الشخصية في رواية
"صوت الكهف" لعبد الملك مرتاض
إن
رواية "صوت الكهف" رواية جزائرية استطاعت بحق أن تجعل الكثير من النقاد
يلتفتون إليها، لأنها وفقت في توظيف تقنيات الرواية الجديدة، سنقف عند
جمالية الشخصية في هذه الرواية، وربما سمحت لنا فرصة أخرى بالوقوف عند
مكونات البنية السردية الأخرى فيها.
لعل
من نافلة القول أن نشير إلى أن الرواية الجديدة تعتمد على تدمير تلك
الشخصية الروائية التقليدية، وتطرح بديلاً لها. فنتالي ساروت، وهي من مؤسسي
الرواية الجديدة، تؤكد في كتابها "عصر الشك" أن الشخصية فقدت شيئاً فشيئاً
كل ما يعنيها كتشكيل أجدادها، وبيتها المبني بعناية والمتنوع بالأشياء
المختلفة، من قبو البيت مروراً بأدوات الزينة إلى كل ما يملكه هذا البيت..
فقدت ذلك الشيء الثمين الذي تتميز به وهو اسمها. فالشخوص كالتكوينات
التشكيلية تناهت..
لقد
كانت الشخصية في هذه الرواية عنصراً مهماً من عناصر البنية السردية، فقد
تم الإعلان عن انتهاء تلك الفرضيات حيث الشخصية نمطية، وطرح بديل لها حيث
تلاعب المؤلف بالضمائر لطمس معالم الشخصية وبذلك يضمن للقارئ المشاركة في
إبداع النص وبنائه. يقول في (ص11) وأنت تتبخترين عبر الزمان السحيق.
بألف
اسم وألف وجه بألف حركة وألف تاريخ. وأنت حاضرة في كل ربوة. وأنت جاثمة في
كل هضبة. وأنتم عنها تبحثون. وأصواتكم تتعالى تهز سقف السماء الرحاب. تمزق
آفاق الأرض. تملأ الفضاء ضجيجاً وعجيجاً. كلكم يتساءل: أين حدهم؟ فقط أين
الصوت الذي يدلنا عليها؟ فقط أين الطريق الذي نسلكه إليها؟ حدهم.. فهل ضاعت
منا إلى الأبد؟ فهل اغتصبوها؟ يا ويلتنا كلهم يريد أن يعرفك وهو أنت.
وكلهم يريد أن يسمع صوتك وهو مسمعك. وأنت هم فهل تدرين ويدرون؟
ونحن
عندما نفصل هذا العمل. نجد الأهالي وهم سكان الربوة، وفئة المستعمرين
والقائد، ولدينا فئة ثالثة، وهي فئة العمال، وهي وسط بين الأولى والثانية
بين الأهالي والمستعمرين. وفي مقام آخر لدينا الطاهر وبيبكو وزينب فكيف
استطاع هذا الروائي تقديم الطاهر وبيبكو وزينب والفئات الثلاث، شخصية
متناهية، شخصية لا اسم ولا أجداد ولا شيء؟
إن
هذه الشخصية هي شخصية من ورق، ولم تأت لتقدم حلولاً، بل جاءت لتطرح قضية.
لقد قدمها المؤلف في صيغة ثنائية: زينب والطاهر /جاكلين وبيبيكو، وهي
شخصيات ليس لها معالم محددة، فلا ماضي لها، ولا مستقبل لها إلا في إطار
البنية السردية، ولا إمكانات مادية، أو بمعنى آخر. ولا وجود للمزاج الذي
يملي عليها أفعالها. فزينب قد تماثل أو تطابق شخصيات أخرى تختلف عنها في
الاسم فقط، فزينب هي تارة زوليخة، وتارة هي الطاهر، ورابح الجن قد يصبح
ابنه. وصالح الذيب هو صورة أخرى لبيبيكو. فهذه الشخصيات لا تملك خصائص
اجتماعية فكرية وثقافية، وحتى إن وجدت عندها، فهي مشكوك فيها، بل مشكوك حتى
في الشخصيات نفسها. فزينب، هذه أتعبت الغدير. هذه مجنونة؟ أتعبتني بحركتها
النشيطة؟ أهي سمكة بشرية؟ ماذا أقول لها؟ لا أقوى على دفعها. لا أقدر على
ابتلاعها لنفسي، لو أستطيع الاستئثار بها" (ص18) هي أنثى دون أن تكون أنثى،
ولعل المرأة هنا لا تمثل إلا وجهاً آخر لزينب، وهي طوراً الأرض، يقول في
(ص56-57) لم يكن لديه إلا الأرض الذهب. أعز ما يملك. أغلى ما تملكون. أرض
زينب. زينب الأرض، أرضها الخصبة، الجملة، أعز ما تملكون. هل لكم رأي غير
هذا؟ أبداً، لا. وهي طورا آخر شيء "خرافي لو شاهدتك حلومة، وأنت تحلقين من
فوق الربوة العالية، أو علم الجزائر ملأة واحدة فضفاضة خضراء بيضاء حمراء
وهي ما كان ليس إلا أنت مجرد زينب. مجرد مكان تكالبوا عليه. أنت كائن ارتدى
لباس البشر (ص؟) فشخصية زينب وإن بدت في البداية بمعالم تكاد تكون واضحة،
تفقد في كل وضع كل ملمح محدد ومؤطر لشخصيتها، إنها ذلك الشيء الذي لا يقبض
عليه، إنها تتجدد باستمرار. وهذا ما يربك القاريء ويجعل خيوط الرواية تنفلت
من بين أصابعه. ذلك أن هذه الشخصية غير محدودة بمعالم وبفكر وبمزاج وعواطف
ولها تاريخ وميلاد ومكان وتواجد.
وفي
موقع آخر من الرواية يقول السارد: "يا أصحاب الربوة. زينب خرافة العقد
خرافة. أنت بالذات خرافة. خرافة في خرافة. هل تفهم؟ هذه هي الحقيقة" (ص77)
فزينب ليست ههنا شخصية إنها وظيفة داخل السرد. وقد سبقنا إلى تحديد مفهوم
الشخصية عند الروائي من خلال دراسة لنا حول رواية الخنازير، إلى أن الشخصية
عنده هي مفهوم، وكل من تقمص ذلك المفهوم فإنه تلك الشخصية. وكذلك الأمر
ههنا، فشخصية زينب هي مفهوم يقوم بوظيفة سردية يستثمرها السارد في تشكيل
البناء الفني للعمل. وقد تصبح زينب هذه شخصية أسطورية لا وجود لها فهو بعد
أن ذكرها وأعطاها مميزات كاد القارئ أن يصل إلى تحديد معالمها، يمحو كل هذا
وينقلب على القارئ، إنها خرافة. وهذا ما يؤكد على أن الشخصيات في الرواية
الجديدة هي كائنات ورقية يشكلها المبدع كيف ما شاء، وإذا كان الأمر كذلك
فهل تنفلت الشخصية من سلطة المبدع؟ وإلا فإنها قد تصبح لسان حال داخل النص
الروائي، ويصبح الكلام والحديث الذي يدور داخل النص السردي ليس حديث
الشخصية، وإنما حديث الروائي. إن للشخصية دوراً واحداً، وهو دور السرد،
فالوظيفة السردية هي التي تتحكم في كل شيء، وهي التي تجعل الشخصية في مكان
معين، ولعل هذا الارتباط هو الذي يسهم في بناء الحدث بالمفهوم الجديد. يقول
في
(ص21) إنما ماذا تفعل؟ أنت تخادع نفسك. من أنت؟ هل أنت إلا مجرد
راع؟ ترعى مواشي أمك.. أبوك؟ ماذا تعرف عنه؟ تسمع الآخرين فقط يتحدثون عنه
كالماضي الميت. كالزمن الضائع من قبضة التاريخ، أبوك.." فهل أن هذا النص
يؤكد على مبدأ أن الشخصية هي من كارتون أو من ورق يكيفها الروائي كما يشاء؟
أو أن هناك نوع من الانفلات والتحرر من قبضة الروائي؟ كلنا يعرف أن
الرواية الجديدة تدعو القارئ إلى المشاركة في إبداع النص، فهي نص مفتوح على
تعدد القراءة. والمبدع يعمل على مشاركة القارئ في العملية الإبداعية، فهو
شريك لا يستغنى عنه. ومن هنا فإن توظيف الشخصية يخضع لخصائص سردية حيث يخدم
السرد الذي تسير عليه الرواية، وقد صرح الروائي قائلاً" أنت شخصية من ورق،
بمعنى أنها قابلة لإعادة التشكيل والترتيب، في حين أن شخصية الرواية
التقليدية تأخذ معالم مكتملة وخصائص ومميزات وفكر واجتماع ومن ثم يصعب
إعادة تشكيلها مرة ثانية. ومن هنا نقول إن الشخصية في هذا النص السردي هي
فرضت أن تأتي على هذه الصورة، إن المقام لا يسمح بالوقف عند كل الشخصيات،
ولهذا سعينا إلى أن نقدم صورة عنها.
لقد
ارتبط وجود الشخصية ههنا بزمن الثورة الجزائرية، فهل كان الروائي يقصد من
وراء طمس معالم الشخصية التأكيد على أن هذه الثورة هي ثورة أمة ثورة شعب
وليست ثورة فرد أو شخص؟ قد يكون هذا سبباً من الأسباب التي جعلت هذا المبدع
يختار هذا النوع من التقنية في كتابة هذا النص الذي انتهى من كتابته عام
1982، وطبع سنة 1986 بدار الحداثة بيروت، ويقع في 215 صفحة من حجم 12/18.
3- جراحات الماضي.. تجربة في الكتابة
(قراءة في رواية "ذاك الحنين" للحبيب السائح )
من
أين نبدأ؟ وما هي مفاتيح هذا الروائي الذي يصر على التجدد، وهل على هذه
المفاتيح أن تنهل من مفاتيح نص "الصعود نحو الأسفل"؟ وهل لها أن تقرر مع
القرار؟ أو لها أن تأخذ بزمن نمرود؟ وهل هي مفاتيح قراءة نسقية؟ أو هي
مفاتيح قراءة أيديولوجية، أو هي مفاتيح قراءة جمالية؟
لا
نجانب الصواب إن ذهبنا إلى أن هذا النص يقترح أدوات إجرائية خاصة به، وإن
كنا نقر بأنها تنهل من تجربة هذا الروائي المتمرد الذي بدأ قصصاً فكشف عن
قدرات تعبيرية مميزة من خلال تلك الأعمال التي كشفت عن حسن تمكن، وقدرة
نوعية.
وارتبط
وجود هذا المبدع بما يعرف عندنا بأدب السبعينات الذي أوجد جمالية خاصة في
الكتابة الإبداعية تنهل من جمالية المضمون قبل جمالية الشكل، وتغلب
الأيديولوجية على الفني.
فهل
صعد السائح نحو الأسفل؟ أو أن أعماله هي التي صعدت نحو الأسفل؟ وهل اتخذ
قراراً في تجربته في الكتابة؟ وإذا كان قد فعل ألم يتخذ قراراً غيره؟ وهل
كان القرار قراراً واحداً أو أنه في الحقيقة قرارات؟
قد
يكون من المجانبة للصواب إن قمنا بقراءة اسقاطية لنصوص السائح الإبداعية،
ولكن ألم تكن نصوصه أعمالاً إسقاطية على الواقع الجزائري؟ وإلا كيف نفسر
ذلك الإلحاح على تعرية هذا الواقع وفضحه بطريقة فيها الكثير من المجابهة
والعناد والمعاندة؟ ذاك هو الحبيب السائح الهادئ في معاملته الخلوق في
جلساته، الثائر العنيف في إبداعه، الهائج المنفعل إلى حد الثورة والهجوم
المضاد دون هوادة.
أيحق
للمبدع أن يكون صورة من هذا التناقض الحاصل في مجتمعنا؟ ومن جهة أخرى ألم
يكن هذا المبدع ضحية من ضحايا اتجاه فني في الكتابة الإبداعية؟
لقد
أراد السايح أن يكتب نصاً مميزاً، إما أن يكون به أو لا يكون، نصاً يستطيع
أن يتجاوز أعماله السابقة من حيث تقنية الكتابة، نص يحتفل باللغة، نص
للغة، ونص اللغة، ونص من اللغة.
إن
ذاك "الحنين" تجربة سردية مارسها السايح بحب وألم وعنف، وهو نص صعب المراس
يتحدى القارئ ويهاجمه منذ العنوان بلغة سردية كونت لنفسها جمالية خاصة لا
تلين ولا تقدم نفسها في سهولة ويسر.
ثم
لِمَ كان الحنين؟ أهو حنين إلى ماض تولى؟ أو هو حنين إلى حنين آخر؟ هل هو
حسرة وألم؟ أو تشفي وانتقام؟ وهل مثل هذا النص لحظة ووعي عند هذا المبدع؟
أو أن السرد هو الذي تحكم في بنية النص؟
يبدو
أن السائح الحبيب يجمع بين الكتابة الواعية واللحظة اللاواعية للإبداع
ويسعى في مشروعه هذا إلى تقديم رؤية للواقع من حوله، ومع ذلك يبقى السؤال
مطروحاً، فهل بقي هذا الروائي وفياً لتلك القدرة الإبداعية التي عرف بها؟
وهل تجاوز أعماله السابقة؟ وإلى أي حد استفاد إيجاباً أو سلباً من صدامية
زمن النمرود؟
أعتقد،
جازماً، أن "ذاك الحنين" تجربة فنية مميزة استطاع الروائي أن يتجدد فنياً
فيها عبر الاستمرارية في الكتابة، ومن خلال الاستفادة من تقنيات الرواية
الجديدة، وفي الوقت نفسه نلمس حنيناً إلى تجاربه السابقة، واستثماراً فنياً
لها، وتوظيفاً لجماليات لغوية تنهل من حقل دلالي مؤسس على المتناقضات،
ويجمع بين شعرية اللغة، وتقنية الخطاب السردي.
