[center]دواعي البحث وخطته ومنهجه:
مضت الدراسات الأدبية التي تصب في مضمار تحليل النصوص الشعرية في العصر الحديث في سبل تكاد تنعدم فيها الصور وتقلبت مناهج لا يحسن للمرء ضمها في طاقة تشدها قوة الى التجانس والتشابه, وهذه بالطبع علامة ثراء, مثلما هي إشعار فوضى, إذ تعاظم مد الاشكالات بوجه النقد الأدبي اليوم وهو يحدد مداخله لتقديم توصيف أو تحليل للظاهرة الأدبية للخروج من مأزق تنوع المناهج النقدية الجديدة وكثرتها, ومع ذلك تسنى لكثير من الدارسين الولوج في النصوص الأدبية باحدى طريقتين: الأولى لا تخرج عن شرح النصوص وتفسير الغامض منها على صعيد الألفاظ والمعاني, ومتابعة ما يبرز على السطح من أنماط أسلوبية يشار إلى أثرها الجمالي والفني, وتحديد أصول الموضوعات والأفكار, وتحليل العواطف والانفعالات والصور المثيرة, والخيالات الجامحة وغيرها من الطاقات الفنية واللغوية في النص المدروس, وكل ذلك إنما يكون لغرض الفهم والتمثل.
والأخرى: تخطو خطوات واسعة باتجاه ما أتاحته المناهج النقدية الحديثة في الغرب من افكار ومصطلحات مقبوسة من الألسنية والشكلانية والبنيوية والأسلوبية والتفكيكية ونظرية التلقي وغيرها, وقد صلح منها شيء في أثناء التطبيق الأدبي, وتعذر صلاح أشياء أخر, وعلى أية حال فهناك كثير من الباحثين من أظهر حماسة لتطبيق مبادئ هذه المناهج ولاسيما البنيوية, ظانين بأنهم قدموا انجازات مهمة بتحويل النص المدروس, خصوصا القديم, الى رسوم بيانية وأشكال هندسية ورموز رياضية من شأنها ايذاء الظاهرة الأدبية قبل كل شيء, كما هو الشأن في محاولات كمال أبو ديب البنيوية وتطبيقاته على النصوص الشعرية الجاهلية في مؤلفه <<جدلية الخفاء والتجلي>>. وفهد عكام في كتابه <<الشعر الأندلسي نصا وتأويلا>> وغيرهما.
أما الدراسات التي تناولت الأسلوب في تراث السلف والمحدثين مثل دراسة عبدالسلام المسدي <<الأسلوب والأسلوبية>> ومحمد عبدالمطلب في <<البلاغة والأسلوبية>> وصلاح فضل في <<علم الأسلوب>> فقد عرضت لمسائل في غاية الأهمية, وخصوصا في الجوانب النظرية, وأما المجال التطبيقي فكان مداه محدودا .
ونحن إذ نقدم هذه المحاولة لا نزعم أننا نستوفي تلك الجهود, وإنما قد نقع في مدى أضيق مما لاحظناه عند غيرنا, غير أن هذه الدراسة تجد لنفسها مسوغا لتسهم في هذا الباب, يتمثل باجراء تطبيقات أسلوبية على نتاج شاعر محدد, والافادة من النواحي النظرية الثرة التي أفرزتها الدراسات السابقة, وفي الوقت ذاته الافادة من تطبيقات المفسرين والبلاغيين الموضعية التي حفلت بها الكتب القديمة سواء أكان ذلك في كتب التفسير كما هو الشأن عند الزمخشري في <<الكشاف>> أم في كتب البلاغة كما هو الحال عند عبدالقاهر في <<دلائل الإعجاز>>.
وقد استقر لنا النظر الى الظواهر الأسلوبية في شعر أبي مسلم على الوجه الآتي:
1 - مجالات الأسلوب ومفهومه: وهنا حاولنا الوقوف عند شواهد منتقاة من تراث السلف في تعريف الأسلوب وتحديد مجالاته التطبيقية ليكون ذلك مرتكزا يتكامل وما أفدناه من آراء علماء اللغة والدارسين المحدثين في هذا الباب.
