[b]مقومات نقد الشعر العربي أسلوبيا
عند المرزوقي الاصفهاني
رحمن غرکان عبادی / العراق
************************************************** **********
محتويات البحث:
توطئة .................................................. ...ص 2
*مقومات عمود الشعر الاسلوبية .........................ص3
*المبحث الاول : في المقوم الصوتي ..................... ص6
*المبحث الثاني :في المقوم اللغوي ........................ ص12
*المبحث الثالث :في المقوم التصويري ................... ص21
المصادر والمراجع ........................................ ص35
************************************************** ***********
توطئة :
تؤسس الامم والشعوب عناوينها الحضارية في شتى الحقول المعرفية من خلال تواصلها مع حضارات الامم الاخرى ،اذ ينهض ويتكامل أي حقل معرفي من خلال افادته مما صار اليه العلم عند علماء الامم الاخرى ، لان العلم لا قومية له ، هو ليس حكرا على امة دون اخرى ، هو وعي معرفي مشاع . يتجدد بتلاقح الافكار وتحاور النظريات وتأمل المعطيات والنتائج بين العلماء والمفكرين في الامم الحية ذات العطاء الحضاري المثمر في تغذية البشرية .
وتمثل الحضارة الاسلامية انموذجا في اتجاه تطور العلوم والفنون عبر شيوع تداولها بين علماء الانسانية ، وفي الادب العربي نقرأ حضورا مدهشا لعلماء ومفكرين وادباءمسلمين خدموا اللغة العربية واغنوا الادب العربي وأثروا مظاهره الفنية والموضوعية على نحو لافت للنظر ، على الرغم من انتسابهم لقوميات غير عربية . فلا نقرأ اليوم اللغة والادب العربيين بمعزل عن الجهود العلمية والادبية الهائلة التي قدمها غير العرب ،وربما لم يشهد تاريخ البشرية لغة ازدهرت على نطاق عالمي كبير على امتداد اكثر من الف وخمسمائة سنة بجهود ابنائها وبجهود علماء وادباء من قوميات اخرى على حد سواء كاللغة العربية ، بسبب من عالمية اللغة ، وتكامل الوعي البشري على تعدد اعراقه .
وفي هذا البحث أقرأ عطاء نقديا تجديديا في عصره ، لعالم لغوي ونحوي واديب ناقد هو : أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني ، الذي وصفه المؤرخون بأنه ك ( كان غاية في الذكاء والفطنة ،وحسن التصنيف ، واقامة الحجج ، وحسن الاختيار ،وتصانيفه لا مزيد على حسنها ) (1) وهو من أعلام اصفهان في اللغة والنحو والادب في القرنين الرابع والخامس الهجريين ،اذ توفي سنة (421)للهجرة .(2) ومن مصنفاته المشهورة شرح ديوان الحماسة (3) .
اذ كتب المرزوقي الاصفهاني لشرح الديوان مقدمة لافتة للنظر ، أوجز فيها خلاصة الوعي النقدي في عمود الشعر العربي واضاف اليه ، محددا ابعاده تحديدا أسلوبيا ،ويمثل تحديده الاسلوبي أضافة تجديدية نوعية في النقد الادبي في عصره .فقد نص على عمود الشعر بقوله : ان العرب في قولهم الشعر انما ( كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته ، وجزالة اللفظ واستقامته ،والاصابة في الوصف – ومن اجتماع هذه الاسباب الثلاثة كثرت سوائر الابيات وشوارد الامثال – والمقاربة في التشبيه ،والتحام اجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن ،ومناسبة المستعار منه للمستعار له ، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية ، حتى لا منافرة بينهما ، فهذه سبعة ابواب هي عمود الشعر و لكل باب منها معيار )(4)
فعيار المعنى : العقل الصحيح والفهم الثاقب ،وعيار اللفظ : الطبع والرواية والاستعمال . وعيار الاصابة في الوصف : الذكاء وحس التمييز . وعيار المقاربة في التشبيه : الفطنة وحسن التقدير . وعيار التحام اجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن : الطبع واللسان .وعيار الاستعارة :الذهن والفطنة .وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية : طول الدربة ودوام المدارسة . (5) .
والمرزوقي الاصفهاني قسم عمود الشعر هنا تقسيما اسلوبيا على ثلاثة مستويات هي : مستوى المقوم الصوتي ، ومستوى المقوم اللغوي ، ومستوى المقوم التصويري . ويعنى هذا البحث بدراسة هذا المنحى الاسلوبي التجديدي في نقد الاصفهاني ، من تحديد مقومات عمود الشعر العربي وقد توزع البحث على اربعة محاور هي : الاول بعد هذه التوطئة ، في عرض مفهوم مقومات عمود الشعر الاسلوبية عند الاصفهاني وفي صورتها الموجزة في العصر الحديث . أما الثاني فقد عرض لعناصر المقوم الصوتي / العروضي في نظرية الاصفهاني . فيما عرض الثالث لعناصر المقوم اللغوي / التركيبي . أما الرابع فعرض لعناصر المقوم التصويري / الدلالي . وهو ما سندرسه فيما يأتي :
هوامش التوطئة :
(1) ينظر ، بغية الوعاة ، 1/365 ؛الاعلام ،1/212 ،معجم المؤلفين ،2/ 91
(2) بغية الوعاة ،1/365 .
(3) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي الاصفهاني بتحقيق احمد امين وعبد السلام محمد هارون
(4) نفسسسسسسسسسسه ، 1/9 .
(5) نفسسسسسسسسسسه ،1/9-11 .
************************************************** ************
مقومات عمود الشعر الأسلوبية : يبدو أن الانتماءات المرجعية المتنوعة للرؤية الأسلوبية للأدب، وما أفصحت عنه من مسارات مختلفة الطرائق في الفوز ببؤر الهيمنة والتوجيه، داخل الخطاب الإنساني، هي التي سوغت ما نلحظه من خلاف بين المقاربات المتعددة لوضع اليد على السمة الأسلوبية للنص، فإذا نظرت الألسنية إلى أن البنية الأسلوبية في نص ما، تكمن في مدى قدرة ذلك النص على تمثل القاعدة الجمالية المشاعة المشتركة، بما يحول تلك القاعدة إلى مرجعية إبداع وتقييم فنيين في آن معاً، فإن رؤى أخرى توخت وضع اليد على علاقة الأسلوب بعنصر من عناصر إنتاج الرسالة الأدبية، (المرسل + الرسالة + المرسل إليه) مما يشي بطابع الفردية الذي يميز نظرها إلى أسلوب ما، على أنه حصيلة فاعلية فردية توجه غيرها من فاعليات مشاركة في إنتاج نص أدبي ما.
ولعل المقاربة الأسلوبية، وهي تصطفي المرسل وكذا، تعنى بالنص الأدبي من خلاله، إنما كانت تصبو إلى الوقوع على أواصر الانتساب بين اللحظة الجمالية التي حفزت الفاعلية الشعرية على الإبداع، وبين بنية ما أنتج بتأثير من تلك اللحظة، ومدى قدرة الخطاب على التعبير عن أوفر قسط من محفزات تلك اللحظة، وانعكاس ذلك كله أسلوبياً.
أما عندما تنتقل دائرة اهتمامها إلى المرسل إليه، فإنها تضيء البنيات الأسلوبية على أنها محفزات أو منبهات تحمل الذات المتلقية على كشف مناحي الترابط بين الدال والمدلول أو اكتشاف مواطن ارتباط جديدة، يجود بها السياق الأدبي.
ولم تكن إشكاليات الدراسة الأسلوبية للأدب لتقف عند حدود التمييز بين ما هو جماعي وما هو فردي، بل تجاوزت ذلك إلى البحث في العلاقة التي تربط بين البنية الأسلوبية والبنية الفكرية للنص. فهل الأسلوب هو الفكر متلفعاً بعباءة الأدبية؟ وهل هو محتوى أو مدلولات سكبت في أوعية من الدلالات؟ أم هو الفكرة نفسها وقد تأسلبت متحولة إلى انبناء أدبي أكثر منه بناء أدبياً؟
ولعل هذه الأسئلة ونحوها كانت تواجه نظرية الشعرية العربية في عصرها. كما كانت تعبر عن خصوصية سياسة الكلام. تلك التي كانت أشد من الكلام نفسه ([1]).
