[center]ذكر جاكوبسون أنموذجاً سداسياً للوظيفة الأسلوبية ([42]) فهناك: الوظيفة المرجعية المتمركزة حول السياق اللفظي أو القابل لأن يكون لفظياً، ذلك الذي تحيل إليه الإرسالية، ثم الوظيفة الانفعالية المتمركزة حول المرسل ثم الوظيفة الإفهامية المتمركزة حول المرسل إليه. ثم الوظيفة الانتباهية التي تعنى بالحفاظ على التواصل بين المرسل والمرسل إليه، ثم الوظيفة الميتالغوية أي (المعجمية) والتي تعنى بالسنن المشترك بين المرسل والمرسل إليه. ثم أخيراً، الوظيفة الشعرية التي يراها جاكوبسون متمركزة حول قصد الإرسالية، باعتبارها كذلك، وهذه الوظيفة هي التي توضح الجانب الملموس من الدلائل وتعمق من هذه الوجهة نفسها، الثنائية الأساسية للدلائل والموضوعات ([43]) ويذكر جاكوبسون أن هذه الوظيفة (الشعرية) تتصل بمظاهر اللغة الموصوفة من طرف الأسلوبية.
ويمكن قراءة الإصابة في الوصف في عمود، من خلال الوظيفتين: الإفهامية والانتباهية من جهة أن هذا العنصر قد أشار فيه النقاد إلى أهمية وضوح القصد، ومباشرة التوصيل وقرب التلقي في خلال الإفهام والبعد عن اللبس أو الغموض، والالتزام بوصف الأشياء بالأوصاف التي لها لإفهام المتلقي بما تواضع عليه العرف، والاستحواذ على انتباهه، بالالتقاء معه في وضوح الدلالة، من خلال إصابة الوصف المقصود، بعيداً عن الغموض.
وفي هذا السياق هنالك فارق بين الوصف من حيث هو بنية نثرية أحياناً ونثرية غالباً وبين المجاز كونه خصيصة شعرية وهو "أن الشعر يمكن أن يستخدم الوصف، والفرق بين الوصف والمجاز أساسي وكبير، الوصف هو ما يشتمل على التشبيه، يذكر الشيء بأحواله وهيئاته حتى يحكيه ويمثله للحسن([44]).. فغاية الوصف أن يكشف ويظهر أوان يوضح الغامض، أما المجاز فغايته تكثير الدلالة، فهو يخرج اللفظ من وضعه الأصلي إلى حالة ثانية، فكأنه يخرج به من اليقين إلى الظن أو الاحتمال، ومن الدلالة الواحدة إلى الدلالة المتعددة. فالوصف يبلور الشعرية والمجاز يخلق حالة احتمالية في اللغة تساوي حالة الاحتمال في الشعور الوصف يخلق اللغة، والمجاز يفتحها" ([45]).
ولست مع أدونيس حين ذهب إلى أن الوضوح المألوف هو مبدأ الكلام نثراً (النقد والخطابة) وشعر عمود الشعر، ويحدد الوضوح بأنه مبدأ الإصابة في الوصف وقرب المآخذ ([46]) لأن قصد القدماء هنا قائم على القرائن التي يكون الشاعر بارعاً في بعثها لحظة القول أو عند التلقي في وعي المتلقي، على نحو من الطبع السمح والعاطفة المتدفقة على نحو لا يجد المتلقي فيه إلا أن يأخذ عفو الخاطر ويتناول صفو الهاجس، فلا كد لفكر، ولا تعب لنفس، وهذا ما يدعو المتلقي إلى تلمسه أو تحسسه لحظة الاستقبال، ويدلل عبد العزيز الجرجاني على هذا بقول أبي تمام ([47])
لا يوحشنك ما استعجمتَ من سقمي
فإنني للذي حسيتهُ حاسي
من قطعِ ألفاظهِ توصيلُ مُهلكتي
ووصلُ الحاظهِ تقطيعُ أنفاسي
إذ لا يخلو بيت فيها من معنى بديع أو صنعة لطيفة ولكن لا يجد المتلقي معها من سورة الطرب وارتياح النفس كالذي يجده لقول بعض الأعراب:
أقولُ لصاحبي، والعيسُ تهوي
بنا بينَ المنيفةِ فالضمارِ
تمتَّعْ من شميمِ عرارِ نجدٍ
فما بعدَ العشيةِ من عرارِ
فمثل هذا الكلام، بعيد الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المآخذ، قريب المتناول([48]).
المقاربة في التشبيه:
يكشف التناسب بين المشبه والمشبه به عن مستوى دلالي في الخطاب الشعري مرتبط بتوجيه الشاعر إلى ضرورة أن يكون فطناً في تقديره لعملية التناسب بين طرفي التشبيه وذا تقدير حسن غير قابل للنقض في عملية تناسب جملة التشبيه، وهو ما يشير إلى عملية إنتاج الدلالة الشعرية بالصدور عن الطبع أكثر منه عن الصنعة.
ولكن نظرهم إلى التشبيه على أنه جانب من أشرف كلام العرب ودليل على الشاعرية ومقياس معرفة البلاغة([49]). لم يكن موظفاً لأداء عملية التشبيه عند خلق المعنى بهدف أن يكون المعنى واضحاً بعيداً عن الكلفة فقط، لأن الكلفة التي يعانيها المتلقي عند الاستقبال لأي نص أدبي ينبغي أن تكون ملحوظة فبعض مقومات أي عمل فني تصدر عن الغموض الشفاف، إذ نلحظ "أن من الأسس المنهجية في الدراسة الأسلوبية إعطاء الأولوية للعلاقات المختلفة التي تربط بين الأشياء، والتي تنتظم العناصر على تباعد الشقة بينها، فتكون منها أنظمة متماسكة الأجزاء، وإذا كانت مختلف مظاهر الارتباط بين أشتات المكونات خفية عادة، وخفياً دورها، فإنها بينة في الصور، واضحة، وهي المحور الرئيس الذي تدور عليه عملية التصوير"([50]).