إن
هذا النص استطاع، إلى حد كبير، تأسيس جمالية سردية قد يكون السائح متميزاً
فيها، حيث يتزاوج الفصيح والعامي والدارج في خطاب يعطي دلالات إيحائية
للنص. إنه التوالد والإخصاب اللغوي، إنه ينتج نصاً يحمل خصوصية فنية تعود
إليه. فهل النص هو السائح؟ أو أن السائح هو النص؟
إن
نص "ذاك الحنين" بناء سردي يستحضر جواً أسطورياً، وخرافياً ممزوجاً
بواقعية مقززة، أعطى للمبدع طواعية وحرية أكثر في رسم هذا البناء السردي.
-"سيدتي أبغي أن أجن كيما أقترب من قلبك.
-من يذكر أن الجنون حال عشق؟ لا رغبة لمجنون (الرواية 37).
فهل أن الكتابة لحظة جنون؟ وهل هي انفلات؟ أو تقيد والتزام وارتباط؟
لعل
أول مفتاح لهذا النص السردي هو تلك العدائية البارزة تجاه المتلقي من خلال
جرأة اللغة في الاهتمام بالطابو والمحرم وتعرية الواقع من الداخل. ولكن ما
موقف السارد من هذا النص؟ وهل لهذا النص مرجعية سياقية ما؟
يقول –وغاشها؟
يسمي فيها أهلا منها الغاشي ويستثنيها فتعبس فتهب عصفة قلبي تلولبه فيضيع عنه التوازن فيعتر.
-حاشاك سيدتي، الغاشي هم من تجمعهم حلقة خليفة المداح وتفرقهم صفارة البرجي البوليسي.
-الأول صفحة من كتابي المحظور، والثاني سلت خيوطها من عروقي، الأول والزواج اللسان والمسطرة النص: 35.
إن
نص "ذاك الحنين ينهل من سياق سيميائي يقوم على المحاسبة والمحاكمة
والتشفي، ومن هنا قد نجد السارد في مواقع متعددة من هذا النص متفرجاً أكثر
منه صانعاً للأحداث أو مشاركاً فيها. إنه يكتب من موقع القارئ لا من موقع
المبدع، فهو يحاسب النص ويشدّ عليه الخناق إلى درجة أن النص عانى من سلطة
الكاتب عليه، وما يبرر هذا هو حرص السارد على أن ينتج نصا نثرياً من موقع
القارئ أكثر من موقع المبدع. فهو يتخير مواقف تخدم خطأ سردياً خاصاً، ومن
هنا نجد أن البنية داخل النص قد تقفز وقد تتعثر، وقد تنساب في سهولة ويسر.
ومع
ذلك ما خصوصية هذا النص؟ ولماذا نقف عنده؟ وهل ما زال الروائي السائح
قادراً على إنتاج تجارب سردية جديدة؟ ثم ما الاستراتيجية التي انطلق منها
لكتابة هذا النص؟
إن
"ذاك الحنين" تجربة سردية تقاوم اللغة باللغة من أجل اللغة، إنها تسعى إلى
أن تؤسس خطاباً مميزاً يعتمد على التجديد في الكتابة الروائية، ولهذا كان
من الضروري علينا أن نقدم قراءة لهذا النص المتميز وفق رؤية نقدية معاصرة
بأدوات إجرائية تمكننا من فك شفرات النص، وتجعلنا نساهم في إبداعه من جديد.
وانطلاقاً
مما سبق وجدنا أنه من الضروري أن نبدأ بالحديث عن البنية اللغوية، فهي
عماد هذا النص، وفيها تتجلى ملامح التجديد. فيها غامر الروائي صوب تجربة
جديدة. إن هذا النص نص يتحدى القارئ بعلائق اسنادية تجمع بين مستويات لغوية
متعددة، ويعتمد على مرجعيات سيميائية كثيرة.
وكان
من الواجب علينا أن نهتم بهذا المستوى الجمالي، لأن الكتابة الروائية في
الأساس تجربة في الكتابة، إنها ولادة نصية تتصارع مع اللغة، لأن المبدع في
تحد صارخ مع اللغة، ويبدو أن السائح الحبيب عانى الأمرين من ويل لغة تتحدى
الصعاب، وتتحداه هو أيضاً، وكان لزاماً عليه أن يخوض التجربة وكله إرادة في
قهر شوكة هذه اللغة، وكان لزاماً عليه أن يعتقد في انتصاره عليها.
بنية النص اللغوية:
لقد
استطاع السايح الحبيب بناء النص بناءً خاصاً مزج فيه بين الفصيح والعامي
في تدرج لافت للنظر، حيث تتموج اللغة وتسبح في هذه الثنائية في تناسق
وانسجام ويكشف على أن المبدع قد واجه اللغة وأراد أن ينتج نصاً تعلن فيه
اللغة طواعيتها على الرغم منها، وبذلك استطاع الروائي أن يمارس لعبته
المفضلة على القارئ بسلطة النص المعاند والذي لا يسلمك نفسه بسهولة، إنه نص
يقاوم القارئ ويهاجمه ولا يهادن. وقد يشعر المقترب من النص بقدرته على
الممانعة والعصيان إلى درجة النفور، وما إن يصل إلى هذا الحد يدعوك من جديد
في تحد صارخ.
إن
البنية اللغوية لهذا النص تتأسس على أساس كتابة نص يكون به السائح أو لا
يكون، وأعتقد جازماً أنه استطاع إلى حد بعيد أن ينجح في مسعاه من دون أن
يمكنك من الوصول إلى مفاتيح هذا النص، فهو يأبى ويتمنع ويقاوم مقاومة
الفتاة العازب لفعل الاغتصاب، وعليك أن تتودد إليه وتقترب منه وتشعر
بأنفاسه وبخلجاته، تتمنع وهي الراغبة باستعمال النص للغة وسطى تتأرجح بين
لغة الخاصة ولغة العامة تعكس في مستوى لغوي مقصود. نقرأ في الصفحة 53 هنا
كانت القشدة وكانت اللعب والدمى المتحركة، وكان المساء وكان الزوال وكانت
العطلة وكان الفرح، وهنا كانت صبايا جيل الستين، بعد عشر سنين، ينساق إلى
الحزن تباعاً، إلى الغربة، إلى قفر القلب، إلى تعاسة الروح، يكرع من نبع
الإهانة، ويقتات من مغمس الغصة، شباب كانوا يعشقون، أو يهجرون، أو يعلقون
حبالاً، وصبايا كن يعشقن أو يشربن الجافيل، وكان كل شيء مجللاً بقدسية
الشرف حتى الخطبة، ثم ينتقل إلى مستوى آخر من دون أن نشعر بذلك، إلا بعد
حين يواصل "ويوم الطعن كروم العوام يا حضار في الظهر بالخنجر الغدار تغيرت
حال البلاد وراح السهب يسفي القبلي والغبار، صارت الرجولية والجلال
للذكريات وعاد العشق هجرة الزواج منتهى الجنون بعد الثلاثين، وبقي للشرف
هامش في حاشية سرد المحنة لا يستوعب فصلاً منها كيما تنسى.."(النص: 53).
وهكذا
يعرض النص نفسه بلغة وسطى عزيزة النفس سهلة ممتنعة، وهي لغة تكشف عن
عذابات المبدع ومعاناته مع هذا النص إنه ولادة ثانية صعب أن يعاد مرتين،
وقد يكون قد استنفد طاقة المبدع وأتى عليها، وإلا كيف نفسر هذه السهولة
الممتعة، لقد استعصى النص حتى على المبدع نفسه، حيث يبدو السائح في صراع
مستمر معه، ولهذا تدرج معه بين لغة فصيحة ولغة عامية لعله يستطيع مراوغته
والإنزياح به، ومع ذلك فقد انتصر النص ليبقي المبدع وحيداً، فقد تخلص من
سجن الفنان، وانفلت بعيداً أنا ذاهب، أنت راحل، دمرتنا حماقات البشر"
(النص: 146) هكذا يتودعان، وهكذا يفترقان.
أمدت
العامية، الممزوجة بفواصل مسجوعة، النص بجمالية خاصة تعتمد على الإيقاع
الموسيقى في رسم طقوس فنية قد تقترب من عالم الأسطورة والخرافة، وتنهل من
المظهر الاحتفالي للحلقة التي تعقد في الأسواق الشعبية كانت الفرجة أيام
العز بإحضار، وكان الإنسان يروض الجن والحيوان، سبحان خالقي الجبار، ولما
صار الإنسان، وصارت الحكمة للفجار والبلاد معرة للأخيار وتصالحت البومة مع
العقاب، وتسالم الضبع مع الحمار، جاء القبلي ورفع ظل الخضرة غيبها في
القفار.. النص 87.
إن
كل لفظة من هذا المقتطف تحمل دلالة مكثفة محملة بإيحاءات تعكس حاضر
الجزائر، وقد وظف لذلك نصاً يعتمد على بنية النص الشعبي من دون أن يكون منه
ونحن إذ نشير إلى هذه الجمالية، فإننا في الواقع لا نريد أن نجتر ذلك
الحديث حول العامية في النص الفصيح، لكننا نرغب في أن نكشف عن مدى قدرة
المبدع في استثمار القدرات الإيحائية لبنية النص الشعبي، والتي قد تساعد
القارئ على إنتاج النص من جديد خاصة إذا وفق المبدع في الوصول إلى الانسجام
بين البنيتين (الفصيحة والعامية) كما وقع في هذا المقطع حيث يقول قبله"..
ولكن السائق أوضح أن عدداً منهم قد رحل قبل اليوم غير منتظر دوره في سيرك
عمار، وعالج محول السرعة في عصبية. كانت الفرجة.. (النص: 87).
وتقوم
هذه البنية من موقع آخر على تناقض فادح ساعد كثيراً على انكسار السرد من
خلال تلك التموجات والانحدارات والتمفصلات المتعددة المبنية على عدد من
الفصول (18 فصلاً) فإلى أي مدى استطاعت هذه الجزئيات أن ترمم ذات المبدع
المتصدعة والمتشظية؟ وإلى أي حد استطاعت أن تملأ ذلك الفراغ؟ أو أن تسود
ذلك البياض؟
إن
الوقوف عند بنية عناوين جزئيات هذا النص السردي يكشف لنا عن البعد
السيميائي الذي رسمه هذا الفنان. إنه ينطلق من الخواء من الخراب من اللاشيء
ليرسم لا شيء فليس هناك وجود وليس هناك عدم وليس هناك بداية وليس هناك
نهاية إنه الدمار، إنه السراب، إنه التبدد، إنه الضياع، إنه الإبداع
الجديد.
وتقوم
بنية هذا النص في مقام آخر على تنويع في استعمال الجمل الإسمية والفعلية
حتى في عناوين الفصول، حيث جاء أغلبها في صيغة اسمية وهي تفيد الثبات وعدم
الحركة وكأنها تريد أن تقاوم. وهي على التوالي: (أي قادر على قهر الدهر،
أنت أم الحجر – ريق الفجر من عسل الجنة- الشتاء يفقد ذاكرته- واليوم من
أمسه في غده آيل إلى الحسرة- احتراق ظل لفاجعة أحزانه- امرأة من عناد
ومرمر- العرابة تحمل قلب أم تموت أيضاً- يوم من أيام الرب الكريم- زمن
العشق يعمر الفراش- الخنجر والبولالة، القمبري وقرقابو – نخب لديار المحنة-
تلك صحراؤك، وذا الهذيان لا مفر) فقد أخذت صيغة الجملة الاسمية لتشير
لتوقف الحركة. في حين نجد أن بقية الفصول قد جاءت بصيغة جملة فعلية لتعبر
عن الحركة والتحول والتبدل والتغير وعدم الاستقرار على حال، وهي على
التوالي (أبغي أن أجن كيما أقترب منك – إني أنكوي بصقيع الفرقة والوحشة –
قطعت الشجرة كبرت المقبرة وغادرت الشحارير- افتقدت الأعشاش لقاقيها ورحلت
مادلين- غابت مادلين. أبداً) دالة على الفعل والحدث في حال متحركة. وقد
نعلل هذا التباين بين الصيغتين إلى أن المبدع كان متلقياً أكثر منه مرسلاً،
إنه كما ذكرنا سابقاً قدم العمل من وجهة نظر المتلقي أكثر من كونه مبدعاً.
ولهذا لم يكن متضامناً مع نصه فحاسبه حساباً عسيراً، وكأنه أراد أن يدفع
دفعاً إلى المشاركة في إبداع النص، لأنه وقف في موقعه.
إن
هذه بنية النص اللغوية تحفز القارئ إلى ولوج عالم النص، ولكنها، في الوقت
ذاته، تكشف له عن علاقات اسنادية، ربما لم يألفها من قبل، هي بمثابة
مستويات فكرية ناضجة أسست هذه البنية، وهي بنية تنحرف وتنزاح إلى درجة
القلب والارتياب والشك. وهي بنية ترسم لك الشيء وما أن تحاول القبض عليه
ينساب من بين أصابعك من دون شعور منك، وقد تحتاج إلى معاودة القراءة حتى
ترمم تلك البنية من جديد، ففي الصفحة (33) فصل "أبغي أن أجن كيما أقترب
منك" يبدأ في آخر أيام سموم أغسطس كانوا بين السحر وبين الفجر من بلاد
البسباس، ومن دخلة الولي رقب البلاد فظهر لـه أنثى تفترش صمتها.. "فيواصل
في نظم البنية ويشدّك إليه وتعتقد أنه سيقدم لك شيئاً ولا تنتبه وإلاّ
والفصل قد انتهى إلى لا شيء بقوله كانت الشوارع فارغة متعبة ورذاذ من المطر
يبلل الإسفلت تنكسر عليه الأنوار عند زاوية زنقة وأخرى، وقطط هنا وهناك
تتهارش في القمامة (النص 41) هكذا يمارس السايح غوايته بتفنن وخبث ومكر
ليقطع الحبل متى شاء ويردنا إلى نقطة الصفر. إنها بنية لغوية جديدة تؤسس
لخطاب روائي جديد. لقد عانى هذا النص من سلطة اللغة ومن سلطة القراءة قراءة
المبدع نفسه له، ومن سلطة الكاتب نفسه أيضاً. وعلى الرغم من هذا الاقرار
قد نجد صعوبة، في الأخير، في تحديد تموقع السايح بالنسبة إلى نصه، فهل هو
مجرد قارئ ممتاز للنص؟
ويأخذ
فصل (الخنجر والبولالة، القمبري والقرقابو) بنية لغوية قد تنفرد عن البنية
الكلية للنص، وإن كان من الصعب أن تفصل عن النص. أقول إن السايح كان
كريماً مع هذا الفصل الوحيد الذي نشعر فيه بإنسيابية اللغة المفعمة
بسيميائية "الديوان- قرقابو" لقد عاد السايح إلى طفولته إلى ذكريات يحن
إليها.