وإذا صح القول: بأن مفهوم الأسلوب لم يكن غريباً ([2]) عن بيئة الثقافة العربية، لأن تتبع النصوص التي ترجع إلى القرنين، الثالث والرابع، يدل على أن مفهوم الأسلوب اقترب من الوضع الاصطلاحي أكثر من البلاغة نفسها" ([3]) فإن من الممكن الإشارة إلى أن الملامح الأسلوبية التي لهجت بها نظرية عمود الشعر، لم تكن لتلغي ذاتية التجربة الشعرية، وهي تتحدث عن ضرورة الانطلاق من القاعدة الفنية، ذلك أن عمود الشعر "لو لم يكن الصيغة التي اختارها شعراء العربية، لكان في أقل تقدير، هو الصورة التي اتفق عليها النقاد([4]) العرب الذي كانوا أقرب ذاتياً وموضوعياً، إلى قراءة النص الشعري القديم".
على أن المرزوقي في عمود الشعر، قد لاحظ أن أصحاب (نظرية الشكل) أو أنصار النظم يتوزعون في نظرهم النقدي إلى النص الشعري، على ثلاثة مستويات ([5]):
- مستوى يرى النظم، في صفاء التراكيب، والسلامة من الوقوع في الخطأ.
- مستوى يرى النظم في ا لحرص على تتميم المقاطع وتوخي الدقة في تلطيف المطالع، ومراعاة درجة التناسب، بين الفصل والوصل، ثم الإيقاع الحسن بتعادل الأقسام والأوزان.
- مستوى يرى النظم في استثمار أنواع الصور البديعية، من ترصيع وتجنيس، وسواهما أي أن هناك من يعنى بالمستوى الصوتي من خلال صور البديع، وآخر يرى العناية بالبناء التركيبي، في تتميم المقاطع وتلطيف المطالع وسواهما. وهناك من يعنى بالمستوى النحوي الدلالي من خلال صفاء التركيب والسلامة من اللحن.
ولكنه لم يشر إلى مسألتين، غاية في الأهمية، الأولى: "أن كل معنى يمكن التعبير عنه في ثلاثة أنواع من المبنى" ([6])، والمسألة الثانية هي ضرورة توفر المبنى الشعري على هذه المستويات الثلاثة، أو النظر فيه من خلال توفره عليها.
وقد توفرت عناصر عمود الشعر على هذه المستويات (الصوتي، التركيبي، الدلالي) وقصد المرزوقي أن تكشف تلك العناصر طريقة العرب في قول الشعر، من خلال معايير أراد لها أن تكون قواعد للشعر عند دراسة أدوات التعبير الشعري في اللغة، ولم يشأ لها أن يكون الشعر من خلالها شعر قواعد ينبني على دراسة آثار القواعد الشعرية كما تتمثل أثر عمل أدوات التعبير الشعري.
ويبدو أن دراسة أدوات التعبير الشعري التي يستعملها الشاعر ليفرض على المتلقي طريقة تفكيره هي موضوع الأسلوبية ([7]). من جهة أن الأسلوبية "علم يهدف إلى الكشف عن العناصر المميزة التي بها يستطيع المؤلف الباث، مراقبة الإدراك لدى القارئ، المتقبل والتي بها يستطيع أيضاً أن يفرض علينا وجهة نظره في الفهم والإدراك، فالأسلوبية بهذا الاعتبار علم لغوي يعنى بظاهرة حمل الذهن، على فهم معين وإدراك مخصوص" ([8]).
ومن هنا ينظر إلى الأسلوب الشعري على أنه: اختيار واع لأدوات التعبير الشعري ([9]).
وقد اتضح ما كان من تفريق بين الأسلوب والأسلوبية، في كون الأسلوبية "دراسة للتعبير اللساني، أما كلمة أسلوب فهي طريقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللغة" ([10])، وبعض الباحثين يرى أن الأسلوب "ذو مدلول لساني ذاتي نسبي، واللاحقة تختص (بالبعد العلماني) العقلي، وبالتالي الموضوعي، ويمكن في كلتا الحالتين تفكيك الدال الاصطلاحي إلى مدلوله، بما يطابق عبارة (علم الأسلوب) لذلك تعرف الأسلوبية أحياناً، بأنها: البحث عن الأسس الموضوعية لإرساء علم الأسلوب" ([11]).
واشتمال عناصر عمود الشعر على مستويات الدرس الأسلوبي الحديث، أهّلها للقراءة الأسلوبية، من جهة أن "اللسانيات النظرية تعني بدراسة الأصوات اللغوية دراسة (فيزيولوجية) وفيزيائية وسمعية ودماغية. كذلك تعنى بدراسة التراكيب اللغوية من حيث، بناء الجملة وبناء الكلمة ورتبتها داخل الجملة، ومن حيث القواعد التي تصوغ الكلام و تضبطه في الوقت نفسه، وتعني اللسانيات النظرية بالدلالة التي تفرزها هذه الأصوات والتراكيب، سواء أكانت دلالة خاصة أم عامة، معروفة ومخزونة في الدماغ أم غير ذلك. وبكلمة دقيقة إنها تعنى ببنية المعنى وكيفية توليده، في اللغة وخارج اللغة وتعنى أيضاً بالقواعد التي تولد المعنى، والضوابط الموضوعة على تلك القواعد" ([12]).
وقد كان اهتمام الألسنيين كبيراً بدراسة الجمل في خلال ثلاثة مستويات:
الصوتي والتركيبي والدلالي، حيث نظروا في المستوى الصوتي من حيث مستوى الوظائف، وإلى المستوى التركيبي من حيث مستوى السرد، وإلى المستوى الدلالي، من حيث مستوى المعنى ([13]).
وتحاول هذه القراءة الأسلوبية لعناصر عمود الشعر، بوصفها مقومات للشعرية العربية، أن تكشف عن المستويات التي حاول عمود الشعر، أن يقرأ القصيدة العربية في ضوئها وأن يوجه المتلقي إلى الاستضاءة بها في إنتاج النص الشعري الحامل لخصوصية أسلوبية تمثل صاحبه.
إن عناصر عمود الشعر ومعاييره لا يمكن النظر إليها على أنها سلفية "تلزم متأخر الشعراء، بعدم الخروج على سنن المتقدمين" ([14]) بحجة أن النقد (الكلاسيكي) كانّ متشدداً في الدعوة إلى الالتزام بما أقره السلف من قواعد في الفنون ومنها الشعر لأن ما كان من حرص الشعراء –على صعيد النص الشعري –على عدم الشذوذ عن سنن السابقين، إنما كان إشارة إلى انطلاق الإبداع الحاضر مما أسسه الآخر السابق أولاً، ثم محاولة المنطلق في أن يؤسس لنفسه خصوصيتها. وهذا ما يشير إليه رأي القدماء في الراعي النميري، من أنه شق طريقاً في قول الشعر كان منفرداً فيه، وكان انفراده سبباً في تقديمه ([15])، لأن المحافظة على سنن السابقين، لا تعني استنساخ أساليبهم، أو عدم التفرد. وهذا ما نلحظه في أجيال الشعراء المتعاقبة، التي يضيف المتأخر فيها جديداً إلى ما قاله المتقدم.
أما على صعيد النقد فقد كان طبيعياً أن يتشدد النقاد في الدعوة إلى احترام سنن الأقدمين من الشعراء، وأن نقرأ نظرات نقدية تنحو هذا المنحى، ولهذا لم يكن دقيقاً ما ذهب إليه إحسان عباس، من أن النقد والشعر قد أصيبا بالجمود من خلال تأكيد النقاد على تلك النظرات النقدية أو عناصر قراءة الشعر عند السابقين، والحرص القائم على عدم التمرد على أساليب الشعر القديم، مشيراً إلى أن الشعر العربي قد أصيب "بالتقليد أولاً عندما خاف اللغويون من تحضر اللغة فاتخذوا من القديم نماذج يحتذيها المحدثون، وثانياً عندما تبلورت نظرية عمود الشعر تبلوراً شديداً، أصيلاً لم يسمح بالثورة عليها" ([16]).
والواقع أن هناك جملة مؤاخذات للنقاد على عمود الشعر منها، إنه يطلب إلى الشعراء أن يسلكوا سبيل من سبقوهم، ولا يشذوا عن سنن الأقدمين، وكذلك رأوا في عناصره قواعد الأنموذج الأرقى للشعر، ثم وجد أن على من أراد التفوق أن ينهج سبيل هذه العناصر ليكون تفوقه بقدر نصيبه منها ثم أنه لم يشر إلى التجربة الشعرية على نحو خاص وتمثيلها للذات الشاعرة.
