[center]
ونلحظ المقوم الصوتي في قول المرزوقي بـ "التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن "وقد جعل عياره" الطبع واللسان، فلما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده، ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمرا فيه واستهلاه، بلا ملال ولا كلال، فذلك يوشك أن يكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة، تسالماً لأجزائه وتقارناً.. وإنما قلنا "على تخير من أللذيذ الوزن" لأن لذيذ يطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفائه، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه، واعتدال نظومه" ([52]).
فصحة النظم تتأتى من التحام أجزاء النظم والتئامها، وهذا يولده الاختيار الأمثل للوزن، أي المناسبة، ومن هذا كله تتولد اللذة التي تطمح إليها النفس، فالوزن الجميل والحسن، هو المطلوب، والاختيار تتحكم به الطبيعة النفسية للشاعر والمتلقي معاً، أي أن الشاعر يريد أن يسمع ما يتفاعل مع حالته النفسية، وهذا يؤيده كلام المرزوقي، فالاختيار الذي يقوم على أساس ما يلائم الحالة النفسية، يولد اللذة، ومن هنا كان الخلل في مكونات الشعر، وزناً أم غير وزن، يكشفه الذوق والحس، لأن العروض قد يعرف بالهاجس ([53])، "والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إن زاد أو نقص أبانة الوزن" ([54]).
وقد يبدو أن حديثه عن لذيذ الوزن، دعوة على نحو غير مباشر إلى أن يكون الشاعر حراً في اختيار تجربته الإيقاعية، في خلال الألفاظ والصياغات التي تقدمها، ومثل هذا التصور نقرؤه عند الجاحظ في قوله: "أنشدني خلف الأحمر:
وبعضُ قريضِ القوم أولادُ علةٍ
تكد لسانَ الناطقِ المتحفظِ
.... أي إذا الشعر مستكرهاً، وكانت ألفاظ البيت من الشعر، لا يقع بعضها مماثلاً لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أبناء العلات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضياً موافقاً، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤنة، قال:
وأجود الشعر، ما رأيته: متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" ([55]). وهذا الأمر على صعيد بناء البيت الشعري الواحد وما يصدر عن نظمه من تلوين صوتي يسهم في تكوين ملامح المكون الصوتي وتحديدها.
أي أن المكون الصوتي المتمثل في التئام أجزاء النظم، يعتمد على مشاكلة اللفظ للمعنى في خلق تناسب صوتي متوافق، لا يجعل الجملة هجيناً، بأسلوب تأتي القافية فيه مكونة القمة التي يتصاعد إليها الأداء الإيقاعي الصوتي.
وهنا نفهم مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، على أنها فهم مستفاد من فهمه للمعنى الذي هو "الغرض المفاد بألفاظ التراكيب، لا المعنى الموضوع له اللفظ، لأن المعنى الموضوع له اللفظ، لا يتصور في اشتراكه، مشاكلة بينه وبين اللفظ الدال عليه، فالمراد أن الغرض تناسبه الألفاظ الموضوعة لمعان حميدة، والغرض الخسيس تناسبه الألفاظ الموضوعة للمعاني الخسيسة" ([56]) وهو ما ذهب إليه الجاحظ بقوله: "إلا إنني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني" ([57]) وهو ما ذهب إليه بشر بن المعتمر حين قال: أن "من أراد معنى كريماً، فليتمس له لفظاً كريماً، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما" ([58]).
وفي ختام البيت الشعري بقافية على نحو متناسب ما يشير إلى عناية العرب بالقافية، تلك العناية التي تكشف عن موقعها في تشكيل الأسلوب الصوتي بوصفها خصيصة أسلوبية.
والقافية بوصفها أصواتاً تتكرر على نحو متناسب في أواخر الأشطر، وتكرارها جزءاً من بنية الموسيقى الشعريّة، فهي فواصل صوتية يتوقع السامع ترديدها، والمتلقي يستمتع بهذا التردد الذي يطرق الآذن في مدد زمنية منتظمة، وبعدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يسمى الوزن ([59]).
وعلى هذا النحو تعطي القافية للوزن "بعداً من التناسق والتمائل يضفي عليه طابع الانتظام النفسي والموسيقي والزمني" ([60]) وهذا ما انطلق منه حازم القرطاجني حين عرف القافية على أنها "حوافر الشعر، عليها جريانه واطراده، وهي مواقفه، فإن صمت استقامت حريته وحسنت مواقفه ونهاياته" ([61])، فالقافية أداة إيقاعية تبعث الإيقاع الأصلي للوزن، ذلك الإيقاع الذي يفترض ثباته جزءاً من الشكل الشعري. وقد أولاها النقاد والبلاغيون اهتماماً واشترطوا فيها شروطاً منها: التمكن وصحة الوضع والتمام. مما يجعل موقعها في النفس مؤثراً، بشروط: أن تكون حروف الروي في كل قافية من الشعر حرفاً واحداً بعينه، غير متسامح في إيراد ما يقاربه معه ([62]).
وبلغ أمر العناية بالقافية حد الحرص على التكرار الصوتي الذي لا يتناسب مع طبيعة الشعر كما في لزوميات المعرى، التي تؤكد أهمية الدور الموسيقي إحساساً منه بمدى فاعليتها في خلق الشعرية ([63]).
لأنها تؤدي إلى بنية التوازي التي "يحظى فيها الصوت حتماً بالأسبقية على الدلالة" ([64])، والوظيفة الدلالية التي يؤديها الوزن للقافية تكشف عن "أننا لا نفكر في القيم الصوتية منفصلة عن المعنى بل نفكر في المعنى، من خلال مستويات متعددة، تتجاوب تجاوباً لا يسمح بالتفكير فيها، منفصلة عن غيرها" ([65]).
وهذا كله يحدد شعرية الوزن والقافية في بنية الشعر العربي كونهما يعدان أحد مقومات هذه الشعرية، فهما ركنان في القصيدة "لا يمكن أن يقوم بناؤها إلا عليهما" ([66]) ولا نجد ناقداً عربياً قديماً، نفى أهمية الوزن والقافية عن الشعر، بل أن الوزن عند العرب "أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية وهو مشتمل على القافية، وجالب لها ضرورة" ([67]).
وقد أشار الفارابي إلى أن الجمهور وكثير من القراء يرون القول شعرياً متى كان موزوناً، مقسوماً بأجزاء، ينطلق بها في أزمنة متساوية، وإذا لم يكن موزوناً بإيقاع فليس يعد شعراً إنما هو قول شعري ([68]). والفارابي يفرق بين الشعر والقول الشعري، على أساس أن الشعر هو قول مخيل موزون، والقول الشعري قول مخيل غير موزون. أما ابن سينا فيرى القول الموزون غير المخيل لنا، إنما هو شعر ناقص، أما القول المخيل الموزون فهو الشعر الكامل، والقول المخيل غير الموزون هو النثر ([69]).
فالوزن بوصفه أحد مقومات الشعرية العربية إنما هو "إبراز أو إحداث لفجوة حادة في طبيعة اللغة، خلق لمسافة توتر عميقة بين المكونات اللغوية العائمة في وجودها العادي خارج الشعر ووجودها داخله، الوزن هو تناول للمادة اللغوية بأبعادها الصوتية" ([70]). أما النظم فهو، حتى في الدراسات الحديثة: خطاب يكرر كلياً أو جزئياً، الصورة الصوتية نفسها متجاوزاً في الواقع حدود الشعر، إلا أن الشعر يستلزم في الوقت نفسه الوظيفة الشعرية ([71]).
واقتضاء اللفظ الشعري للقافية، متصل بما لها من حضور في موسيقى الشعر وكاشف عنه، إذ أنها تطغى على البنية الموسيقية للشعر، لأنها الوقفة التي تبرز عندها النغمة الموسيقية، وأن التوازن الصوتي بين قافية البيت الشعري والبيت الذي يليه تجعل النفس في حضور دائم مع النص الشعري، والغنائية التي تحدثها القافية تولد التواصل الدائم بين المتلقي والنص الشعري.
هوامش المقومات والمبحث الأول
([1]) -الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية، مقال، مازن الوعر 138. عالم الفكر، ع3 –4، 1994م.
([2]) -ينظر: البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب، 117.
([3]) -مبادئ علم الأسلوب العربي، شكري عياد، 15.
([4]) -تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إحسان عباس، 405.
([5]) -شرح ديوان الحماسة، 1 /8 –11، وينظر، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، 402 –404.
([6]) -تاريخ النقد الأدبي عند العرب، 404.
([7]) -الأسلوبية والنقد الأدبي، مقال عبد السلام المسدى، 39. الثقافة الأجنبية، ع1، 1982م.
([8]) - المصدر نفسه، 39 –40.
([9]) -الأسلوب والأسلوبية، بيير جيرو، 07.
([10]) -المصدر نفسه، 06 وينظر: البلاغة والأسلوبية، 125.
([11]) -الأسلوبية والأسلوب. المسدى، 30.
([12]) -الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية، مازن الوعر، 139.
([13]) -قراء النص، يوسف نوفل، 21.
([14]) -شكل القصيدة العربية في النقد العربي حتى القرن الثامن الهجري، جودت فخر الدين، 89."
([15]) -العمدة، 2 /217.
([16]) -فن الشعر، إحسان عباس، 48.
([17]) -الموشح، 39.
([18]) -العمدة، 1 /9.
([19]) -مقدمة ابن خلدون، 488.
([20]) -مقدمة ابن خلدون، 488.
([21]) -الشعرية العربية، أدونيس، 5.
([22]) -ينظر، مقدمة في النقد الأدبي، الطاهر، 64.
