الشخصية الإنسانية ليست شرطا:
فالشخصية الرئيسية أو البطل في القصة أو الرواية لا يشترط أن يكون
إنساناً، قد يكون الزمان، أو المكان، أو الطبيعة، أو أحد المخلوقات التي
يستصغرها الإنسان، فإذا هي تقوم بأعمال خارقة تبعث على الحيرة والتأمل في
ملكوت الخالق، ونحن عندما نتحدث عن المكان ـ مثلاً ـ كبطل لقصة ما، فإننا
لا نتحدث عن فلسفة الزمـن، ولا عن الزمن بمعناه الميكانيكي، بل باعتباره
الإطار الذي يمكن أن يستوعب مجموعة من الأحداث والشخصيات.. يتحكم في
توجيهها وفق معايير معينة ليصبح هو البطل الحقيقي في النهاية، وكذلك عندما
نتحدث عن المكان ـ مثلا ـ فنحن لا نتحدث عن ماهية المكان، ولا عن المكان
بمعناه الهندسي، بل باعتباره بعداً مادياً للواقع، أي الحيز الذي تجرى فيه
ـ لا عليه ـ الأحداث، والمساحة التي تتحرك فيها ـ لا عليها ـ الشخصيات.
بمعنى أن تأثيره يصل إلى حد التحكم في مسار تلك الأحداث والشخصيات، مع
الأخذ بعين الاعتبار أن المقصود بالزمن هنا لا علاقة له بالتاريخ، حتى لا
يلتبس علينا الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة تاريخية.. بطلها الزمن. كما
أن المقصود بالمكان هنا لا علاقة له بالأيديولوجيا، حتى لا يلتبس علينا
الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة ذات أيديولوجيا محددة.. بطلها المكان..
ويمكن اعتبار بطل قصة ( في ضوء القمر ) لجي دي موباسـان هو الزمن. بينما
يمكن اعتبار بطل رواية ( الأرض الطيبة ) لبيـرل باك هو المكان..
ثانيا- الحدث :
لم تعد القصة القصيرة تحتمل حدثاً كبيراً يحتل مساحة زمانية أو مكانية
كبيرة، بل أصبحت تكتفي بجزء من الحدث يستقطب حوله مجموعة مـن العناصر التي
تتآلف لتكون في النهاية ما نسميه بالقصة القصيرة. وهذا الحدث الجزئي، وإن
كان فيه إخبار عن شيء بذاته، لكن هذا الإخبار ينحصر في زاوية معينة،
تاركاً المجال لعناصر القصة الأخرى لتتكاتف وتتآزر، فتحقق النجاح للقصة
القصيرة، وهذا الحدث الجزئي أو الكلي قد يكون عادياً إذا جرد من العناصر
الفنية المكونة للقصة القصيرة، لكنه يكتسب هذه الصفة بمجرد وضعه في دائرة
الضوء، ليتشكل منه عمل فني يتنامى حتى يبلغ مرحلة النضج، بشكل متكافئ بين
جميع تلك العناصر الفنية، وإن طغى أحد هذه العناصر على غيره أحدث خللا في
البناء الفني للقصة، وشوه الهندسة المعمارية لهيكلها العام.
واقع وخيال
قد يكون الحدث من الواقع، وقد يكون من الخيال، لكن هذا الحدث في النهاية
يرتهن ـ وبطريقة غير مباشرة ـ بنظرة المبدع الذي حاول استقاءه من الواقع،
أو استحضاره من الخيال، معتمداً في ذلك على روافـد ثقافته العامة، بما
فيها من مخزون تراثي وتربوي وبيئي، وهذه العوامـل لا تكوِّن إبداعـه فقط،
ولكنها أيضاً تكون مجمل شخصيته كإنسان. إن تأثيرها واضـح على أعماله
الإبداعية بجميع عناصرها ومنها الحدث. فالمبدع هو الذي يملك حق إطلاق سراح
هذا الحدث، أي من مجرد فكرة.. إلى بداية لواقع معاش ولكن على الورق.