ويكاد
هذا الفصل يختص في توظيف تقنية الوصف كعنصر من عناصر البنية اللغوية، وقد
أبدع الرجل في نقل المظهر الاحتفالي بدقة متناهية، وبقدرة تصويرية نابعة من
معرفة بأصول هذا الخطاب المتميز، والذي يمتزج فيه الأسطوري بالخيالي
بالصوفي بالديني بالواقعي، ويكون بذلك قد استثمر هذا المظهر كلياً.
ومن
جمالية هذا الفصل أنه يصعب أن نستشهد بجزء ونترك باقي الصورة مشوهة ومع
ذلك نقتطف ما يلي ".. ودار دورة طاعة واستسماح في الرحبة خافضاً الرأس،
محنياً الظهر على نغم العزف الذي تبدل إيقاعه آخذاً البدايات التي تعطي
حركة صدره ورجليه الوزن الموافق لحركة يديه صاعدتين من حدود فخذيه إلى
مستوى بطنه فتلتمع الشفرتان.." (النص 131) هكذا يصف لنا الروائي هذا المشهد
وهو متمكن من لغته متصرف فيها حتى يشعر القارئ وكأن هذا المظهر الاحتفالي
قائم أمامه.
ومن
العناصر المؤسسة لبنية هذا النص اللغوية اعتمادها على التنويع في الضمائر
فلم يوظف السايح صيغة واحدة، بل استعمل المتكلم والمخاطب والغائب مما أعطى
بعداً آخر وجعله نصاً منفتحاً على تعدد القراءة، خاصة وأنه لم يستعمل
حواراً بالمفهوم الكلاسيكي بل نجد أن الحوار مضمن داخل بنية النص، فهو
موجود وغير موجود. "يديك طرية ورطبة للحنة كما يد واحدة من بلاد التفاح،
تعرف بلاد التفاح؟ ماها مشتت وزيتها مشرمل. لم يعلق وسحبها مصطنعاً
اغتياظاً باحثاً عن الرد، ولكن بالغرايب كان مد ساقه المعوقة فارتمت قدمه
كأنها ليست مفصلا منها – عمرك ما نترت الحلفا.." (النص: 49) لقد اندمج
الحوار داخل بنية النص ولم يعد العنصر القائم بذاته والذي تفرد له مساحة
خاصة في بناء النص السردي، فهو موجود ههنا بحسب ما يخدم بنية النص عموماً،
وليؤسس جمالية النص التجديدية.
ومن
جمالية "ذاك الحنين" اللغوية سيطرة بعض المفاهيم على النص حتى غدت سمة
مميزة، من ذلك مفهوم الخمر، فهو هاجس مسيطر على الكاتب لا يكاد ينفلت منه.
قد يكون السايح قد تعامل معه في سياق سوسيو- ثقافي، فهو يمثل الانحدار
والانحطاط والسقوط، والهروب من الواقع، إنه لعنة هذا الواقع، جاء فعل الخمر
ليؤكد على الشاذ والناشز والمسكوت عنه. وفي موقع كان التوظيف للكشف عن قيم
حضارية" .. مثل أمرين إلى الغرفة فرشت بزريبة حمراء على أطرافها طولا
وعرضا أفرشة صوفية عليها مخدات ومساند صوفية بيضاء وشهباء وقهوية، وفي
وسطها مائدة دائرية مرفلة بسماط أبيض مطرز مغشى بقطعة نيلون شفافة عليها
كؤوس وبيرة ونبيذ وصحون فخارية صغيرة فيها الكاكاو واللوز والجبن والزيتون
والبصل وطفاية وعلبة دخان أمريكي وقداحة.." (النص: 94-95) فالخمر جاءت وسط
ديكور عام يصف مشهد حمو القط مع شلته في حضرة حسنية الشهرية. وقلما تخلو
جلسة من جلسات هذا النص من حضور الخمر فيها (.. وبكأس نبيذ فشرب ص94)
(طالباً إلى الجميع رفع نخب على صحة الصديق، وإذا هموا بالجلوس وفي أيديهم
الكؤوس عانقهم حمو القط. بقية من رغوة البيرة عالقة شاربه..ص5) ولعل الكاتب
كان يرمي إلى تعرية هذا المجتمع من الداخل بالوقوف عند لحظات التقاء الوعي
مع اللاوعي حيث تمتزج اللذة والرغبة مع العقل والحكمة، ويتوحد الممنوع مع
المرغوب فيه مع واقعنا المعيش.
جمالية الزمن:
إنه
من الصعب القبض على زمن هذا النص، لأن الزمن قد انزاح كون لنفسه جمالية
تقوم على تداخل أزمنة وتقاطعها، فالزمن لم يعد زمناً واحداً، إنه مجموعة من
الأزمنة تشكل جمالية خاصة تؤسس بنية النص السردية. فقد لعب الزمن في هذا
النص السردي دوراً مهما ضمن الحاضر والماضي والمستقبل، وبذلك يحدد الإطار
الخاص للنص بكل مستوياته بحسب تواليها، وبكل أنواع الزمن الخارجية
والداخلية والطبيعية، وقد ساعد الزمن كثيراً المبدع في نقل الأحداث إلى
القارئ وفق تسلسل زمني وفقاً لمسارات فنية، فيصبح الوقت الذي تستغرقه القصة
أو الرواية، كأنه اختصار للوقت الذي استغرقته المغامرة (ينظر ميشال
بوتور.. بحوث في الرواية الجديدة 12 تر: فريد أنطونيوس).
ومن
جمالية الزمن ها هنا أن السايح اعتمد كثيراً على الذاكرة في العودة إلى
الوراء، وخاصة في فصل الخنجر والبولالة، والقمبري والقرقابو". كما اعتمد
على ذاكرة الشخصيات في ذلك التقابل بين زمنين متعاكسين كذلك كان بوحباكة،
لما أراد أن يدمج شيئاً عن تاريخ البلاد يتحرق حنيناً إلى زمن جميل، لم
يسعفه التذكر إلا على أن يخط شيئاً مرضياً، كالحنين تماماً. هنا كانت
سوزان، هنا أصبحت عينونة، وهنا كان متحف، هنا أصبح حماس، هنا كان ورد يسقى
على هذه الشرفة، هنا أصبح ولد بوخنونة يعطن، ومن هذه الشرفات كان يرمي أيام
الأعياد عدس الورق، ومن الشرفات صارت ترمي القاذورات تلقى وخنز النساء في
كاغط يرمى، هنا كانت معطرة، هنا أمست مخرأة" (النص 53).
تقوم
جمالية هذا النص على أساس أنه جمع بين زمن متقدم وزمن متأخر بوساطة زمن
الإبداع الآني، وهذا التداخل هو الذي شكل بؤرة النص. ذلك أن الآن هي اللحظة
التي تفصل بين "المتقدم والمتأخر في الزمن.. وتربط بينهما" (يمنى العيد في
معرفة النص 12 دار الآفاق الجديدة).
إن
الزمن في هذا النص يعتمد على زمن الحنين والتذكر، وعلى زمن التشفي وتعرية
الواقع من الداخل، إنه زمن جاء ليرمم الذاكرة الجماعية، وفي الواقع
اللازمن، ولهذا اجتهد المؤلف في تدميره، فلم يعد هناك زمن، إنه مخرب مدمر،
إنه الخواء، إنه اللاشيء، يقول عن تلك الساعة العجيبة الغريبة المعطلة عن
الدوران، والمحملة بالكثير من الدلالات".. وقد بنى عليها اللقلاق البرهوش
عشه قبل أن يختفي مخلفاً زقه الأبيض السائل لاصقاً بالأردواز، متوقفاً عند
حدود أعلى الساعة الجدارية الوسطى في برج الواجهة ناحية الجنوب بين اثنين
آخرين، المتوقفة في الرابعة بعد الزوال كما قدر بوحباكة، المتأخرة عن
الثانية جهة الشرق بساعة وأربعين دقيقة أو متقدمة عليها بعشر ساعات وعشرين
دقيقة، والمتأخرة عن الثالثة جهة الغرب بساعتين وتسع وعشرين دقيقة أو
المتقدمة عليها بتسع ساعات وإحدى وثلاثين دقيقة، توقفت جميعها يوم توقف
الزمان في البلاد، وانكسر زجاجها وتهرشم إطارها واندثرت أرقامها واسودت
دوائرها.. "(النص: 78).
إن
الزمن ها هنا زمن الضياع، زمن الخراب، لأن آلة الزمن معطلة، وحتى المزولة
قد دُمرت، وهكذا يسعى السائح إلى تدمير كل ما يدل على الزمن وكل ما يشير
إليه ".. ولا تزال ساعته تتأخر عن الساعة الحقيقية بسبع وثلاثين ثانية، ما
دامت الساعة الحقيقية هي التي تحددها الشمس على المزولة، لأنها لا تملك
الديمومة الثابتة، لذا فهي لا تكون حقيقية إلا إذا صححت، ولكن البلاد عزف
عن أي تصحيح يخرسه الغي ويعميه العجاج فينسى جداول الحساب ويتنازل للخراب
يبيد ذاكرة الساعة الشمسية.. "(النص 86).
ولا
يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه لما يوظف الزمن التاريخي بكل حمولته
وسيميائيته. يقول: "كان ينقش يباب ذاكرة المزولة المعروضة للتشرذم وشما في
ذاكرة زمنه" ثم يقدم نصاً بلغة فرنسية، ويترجمه إلى اللغة العربية بما
نصه.. "هذه الساعة الشمسية الدقيقة أقامها السيد الفلكي كرافت الماكير
قبطان الجنود الفرنساويين برأي الحكيم ريم، شيخ البلد.. بناها عساكر
لاليجون النازلون بسعيدة بفضل وإعانة الحكام وضابط الجنود. سعيدة شهر رمضان
إلى شهر ذوالحجة سنة 1353 الهجرية واحتار في أمر اختلاف التاريخين ثم
أرجعه إلى أن الرقم الهندي أخطأ زمنه بحوالي ستة قرون، مسافة الميلاد
والهجرة، ووطن نفسه على أن كل شيء حساب (جاعل الليل سكناً والشمس والقمر
حسباناً) يخجله أن لم يعد قادراً على تحديد الزمن الذي صارت فيه المزولة
شيئاً من الأشياء العادية.." (النص: 83-84) لقد أصبح الزمن ها هنا زمناً
مفتوحاً لا يمكن حدّه بحد، فالحد هو اللاحد، والنهاية هي اللانهاية، والزمن
هو غير الزمن. والنقل بصوت آخر إن الزمن في "ذاك الحنين" هو زمن السرد ولا
شيء غيره، ولعل هذا ما حرص المبدع على التأكيد عليه حتى يضمن للنص انفتاحا
انفتاح الزمن من خلال مبدأ التتابع والتوالي والتعاقب والاستمرارية. لقد
أسس السائح نصه على جمالية تعتمد على الزمن حيث خص إحدى صفحات استهلال النص
بـ "قراءة المزولة – [هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدّرناه منازل
عدد السنين والحساب] – Fais comme moi Ne compte que – les heures
ensoleillees [جاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً] الساعة الحقيقية
هي التي تسيرها الساعة الشمسية. هكذا يركز المبدع على عنصر الزمن الفعلي
الذي يرى الإنسان فيه النور، نور كل شيء، نور الحقيقة، ويكون الزمن فيه
زمناً نيراً، وليس زمن ظلامياً.
وكان
لا بد على المبدع، حتى يؤسس هذه الجمالية، أن يجعل الزمن ارتدادياً يقبع
في ذكريات المحاسبة والمحاكمة لأوضاع المجتمع المبنية على التناقض
والمفارقة والتمايز. وأعتقد أن الزمن قد تحكم في التحركات السردية للنص.
بنية الشخصية:
تتحدد
معالم الشخصية في هذا النص السردي من بنية النص الروائي الجديد وهي شخصية
ليست لها معالم محددة، إنها تختلف كلياً عن تلك الشخصية الكلاسيكية التي
مجدتها الرواية التقليدية. فالشخصية ها هنا لا ماضي لها ولا حاضر ولا
مستقبل، وإنما هي بحسب ما يخدم بنية السرد، وبحسب ما يقتضيه الموقف. فعلجية
ولا لا حبارة وسعدية ويسمينة وبوحباكة ومالحة.. وغيرها من شخصيات هذا
العمل شخصيات من الكرطون، شخصيات ورقية موظفة في النص توظيفاً جمالياً لا
يمدنا إلا بما هو ضروري لخدمة خط الحكي. وقد سعى المبدع إلى طمس الشخصية
والقضاء على معالمها المميزة ويلتقي هذا المسعى مع ما ذهبت إليه نطالي
ساروت إن الشخصية فقدت شيئاً فشيئاً كل شيء، أجدادها، وبيتها المبني بعناية
والخاص بالأشياء المختلفة، من قبو البيت إلى مستودع الحبوب مروراً بأدوات
الزينة الدقيقة، فقدت أملاكها، شهادات استثمارها، وثيابها، وجسدها، ووجهها،
وبخاصة فقدت ذلك الشيء الثمين الذي تتميز به: طبعها الخاص، وحتى اسمها
(Nathalie Sarraute L,ere du soupcon Edition Galimard 1950 p. p 71/72)،
فالشخصيات من دون أسماء لها ألقاب فقط كحمو القط بلا اسم، واسمي يانورة
اللوز عند نهاية الشتاء، يطل الربيع ينتظره القبلي، تحت نوارات اللوز، بلا
مدينة أنا وقلبي المدينة لبلاد يبكيه قلبه، بلا أهل بين نشرهم الأهل وأنا
الغريب، أنا ذاكرة الشجر والحجر تذكاري.. (النص 98) هكذا كان حمو القط
كائناً حياً يقوم بدور سردي داخل هذا النص. كائناً حياً ينهض في العمل
السردي بوظيفة الشخصية دون أن يكونه (عبد المالك مرتاض تحليل الخطاب السردي
126).