2 - ظواهر العدول في شعر أبي مسلم البهلاني, وقد تهيأ لنا ان تلك الظواهر تتركز حول ثلاث نقاط: الأولى تتصل بالانحراف الأسلوبي او ما يعرف بالعدول عن الأصل, ويندرج تحت اطارها مؤشران:
أ - انحراف عن القاعدة وعن أصل الكلام الوضعي لغرض بلاغي, وهو انحراف يشكل منبهات أسلوبية تلفت نظر القارئ الى مدى التجاوز الذي قام به الشاعر في هذا الموضع أو ذاك كالاعتماد على المجاز والاستعارة والتمثيل, وفي الوقت نفسه يمثل قيدا جديدا يضاف الى مجموعة القيود التي تحدد لضبط مجالات الاستخدام اللغوي بالصورة المثالية.
ب - وانحراف عن النسق النحوي كالالتفات والتقديم والتأخير والحذف والعدول في استخدام أدوات الربط وغيرها.
والثانية: ما يعرف بالسياق الأسلوبي , أو <<النموذج اللغوي المنكسر بعنصر غير متوقع>> كما عر فه ريفاتير, وتناولنا في هذه النقطة أزمنة الافعال وما تشير اليه مسألة التنوع الزمني على صعيد السياق الأسلوبي, ثم وقفنا عند معدلات التكرار والتضاد.
والثالثة: انحراف ينتهك القاعدة دون مراعاة الأسس, كالتصرف في أبنية بعض الكلمات, وهي أمثلة محكومة بالضرورة ومحصورة في مجالات محددة كان الباعث عليها في كثير من الأحيان الحفاظ على الكيان العروضي للبيت.
أما المنهج في هذه الدراسة فيحسن تحديده في جهتين: الأولى تحديد ظواهر الانحراف طبقا لتأثرها بمبدأ الاختيار والتركيب, وهي الطريقة الخاصة بنظم الألفاظ ضمن عبارات تشير الى استعمال خاص للغة, وفي الوقت نفسه تدل على الانحراف عن الأصل الذي وضعه المعجم والنحو على حد سواء وقياس مدى الانحراف او مدى المطابقة مع ما أقرته المباحث البلاغية التي وجهت النظر الى الوظيفة الجمالية للغة, وكانت فتحت في هذا المجال بابا واسعا للعدول عن الأصل لبلوغ ذلك الملمح. وهنا نشير الى انه يصعب وضع جداول إحصائية لتلك الانحرافات, لذلك اكتفينا بتحديد أنماط الأسلوب الموضحة لهذا الجانب.
والثانية: الوقوف عند ظواهر الانحراف الشامل المتمثل بمعدلات التكرار في شعر أبي مسلم, وملاحظة الأسباب الداعية الى تطويله الشعر, وهنا يصعب التصنيف أيضا, أو انه عديم الجدوى على اعتبار أن التكرار لا يخضع عند شاعرنا الى مسألة فنية بمقدار خضوعه الى حاجات إنشادية هي في واقع الحال خارجة عن بنية القصيدة.
إن تطبيق المنهج بالصورة الموصوفة آنفا يكشف عن إشكاليات, يتركز معظمها حول صعوبة تصنيف الظواهر الأسلوبية في جداول احصائية تحريا للدقة والانضباط في الحكم على تلك الظواهر, هذا من جهة ومن جهة أخرى صعوبة التحقق من صحة المقاربة التي يقوم بها الباحث عند استخلاصه السمات الأسلوبية, ومدى تأثيرها في السياق, ذلك لأن البهلاني في كثير من الأحيان يعمد إلى محاكاة أساليب من سبقه, وهذا يستلزم تبصرا بأساليب الأقدمين من الشعراء, مثلما يستلزم معرفة أكيدة بالقواعد النحوية, وأنساق اللغة في أوضاعها القياسية والسماعية, اعتمادا على المعجمات, وخبرة بمجريات المباحث البلاغية التي اشارت الى المدى الذي يحسن فيه العدول عن الأصل.