([23]) -عناصر الإبداع في شعر الأعشى، عباس بيومي عجلان، 298، وينظر في الأدب الجاهلي طه حسين، 340.
([24]) -العمدة، 1 /7 –8.
([25]) -الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، محمد العمري، 38.
([26]) -المرجع نفسه، 36.
([27])-البرهان في وجوه البيان، 139. وينظر، منهاج البلغاء، القرطاجني، 44 –45.
([28])-خصائص الأسلوب في الشوقيات، الطرابلسي، 173.
([29])-خصائص الأسلوب في الشوقيات، الطرابلسي، 59، وينظر، بنية اللغة الشعرية كوهن، 78 –224.
([30])-دينامية النص، محمد مفتاح، 63.
([31])-الأسلوبية الإحصائية، مقال، 53.
([32]) -دليل الدراسات الأسلوبية، جوزيف شريم، 36.
([33]) -الأسلوبية الصوتية، مقال، ماهر مهدي هلال، 70. آفاق عربية، ع كانون الأول، 1992م.
([34]) -سر الفصاحة، 11.
([35]) -الأسلوبية الصوتية، ماهر مهدي، 71.
([36]) -الأسلوبية الصوتية، ماهر مهدي، 74.
([37]) -الأسلوب والأسلوبية، بيير جيرو، 139.
([38]) -المصدر نفسه، 39.
([39]) -المصدر نفسه، 40.
([40]) -نظرية البنائية، صلاح فضل، 115 –116. وينظر: البلاغة والأسلوبية، 145.
([41]) -سر الفصاحة، 109.
([42]) -الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، 82.
([43]) -المرجع نفسه، 83.
([44]) -عضوية الموسيقى في النص الشعري، عبد الفتاح صالح، 51.
([45]) -المرجع نفسه، 52.
([46]) -الصورة والبناء الشعري، محمد حسن، 10.
([47]) -فن الشعر، هيجل، 75.
([48]) -نظرية الشعر عند العرب، مصطفى الجوزو، 237.
([49]) -الخطابة، أرسطو، 222.
([50]) -علم الأسلوب: مبادؤه وإجراءاته صلاح فضل، 35.
([51]) -المصدر نفسه، 37.
([52]) -شرح ديوان الحماسة، 1 /9 –10.
([53]) -ينظر، رسائل الجاحظ، 2، القيان، 161 –162.
([54]) -رسالة الغفران، 251.
([55]) -البيان والتبيين، 1 /66 –67.
([56]) -شرح المقدمة الأدبية، محمد الطاهر عاشور، 75.
([57]) -البيان والتبيين، 1 /145.
([58]) -المصدر نفسه، 1 /136.
([59]) -موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس، 273.
([60]) -الشعرية العربية، أدونيس، 13.
([61]) -منهاج البلغاء، 271.
([62]) -المصدر نفسه، 271 –272.
([63]) -موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس، 204.
([64]) -قضايا الشعرية، ياكوبسون، 108.
([65]) -مفهوم الشعرية، جابر عصفور، 267.
([66]) -مقدمة ديوان (نداء القمم)، يوسف خليف، 15.
([67]) -الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، 78.
([68]) -جوامع الشعر. ملحق بكتاب تلخيص أرسطو طاليس في الشعر، ابن رشد، 172.
([69]) -فن الشعر، أرسطو، تح، عبد الرحمن بدوي، 168.
([70]) -في الشعرية، كمال أبو ديب، 89.
([71]) – بنية اللغة الشعرية ، جان كوهن ، 52
ـ المبحث الثاني: في المقوم التركيبي
يتحقق المستوى التركيبي أو المقوم اللغوي، في عنصرين من عناصر عمود الشعر، إذ يمكن عد حيثيات جزالة اللفظ واستقامته. من ضمن ما يقرأ أسلوبياً في مستوى التركيب، وكذلك شرف المعنى وصحته، ثم التحام أجزاء النظم عند اقترانها ببناء القصيدة عمودياً على مستوى الأبيات، وليس أفقياً فقط، على مستوى البيت الواحد، وما يصدر عنه من أثر إيقاعي أُشيرَ إليه في المستوى الصوتي، وكذلك مشاكلة اللفظ للمعنى واقتضائهما للقافية، من جهة تركيب البيت الشعري، أي الجملة الشعرية، لا من جهة ما يصدر عنها من تلوين صوتي سبقت الإشارة إليه في المقوم الصوتي أولاً.
أخذ المستوى التركيبي بوصفه مقوماً لغوياً أهمية في التراث النقدي، لأنه جعل جل اهتمامه منصباً على الجانب اللغوي للنص الشعري، فاللغة هي الأساس الأول الذي بني عليه النقد العربي. وهي الهاجس الأول لدى المهتمين بحقلي: اللغة والأدب، والشعر كان يمثل –لدى النقاد –وعاء يحفظ اللغة من الفوضى والضياع" فاللغة بهذا المعنى تكاد تؤلف جوهر الشعر، ولا عجب إذن. إن حظيت لدى القدماء بكل عناية واهتمام، حتى لكأن النقد اللغوي هو عمود النقد العربي برمته وكأن غرام العرب بالشعر، إنما كان منصرفاً قبل كل شيء إلى غرامهم بلغته" ([1]).
ومن هنا نقرأ مكونات الشعر وصفاته وقد تركزت في لغته ([2])، وقد نظر النقاد العرب في لغة الشعر من خلال اللفظ والتركيب كونهما مادته.
وقد لخص عمود الشعر الصفات التي يجب أن يتوفر عليها اللفظ في أمرين أو صفتين هما: الجزالة والاستقامة، "فاللفظ في عمود الشعر ينبغي أن يتوفر فيه أمران أو شرطان هما: الجزالة والاستقامة" ([3]).
وقد أطلقت هاتان الصفتان استناداً إلى قوتين سيطرتا على العقلية النقدية وهما:
البيئة والمثال (الأنموذج) فالبيئة لها قوة تأثير وسيطرة على صفة المصطلح النقدي، إذ استمد منها، قوته ووجوده. أما المثال (الأنموذج) فقد أخذت العملية النقدية بالنظر في الأنموذج الجاهلي (الشعر الجاهلي) على أنه القمة الأعلى في فن الشعر، وبسبب الظروف التي نشأ فيها، من صحراء وخشونة أصبح يمثل شعر القوة والبطولة، ألفاظه قوية جزلة "ومرجع هذه القوة والمتانة في اللفظ الجزل، إنه من كلام العرب الفصحاء الذين يرجع إليهم في أمور اللغة فيكون ما ينقل عنهم موضع ثقة وأمان من الزيف والانحراف" ([4]).
فالجزل: الحطب اليابس، وقيل الغليظ، وقيل ما عظم من الحطب ويبس ثم كثر استعماله حتى صار كل ما كثر جزلاً، واللفظ الجزل خلاف الركيك ([5]).
والملاحظ أن الجزالة تدل على القوة والمتانة، فهي تدل على الحطب اليابس الكثير والغليظ، وعلى ما عظم من الحطب ويبس، ثم تطورت الدلالة من خلال الاستعمال. أما الاستقامة فهي الاعتدال. يقال: استقام له الأمر. أي اعتدل، والمتانة والاعتدال صفتان ملازمتان للفظ، يحسن بوجودهما ([6]).
واللفظ بوصفه (النواة الأولى) التي يتشكل عليها البناء الشعري، أخذ حيّزاً من عناية النقاد فأكثروا من صفاته باحثين عن الجانب الجمالي وصولاً إلى تحديد ذروة الحسن، لكن الجمال ظل محكوماً بالتصور المحدود بأنماط المعيشة. ففعل (القول /الشعر) يمثل الجانب المادي الأول في فعلهم الإنتاجي. والشعر ممارسة مادية، أصبحت تشكل لديهم نسغ الحياة، لذا فهم حريصون على تجنب الغريب، والعمل على حفظ الصورة الناصعة للشعر الجاهلي، فهو يمثل اللغة النقدية الخالية من الدخيل، وهو السور الذي يحفظ اللغة من الاختلاط مع ما هو غير عربي، لذا نجد أن كل ما حدث من تليف وتدوين استهدف حفظ النظام المعرفي الأول، والثقافة التي تسورها الفطرة، وكل محاولة للخروج على هذا الذي صار قاعدة تعد خرقاً وتجاوزاً ([7]). على نحو ما كان من شعراء البديع.
واستعمال أبي تمام لنمط جديد في الكتابة الشعرية، يقوم على أساس إعطاء النص الشعري، بما يحمله من لفظ وتركيب، بُعْداً جديداً، لا يقوم على أساس القراءة الأفقية، وإنما على أساس القراءة العمودية (التوليدية) القراءة التي تولد معنى يصل بك لـ (معنى المعنى) ([8]) لكن سائر النقاد تأسس حكمهم على الوضوح، فالكلام الجيد هو ماتصل إلى معناه من دون كد أو أعمال فكر. يقول أبو هلال العسكري: "إن الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً وسلساً سهلا، وسطاً، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائج النادر" ([9]).
وقد تحددت عيوب اللفظ لديهم في ضوء ما قالوه من شروط أو وضعوه من ضوابط أو معايير، فمن عيوب اللفظ: "أن يكون ملحوناً، وجارياً على غير سبيل الإعراب واللغة،...، وأن يركب الشاعر منه ما ليس يستعمل إلا في الفرط، ولا يتكلم به إلا شاذاً.." ([10]).