تأثير مختلف:
والحدث هي وظيفة يقوم بها فاعل معلوم أو مجهول ـ كما يريد المبدع ـ لكن
هذه الوظيفة لا يتم أداؤها دوماً بشكل يرضي الجميع، لذلك يكون التأثير
مختلفاً من حدث لآخر، أو ـ بمعنى أكثر دقة ـ من مبدع لآخر، وهذا الاختلاف
هو التنوع الذي تفرضه الحياة بكل ما فيها من خير أو شر.. من تناقض وانسجام
بين الأشياء.. من سلب وإيجاب في النتائج، من هنا يأتي هذا التنوع في
المواد التي يبنى منها الحدث، ابتداء من مادته الأولية التي يتشكل منها،
وانتهاء بتوحيد جميع مواده في شكله النهائي وإن كان مجرد جزئي، مع ملاحظة
التفريق بين الحدث والموضوع في القصة، فالحدث ليس سوى مجرد عنصر من عناصر
القصة، بينما الموضوع هو حصيلة مجموعة هذه العناصر بكاملها. وهو ـ أي
الموضوع ـ الذي يمكن أن يوصلنا إلى الهدف، وإذا كانت استنتاجاتنا صحيحة،
فإن المبدع ليس هو الذي يدلنا مباشرة على هذا الهدف، بل نحن الذين نستخلصه
بقراءتنا المتعددة للنص، وهي متعددة بتعدد المتلقين. من هنا قيل إن
القراءة هي كتابة جديدة للنص، ولكن من وجهة نظر المتلقي.
عنصر هام:
ونحن نتناول الحدث كعنصر من عناصر البناء الفني للقصة القصيرة، علينا أن
نرصد وعينا بأهمية هذا العنصر، وعلى ضوء هذا الوعي يمكننا أن نحدد أهمية
الحدث بالنسبة للعمل الإبداعي ـ القصة ـ ما دمنا نسـاهم في إعادة كتابة
النص مجدداً.
ومع أن الحدث يحتاج إلى الدلالات والإشارات التي تؤدي إلى توضيحه أو
تمييزه، بين العناصر الأخرى المكونة للقصة القصيرة.. إلا أننا لابد أن
نسـلم بأنه لا يعتمد على السرد ليأخذ شكله النهائي، والتمادي في السرد هو
من المآخذ التي يدينها النقاد في العمل القصصي، لكن توظيفه بشـكل ذكي
ومتوازن مطلوب لتحديد معالم النص الإبداعي. فالسرد عنصر مهم إذا استخدم
وفق مقاييس فنية دقيقة، كلما اقتضت الضرورة الفنية ذلك، ليس بالنسبة للحدث
فحسب، بل بالنسبة للقصة ككل.
فراغ في البناء:
وتجاهل الحدث أو تهميش دوره في القصة القصيرة، يؤدي إلى وجـود فراغ في
بناء القصة، هذا الفراغ لا يمكن أن يسد بمادة أخرى بحجة التجريب، وبحجة أن
القصة من أكثر الفنون الأدبية قابلية للتطوير، وهنا لابد أن نفرق بين
التطوير الواعي، والتجريب العشوائي، الذي يغري الكثيرين بولوج باب القصـة،
فإذا هم بعد فترة، وقد تلاشت أسماؤهم بعد أن تلاشت كتاباتهم نتيجة الفشل.
اختلاف في الطريقة
وما من حـدث إلا وله بداية ووسط ونهاية لكن هذا الحدث كما هو الحال في
بقية عناصر القصة القصيرة، يختلف في طريقة طرحه من مبدع لآخر، بحيث لا
يمكن وضع قواعد صارمة ينحصر في دائرتها من حيث طريقة الطرح، وتسيير دفته
في الاتجاه المطلوب، وهذا الاختلاف في طريقة الطرح تفرضه عوامل عديدة من
داخل النص ذاته، ووفق توجهه وأجوائه العامة، حتى لا يبدو طرحاً قسرياً أو
متناقضاً مع ما حوله. ومن أوجه ذلك إخضاع الحدث لجملة من المفاهيم
الفضفاضة التي لا يستوعبها، ومنها مفاهيم علم النفس، وعلم الاجتماع،
والفلسـفة الواقعية، والنظريات العلمية، مما هو فوق احتمال الحدث، ومما هو
فوق طاقة القصة القصيرة بصورة عامة.
( وذلك لأن القصة ليست بالدراسة العلمية التي تعتمد في مناهجها على العقل
المنطقي، بل هي فن يعرف بواسطة العلامات والرموز والأشكال. أعني الألفاظ
والجمل والأسلوب والمعاني.. الخ. عن واقع لا يضارع واقعها الكلي، ولا
علاقة للأول بالثاني، لأن واقـع القصـة متفرد، موحـد، مسـتقل بذاته، وكذلك
هو الشأن بالنسبة للوقائع الأخرى، كالأحلام والرؤيا والخيال والذكرى،
والحياة اليومية والأعمال الفنية والأدبية ) (6).