ومن
اللافت للانتباه كثرة الشخصيات الموظفة في هذا النص السردي، حتى أن القارئ
يجد صعوبة في تتبعها وتذكرها، لقد اقتربت هذه الشخصية من الشخصية المفهوم
التي وقفنا عليها عند عبد المالك مرتاض في الخنازير وصوت الكهف، فليس هناك
شخصية يمكن الوقوف على معالمها. وكل ما نجده هو عبارة عن تقاطعات لمفاهيم
إنسانية تتجسد في أفعال ومواقف. يقف بوحباكة معلناً عن وجود سلبي مقهور
يصور اخفاقات المؤلف نفسه، والذي يقرأ النص يشعر بـ "بوحباكة حاضراً وإن لم
يذكر اسماً أو صفة. وفي الواقع لا يحمل اسماً إنه يحمل صفة، أو لنقل يعيش
وضعاً لا يخصه بل يخص كل من مر بمثل حاله. إن بوحباكة قد يتجسد في أي إنسان
وقد لا يتجسد، إنه موجود وغير موجود في الوقت ذاته. وما حمله لهذا الاسم
إلا على سبيل التمييز والترميز له. ذلك أن الشخصية تكون بمثابة دال من حيث
أنها تتخذ عدة أسماء أو صفات تلخص هويتها (حميد لحميداني بنية النص السردي
من منظور النقد الأدبي 160- المركز الثقافي العربي بيروت – الدار البيضاء).
فقد
كان "مالحة" دالاً من نوع خاص فهو، إن كان ذكراً، فقد صبغ عليه المؤلف
صفات الأنوثة بكل ما تحمل هذه الكلمة من شحنات، فاسمه "صفته" مؤنث، وقد فقد
ذكورته، غير قادر على الحركة والمناورة حتى وإن كانت لديه إرادة، فهي
إرادة غير فاعلة كان مالحة أسر إليه والعجز حزن يدمر فيه ما تبقى في صدره
الصغير من حلم مجهض أن برارج الساكن في أعلى الكنيسة إلى يساره خلال عودته
مساء الربيع وهو يلقلق بعد أن استقر في أعشاشه ينكده برشاقته.. (النص: 80).
ولعل
من جمالية هذا النص أن المبدع قد قدم النص من نظر القارئ، فإنه لا يترك
شخصياته حيث يتموقع مع كل نقلة من النقلات السردية، حيث لا يكون واصفاً فقط
وإنما نشعر أنه داخل السرد مشاركاً فيه، كما حصل في الصفحة 101 لم تكن
تستطيع أن ترى ما يجري ولا أن تتبين باب الغرفة لأن ميمونة كانت استقامت
خارج الباب تبحث بعينيها المدورتين عن شيء ما في عيني الفتاة وفي وجهها بعد
أن كشفت عنه إذا فتحت تنقيبة، وحركات جسمها النحيف ترسم دائرة في وقوفها
على بابها في وقت تستقبل فيه زبائن، وسألتها بصوت فقد أية رخاوة إن كان ثمة
أحد سيلحق بها..
هكذا
نجد السائح الحبيب يصف لنا هذه الشخصيات وكأنه يرى المشهد أمامه، ويقف
لتعريته من الداخل، وفي الإطار نفسه يرسم صورة قاتمة للمرأة يجعلها في وضع
محتمل، وكأنه أراد أن يقول ماذا لو كانت المرأة لذة ومتعة، ماذا لو لم تكن
إنساناً؟ ماذا لو كانت شيئاً عادياً بالنسبة للرجل، كأثاث البيت. لقد قدم
المرأة في صورة تجمع بين السلبية والقهر والانهزام، قدم المرأة في ذلك
الحيز المظلم والذي نتحاشى الوقوف عنده. ولم يكن هذا التوظيف لغرض الإثارة
الجنسية لدى القارئ، بل إنه قدم صورة للمرأة لا نتبين الغرض منها إلا بعد
الانتهاء من قراءة النص. إن الوقوف عند المرأة في مظهرها السلبي، المرأة
السافلة، الساقطة، المرأة اللذة، له ما يبرره فنياً. ذلك أن السائح الحبيب
كان يريد أن نشعر بالتقزز والاشمئزاز من وضع المرأة الذي كان الرجل سبباً
فيه، وكذا الواقع المعيش المبني على علاقات فاسدة غير متكافئة وغير عادلة،
ماذا لو كانت المرأة كما وظفها هذا المبدع، ماذا لو كانت المرأة لذة ومتعة؟
وماذا لو كانت مستعدة لأن تنفق كل ما عندها مما خلفه لها زوجها من ذهب
ومال دفعة واحدة كي ترحل في سره ناعمة بفحولته، حتى إذا لم تعد إيحاءاتها
ولا تصاريحها نافعة، وهو يردها، ويهددها بميمونة لطردها، ارتمت في أحضانه
ففتح ذراعيه يكاد يسقط لولا الجدار وراءه، يصفها بالمجنونة قبل أن يستوي،
كأن لم يسبق له أن شرب، حافرا بنظراته القاسية، بينه وبينها خندقاً لا
تتجاوزه، وقد أمسكها بيديه المتشنجتين من ذراعيها يهزها ويقطر في أذنها أن
ميمونة أهون عليه من لمس عيال رجل يموت، فغشيتها رائحة الجيفة فوعوعت وجرت
نحو الكانيف (النص 105).
وتتضح
هذه الصورة أكثر فأكثر في فصل "أبغي أن أجن كيما أقترب منك "حيث موقف حاد
من المرأة، لأنه يقوم بالكشف عن قضايا يتقزز منها المرء، إنه يركز على
الجانب الفظيع في المرأة، فهو يقدمها في صورة هامشية مخبأة في عالم
المحرمات والطابو، وهو لا يتعامل معها إلا في هذا الجانب المظلم، جانب
الهامش من الحياة، فهل أن الهامشي هو المتن، هو الأصل، هو الصح، إنه يلجأ
إلى هذا العالم كي ما يعري الواقع، وينتقم منه من خلال الوقوف عند مجموعة
من النساء في أوضاع متقاربة، وكأن النساء أصبحن امرأة واحدة. إن السائح
يتخير من وضع المرأة ما يخدم استراتيجيته الفنية التي تؤكد على الأوضاع
السلبية في مجتمعنا، وقد استثمر لذلك النص الشعبي بكل ما يحمل من سمات
دلالية، وقد وظف لذلك شخصية خليفة المداح وهي شخصية قد تكون أسطورية لها
دور فعال في أحداث هذا النص السردي، إذ استطاعت أن تزوده بدلالات من خلال
ذلك المد المتدفق من شحنات الذاكرة الجماعية المرتبطة بالمورث الشعبي،
وتحضر هذه الشخصية لتفعل فعلها في النص، ثم تمر من دون أن نشعر بذلك، وتقدم
نفسها بلغة وسطى في حلقة السوق كان خليفة المداح مسد على شواربه وطلب
إغلاق الحلقة حتى لا يتسرب سر قصة اليتيمة في الدار الكبيرة، يا حضار، من
مقام الفجار جاءتنا الأخبار.. "(النص 38) إنه نص مكثف اعتمد على تقنية
الوصف والتشويق ليقدم صورة أخرى للمرأة في وضع يثير كثيراً من الشفقة ويكشف
عن وحشية الرجل في افتراس ضحاياه والتنكيل بهم. لقد كانت شخصية "خليفة
المداح" شخصية غربية عجيبة. واستطاع المبدع عبرها أن يمرر خطابا، ربما عجز
النص الفصيح عن حمله، وتوصيله إلى المتلقي. فحلقة خليفة المداح تجمع الناس،
في حين أن صفارة البوليسي تفرقهم "حاشاك سيدتي" الغاشي هم من تجمعهم حلقة
خليفة المداح وتفرقهم صفارة البرجي البوليسي (النص: 35).
إن
شخصية خليفة المداح شخصية من ورق، وهي غير محددة المعالم، إنها مفهوم،
إنها دور، إنها وظيفة. وإذا نحن حاولنا أن نرصدها، فإننا في الواقع لا
نستطيع أن نحدها بحدود، ولا يمكن القبض عليها، هي كبقية الشخصيات الكثيرة
في النص، والتي قد تكون سبب في إصابة القارئ بدوار إن حاولنا أن نحدد لها
معالم، أو أن نرسم لها حدوداًً. ولهذا قد تكون هذه الشخصية معادلاً
موضوعياً للمبدع نفسه، وهي تتقاطع كثيراً مع شخصيات بوحباكة. كما تسهم هذه
الشخصية في تطوير الحدث في ذلك الزخم اللغوي الممتد، وكم كان السائح موفقاً
في توظيف هذه الشخصية في كسر السرد، أو مده بشحنات تعبيرية متدفقة، جعلت
النص ينفتح على دلالات إيحائية. ثم إن التسمية نفسها "خليفة المداح" علاقة
اسنادية تحيل إلى حمولة تنهل من مرجعية (المداح أو القوال) في الأوساط
الشعبية. هذا الذي استثمر استثماراً مربحاً في المسرح الاحتفالي ومسرح
الحلقة، حيث وجد فيه بعض المبدعين طاقة تعبيرية لا يستهان بها، خاصة إذا
وظفت بعناية واهتمام، ولعل طروحات عبد القادر والطيب صديقي وعبد الكريم
برشيد مفيدة في هذا المجال.
وقد
أضفى حمر العين مسحة صوفية على النص من خلال رقصته في فصل (الخنجر
والبولالة..) في الصفحة 130 وما بعدها، حيث التقاطعات مع حبارة هذه المرأة
السحرية، والتي هي عنوان هذا العمل السردي، وإن كان المؤلف قد اختار
عنواناً آخر، والواقع أن الحنين كان لهذه الشخصية التي استطاعت أن تسمو
بالعمل السردي إلى مستوى العجائبية.. تستحضر كشف حمر العين عن صدره ودخوله
حافياً رحبة التوبة حانياً بيديه المطبقتين مقدماً الإجلال والإكبار للشيوخ
وللحضور كافريقي يؤدي الصلاة لطوطمه.." (النص: 130) ويقول بعد ذلك: "أدت
حبارة تحية التوبة إعظاماً للشيوخ محنية قليلاً إلى الأمام فانهزت العباءة
الطويلة المرصعة التي ترتديها تموجاً مطرداً متواتراً متناغماً كأنما أمواج
النشأ والترصيع الممتزجين لا تنتهي إلا لتأتي أختها إحفاء بالقوام العامر.
(النص: 133).
لقد
أمد حمر العين – حبارة هذا الفصل بجمالية خاصة تقوم على توظيف الديوان في
إضفاء مسحة تبجيلية خاصة على النص، ومكنته من التوحد والذوبان والانسجام
والتناغم الحاصل في مجلس الديوان حيث تعوض الحركة اللغة في التعبير، وتكتفي
اللغة بدور ثانوي أو مكمل للمشهد، وبذلك يرتقي السرد بتقاطعات في بداية
النص، فيتداخل الوصف والحوار، ويستمر السرد لينقطع وينكسر، ثم يرمم ذاته،
وأكاد أجزم أن السائح في هذا الفصل كان مبدعاً لأن اعتماده على شعرية
الكلمة، وقدرته على الانصهار داخل البنية التعبيرية في هذا المشهد. ومما
زاد في جمالية هاتين الشخصيتين "حمر العين – حبارة" أنها أوصاف فقط، كبقية
الشخصيات، أي أنه لا توجد هنالك شخصيات بالمفهوم الفني في الرواية
التقليدية، إنها مفهوم، إنها وظيفة ليس إلا، ولهذا لا يقدم لنا شيئاً عن
حمر العين أي من خلال رقصته، ونحن لا نعرف شيئاً عن حبارة أيضاً.
ومن
جمالية الشخصية في هذا النص، توظيفه لشخصية "الحنين" وتقف مادلين شامخة
لتشير إلى زمن ولى وتداعى ورحل إلى الأبد، مادلين سمة تحمل بعداً فكرياً،
وحالا من الحضور والغياب، حالاً من الوعي بالذات، وحالا من النسيان
والتناس، حالا من التناقض، حالا دون حال. وقد أخذت لنفسها مساحتين من
الوجود النصي. افتقدت الأعشاش لقاليقها ورحلت مادلين وغابت مادلين، أبداً
هكذا كان مصير مادلين محكوم عليها بالرحيل وبالغياب، وقد اختير لها صيغة
الماضي، مسكينة مادلين التي ارتبط وجودها في النص بالأمان والراحة، ارتبط
وجودها بالحسرة والأسف. فهل هناك من يأسف على رحيلها، رحيل فرنسا؟ هل هناك
من يحن إلى هذا الزمن المسجى "وأن لا يبقى له من مادلين غير وجد مثل نور
شمعة في مهب تيار هواء (النص:78) ولكن ما السر في مشاركة "مالحة" لـ
"مادلين" الوجود في هذا الفصل؟ قد يطرح هذا الوجود أكثر من سؤال، لأن
ثنائية الحضور والغياب تلعب دوراً منتجاً للبنية السردية، غياب اللهو
(مادلين) حضور الأنا (مالحة، حمو، القط، بلغرايب) مادلين الرحيل، مادلين
الحنين، مادلين ماض تولى.
qqq
"صوت الكهف" لعبد الملك مرتاض
إن
رواية "صوت الكهف" رواية جزائرية استطاعت بحق أن تجعل الكثير من النقاد
يلتفتون إليها، لأنها وفقت في توظيف تقنيات الرواية الجديدة، سنقف عند
جمالية الشخصية في هذه الرواية، وربما سمحت لنا فرصة أخرى بالوقوف عند
مكونات البنية السردية الأخرى فيها.