وقد لاحظ العرب في التشبيه إشارة للأريحية الشعرية في خلال ما يحصل من تفاوت أحياناً بين المشبه والمشبه به، لأن "لتطوير الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير محلته، واجتلابه إليه من النيق البعيد، باباً من الظرف واللطف ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفي موضعه من العقل، وأحضر شاهد على هذا، أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات، سواء أكانت عامية مشتركة أم خاصية مقصورة على قائل دون قائل، تراها لا يقع بها اعتداد ولا يكون لها موضع من السامعين، ولا تهز ولا تحرك، حتى يكون الشبه مقرراً بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنرجس عامي مشترك معروف في أجيال الناس، جارٍ في جميع العادات، وأنت ترى بعد ما بين العينين وبينه، من حيث الجنس وتشبيه الثريا بما شبهت به من عنقود الكرم المنور، واللجام المفضض، والوشاح المفصل، وأشباه ذلك خاصي، والتباين بين المشبه والمشبه به في الجنس على ما لا يخفى، وهكذا كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتآلف للنافر من المسرة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين"([51]).
وللتدليل على هذا تطبيقياً يستشهد بقول ابن المعتز([52]):
وكأن السحابَ مصحفُ قارِ
فانطباقاً مرةً وانفتاحا
إذ يرى شعرية هذا البيت في حصول اتفاق، حسن وجميل بين شيئين، إزاء اختلاف يميز كلاً منهما من الآخر "فمجموع الأمرين، شدة ائتلاف في شدة اختلاف، حلا وحسن وراق وفتن"([53]).
ورأى الجرجاني الذي يؤكد على شعرية التشبيه الصادرة عن "اجتماع المتنافرات والمؤتلفات في التشبيه من أسباب الشعرية"([54]) فيذهب إلى أن "كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شأنها أن ترى وتبصر، فالتشبيه المعقود عليه، نازل مبتذل، وما كان بالضد من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته، فالتشبيه المردود إليه غريب نادر بديع"([55]).
وهذا ما يقرأه تطبيقياً في قول عدي بن الرقاع العاملي:
تزجي أَغَنَّ، كأن أبرة ورقهِ
قلمٌ أصابَ من الدواةِ مدادَها
إذ يشير إلى أن جريراً كان قد رحم الشاعر حين ابتدأ بالتشبيه ظناً منه أنه قد وقع، فلما أكمله على هذا النحو، حسده جرير على براعته "فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر، وبديهة الخاطر وفي القريب من محل الفطن، وحين أتم التشبيه وأدّاه، صادفه قد ظفر بأقرب صفة، من أبعد موصوف وعثر على خبيء مكانه غير معروف"([56]) أي إدهاش المتلقي في إنتاج دلالة تصدر عن المألوف ولكنها غير متوقعة من المتلقي وهو ما يشير إلى ذكاء الشاعر وفطنته، وما كان هذا عند الجرجاني إلا لأن "مبنى الطباع، وموضوع الجبلة، مبني على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت النفوس به أكثر، وكان الشغف منها أجدر"([57]).
وقد أشار الجاحظ، من قبل، إلى حدود هذا التناسب وجماليته الكامنة في الغموض الشفاف، وليس التناسب العقلي المؤدي إلى الوضوح من دون طبع فني، إذ قال: "إن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب، كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم، كان أطرف، وكلما كان أطرف، كان أعجب، وكلما كان أعجب، كان أبدع"([58]) وهذا الفهم قد يكشف عن عدم دقة جابر عصفور حين ذكر، أن إيثار التشبيه وتقديمه على الاستعارة إنما كان بسبب ميلهم إلى النظرة العقلية الصارمة التي تؤمن بالتمايز والانفصال، وتنفر من التداخل والاختلاف، وترفض بحزم كل خارج عن الأطر الثابتة المتعارف عليها في أي مستوى من المستويات([59]).
فوظيفة التشبيه في الشعر العربي "هي إنجاز قدر من الحقيقة، الشعرية عن طريق المحاكاة التصويرية، أي بمعدل فني من نوع متميز، لا يقاس بشكل كمي، مثل القياس المنطقي وإنما بمدى قدرته على التعبير عما لا يعبر عنه نثراً، أي بمعدل قدرته التخيلية".([60])
فإذا كان ميل العرب للتشبيه كثيراً "حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد"([61]) صادراً عن نظرية عقلية صارمة ـ كما ذكر جابر عصفور ـ فإن هذه النظرة عند أبي تمام أخذت تغوص وراء المعاني، بنظر عقلي صارم!! متقصدة نظرها ذاك، مستخدمة أساليب مخصوصة، قد عدها أصحاب عمود الشعر خارجة على طريق العرب في قول الشعر!!
ولكن الأمر متصل بصدور الشعرية العربية أولاً عن المرحلة الشفاهية، ويظل لحاسة البصر دور المقوم الأول في المقاربة عند التشبيه الشعري، فضلاً عن أن الشفاهية تجنح نحو التمايز والانفصال بعيداً عن التداخل الذي يكسر كثيراً حاسة البصر، محركاً البصيرة، وهذا أمر نلحظه في تشبيهات القصيدة الحديثة بأسلوب لافت للنظر، وقد "تأكد اليوم عند العلماء أن العين أبرز نافذة لنا على العالم فـ 90% من الأخبار التي يتلقاها الإنسان وسيلتها العين"([62])، ومن هنا كان تطور الشعرية العربية من الشفاهية/ البصرية إلى الكتابية، تحولاً من التشبيه إلى الاستعارة.
والذين قالوا بمقومات الشعرية الشفاهية أنكروا على شعرية الكتابة ما كان من تحول التشبيه عند أبي تمام إلى استعارة، أعني من المباشرة إلى التأويل وعمق التخييل، صاروا ينظرون إليها على أنها مغرقة في الغموض، لأن التناسب صار يلمح لمحاً، ولم تعد القرينة ملحوظة بلا كلفة، إنما بطول تأمل، فصاروا ينظرون إلى الأمور بمنظار الصدق والكذب المباشرين، وهو ما لا يوقف عنده في الشعر، فإذا "كانت الاستعارة تقترب من الحقيقة الشعرية عن طريق الكذب اللغوي، فإن التشبيه يمارس هذا الاقتراب عبر الحقائق اللغوية مستثيراً قدراتها على استحضار الوقائع الحيوية في قران غير متوقع، وهذا القران يعتمد على بنيتين: إحداهما سطحية وهي العلاقة بين الطرفين، المتكئة على التشابه بمستوياته المتعددة، والأخرى عميقة، وهي التي تقوى على تقديم رؤية جديدة للموضوع على ضوء هذه العلاقة"([63]).
