ب-التناص الأسطوري:
ويعني التناص الأسطوري استحضار الشاعر بعض الأساطير القديمة وتوظيفها في
سياقات القصيدة لتعميق رؤية معاصرة يراها الشاعر في القضية التي
يطرحها(29)
1- طائر الفينيق:
يقول محمود درويش:
" سأصير يوماً طائراً
وأسل من عدمي
وجودي. كلما احترق الجناحان
اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من الرمــاد" (30)
في غمرة شعوره باليأس وثقل وطأة فكرة الموت عليه تومض الحياة ببريقها
اللامع من جديد وينهض الأمل فيؤكد في هذا المقطع بأنه سيصر يوماً ما ما
يريد وهو هنا يريد أن يكون طائراً بكل ما يملك الطائر من حرية التجوال
والاختيار، إن الشاعر الذي يعاني صراعاً مع الموت والعدم يجد أن هذا الموت
قد يكون أحياناً باعثاً للحياة وهو يستلهم هنا أسطورة طائر الفينيق الذي
يحترق كل ليلة ويعود يبعث من الرماد طائراً مرة أخرى ويستمد درويش من هذه
الأسطورة فكرة التجدد في إشارة حافلة بدلالة الأمل والحياة والإصرار على
الوجود فيستل من عدمه وجوده ومن فنائه حياة جديدة وهذا ما منح هذا
الاستثمار بعد الخلود والديمومة فهو سيبقى قادراً على إيجاد حياة من العدم
وخلق شيء من لا شيء، ويعكس هذا التناص بوضوح عمق الجدل بين فكرة الموت
والحياة والفناء والبقاء ولكن الشاعر استطاع أن يوفق بينهما باختياره تلك
الأسطورة التي جمعت بين النقيضين.
2- ملحمة جلجامش:
بما أن نص الجدارية يحكي كما ذكر أكثر من مرة فكرة (الموت والحياة)
والصراع بينهما، ولأن محمود درويش شاعر صاحب مخيلة خصبة فقد كان لابد من
إغواء الأساطير وحضورها وهي التي نسج أغلبها تجسيداً لهذه الفكرة المقرونة
بميلاد الحياة ، يقول محمود درويش في مقطع طويل جسد فيه بشكل متواصل
ومطول تلك الأسطورة
" كم من الوقت
انقضى منذ اكتشفنا التوأمين : الوقت
والموت الطبيعي المرادف للحياة؟
ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا،
فنحن القادرين على التذكر قادرون
على التحرر، سائرون على خطى
جلجامش الخضراء من زمن إلى زمن.../
هباء كامل التكوين...
يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.
نام أنكيدو ولم ينهض. جناحي نام
ملتفاً بحفنة ريشه الطيني. آلهتي
جماد الريح في أرض الخيال. ذراعي
اليمنى عصا خشبية ، والقلب مهجور
كبئر جف فيها الماء فاتسع الصدى
الوحشي : أنكيدو! خيالي لم يعد
يكفي لأكمل رحلتي واقعياً . هات
أسلحتي ألمعها بملح الدمع ، هات
الدمع ، أنكيدو، ليبكي الميت فينا
الحي ، ما أنا؟ من ينام الآن
أنكيدو؟؟ أنا أم أنت؟"(31)
ويتابع بعد أسطر فيقول :
" لابد لي من حمل هذا اللغز ، أنكيدو، سأحمل عنك
عمرك ، ما استطعت وما استطاعت
قوتي وإرادتي أن تحملانك. فمن
أنا وحدي؟ هباء كامل التكوين .