بدءاً كانت مرحلة النقد التسجيلي، تأخذ باستنساخ الشعر الجاهلي، وتدعو إلى تقليده، بوصفه المحور المركزي للشعر العربي، فهي معنية بتوثيق الأصل، والدعوة له حتى بلغ الأمر حد القول": إن النقد الأدبي لا تنظر له، بالقدر الذي حاز عليه الجمع والترجمة للسابقين إلى الحد الذي استقر عليه العرف الثقافي العربي، على أسس معرفية لفهم الشعر السابق، وقد بلورت تلك الأسس النقد التنظيري الذي قام تأسيساً على مرحلة التسجيل، بادئاً من حيث انتهت، ولما كان نظره إلى مقومات الشعر العربي، أكثر من توثيقه أو تسجيله أو الترجمة للشعراء فقد كان ينظر لفن الشعر من خلال تلك المقومات وهو ما تعارض فيه مع مرحلة التسجيل التي اعتمدت الزمن مقوماً فنياً، كونها انطلقت من التوثيق والترجمة للنص القديم احتفاظاً به مع مرور الزمن، في حين كانت مرحلة التنظير ترى في مقومات عمود الشعر الفنية حضوراً للأنموذجات الفنية العالية الصادرة عن الشعر الجاهلي، ثم ما جاء بعده بدرجة أقل. ولما كانت تلك الأنموذجات التقويمية منطلقة من اللغة أولاً. ومن العرف الثقافي الذي يتأسس على عيار من التلقي الشعري ذي سمات جاهلية، فقد أخذ النص الشعري الجاهلي حظوة كبيرة، من جهة أن لغته أصل، وعلى أساس تلقيه تأسس العرف الثقافي الشعري عند العرب.
ولما كانت مقومات الشعر، كما قال بها التنظير النقدي، قد انطلقت من الشعر الجاهلي، أي من طبيعة تذوق الشعر العربي، فقد صار الشعر المحدث ينطلق مما ترضاه الذائقة المحدثة، أخذاً بنظر الاعتبار عناصر تقييم الشعر، كما استنبطت من قراءة الشعر الجاهلي، وفي هذه المرحلة التي صار فيها النقاد يقاربون بين النص القديم الجاهلي والمحدث لا من جهة قبول الذائقة المحدثة له، لأنها أنتجته، إنما من جهة خضوعه لقياسات المقومات الشعرية المستنبطة من قراءة القصيدة الجاهلية، فصار هناك تمييز بين شعراء قريبين من تمثل تلك المقومات وتمثيلها، وشعراء أحدثوا فيها جديداً. ومحاولات المقاربة النقدية هذه، أدخلت النقد العربي القديم، مرحلة ثالثة، هي مرحلة النقد التطبيقي. ذلك الذي تصدر عنه (القاعدة النقدية) بحكم القاعدة النقدية للشعر أكثر من سواه، تلك القواعد المحكومة بالسياق الحالي والنصي للشعر، ساهمت بقوة في تأسيس مقومات جديدة كانت قريبة من النص المحدث.
وقد بدا أن قراءة مقومات عمود الشعر بوصفها مقولات أسلوبية، من جهة محاولتها قراءة الشعر العربي القديم، أو طريقة العرب في قول الشعر، واضعة لتمييز الأسلوب العربي في الشعر، مقولات أسلوبية يتميز فيها من سواه، وتتضح طرائق القمم الشعرية فيه من سواها، تلك القراءة، تحاول أن تكشف عن مستويات نظر النقد العربي في الشعر خاصة، وإن تلك المستويات قد مثلت الشكل الفني الذي يتخلق فيه المضمون، لذا توزعت مقومات عمود الشعر، بوصفها مقولات أسلوبية، على وفق ثلاثة مقومات: مقوم صوتي، وآخر تركيبي، وثالث دلالي.
ـ المبحث الأول في المقوم الصوتي
عند استقراء مقومات عمود الشعر البنائية، سنقف عند مقولاته الأسلوبية في مستواها الصوتي، في خلال ما جاء في التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، وما كان من مظاهر صوتية في مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية، وهذا كله منطلق من الصلة العضوية بين الشعر والغناء، ومؤسس عليها، فقد كان العرب يزنون الشعر بالغناء ([17])، لأن "الأوزان عندهم قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار" ([18]) وكتاب الأغاني دال في هذا الاتجاه، وقد قال ابن خلدون: "كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء الفن، لأنه تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه، وكان الكتاب والفضلاء من الخواص يأخذون بأنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه" ([19]) حتى حدد صناعة الشعر بقوله: تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة" ([20]) وفي ضوء هذا الواقع القديم للشعر العربي نظر المحدثون إلى الشعر الجاهلي على أنه نشيد، أي "نشأ مسموعاً لا مقروءاً غناء لا كتابة، كان الصوت في هذا الشعر بمثابة النسم الحي، وكان موسيقى جسدية، كان الكلام وشيئاً آخر يتجاوز الكلام، فهو ينقل الكلام، وما يعجز عن نقله، وبخاصة المكتوب" ([21]).
والواقع أن طبيعة الشعر توكّّد ارتباطه بالغناء والموسيقى، بدليل أن كل نتاجات الأمم الشعرية لم تكن خالية من الموسيقى ([22])، ثم إن كل المحاولات التي دعت إلى التجديد الشعري لم تستطع الإفلات من سطوة الموسيقى وتأثيرها في بنية النص الشعري.
وبعد هذا يمكن القول: أن الشعر العربي نشأ مرتبطاً بالغناء ([23])، إذ أن صرامة العروض العربي تؤكد التصاقه بالموسيقى، والتأكيد على القافية الموحدة التي تعطي الكلام الشعري طابعاً غنائياً، تؤكد هذا، وقد قال ابن رشيق: "كان الكلام كله نثراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء، بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة.. لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً، لأنهم شعروا به، أي فطنوا" ([24]).
ويمكن النظر إلى ملامح المستوى الصوتي عند الجاحظ على أنها إرهاصات طيبة في الاقتراب من الأسلوبية الصوتية للنسيج الشعري، في طرحه النقدي في البيان والتبيين إلا أن "الطرح النظري لوظيفة الجانب الصوتي في شموليته باعتباره عنصراً بنائياً في الشعر إنما نجده عند الفلاسفة المسلمين، ومن تأثر بهم في إطار نظرية المحاكاة" ([25])، أما على الصعيد التطبيقي، فيمكن النظر إلى قدامة بن جعفر في (نقد الشعر) على أنه متقدم على غيره، في الإحساس بما يتضمنه الصوت من عمق دلالي مؤثر شعرياً.
وقد أعطت كتب نقد الشعر تطبيقياً وكتب البديع، المقوم الصوتي الحر اهتماماً كبيراً وإن هي "لم تصل بينه وبين المقوم الصوتي المنتظم (الوزن والقافية) ويمكن ملاحظة هذا في أعمال البديعيين بدءاً من أسامة بن منقذ في كتابه (البديع).. لقد صارت أقسام المقوم الصوتي الواحد، وفروعه مثل الترصيع، تقوم باعتبارها مقومات قائمة الذات، فتعقد لها أبواب مستقلة، وانقطع ذلك الخيط بين عناصر المقوم الصوتي الإيقاعي" ([26]).
وفي ضوء ما سبق نفهم قول ابن وهب في البرهان، من أن "ما يسمى به الشعر فائقاً، والذي يكون إذا اجتمع فيه مستحسناً رائقاً، صحة المقابلة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ واعتدال الوزن... وأضداد هذه كلها معيبة، تمجها الآذان، وتخرج عن وصف البيان" ([27]).
وهذا التأكيد في المستوى الصوتي في البلاغة العربية، صادر عن كونه مقوماً من مقوماتها الرئيسة، ومنطلقاً شعرياً، حتى كان الترجيع "الذي تقوم عليه كل الموسيقى.. أوضح مظهراً وأبلغ خطورة في موسيقى الألفاظ، ذلك أنه يتصل باللفظ، أي بالإطار الصوتي الذي يمثل الوحدة الدلالية الدنيا، وفي اللفظ تبدأ عملية التفاعل بين الدلالة اللغوية والدلالة السياقية" ([28]) على نحو يكون فيه الصوت المقطوع، وان انقطعت صلته بالدلالة، "بمقتضى عزلة في الإطار الدلالي الأدنى، فإنه بحكم انعقاد صلة جديدة له بأصوات معزولة مثله يكتسب صلة بالمدلولات، أثر ربط هذه الأصوات بعضها ببعض، وربط المعاني بعضها ببعض" ([29]).