وهذا الرأي قد يشير إلى رأي بعض العلماء في اختزال العلاقات المجازية، وحصرها في علاقتين "إحداهما تعتمد على المشابهة، والأخرى ما يعتمد على المجاورة والكتابة والمجاز المرسل في معظم أشكاله، وقد أفضى هذا التقسيم الجديد إلى افتراض مؤداه: أن الآداب التي تقوم على المشابهة ذات طابع رومانسي مثالي، كما أن الآداب التي تقوم على المجاورة تتسم بالواقعية، والقرب من الحياة"([64]). (الشعر العربي رومانسي مثالي في بعض اتجاهاته. وواقعي ملتصق بالحياة في اتجاهاته الأخرى، على ما هو واضح لأي متلق للشعر العربي.
ومن خلال ما سبق ذكره، يمكن أن نلحظ أن "المقاربة في التشبيه" التي قال بها عمود الشعر العربي، إنما كانت ناظرة إلى تناسب ركني جملة التشبيه تناسباً.. ليس عقلياً فقط، وإنما عاطفي صادر عن الطبع والفطرة الشفاهية أيضاً.
والواقع أن تناسب مقومات أسلوب التشبيه في (المرحلة الشفاهية) تطور عند المحدثين فصار إلى أهمية تناسب مقومات أسلوب الاستعارة (تناسب المستعار منه والمستعار له) في (المرحلة الكتابية). والتناسب في كلا الحالتين مقوم من مقومات أي عمل فني، والنظر إليه في كلا الوجهين في خلال المنطلق الجمالي للتناسب لأنه، إذا كان التناسب ثمرة لتوازن نفس مبدع الفن فلا بد لهذا التناسب الفني "أن يحدث أثراً في المتلقي ويساعد على إحداث نوع آخر للتوازن بين القوى النفسية لذلك المتلقي"([65])، ومن هنا كان النظر إلى المقاربة في التشبيه من خلال قيمة التناسب الفنية، حتى يصل المتلقي الناقد إلى فهم صحيح لأسلوب المقاربة في لغة الشعر على المستوى الدلالي، ثم إن "إدراك الشبه بين الأشياء هو موضع التفاضل بين الشاعر والشاعر، إذ كلما ازداد الشبه خفاء ازدادت دلالة اكتشافه على تميز الشاعرية"([66]). وهذا الفهم أدى إلى تصور المشابهة بين المتباعدات على أنها أقوى على خلق (المفارقة الشعرية) من غيرها. وهو ما أصر عليه كولردج في العصر الحديث، من أن "المشابهة الأبهى هي تلك التي تكشف بين مختلفات وأن التشابه المطلق يعدم التشبيه أو الاستعارة أو الرمز، ويمنع تدفق الشعرية"([67]) وهو أمر بعث على النظر في الاستعارة لا من خلال قيامها على المشابهة بل على المغايرة أو الاختلاف، وقد طرح ريتشاردز بعد كولردج فرضيته المعروفة: "في أن الاستعارة لا تقوم في الواقع على المشابهة، بقدر ما تقوم على المغايرة والاختلاف"([68]).
مناسبة المستعار منه للمستعار له:
مفهوم مناسبة المستعار منه للمستعار له عند المرزوقي صادر عن مفهومها عند عبد العزيز الجرجاني إذ أنها عند المرزوقي "تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به، ثم يكتفي فيه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له"([69]) وهي عند الجرجاني "ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصل، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها تقريب الشبه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى، حتى لا يوجد بينهما منافرة"([70]) وهذا ما قال به عبد القاهر أيضاً، من أن الاستعارة "أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه، وتظهر، وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه"([71]). وكل منهم منطلق من موضوعية الاستعارة عند العرب، تلك الموضوعية المتصفة، بالسببية والمقاربة والمشابهة، وكل منهم يدعو إلى عدم ترك أن يكون استعمال أسلوب الاستعارة واقعاً في دائرة الإطلاق، لئلا يضيع في الشعر استعمالها، في خلال اتصافها باللامعقول بعيداً عن التجريد أو التعقيد الذي يضعها في دائرة التحليل والتأويل، أي أنهم يقصدون الحفاظ على مرتكزاتها الرئيسة التي تسهم في الحفاظ على القيمة الشعرية، لأن الاستعارة بوصفها انزياحاً ينبغي أن لا تتجاوز حدود التواصل ومقوماته، لأن "اللغة الشعرية ستفقد كل مبرر لوجودها، كونها محكومة بقانون التواصل"([72]) وكل هذا يجب أن يتصف بالتناسب كونه ضرورة فنية جمالية.
ولما كانت الاستعارة علامة العبقرية المميزة، لأنها تقود إلى الانحراف في لغة الشعر([73])، فقد شغلت البلاغة العربية كثيراً، كونها "من مقتضيات النظم، وعنه تحدثت وبه تكون"([74]) وهي "أمد ميداناً، وأشد افتتاناً، وأكثر جرياناً، وأعجب حسناً وإحساناً،... وأذهب نجداً في الصناعة وغوراً، من أن تجمع شعبها وشعوبها، وتحصر فنونها وضروبها"([75])، فهي رأس البديع وأفضل المجاز([76])، لأن المعول عليها في التوسع والتصرف([77]).
فالمجاز حين يشحن اللغة بالطاقة الفنية الجديدة يجعلها قادرة على قول ما لا تقولـه إلا هي. أي أنها تتجاوز محدودية الدلالة اللغوية في أصلها الوضعي، وقد تكون أهمية المجاز في الخطاب الشعري ـ من جهة تأثيرها في المتلقي ـ نفسية أي راجعة إلى أن النفس الإنسانية عند وقوفها على كلام غير تام بالمقصود منه، كانت متشوقة إلى كماله، ومن هنا كان المجاز مولداً لتشوق النفس إلى ما هو غير معلوم، وكما كان الفن، ومنه الشعر، تشوقاً إلى كمال لا ينتهي، كان المجاز عنصراً مهماً في اللغة الشعرية([78]).
ومن خلال ما سبق نفهم أن دعوة عمود الشعر إلى التناسب بين المستعار منه والمستعار له، صادرة عن الطبع الشفاهي الارتجالي الذي يتطلب أن يكون ذلك التناسب حاضراً في وعي المتلقي، ولكن التناسب في الخطاب الشعري الذي يبعث على المفاجأة أو الإدهاش (كسر التوقع) يكون مولداً للشعرية، وباعثاً على أثر دلالي جديد.