ثالثا-البيئة
لقد اتضح من حديثنا السابق عن الحدث أن هذا الحدث له بداية ووسط ونهاية،
لكن هذا الحدث لا يتحقق في الفراغ، إذ لابد له من بيئة مناسبة تساعده على
النمو، وهذه البيئة تتكون من الزمان والمكان في آن واحد، مع ملاحظة أن حجم
القصة القصيرة يستوجب بالضرورة الـمحافظة على وحدة الزمان والمكان، حتى
وإن تمـدد الزمـان أو المكان فإن ذلك يتحقق عن طريق ( المنولوج الداخلي )
دون أن تتمرد القصة القصيرة على زمانها أو مكانها، فهذا التمرد يودي بها
إلى نوع من الترهل غير المستساغ، بل والمرفوض حسب ما يعنيه تعريف القصة
القصيرة.
وعاء وبيئة:
والبيئة هي التي تحتضن الشخصيات والحدث، وتعطي المعنى للقصـة، فلا الشخصية
بمفردها ولا الحدث بمفرده يمكن أن يعطي المعنى للقصة، فكلاهما بحاجة إلى
ذلك الوعاء الذي يحتضنها وهذا الوعاء هو البيئة ـ زمانا ومكانا ـ وهنا
تتحقق الوحدة العضوية عندما تكتمل هذه العناصر التي لا يمكن تجزئتها لأنها
كونت وحدة مستقلة لها كيان ذاتي يؤدي إلى معنى دون سواه.
نقطة ارتكاز:
فالبيئة بهذا المعنى هي نقطة الارتكاز التي تتمحور حولها كـل العناصر
لتعطي القارئ المعنى، وتصل به إلى (لحظة التنوير) عندما يتضح له الهدف
الذي استطاع الوصول إليه، وعند المقارنة بين الرواية والقصة القصيرة نكتشف
أهمية البيئة (وذلك لأن الرواية تعتمد في تحقيق المعنى على التجميع، أما
القصة القصيرة فتعتمد على التركيز، والرواية تصور النهر من المنبع إلى
المصب، أما القصة القصيرة فتصور دوامة واحدة على سطح النهر، والرواية تعرض
للشخص من نشأته إلى زواجه إلى مماته، وهي تروي وتفسر حوادث حياته من حب
ومرض وصراع وفشل ونجاح، أما القصة القصيرة فتكتفي بقطـاع من هذه الحياة،
بلمحة منها، بموقف معين أو لحظة معينة، تعني شيئاً معيناً، ولذلك فهي تسلط
عليها الضوء، بحيث تنتهي بها نهاية تنير لنا هذه اللحظة) (7) وهذا لن
يتحقق إلا في بيئة تتوفر فيها كل الظروف الملائمة والمناخ المناسب لتحقيق
هذه الغاية.
تحقيق الذات:
هناك نوع من القصص القصيرة التي تفـلت مـن البيئة الـواقعية إلى بيئة
(فتنازية) يحاول فيها المبدع تحقيق ذاته في أجواء لا يستطيعها في الواقع
المعاش، فإذا هذه (الفنتازيا) بيئة يمارس فيها المبدع انطواءه، وتذمره من
الواقع، واحتجاجه على الكثير من الأوضاع القارة والسائدة في المجتمع. فهو
يسعى إلى تحقيق رغباته في بيئة لا تنطبق عليها مظاهر أو شروط الواقع
المعاش، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أنها بيئة صالحة للعمل الإبداعي، إذا
توفرت لدى المبدع إمكانيات وأدوات تمكنه من أداء مهمته الإبداعية بالشكل
والمضمون المناسبين. خاصة إذا سلمنا بأن المبدع والفنان عموماً ذو شخصية
تتمتع بحواس وإمكانيات للإدراك فريدة من نوعها، تؤدي به إلى الالتزام
بموقف لا يهتم بقبول أو رفض الآخرين له.