وفي سياق دلالات الأصوات، ينبغي الانتباه إلى المحدد الآتي، وهو "أن ليس هناك معان جوهرية للأصوات، ولكن المرسل هو الذي يمنحها إياها بناء على التراكم، وعلى السياق العام والخاص" ([30]) ومن هنا انطلق الباحثون الأسلوبيون من أحد ثلاثة اختيارات "بعضهم يبدأ من المرسل، فيدرس اختياراته، حال ممارسته عملية الإبداع، وبذاك فإن الأسلوب عند هؤلاء هو الاختيار أو الانتقاء.. وبعضهم من المتلقي، لذلك يدرس ردود، الأفعال والاستجابات التي يبديها المتلقي حيال المنبهات الأسلوبية في النص، وينطلق بعضهم من مبدأ عزل المرسل والمتلقي من دراسة الأسلوب، لذلك تراهم ينطلقون من النص ذاته" ([31]). وهذا النظر النقدي في النص الشعري ذاته، يتركز في الإمكانات التعبيرية الكامنة في المادة الصوتية، لأنها تأثيرات صوتية "تظل كامنة في اللغة العادية، حيث تكون دلالة الكلمات التي تتألف منها والظلال الوجدانية لهذه الكلمات بمعزل عن قيم الأصوات نفسها ولكنها تنفجر حيثما يقع التوافق من هذه الناحية، وإذن فثمة مجال– بجانب علم الأصوات بمعناه الدقيق –لعلم أصوات تعبيري" ([32]).
وعلم الأصوات التعبيري، ينظر في أسلوبية الكلام الشعري، في مستواه الصوتي، كونه "أول المنطلقات الأسلوبية التي تلتقي منهجياً بالوصف البلاغي، لصوتية المفردات اللغوية، وأنساقها التعبيرية، وإقرار الأثر الصوتي في تكثيف العلاقة، بين الدال والمدلول وإحداث المتغيرات اللغوية لأداء المعنى... فالصوت يختلف باختلاف ذات الشيء المحدث له" ([33]) وأصوات الألفاظ "دالة على جهات الكلام، كحروف الشيء وجهاته" ([34])، وفي هذا الاتجاه كان اختيار الأسلوبية الصوتية للتكرار المنظم للوحدات الصوتية، نابعاً من نهجها في وصف "صوتية المفردة اللغوية، بوصفها رمزاً دالاً بالمحاكاة، وعلى مستوى التركيب المتسم بالتردد الصوتي المولد للإيقاع المشحون بطاقة السياق الدلالية ([35]) لأن الأسلوبية الصوتية تنطلق من "تصورات موضوعية للأنساق الصوتية التي يعمد الشعراء إلى إشاعتها في قصائدهم" ([36]).
وفي مجال صوتيات التعبير نلحظ الأسلوبية الصوتية تميز بين ثلاثة أشكال صوتية:
الأولى هي الصوتية التمثيلية التي هي الصوائت بوصفها عناصر لغوية موضوعية. الثانية هي الصوتية الندائية أو الانطباعية التي تعنى بدراسة المتغيرات الصوتية الهادفة إلى دراسة التأثير في السامع، والثالثة هي الصوتية التعبيرية التي تعنى بدراسة المتغيرات الصوتية الصادرة عن مزاج أو سلوك عفوي لمتكلم معين ([37])، وفي هذا الإطار فإن الأسلوبية الصوتية "تعتمد على مفهوم المتغيرات الصوتية الأسلوبية وبمقدار ما يكون للغة حرية التصرف ببعض العناصر الصوتية للسلسلة الكلامية، بمقدار ما تستطيع أن تستخدم تلك العناصر لغايات أسلوبية" ([38]) ذلك أن اللغة تمتلك "نسقاً كاملاً من المتغيرات الأسلوبية الصوتية، ويمكن أن نميز من بينها: الآثار الطبيعية للصوت، المحاكاة الطبيعية للصوت، المد، التكرار، الجناس، التناغم،..." ([39])، وفي هذا لا ينظر للصوت منفرداً، أي "ليس الصوت نفسه كشيء منعزل بالتفاصيل العضوية لنطقه ولفظه، وإنما هو الصوت من حيث تميزه عن مجموعة الأصوات الأخرى. ودخوله في تشكيل أنظمتها، ومن هنا، يمكن وضع خصائص لغة ما، لا على أساس الدور الذي تقوم به الحبال الصوتية وسقف الحلق، وإنما على أساس التقابلات الصوتية التي تميز بعض الكلمات عن بعضها الآخر، فكل صوت في لغة ما، يدرس على أنه مجموعة الملامح التي تميزه عن بقية أصوات اللغة نفسها، وتضعه في مكان من جداول القيم الخلاقة في علاقاته بها، وبهذا تصبح بنية الأصوات هي محور الدراسة لا طريقة إنتاجها" ([40]).
ويمكن أن نلحظ هذه المقولات الأسلوبية في مقومات عمود الشعر، ولا سيما تلك التي تخص أسلوبية النص الشعري. فعلى الصعيد الصوتي نجد في، جزالة اللفظ واستقامته حيثيات صوتية، من جهة أن العنصر الصوتي لم يحتل مكان الصدارة، في فصاحة اللفظ المفرد إلا من جهة ما يحققه من خصوصية أسلوبية ولهذا كان ابن سنان حريصاً على تقعيده، في خلال ما اشترطه لفصاحة الألفاظ من خفة اللفظ، وحسن وقعة في السمع، وتجنب الكلمات الكثيرة الحروف، وتجنب العامي الساقط أو السوقي المبتذل، وهو يحبذ التصغير الذي لا يخلو من مزية صوتية وإن كان دلالياً في أساسه ([41]).
أما الجرجاني فقد حاول الاجتهاد في إبراز "عنصر المعنى فيما اعتبره غيره لفظاً خالصاً، وفي هذا الصدد تناول التجنيس، وهو المقوم الصوتي الحر الوحيد الذي آثار انتباهه، مشيراً إلى أن لا مزية له في نفسه، أي باعتباره أصواتاً مسموعة، بل لما يدخله من اعتبارات ووظائف فنية" ([42]).
ويرى أحد الباحثين أن الجرجاني "لم يطرح قضية المعنى كمبدأ متحكم في كل مكونات الفصاحة، ومنها المكون الصوتي، بل إنه جعل الصوت عوضاً لغيره، وجعل حضوره في غيره كافياً لإبعاده، ولو نظر إلى تفاصيل العنصرين: الصوت والدلالة. من دون أن يغمط أحدهما حقه، لكان لنظريته قيمة كبيرة" ([43]). وهذا الملحظ عند الجرجاني سبقته إشارات في عمود الشعر، في باب التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، من جهة أن الوزن يسهم في الشعرية كونه من "الأمور التي تجعل القول مخيلاً" لاتصاله بزمن القول وعدد زمانه "أي أن التخلي عن الوزن الفاعل يجعل القصيدة تخسر مناطق في نفس المتلقي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الوزن" ([44]) ذلك أن القصيدة "بترابطها الشفوي بين التحول الدلالي والإيقاع ومنه الوزن، أقدر على تجسيد ذبذبات الروح" ([45]) فكلما كان الوزن عنصراً دلالياً في النص الشعري، كلما ساعد على تعميق البنية الدلالية، وتزداد قيمته الفنية حين "يلصق فوق خط الاختلاف الدلالي سلاسل من التمثلات الصوتية" ([46]) وفي ضوء هذا القول نفهم إشارة هيجل إلى "أن الشعر يحتاج إلى الوزن أو القافية اللذين يمثلان هالته الحسية الوحيدة، بل يمكن القول أنه يحتاج إليهما، أكثر من حاجته إلى القول المخيل" ([47])، وفي تركيب أجزاء النظم تشكيل موسيقي "يؤثر في النفس البشرية.. يلطف الخلق، ويسهل القياد" ([48]) من قبيل الفصل والوصل كونه "وزناً ما، للكلام، وإن لم يكن وزناً عددياً، فإن ذلك للشعر، وهذا هو الذي يتحدد بمصاريع الأسماع" ([49]) وهذا ما ألمح إليه (كروتشه) من أنه "كلما قمنا بتحليل قطاع من التعبير، وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة جمالية، فاللغة نفسها في جميع مظاهرها، إنما هي تعبير خالص، ومن ثم فهي علم جمالي وهي أصوات منظمة مهيأة من أجل التعبير، هذا التصور للغة، إنما هو تصور أسلوبي" ([50]) لأن علم الأسلوب ملتقى لدراسة كل الوسائل التعبيرية والجمالية في آن معاً ([51]).