والبعد القواعدي الصادر عن تناسب جملة الاستعارة في عمود الشعر، إنما هو نهج سار عليه النقد القديم، فضلاً عن أن البلاغة ذاتها تهدف إلى وضع المعايير التي تضمن خلق الإبداع الفني، كونها وسيلة خلق فني وتوجيه جمالي، فهي مقوم الأدب ووسيلته في آن([79]).
وإذا كانت البلاغة تهدف إلى وضع قواعد مخصوصة وتقنيات معينة لتحكم من خلالها لغة الشعر، فإنها لا تهدف إلى منع التطور أو الحد منه، كون اللغة الشعرية لا تخضع للتقنين والتقعيد الصارمين، لتميزها بالقدرة على التجدد والتوهج (المغايرة)، إلا أن البلاغة تسعى إلى معايير مخصوصة تحتكم إليها اللغة الشعرية للحد من الفوضى التي يمكن أن تكون حين لا تكون إشارات يهتدى بها في إنتاج الدلالة الشعرية، ومن هنا فإن "الأحكام النقدية التي ارتكزت على معايير البلاغة لتقرير حدّي: الجودة والرداءة. قد اكتسبت ماهية جديدة حولت ثبوت القياس، إلى قياس احتمال متغير، بمتغيرات الأسلوب وتنوعه"([80]).
وهذا المفهوم هو ما انطلق منه الجرجاني عند قراءته لما يسميه جان كوهين بها البلاغة الحية الفعالة التي لن يكون هناك شعر من دونها"([81]) وهو ذات المفهوم الذي أشار إليه حازم حين ذكر أنّ "معرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات، لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان، إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة"([82])، كونها علم النص الكلي، ذلك النص الذي هو منتج البلاغة في منظور النقد([83]).
ومن خلال هذا ننظر للاستعارة على أنها بنية مجازية، في خلال أن "خاصية الوعي في المجاز، هي أن يعيش الواقع كدال، كعلاقة لواقع آخر يدل عليه، والواقع الآخر، ليس معطى هنا، والآن، إنما هو احتمالي وتخييلي"([84]).
فإذا كانت غاية الوصف الإظهار والوضوح فإن غاية الاستعارة تكثير الدلالة، أي أنها تبعث حالة من الخلق الاحتمالي بوساطة اللغة، أما الوصف فيطرح اللغة ذاتها. فكأن الوصف يقلب السمع بصراً([85]) والاستعارة تقلب البصر بصيرة.
فالاستعارة من وسائل الإدراك الخيالي لتعبيرها عن ملاحظات متنوعة بطرائق متميزة إذ تجلى قوتها الخيالية في خلال الجانب الفردي من التجربة في محاولة استكناه موضوعية الشيء بتأمل أبعاده لأن "ما تؤسسه الاستعارة من علاقات بين العناصر يسمح بأن تتمثل الصورة الاستعارية بوصفها غير قابلة للإدراك على نحو صحيح، ما لم نأخذ في اعتبارنا، النظرة الرمزية والإشارية للغة، والاستعارة الجيدة أو الناضجة، هي التي تحقق ضرباً من المعرفة الكشفية، وتثرى العالم وتجدد روابطنا به"([86]).
وفي قول زهير بن أبي سلمى الآتي ما يشير إلى هذا الأمر، على كثرة من ذكره من القدماء بدءاً من الآمدي([87]):
صحا القلبُ عن سلمى وأقْصر باطلهْ
وعُرّيَ أفراسُ الصبا ورواحلَهْ
فاستعارة الأفراس العارية عما يؤهلها للعنفوان للتدليل على العمر العاري مما كان فيه من شباب يؤهله للعنفوان أيضاً. إنما هي محاولة في رسم صورة خيالية ذات دلالة مقاربة فنياً بين: القلب الذي يغفو مع سلمى، فيطول باطله وتسرج أفراسه ورواحله كل شبابها عنفواناً قوامه الحب، وبين ذات القلب الذي يصحو عن سلمى فيقصر باطله ـ بعد أن كان طويلاً ـ وتتعرى أفراسه ورواحله، شيخوخة قوامها الاتعاظ.
على ما في البيت من تقابل دلالي جميل بين: صحوة القلب وعرى الأفراس، ثم بين سلمى والأفراس، ثم بين قصر الباطل وعري الأفراس والرواحل، وهكذا:
وهو ما يكشف عن وظائف الاستعارة المتعددة والتي منها ـ كما في قول زهير ـ أنها وسيلة يحاول الذهن من خلالها الجمع بين عناصر مختلفة، لأجل التأثير في المواقف وبعث الدوافع وتوجيهها. فكان صانع الاستعارة "ذا مقدرة لفظية يستخرج من قول يفتقر إلى الانسجام لأغراض التفسير الحرفي، قولاً دالاً، من أجل تفسير جديد يستحق أن يسمى استعارياً، لأنه يولد الاستعارة، لا من حيث هي منحرفة بل من حيث هي مقبولة أيضاً"([88]) وفي هذا فإن المعنى الاستعاري عند القدماء "لا يتكون من الاصطدام الدلالي، بل يتكون كذلك من المعنى الإخباري الجديد الذي يبزغ من انهيار المعنى الحرفي، أي من انهيار المعنى الذي ينتج إذ اعتمدنا على القيم الشائعة"([89]).
ومن قبل استعارة زهير يذكر الآمدي قول امرئ القيس المشهور([90]):
فقلتُ لـهُ لمّا تَمطى بصلبهِ
وأردفَ أعجازاً وناء بكلكلِ
إذ جعل الليل يتمطى وجعل له أردافاً، من خلال تشبيهه بالجمل، أي أنه استعار له ما يتصف به الجمل، معبراً عن معنى الإحساس بالثقل من خلال الشبه المقصود بين الليل الجاثم عليه أو على الأرض والجمل الجاثم على الأرض. قاصداً إثبات هذا الشبه، وهذا الفهم هو ما جعل الجرجاني لا يعد الاستعارة من باب التخييل "لأن المستعير ـ (من وجهة نظره) ـ لا يقصد إلى إثبات اللفظة المستعارة، وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره على خلاف خبره"([91]).