بناء ونسيج:
وعندما نتحدث عن بناء القصة، فإننا نعني هذه العناصر الرئيسة ـ الشخصية ـ
الحدث ـ البيئة، لكن عندما نتحدث عن نسيج القصة فإننا نعني: اللغة ـ الوصف
ـ الحوار ـ السرد، ومن هذه الأدوات يتكون النسيج العام للقصة وهي أدوات لا
تستخدم استخداماً عشوائياً، بل لابد من توظيفها لتوضيح ملامح الشخصية
وتطوير الحدث، وإبراز البيئة القصصية، لتكون هذه العناصر حاضرة أمام
المتلقي بدرجـات متساوية قدر الإمكان، ولن يتحقق ذلك، ما لم تكن الأدوات
المتاحة في نسيج القصـة مرتبطة بتلك العناصر ارتباطاً وثيقاً، فاللغة لابد
أن تكون مطابقة لمستوى الشخصية أثناء الحوار، بحيث لا يمكن إنطاق ابن
الشارع الجاهل بلغة المثقفين، فهذا الإنطاق يبدو متنافراً مع الواقع وغير
مقبول على الإطلاق، وهذا لا يعني تحبيذ العامية في هذا النطاق، بل هو
تحبيذ للغة بسيطة مفهومة من الجميع، وتكتب دون إخلال بمقومات النطق
السليم، وقواعد الكتابة الصحيحة.
وكذلك الوصف لابد أن يقتصر على ما تفرضه العناصر الأساسية للقصة، حتى لا
يطغى على هذه العناصر أو يربك إيقاع القصة المتناغم وانسجامها التام.
أما الحوار، فهو مطالب بأن يساعد على توضيح ملامح الشخصية، وجلاء الحدث،
وأي حوار لا يضيف جديداً إلى الشخصية أو الـحدث، يندرج تحت مسمى اللغو
الذي لا تحتمله القصة القصيرة.
وما ينطبق على اللغة والوصف والحوار.. ينطبق على السرد من حيث ملاءمته
لعناصر القصة، وعدم تنافره معها أو إعاقته لنموها، وقد أصبح السرد من
المآخذ التي يمكن أن تطلق على أي نص قصصي إذا نظر إليه بعين السخط التي
تبدي المساوئ دون غيرها، مع أن القصة لا تخلو من السرد دون أن يكون سمة
بارزة فيها، فالكاتب يلجأ إليه عندما تقتضي الضرورة الفنية ذلك كما أشرنا
سابقاً
انتهى ...........
فالشخصية الرئيسية أو البطل في القصة أو الرواية لا يشترط أن يكون
إنساناً، قد يكون الزمان، أو المكان، أو الطبيعة، أو أحد المخلوقات التي
يستصغرها الإنسان، فإذا هي تقوم بأعمال خارقة تبعث على الحيرة والتأمل في
ملكوت الخالق، ونحن عندما نتحدث عن المكان ـ مثلاً ـ كبطل لقصة ما، فإننا
لا نتحدث عن فلسفة الزمـن، ولا عن الزمن بمعناه الميكانيكي، بل باعتباره
الإطار الذي يمكن أن يستوعب مجموعة من الأحداث والشخصيات.. يتحكم في
توجيهها وفق معايير معينة ليصبح هو البطل الحقيقي في النهاية، وكذلك عندما
نتحدث عن المكان ـ مثلا ـ فنحن لا نتحدث عن ماهية المكان، ولا عن المكان
بمعناه الهندسي، بل باعتباره بعداً مادياً للواقع، أي الحيز الذي تجرى فيه
ـ لا عليه ـ الأحداث، والمساحة التي تتحرك فيها ـ لا عليها ـ الشخصيات.
بمعنى أن تأثيره يصل إلى حد التحكم في مسار تلك الأحداث والشخصيات، مع
الأخذ بعين الاعتبار أن المقصود بالزمن هنا لا علاقة له بالتاريخ، حتى لا
يلتبس علينا الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة تاريخية.. بطلها الزمن. كما
أن المقصود بالمكان هنا لا علاقة له بالأيديولوجيا، حتى لا يلتبس علينا
الأمر، ونظن أن كل رواية أو قصة ذات أيديولوجيا محددة.. بطلها المكان..
ويمكن اعتبار بطل قصة ( في ضوء القمر ) لجي دي موباسـان هو الزمن. بينما
يمكن اعتبار بطل رواية ( الأرض الطيبة ) لبيـرل باك هو المكان..
