجعان مأتم(50)
إن هذه المقطوعة التي تستخدم الحوار الداخلي وسيلة من وسائل التعبير
الدرامي تنقل لنا قطعة واقعية من الحياة فيها تصوير للصراع والتأزم الذين
يمر بهما الشاعر عارضة الموقف من خلال التناقض وتجسيد المحسوس وتشخيص
الجمادات كذلك.
والموقف الذي يريد الشاعر التعبير عنه أنه يعيش وحيدا دون أن يجد مؤنسا
يشاركه أفراحه أو أحزانه ، ولكن الشاعر لا يعبر لنا عن هذا الموقف تعبيراً
مباشرا بل يلجأ إلى تلوين الموقف وإعطائه هذه القيمة الدرامية ليخلق
التوتر في نفس القارئ الذي يبقى مشاركا الشاعر في حواره الداخلي .
ونلمح صورا عديدة من صور التوتر الناجم عن الشعور بالتناقض ، ونشعر بحرارة
الجو الدرامي من خلال تحديد الشاعر للإطار الزمني "الليلة عيد" ، فليلة
العيد مناسبة سارة لكن الشاعر الذي يبدأ بقوله "أنا والمذياع" يوحي لنا
بسيطرة الوحدة والعزلة عليه في مناسبة العيد التي تجمع الأصدقاء والأحبة ،
ولتثير الوحدة مشاعر الحزن والضيق بدلا من الفرحة ، فيعبر الشاعر عن مدى
حزنه العميق حين يتصور أن الحزن قد انتقل إلى كل ما يجاوره ، فيبدو المغني
حزينا "يمضغ الفرحة في مط بليد"، فالمغني يبدو عنده غير صادق وإن كانت
كلماته توحي بالفرحة بمقدم العيد ، وبذلك فإن غناء المغني أصبح صورة من
صور التناقض بين الكلمة والحقيقة .
وتمتد الوحدة والموت إلى كل شيء حتى يرى الشاعر لفافات التبغ جثثا بين
الرماد ، وهذه الصورة إنما هي تجسيد للتلاحم القائم بين الفكر والشعور .
ويستثير هذا الموقف موقفا آخر "كنت أشتاق لو أني ، لي بهذا العيد أفراح
صغير.. لي به فجعان مأتم " واستخدام الشاعر الفعل الماضي الناقص "كنت" ثم
لحرف التمني "لو" يدل على إحساسه باستحالة تحقق أمله ، فهذا العيد قد أقبل
والشاعر وحيد لا يجد الخلاص ولن يجده ،وهذا هو سر الحزن في نفسه ؛ إنه
الحزن الناجم عن المعرفة ..
كنت أعلم
أن عيدا بعد عيد بعد عيد
سوف تأتي
ثم تمضي
وأنا أحرق تبغا
ونفايا ذكريات(51)
ومن الأساليب الدرامية التي لجأ إليها الشعراء أسلوب البناء القصصي أو
استحضار بناء القصة المألوفة ، إذ وظفوا عناصر هذا البناء وأدواته
التعبيرية على شكل نمط درامي بهدف التعبير عن الموقف تجاه الحياة والواقع.
ومن القصائد التي تطالعنا كمثال على البناء القصصي الدرامي قصيدة "ما لم يقل عن شهرزاد" لتيسير سبول ، وفيها يقول ..
شهرزاد
لم أسرت بي حكاياك إلى أمس دفين
عبر سرداب من الأوهام يفضي ليقين ..
فإذا بي مثقل أحمل في جنبي سرا
ليس يدرى
عن خفيات لياليك الطويلة(52)
هكذا تبدأ القصيدة عبر صوت داخلي في أعماق الشاعر الذي يستحضر شخصية
شهرزاد من قصص الأدب العربي القديم ، وتظهر أول ملامح للصراع في داخله من
خلال السؤال الذي يطرحه "لم أسرت بي حكاياك إلى أمس دفين" ، ثم يتعمق
الصراع من خلال التناقض " سرداب من الأوهام يفضي ليقين" ، فهو يرى في
أحداث هذه القصة الخيالية جزءا من واقعه (اليقين) ونلحظ أثر ذلك عل نفسه
حين نراه مثقلا بالهم، هم المعرفة واكتشاف السر ، فشهرزاد المرأة التي
طالما جلبت الفرحة والمسرة لنا بحكاياتها الجميلة وقصص الجن ، والتي طالما
أحببناها ..
وسهرنا ليلة في إثر أخرى
لهفة تسأل عما
كان من أمر أخيرا..
وعفا من بعد ألف شهريار
ففرحنا
في بلادي حيث عين الطفل والشيخ سواء
دعوة تحيا على وعد انتصار(53)
إن هذه المرأة ليست كما كنا نظن ، إنها ليست تلك المرأة القوية التي تصدت
للظلم والجبروت المتمثل بشهريار بل هي امرأة أفنت عمرها في خدمته آملة أن
تتحرر من قيده ، فيما كانت عيون الأطفال والشيوخ "دعوة تحيا على وعد
انتصار"
إن صورة هذه المرأة الخائفة أوحت للشاعر بصورة مماثلة هي صورة الأمة
الخائفة لقد رأى في قصة شهرزاد ما يتشابه مع الراهن مع حال الأمة العربية
التي عاشت لياليها الطوال في خوف دائم ..