ويمكن قراءة الإصابة في الوصف في عمود، من خلال الوظيفتين: الإفهامية والانتباهية من جهة أن هذا العنصر قد أشار فيه النقاد إلى أهمية وضوح القصد، ومباشرة التوصيل وقرب التلقي في خلال الإفهام والبعد عن اللبس أو الغموض، والالتزام بوصف الأشياء بالأوصاف التي لها لإفهام المتلقي بما تواضع عليه العرف، والاستحواذ على انتباهه، بالالتقاء معه في وضوح الدلالة، من خلال إصابة الوصف المقصود، بعيداً عن الغموض.
وفي هذا السياق هنالك فارق بين الوصف من حيث هو بنية نثرية أحياناً ونثرية غالباً وبين المجاز كونه خصيصة شعرية وهو "أن الشعر يمكن أن يستخدم الوصف، والفرق بين الوصف والمجاز أساسي وكبير، الوصف هو ما يشتمل على التشبيه، يذكر الشيء بأحواله وهيئاته حتى يحكيه ويمثله للحسن([44]).. فغاية الوصف أن يكشف ويظهر أوان يوضح الغامض، أما المجاز فغايته تكثير الدلالة، فهو يخرج اللفظ من وضعه الأصلي إلى حالة ثانية، فكأنه يخرج به من اليقين إلى الظن أو الاحتمال، ومن الدلالة الواحدة إلى الدلالة المتعددة. فالوصف يبلور الشعرية والمجاز يخلق حالة احتمالية في اللغة تساوي حالة الاحتمال في الشعور الوصف يخلق اللغة، والمجاز يفتحها" ([45]).
ولست مع أدونيس حين ذهب إلى أن الوضوح المألوف هو مبدأ الكلام نثراً (النقد والخطابة) وشعر عمود الشعر، ويحدد الوضوح بأنه مبدأ الإصابة في الوصف وقرب المآخذ ([46]) لأن قصد القدماء هنا قائم على القرائن التي يكون الشاعر بارعاً في بعثها لحظة القول أو عند التلقي في وعي المتلقي، على نحو من الطبع السمح والعاطفة المتدفقة على نحو لا يجد المتلقي فيه إلا أن يأخذ عفو الخاطر ويتناول صفو الهاجس، فلا كد لفكر، ولا تعب لنفس، وهذا ما يدعو المتلقي إلى تلمسه أو تحسسه لحظة الاستقبال، ويدلل عبد العزيز الجرجاني على هذا بقول أبي تمام ([47])
لا يوحشنك ما استعجمتَ من سقمي
فإنني للذي حسيتهُ حاسي
من قطعِ ألفاظهِ توصيلُ مُهلكتي
ووصلُ الحاظهِ تقطيعُ أنفاسي
إذ لا يخلو بيت فيها من معنى بديع أو صنعة لطيفة ولكن لا يجد المتلقي معها من سورة الطرب وارتياح النفس كالذي يجده لقول بعض الأعراب:
أقولُ لصاحبي، والعيسُ تهوي
بنا بينَ المنيفةِ فالضمارِ
تمتَّعْ من شميمِ عرارِ نجدٍ
فما بعدَ العشيةِ من عرارِ
فمثل هذا الكلام، بعيد الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المآخذ، قريب المتناول([48]).
المقاربة في التشبيه:
يكشف التناسب بين المشبه والمشبه به عن مستوى دلالي في الخطاب الشعري مرتبط بتوجيه الشاعر إلى ضرورة أن يكون فطناً في تقديره لعملية التناسب بين طرفي التشبيه وذا تقدير حسن غير قابل للنقض في عملية تناسب جملة التشبيه، وهو ما يشير إلى عملية إنتاج الدلالة الشعرية بالصدور عن الطبع أكثر منه عن الصنعة.
ولكن نظرهم إلى التشبيه على أنه جانب من أشرف كلام العرب ودليل على الشاعرية ومقياس معرفة البلاغة([49]). لم يكن موظفاً لأداء عملية التشبيه عند خلق المعنى بهدف أن يكون المعنى واضحاً بعيداً عن الكلفة فقط، لأن الكلفة التي يعانيها المتلقي عند الاستقبال لأي نص أدبي ينبغي أن تكون ملحوظة فبعض مقومات أي عمل فني تصدر عن الغموض الشفاف، إذ نلحظ "أن من الأسس المنهجية في الدراسة الأسلوبية إعطاء الأولوية للعلاقات المختلفة التي تربط بين الأشياء، والتي تنتظم العناصر على تباعد الشقة بينها، فتكون منها أنظمة متماسكة الأجزاء، وإذا كانت مختلف مظاهر الارتباط بين أشتات المكونات خفية عادة، وخفياً دورها، فإنها بينة في الصور، واضحة، وهي المحور الرئيس الذي تدور عليه عملية التصوير"([50]).
وقد لاحظ العرب في التشبيه إشارة للأريحية الشعرية في خلال ما يحصل من تفاوت أحياناً بين المشبه والمشبه به، لأن "لتطوير الشبه من الشيء في غير جنسه وشكله، والتقاط ذلك له من غير محلته، واجتلابه إليه من النيق البعيد، باباً من الظرف واللطف ومذهباً من مذاهب الإحسان لا يخفي موضعه من العقل، وأحضر شاهد على هذا، أن تنظر إلى تشبيه المشاهدات بعضها ببعض، فإن التشبيهات، سواء أكانت عامية مشتركة أم خاصية مقصورة على قائل دون قائل، تراها لا يقع بها اعتداد ولا يكون لها موضع من السامعين، ولا تهز ولا تحرك، حتى يكون الشبه مقرراً بين شيئين مختلفين في الجنس، فتشبيه العين بالنرجس عامي مشترك معروف في أجيال الناس، جارٍ في جميع العادات، وأنت ترى بعد ما بين العينين وبينه، من حيث الجنس وتشبيه الثريا بما شبهت به من عنقود الكرم المنور، واللجام المفضض، والوشاح المفصل، وأشباه ذلك خاصي، والتباين بين المشبه والمشبه به في الجنس على ما لا يخفى، وهكذا كانت إلى النفوس أعجب، وكانت النفوس لها أطرب، وكان مكانها إلى أن تحدث الأريحية أقرب، وذلك أن موضع الاستحسان ومكان الاستظراف، والمثير للدفين من الارتياح، والمتآلف للنافر من المسرة، والمؤلف لأطراف البهجة، أنك ترى الشيئين مثلين متباينين، ومؤتلفين مختلفين"([51]).