لعل
من نافلة القول أن نشير إلى أن الرواية الجديدة تعتمد على تدمير تلك
الشخصية الروائية التقليدية، وتطرح بديلاً لها. فنتالي ساروت، وهي من مؤسسي
الرواية الجديدة، تؤكد في كتابها "عصر الشك" أن الشخصية فقدت شيئاً فشيئاً
كل ما يعنيها كتشكيل أجدادها، وبيتها المبني بعناية والمتنوع بالأشياء
المختلفة، من قبو البيت مروراً بأدوات الزينة إلى كل ما يملكه هذا البيت..
فقدت ذلك الشيء الثمين الذي تتميز به وهو اسمها. فالشخوص كالتكوينات
التشكيلية تناهت..
لقد
كانت الشخصية في هذه الرواية عنصراً مهماً من عناصر البنية السردية، فقد
تم الإعلان عن انتهاء تلك الفرضيات حيث الشخصية نمطية، وطرح بديل لها حيث
تلاعب المؤلف بالضمائر لطمس معالم الشخصية وبذلك يضمن للقارئ المشاركة في
إبداع النص وبنائه. يقول في (ص11) وأنت تتبخترين عبر الزمان السحيق.
بألف
اسم وألف وجه بألف حركة وألف تاريخ. وأنت حاضرة في كل ربوة. وأنت جاثمة في
كل هضبة. وأنتم عنها تبحثون. وأصواتكم تتعالى تهز سقف السماء الرحاب. تمزق
آفاق الأرض. تملأ الفضاء ضجيجاً وعجيجاً. كلكم يتساءل: أين حدهم؟ فقط أين
الصوت الذي يدلنا عليها؟ فقط أين الطريق الذي نسلكه إليها؟ حدهم.. فهل ضاعت
منا إلى الأبد؟ فهل اغتصبوها؟ يا ويلتنا كلهم يريد أن يعرفك وهو أنت.
وكلهم يريد أن يسمع صوتك وهو مسمعك. وأنت هم فهل تدرين ويدرون؟
ونحن
عندما نفصل هذا العمل. نجد الأهالي وهم سكان الربوة، وفئة المستعمرين
والقائد، ولدينا فئة ثالثة، وهي فئة العمال، وهي وسط بين الأولى والثانية
بين الأهالي والمستعمرين. وفي مقام آخر لدينا الطاهر وبيبكو وزينب فكيف
استطاع هذا الروائي تقديم الطاهر وبيبكو وزينب والفئات الثلاث، شخصية
متناهية، شخصية لا اسم ولا أجداد ولا شيء؟
إن
هذه الشخصية هي شخصية من ورق، ولم تأت لتقدم حلولاً، بل جاءت لتطرح قضية.
لقد قدمها المؤلف في صيغة ثنائية: زينب والطاهر /جاكلين وبيبيكو، وهي
شخصيات ليس لها معالم محددة، فلا ماضي لها، ولا مستقبل لها إلا في إطار
البنية السردية، ولا إمكانات مادية، أو بمعنى آخر. ولا وجود للمزاج الذي
يملي عليها أفعالها. فزينب قد تماثل أو تطابق شخصيات أخرى تختلف عنها في
الاسم فقط، فزينب هي تارة زوليخة، وتارة هي الطاهر، ورابح الجن قد يصبح
ابنه. وصالح الذيب هو صورة أخرى لبيبيكو. فهذه الشخصيات لا تملك خصائص
اجتماعية فكرية وثقافية، وحتى إن وجدت عندها، فهي مشكوك فيها، بل مشكوك حتى
في الشخصيات نفسها. فزينب، هذه أتعبت الغدير. هذه مجنونة؟ أتعبتني بحركتها
النشيطة؟ أهي سمكة بشرية؟ ماذا أقول لها؟ لا أقوى على دفعها. لا أقدر على
ابتلاعها لنفسي، لو أستطيع الاستئثار بها" (ص18) هي أنثى دون أن تكون أنثى،
ولعل المرأة هنا لا تمثل إلا وجهاً آخر لزينب، وهي طوراً الأرض، يقول في
(ص56-57) لم يكن لديه إلا الأرض الذهب. أعز ما يملك. أغلى ما تملكون. أرض
زينب. زينب الأرض، أرضها الخصبة، الجملة، أعز ما تملكون. هل لكم رأي غير
هذا؟ أبداً، لا. وهي طورا آخر شيء "خرافي لو شاهدتك حلومة، وأنت تحلقين من
فوق الربوة العالية، أو علم الجزائر ملأة واحدة فضفاضة خضراء بيضاء حمراء
وهي ما كان ليس إلا أنت مجرد زينب. مجرد مكان تكالبوا عليه. أنت كائن ارتدى
لباس البشر (ص؟) فشخصية زينب وإن بدت في البداية بمعالم تكاد تكون واضحة،
تفقد في كل وضع كل ملمح محدد ومؤطر لشخصيتها، إنها ذلك الشيء الذي لا يقبض
عليه، إنها تتجدد باستمرار. وهذا ما يربك القاريء ويجعل خيوط الرواية تنفلت
من بين أصابعه. ذلك أن هذه الشخصية غير محدودة بمعالم وبفكر وبمزاج وعواطف
ولها تاريخ وميلاد ومكان وتواجد.
وفي
موقع آخر من الرواية يقول السارد: "يا أصحاب الربوة. زينب خرافة العقد
خرافة. أنت بالذات خرافة. خرافة في خرافة. هل تفهم؟ هذه هي الحقيقة" (ص77)
فزينب ليست ههنا شخصية إنها وظيفة داخل السرد. وقد سبقنا إلى تحديد مفهوم
الشخصية عند الروائي من خلال دراسة لنا حول رواية الخنازير، إلى أن الشخصية
عنده هي مفهوم، وكل من تقمص ذلك المفهوم فإنه تلك الشخصية. وكذلك الأمر
ههنا، فشخصية زينب هي مفهوم يقوم بوظيفة سردية يستثمرها السارد في تشكيل
البناء الفني للعمل. وقد تصبح زينب هذه شخصية أسطورية لا وجود لها فهو بعد
أن ذكرها وأعطاها مميزات كاد القارئ أن يصل إلى تحديد معالمها، يمحو كل هذا
وينقلب على القارئ، إنها خرافة. وهذا ما يؤكد على أن الشخصيات في الرواية
الجديدة هي كائنات ورقية يشكلها المبدع كيف ما شاء، وإذا كان الأمر كذلك
فهل تنفلت الشخصية من سلطة المبدع؟ وإلا فإنها قد تصبح لسان حال داخل النص
الروائي، ويصبح الكلام والحديث الذي يدور داخل النص السردي ليس حديث
الشخصية، وإنما حديث الروائي. إن للشخصية دوراً واحداً، وهو دور السرد،
فالوظيفة السردية هي التي تتحكم في كل شيء، وهي التي تجعل الشخصية في مكان
معين، ولعل هذا الارتباط هو الذي يسهم في بناء الحدث بالمفهوم الجديد. يقول
في
(ص21) إنما ماذا تفعل؟ أنت تخادع نفسك. من أنت؟ هل أنت إلا مجرد
راع؟ ترعى مواشي أمك.. أبوك؟ ماذا تعرف عنه؟ تسمع الآخرين فقط يتحدثون عنه
كالماضي الميت. كالزمن الضائع من قبضة التاريخ، أبوك.." فهل أن هذا النص
يؤكد على مبدأ أن الشخصية هي من كارتون أو من ورق يكيفها الروائي كما يشاء؟
أو أن هناك نوع من الانفلات والتحرر من قبضة الروائي؟ كلنا يعرف أن
الرواية الجديدة تدعو القارئ إلى المشاركة في إبداع النص، فهي نص مفتوح على
تعدد القراءة. والمبدع يعمل على مشاركة القارئ في العملية الإبداعية، فهو
شريك لا يستغنى عنه. ومن هنا فإن توظيف الشخصية يخضع لخصائص سردية حيث يخدم
السرد الذي تسير عليه الرواية، وقد صرح الروائي قائلاً" أنت شخصية من ورق،
بمعنى أنها قابلة لإعادة التشكيل والترتيب، في حين أن شخصية الرواية
التقليدية تأخذ معالم مكتملة وخصائص ومميزات وفكر واجتماع ومن ثم يصعب
إعادة تشكيلها مرة ثانية. ومن هنا نقول إن الشخصية في هذا النص السردي هي
فرضت أن تأتي على هذه الصورة، إن المقام لا يسمح بالوقف عند كل الشخصيات،
ولهذا سعينا إلى أن نقدم صورة عنها.
لقد
ارتبط وجود الشخصية ههنا بزمن الثورة الجزائرية، فهل كان الروائي يقصد من
وراء طمس معالم الشخصية التأكيد على أن هذه الثورة هي ثورة أمة ثورة شعب
وليست ثورة فرد أو شخص؟ قد يكون هذا سبباً من الأسباب التي جعلت هذا المبدع
يختار هذا النوع من التقنية في كتابة هذا النص الذي انتهى من كتابته عام
1982، وطبع سنة 1986 بدار الحداثة بيروت، ويقع في 215 صفحة من حجم 12/18.
3- جراحات الماضي.. تجربة في الكتابة
(قراءة في رواية "ذاك الحنين" للحبيب السائح )
من
أين نبدأ؟ وما هي مفاتيح هذا الروائي الذي يصر على التجدد، وهل على هذه
المفاتيح أن تنهل من مفاتيح نص "الصعود نحو الأسفل"؟ وهل لها أن تقرر مع
القرار؟ أو لها أن تأخذ بزمن نمرود؟ وهل هي مفاتيح قراءة نسقية؟ أو هي
مفاتيح قراءة أيديولوجية، أو هي مفاتيح قراءة جمالية؟
لا
نجانب الصواب إن ذهبنا إلى أن هذا النص يقترح أدوات إجرائية خاصة به، وإن
كنا نقر بأنها تنهل من تجربة هذا الروائي المتمرد الذي بدأ قصصاً فكشف عن
قدرات تعبيرية مميزة من خلال تلك الأعمال التي كشفت عن حسن تمكن، وقدرة
نوعية.
وارتبط
وجود هذا المبدع بما يعرف عندنا بأدب السبعينات الذي أوجد جمالية خاصة في
الكتابة الإبداعية تنهل من جمالية المضمون قبل جمالية الشكل، وتغلب
الأيديولوجية على الفني.
فهل
صعد السائح نحو الأسفل؟ أو أن أعماله هي التي صعدت نحو الأسفل؟ وهل اتخذ
قراراً في تجربته في الكتابة؟ وإذا كان قد فعل ألم يتخذ قراراً غيره؟ وهل
كان القرار قراراً واحداً أو أنه في الحقيقة قرارات؟
قد
يكون من المجانبة للصواب إن قمنا بقراءة اسقاطية لنصوص السائح الإبداعية،
ولكن ألم تكن نصوصه أعمالاً إسقاطية على الواقع الجزائري؟ وإلا كيف نفسر
ذلك الإلحاح على تعرية هذا الواقع وفضحه بطريقة فيها الكثير من المجابهة
والعناد والمعاندة؟ ذاك هو الحبيب السائح الهادئ في معاملته الخلوق في
جلساته، الثائر العنيف في إبداعه، الهائج المنفعل إلى حد الثورة والهجوم
المضاد دون هوادة.
أيحق
للمبدع أن يكون صورة من هذا التناقض الحاصل في مجتمعنا؟ ومن جهة أخرى ألم
يكن هذا المبدع ضحية من ضحايا اتجاه فني في الكتابة الإبداعية؟
لقد
أراد السايح أن يكتب نصاً مميزاً، إما أن يكون به أو لا يكون، نصاً يستطيع
أن يتجاوز أعماله السابقة من حيث تقنية الكتابة، نص يحتفل باللغة، نص
للغة، ونص اللغة، ونص من اللغة.
إن
ذاك "الحنين" تجربة سردية مارسها السايح بحب وألم وعنف، وهو نص صعب المراس
يتحدى القارئ ويهاجمه منذ العنوان بلغة سردية كونت لنفسها جمالية خاصة لا
تلين ولا تقدم نفسها في سهولة ويسر.
ثم
لِمَ كان الحنين؟ أهو حنين إلى ماض تولى؟ أو هو حنين إلى حنين آخر؟ هل هو
حسرة وألم؟ أو تشفي وانتقام؟ وهل مثل هذا النص لحظة ووعي عند هذا المبدع؟
أو أن السرد هو الذي تحكم في بنية النص؟
يبدو
أن السائح الحبيب يجمع بين الكتابة الواعية واللحظة اللاواعية للإبداع
ويسعى في مشروعه هذا إلى تقديم رؤية للواقع من حوله، ومع ذلك يبقى السؤال
مطروحاً، فهل بقي هذا الروائي وفياً لتلك القدرة الإبداعية التي عرف بها؟
وهل تجاوز أعماله السابقة؟ وإلى أي حد استفاد إيجاباً أو سلباً من صدامية
زمن النمرود؟
أعتقد،
جازماً، أن "ذاك الحنين" تجربة فنية مميزة استطاع الروائي أن يتجدد فنياً
فيها عبر الاستمرارية في الكتابة، ومن خلال الاستفادة من تقنيات الرواية
الجديدة، وفي الوقت نفسه نلمس حنيناً إلى تجاربه السابقة، واستثماراً فنياً
لها، وتوظيفاً لجماليات لغوية تنهل من حقل دلالي مؤسس على المتناقضات،
ويجمع بين شعرية اللغة، وتقنية الخطاب السردي.