ألف ليله كل ليله
حلمك الأوحد أن تبقي لليله
فإذا ما الديك صاح
معلنا للكون ميلاد صباح
نمت والموت سويا في فراش(54)
ولذا فإن دعوات النصر والأمل بالخلاص ليست إلا محض أوهام…
شهرزادي
خدعة ظللت الآذان عمرا
ورست في خاطر التاريخ دهرا(54)
وهذه هي بؤرة الصراع ومحور التأزم الذي يعيشه ،إنه ينطلق من إحساسه بتناقض
المشاعر واختلاطها ، ثم لإدراكه الحقيقة ، لذا فإنه في استحضاره لهذه
القصة إنما يريد منها أن تكون خلفية تعبر عن مشاعره وأحاسيسه تجاه واقعه ،
متسائلا في نهاية القصيدة هل سنبقى ننتظر وهل سنكون كشهرزاد التي أفنت
عمرها دون انتصار..
وسنبقى كلما دل على الأفق شتاء
نتسلى بحكاياك الشجيه
ونغني لانتصار
لم يكن يوما ولا يرجى انتصار
تحت عيني شهريار(55)
وهكذا نجد سبول يعمد إلى استحضار هذه القصة ضمن قالب رمزي لتعبر عن الواقع الحاضر ، فالشاعر يرى في الماضي صورة مماثلة للواقع(56)
ويميل سبول إلى استخدام القصة الرمزية في إطار النمط الدرامي كما في
قصيدته" أحزان صحراوية" حيث تبدأ القصيدة في جو من الأجواء الأسطورية التي
نعيش معها مرحلة البدء ، ويقص علينا الشاعر هذه الأحداث لبطلها الذي لا
يطالعنا باسمه ، مفسحا المجال للتأويل والتشويق معا..
من زمان…..
من تجاويف كهوف الأزليه
كان ينساب على مدّ الصحارى العربيه
لينا كالحلم سحريا شجيا
كليالي شهرزاد
يتخطى قمم الكثبان ، يجتاز الوهاد..
من زمان…
شربت حسرة ذاك الصوت حبات رمال
مزجته في حناياها ، أعادته إليا..(57)
ويتجلى الجو القصصي في هذه القصيدة من خلال استخدام الشاعر للأفعال التي
تفيد السردية والحركة معا ، ولعل بدء القصيدة بقوله "من زمان" قد أوحى لنا
بهذا الجو الدرامي ، والشاعر الذي لم يتأكد إذا كان قد بعد بنا بالفعل إلى
الزمن الذي يريده يقوم بتحديده مكانيا .."من تجاويف كهوف الأزلية "، هناك
كان ثمة شيء ينساب على مدّ الصحارى والانسياب يحمل معنى للخفة والخفية كما
يوحي بالتوحد ، ثم نتابع الأفعال التي تفيد السرد والحركة ( يتخطى ، يجتاز
الوهاد، شربت، مزجته، أعادته)… ثم لنعرف أن هذا الشيء هو صوت يسمعه يتردد
دون أن يعرف مصدره،فيبقى سائراً خلف هذا الصوت يترصد مصدره حتى يظفر به
أخيراً…
فكأني قد تنفست شجونه
وكأن الصوت في طيات صدري
رجع اليوم حنينه
فأراه
بدوياً خطت الصحراء لا جدوى خطاه
موحشا يرقب آثار الطلول
من زمان(57)
إن هذا الصوت المنبعث من ذات الشاعر إنما هو تعبير عن حقيقة المشاعر التي
تعمر نفسه تجاه الإنسان العربي الذي عاش على هذه الصحراء منذ الأزل.
لكن الشاعر لا يبسط لنا مشاعره لنتلقفها جاهزة بل يترك الرمز وتداعيات
القص يعبران عن موقفه النفسي، ويمكننا أن نعود إلى بداية القصيدة لنصور
الموقف على هذا النحو، فنقول .. إن الشاعر قد أحس بصوت يتردد حوله يسمعه
فيشعر بقدمه، صوت منبعث من تجاويف الكهوف، قطع الأمداء وسار عبر الصحارى
متخطياً الكثبان والوهاد، هكذا يبدو الصوت عميقا أزليا لكن الشاعر لا
يكتفي بذلك فهو يضيف إلينا رموزا تصور المأساة التي يجسدها الصوت "شريت
حسرة ذاك الصوت.. حبات رمال…" ، فهو صوت حزين تجرع صاحبه الحسرة والألم ،
وهنا يربط الشاعر بين الصوت وما يتداخله من حسرة وبين حاله هو ".. مزجته
في حناياها.. أعادته إليا".