وللتدليل على هذا تطبيقياً يستشهد بقول ابن المعتز([52]):
وكأن السحابَ مصحفُ قارِ
فانطباقاً مرةً وانفتاحا
إذ يرى شعرية هذا البيت في حصول اتفاق، حسن وجميل بين شيئين، إزاء اختلاف يميز كلاً منهما من الآخر "فمجموع الأمرين، شدة ائتلاف في شدة اختلاف، حلا وحسن وراق وفتن"([53]).
ورأى الجرجاني الذي يؤكد على شعرية التشبيه الصادرة عن "اجتماع المتنافرات والمؤتلفات في التشبيه من أسباب الشعرية"([54]) فيذهب إلى أن "كل شبه رجع إلى وصف أو صورة أو هيئة من شأنها أن ترى وتبصر، فالتشبيه المعقود عليه، نازل مبتذل، وما كان بالضد من هذا وفي الغاية القصوى من مخالفته، فالتشبيه المردود إليه غريب نادر بديع"([55]).
وهذا ما يقرأه تطبيقياً في قول عدي بن الرقاع العاملي:
تزجي أَغَنَّ، كأن أبرة ورقهِ
قلمٌ أصابَ من الدواةِ مدادَها
إذ يشير إلى أن جريراً كان قد رحم الشاعر حين ابتدأ بالتشبيه ظناً منه أنه قد وقع، فلما أكمله على هذا النحو، حسده جرير على براعته "فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر، وبديهة الخاطر وفي القريب من محل الفطن، وحين أتم التشبيه وأدّاه، صادفه قد ظفر بأقرب صفة، من أبعد موصوف وعثر على خبيء مكانه غير معروف"([56]) أي إدهاش المتلقي في إنتاج دلالة تصدر عن المألوف ولكنها غير متوقعة من المتلقي وهو ما يشير إلى ذكاء الشاعر وفطنته، وما كان هذا عند الجرجاني إلا لأن "مبنى الطباع، وموضوع الجبلة، مبني على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت النفوس به أكثر، وكان الشغف منها أجدر"([57]).
وقد أشار الجاحظ، من قبل، إلى حدود هذا التناسب وجماليته الكامنة في الغموض الشفاف، وليس التناسب العقلي المؤدي إلى الوضوح من دون طبع فني، إذ قال: "إن الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أغرب، كان أبعد في الوهم، وكلما كان أبعد في الوهم، كان أطرف، وكلما كان أطرف، كان أعجب، وكلما كان أعجب، كان أبدع"([58]) وهذا الفهم قد يكشف عن عدم دقة جابر عصفور حين ذكر، أن إيثار التشبيه وتقديمه على الاستعارة إنما كان بسبب ميلهم إلى النظرة العقلية الصارمة التي تؤمن بالتمايز والانفصال، وتنفر من التداخل والاختلاف، وترفض بحزم كل خارج عن الأطر الثابتة المتعارف عليها في أي مستوى من المستويات([59]).
فوظيفة التشبيه في الشعر العربي "هي إنجاز قدر من الحقيقة، الشعرية عن طريق المحاكاة التصويرية، أي بمعدل فني من نوع متميز، لا يقاس بشكل كمي، مثل القياس المنطقي وإنما بمدى قدرته على التعبير عما لا يعبر عنه نثراً، أي بمعدل قدرته التخيلية".([60])
فإذا كان ميل العرب للتشبيه كثيراً "حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد"([61]) صادراً عن نظرية عقلية صارمة ـ كما ذكر جابر عصفور ـ فإن هذه النظرة عند أبي تمام أخذت تغوص وراء المعاني، بنظر عقلي صارم!! متقصدة نظرها ذاك، مستخدمة أساليب مخصوصة، قد عدها أصحاب عمود الشعر خارجة على طريق العرب في قول الشعر!!
ولكن الأمر متصل بصدور الشعرية العربية أولاً عن المرحلة الشفاهية، ويظل لحاسة البصر دور المقوم الأول في المقاربة عند التشبيه الشعري، فضلاً عن أن الشفاهية تجنح نحو التمايز والانفصال بعيداً عن التداخل الذي يكسر كثيراً حاسة البصر، محركاً البصيرة، وهذا أمر نلحظه في تشبيهات القصيدة الحديثة بأسلوب لافت للنظر، وقد "تأكد اليوم عند العلماء أن العين أبرز نافذة لنا على العالم فـ 90% من الأخبار التي يتلقاها الإنسان وسيلتها العين"([62])، ومن هنا كان تطور الشعرية العربية من الشفاهية/ البصرية إلى الكتابية، تحولاً من التشبيه إلى الاستعارة.
والذين قالوا بمقومات الشعرية الشفاهية أنكروا على شعرية الكتابة ما كان من تحول التشبيه عند أبي تمام إلى استعارة، أعني من المباشرة إلى التأويل وعمق التخييل، صاروا ينظرون إليها على أنها مغرقة في الغموض، لأن التناسب صار يلمح لمحاً، ولم تعد القرينة ملحوظة بلا كلفة، إنما بطول تأمل، فصاروا ينظرون إلى الأمور بمنظار الصدق والكذب المباشرين، وهو ما لا يوقف عنده في الشعر، فإذا "كانت الاستعارة تقترب من الحقيقة الشعرية عن طريق الكذب اللغوي، فإن التشبيه يمارس هذا الاقتراب عبر الحقائق اللغوية مستثيراً قدراتها على استحضار الوقائع الحيوية في قران غير متوقع، وهذا القران يعتمد على بنيتين: إحداهما سطحية وهي العلاقة بين الطرفين، المتكئة على التشابه بمستوياته المتعددة، والأخرى عميقة، وهي التي تقوى على تقديم رؤية جديدة للموضوع على ضوء هذه العلاقة"([63]).
وهذا الرأي قد يشير إلى رأي بعض العلماء في اختزال العلاقات المجازية، وحصرها في علاقتين "إحداهما تعتمد على المشابهة، والأخرى ما يعتمد على المجاورة والكتابة والمجاز المرسل في معظم أشكاله، وقد أفضى هذا التقسيم الجديد إلى افتراض مؤداه: أن الآداب التي تقوم على المشابهة ذات طابع رومانسي مثالي، كما أن الآداب التي تقوم على المجاورة تتسم بالواقعية، والقرب من الحياة"([64]). (الشعر العربي رومانسي مثالي في بعض اتجاهاته. وواقعي ملتصق بالحياة في اتجاهاته الأخرى، على ما هو واضح لأي متلق للشعر العربي.