من حولي" (32)
ويستمر بعد ذلك فيقول:
" أنكيدو ترفق بي وعد من حيث مت، لعلنا
نجد الجواب ، فمن أنا وحدي؟"(33(
ضمن محمود درويش المقطع السابق إشارات كثيرة مباشرة لملحمة جلجامش حيث وظف
سعي جلجامش خلف أسرار الحياة وعشبة الخلود في قصيدته خير توظيف ، إذ إن
هذه الأسطورة تختصر الكثير مما يود أن يوصله من معاني تشبث الإنسان بكل
طمعه وحبه الغريزي للبقاء والحياة، فقد جاب جلجامش المسافات بحثاً عن ذات
الهدف الذي يبحث عنه درويش السائر على خطى جلجامش ككل البشر ، كيف لا وقد
أدرك الإنسان ثنائية الحياة والموت المترادفتان، ولأن الخطى واحدة كانت
النتيجة واحدة وهي أن أضاع الإنسان سر الخلود وهو وهم كبير ويتلاشى في
النهاية أمام حقيقة الموت.
ويستفيض الشاعر في دمج تفاصيل هذه الأسطورة ذات العلاقة المباشرة بجوهر
الجدارية وذلك حين يعبر عن انكساره وهو المتواري خلف شخصية جلجامش حين
ينكسر أمام الغياب... الغياب الأبدي الذي سلبه صديقه أنكيدو ولم يبق ِ له
من سمات الحياة والتواصل شيئاَ فقد ذهب أنكيدو ليعانق الموت ويتركه إزاء
فلسفة الموت، ويشتبك فضاء الموت والفلسفة والأسطورة في مزيج مذهل ويتصاعد
توتر لغة النص حتى تبلغ مداها فيندفع الشاعر بأسلوب التداعي الحر على لسان
جلجامش معبراً عن حيرته تارة وعن انكساره تارة أخرى وحيناً يتلبسه
الإصرار والثبات، وفي دراسة لقصيدة أخرى لمحمود درويش أشار الدكتور محمد
بنيس إلى دلالة الموت في قصائد محمود درويش عامة، إذ غالباً ما ترتبط قضية
الموت عنده بعبور الخطر لمواجهة الموت وترتبط أيضاً بتصعيد القلق، ويرى
أن محمود درويش يذكر الموت متفاعلاً مع مواجهته حتى النهاية في ظل غياب
الله عن العالم فالشاعر وحده هو الذي يواجه الموت (34) وهذا ما نلمسه بوضوح
في هذا النص الوارد هنا من الديوان، ويستمر محمود درويش في مخاطبة صديقه
الغائب جسداً وهو يتأرجح بين الرفض والقبول لفكرة الموت معلناً في لحظة
تحدي أن يحل لغز الموت المحير، ويبدو الشاعر في هذا المقطع مفتوناً بسحر
الأساطير ومفعماً بتلك القدرة الخارقة التي تضفيها الأسطورة على أبطالها
إلا أن الضعف الإنساني يطغى في النهاية وتنتصر حقيقة هي الموت.
3- زهرة النرجس:
وإن كان ذكر هذه الأسطورة جاء في معرض حديث واسع ولم يكن لها حضور طاغي
كسابقتها إلا أن فضيلتها تكمن في إضفائها نوعاً من التوازن لجو الجدارية
حيث يقول الشاعر :
" خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها
ولي منها : تأمل نرجس في ماء صورته" (35)
فرغم ارتفاع نبرة الأسى والإحساس بدنو النهاية واليأس يوجد بالمقابل إحساس
عال بالذات وتميزها وتفردها فالشاعر مزهو بهذا الفعل الإنساني النبيل
(الشعر) فهي دلالة زهو وافتخار وشعور بالأمل ووجود حياة تبض في جو تسيطر
عليه وحشة الموت ، وإن كان الشاعر هنا يتأمل ذاته من خلال قصيدته الخضراء
العالية، فهو بناء على الأسطورة سيلقى حتفه نتيجة هذا التأمل والإعجاب
وهذا صحيح إذ أن الموت يحيط بهذا النص من كل جانب لكن استلهام الاسطورة
يقدم له بالقابل الخلود كما خلدت زهرة النرجس من قبل صاحبها .
يتبعـ مع التناص التاريخي ..