وهنا يحسن الوقوف عند ما سماه د. صلاح فضل بعوائق البحث الأسلوبي لمحاورتها, ذلك لأنها تشكل أكثر من نقطة خلاف في هذا الباب. وقد ذكر أنه: <<يترتب على هذه النظرية (دراسة الأسلوب) وجود نصوص بلا أسلوب, وهي النصوص التي لا تنحرف عن قاعدة ما, إذ يصعب تحديد كل من القاعدة والانحراف بالدقة العلمية المنشودة , فلا تتطابق الانحرافات مع الخواص الاسلوبية في مقدارهما, ولا تغطي احداهما الأخرى فهناك انحرافات لا يترتب عليها تأثير أسلوبي مثل جمع الأخطاء, والجمل غير المكتملة, كما ان هناك عناصر ذات أهمية أسلوبية دون أن تكون خروجا على اللغة, ولهذا ربما كانت هذه النظرية قابلة للتطبيق في الأدب على الأسلوب ذي الطابع الشخصي البارز الشديد التمثيل لمزاج خاص في بعض التجارب الشعرية المتميزة, ولكنها فيما يبدو لا تصلح للتطبيق على مؤلفين يكتبون بأسلوب عادي, ولعل أخطر ما يترتب على تطبيق هذه النظرية في تفسير النصوص الأدبية هو الاعتداد بالملامح الأسلوبية القليلة المميزة غير المستعملة عادة, واهمال بقية ملامح النص وبنيته الأساسية>>.(1)
وهنا يمكن التساؤل: إذا كان هناك نص بلا أسلوب, إذ الأسلوب كما يقول فاليري ما هو إلا انحراف عن القاعدة أو الأصل الموضوع عليه الكلام أو هو الانتهاك كما قال كوهين, فلن يكون هناك نص ينطوي على خصائص نوعية للأسلوب, لأن النص الذي تغيب ملامحه الأسلوبية يذوب في غيره, إذن لا بد للنص من علامات فارقة في الأسلوب ليعبر عن فرادته, وهذا لا يمنع أن تكون هنالك عناصر موروثة وتقليدية, بجانب تلك العناصر الفريدة, لأنه من المحال أن يقوم نص على ما هو فريد فحسب, وكذلك لا قيمة له إذا قام على عناصر تقليدية بصورة كلية, وقد التفت النقاد القدامى الى هذه الناحية فذكر ابن رشيق في باب الس رق أن انصراف الشاعر عن كل ما سبق إليه دليل غفلة, واتكاله على من تقدمه مؤشر بلادة(2) والأصل ان تتداخل النصوص ليتشكل ما يعرف بفسيفساء النص, أو الرماد الثقافي الذي يختزنه كل نص بتناصه مع نصوص لا حصر لها, وفي الوقت ذاته ينطوي على ما يحفظ له كيانه من الذوبان الكامل في غيره, وهذا انما يكون على صعيد الأسلوب قبل كل شيء.
هذه العقبات التي وضعها د. فضل أمام الدراسات التي تتناول الأسلوب مبالغ فيها, لأن المباحث البلاغية قد شملت انحاء متعددة في مجالات الدراسة الخاصة بالأسلوب, وهذه إنما تمثل مرتكزا لكل دراسة لاحقة تعينها على تلمس الانحرافات. وأما معرفة القواعد فمتيسر لأن اللغة العربية استوفت مباحثها النحوية, وكذلك نضجت مباحثها اللغوية مما يجعل قضية استقصاء القواعد على الصعيدين اللغوي والنحوي أمرا ممكنا .
ان الأخطاء اللغوية, والجمل غير المكتملة ينجم عنها أثر سلبي في الأسلوب, وليس من الممكن عزلها عن الظواهر الأسلوبية, فقد عد الأصمعي لحن ابن المقفع في بعض الكلمات مثل تعريفه (كل وبعض) من علامات تراجع أسلوبه(3). ذلك لأن العناصر السلبية تضعف الأسلوب, كما ان الاشارة الى العيوب التي تخالط أساليب الأدباء تعين على تقييم مستوى مستخدم اللغة في آخر الأمر, إذ لا تقف دراسات الأسلوب عند ابراز العناصر الجمالية في الأداء فحسب, وإنما تحاول وضع يدها على مواضع القوة والضعف فيه, هذا من ناحية, ومن ناحية ثانية فإن محاكاة أصل الكلام لا تتعارض مع الأسلوب, فالأسلوب مع انه علامة شخصية إلا أنه يتصل بعناصر ثابتة تشده الى أصل الكلام والقواعد, ومحال أن يكون هناك نص يمثل انحرافا كاملا عن الأصل, حينئذ لن يكون هناك نص ولا لغة.