ومن خلال ما سبق ذكره، يمكن أن نلحظ أن "المقاربة في التشبيه" التي قال بها عمود الشعر العربي، إنما كانت ناظرة إلى تناسب ركني جملة التشبيه تناسباً.. ليس عقلياً فقط، وإنما عاطفي صادر عن الطبع والفطرة الشفاهية أيضاً.
والواقع أن تناسب مقومات أسلوب التشبيه في (المرحلة الشفاهية) تطور عند المحدثين فصار إلى أهمية تناسب مقومات أسلوب الاستعارة (تناسب المستعار منه والمستعار له) في (المرحلة الكتابية). والتناسب في كلا الحالتين مقوم من مقومات أي عمل فني، والنظر إليه في كلا الوجهين في خلال المنطلق الجمالي للتناسب لأنه، إذا كان التناسب ثمرة لتوازن نفس مبدع الفن فلا بد لهذا التناسب الفني "أن يحدث أثراً في المتلقي ويساعد على إحداث نوع آخر للتوازن بين القوى النفسية لذلك المتلقي"([65])، ومن هنا كان النظر إلى المقاربة في التشبيه من خلال قيمة التناسب الفنية، حتى يصل المتلقي الناقد إلى فهم صحيح لأسلوب المقاربة في لغة الشعر على المستوى الدلالي، ثم إن "إدراك الشبه بين الأشياء هو موضع التفاضل بين الشاعر والشاعر، إذ كلما ازداد الشبه خفاء ازدادت دلالة اكتشافه على تميز الشاعرية"([66]). وهذا الفهم أدى إلى تصور المشابهة بين المتباعدات على أنها أقوى على خلق (المفارقة الشعرية) من غيرها. وهو ما أصر عليه كولردج في العصر الحديث، من أن "المشابهة الأبهى هي تلك التي تكشف بين مختلفات وأن التشابه المطلق يعدم التشبيه أو الاستعارة أو الرمز، ويمنع تدفق الشعرية"([67]) وهو أمر بعث على النظر في الاستعارة لا من خلال قيامها على المشابهة بل على المغايرة أو الاختلاف، وقد طرح ريتشاردز بعد كولردج فرضيته المعروفة: "في أن الاستعارة لا تقوم في الواقع على المشابهة، بقدر ما تقوم على المغايرة والاختلاف"([68]).
مناسبة المستعار منه للمستعار له:
مفهوم مناسبة المستعار منه للمستعار له عند المرزوقي صادر عن مفهومها عند عبد العزيز الجرجاني إذ أنها عند المرزوقي "تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه والمشبه به، ثم يكتفي فيه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له"([69]) وهي عند الجرجاني "ما اكتفي فيها بالاسم المستعار عن الأصل، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها، وملاكها تقريب الشبه، ومناسبة المستعار منه للمستعار له، وامتزاج اللفظ بالمعنى، حتى لا يوجد بينهما منافرة"([70]) وهذا ما قال به عبد القاهر أيضاً، من أن الاستعارة "أن تريد تشبيه الشيء بالشيء، فتدع أن تفصح بالتشبيه، وتظهر، وتجيء إلى اسم المشبه به فتعيره المشبه وتجريه عليه"([71]). وكل منهم منطلق من موضوعية الاستعارة عند العرب، تلك الموضوعية المتصفة، بالسببية والمقاربة والمشابهة، وكل منهم يدعو إلى عدم ترك أن يكون استعمال أسلوب الاستعارة واقعاً في دائرة الإطلاق، لئلا يضيع في الشعر استعمالها، في خلال اتصافها باللامعقول بعيداً عن التجريد أو التعقيد الذي يضعها في دائرة التحليل والتأويل، أي أنهم يقصدون الحفاظ على مرتكزاتها الرئيسة التي تسهم في الحفاظ على القيمة الشعرية، لأن الاستعارة بوصفها انزياحاً ينبغي أن لا تتجاوز حدود التواصل ومقوماته، لأن "اللغة الشعرية ستفقد كل مبرر لوجودها، كونها محكومة بقانون التواصل"([72]) وكل هذا يجب أن يتصف بالتناسب كونه ضرورة فنية جمالية.
ولما كانت الاستعارة علامة العبقرية المميزة، لأنها تقود إلى الانحراف في لغة الشعر([73])، فقد شغلت البلاغة العربية كثيراً، كونها "من مقتضيات النظم، وعنه تحدثت وبه تكون"([74]) وهي "أمد ميداناً، وأشد افتتاناً، وأكثر جرياناً، وأعجب حسناً وإحساناً،... وأذهب نجداً في الصناعة وغوراً، من أن تجمع شعبها وشعوبها، وتحصر فنونها وضروبها"([75])، فهي رأس البديع وأفضل المجاز([76])، لأن المعول عليها في التوسع والتصرف([77]).
فالمجاز حين يشحن اللغة بالطاقة الفنية الجديدة يجعلها قادرة على قول ما لا تقولـه إلا هي. أي أنها تتجاوز محدودية الدلالة اللغوية في أصلها الوضعي، وقد تكون أهمية المجاز في الخطاب الشعري ـ من جهة تأثيرها في المتلقي ـ نفسية أي راجعة إلى أن النفس الإنسانية عند وقوفها على كلام غير تام بالمقصود منه، كانت متشوقة إلى كماله، ومن هنا كان المجاز مولداً لتشوق النفس إلى ما هو غير معلوم، وكما كان الفن، ومنه الشعر، تشوقاً إلى كمال لا ينتهي، كان المجاز عنصراً مهماً في اللغة الشعرية([78]).
ومن خلال ما سبق نفهم أن دعوة عمود الشعر إلى التناسب بين المستعار منه والمستعار له، صادرة عن الطبع الشفاهي الارتجالي الذي يتطلب أن يكون ذلك التناسب حاضراً في وعي المتلقي، ولكن التناسب في الخطاب الشعري الذي يبعث على المفاجأة أو الإدهاش (كسر التوقع) يكون مولداً للشعرية، وباعثاً على أثر دلالي جديد.