إن
هذا النص استطاع، إلى حد كبير، تأسيس جمالية سردية قد يكون السائح متميزاً
فيها، حيث يتزاوج الفصيح والعامي والدارج في خطاب يعطي دلالات إيحائية
للنص. إنه التوالد والإخصاب اللغوي، إنه ينتج نصاً يحمل خصوصية فنية تعود
إليه. فهل النص هو السائح؟ أو أن السائح هو النص؟
إن
نص "ذاك الحنين" بناء سردي يستحضر جواً أسطورياً، وخرافياً ممزوجاً
بواقعية مقززة، أعطى للمبدع طواعية وحرية أكثر في رسم هذا البناء السردي.
-"سيدتي أبغي أن أجن كيما أقترب من قلبك.
-من يذكر أن الجنون حال عشق؟ لا رغبة لمجنون (الرواية 37).
فهل أن الكتابة لحظة جنون؟ وهل هي انفلات؟ أو تقيد والتزام وارتباط؟
لعل
أول مفتاح لهذا النص السردي هو تلك العدائية البارزة تجاه المتلقي من خلال
جرأة اللغة في الاهتمام بالطابو والمحرم وتعرية الواقع من الداخل. ولكن ما
موقف السارد من هذا النص؟ وهل لهذا النص مرجعية سياقية ما؟
يقول –وغاشها؟
يسمي فيها أهلا منها الغاشي ويستثنيها فتعبس فتهب عصفة قلبي تلولبه فيضيع عنه التوازن فيعتر.
-حاشاك سيدتي، الغاشي هم من تجمعهم حلقة خليفة المداح وتفرقهم صفارة البرجي البوليسي.
-الأول صفحة من كتابي المحظور، والثاني سلت خيوطها من عروقي، الأول والزواج اللسان والمسطرة النص: 35.
إن
نص "ذاك الحنين ينهل من سياق سيميائي يقوم على المحاسبة والمحاكمة
والتشفي، ومن هنا قد نجد السارد في مواقع متعددة من هذا النص متفرجاً أكثر
منه صانعاً للأحداث أو مشاركاً فيها. إنه يكتب من موقع القارئ لا من موقع
المبدع، فهو يحاسب النص ويشدّ عليه الخناق إلى درجة أن النص عانى من سلطة
الكاتب عليه، وما يبرر هذا هو حرص السارد على أن ينتج نصا نثرياً من موقع
القارئ أكثر من موقع المبدع. فهو يتخير مواقف تخدم خطأ سردياً خاصاً، ومن
هنا نجد أن البنية داخل النص قد تقفز وقد تتعثر، وقد تنساب في سهولة ويسر.
ومع
ذلك ما خصوصية هذا النص؟ ولماذا نقف عنده؟ وهل ما زال الروائي السائح
قادراً على إنتاج تجارب سردية جديدة؟ ثم ما الاستراتيجية التي انطلق منها
لكتابة هذا النص؟
إن
"ذاك الحنين" تجربة سردية تقاوم اللغة باللغة من أجل اللغة، إنها تسعى إلى
أن تؤسس خطاباً مميزاً يعتمد على التجديد في الكتابة الروائية، ولهذا كان
من الضروري علينا أن نقدم قراءة لهذا النص المتميز وفق رؤية نقدية معاصرة
بأدوات إجرائية تمكننا من فك شفرات النص، وتجعلنا نساهم في إبداعه من جديد.
وانطلاقاً
مما سبق وجدنا أنه من الضروري أن نبدأ بالحديث عن البنية اللغوية، فهي
عماد هذا النص، وفيها تتجلى ملامح التجديد. فيها غامر الروائي صوب تجربة
جديدة. إن هذا النص نص يتحدى القارئ بعلائق اسنادية تجمع بين مستويات لغوية
متعددة، ويعتمد على مرجعيات سيميائية كثيرة.
وكان
من الواجب علينا أن نهتم بهذا المستوى الجمالي، لأن الكتابة الروائية في
الأساس تجربة في الكتابة، إنها ولادة نصية تتصارع مع اللغة، لأن المبدع في
تحد صارخ مع اللغة، ويبدو أن السائح الحبيب عانى الأمرين من ويل لغة تتحدى
الصعاب، وتتحداه هو أيضاً، وكان لزاماً عليه أن يخوض التجربة وكله إرادة في
قهر شوكة هذه اللغة، وكان لزاماً عليه أن يعتقد في انتصاره عليها.
بنية النص اللغوية:
لقد
استطاع السايح الحبيب بناء النص بناءً خاصاً مزج فيه بين الفصيح والعامي
في تدرج لافت للنظر، حيث تتموج اللغة وتسبح في هذه الثنائية في تناسق
وانسجام ويكشف على أن المبدع قد واجه اللغة وأراد أن ينتج نصاً تعلن فيه
اللغة طواعيتها على الرغم منها، وبذلك استطاع الروائي أن يمارس لعبته
المفضلة على القارئ بسلطة النص المعاند والذي لا يسلمك نفسه بسهولة، إنه نص
يقاوم القارئ ويهاجمه ولا يهادن. وقد يشعر المقترب من النص بقدرته على
الممانعة والعصيان إلى درجة النفور، وما إن يصل إلى هذا الحد يدعوك من جديد
في تحد صارخ.
إن
البنية اللغوية لهذا النص تتأسس على أساس كتابة نص يكون به السائح أو لا
يكون، وأعتقد جازماً أنه استطاع إلى حد بعيد أن ينجح في مسعاه من دون أن
يمكنك من الوصول إلى مفاتيح هذا النص، فهو يأبى ويتمنع ويقاوم مقاومة
الفتاة العازب لفعل الاغتصاب، وعليك أن تتودد إليه وتقترب منه وتشعر
بأنفاسه وبخلجاته، تتمنع وهي الراغبة باستعمال النص للغة وسطى تتأرجح بين
لغة الخاصة ولغة العامة تعكس في مستوى لغوي مقصود. نقرأ في الصفحة 53 هنا
كانت القشدة وكانت اللعب والدمى المتحركة، وكان المساء وكان الزوال وكانت
العطلة وكان الفرح، وهنا كانت صبايا جيل الستين، بعد عشر سنين، ينساق إلى
الحزن تباعاً، إلى الغربة، إلى قفر القلب، إلى تعاسة الروح، يكرع من نبع
الإهانة، ويقتات من مغمس الغصة، شباب كانوا يعشقون، أو يهجرون، أو يعلقون
حبالاً، وصبايا كن يعشقن أو يشربن الجافيل، وكان كل شيء مجللاً بقدسية
الشرف حتى الخطبة، ثم ينتقل إلى مستوى آخر من دون أن نشعر بذلك، إلا بعد
حين يواصل "ويوم الطعن كروم العوام يا حضار في الظهر بالخنجر الغدار تغيرت
حال البلاد وراح السهب يسفي القبلي والغبار، صارت الرجولية والجلال
للذكريات وعاد العشق هجرة الزواج منتهى الجنون بعد الثلاثين، وبقي للشرف
هامش في حاشية سرد المحنة لا يستوعب فصلاً منها كيما تنسى.."(النص: 53).
وهكذا
يعرض النص نفسه بلغة وسطى عزيزة النفس سهلة ممتنعة، وهي لغة تكشف عن
عذابات المبدع ومعاناته مع هذا النص إنه ولادة ثانية صعب أن يعاد مرتين،
وقد يكون قد استنفد طاقة المبدع وأتى عليها، وإلا كيف نفسر هذه السهولة
الممتعة، لقد استعصى النص حتى على المبدع نفسه، حيث يبدو السائح في صراع
مستمر معه، ولهذا تدرج معه بين لغة فصيحة ولغة عامية لعله يستطيع مراوغته
والإنزياح به، ومع ذلك فقد انتصر النص ليبقي المبدع وحيداً، فقد تخلص من
سجن الفنان، وانفلت بعيداً أنا ذاهب، أنت راحل، دمرتنا حماقات البشر"
(النص: 146) هكذا يتودعان، وهكذا يفترقان.
أمدت
العامية، الممزوجة بفواصل مسجوعة، النص بجمالية خاصة تعتمد على الإيقاع
الموسيقى في رسم طقوس فنية قد تقترب من عالم الأسطورة والخرافة، وتنهل من
المظهر الاحتفالي للحلقة التي تعقد في الأسواق الشعبية كانت الفرجة أيام
العز بإحضار، وكان الإنسان يروض الجن والحيوان، سبحان خالقي الجبار، ولما
صار الإنسان، وصارت الحكمة للفجار والبلاد معرة للأخيار وتصالحت البومة مع
العقاب، وتسالم الضبع مع الحمار، جاء القبلي ورفع ظل الخضرة غيبها في
القفار.. النص 87.
إن
كل لفظة من هذا المقتطف تحمل دلالة مكثفة محملة بإيحاءات تعكس حاضر
الجزائر، وقد وظف لذلك نصاً يعتمد على بنية النص الشعبي من دون أن يكون منه
ونحن إذ نشير إلى هذه الجمالية، فإننا في الواقع لا نريد أن نجتر ذلك
الحديث حول العامية في النص الفصيح، لكننا نرغب في أن نكشف عن مدى قدرة
المبدع في استثمار القدرات الإيحائية لبنية النص الشعبي، والتي قد تساعد
القارئ على إنتاج النص من جديد خاصة إذا وفق المبدع في الوصول إلى الانسجام
بين البنيتين (الفصيحة والعامية) كما وقع في هذا المقطع حيث يقول قبله"..
ولكن السائق أوضح أن عدداً منهم قد رحل قبل اليوم غير منتظر دوره في سيرك
عمار، وعالج محول السرعة في عصبية. كانت الفرجة.. (النص: 87).
وتقوم
هذه البنية من موقع آخر على تناقض فادح ساعد كثيراً على انكسار السرد من
خلال تلك التموجات والانحدارات والتمفصلات المتعددة المبنية على عدد من
الفصول (18 فصلاً) فإلى أي مدى استطاعت هذه الجزئيات أن ترمم ذات المبدع
المتصدعة والمتشظية؟ وإلى أي حد استطاعت أن تملأ ذلك الفراغ؟ أو أن تسود
ذلك البياض؟
إن
الوقوف عند بنية عناوين جزئيات هذا النص السردي يكشف لنا عن البعد
السيميائي الذي رسمه هذا الفنان. إنه ينطلق من الخواء من الخراب من اللاشيء
ليرسم لا شيء فليس هناك وجود وليس هناك عدم وليس هناك بداية وليس هناك
نهاية إنه الدمار، إنه السراب، إنه التبدد، إنه الضياع، إنه الإبداع
الجديد.
وتقوم
بنية هذا النص في مقام آخر على تنويع في استعمال الجمل الإسمية والفعلية
حتى في عناوين الفصول، حيث جاء أغلبها في صيغة اسمية وهي تفيد الثبات وعدم
الحركة وكأنها تريد أن تقاوم. وهي على التوالي: (أي قادر على قهر الدهر،
أنت أم الحجر – ريق الفجر من عسل الجنة- الشتاء يفقد ذاكرته- واليوم من
أمسه في غده آيل إلى الحسرة- احتراق ظل لفاجعة أحزانه- امرأة من عناد
ومرمر- العرابة تحمل قلب أم تموت أيضاً- يوم من أيام الرب الكريم- زمن
العشق يعمر الفراش- الخنجر والبولالة، القمبري وقرقابو – نخب لديار المحنة-
تلك صحراؤك، وذا الهذيان لا مفر) فقد أخذت صيغة الجملة الاسمية لتشير
لتوقف الحركة. في حين نجد أن بقية الفصول قد جاءت بصيغة جملة فعلية لتعبر
عن الحركة والتحول والتبدل والتغير وعدم الاستقرار على حال، وهي على
التوالي (أبغي أن أجن كيما أقترب منك – إني أنكوي بصقيع الفرقة والوحشة –
قطعت الشجرة كبرت المقبرة وغادرت الشحارير- افتقدت الأعشاش لقاقيها ورحلت
مادلين- غابت مادلين. أبداً) دالة على الفعل والحدث في حال متحركة. وقد
نعلل هذا التباين بين الصيغتين إلى أن المبدع كان متلقياً أكثر منه مرسلاً،
إنه كما ذكرنا سابقاً قدم العمل من وجهة نظر المتلقي أكثر من كونه مبدعاً.
ولهذا لم يكن متضامناً مع نصه فحاسبه حساباً عسيراً، وكأنه أراد أن يدفع
دفعاً إلى المشاركة في إبداع النص، لأنه وقف في موقعه.
إن
هذه بنية النص اللغوية تحفز القارئ إلى ولوج عالم النص، ولكنها، في الوقت
ذاته، تكشف له عن علاقات اسنادية، ربما لم يألفها من قبل، هي بمثابة
مستويات فكرية ناضجة أسست هذه البنية، وهي بنية تنحرف وتنزاح إلى درجة
القلب والارتياب والشك. وهي بنية ترسم لك الشيء وما أن تحاول القبض عليه
ينساب من بين أصابعك من دون شعور منك، وقد تحتاج إلى معاودة القراءة حتى
ترمم تلك البنية من جديد، ففي الصفحة (33) فصل "أبغي أن أجن كيما أقترب
منك" يبدأ في آخر أيام سموم أغسطس كانوا بين السحر وبين الفجر من بلاد
البسباس، ومن دخلة الولي رقب البلاد فظهر لـه أنثى تفترش صمتها.. "فيواصل
في نظم البنية ويشدّك إليه وتعتقد أنه سيقدم لك شيئاً ولا تنتبه وإلاّ
والفصل قد انتهى إلى لا شيء بقوله كانت الشوارع فارغة متعبة ورذاذ من المطر
يبلل الإسفلت تنكسر عليه الأنوار عند زاوية زنقة وأخرى، وقطط هنا وهناك
تتهارش في القمامة (النص 41) هكذا يمارس السايح غوايته بتفنن وخبث ومكر
ليقطع الحبل متى شاء ويردنا إلى نقطة الصفر. إنها بنية لغوية جديدة تؤسس
لخطاب روائي جديد. لقد عانى هذا النص من سلطة اللغة ومن سلطة القراءة قراءة
المبدع نفسه له، ومن سلطة الكاتب نفسه أيضاً. وعلى الرغم من هذا الاقرار
قد نجد صعوبة، في الأخير، في تحديد تموقع السايح بالنسبة إلى نصه، فهل هو
مجرد قارئ ممتاز للنص؟
ويأخذ
فصل (الخنجر والبولالة، القمبري والقرقابو) بنية لغوية قد تنفرد عن البنية
الكلية للنص، وإن كان من الصعب أن تفصل عن النص. أقول إن السايح كان
كريماً مع هذا الفصل الوحيد الذي نشعر فيه بإنسيابية اللغة المفعمة
بسيميائية "الديوان- قرقابو" لقد عاد السايح إلى طفولته إلى ذكريات يحن
إليها.