عند المرزوقي الاصفهاني
رحمن غرکان عبادی / العراق
************************************************** **********
محتويات البحث:
توطئة .................................................. ...ص 2
*مقومات عمود الشعر الاسلوبية .........................ص3
*المبحث الاول : في المقوم الصوتي ..................... ص6
*المبحث الثاني :في المقوم اللغوي ........................ ص12
*المبحث الثالث :في المقوم التصويري ................... ص21
المصادر والمراجع ........................................ ص35
************************************************** ***********
توطئة :
تؤسس الامم والشعوب عناوينها الحضارية في شتى الحقول المعرفية من خلال تواصلها مع حضارات الامم الاخرى ،اذ ينهض ويتكامل أي حقل معرفي من خلال افادته مما صار اليه العلم عند علماء الامم الاخرى ، لان العلم لا قومية له ، هو ليس حكرا على امة دون اخرى ، هو وعي معرفي مشاع . يتجدد بتلاقح الافكار وتحاور النظريات وتأمل المعطيات والنتائج بين العلماء والمفكرين في الامم الحية ذات العطاء الحضاري المثمر في تغذية البشرية .
وتمثل الحضارة الاسلامية انموذجا في اتجاه تطور العلوم والفنون عبر شيوع تداولها بين علماء الانسانية ، وفي الادب العربي نقرأ حضورا مدهشا لعلماء ومفكرين وادباءمسلمين خدموا اللغة العربية واغنوا الادب العربي وأثروا مظاهره الفنية والموضوعية على نحو لافت للنظر ، على الرغم من انتسابهم لقوميات غير عربية . فلا نقرأ اليوم اللغة والادب العربيين بمعزل عن الجهود العلمية والادبية الهائلة التي قدمها غير العرب ،وربما لم يشهد تاريخ البشرية لغة ازدهرت على نطاق عالمي كبير على امتداد اكثر من الف وخمسمائة سنة بجهود ابنائها وبجهود علماء وادباء من قوميات اخرى على حد سواء كاللغة العربية ، بسبب من عالمية اللغة ، وتكامل الوعي البشري على تعدد اعراقه .
وفي هذا البحث أقرأ عطاء نقديا تجديديا في عصره ، لعالم لغوي ونحوي واديب ناقد هو : أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الاصفهاني ، الذي وصفه المؤرخون بأنه ك ( كان غاية في الذكاء والفطنة ،وحسن التصنيف ، واقامة الحجج ، وحسن الاختيار ،وتصانيفه لا مزيد على حسنها ) (1) وهو من أعلام اصفهان في اللغة والنحو والادب في القرنين الرابع والخامس الهجريين ،اذ توفي سنة (421)للهجرة .(2) ومن مصنفاته المشهورة شرح ديوان الحماسة (3) .
اذ كتب المرزوقي الاصفهاني لشرح الديوان مقدمة لافتة للنظر ، أوجز فيها خلاصة الوعي النقدي في عمود الشعر العربي واضاف اليه ، محددا ابعاده تحديدا أسلوبيا ،ويمثل تحديده الاسلوبي أضافة تجديدية نوعية في النقد الادبي في عصره .فقد نص على عمود الشعر بقوله : ان العرب في قولهم الشعر انما ( كانوا يحاولون شرف المعنى وصحته ، وجزالة اللفظ واستقامته ،والاصابة في الوصف – ومن اجتماع هذه الاسباب الثلاثة كثرت سوائر الابيات وشوارد الامثال – والمقاربة في التشبيه ،والتحام اجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن ،ومناسبة المستعار منه للمستعار له ، ومشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية ، حتى لا منافرة بينهما ، فهذه سبعة ابواب هي عمود الشعر و لكل باب منها معيار )(4)
فعيار المعنى : العقل الصحيح والفهم الثاقب ،وعيار اللفظ : الطبع والرواية والاستعمال . وعيار الاصابة في الوصف : الذكاء وحس التمييز . وعيار المقاربة في التشبيه : الفطنة وحسن التقدير . وعيار التحام اجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن : الطبع واللسان .وعيار الاستعارة :الذهن والفطنة .وعيار مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية : طول الدربة ودوام المدارسة . (5) .
والمرزوقي الاصفهاني قسم عمود الشعر هنا تقسيما اسلوبيا على ثلاثة مستويات هي : مستوى المقوم الصوتي ، ومستوى المقوم اللغوي ، ومستوى المقوم التصويري . ويعنى هذا البحث بدراسة هذا المنحى الاسلوبي التجديدي في نقد الاصفهاني ، من تحديد مقومات عمود الشعر العربي وقد توزع البحث على اربعة محاور هي : الاول بعد هذه التوطئة ، في عرض مفهوم مقومات عمود الشعر الاسلوبية عند الاصفهاني وفي صورتها الموجزة في العصر الحديث . أما الثاني فقد عرض لعناصر المقوم الصوتي / العروضي في نظرية الاصفهاني . فيما عرض الثالث لعناصر المقوم اللغوي / التركيبي . أما الرابع فعرض لعناصر المقوم التصويري / الدلالي . وهو ما سندرسه فيما يأتي :
هوامش التوطئة :
(1) ينظر ، بغية الوعاة ، 1/365 ؛الاعلام ،1/212 ،معجم المؤلفين ،2/ 91
(2) بغية الوعاة ،1/365 .
(3) شرح ديوان الحماسة للمرزوقي الاصفهاني بتحقيق احمد امين وعبد السلام محمد هارون
(4) نفسسسسسسسسسسه ، 1/9 .
(5) نفسسسسسسسسسسه ،1/9-11 .
************************************************** ************
مقومات عمود الشعر الأسلوبية : يبدو أن الانتماءات المرجعية المتنوعة للرؤية الأسلوبية للأدب، وما أفصحت عنه من مسارات مختلفة الطرائق في الفوز ببؤر الهيمنة والتوجيه، داخل الخطاب الإنساني، هي التي سوغت ما نلحظه من خلاف بين المقاربات المتعددة لوضع اليد على السمة الأسلوبية للنص، فإذا نظرت الألسنية إلى أن البنية الأسلوبية في نص ما، تكمن في مدى قدرة ذلك النص على تمثل القاعدة الجمالية المشاعة المشتركة، بما يحول تلك القاعدة إلى مرجعية إبداع وتقييم فنيين في آن معاً، فإن رؤى أخرى توخت وضع اليد على علاقة الأسلوب بعنصر من عناصر إنتاج الرسالة الأدبية، (المرسل + الرسالة + المرسل إليه) مما يشي بطابع الفردية الذي يميز نظرها إلى أسلوب ما، على أنه حصيلة فاعلية فردية توجه غيرها من فاعليات مشاركة في إنتاج نص أدبي ما.
ولعل المقاربة الأسلوبية، وهي تصطفي المرسل وكذا، تعنى بالنص الأدبي من خلاله، إنما كانت تصبو إلى الوقوع على أواصر الانتساب بين اللحظة الجمالية التي حفزت الفاعلية الشعرية على الإبداع، وبين بنية ما أنتج بتأثير من تلك اللحظة، ومدى قدرة الخطاب على التعبير عن أوفر قسط من محفزات تلك اللحظة، وانعكاس ذلك كله أسلوبياً.
أما عندما تنتقل دائرة اهتمامها إلى المرسل إليه، فإنها تضيء البنيات الأسلوبية على أنها محفزات أو منبهات تحمل الذات المتلقية على كشف مناحي الترابط بين الدال والمدلول أو اكتشاف مواطن ارتباط جديدة، يجود بها السياق الأدبي.
ولم تكن إشكاليات الدراسة الأسلوبية للأدب لتقف عند حدود التمييز بين ما هو جماعي وما هو فردي، بل تجاوزت ذلك إلى البحث في العلاقة التي تربط بين البنية الأسلوبية والبنية الفكرية للنص. فهل الأسلوب هو الفكر متلفعاً بعباءة الأدبية؟ وهل هو محتوى أو مدلولات سكبت في أوعية من الدلالات؟ أم هو الفكرة نفسها وقد تأسلبت متحولة إلى انبناء أدبي أكثر منه بناء أدبياً؟
ولعل هذه الأسئلة ونحوها كانت تواجه نظرية الشعرية العربية في عصرها. كما كانت تعبر عن خصوصية سياسة الكلام. تلك التي كانت أشد من الكلام نفسه ([1]).