ثانيا- الحدث :
لم تعد القصة القصيرة تحتمل حدثاً كبيراً يحتل مساحة زمانية أو مكانية
كبيرة، بل أصبحت تكتفي بجزء من الحدث يستقطب حوله مجموعة مـن العناصر التي
تتآلف لتكون في النهاية ما نسميه بالقصة القصيرة. وهذا الحدث الجزئي، وإن
كان فيه إخبار عن شيء بذاته، لكن هذا الإخبار ينحصر في زاوية معينة،
تاركاً المجال لعناصر القصة الأخرى لتتكاتف وتتآزر، فتحقق النجاح للقصة
القصيرة، وهذا الحدث الجزئي أو الكلي قد يكون عادياً إذا جرد من العناصر
الفنية المكونة للقصة القصيرة، لكنه يكتسب هذه الصفة بمجرد وضعه في دائرة
الضوء، ليتشكل منه عمل فني يتنامى حتى يبلغ مرحلة النضج، بشكل متكافئ بين
جميع تلك العناصر الفنية، وإن طغى أحد هذه العناصر على غيره أحدث خللا في
البناء الفني للقصة، وشوه الهندسة المعمارية لهيكلها العام.
واقع وخيال
قد يكون الحدث من الواقع، وقد يكون من الخيال، لكن هذا الحدث في النهاية
يرتهن ـ وبطريقة غير مباشرة ـ بنظرة المبدع الذي حاول استقاءه من الواقع،
أو استحضاره من الخيال، معتمداً في ذلك على روافـد ثقافته العامة، بما
فيها من مخزون تراثي وتربوي وبيئي، وهذه العوامـل لا تكوِّن إبداعـه فقط،
ولكنها أيضاً تكون مجمل شخصيته كإنسان. إن تأثيرها واضـح على أعماله
الإبداعية بجميع عناصرها ومنها الحدث. فالمبدع هو الذي يملك حق إطلاق سراح
هذا الحدث، أي من مجرد فكرة.. إلى بداية لواقع معاش ولكن على الورق.
تأثير مختلف:
والحدث هي وظيفة يقوم بها فاعل معلوم أو مجهول ـ كما يريد المبدع ـ لكن
هذه الوظيفة لا يتم أداؤها دوماً بشكل يرضي الجميع، لذلك يكون التأثير
مختلفاً من حدث لآخر، أو ـ بمعنى أكثر دقة ـ من مبدع لآخر، وهذا الاختلاف
هو التنوع الذي تفرضه الحياة بكل ما فيها من خير أو شر.. من تناقض وانسجام
بين الأشياء.. من سلب وإيجاب في النتائج، من هنا يأتي هذا التنوع في
المواد التي يبنى منها الحدث، ابتداء من مادته الأولية التي يتشكل منها،
وانتهاء بتوحيد جميع مواده في شكله النهائي وإن كان مجرد جزئي، مع ملاحظة
التفريق بين الحدث والموضوع في القصة، فالحدث ليس سوى مجرد عنصر من عناصر
القصة، بينما الموضوع هو حصيلة مجموعة هذه العناصر بكاملها. وهو ـ أي
الموضوع ـ الذي يمكن أن يوصلنا إلى الهدف، وإذا كانت استنتاجاتنا صحيحة،
فإن المبدع ليس هو الذي يدلنا مباشرة على هذا الهدف، بل نحن الذين نستخلصه
بقراءتنا المتعددة للنص، وهي متعددة بتعدد المتلقين. من هنا قيل إن
القراءة هي كتابة جديدة للنص، ولكن من وجهة نظر المتلقي.
عنصر هام:
ونحن نتناول الحدث كعنصر من عناصر البناء الفني للقصة القصيرة، علينا أن
نرصد وعينا بأهمية هذا العنصر، وعلى ضوء هذا الوعي يمكننا أن نحدد أهمية
الحدث بالنسبة للعمل الإبداعي ـ القصة ـ ما دمنا نسـاهم في إعادة كتابة
النص مجدداً.
ومع أن الحدث يحتاج إلى الدلالات والإشارات التي تؤدي إلى توضيحه أو
تمييزه، بين العناصر الأخرى المكونة للقصة القصيرة.. إلا أننا لابد أن
نسـلم بأنه لا يعتمد على السرد ليأخذ شكله النهائي، والتمادي في السرد هو
من المآخذ التي يدينها النقاد في العمل القصصي، لكن توظيفه بشـكل ذكي
ومتوازن مطلوب لتحديد معالم النص الإبداعي. فالسرد عنصر مهم إذا استخدم
وفق مقاييس فنية دقيقة، كلما اقتضت الضرورة الفنية ذلك، ليس بالنسبة للحدث
فحسب، بل بالنسبة للقصة ككل.