وينبعث الصوت مجددا ولكنه يكون متوحداً مع الشاعر ، فيخرج من طيّات صدره ليرى عندئذ صاحبه.. " بدويا خطت الصحراء لا جدوى خطاه" .
لقد حاول سبول في هذه الأسطر الشعرية أن يقيم علاقة لحمية بين الماضي
والحاضر؛ تجربة الماضي ممثلة بالأمجاد العربية تشاركه حاضره ونفسه فيحاول
الوصول إلى اكتشاف ذاته ومعرفة هويته.
وهذه القصيدة يمكنها أن تقول على المستوى الفكري شيئا كثيرا ، حين تأخذ
دلالة الرمز معاني مختلفة وزاخرة ما كانت لتتهيأ لو لم يستخدم الشاعر هذا
البناء الدرامي ويفعّل عناصره من حركة وصراع وسرد.
ومن أبرز القصائد التي قالها عقب النكسة قصيدة "مرثية القافلة الأولى" وهي
قصيدة يتضح فيها عمق الأثر الذي خلفته المأساة في النفس العربية حين حمل
إنسانها جرح الإحساس بالهزيمة ، إحساس المصدوم بمرارة واقعه ، والمخذول
المخدوع بما كان يؤمل من نصر … فحين طلع الصباح اتضحت معالم المعركة ، ولم
يكن ثمة نصر بل عيون طيبة مطبقة ونساء فقدت الدفء بموت أزواجها…
طلع الصباح على العيون الطيبه
ومع الظهيرة أطبقت
عشرون ألفا مطفأه
عشرون ألف يد ممددة ولا
دفء يوسد امرأه
دع عنك قولك في الغداة النصر آت
لا(58)
وفي خضم الإحساس بهول الكارثة ، يفقد الشاعر الإيمان بجدوى أي خطوة ؛ فلا
يفيد البكاء ولا استحضار الأمجاد أو الاستعانة بالعرب؛ فحين لاحت سحب
الهزيمة وذبح الرجال دون جولة ، ونقر العقاب العيون، عندها غاب النور وساد
الظلام وصارت أصوات النصر مجرد هذيان….
أدري بأني لو بكيت مصير شعبي
لو أعارتني ثكالى النوق حنجرة .. سدى
أزجي لسيناء العجوز نحيب شعبي ..لا صدى
عشرون ألف مقلة نقر العقاب
لا تهذ بالنصر الملفق
إنني أنبيك.. خذ ..
النور غاب
والليل أطبق
فليكن ليل وكان(59)
إن الشاعر يعبر لنا عن تلك الخيبة التي عاشها وجيله ، وهم سادرون في انتظار قرع طبول النصر.
لقد أحس الشاعر بألم النكبة وعانى مرارة الهزيمة ، فكان صدى صوته نشيجا
داميا مرا وسوطا يجلد به ذاته قبل أن يجلد الآخرين ، وفي غمرة هذا الإحساس
بالألم كان في بحث دائب عن أي تفسير صادق لما حدث ، وعندئذ تهدأ لغته
الانفعالية ، ويحاول تلمس الأسباب بعيداً عن الهذيان ؛ فيأتي التفسير بعد
قوله "لا تهذ بالنصر الملفق .. إنني أنبيك" وقوله "دع عنك ما يهذي الجهول
وما يلفقه المخاتل" .
وتكون هذه الوقفات بداية التحول ؛ ليعود الأمل بحتمية النصر العربي ، وهذه
المرة على يد جيل آخر يستمد القوة من كل الذين ضحوا بأنفسهم ومضوا…
باسم الذين تجندلوا
في أرض سيناء العجوز
زند سيبرق
كف جيل سوف تلتقف العنان(60)
ويعود في نهاية قصيدته إلى التأكيد على أن الحرب مع الأعداء لم تنته ، وأن
أولئك الذين قضوا في سبيل بلادهم قد حملوا شرف الريادة ، لتكون دماؤهم
شعلة النور التي يستضيء بها الذين يواصلون الدرب فيستفيدون من الهزيمة
ويجعلونها سبيلا لمستقبل أكثر فخارا..
هذي بعد آخر قافله
فلتحفظي شرف الريادة
في ضمير الرمل سرا
حتى إذا شقت سجوف الليل فجرا
تدرين أن دماءنا
زيت يضيء على مناره
ويقال أن هزيمة، خطّت إلى الآتي فخاره(61)
وهذه النهاية إنما تأتي في انسجام تام مع ذلك التصور الذي كان يحمله سبول
عن حتمية انتصار العرب على الصهيونية العالمية المعاصرة والذي عبر عنه
بقوله في أحد كتبه المخطوطة بقوله " الصهيونية العالمية نهاية قصة ستعيش
عقودا ثم تنهار أمام العملاق العربي الذي بدأ يستيقظ من غفوته مع نهاية
القرن التاسع عشر "(62) .