وإذا صح القول: بأن مفهوم الأسلوب لم يكن غريباً ([2]) عن بيئة الثقافة العربية، لأن تتبع النصوص التي ترجع إلى القرنين، الثالث والرابع، يدل على أن مفهوم الأسلوب اقترب من الوضع الاصطلاحي أكثر من البلاغة نفسها" ([3]) فإن من الممكن الإشارة إلى أن الملامح الأسلوبية التي لهجت بها نظرية عمود الشعر، لم تكن لتلغي ذاتية التجربة الشعرية، وهي تتحدث عن ضرورة الانطلاق من القاعدة الفنية، ذلك أن عمود الشعر "لو لم يكن الصيغة التي اختارها شعراء العربية، لكان في أقل تقدير، هو الصورة التي اتفق عليها النقاد([4]) العرب الذي كانوا أقرب ذاتياً وموضوعياً، إلى قراءة النص الشعري القديم".
على أن المرزوقي في عمود الشعر، قد لاحظ أن أصحاب (نظرية الشكل) أو أنصار النظم يتوزعون في نظرهم النقدي إلى النص الشعري، على ثلاثة مستويات ([5]):
- مستوى يرى النظم، في صفاء التراكيب، والسلامة من الوقوع في الخطأ.
- مستوى يرى النظم في ا لحرص على تتميم المقاطع وتوخي الدقة في تلطيف المطالع، ومراعاة درجة التناسب، بين الفصل والوصل، ثم الإيقاع الحسن بتعادل الأقسام والأوزان.
- مستوى يرى النظم في استثمار أنواع الصور البديعية، من ترصيع وتجنيس، وسواهما أي أن هناك من يعنى بالمستوى الصوتي من خلال صور البديع، وآخر يرى العناية بالبناء التركيبي، في تتميم المقاطع وتلطيف المطالع وسواهما. وهناك من يعنى بالمستوى النحوي الدلالي من خلال صفاء التركيب والسلامة من اللحن.
ولكنه لم يشر إلى مسألتين، غاية في الأهمية، الأولى: "أن كل معنى يمكن التعبير عنه في ثلاثة أنواع من المبنى" ([6])، والمسألة الثانية هي ضرورة توفر المبنى الشعري على هذه المستويات الثلاثة، أو النظر فيه من خلال توفره عليها.
وقد توفرت عناصر عمود الشعر على هذه المستويات (الصوتي، التركيبي، الدلالي) وقصد المرزوقي أن تكشف تلك العناصر طريقة العرب في قول الشعر، من خلال معايير أراد لها أن تكون قواعد للشعر عند دراسة أدوات التعبير الشعري في اللغة، ولم يشأ لها أن يكون الشعر من خلالها شعر قواعد ينبني على دراسة آثار القواعد الشعرية كما تتمثل أثر عمل أدوات التعبير الشعري.
ويبدو أن دراسة أدوات التعبير الشعري التي يستعملها الشاعر ليفرض على المتلقي طريقة تفكيره هي موضوع الأسلوبية ([7]). من جهة أن الأسلوبية "علم يهدف إلى الكشف عن العناصر المميزة التي بها يستطيع المؤلف الباث، مراقبة الإدراك لدى القارئ، المتقبل والتي بها يستطيع أيضاً أن يفرض علينا وجهة نظره في الفهم والإدراك، فالأسلوبية بهذا الاعتبار علم لغوي يعنى بظاهرة حمل الذهن، على فهم معين وإدراك مخصوص" ([8]).
ومن هنا ينظر إلى الأسلوب الشعري على أنه: اختيار واع لأدوات التعبير الشعري ([9]).
وقد اتضح ما كان من تفريق بين الأسلوب والأسلوبية، في كون الأسلوبية "دراسة للتعبير اللساني، أما كلمة أسلوب فهي طريقة للتعبير عن الفكر بوساطة اللغة" ([10])، وبعض الباحثين يرى أن الأسلوب "ذو مدلول لساني ذاتي نسبي، واللاحقة تختص (بالبعد العلماني) العقلي، وبالتالي الموضوعي، ويمكن في كلتا الحالتين تفكيك الدال الاصطلاحي إلى مدلوله، بما يطابق عبارة (علم الأسلوب) لذلك تعرف الأسلوبية أحياناً، بأنها: البحث عن الأسس الموضوعية لإرساء علم الأسلوب" ([11]).
واشتمال عناصر عمود الشعر على مستويات الدرس الأسلوبي الحديث، أهّلها للقراءة الأسلوبية، من جهة أن "اللسانيات النظرية تعني بدراسة الأصوات اللغوية دراسة (فيزيولوجية) وفيزيائية وسمعية ودماغية. كذلك تعنى بدراسة التراكيب اللغوية من حيث، بناء الجملة وبناء الكلمة ورتبتها داخل الجملة، ومن حيث القواعد التي تصوغ الكلام و تضبطه في الوقت نفسه، وتعني اللسانيات النظرية بالدلالة التي تفرزها هذه الأصوات والتراكيب، سواء أكانت دلالة خاصة أم عامة، معروفة ومخزونة في الدماغ أم غير ذلك. وبكلمة دقيقة إنها تعنى ببنية المعنى وكيفية توليده، في اللغة وخارج اللغة وتعنى أيضاً بالقواعد التي تولد المعنى، والضوابط الموضوعة على تلك القواعد" ([12]).
وقد كان اهتمام الألسنيين كبيراً بدراسة الجمل في خلال ثلاثة مستويات:
الصوتي والتركيبي والدلالي، حيث نظروا في المستوى الصوتي من حيث مستوى الوظائف، وإلى المستوى التركيبي من حيث مستوى السرد، وإلى المستوى الدلالي، من حيث مستوى المعنى ([13]).
وتحاول هذه القراءة الأسلوبية لعناصر عمود الشعر، بوصفها مقومات للشعرية العربية، أن تكشف عن المستويات التي حاول عمود الشعر، أن يقرأ القصيدة العربية في ضوئها وأن يوجه المتلقي إلى الاستضاءة بها في إنتاج النص الشعري الحامل لخصوصية أسلوبية تمثل صاحبه.
إن عناصر عمود الشعر ومعاييره لا يمكن النظر إليها على أنها سلفية "تلزم متأخر الشعراء، بعدم الخروج على سنن المتقدمين" ([14]) بحجة أن النقد (الكلاسيكي) كانّ متشدداً في الدعوة إلى الالتزام بما أقره السلف من قواعد في الفنون ومنها الشعر لأن ما كان من حرص الشعراء –على صعيد النص الشعري –على عدم الشذوذ عن سنن السابقين، إنما كان إشارة إلى انطلاق الإبداع الحاضر مما أسسه الآخر السابق أولاً، ثم محاولة المنطلق في أن يؤسس لنفسه خصوصيتها. وهذا ما يشير إليه رأي القدماء في الراعي النميري، من أنه شق طريقاً في قول الشعر كان منفرداً فيه، وكان انفراده سبباً في تقديمه ([15])، لأن المحافظة على سنن السابقين، لا تعني استنساخ أساليبهم، أو عدم التفرد. وهذا ما نلحظه في أجيال الشعراء المتعاقبة، التي يضيف المتأخر فيها جديداً إلى ما قاله المتقدم.
أما على صعيد النقد فقد كان طبيعياً أن يتشدد النقاد في الدعوة إلى احترام سنن الأقدمين من الشعراء، وأن نقرأ نظرات نقدية تنحو هذا المنحى، ولهذا لم يكن دقيقاً ما ذهب إليه إحسان عباس، من أن النقد والشعر قد أصيبا بالجمود من خلال تأكيد النقاد على تلك النظرات النقدية أو عناصر قراءة الشعر عند السابقين، والحرص القائم على عدم التمرد على أساليب الشعر القديم، مشيراً إلى أن الشعر العربي قد أصيب "بالتقليد أولاً عندما خاف اللغويون من تحضر اللغة فاتخذوا من القديم نماذج يحتذيها المحدثون، وثانياً عندما تبلورت نظرية عمود الشعر تبلوراً شديداً، أصيلاً لم يسمح بالثورة عليها" ([16]).
والواقع أن هناك جملة مؤاخذات للنقاد على عمود الشعر منها، إنه يطلب إلى الشعراء أن يسلكوا سبيل من سبقوهم، ولا يشذوا عن سنن الأقدمين، وكذلك رأوا في عناصره قواعد الأنموذج الأرقى للشعر، ثم وجد أن على من أراد التفوق أن ينهج سبيل هذه العناصر ليكون تفوقه بقدر نصيبه منها ثم أنه لم يشر إلى التجربة الشعرية على نحو خاص وتمثيلها للذات الشاعرة.