ولما كانت الكلمة الواحدة "لا تشجو، ولا تحزن، ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام، وأمتع سامعيه، بعذوبة مستمعه، ورقة حواشيه" ([11])أي عند التركيب، فقد نظر النقاد العرب إلى التركيب على أساس (التركيب اللغوي) و(التركيب البلاغي) ويقصد بالتركيب اللغوي ما قد يحمله الشعر من تقديم وتأخير، أو أخطاء نحوية وغيرهما. أما التركيب البلاغي فهو ما يحمله الشعر من أساليب بلاغية يعتمد عليها الشاعر، وقد أخذ هذا الجانب حيزاً كبيراً من اهتمام النقاد لأسباب منها:
- إن التمكن من اللغة أو الإحاطة (بتقنيات اللغة) لا يجعل الإنسان شاعراً، بدليل عدم صدور شعر كبير عن علماء اللغة والنحو.
- إن اعتماد الشعراء على الأساليب البلاغية جعل النقاد يبحثون في أصول هذه الأساليب ليضعوا القواعد لها، فقد صار الأسلوب البلاغي محط نظر النقاد، لأنه شكل نمطاً أسلوبياً جديداً في الكتابة الشعرية.
- إن المعنى قد يكون غامضاً ومعقداً، إذا دخل الشعر شيء من الأساليب البلاغية، وقد تقدم أن النقاد، كانوا يسعون إلى وضوح المعنى، لذلك جعلوا للأسلوب البلاغي حدوداً وقواعد، يجب على الشاعر الالتزام بها.
ومفهوم عمود الشعر للمستوى التركيبي بلاغي يتوفر على الوجهين: اللفظ والمعنى، فقد نعت اللفظ بالجزالة والاستقامة، والمعنى بالشرف والصحة، أما اللفظ فقد جعل عياره: الطبع والرواية والاستعمال، وما صدر عن كل هذا ووافقه فهو المستقيم، وخلاف هذا فإن وقوع اللفظة في نسق غير متوافق يجعل "الجملة هجيناً" ويعد الآمدي مثالاً لهذا قول أبي تمام ([12]).
خانَ الصفاء أخٌ، خانَ الزمان أخاً
عنه فلم يَتَخوّن جسمهُ الكمد
إذ عده البلاغيون من الكلام المتعاضل، وما هو بذاك، لأن الشاعر "على المستوى التركيبي صاغ نسقاً جعل فيه لفظة (أخ) فاعلاً في حال، ومفعولاً به في حالة أخرى وذلك ما اقتضى هذا التداخل البنائي في السياق، لقد كان هم أبي تمام أن يجعل البنية مترابطة دلالياً لتوليد المعنى، ولم يكن همه الوضوح، لذلك كان البيت خارج عمود الشعر، ولكنه في القياس المقابل، يعد متغيراً أسلوبياً، في مفهوم الاستقامة المجرد" ([13]).
على أن مؤاخذات القدماء على هذا البيت وما شاكله، إنما صدرت عن مفهوم لجزالة اللفظ واستقامته، ذلك المفهوم الذي يشترط في اللفظ أن يكون: "رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً" ([14])وقد دعا الجاحظ في هذا المفهوم إلى عدم تنافر الحروف بالشكل الذي تصعب فيه على المنشد عند الإنشاد ([15]) كما قال بضرورة الابتعاد عن العامي والساقط والسوقي والوحشي من الألفاظ، لأن هذه الصفات تتعارض مع جزالة اللفظ واستقامته ([16])، على أن بعض النقاد القدماء يجمع بين جزالة الألفاظ واستقامتها ([17]).
وقد بدا المرزوقي ومن أشار قبله لهذا الأمر، باحثاً عن اللفظ الذي يشكل بانضمامه إلى غيره سياقاً شعرياً يتسم بالتوازن والتوافق، في خلال تجانسه مع قرائنه من الألفاظ على نحو فني.
أما رأيه في شرف المعنى وصحته، فقد كان أخذاً بما تواضع عليه العرف بدءاً من بشر بن المعتمر، حين اشترط في المعنى أن يكون "طاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وأما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضح بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال" ([18]).
فالمعنى عند بشر متصف بثلاث صفات هي: الصواب أو الصحة ثم النفع أو الفائدة ثم المطابقة لمقتضى الحال.
والمرزوقي لم يخرج على الآمدي أو الجرجاني اللذين قالا بضرورة تناسب اللفظ والمعنى في الخطاب الشعري، فقد قال الآمدي "ينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورداءة اللفظ، يذهب بطلاوة المعنى الدقيق، ويفسده ويعميه، حتى يحوج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره.. وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسناً ورونقاً.. وهذا مذهب البحتري.. وإذا جاء لطيف المعاني في غير بلاغة ولا سبك جيد، ولا لفظ حسن، كان ذلك مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق أو نفث العبير على خد الجارية القبيحة الوجه" ([19]).
وينحو عبد العزيز الجرجاني هذا المنحى في ضرورة تناسب اللفظ والمعنى في الخطاب الشعري، إذ قال: "أقل الناس حظاً في هذه الصناعة (يعني صناعة الشعر) من إقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادته واستسقاطه على سلامة الوزن وإقامة الأعراب، وأداء اللغة ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يستنير ما بينها من نسب، ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صور له الغرض" ([20]).
ولعل أوضح فهم لعملية الربط بين اللفظ والمعنى، هو ما كان عند الجاحظ أولاً، ثم ما قال به عبد القاهر الجرجاني بعد ذلك في نظرية النظم.
أما الجاحظ في (نظرية المعاني المطروحة) فلم يذهب –حين قال "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير" ([21]) -إلى الفصل بين اللفظ والمعنى أو تقديم إحداهما على الآخر، بدليل قوله أيضاً: "والاسم بلا معنى لغوي، كالظرف الخالي، والاسم في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح: اللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح" ([22]) وهذا يشير إلى عدم تصور أن من يرى صلة اللفظ بالمعنى هي صلة الجسد بالروح يمكن أن يتصور بينهما ممكناً، أو تفضيل أحدهما معقولاً، هذا يشير إلى أن براعة الشاعر، لا تتمثل في استخدامه الألفاظ دون المعاني، ولا يصح العكس. ثم إن اللفظ عند الجاحظ "لا يعني اللفظ المفرد، بل ما ينتظم بالألفاظ من العبارات، شعراً أو نثراً، الشيء الذي يجعل منه الملهم لـ (نظرية النظم) التي شهدها الجرجاني" ([23])، وهذا ما يكشف عن رأى الجاحظ بقوله في الشعر الجيد، إنه: "ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"([24]).
ومن هنا نفهم رأيه في لغة الشعر، كما تتمثل بقول الشاعر ([25]):
لا تحسبنَ الموتَ موتُ البلى
فإنما الموتُ سؤالُ الرجالْ
كلاهما موتٌ، ولكن ذا
أفظع من ذاك لذل السؤالْ
إذ قال: أنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً".
والواقع أن الجاحظ في رأيه هذا ليس اتباعياً، إنما كان أصيلاً، إذ ألغى مبدءاً مهما ترتكز عليه الثقافة النقدية، وهو الوضوح والسهولة، فهو لا يرضى من الشعر أن يكون سهلاً واضحاً لتحقيق (شعرية النص) وإنما يريد من الشعر أن يكون باعثاً إلى الإدهاش الذي يتحقق بالابتعاد عما هو مألوف، ومتعارف عليه، فبالغرابة تتحقق (شعرية النص) إذ أن "الناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرؤى والهوى، مثل الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ" ([26]).
ولا شك في أن البيتين (لا تحسبن الموت موت البلى..) هما من الشعر الجيد، إذا ما قيسا على أساس (عمود الشعر) إذ يتوفران على جزالة في الألفاظ، وصحة في المعنى وشرف ظاهر في البعد الأخلاقي الذي يهدفان إلى تعبيره شعرياً. لكن الجاحظ ينفي أن يكونا من الشعر في شيء، والسبب أنه نظر إليهما من جهة اللغة الشعرية، فلغة البيتين لم تكن شعرية، لأنها لا تحمل من مقومات الشعرية سوى الوزن والقافية.
ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني قد قامت أيضاً على التآزر التام بين اللفظ والمعنى، ذلك التآزر المتناسب الذي يحتم بتبعية إحدهما للآخر من دون ترجيح أيهما أولى لأن أياً منهما لا يقوم من دون الآخر. إذ أشار إلى أن "الألفاظ لا تنفك عن المعاني، وأنه من الخطأ تصور بلاغة أو فصاحة في اللفظ، من حيث هو لفظ أي صوت مسموع، ليربط بين اللفظ والمعنى في الشعر ربطاً محكماً، إذ جعلهما، بمنزلة المادة والصورة وبمنزلة الروح والجسد" ([27])، أي إنه قال بكون الجمال "ليس في اللفظ ولا في المعنى وإنما في نظم الكلام" ([28]).
وقد أوضح عبد القاهر هذا في أجلى صورة حين قال: "أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح، عائد في الحقيقة إلى معناه، ولو قيل: أنها تكون فيه دون معناه، لكان ينبغي، إذا قلنا في اللفظة، أنها فصيحة، وأن الفصاحة واجبة لها بكل حال، ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك، فإنا نرى اللفظة في غاية الفصاحة في موضع، ونراها بعينها، فيما لا يحصى من المواضع، وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير.. وجملة الأمر هنا إنّا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكننا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقاً معناها بما يليها" ([29])، ثم يستشهد على هذا بقوله تعالى ([30]):
"واشتعل الرأس شيباً" فيذهب إلى أن "اشتعل" في أعلى مرتبة من الفصاحة التي لم توجب لها وحدها، لكن موصولاً بها "الرأس" معرفاً بالألف واللام، ومقروناً إليها الشيب منكراً منصوباً ([31]).