فراغ في البناء:
وتجاهل الحدث أو تهميش دوره في القصة القصيرة، يؤدي إلى وجـود فراغ في
بناء القصة، هذا الفراغ لا يمكن أن يسد بمادة أخرى بحجة التجريب، وبحجة أن
القصة من أكثر الفنون الأدبية قابلية للتطوير، وهنا لابد أن نفرق بين
التطوير الواعي، والتجريب العشوائي، الذي يغري الكثيرين بولوج باب القصـة،
فإذا هم بعد فترة، وقد تلاشت أسماؤهم بعد أن تلاشت كتاباتهم نتيجة الفشل.
اختلاف في الطريقة
وما من حـدث إلا وله بداية ووسط ونهاية لكن هذا الحدث كما هو الحال في
بقية عناصر القصة القصيرة، يختلف في طريقة طرحه من مبدع لآخر، بحيث لا
يمكن وضع قواعد صارمة ينحصر في دائرتها من حيث طريقة الطرح، وتسيير دفته
في الاتجاه المطلوب، وهذا الاختلاف في طريقة الطرح تفرضه عوامل عديدة من
داخل النص ذاته، ووفق توجهه وأجوائه العامة، حتى لا يبدو طرحاً قسرياً أو
متناقضاً مع ما حوله. ومن أوجه ذلك إخضاع الحدث لجملة من المفاهيم
الفضفاضة التي لا يستوعبها، ومنها مفاهيم علم النفس، وعلم الاجتماع،
والفلسـفة الواقعية، والنظريات العلمية، مما هو فوق احتمال الحدث، ومما هو
فوق طاقة القصة القصيرة بصورة عامة.
( وذلك لأن القصة ليست بالدراسة العلمية التي تعتمد في مناهجها على العقل
المنطقي، بل هي فن يعرف بواسطة العلامات والرموز والأشكال. أعني الألفاظ
والجمل والأسلوب والمعاني.. الخ. عن واقع لا يضارع واقعها الكلي، ولا
علاقة للأول بالثاني، لأن واقـع القصـة متفرد، موحـد، مسـتقل بذاته، وكذلك
هو الشأن بالنسبة للوقائع الأخرى، كالأحلام والرؤيا والخيال والذكرى،
والحياة اليومية والأعمال الفنية والأدبية ) (6).
ثالثا-البيئة
لقد اتضح من حديثنا السابق عن الحدث أن هذا الحدث له بداية ووسط ونهاية،
لكن هذا الحدث لا يتحقق في الفراغ، إذ لابد له من بيئة مناسبة تساعده على
النمو، وهذه البيئة تتكون من الزمان والمكان في آن واحد، مع ملاحظة أن حجم
القصة القصيرة يستوجب بالضرورة الـمحافظة على وحدة الزمان والمكان، حتى
وإن تمـدد الزمـان أو المكان فإن ذلك يتحقق عن طريق ( المنولوج الداخلي )
دون أن تتمرد القصة القصيرة على زمانها أو مكانها، فهذا التمرد يودي بها
إلى نوع من الترهل غير المستساغ، بل والمرفوض حسب ما يعنيه تعريف القصة
القصيرة.
وعاء وبيئة:
والبيئة هي التي تحتضن الشخصيات والحدث، وتعطي المعنى للقصـة، فلا الشخصية
بمفردها ولا الحدث بمفرده يمكن أن يعطي المعنى للقصة، فكلاهما بحاجة إلى
ذلك الوعاء الذي يحتضنها وهذا الوعاء هو البيئة ـ زمانا ومكانا ـ وهنا
تتحقق الوحدة العضوية عندما تكتمل هذه العناصر التي لا يمكن تجزئتها لأنها
كونت وحدة مستقلة لها كيان ذاتي يؤدي إلى معنى دون سواه.