بدءاً كانت مرحلة النقد التسجيلي، تأخذ باستنساخ الشعر الجاهلي، وتدعو إلى تقليده، بوصفه المحور المركزي للشعر العربي، فهي معنية بتوثيق الأصل، والدعوة له حتى بلغ الأمر حد القول": إن النقد الأدبي لا تنظر له، بالقدر الذي حاز عليه الجمع والترجمة للسابقين إلى الحد الذي استقر عليه العرف الثقافي العربي، على أسس معرفية لفهم الشعر السابق، وقد بلورت تلك الأسس النقد التنظيري الذي قام تأسيساً على مرحلة التسجيل، بادئاً من حيث انتهت، ولما كان نظره إلى مقومات الشعر العربي، أكثر من توثيقه أو تسجيله أو الترجمة للشعراء فقد كان ينظر لفن الشعر من خلال تلك المقومات وهو ما تعارض فيه مع مرحلة التسجيل التي اعتمدت الزمن مقوماً فنياً، كونها انطلقت من التوثيق والترجمة للنص القديم احتفاظاً به مع مرور الزمن، في حين كانت مرحلة التنظير ترى في مقومات عمود الشعر الفنية حضوراً للأنموذجات الفنية العالية الصادرة عن الشعر الجاهلي، ثم ما جاء بعده بدرجة أقل. ولما كانت تلك الأنموذجات التقويمية منطلقة من اللغة أولاً. ومن العرف الثقافي الذي يتأسس على عيار من التلقي الشعري ذي سمات جاهلية، فقد أخذ النص الشعري الجاهلي حظوة كبيرة، من جهة أن لغته أصل، وعلى أساس تلقيه تأسس العرف الثقافي الشعري عند العرب.
ولما كانت مقومات الشعر، كما قال بها التنظير النقدي، قد انطلقت من الشعر الجاهلي، أي من طبيعة تذوق الشعر العربي، فقد صار الشعر المحدث ينطلق مما ترضاه الذائقة المحدثة، أخذاً بنظر الاعتبار عناصر تقييم الشعر، كما استنبطت من قراءة الشعر الجاهلي، وفي هذه المرحلة التي صار فيها النقاد يقاربون بين النص القديم الجاهلي والمحدث لا من جهة قبول الذائقة المحدثة له، لأنها أنتجته، إنما من جهة خضوعه لقياسات المقومات الشعرية المستنبطة من قراءة القصيدة الجاهلية، فصار هناك تمييز بين شعراء قريبين من تمثل تلك المقومات وتمثيلها، وشعراء أحدثوا فيها جديداً. ومحاولات المقاربة النقدية هذه، أدخلت النقد العربي القديم، مرحلة ثالثة، هي مرحلة النقد التطبيقي. ذلك الذي تصدر عنه (القاعدة النقدية) بحكم القاعدة النقدية للشعر أكثر من سواه، تلك القواعد المحكومة بالسياق الحالي والنصي للشعر، ساهمت بقوة في تأسيس مقومات جديدة كانت قريبة من النص المحدث.
وقد بدا أن قراءة مقومات عمود الشعر بوصفها مقولات أسلوبية، من جهة محاولتها قراءة الشعر العربي القديم، أو طريقة العرب في قول الشعر، واضعة لتمييز الأسلوب العربي في الشعر، مقولات أسلوبية يتميز فيها من سواه، وتتضح طرائق القمم الشعرية فيه من سواها، تلك القراءة، تحاول أن تكشف عن مستويات نظر النقد العربي في الشعر خاصة، وإن تلك المستويات قد مثلت الشكل الفني الذي يتخلق فيه المضمون، لذا توزعت مقومات عمود الشعر، بوصفها مقولات أسلوبية، على وفق ثلاثة مقومات: مقوم صوتي، وآخر تركيبي، وثالث دلالي.
ـ المبحث الأول في المقوم الصوتي
عند استقراء مقومات عمود الشعر البنائية، سنقف عند مقولاته الأسلوبية في مستواها الصوتي، في خلال ما جاء في التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، وما كان من مظاهر صوتية في مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية، وهذا كله منطلق من الصلة العضوية بين الشعر والغناء، ومؤسس عليها، فقد كان العرب يزنون الشعر بالغناء ([17])، لأن "الأوزان عندهم قواعد الألحان، والأشعار معايير الأوتار" ([18]) وكتاب الأغاني دال في هذا الاتجاه، وقد قال ابن خلدون: "كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء الفن، لأنه تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه، وكان الكتاب والفضلاء من الخواص يأخذون بأنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه" ([19]) حتى حدد صناعة الشعر بقوله: تلحين الأشعار الموزونة، بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة" ([20]) وفي ضوء هذا الواقع القديم للشعر العربي نظر المحدثون إلى الشعر الجاهلي على أنه نشيد، أي "نشأ مسموعاً لا مقروءاً غناء لا كتابة، كان الصوت في هذا الشعر بمثابة النسم الحي، وكان موسيقى جسدية، كان الكلام وشيئاً آخر يتجاوز الكلام، فهو ينقل الكلام، وما يعجز عن نقله، وبخاصة المكتوب" ([21]).
والواقع أن طبيعة الشعر توكّّد ارتباطه بالغناء والموسيقى، بدليل أن كل نتاجات الأمم الشعرية لم تكن خالية من الموسيقى ([22])، ثم إن كل المحاولات التي دعت إلى التجديد الشعري لم تستطع الإفلات من سطوة الموسيقى وتأثيرها في بنية النص الشعري.
وبعد هذا يمكن القول: أن الشعر العربي نشأ مرتبطاً بالغناء ([23])، إذ أن صرامة العروض العربي تؤكد التصاقه بالموسيقى، والتأكيد على القافية الموحدة التي تعطي الكلام الشعري طابعاً غنائياً، تؤكد هذا، وقد قال ابن رشيق: "كان الكلام كله نثراً، فاحتاجت العرب إلى الغناء، بمكارم أخلاقها وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة.. لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعراً، لأنهم شعروا به، أي فطنوا" ([24]).
ويمكن النظر إلى ملامح المستوى الصوتي عند الجاحظ على أنها إرهاصات طيبة في الاقتراب من الأسلوبية الصوتية للنسيج الشعري، في طرحه النقدي في البيان والتبيين إلا أن "الطرح النظري لوظيفة الجانب الصوتي في شموليته باعتباره عنصراً بنائياً في الشعر إنما نجده عند الفلاسفة المسلمين، ومن تأثر بهم في إطار نظرية المحاكاة" ([25])، أما على الصعيد التطبيقي، فيمكن النظر إلى قدامة بن جعفر في (نقد الشعر) على أنه متقدم على غيره، في الإحساس بما يتضمنه الصوت من عمق دلالي مؤثر شعرياً.
وقد أعطت كتب نقد الشعر تطبيقياً وكتب البديع، المقوم الصوتي الحر اهتماماً كبيراً وإن هي "لم تصل بينه وبين المقوم الصوتي المنتظم (الوزن والقافية) ويمكن ملاحظة هذا في أعمال البديعيين بدءاً من أسامة بن منقذ في كتابه (البديع).. لقد صارت أقسام المقوم الصوتي الواحد، وفروعه مثل الترصيع، تقوم باعتبارها مقومات قائمة الذات، فتعقد لها أبواب مستقلة، وانقطع ذلك الخيط بين عناصر المقوم الصوتي الإيقاعي" ([26]).
وفي ضوء ما سبق نفهم قول ابن وهب في البرهان، من أن "ما يسمى به الشعر فائقاً، والذي يكون إذا اجتمع فيه مستحسناً رائقاً، صحة المقابلة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ واعتدال الوزن... وأضداد هذه كلها معيبة، تمجها الآذان، وتخرج عن وصف البيان" ([27]).
وهذا التأكيد في المستوى الصوتي في البلاغة العربية، صادر عن كونه مقوماً من مقوماتها الرئيسة، ومنطلقاً شعرياً، حتى كان الترجيع "الذي تقوم عليه كل الموسيقى.. أوضح مظهراً وأبلغ خطورة في موسيقى الألفاظ، ذلك أنه يتصل باللفظ، أي بالإطار الصوتي الذي يمثل الوحدة الدلالية الدنيا، وفي اللفظ تبدأ عملية التفاعل بين الدلالة اللغوية والدلالة السياقية" ([28]) على نحو يكون فيه الصوت المقطوع، وان انقطعت صلته بالدلالة، "بمقتضى عزلة في الإطار الدلالي الأدنى، فإنه بحكم انعقاد صلة جديدة له بأصوات معزولة مثله يكتسب صلة بالمدلولات، أثر ربط هذه الأصوات بعضها ببعض، وربط المعاني بعضها ببعض" ([29]).