أما وحدة النص الشعري فلم ينظر إليها عمود الشعر، إلا في حدود الجملة الشعرية، أو البيت الشعري، ولعل أوضح مفهوم لهذا ما نلحظه عند الجرجاني، إذ نظر إلى الوحدة في حدود الجملة، أي ائتلاف النظم أو التركيب في حدود الجملة، والأمر هنا راجع إلى سببين رئيسين:
الأول: "أن الوحدة التي تنتقض إذا نقض جزء واحد أو غيره، هذه الوحدة، لم توجد قط في القصيدة العربية، فلم يكن أمام الجرجاني من نماذج تعينه على فهم الوحدة في نطاق أوسع من هذا المجال، والسبب الثاني: هو أن النحو –الذي أسهم في فكرة النظم بنصيب كبير –لم ينظر في القصيدة أو المقطوعة وإنما نظر في الجملة" ([32]).
والواقع أن الوحدة في القصيدة العربية ليست وحدة تكامل عضوي، إنما هي وحدة تسلسل موضوعي، إذ أن الشعراء العرب، كانوا أميل إلى أن تكون الوحدة في البيت، وليس في القصيدة مجتمعة، وقد تطورت القصيدة العربية في هذا الاتجاه مع الشعراء" المحدثين إلى نوع من ترابط الأجزاء" ([33]).
وقد أشار عبد العزيز الجرجاني إلى ترتيب القصيدة أو التئام أجزاء نظمها من خلال العناية بالاستهلال وحسن التخلص ثم براعة الخاتمة، أي إلى براعة الشاعر في إظهار القصيدة متلاحمة الأجزاء، إذ الشاعر الحاذق عنده هو من "يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص، وبعدهما الخاتمة، فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور وتستميلهم إلى الإصغاء ولم تكن الأوائل تخصها بفضل مراعاة، وقد احتذى البحتري على مثالهم إلا في الاستهلال، فإنه عني به فاتفقت عليه له فيه محاسن، أما أبو تمام والمتنبي فقد ذهبا في التخلص كل مذهب، واهتما به كل اهتمام، واتفق للمتنبي فيه خاصة، ما بلغ المراد، وأحسن وزاد" ([34]).
والجرجاني في هذا ناظر إلى إشارات التحام أجزاء النظم والتئامها على صعيد بناء القصيدة عند الجاحظ ولا سيما في روايته، أن عبيد الله بن سالم قال لرؤبة: "مت يا أبا الجحاف إذا شئت. قال: وكيف ذاك؟ قال رأيت عقبة بن رؤبة ينشد شعراً له أعجبني قال: إنه يقول ولكن ليس لقوله قران... يريد بقوله: قران، التشابه والموافقة.
وقال عمرو بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك!! قال: وبم ذاك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه" ([35]).
ويبدو أن مفهوم "القران" يتجاوز التئام أجزاء البيت الواحد ليشكل خطوة متقدمة في محاولة الوصول إلى وحدة القصيدة، ويمكن النظر في أقوال القدماء من قبيل: "صحة النسق والنظم" أو "اتساق النظم" على أنها تشكل لبنات في سياق التحام أجزاء النظم.
إذ يعرف ثعلب اتساق النظم: بأنه "ما طاب فريضة، وسلم من السناد، والإقواء، والإكفاء، والإجازة والإيطاء، وغير ذلك من عيوب الشعر" ([36]).
وتعني صحة النسق والنظم عند ابن سنان "أن يستمر الشاعر في المعنى الواحد وإذا أراد أن يستأنف معنى آخر، أحسن التخلص إليه حتى يكون متعلقاً بالأول وغير منقطع عنه. ومن هذا الباب خروج الشعراء من النسيب إلى المدح، فإن المحدثين أجادوا التخلص حتى صار كلامهم في النسيب متعلقاً بكلامهم في المدح، لا ينقطع. فأما العرب المتقدمون فلم يكونوا يسلكون هذه الطريقة وإنما كان أكثر خروجهم من النسيب، إما منقطعاً وإما مبنياً على وصف الإبل التي ساروا إلى الممدوح عليها" ([37]).
وهذه الأقوال في باب التئام أجزاء النظم في البيت الشعري، أي في السياق النصي للجملة الشعرية، أما رأيهم في وحدة القصيدة فلا يتجاوز التأكيد على التسلسل الموضوعي لموضوعات القصيدة، وذكاء الشاعر وفطنته في إبراز تناسبها بدءاً من المطلع وموضوعات المقدمة ثم حسن التخلص إلى الغرض الرئيس حتى الخاتمة. أما القصائد الخالية من المقدمة المبنية على غرض واحد فينظرون إلى تناسب موضوعات الغرض الواحد في خلال قدرة الشاعر على إظهار تناسبها فنياً.
على أن الآراء التي تكشف عن وجهة نطر النقاد العرب القدماء في وحدة القصيدة العربية، بشكل ينم عن فهم لطبيعة الشعرية العربية، يمكن أن نلحظها بوضوح عند: ابن طباطبا العلوي في عيار الشعر ثم الحاتمي في حلية المحاضرة ثم ابن رشيق في العمدة ثم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ثم حازم القرطاجني في منهاج البلغاء.
وسأوجز إشارات هؤلاء التي تكشف عن آرائهم في وحدة القصيدة العربية لملاحظة مدى صدور المرزوقي في عناصر العمود عن الآراء التي سبقته، ثم أثره في من جاء بعده، فيما يخص وحدة القصيدة.
أما ابن طباطبا العلوي فقد قال في عيار الشعر، أنه "ينبغي على الشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينهما، لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه أو بين تمامه فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسى السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت.
فلا يباعد كلمة عن أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها وينتقد كل مصراع، هل يشاكل ما قبله؟ فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذاك إلا من دق نظره ولطف فهمه" ([38]).
أي أن مفهوم الوحدة عند ابن طباطبا قائم على الربط بين أجزاء القصيدة، ومراعاة دقة الملائمة الفنية بينها في خلال العناية بالصياغة ونسيج القصيدة.
أما الحاتمي في حلية المحاضرة فقد قال بضرورة تناسب أجزاء القصيدة في خلال اشتمالها على وحدة موضوعية، بالشكل الذي تكون فيه كأعضاء جسم الإنسان، إذا اعترى أحد خلل، اختل كالجسد كله، إذ قال: أن من حكم السبب الذي يفتتح الشاعر به كلامه أن يكون ممزوجاً بما بعده، من مدح أو ذم، متصلاً به غير منفصل منه "فإن القصيدة مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو بايَنَه في صحة التركيب، غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله، وقد وجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين، محترسين من مثل هذا الحال احتراساً يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان حتى يقع الاتصال، ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها واعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة، لا ينفصل جزء منها عن جزء" ([39]).
بدا الحاتمي حريصاً، في إشارته إلى حسن التخلص في خلال رسم الطريقة المثلى التي تحققه، وقد كان في تشبيهه و حدة القصيدة بالإنسان في تناسب اتصال أعضاء جسمه مع بعضها، مدلاً بوضوح على مفهوم الوحدة العضوية أكثر من صاحب العيار، إلا أنه خارج سياق هذا التشبيه، يبدو متحدثاً عن أهمية وصل أجزاء القصيدة بأسلوب متناسب، يؤدي إلى عدم تفككها.
أما ابن رشيق فقد نهج سبيل القدماء في النظر إلى الوحدة كما تتمثل في البيت الشعري، إلا أنه استثنى الشعر القائم على السرد القصصي، لأن الوحدة فيه جزء من بنيته الموضوعية، إذ قال: "ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا استحسن كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله، ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات، وما شاكلها فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد"([40]).
يتضح مفهوم الوحدة عند عبد القاهر الجرجاني على نحو واضح، ولكن على صعيد البيت الشعري، وليس في القصيدة كاملة، انطلاقاً مما قال به ابن طبابا وابن سنان والحاتمي إذ قال: "أعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أنه لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لاليء فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأى العين، وذلك إذا كان معناك معنى لا يحتاج أن تضع فيه شيئاً غير أن تعطف لفظاً على مثله" ([41]).
ونلحظ المقوم الصوتي في قول المرزوقي بـ "التحام أجزاء النظم والتئامها على تخير من لذيذ الوزن "وقد جعل عياره" الطبع واللسان، فلما لم يتعثر الطبع بأبنيته وعقوده، ولم يتحبس اللسان في فصوله ووصوله، بل استمرا فيه واستهلاه، بلا ملال ولا كلال، فذلك يوشك أن يكون القصيدة منه كالبيت، والبيت كالكلمة، تسالماً لأجزائه وتقارناً.. وإنما قلنا "على تخير من أللذيذ الوزن" لأن لذيذ يطرب الطبع لإيقاعه، ويمازجه بصفائه، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه، واعتدال نظومه" ([52]).
فصحة النظم تتأتى من التحام أجزاء النظم والتئامها، وهذا يولده الاختيار الأمثل للوزن، أي المناسبة، ومن هذا كله تتولد اللذة التي تطمح إليها النفس، فالوزن الجميل والحسن، هو المطلوب، والاختيار تتحكم به الطبيعة النفسية للشاعر والمتلقي معاً، أي أن الشاعر يريد أن يسمع ما يتفاعل مع حالته النفسية، وهذا يؤيده كلام المرزوقي، فالاختيار الذي يقوم على أساس ما يلائم الحالة النفسية، يولد اللذة، ومن هنا كان الخلل في مكونات الشعر، وزناً أم غير وزن، يكشفه الذوق والحس، لأن العروض قد يعرف بالهاجس ([53])، "والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط، إن زاد أو نقص أبانة الوزن" ([54]).