ويكاد
هذا الفصل يختص في توظيف تقنية الوصف كعنصر من عناصر البنية اللغوية، وقد
أبدع الرجل في نقل المظهر الاحتفالي بدقة متناهية، وبقدرة تصويرية نابعة من
معرفة بأصول هذا الخطاب المتميز، والذي يمتزج فيه الأسطوري بالخيالي
بالصوفي بالديني بالواقعي، ويكون بذلك قد استثمر هذا المظهر كلياً.
ومن
جمالية هذا الفصل أنه يصعب أن نستشهد بجزء ونترك باقي الصورة مشوهة ومع
ذلك نقتطف ما يلي ".. ودار دورة طاعة واستسماح في الرحبة خافضاً الرأس،
محنياً الظهر على نغم العزف الذي تبدل إيقاعه آخذاً البدايات التي تعطي
حركة صدره ورجليه الوزن الموافق لحركة يديه صاعدتين من حدود فخذيه إلى
مستوى بطنه فتلتمع الشفرتان.." (النص 131) هكذا يصف لنا الروائي هذا المشهد
وهو متمكن من لغته متصرف فيها حتى يشعر القارئ وكأن هذا المظهر الاحتفالي
قائم أمامه.
ومن
العناصر المؤسسة لبنية هذا النص اللغوية اعتمادها على التنويع في الضمائر
فلم يوظف السايح صيغة واحدة، بل استعمل المتكلم والمخاطب والغائب مما أعطى
بعداً آخر وجعله نصاً منفتحاً على تعدد القراءة، خاصة وأنه لم يستعمل
حواراً بالمفهوم الكلاسيكي بل نجد أن الحوار مضمن داخل بنية النص، فهو
موجود وغير موجود. "يديك طرية ورطبة للحنة كما يد واحدة من بلاد التفاح،
تعرف بلاد التفاح؟ ماها مشتت وزيتها مشرمل. لم يعلق وسحبها مصطنعاً
اغتياظاً باحثاً عن الرد، ولكن بالغرايب كان مد ساقه المعوقة فارتمت قدمه
كأنها ليست مفصلا منها – عمرك ما نترت الحلفا.." (النص: 49) لقد اندمج
الحوار داخل بنية النص ولم يعد العنصر القائم بذاته والذي تفرد له مساحة
خاصة في بناء النص السردي، فهو موجود ههنا بحسب ما يخدم بنية النص عموماً،
وليؤسس جمالية النص التجديدية.
ومن
جمالية "ذاك الحنين" اللغوية سيطرة بعض المفاهيم على النص حتى غدت سمة
مميزة، من ذلك مفهوم الخمر، فهو هاجس مسيطر على الكاتب لا يكاد ينفلت منه.
قد يكون السايح قد تعامل معه في سياق سوسيو- ثقافي، فهو يمثل الانحدار
والانحطاط والسقوط، والهروب من الواقع، إنه لعنة هذا الواقع، جاء فعل الخمر
ليؤكد على الشاذ والناشز والمسكوت عنه. وفي موقع كان التوظيف للكشف عن قيم
حضارية" .. مثل أمرين إلى الغرفة فرشت بزريبة حمراء على أطرافها طولا
وعرضا أفرشة صوفية عليها مخدات ومساند صوفية بيضاء وشهباء وقهوية، وفي
وسطها مائدة دائرية مرفلة بسماط أبيض مطرز مغشى بقطعة نيلون شفافة عليها
كؤوس وبيرة ونبيذ وصحون فخارية صغيرة فيها الكاكاو واللوز والجبن والزيتون
والبصل وطفاية وعلبة دخان أمريكي وقداحة.." (النص: 94-95) فالخمر جاءت وسط
ديكور عام يصف مشهد حمو القط مع شلته في حضرة حسنية الشهرية. وقلما تخلو
جلسة من جلسات هذا النص من حضور الخمر فيها (.. وبكأس نبيذ فشرب ص94)
(طالباً إلى الجميع رفع نخب على صحة الصديق، وإذا هموا بالجلوس وفي أيديهم
الكؤوس عانقهم حمو القط. بقية من رغوة البيرة عالقة شاربه..ص5) ولعل الكاتب
كان يرمي إلى تعرية هذا المجتمع من الداخل بالوقوف عند لحظات التقاء الوعي
مع اللاوعي حيث تمتزج اللذة والرغبة مع العقل والحكمة، ويتوحد الممنوع مع
المرغوب فيه مع واقعنا المعيش.
جمالية الزمن:
إنه
من الصعب القبض على زمن هذا النص، لأن الزمن قد انزاح كون لنفسه جمالية
تقوم على تداخل أزمنة وتقاطعها، فالزمن لم يعد زمناً واحداً، إنه مجموعة من
الأزمنة تشكل جمالية خاصة تؤسس بنية النص السردية. فقد لعب الزمن في هذا
النص السردي دوراً مهما ضمن الحاضر والماضي والمستقبل، وبذلك يحدد الإطار
الخاص للنص بكل مستوياته بحسب تواليها، وبكل أنواع الزمن الخارجية
والداخلية والطبيعية، وقد ساعد الزمن كثيراً المبدع في نقل الأحداث إلى
القارئ وفق تسلسل زمني وفقاً لمسارات فنية، فيصبح الوقت الذي تستغرقه القصة
أو الرواية، كأنه اختصار للوقت الذي استغرقته المغامرة (ينظر ميشال
بوتور.. بحوث في الرواية الجديدة 12 تر: فريد أنطونيوس).
ومن
جمالية الزمن ها هنا أن السايح اعتمد كثيراً على الذاكرة في العودة إلى
الوراء، وخاصة في فصل الخنجر والبولالة، والقمبري والقرقابو". كما اعتمد
على ذاكرة الشخصيات في ذلك التقابل بين زمنين متعاكسين كذلك كان بوحباكة،
لما أراد أن يدمج شيئاً عن تاريخ البلاد يتحرق حنيناً إلى زمن جميل، لم
يسعفه التذكر إلا على أن يخط شيئاً مرضياً، كالحنين تماماً. هنا كانت
سوزان، هنا أصبحت عينونة، وهنا كان متحف، هنا أصبح حماس، هنا كان ورد يسقى
على هذه الشرفة، هنا أصبح ولد بوخنونة يعطن، ومن هذه الشرفات كان يرمي أيام
الأعياد عدس الورق، ومن الشرفات صارت ترمي القاذورات تلقى وخنز النساء في
كاغط يرمى، هنا كانت معطرة، هنا أمست مخرأة" (النص 53).
تقوم
جمالية هذا النص على أساس أنه جمع بين زمن متقدم وزمن متأخر بوساطة زمن
الإبداع الآني، وهذا التداخل هو الذي شكل بؤرة النص. ذلك أن الآن هي اللحظة
التي تفصل بين "المتقدم والمتأخر في الزمن.. وتربط بينهما" (يمنى العيد في
معرفة النص 12 دار الآفاق الجديدة).
إن
الزمن في هذا النص يعتمد على زمن الحنين والتذكر، وعلى زمن التشفي وتعرية
الواقع من الداخل، إنه زمن جاء ليرمم الذاكرة الجماعية، وفي الواقع
اللازمن، ولهذا اجتهد المؤلف في تدميره، فلم يعد هناك زمن، إنه مخرب مدمر،
إنه الخواء، إنه اللاشيء، يقول عن تلك الساعة العجيبة الغريبة المعطلة عن
الدوران، والمحملة بالكثير من الدلالات".. وقد بنى عليها اللقلاق البرهوش
عشه قبل أن يختفي مخلفاً زقه الأبيض السائل لاصقاً بالأردواز، متوقفاً عند
حدود أعلى الساعة الجدارية الوسطى في برج الواجهة ناحية الجنوب بين اثنين
آخرين، المتوقفة في الرابعة بعد الزوال كما قدر بوحباكة، المتأخرة عن
الثانية جهة الشرق بساعة وأربعين دقيقة أو متقدمة عليها بعشر ساعات وعشرين
دقيقة، والمتأخرة عن الثالثة جهة الغرب بساعتين وتسع وعشرين دقيقة أو
المتقدمة عليها بتسع ساعات وإحدى وثلاثين دقيقة، توقفت جميعها يوم توقف
الزمان في البلاد، وانكسر زجاجها وتهرشم إطارها واندثرت أرقامها واسودت
دوائرها.. "(النص: 78).
إن
الزمن ها هنا زمن الضياع، زمن الخراب، لأن آلة الزمن معطلة، وحتى المزولة
قد دُمرت، وهكذا يسعى السائح إلى تدمير كل ما يدل على الزمن وكل ما يشير
إليه ".. ولا تزال ساعته تتأخر عن الساعة الحقيقية بسبع وثلاثين ثانية، ما
دامت الساعة الحقيقية هي التي تحددها الشمس على المزولة، لأنها لا تملك
الديمومة الثابتة، لذا فهي لا تكون حقيقية إلا إذا صححت، ولكن البلاد عزف
عن أي تصحيح يخرسه الغي ويعميه العجاج فينسى جداول الحساب ويتنازل للخراب
يبيد ذاكرة الساعة الشمسية.. "(النص 86).
ولا
يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه لما يوظف الزمن التاريخي بكل حمولته
وسيميائيته. يقول: "كان ينقش يباب ذاكرة المزولة المعروضة للتشرذم وشما في
ذاكرة زمنه" ثم يقدم نصاً بلغة فرنسية، ويترجمه إلى اللغة العربية بما
نصه.. "هذه الساعة الشمسية الدقيقة أقامها السيد الفلكي كرافت الماكير
قبطان الجنود الفرنساويين برأي الحكيم ريم، شيخ البلد.. بناها عساكر
لاليجون النازلون بسعيدة بفضل وإعانة الحكام وضابط الجنود. سعيدة شهر رمضان
إلى شهر ذوالحجة سنة 1353 الهجرية واحتار في أمر اختلاف التاريخين ثم
أرجعه إلى أن الرقم الهندي أخطأ زمنه بحوالي ستة قرون، مسافة الميلاد
والهجرة، ووطن نفسه على أن كل شيء حساب (جاعل الليل سكناً والشمس والقمر
حسباناً) يخجله أن لم يعد قادراً على تحديد الزمن الذي صارت فيه المزولة
شيئاً من الأشياء العادية.." (النص: 83-84) لقد أصبح الزمن ها هنا زمناً
مفتوحاً لا يمكن حدّه بحد، فالحد هو اللاحد، والنهاية هي اللانهاية، والزمن
هو غير الزمن. والنقل بصوت آخر إن الزمن في "ذاك الحنين" هو زمن السرد ولا
شيء غيره، ولعل هذا ما حرص المبدع على التأكيد عليه حتى يضمن للنص انفتاحا
انفتاح الزمن من خلال مبدأ التتابع والتوالي والتعاقب والاستمرارية. لقد
أسس السائح نصه على جمالية تعتمد على الزمن حيث خص إحدى صفحات استهلال النص
بـ "قراءة المزولة – [هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدّرناه منازل
عدد السنين والحساب] – Fais comme moi Ne compte que – les heures
ensoleillees [جاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً] الساعة الحقيقية
هي التي تسيرها الساعة الشمسية. هكذا يركز المبدع على عنصر الزمن الفعلي
الذي يرى الإنسان فيه النور، نور كل شيء، نور الحقيقة، ويكون الزمن فيه
زمناً نيراً، وليس زمن ظلامياً.
وكان
لا بد على المبدع، حتى يؤسس هذه الجمالية، أن يجعل الزمن ارتدادياً يقبع
في ذكريات المحاسبة والمحاكمة لأوضاع المجتمع المبنية على التناقض
والمفارقة والتمايز. وأعتقد أن الزمن قد تحكم في التحركات السردية للنص.
بنية الشخصية:
تتحدد
معالم الشخصية في هذا النص السردي من بنية النص الروائي الجديد وهي شخصية
ليست لها معالم محددة، إنها تختلف كلياً عن تلك الشخصية الكلاسيكية التي
مجدتها الرواية التقليدية. فالشخصية ها هنا لا ماضي لها ولا حاضر ولا
مستقبل، وإنما هي بحسب ما يخدم بنية السرد، وبحسب ما يقتضيه الموقف. فعلجية
ولا لا حبارة وسعدية ويسمينة وبوحباكة ومالحة.. وغيرها من شخصيات هذا
العمل شخصيات من الكرطون، شخصيات ورقية موظفة في النص توظيفاً جمالياً لا
يمدنا إلا بما هو ضروري لخدمة خط الحكي. وقد سعى المبدع إلى طمس الشخصية
والقضاء على معالمها المميزة ويلتقي هذا المسعى مع ما ذهبت إليه نطالي
ساروت إن الشخصية فقدت شيئاً فشيئاً كل شيء، أجدادها، وبيتها المبني بعناية
والخاص بالأشياء المختلفة، من قبو البيت إلى مستودع الحبوب مروراً بأدوات
الزينة الدقيقة، فقدت أملاكها، شهادات استثمارها، وثيابها، وجسدها، ووجهها،
وبخاصة فقدت ذلك الشيء الثمين الذي تتميز به: طبعها الخاص، وحتى اسمها
(Nathalie Sarraute L,ere du soupcon Edition Galimard 1950 p. p 71/72)،
فالشخصيات من دون أسماء لها ألقاب فقط كحمو القط بلا اسم، واسمي يانورة
اللوز عند نهاية الشتاء، يطل الربيع ينتظره القبلي، تحت نوارات اللوز، بلا
مدينة أنا وقلبي المدينة لبلاد يبكيه قلبه، بلا أهل بين نشرهم الأهل وأنا
الغريب، أنا ذاكرة الشجر والحجر تذكاري.. (النص 98) هكذا كان حمو القط
كائناً حياً يقوم بدور سردي داخل هذا النص. كائناً حياً ينهض في العمل
السردي بوظيفة الشخصية دون أن يكونه (عبد المالك مرتاض تحليل الخطاب السردي
126).