وفي سياق دلالات الأصوات، ينبغي الانتباه إلى المحدد الآتي، وهو "أن ليس هناك معان جوهرية للأصوات، ولكن المرسل هو الذي يمنحها إياها بناء على التراكم، وعلى السياق العام والخاص" ([30]) ومن هنا انطلق الباحثون الأسلوبيون من أحد ثلاثة اختيارات "بعضهم يبدأ من المرسل، فيدرس اختياراته، حال ممارسته عملية الإبداع، وبذاك فإن الأسلوب عند هؤلاء هو الاختيار أو الانتقاء.. وبعضهم من المتلقي، لذلك يدرس ردود، الأفعال والاستجابات التي يبديها المتلقي حيال المنبهات الأسلوبية في النص، وينطلق بعضهم من مبدأ عزل المرسل والمتلقي من دراسة الأسلوب، لذلك تراهم ينطلقون من النص ذاته" ([31]). وهذا النظر النقدي في النص الشعري ذاته، يتركز في الإمكانات التعبيرية الكامنة في المادة الصوتية، لأنها تأثيرات صوتية "تظل كامنة في اللغة العادية، حيث تكون دلالة الكلمات التي تتألف منها والظلال الوجدانية لهذه الكلمات بمعزل عن قيم الأصوات نفسها ولكنها تنفجر حيثما يقع التوافق من هذه الناحية، وإذن فثمة مجال– بجانب علم الأصوات بمعناه الدقيق –لعلم أصوات تعبيري" ([32]).
وعلم الأصوات التعبيري، ينظر في أسلوبية الكلام الشعري، في مستواه الصوتي، كونه "أول المنطلقات الأسلوبية التي تلتقي منهجياً بالوصف البلاغي، لصوتية المفردات اللغوية، وأنساقها التعبيرية، وإقرار الأثر الصوتي في تكثيف العلاقة، بين الدال والمدلول وإحداث المتغيرات اللغوية لأداء المعنى... فالصوت يختلف باختلاف ذات الشيء المحدث له" ([33]) وأصوات الألفاظ "دالة على جهات الكلام، كحروف الشيء وجهاته" ([34])، وفي هذا الاتجاه كان اختيار الأسلوبية الصوتية للتكرار المنظم للوحدات الصوتية، نابعاً من نهجها في وصف "صوتية المفردة اللغوية، بوصفها رمزاً دالاً بالمحاكاة، وعلى مستوى التركيب المتسم بالتردد الصوتي المولد للإيقاع المشحون بطاقة السياق الدلالية ([35]) لأن الأسلوبية الصوتية تنطلق من "تصورات موضوعية للأنساق الصوتية التي يعمد الشعراء إلى إشاعتها في قصائدهم" ([36]).
وفي مجال صوتيات التعبير نلحظ الأسلوبية الصوتية تميز بين ثلاثة أشكال صوتية:
الأولى هي الصوتية التمثيلية التي هي الصوائت بوصفها عناصر لغوية موضوعية. الثانية هي الصوتية الندائية أو الانطباعية التي تعنى بدراسة المتغيرات الصوتية الهادفة إلى دراسة التأثير في السامع، والثالثة هي الصوتية التعبيرية التي تعنى بدراسة المتغيرات الصوتية الصادرة عن مزاج أو سلوك عفوي لمتكلم معين ([37])، وفي هذا الإطار فإن الأسلوبية الصوتية "تعتمد على مفهوم المتغيرات الصوتية الأسلوبية وبمقدار ما يكون للغة حرية التصرف ببعض العناصر الصوتية للسلسلة الكلامية، بمقدار ما تستطيع أن تستخدم تلك العناصر لغايات أسلوبية" ([38]) ذلك أن اللغة تمتلك "نسقاً كاملاً من المتغيرات الأسلوبية الصوتية، ويمكن أن نميز من بينها: الآثار الطبيعية للصوت، المحاكاة الطبيعية للصوت، المد، التكرار، الجناس، التناغم،..." ([39])، وفي هذا لا ينظر للصوت منفرداً، أي "ليس الصوت نفسه كشيء منعزل بالتفاصيل العضوية لنطقه ولفظه، وإنما هو الصوت من حيث تميزه عن مجموعة الأصوات الأخرى. ودخوله في تشكيل أنظمتها، ومن هنا، يمكن وضع خصائص لغة ما، لا على أساس الدور الذي تقوم به الحبال الصوتية وسقف الحلق، وإنما على أساس التقابلات الصوتية التي تميز بعض الكلمات عن بعضها الآخر، فكل صوت في لغة ما، يدرس على أنه مجموعة الملامح التي تميزه عن بقية أصوات اللغة نفسها، وتضعه في مكان من جداول القيم الخلاقة في علاقاته بها، وبهذا تصبح بنية الأصوات هي محور الدراسة لا طريقة إنتاجها" ([40]).
ويمكن أن نلحظ هذه المقولات الأسلوبية في مقومات عمود الشعر، ولا سيما تلك التي تخص أسلوبية النص الشعري. فعلى الصعيد الصوتي نجد في، جزالة اللفظ واستقامته حيثيات صوتية، من جهة أن العنصر الصوتي لم يحتل مكان الصدارة، في فصاحة اللفظ المفرد إلا من جهة ما يحققه من خصوصية أسلوبية ولهذا كان ابن سنان حريصاً على تقعيده، في خلال ما اشترطه لفصاحة الألفاظ من خفة اللفظ، وحسن وقعة في السمع، وتجنب الكلمات الكثيرة الحروف، وتجنب العامي الساقط أو السوقي المبتذل، وهو يحبذ التصغير الذي لا يخلو من مزية صوتية وإن كان دلالياً في أساسه ([41]).
أما الجرجاني فقد حاول الاجتهاد في إبراز "عنصر المعنى فيما اعتبره غيره لفظاً خالصاً، وفي هذا الصدد تناول التجنيس، وهو المقوم الصوتي الحر الوحيد الذي آثار انتباهه، مشيراً إلى أن لا مزية له في نفسه، أي باعتباره أصواتاً مسموعة، بل لما يدخله من اعتبارات ووظائف فنية" ([42]).
ويرى أحد الباحثين أن الجرجاني "لم يطرح قضية المعنى كمبدأ متحكم في كل مكونات الفصاحة، ومنها المكون الصوتي، بل إنه جعل الصوت عوضاً لغيره، وجعل حضوره في غيره كافياً لإبعاده، ولو نظر إلى تفاصيل العنصرين: الصوت والدلالة. من دون أن يغمط أحدهما حقه، لكان لنظريته قيمة كبيرة" ([43]). وهذا الملحظ عند الجرجاني سبقته إشارات في عمود الشعر، في باب التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن، من جهة أن الوزن يسهم في الشعرية كونه من "الأمور التي تجعل القول مخيلاً" لاتصاله بزمن القول وعدد زمانه "أي أن التخلي عن الوزن الفاعل يجعل القصيدة تخسر مناطق في نفس المتلقي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر الوزن" ([44]) ذلك أن القصيدة "بترابطها الشفوي بين التحول الدلالي والإيقاع ومنه الوزن، أقدر على تجسيد ذبذبات الروح" ([45]) فكلما كان الوزن عنصراً دلالياً في النص الشعري، كلما ساعد على تعميق البنية الدلالية، وتزداد قيمته الفنية حين "يلصق فوق خط الاختلاف الدلالي سلاسل من التمثلات الصوتية" ([46]) وفي ضوء هذا القول نفهم إشارة هيجل إلى "أن الشعر يحتاج إلى الوزن أو القافية اللذين يمثلان هالته الحسية الوحيدة، بل يمكن القول أنه يحتاج إليهما، أكثر من حاجته إلى القول المخيل" ([47])، وفي تركيب أجزاء النظم تشكيل موسيقي "يؤثر في النفس البشرية.. يلطف الخلق، ويسهل القياد" ([48]) من قبيل الفصل والوصل كونه "وزناً ما، للكلام، وإن لم يكن وزناً عددياً، فإن ذلك للشعر، وهذا هو الذي يتحدد بمصاريع الأسماع" ([49]) وهذا ما ألمح إليه (كروتشه) من أنه "كلما قمنا بتحليل قطاع من التعبير، وجدنا أنفسنا أمام ظاهرة جمالية، فاللغة نفسها في جميع مظاهرها، إنما هي تعبير خالص، ومن ثم فهي علم جمالي وهي أصوات منظمة مهيأة من أجل التعبير، هذا التصور للغة، إنما هو تصور أسلوبي" ([50]) لأن علم الأسلوب ملتقى لدراسة كل الوسائل التعبيرية والجمالية في آن معاً ([51]).