وقد يبدو أن حديثه عن لذيذ الوزن، دعوة على نحو غير مباشر إلى أن يكون الشاعر حراً في اختيار تجربته الإيقاعية، في خلال الألفاظ والصياغات التي تقدمها، ومثل هذا التصور نقرؤه عند الجاحظ في قوله: "أنشدني خلف الأحمر:
وبعضُ قريضِ القوم أولادُ علةٍ
تكد لسانَ الناطقِ المتحفظِ
.... أي إذا الشعر مستكرهاً، وكانت ألفاظ البيت من الشعر، لا يقع بعضها مماثلاً لبعض، كان بينها من التنافر ما بين أبناء العلات. وإذا كانت الكلمة ليس موقعها إلى جنب أختها مرضياً موافقاً، كان على اللسان عند إنشاد ذلك الشعر مؤنة، قال:
وأجود الشعر، ما رأيته: متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان" ([55]). وهذا الأمر على صعيد بناء البيت الشعري الواحد وما يصدر عن نظمه من تلوين صوتي يسهم في تكوين ملامح المكون الصوتي وتحديدها.
أي أن المكون الصوتي المتمثل في التئام أجزاء النظم، يعتمد على مشاكلة اللفظ للمعنى في خلق تناسب صوتي متوافق، لا يجعل الجملة هجيناً، بأسلوب تأتي القافية فيه مكونة القمة التي يتصاعد إليها الأداء الإيقاعي الصوتي.
وهنا نفهم مشاكلة اللفظ للمعنى وشدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما، على أنها فهم مستفاد من فهمه للمعنى الذي هو "الغرض المفاد بألفاظ التراكيب، لا المعنى الموضوع له اللفظ، لأن المعنى الموضوع له اللفظ، لا يتصور في اشتراكه، مشاكلة بينه وبين اللفظ الدال عليه، فالمراد أن الغرض تناسبه الألفاظ الموضوعة لمعان حميدة، والغرض الخسيس تناسبه الألفاظ الموضوعة للمعاني الخسيسة" ([56]) وهو ما ذهب إليه الجاحظ بقوله: "إلا إنني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني" ([57]) وهو ما ذهب إليه بشر بن المعتمر حين قال: أن "من أراد معنى كريماً، فليتمس له لفظاً كريماً، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما" ([58]).
وفي ختام البيت الشعري بقافية على نحو متناسب ما يشير إلى عناية العرب بالقافية، تلك العناية التي تكشف عن موقعها في تشكيل الأسلوب الصوتي بوصفها خصيصة أسلوبية.
والقافية بوصفها أصواتاً تتكرر على نحو متناسب في أواخر الأشطر، وتكرارها جزءاً من بنية الموسيقى الشعريّة، فهي فواصل صوتية يتوقع السامع ترديدها، والمتلقي يستمتع بهذا التردد الذي يطرق الآذن في مدد زمنية منتظمة، وبعدد معين من مقاطع ذات نظام خاص يسمى الوزن ([59]).
وعلى هذا النحو تعطي القافية للوزن "بعداً من التناسق والتمائل يضفي عليه طابع الانتظام النفسي والموسيقي والزمني" ([60]) وهذا ما انطلق منه حازم القرطاجني حين عرف القافية على أنها "حوافر الشعر، عليها جريانه واطراده، وهي مواقفه، فإن صمت استقامت حريته وحسنت مواقفه ونهاياته" ([61])، فالقافية أداة إيقاعية تبعث الإيقاع الأصلي للوزن، ذلك الإيقاع الذي يفترض ثباته جزءاً من الشكل الشعري. وقد أولاها النقاد والبلاغيون اهتماماً واشترطوا فيها شروطاً منها: التمكن وصحة الوضع والتمام. مما يجعل موقعها في النفس مؤثراً، بشروط: أن تكون حروف الروي في كل قافية من الشعر حرفاً واحداً بعينه، غير متسامح في إيراد ما يقاربه معه ([62]).
وبلغ أمر العناية بالقافية حد الحرص على التكرار الصوتي الذي لا يتناسب مع طبيعة الشعر كما في لزوميات المعرى، التي تؤكد أهمية الدور الموسيقي إحساساً منه بمدى فاعليتها في خلق الشعرية ([63]).
لأنها تؤدي إلى بنية التوازي التي "يحظى فيها الصوت حتماً بالأسبقية على الدلالة" ([64])، والوظيفة الدلالية التي يؤديها الوزن للقافية تكشف عن "أننا لا نفكر في القيم الصوتية منفصلة عن المعنى بل نفكر في المعنى، من خلال مستويات متعددة، تتجاوب تجاوباً لا يسمح بالتفكير فيها، منفصلة عن غيرها" ([65]).
وهذا كله يحدد شعرية الوزن والقافية في بنية الشعر العربي كونهما يعدان أحد مقومات هذه الشعرية، فهما ركنان في القصيدة "لا يمكن أن يقوم بناؤها إلا عليهما" ([66]) ولا نجد ناقداً عربياً قديماً، نفى أهمية الوزن والقافية عن الشعر، بل أن الوزن عند العرب "أعظم أركان حد الشعر، وأولاها به خصوصية وهو مشتمل على القافية، وجالب لها ضرورة" ([67]).
وقد أشار الفارابي إلى أن الجمهور وكثير من القراء يرون القول شعرياً متى كان موزوناً، مقسوماً بأجزاء، ينطلق بها في أزمنة متساوية، وإذا لم يكن موزوناً بإيقاع فليس يعد شعراً إنما هو قول شعري ([68]). والفارابي يفرق بين الشعر والقول الشعري، على أساس أن الشعر هو قول مخيل موزون، والقول الشعري قول مخيل غير موزون. أما ابن سينا فيرى القول الموزون غير المخيل لنا، إنما هو شعر ناقص، أما القول المخيل الموزون فهو الشعر الكامل، والقول المخيل غير الموزون هو النثر ([69]).
فالوزن بوصفه أحد مقومات الشعرية العربية إنما هو "إبراز أو إحداث لفجوة حادة في طبيعة اللغة، خلق لمسافة توتر عميقة بين المكونات اللغوية العائمة في وجودها العادي خارج الشعر ووجودها داخله، الوزن هو تناول للمادة اللغوية بأبعادها الصوتية" ([70]). أما النظم فهو، حتى في الدراسات الحديثة: خطاب يكرر كلياً أو جزئياً، الصورة الصوتية نفسها متجاوزاً في الواقع حدود الشعر، إلا أن الشعر يستلزم في الوقت نفسه الوظيفة الشعرية ([71]).
واقتضاء اللفظ الشعري للقافية، متصل بما لها من حضور في موسيقى الشعر وكاشف عنه، إذ أنها تطغى على البنية الموسيقية للشعر، لأنها الوقفة التي تبرز عندها النغمة الموسيقية، وأن التوازن الصوتي بين قافية البيت الشعري والبيت الذي يليه تجعل النفس في حضور دائم مع النص الشعري، والغنائية التي تحدثها القافية تولد التواصل الدائم بين المتلقي والنص الشعري.
هوامش المقومات والمبحث الأول
([1]) -الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية، مقال، مازن الوعر 138. عالم الفكر، ع3 –4، 1994م.
([2]) -ينظر: البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب، 117.
([3]) -مبادئ علم الأسلوب العربي، شكري عياد، 15.
([4]) -تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إحسان عباس، 405.
([5]) -شرح ديوان الحماسة، 1 /8 –11، وينظر، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، 402 –404.
([6]) -تاريخ النقد الأدبي عند العرب، 404.
([7]) -الأسلوبية والنقد الأدبي، مقال عبد السلام المسدى، 39. الثقافة الأجنبية، ع1، 1982م.
([8]) - المصدر نفسه، 39 –40.
([9]) -الأسلوب والأسلوبية، بيير جيرو، 07.
([10]) -المصدر نفسه، 06 وينظر: البلاغة والأسلوبية، 125.
([11]) -الأسلوبية والأسلوب. المسدى، 30.
([12]) -الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية، مازن الوعر، 139.
([13]) -قراء النص، يوسف نوفل، 21.
([14]) -شكل القصيدة العربية في النقد العربي حتى القرن الثامن الهجري، جودت فخر الدين، 89."
([15]) -العمدة، 2 /217.
([16]) -فن الشعر، إحسان عباس، 48.
([17]) -الموشح، 39.
([18]) -العمدة، 1 /9.
([19]) -مقدمة ابن خلدون، 488.
([20]) -مقدمة ابن خلدون، 488.
([21]) -الشعرية العربية، أدونيس، 5.
([22]) -ينظر، مقدمة في النقد الأدبي، الطاهر، 64.
([23]) -عناصر الإبداع في شعر الأعشى، عباس بيومي عجلان، 298، وينظر في الأدب الجاهلي طه حسين، 340.
([24]) -العمدة، 1 /7 –8.
([25]) -الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، محمد العمري، 38.
([26]) -المرجع نفسه، 36.
([27])-البرهان في وجوه البيان، 139. وينظر، منهاج البلغاء، القرطاجني، 44 –45.
([28])-خصائص الأسلوب في الشوقيات، الطرابلسي، 173.
([29])-خصائص الأسلوب في الشوقيات، الطرابلسي، 59، وينظر، بنية اللغة الشعرية كوهن، 78 –224.
([30])-دينامية النص، محمد مفتاح، 63.
([31])-الأسلوبية الإحصائية، مقال، 53.