والبعد القواعدي الصادر عن تناسب جملة الاستعارة في عمود الشعر، إنما هو نهج سار عليه النقد القديم، فضلاً عن أن البلاغة ذاتها تهدف إلى وضع المعايير التي تضمن خلق الإبداع الفني، كونها وسيلة خلق فني وتوجيه جمالي، فهي مقوم الأدب ووسيلته في آن([79]).
وإذا كانت البلاغة تهدف إلى وضع قواعد مخصوصة وتقنيات معينة لتحكم من خلالها لغة الشعر، فإنها لا تهدف إلى منع التطور أو الحد منه، كون اللغة الشعرية لا تخضع للتقنين والتقعيد الصارمين، لتميزها بالقدرة على التجدد والتوهج (المغايرة)، إلا أن البلاغة تسعى إلى معايير مخصوصة تحتكم إليها اللغة الشعرية للحد من الفوضى التي يمكن أن تكون حين لا تكون إشارات يهتدى بها في إنتاج الدلالة الشعرية، ومن هنا فإن "الأحكام النقدية التي ارتكزت على معايير البلاغة لتقرير حدّي: الجودة والرداءة. قد اكتسبت ماهية جديدة حولت ثبوت القياس، إلى قياس احتمال متغير، بمتغيرات الأسلوب وتنوعه"([80]).
وهذا المفهوم هو ما انطلق منه الجرجاني عند قراءته لما يسميه جان كوهين بها البلاغة الحية الفعالة التي لن يكون هناك شعر من دونها"([81]) وهو ذات المفهوم الذي أشار إليه حازم حين ذكر أنّ "معرفة طرق التناسب في المسموعات والمفهومات، لا يوصل إليها بشيء من علوم اللسان، إلا بالعلم الكلي في ذلك وهو علم البلاغة"([82])، كونها علم النص الكلي، ذلك النص الذي هو منتج البلاغة في منظور النقد([83]).
ومن خلال هذا ننظر للاستعارة على أنها بنية مجازية، في خلال أن "خاصية الوعي في المجاز، هي أن يعيش الواقع كدال، كعلاقة لواقع آخر يدل عليه، والواقع الآخر، ليس معطى هنا، والآن، إنما هو احتمالي وتخييلي"([84]).
فإذا كانت غاية الوصف الإظهار والوضوح فإن غاية الاستعارة تكثير الدلالة، أي أنها تبعث حالة من الخلق الاحتمالي بوساطة اللغة، أما الوصف فيطرح اللغة ذاتها. فكأن الوصف يقلب السمع بصراً([85]) والاستعارة تقلب البصر بصيرة.
فالاستعارة من وسائل الإدراك الخيالي لتعبيرها عن ملاحظات متنوعة بطرائق متميزة إذ تجلى قوتها الخيالية في خلال الجانب الفردي من التجربة في محاولة استكناه موضوعية الشيء بتأمل أبعاده لأن "ما تؤسسه الاستعارة من علاقات بين العناصر يسمح بأن تتمثل الصورة الاستعارية بوصفها غير قابلة للإدراك على نحو صحيح، ما لم نأخذ في اعتبارنا، النظرة الرمزية والإشارية للغة، والاستعارة الجيدة أو الناضجة، هي التي تحقق ضرباً من المعرفة الكشفية، وتثرى العالم وتجدد روابطنا به"([86]).
وفي قول زهير بن أبي سلمى الآتي ما يشير إلى هذا الأمر، على كثرة من ذكره من القدماء بدءاً من الآمدي([87]):
صحا القلبُ عن سلمى وأقْصر باطلهْ
وعُرّيَ أفراسُ الصبا ورواحلَهْ
فاستعارة الأفراس العارية عما يؤهلها للعنفوان للتدليل على العمر العاري مما كان فيه من شباب يؤهله للعنفوان أيضاً. إنما هي محاولة في رسم صورة خيالية ذات دلالة مقاربة فنياً بين: القلب الذي يغفو مع سلمى، فيطول باطله وتسرج أفراسه ورواحله كل شبابها عنفواناً قوامه الحب، وبين ذات القلب الذي يصحو عن سلمى فيقصر باطله ـ بعد أن كان طويلاً ـ وتتعرى أفراسه ورواحله، شيخوخة قوامها الاتعاظ.
على ما في البيت من تقابل دلالي جميل بين: صحوة القلب وعرى الأفراس، ثم بين سلمى والأفراس، ثم بين قصر الباطل وعري الأفراس والرواحل، وهكذا:
وهو ما يكشف عن وظائف الاستعارة المتعددة والتي منها ـ كما في قول زهير ـ أنها وسيلة يحاول الذهن من خلالها الجمع بين عناصر مختلفة، لأجل التأثير في المواقف وبعث الدوافع وتوجيهها. فكان صانع الاستعارة "ذا مقدرة لفظية يستخرج من قول يفتقر إلى الانسجام لأغراض التفسير الحرفي، قولاً دالاً، من أجل تفسير جديد يستحق أن يسمى استعارياً، لأنه يولد الاستعارة، لا من حيث هي منحرفة بل من حيث هي مقبولة أيضاً"([88]) وفي هذا فإن المعنى الاستعاري عند القدماء "لا يتكون من الاصطدام الدلالي، بل يتكون كذلك من المعنى الإخباري الجديد الذي يبزغ من انهيار المعنى الحرفي، أي من انهيار المعنى الذي ينتج إذ اعتمدنا على القيم الشائعة"([89]).
ومن قبل استعارة زهير يذكر الآمدي قول امرئ القيس المشهور([90]):
فقلتُ لـهُ لمّا تَمطى بصلبهِ
وأردفَ أعجازاً وناء بكلكلِ
إذ جعل الليل يتمطى وجعل له أردافاً، من خلال تشبيهه بالجمل، أي أنه استعار له ما يتصف به الجمل، معبراً عن معنى الإحساس بالثقل من خلال الشبه المقصود بين الليل الجاثم عليه أو على الأرض والجمل الجاثم على الأرض. قاصداً إثبات هذا الشبه، وهذا الفهم هو ما جعل الجرجاني لا يعد الاستعارة من باب التخييل "لأن المستعير ـ (من وجهة نظره) ـ لا يقصد إلى إثبات اللفظة المستعارة، وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره على خلاف خبره"([91]).