نقطة ارتكاز:
فالبيئة بهذا المعنى هي نقطة الارتكاز التي تتمحور حولها كـل العناصر
لتعطي القارئ المعنى، وتصل به إلى (لحظة التنوير) عندما يتضح له الهدف
الذي استطاع الوصول إليه، وعند المقارنة بين الرواية والقصة القصيرة نكتشف
أهمية البيئة (وذلك لأن الرواية تعتمد في تحقيق المعنى على التجميع، أما
القصة القصيرة فتعتمد على التركيز، والرواية تصور النهر من المنبع إلى
المصب، أما القصة القصيرة فتصور دوامة واحدة على سطح النهر، والرواية تعرض
للشخص من نشأته إلى زواجه إلى مماته، وهي تروي وتفسر حوادث حياته من حب
ومرض وصراع وفشل ونجاح، أما القصة القصيرة فتكتفي بقطـاع من هذه الحياة،
بلمحة منها، بموقف معين أو لحظة معينة، تعني شيئاً معيناً، ولذلك فهي تسلط
عليها الضوء، بحيث تنتهي بها نهاية تنير لنا هذه اللحظة) (7) وهذا لن
يتحقق إلا في بيئة تتوفر فيها كل الظروف الملائمة والمناخ المناسب لتحقيق
هذه الغاية.
تحقيق الذات:
هناك نوع من القصص القصيرة التي تفـلت مـن البيئة الـواقعية إلى بيئة
(فتنازية) يحاول فيها المبدع تحقيق ذاته في أجواء لا يستطيعها في الواقع
المعاش، فإذا هذه (الفنتازيا) بيئة يمارس فيها المبدع انطواءه، وتذمره من
الواقع، واحتجاجه على الكثير من الأوضاع القارة والسائدة في المجتمع. فهو
يسعى إلى تحقيق رغباته في بيئة لا تنطبق عليها مظاهر أو شروط الواقع
المعاش، ومع ذلك لا يمكن أن ننكر أنها بيئة صالحة للعمل الإبداعي، إذا
توفرت لدى المبدع إمكانيات وأدوات تمكنه من أداء مهمته الإبداعية بالشكل
والمضمون المناسبين. خاصة إذا سلمنا بأن المبدع والفنان عموماً ذو شخصية
تتمتع بحواس وإمكانيات للإدراك فريدة من نوعها، تؤدي به إلى الالتزام
بموقف لا يهتم بقبول أو رفض الآخرين له.
بناء ونسيج:
وعندما نتحدث عن بناء القصة، فإننا نعني هذه العناصر الرئيسة ـ الشخصية ـ
الحدث ـ البيئة، لكن عندما نتحدث عن نسيج القصة فإننا نعني: اللغة ـ الوصف
ـ الحوار ـ السرد، ومن هذه الأدوات يتكون النسيج العام للقصة وهي أدوات لا
تستخدم استخداماً عشوائياً، بل لابد من توظيفها لتوضيح ملامح الشخصية
وتطوير الحدث، وإبراز البيئة القصصية، لتكون هذه العناصر حاضرة أمام
المتلقي بدرجـات متساوية قدر الإمكان، ولن يتحقق ذلك، ما لم تكن الأدوات
المتاحة في نسيج القصـة مرتبطة بتلك العناصر ارتباطاً وثيقاً، فاللغة لابد
أن تكون مطابقة لمستوى الشخصية أثناء الحوار، بحيث لا يمكن إنطاق ابن
الشارع الجاهل بلغة المثقفين، فهذا الإنطاق يبدو متنافراً مع الواقع وغير
مقبول على الإطلاق، وهذا لا يعني تحبيذ العامية في هذا النطاق، بل هو
تحبيذ للغة بسيطة مفهومة من الجميع، وتكتب دون إخلال بمقومات النطق
السليم، وقواعد الكتابة الصحيحة.
وكذلك الوصف لابد أن يقتصر على ما تفرضه العناصر الأساسية للقصة، حتى لا
يطغى على هذه العناصر أو يربك إيقاع القصة المتناغم وانسجامها التام.
أما الحوار، فهو مطالب بأن يساعد على توضيح ملامح الشخصية، وجلاء الحدث،
وأي حوار لا يضيف جديداً إلى الشخصية أو الـحدث، يندرج تحت مسمى اللغو
الذي لا تحتمله القصة القصيرة.
وما ينطبق على اللغة والوصف والحوار.. ينطبق على السرد من حيث ملاءمته
لعناصر القصة، وعدم تنافره معها أو إعاقته لنموها، وقد أصبح السرد من
المآخذ التي يمكن أن تطلق على أي نص قصصي إذا نظر إليه بعين السخط التي
تبدي المساوئ دون غيرها، مع أن القصة لا تخلو من السرد دون أن يكون سمة
بارزة فيها، فالكاتب يلجأ إليه عندما تقتضي الضرورة الفنية ذلك كما أشرنا
سابقاً
انتهى ...........