([32]) -دليل الدراسات الأسلوبية، جوزيف شريم، 36.
([33]) -الأسلوبية الصوتية، مقال، ماهر مهدي هلال، 70. آفاق عربية، ع كانون الأول، 1992م.
([34]) -سر الفصاحة، 11.
([35]) -الأسلوبية الصوتية، ماهر مهدي، 71.
([36]) -الأسلوبية الصوتية، ماهر مهدي، 74.
([37]) -الأسلوب والأسلوبية، بيير جيرو، 139.
([38]) -المصدر نفسه، 39.
([39]) -المصدر نفسه، 40.
([40]) -نظرية البنائية، صلاح فضل، 115 –116. وينظر: البلاغة والأسلوبية، 145.
([41]) -سر الفصاحة، 109.
([42]) -الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية، 82.
([43]) -المرجع نفسه، 83.
([44]) -عضوية الموسيقى في النص الشعري، عبد الفتاح صالح، 51.
([45]) -المرجع نفسه، 52.
([46]) -الصورة والبناء الشعري، محمد حسن، 10.
([47]) -فن الشعر، هيجل، 75.
([48]) -نظرية الشعر عند العرب، مصطفى الجوزو، 237.
([49]) -الخطابة، أرسطو، 222.
([50]) -علم الأسلوب: مبادؤه وإجراءاته صلاح فضل، 35.
([51]) -المصدر نفسه، 37.
([52]) -شرح ديوان الحماسة، 1 /9 –10.
([53]) -ينظر، رسائل الجاحظ، 2، القيان، 161 –162.
([54]) -رسالة الغفران، 251.
([55]) -البيان والتبيين، 1 /66 –67.
([56]) -شرح المقدمة الأدبية، محمد الطاهر عاشور، 75.
([57]) -البيان والتبيين، 1 /145.
([58]) -المصدر نفسه، 1 /136.
([59]) -موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس، 273.
([60]) -الشعرية العربية، أدونيس، 13.
([61]) -منهاج البلغاء، 271.
([62]) -المصدر نفسه، 271 –272.
([63]) -موسيقى الشعر، إبراهيم أنيس، 204.
([64]) -قضايا الشعرية، ياكوبسون، 108.
([65]) -مفهوم الشعرية، جابر عصفور، 267.
([66]) -مقدمة ديوان (نداء القمم)، يوسف خليف، 15.
([67]) -الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، 78.
([68]) -جوامع الشعر. ملحق بكتاب تلخيص أرسطو طاليس في الشعر، ابن رشد، 172.
([69]) -فن الشعر، أرسطو، تح، عبد الرحمن بدوي، 168.
([70]) -في الشعرية، كمال أبو ديب، 89.
([71]) – بنية اللغة الشعرية ، جان كوهن ، 52
ـ المبحث الثاني: في المقوم التركيبي
يتحقق المستوى التركيبي أو المقوم اللغوي، في عنصرين من عناصر عمود الشعر، إذ يمكن عد حيثيات جزالة اللفظ واستقامته. من ضمن ما يقرأ أسلوبياً في مستوى التركيب، وكذلك شرف المعنى وصحته، ثم التحام أجزاء النظم عند اقترانها ببناء القصيدة عمودياً على مستوى الأبيات، وليس أفقياً فقط، على مستوى البيت الواحد، وما يصدر عنه من أثر إيقاعي أُشيرَ إليه في المستوى الصوتي، وكذلك مشاكلة اللفظ للمعنى واقتضائهما للقافية، من جهة تركيب البيت الشعري، أي الجملة الشعرية، لا من جهة ما يصدر عنها من تلوين صوتي سبقت الإشارة إليه في المقوم الصوتي أولاً.
أخذ المستوى التركيبي بوصفه مقوماً لغوياً أهمية في التراث النقدي، لأنه جعل جل اهتمامه منصباً على الجانب اللغوي للنص الشعري، فاللغة هي الأساس الأول الذي بني عليه النقد العربي. وهي الهاجس الأول لدى المهتمين بحقلي: اللغة والأدب، والشعر كان يمثل –لدى النقاد –وعاء يحفظ اللغة من الفوضى والضياع" فاللغة بهذا المعنى تكاد تؤلف جوهر الشعر، ولا عجب إذن. إن حظيت لدى القدماء بكل عناية واهتمام، حتى لكأن النقد اللغوي هو عمود النقد العربي برمته وكأن غرام العرب بالشعر، إنما كان منصرفاً قبل كل شيء إلى غرامهم بلغته" ([1]).
ومن هنا نقرأ مكونات الشعر وصفاته وقد تركزت في لغته ([2])، وقد نظر النقاد العرب في لغة الشعر من خلال اللفظ والتركيب كونهما مادته.
وقد لخص عمود الشعر الصفات التي يجب أن يتوفر عليها اللفظ في أمرين أو صفتين هما: الجزالة والاستقامة، "فاللفظ في عمود الشعر ينبغي أن يتوفر فيه أمران أو شرطان هما: الجزالة والاستقامة" ([3]).
وقد أطلقت هاتان الصفتان استناداً إلى قوتين سيطرتا على العقلية النقدية وهما:
البيئة والمثال (الأنموذج) فالبيئة لها قوة تأثير وسيطرة على صفة المصطلح النقدي، إذ استمد منها، قوته ووجوده. أما المثال (الأنموذج) فقد أخذت العملية النقدية بالنظر في الأنموذج الجاهلي (الشعر الجاهلي) على أنه القمة الأعلى في فن الشعر، وبسبب الظروف التي نشأ فيها، من صحراء وخشونة أصبح يمثل شعر القوة والبطولة، ألفاظه قوية جزلة "ومرجع هذه القوة والمتانة في اللفظ الجزل، إنه من كلام العرب الفصحاء الذين يرجع إليهم في أمور اللغة فيكون ما ينقل عنهم موضع ثقة وأمان من الزيف والانحراف" ([4]).
فالجزل: الحطب اليابس، وقيل الغليظ، وقيل ما عظم من الحطب ويبس ثم كثر استعماله حتى صار كل ما كثر جزلاً، واللفظ الجزل خلاف الركيك ([5]).
والملاحظ أن الجزالة تدل على القوة والمتانة، فهي تدل على الحطب اليابس الكثير والغليظ، وعلى ما عظم من الحطب ويبس، ثم تطورت الدلالة من خلال الاستعمال. أما الاستقامة فهي الاعتدال. يقال: استقام له الأمر. أي اعتدل، والمتانة والاعتدال صفتان ملازمتان للفظ، يحسن بوجودهما ([6]).
واللفظ بوصفه (النواة الأولى) التي يتشكل عليها البناء الشعري، أخذ حيّزاً من عناية النقاد فأكثروا من صفاته باحثين عن الجانب الجمالي وصولاً إلى تحديد ذروة الحسن، لكن الجمال ظل محكوماً بالتصور المحدود بأنماط المعيشة. ففعل (القول /الشعر) يمثل الجانب المادي الأول في فعلهم الإنتاجي. والشعر ممارسة مادية، أصبحت تشكل لديهم نسغ الحياة، لذا فهم حريصون على تجنب الغريب، والعمل على حفظ الصورة الناصعة للشعر الجاهلي، فهو يمثل اللغة النقدية الخالية من الدخيل، وهو السور الذي يحفظ اللغة من الاختلاط مع ما هو غير عربي، لذا نجد أن كل ما حدث من تليف وتدوين استهدف حفظ النظام المعرفي الأول، والثقافة التي تسورها الفطرة، وكل محاولة للخروج على هذا الذي صار قاعدة تعد خرقاً وتجاوزاً ([7]). على نحو ما كان من شعراء البديع.
واستعمال أبي تمام لنمط جديد في الكتابة الشعرية، يقوم على أساس إعطاء النص الشعري، بما يحمله من لفظ وتركيب، بُعْداً جديداً، لا يقوم على أساس القراءة الأفقية، وإنما على أساس القراءة العمودية (التوليدية) القراءة التي تولد معنى يصل بك لـ (معنى المعنى) ([8]) لكن سائر النقاد تأسس حكمهم على الوضوح، فالكلام الجيد هو ماتصل إلى معناه من دون كد أو أعمال فكر. يقول أبو هلال العسكري: "إن الكلام إذا كان لفظه حلواً عذباً وسلساً سهلا، وسطاً، دخل في جملة الجيد، وجرى مع الرائج النادر" ([9]).
وقد تحددت عيوب اللفظ لديهم في ضوء ما قالوه من شروط أو وضعوه من ضوابط أو معايير، فمن عيوب اللفظ: "أن يكون ملحوناً، وجارياً على غير سبيل الإعراب واللغة،...، وأن يركب الشاعر منه ما ليس يستعمل إلا في الفرط، ولا يتكلم به إلا شاذاً.." ([10]).
ولما كانت الكلمة الواحدة "لا تشجو، ولا تحزن، ولا تتملك قلب السامع، إنما ذلك فيما طال من الكلام، وأمتع سامعيه، بعذوبة مستمعه، ورقة حواشيه" ([11])أي عند التركيب، فقد نظر النقاد العرب إلى التركيب على أساس (التركيب اللغوي) و(التركيب البلاغي) ويقصد بالتركيب اللغوي ما قد يحمله الشعر من تقديم وتأخير، أو أخطاء نحوية وغيرهما. أما التركيب البلاغي فهو ما يحمله الشعر من أساليب بلاغية يعتمد عليها الشاعر، وقد أخذ هذا الجانب حيزاً كبيراً من اهتمام النقاد لأسباب منها:
- إن التمكن من اللغة أو الإحاطة (بتقنيات اللغة) لا يجعل الإنسان شاعراً، بدليل عدم صدور شعر كبير عن علماء اللغة والنحو.