ومن
اللافت للانتباه كثرة الشخصيات الموظفة في هذا النص السردي، حتى أن القارئ
يجد صعوبة في تتبعها وتذكرها، لقد اقتربت هذه الشخصية من الشخصية المفهوم
التي وقفنا عليها عند عبد المالك مرتاض في الخنازير وصوت الكهف، فليس هناك
شخصية يمكن الوقوف على معالمها. وكل ما نجده هو عبارة عن تقاطعات لمفاهيم
إنسانية تتجسد في أفعال ومواقف. يقف بوحباكة معلناً عن وجود سلبي مقهور
يصور اخفاقات المؤلف نفسه، والذي يقرأ النص يشعر بـ "بوحباكة حاضراً وإن لم
يذكر اسماً أو صفة. وفي الواقع لا يحمل اسماً إنه يحمل صفة، أو لنقل يعيش
وضعاً لا يخصه بل يخص كل من مر بمثل حاله. إن بوحباكة قد يتجسد في أي إنسان
وقد لا يتجسد، إنه موجود وغير موجود في الوقت ذاته. وما حمله لهذا الاسم
إلا على سبيل التمييز والترميز له. ذلك أن الشخصية تكون بمثابة دال من حيث
أنها تتخذ عدة أسماء أو صفات تلخص هويتها (حميد لحميداني بنية النص السردي
من منظور النقد الأدبي 160- المركز الثقافي العربي بيروت – الدار البيضاء).
فقد
كان "مالحة" دالاً من نوع خاص فهو، إن كان ذكراً، فقد صبغ عليه المؤلف
صفات الأنوثة بكل ما تحمل هذه الكلمة من شحنات، فاسمه "صفته" مؤنث، وقد فقد
ذكورته، غير قادر على الحركة والمناورة حتى وإن كانت لديه إرادة، فهي
إرادة غير فاعلة كان مالحة أسر إليه والعجز حزن يدمر فيه ما تبقى في صدره
الصغير من حلم مجهض أن برارج الساكن في أعلى الكنيسة إلى يساره خلال عودته
مساء الربيع وهو يلقلق بعد أن استقر في أعشاشه ينكده برشاقته.. (النص: 80).
ولعل
من جمالية هذا النص أن المبدع قد قدم النص من نظر القارئ، فإنه لا يترك
شخصياته حيث يتموقع مع كل نقلة من النقلات السردية، حيث لا يكون واصفاً فقط
وإنما نشعر أنه داخل السرد مشاركاً فيه، كما حصل في الصفحة 101 لم تكن
تستطيع أن ترى ما يجري ولا أن تتبين باب الغرفة لأن ميمونة كانت استقامت
خارج الباب تبحث بعينيها المدورتين عن شيء ما في عيني الفتاة وفي وجهها بعد
أن كشفت عنه إذا فتحت تنقيبة، وحركات جسمها النحيف ترسم دائرة في وقوفها
على بابها في وقت تستقبل فيه زبائن، وسألتها بصوت فقد أية رخاوة إن كان ثمة
أحد سيلحق بها..
هكذا
نجد السائح الحبيب يصف لنا هذه الشخصيات وكأنه يرى المشهد أمامه، ويقف
لتعريته من الداخل، وفي الإطار نفسه يرسم صورة قاتمة للمرأة يجعلها في وضع
محتمل، وكأنه أراد أن يقول ماذا لو كانت المرأة لذة ومتعة، ماذا لو لم تكن
إنساناً؟ ماذا لو كانت شيئاً عادياً بالنسبة للرجل، كأثاث البيت. لقد قدم
المرأة في صورة تجمع بين السلبية والقهر والانهزام، قدم المرأة في ذلك
الحيز المظلم والذي نتحاشى الوقوف عنده. ولم يكن هذا التوظيف لغرض الإثارة
الجنسية لدى القارئ، بل إنه قدم صورة للمرأة لا نتبين الغرض منها إلا بعد
الانتهاء من قراءة النص. إن الوقوف عند المرأة في مظهرها السلبي، المرأة
السافلة، الساقطة، المرأة اللذة، له ما يبرره فنياً. ذلك أن السائح الحبيب
كان يريد أن نشعر بالتقزز والاشمئزاز من وضع المرأة الذي كان الرجل سبباً
فيه، وكذا الواقع المعيش المبني على علاقات فاسدة غير متكافئة وغير عادلة،
ماذا لو كانت المرأة كما وظفها هذا المبدع، ماذا لو كانت المرأة لذة ومتعة؟
وماذا لو كانت مستعدة لأن تنفق كل ما عندها مما خلفه لها زوجها من ذهب
ومال دفعة واحدة كي ترحل في سره ناعمة بفحولته، حتى إذا لم تعد إيحاءاتها
ولا تصاريحها نافعة، وهو يردها، ويهددها بميمونة لطردها، ارتمت في أحضانه
ففتح ذراعيه يكاد يسقط لولا الجدار وراءه، يصفها بالمجنونة قبل أن يستوي،
كأن لم يسبق له أن شرب، حافرا بنظراته القاسية، بينه وبينها خندقاً لا
تتجاوزه، وقد أمسكها بيديه المتشنجتين من ذراعيها يهزها ويقطر في أذنها أن
ميمونة أهون عليه من لمس عيال رجل يموت، فغشيتها رائحة الجيفة فوعوعت وجرت
نحو الكانيف (النص 105).
وتتضح
هذه الصورة أكثر فأكثر في فصل "أبغي أن أجن كيما أقترب منك "حيث موقف حاد
من المرأة، لأنه يقوم بالكشف عن قضايا يتقزز منها المرء، إنه يركز على
الجانب الفظيع في المرأة، فهو يقدمها في صورة هامشية مخبأة في عالم
المحرمات والطابو، وهو لا يتعامل معها إلا في هذا الجانب المظلم، جانب
الهامش من الحياة، فهل أن الهامشي هو المتن، هو الأصل، هو الصح، إنه يلجأ
إلى هذا العالم كي ما يعري الواقع، وينتقم منه من خلال الوقوف عند مجموعة
من النساء في أوضاع متقاربة، وكأن النساء أصبحن امرأة واحدة. إن السائح
يتخير من وضع المرأة ما يخدم استراتيجيته الفنية التي تؤكد على الأوضاع
السلبية في مجتمعنا، وقد استثمر لذلك النص الشعبي بكل ما يحمل من سمات
دلالية، وقد وظف لذلك شخصية خليفة المداح وهي شخصية قد تكون أسطورية لها
دور فعال في أحداث هذا النص السردي، إذ استطاعت أن تزوده بدلالات من خلال
ذلك المد المتدفق من شحنات الذاكرة الجماعية المرتبطة بالمورث الشعبي،
وتحضر هذه الشخصية لتفعل فعلها في النص، ثم تمر من دون أن نشعر بذلك، وتقدم
نفسها بلغة وسطى في حلقة السوق كان خليفة المداح مسد على شواربه وطلب
إغلاق الحلقة حتى لا يتسرب سر قصة اليتيمة في الدار الكبيرة، يا حضار، من
مقام الفجار جاءتنا الأخبار.. "(النص 38) إنه نص مكثف اعتمد على تقنية
الوصف والتشويق ليقدم صورة أخرى للمرأة في وضع يثير كثيراً من الشفقة ويكشف
عن وحشية الرجل في افتراس ضحاياه والتنكيل بهم. لقد كانت شخصية "خليفة
المداح" شخصية غربية عجيبة. واستطاع المبدع عبرها أن يمرر خطابا، ربما عجز
النص الفصيح عن حمله، وتوصيله إلى المتلقي. فحلقة خليفة المداح تجمع الناس،
في حين أن صفارة البوليسي تفرقهم "حاشاك سيدتي" الغاشي هم من تجمعهم حلقة
خليفة المداح وتفرقهم صفارة البرجي البوليسي (النص: 35).
إن
شخصية خليفة المداح شخصية من ورق، وهي غير محددة المعالم، إنها مفهوم،
إنها دور، إنها وظيفة. وإذا نحن حاولنا أن نرصدها، فإننا في الواقع لا
نستطيع أن نحدها بحدود، ولا يمكن القبض عليها، هي كبقية الشخصيات الكثيرة
في النص، والتي قد تكون سبب في إصابة القارئ بدوار إن حاولنا أن نحدد لها
معالم، أو أن نرسم لها حدوداًً. ولهذا قد تكون هذه الشخصية معادلاً
موضوعياً للمبدع نفسه، وهي تتقاطع كثيراً مع شخصيات بوحباكة. كما تسهم هذه
الشخصية في تطوير الحدث في ذلك الزخم اللغوي الممتد، وكم كان السائح موفقاً
في توظيف هذه الشخصية في كسر السرد، أو مده بشحنات تعبيرية متدفقة، جعلت
النص ينفتح على دلالات إيحائية. ثم إن التسمية نفسها "خليفة المداح" علاقة
اسنادية تحيل إلى حمولة تنهل من مرجعية (المداح أو القوال) في الأوساط
الشعبية. هذا الذي استثمر استثماراً مربحاً في المسرح الاحتفالي ومسرح
الحلقة، حيث وجد فيه بعض المبدعين طاقة تعبيرية لا يستهان بها، خاصة إذا
وظفت بعناية واهتمام، ولعل طروحات عبد القادر والطيب صديقي وعبد الكريم
برشيد مفيدة في هذا المجال.
وقد
أضفى حمر العين مسحة صوفية على النص من خلال رقصته في فصل (الخنجر
والبولالة..) في الصفحة 130 وما بعدها، حيث التقاطعات مع حبارة هذه المرأة
السحرية، والتي هي عنوان هذا العمل السردي، وإن كان المؤلف قد اختار
عنواناً آخر، والواقع أن الحنين كان لهذه الشخصية التي استطاعت أن تسمو
بالعمل السردي إلى مستوى العجائبية.. تستحضر كشف حمر العين عن صدره ودخوله
حافياً رحبة التوبة حانياً بيديه المطبقتين مقدماً الإجلال والإكبار للشيوخ
وللحضور كافريقي يؤدي الصلاة لطوطمه.." (النص: 130) ويقول بعد ذلك: "أدت
حبارة تحية التوبة إعظاماً للشيوخ محنية قليلاً إلى الأمام فانهزت العباءة
الطويلة المرصعة التي ترتديها تموجاً مطرداً متواتراً متناغماً كأنما أمواج
النشأ والترصيع الممتزجين لا تنتهي إلا لتأتي أختها إحفاء بالقوام العامر.
(النص: 133).
لقد
أمد حمر العين – حبارة هذا الفصل بجمالية خاصة تقوم على توظيف الديوان في
إضفاء مسحة تبجيلية خاصة على النص، ومكنته من التوحد والذوبان والانسجام
والتناغم الحاصل في مجلس الديوان حيث تعوض الحركة اللغة في التعبير، وتكتفي
اللغة بدور ثانوي أو مكمل للمشهد، وبذلك يرتقي السرد بتقاطعات في بداية
النص، فيتداخل الوصف والحوار، ويستمر السرد لينقطع وينكسر، ثم يرمم ذاته،
وأكاد أجزم أن السائح في هذا الفصل كان مبدعاً لأن اعتماده على شعرية
الكلمة، وقدرته على الانصهار داخل البنية التعبيرية في هذا المشهد. ومما
زاد في جمالية هاتين الشخصيتين "حمر العين – حبارة" أنها أوصاف فقط، كبقية
الشخصيات، أي أنه لا توجد هنالك شخصيات بالمفهوم الفني في الرواية
التقليدية، إنها مفهوم، إنها وظيفة ليس إلا، ولهذا لا يقدم لنا شيئاً عن
حمر العين أي من خلال رقصته، ونحن لا نعرف شيئاً عن حبارة أيضاً.
ومن
جمالية الشخصية في هذا النص، توظيفه لشخصية "الحنين" وتقف مادلين شامخة
لتشير إلى زمن ولى وتداعى ورحل إلى الأبد، مادلين سمة تحمل بعداً فكرياً،
وحالا من الحضور والغياب، حالاً من الوعي بالذات، وحالا من النسيان
والتناس، حالا من التناقض، حالا دون حال. وقد أخذت لنفسها مساحتين من
الوجود النصي. افتقدت الأعشاش لقاليقها ورحلت مادلين وغابت مادلين، أبداً
هكذا كان مصير مادلين محكوم عليها بالرحيل وبالغياب، وقد اختير لها صيغة
الماضي، مسكينة مادلين التي ارتبط وجودها في النص بالأمان والراحة، ارتبط
وجودها بالحسرة والأسف. فهل هناك من يأسف على رحيلها، رحيل فرنسا؟ هل هناك
من يحن إلى هذا الزمن المسجى "وأن لا يبقى له من مادلين غير وجد مثل نور
شمعة في مهب تيار هواء (النص:78) ولكن ما السر في مشاركة "مالحة" لـ
"مادلين" الوجود في هذا الفصل؟ قد يطرح هذا الوجود أكثر من سؤال، لأن
ثنائية الحضور والغياب تلعب دوراً منتجاً للبنية السردية، غياب اللهو
(مادلين) حضور الأنا (مالحة، حمو، القط، بلغرايب) مادلين الرحيل، مادلين
الحنين، مادلين ماض تولى.
qqq