- إن اعتماد الشعراء على الأساليب البلاغية جعل النقاد يبحثون في أصول هذه الأساليب ليضعوا القواعد لها، فقد صار الأسلوب البلاغي محط نظر النقاد، لأنه شكل نمطاً أسلوبياً جديداً في الكتابة الشعرية.
- إن المعنى قد يكون غامضاً ومعقداً، إذا دخل الشعر شيء من الأساليب البلاغية، وقد تقدم أن النقاد، كانوا يسعون إلى وضوح المعنى، لذلك جعلوا للأسلوب البلاغي حدوداً وقواعد، يجب على الشاعر الالتزام بها.
ومفهوم عمود الشعر للمستوى التركيبي بلاغي يتوفر على الوجهين: اللفظ والمعنى، فقد نعت اللفظ بالجزالة والاستقامة، والمعنى بالشرف والصحة، أما اللفظ فقد جعل عياره: الطبع والرواية والاستعمال، وما صدر عن كل هذا ووافقه فهو المستقيم، وخلاف هذا فإن وقوع اللفظة في نسق غير متوافق يجعل "الجملة هجيناً" ويعد الآمدي مثالاً لهذا قول أبي تمام ([12]).
خانَ الصفاء أخٌ، خانَ الزمان أخاً
عنه فلم يَتَخوّن جسمهُ الكمد
إذ عده البلاغيون من الكلام المتعاضل، وما هو بذاك، لأن الشاعر "على المستوى التركيبي صاغ نسقاً جعل فيه لفظة (أخ) فاعلاً في حال، ومفعولاً به في حالة أخرى وذلك ما اقتضى هذا التداخل البنائي في السياق، لقد كان هم أبي تمام أن يجعل البنية مترابطة دلالياً لتوليد المعنى، ولم يكن همه الوضوح، لذلك كان البيت خارج عمود الشعر، ولكنه في القياس المقابل، يعد متغيراً أسلوبياً، في مفهوم الاستقامة المجرد" ([13]).
على أن مؤاخذات القدماء على هذا البيت وما شاكله، إنما صدرت عن مفهوم لجزالة اللفظ واستقامته، ذلك المفهوم الذي يشترط في اللفظ أن يكون: "رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً" ([14])وقد دعا الجاحظ في هذا المفهوم إلى عدم تنافر الحروف بالشكل الذي تصعب فيه على المنشد عند الإنشاد ([15]) كما قال بضرورة الابتعاد عن العامي والساقط والسوقي والوحشي من الألفاظ، لأن هذه الصفات تتعارض مع جزالة اللفظ واستقامته ([16])، على أن بعض النقاد القدماء يجمع بين جزالة الألفاظ واستقامتها ([17]).
وقد بدا المرزوقي ومن أشار قبله لهذا الأمر، باحثاً عن اللفظ الذي يشكل بانضمامه إلى غيره سياقاً شعرياً يتسم بالتوازن والتوافق، في خلال تجانسه مع قرائنه من الألفاظ على نحو فني.
أما رأيه في شرف المعنى وصحته، فقد كان أخذاً بما تواضع عليه العرف بدءاً من بشر بن المعتمر، حين اشترط في المعنى أن يكون "طاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وأما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضح بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة، مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال" ([18]).
فالمعنى عند بشر متصف بثلاث صفات هي: الصواب أو الصحة ثم النفع أو الفائدة ثم المطابقة لمقتضى الحال.
والمرزوقي لم يخرج على الآمدي أو الجرجاني اللذين قالا بضرورة تناسب اللفظ والمعنى في الخطاب الشعري، فقد قال الآمدي "ينبغي أن تعلم أن سوء التأليف، ورداءة اللفظ، يذهب بطلاوة المعنى الدقيق، ويفسده ويعميه، حتى يحوج مستمعه إلى طول تأمل، وهذا مذهب أبي تمام في معظم شعره.. وحسن التأليف وبراعة اللفظ يزيد المعنى المكشوف بهاء وحسناً ورونقاً.. وهذا مذهب البحتري.. وإذا جاء لطيف المعاني في غير بلاغة ولا سبك جيد، ولا لفظ حسن، كان ذلك مثل الطراز الجيد على الثوب الخلق أو نفث العبير على خد الجارية القبيحة الوجه" ([19]).
وينحو عبد العزيز الجرجاني هذا المنحى في ضرورة تناسب اللفظ والمعنى في الخطاب الشعري، إذ قال: "أقل الناس حظاً في هذه الصناعة (يعني صناعة الشعر) من إقتصر في اختياره ونفيه، وفي استجادته واستسقاطه على سلامة الوزن وإقامة الأعراب، وأداء اللغة ولا يقابل بين الألفاظ ومعانيها، ولا يستنير ما بينها من نسب، ولا يمتحن ما يجتمعان فيه من سبب، ولا يرى اللفظ إلا ما أدى إليه المعنى، ولا الكلام إلا ما صور له الغرض" ([20]).
ولعل أوضح فهم لعملية الربط بين اللفظ والمعنى، هو ما كان عند الجاحظ أولاً، ثم ما قال به عبد القاهر الجرجاني بعد ذلك في نظرية النظم.
أما الجاحظ في (نظرية المعاني المطروحة) فلم يذهب –حين قال "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي والمدني، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير" ([21]) -إلى الفصل بين اللفظ والمعنى أو تقديم إحداهما على الآخر، بدليل قوله أيضاً: "والاسم بلا معنى لغوي، كالظرف الخالي، والاسم في معنى الأبدان، والمعاني في معنى الأرواح: اللفظ للمعنى بدن، والمعنى للفظ روح" ([22]) وهذا يشير إلى عدم تصور أن من يرى صلة اللفظ بالمعنى هي صلة الجسد بالروح يمكن أن يتصور بينهما ممكناً، أو تفضيل أحدهما معقولاً، هذا يشير إلى أن براعة الشاعر، لا تتمثل في استخدامه الألفاظ دون المعاني، ولا يصح العكس. ثم إن اللفظ عند الجاحظ "لا يعني اللفظ المفرد، بل ما ينتظم بالألفاظ من العبارات، شعراً أو نثراً، الشيء الذي يجعل منه الملهم لـ (نظرية النظم) التي شهدها الجرجاني" ([23])، وهذا ما يكشف عن رأى الجاحظ بقوله في الشعر الجيد، إنه: "ما رأيته متلاحم الأجزاء سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أفرغ إفراغاً واحداً، وسبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"([24]).
ومن هنا نفهم رأيه في لغة الشعر، كما تتمثل بقول الشاعر ([25]):
لا تحسبنَ الموتَ موتُ البلى
فإنما الموتُ سؤالُ الرجالْ
كلاهما موتٌ، ولكن ذا
أفظع من ذاك لذل السؤالْ
إذ قال: أنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً".
والواقع أن الجاحظ في رأيه هذا ليس اتباعياً، إنما كان أصيلاً، إذ ألغى مبدءاً مهما ترتكز عليه الثقافة النقدية، وهو الوضوح والسهولة، فهو لا يرضى من الشعر أن يكون سهلاً واضحاً لتحقيق (شعرية النص) وإنما يريد من الشعر أن يكون باعثاً إلى الإدهاش الذي يتحقق بالابتعاد عما هو مألوف، ومتعارف عليه، فبالغرابة تتحقق (شعرية النص) إذ أن "الناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الراهن، وفيما تحت قدرتهم من الرؤى والهوى، مثل الذي لهم في الغريب القليل، وفي النادر الشاذ" ([26]).
ولا شك في أن البيتين (لا تحسبن الموت موت البلى..) هما من الشعر الجيد، إذا ما قيسا على أساس (عمود الشعر) إذ يتوفران على جزالة في الألفاظ، وصحة في المعنى وشرف ظاهر في البعد الأخلاقي الذي يهدفان إلى تعبيره شعرياً. لكن الجاحظ ينفي أن يكونا من الشعر في شيء، والسبب أنه نظر إليهما من جهة اللغة الشعرية، فلغة البيتين لم تكن شعرية، لأنها لا تحمل من مقومات الشعرية سوى الوزن والقافية.
ونظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني قد قامت أيضاً على التآزر التام بين اللفظ والمعنى، ذلك التآزر المتناسب الذي يحتم بتبعية إحدهما للآخر من دون ترجيح أيهما أولى لأن أياً منهما لا يقوم من دون الآخر. إذ أشار إلى أن "الألفاظ لا تنفك عن المعاني، وأنه من الخطأ تصور بلاغة أو فصاحة في اللفظ، من حيث هو لفظ أي صوت مسموع، ليربط بين اللفظ والمعنى في الشعر ربطاً محكماً، إذ جعلهما، بمنزلة المادة والصورة وبمنزلة الروح والجسد" ([27])، أي إنه قال بكون الجمال "ليس في اللفظ ولا في المعنى وإنما في نظم الكلام" ([28]).
وقد أوضح عبد القاهر هذا في أجلى صورة حين قال: "أن المزية التي من أجلها استحق اللفظ الوصف بأنه فصيح، عائد في الحقيقة إلى معناه، ولو قيل: أنها تكون فيه دون معناه، لكان ينبغي، إذا قلنا في اللفظة، أنها فصيحة، وأن الفصاحة واجبة لها بكل حال، ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك، فإنا نرى اللفظة في غاية الفصاحة في موضع، ونراها بعينها، فيما لا يحصى من المواضع، وليس فيها من الفصاحة قليل ولا كثير.. وجملة الأمر هنا إنّا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكننا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقاً معناها بما يليها" ([29])، ثم يستشهد على هذا بقوله تعالى ([30]):
"واشتعل الرأس شيباً" فيذهب إلى أن "اشتعل" في أعلى مرتبة من الفصاحة التي لم توجب لها وحدها، لكن موصولاً بها "الرأس" معرفاً بالألف واللام، ومقروناً إليها الشيب منكراً منصوباً ([31]).
أما وحدة النص الشعري فلم ينظر إليها عمود الشعر، إلا في حدود الجملة الشعرية، أو البيت الشعري، ولعل أوضح مفهوم لهذا ما نلحظه عند الجرجاني، إذ نظر إلى الوحدة في حدود الجملة، أي ائتلاف النظم أو التركيب في حدود الجملة، والأمر هنا راجع إلى سببين رئيسين:
الأول: "أن الوحدة التي تنتقض إذا نقض جزء واحد أو غيره، هذه الوحدة، لم توجد قط في القصيدة العربية، فلم يكن أمام الجرجاني من نماذج تعينه على فهم الوحدة في نطاق أوسع من هذا المجال، والسبب الثاني: هو أن النحو –الذي أسهم في فكرة النظم بنصيب كبير –لم ينظر في القصيدة أو المقطوعة وإنما نظر في الجملة" ([32]).
والواقع أن الوحدة في القصيدة العربية ليست وحدة تكامل عضوي، إنما هي وحدة تسلسل موضوعي، إذ أن الشعراء العرب، كانوا أميل إلى أن تكون الوحدة في البيت، وليس في القصيدة مجتمعة، وقد تطورت القصيدة العربية في هذا الاتجاه مع الشعراء" المحدثين إلى نوع من ترابط الأجزاء" ([33]).
وقد أشار عبد العزيز الجرجاني إلى ترتيب القصيدة أو التئام أجزاء نظمها من خلال العناية بالاستهلال وحسن التخلص ثم براعة الخاتمة، أي إلى براعة الشاعر في إظهار القصيدة متلاحمة الأجزاء، إذ الشاعر الحاذق عنده هو من "يجتهد في تحسين الاستهلال والتخلص، وبعدهما الخاتمة، فإنها المواقف التي تستعطف أسماع الحضور وتستميلهم إلى الإصغاء ولم تكن الأوائل تخصها بفضل مراعاة، وقد احتذى البحتري على مثالهم إلا في الاستهلال، فإنه عني به فاتفقت عليه له فيه محاسن، أما أبو تمام والمتنبي فقد ذهبا في التخلص كل مذهب، واهتما به كل اهتمام، واتفق للمتنبي فيه خاصة، ما بلغ المراد، وأحسن وزاد" ([34]).
والجرجاني في هذا ناظر إلى إشارات التحام أجزاء النظم والتئامها على صعيد بناء القصيدة عند الجاحظ ولا سيما في روايته، أن عبيد الله بن سالم قال لرؤبة: "مت يا أبا الجحاف إذا شئت. قال: وكيف ذاك؟ قال رأيت عقبة بن رؤبة ينشد شعراً له أعجبني قال: إنه يقول ولكن ليس لقوله قران... يريد بقوله: قران، التشابه والموافقة.
وقال عمرو بن لجأ لبعض الشعراء: أنا أشعر منك!! قال: وبم ذاك؟ قال: لأني أقول البيت وأخاه، وأنت تقول البيت وابن عمه" ([35]).
ويبدو أن مفهوم "القران" يتجاوز التئام أجزاء البيت الواحد ليشكل خطوة متقدمة في محاولة الوصول إلى وحدة القصيدة، ويمكن النظر في أقوال القدماء من قبيل: "صحة النسق والنظم" أو "اتساق النظم" على أنها تشكل لبنات في سياق التحام أجزاء النظم.
إذ يعرف ثعلب اتساق النظم: بأنه "ما طاب فريضة، وسلم من السناد، والإقواء، والإكفاء، والإجازة والإيطاء، وغير ذلك من عيوب الشعر" ([36]).
وتعني صحة النسق والنظم عند ابن سنان "أن يستمر الشاعر في المعنى الواحد وإذا أراد أن يستأنف معنى آخر، أحسن التخلص إليه حتى يكون متعلقاً بالأول وغير منقطع عنه. ومن هذا الباب خروج الشعراء من النسيب إلى المدح، فإن المحدثين أجادوا التخلص حتى صار كلامهم في النسيب متعلقاً بكلامهم في المدح، لا ينقطع. فأما العرب المتقدمون فلم يكونوا يسلكون هذه الطريقة وإنما كان أكثر خروجهم من النسيب، إما منقطعاً وإما مبنياً على وصف الإبل التي ساروا إلى الممدوح عليها" ([37]).
وهذه الأقوال في باب التئام أجزاء النظم في البيت الشعري، أي في السياق النصي للجملة الشعرية، أما رأيهم في وحدة القصيدة فلا يتجاوز التأكيد على التسلسل الموضوعي لموضوعات القصيدة، وذكاء الشاعر وفطنته في إبراز تناسبها بدءاً من المطلع وموضوعات المقدمة ثم حسن التخلص إلى الغرض الرئيس حتى الخاتمة. أما القصائد الخالية من المقدمة المبنية على غرض واحد فينظرون إلى تناسب موضوعات الغرض الواحد في خلال قدرة الشاعر على إظهار تناسبها فنياً.
على أن الآراء التي تكشف عن وجهة نطر النقاد العرب القدماء في وحدة القصيدة العربية، بشكل ينم عن فهم لطبيعة الشعرية العربية، يمكن أن نلحظها بوضوح عند: ابن طباطبا العلوي في عيار الشعر ثم الحاتمي في حلية المحاضرة ثم ابن رشيق في العمدة ثم عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز ثم حازم القرطاجني في منهاج البلغاء.
وسأوجز إشارات هؤلاء التي تكشف عن آرائهم في وحدة القصيدة العربية لملاحظة مدى صدور المرزوقي في عناصر العمود عن الآراء التي سبقته، ثم أثره في من جاء بعده، فيما يخص وحدة القصيدة.
أما ابن طباطبا العلوي فقد قال في عيار الشعر، أنه "ينبغي على الشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف على حسن تجاورها أو قبحه، فيلائم بينهما، لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه أو بين تمامه فصلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسى السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت.
فلا يباعد كلمة عن أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها وينتقد كل مصراع، هل يشاكل ما قبله؟ فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه على ذاك إلا من دق نظره ولطف فهمه" ([38]).
أي أن مفهوم الوحدة عند ابن طباطبا قائم على الربط بين أجزاء القصيدة، ومراعاة دقة الملائمة الفنية بينها في خلال العناية بالصياغة ونسيج القصيدة.
أما الحاتمي في حلية المحاضرة فقد قال بضرورة تناسب أجزاء القصيدة في خلال اشتمالها على وحدة موضوعية، بالشكل الذي تكون فيه كأعضاء جسم الإنسان، إذا اعترى أحد خلل، اختل كالجسد كله، إذ قال: أن من حكم السبب الذي يفتتح الشاعر به كلامه أن يكون ممزوجاً بما بعده، من مدح أو ذم، متصلاً به غير منفصل منه "فإن القصيدة مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر أو بايَنَه في صحة التركيب، غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالم جماله، وقد وجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين، محترسين من مثل هذا الحال احتراساً يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان حتى يقع الاتصال، ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها واعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها، كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة، لا ينفصل جزء منها عن جزء" ([39]).
بدا الحاتمي حريصاً، في إشارته إلى حسن التخلص في خلال رسم الطريقة المثلى التي تحققه، وقد كان في تشبيهه و حدة القصيدة بالإنسان في تناسب اتصال أعضاء جسمه مع بعضها، مدلاً بوضوح على مفهوم الوحدة العضوية أكثر من صاحب العيار، إلا أنه خارج سياق هذا التشبيه، يبدو متحدثاً عن أهمية وصل أجزاء القصيدة بأسلوب متناسب، يؤدي إلى عدم تفككها.
أما ابن رشيق فقد نهج سبيل القدماء في النظر إلى الوحدة كما تتمثل في البيت الشعري، إلا أنه استثنى الشعر القائم على السرد القصصي، لأن الوحدة فيه جزء من بنيته الموضوعية، إذ قال: "ومن الناس من يستحسن الشعر مبنياً بعضه على بعض، وأنا استحسن كل بيت قائماً بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله، ولا إلى ما بعده، وما سوى ذلك فهو عندي تقصير إلا في مواضع معروفة، مثل الحكايات، وما شاكلها فإن بناء اللفظ على اللفظ أجود هنالك من جهة السرد"([40]).
يتضح مفهوم الوحدة عند عبد القاهر الجرجاني على نحو واضح، ولكن على صعيد البيت الشعري، وليس في القصيدة كاملة، انطلاقاً مما قال به ابن طبابا وابن سنان والحاتمي إذ قال: "أعلم أن من الكلام ما أنت تعلم إذا تدبرته أنه لم يحتج واضعه إلى فكر وروية حتى انتظم، بل ترى سبيله في ضم بعضه إلى بعض، سبيل من عمد إلى لاليء فخرطها في سلك لا يبغي أكثر من أن يمنعها التفرق، وكمن نضد أشياء بعضها على بعض لا يريد في نضده ذلك أن تجيء له منه هيئة أو صورة بل ليس إلا أن تكون مجموعة في رأى العين، وذلك إذا كان معناك معنى لا يحتاج أن تضع فيه شيئاً غير أن تعطف لفظاً على مثله" ([41]).