الأسلوب شخصي مهما تضاءلت نسبة انحرافه عن الأصل, ثم ليس هنالك أديب يكتب بأسلوب عادي, وإن وجد لا يسمى أديبا على أية حال.
لاشك ان دراسة الأسلوب تهتم بالخصائص النوعية الخارجة على الاستخدام العادي للغة, واما الظواهر المتبقية فإن ذلك من شأن المناهج الأخرى.
أولا: الأسلوب ومجالاته
راودت فكرة الأسلوب ووجوه الأداء الكلامي أذهان المفسرين والبلاغيين والنقاد منذ القرن الثالث الهجري, وقد استأثر موضوع الاعجاز القرآني باهتمامهم البالغ , فانصرفوا الى تحديد وجوهه وتجلياته في القرآن الكريم, على اعتبار الاعجاز متصلا بالجانب البياني اساسا, وكان ابن قتيبة الدينوري (276هـ) قد لاحظ أن دراسة الاساليب الكلامية في لغة العرب ضرورة لفهم الأسلوب القرآني, فلفت النظر الى اهمية دراسة تلك الأساليب على اعتبارها أداة لفهم فكرة الاعجاز التي ينطوي عليه الأسلوب القرآني فذكر: <<انما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب واقتناها في الأساليب>>(4). أما الباقلاني فقد حاول تأكيد فكرة تفرد القرآن الكريم من جهة نظمه المعجز, بطريق مقارنة بعض أساليبه بما تعده العرب غاية في نظمها, وكان الباقلاني قد رأى ذلك في نصين شعريين. أحدهما لامرئ القيس على اعتباره من القدماء المجودين في الشعر, وقد سبق الناس الى أشياء ابتدعها, والآخر للبحتري وهو من أصحاب الديباجة في الشعر, وكان يسمي بعض شعره سلاسل الذهب. مشيرا وهو يعرض هذين النموذجين الى أهم ملامحهما البنائية في الابتداء والتخلص والانتهاء وتوالي الأجزاء وتماسك الأقسام, منبها لما يمتازان به من سمات على نطاق اللغة والأسلوب والمعاني والموضوعات, منتهيا الى القول: <<إن نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم, ومباين للمألوف من ترتيب خطابه, وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام>>.(5)
أما الزمخشري فقد دقق النظر في الخواص الأسلوبية لبعض سور القرآن في كتابه (الكشاف), كما هو الأمر في سورة الحمد: (الحمدلله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, إياك نعبد, وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم,صراط الذين أنعمت عليهم, غير المغضوب عليهم ولا الضالين), فقال: <<فإن قلت لم عدل عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب, قلت هذا يسمى الالتفات في علم البيان, وقد يكون من الغيبة الى الخطاب, ومن الخطاب الى الغيبة, ومن الغيبة الى التكلم>>.(6)
وقد ظل البحث الأسلوبي قائما على وصف وجوه الاستخدام اللغوي, وملاحظة وجود المنبهات الأسلوبية, الى أن جاء عبدالقاهر الجرجاني فقدم تصورا دقيقا لمفهوم الأسلوب فذكر: <<انه الضرب من النظم والطريقة فيه>>(7), ثم اشار الى أن مجالات الأسلوب في النظم لا تخرج عن تركيب الألفاظ في أنساق بصورة تتبع ترتيب المعاني في نفس المتكلم, ومن خلال ذلك تنبه لصلة النحو بالمعاني فقال في كلامه على النظم: <<هو أن نضع كلامك الوضع الذي يرتضيه النحو وتعمل على قوانينه>>(, وعلى هذا الاساس غدا النحو متصلا عنده بالمستوى الجمالي مثل اتصاله بجانب الاستخدام المثالي, إذ النحو لا يعني بنظره العلم بمواضع الاعراب, فهذا كما يشير أمر مشترك بين الناس, وهو ليس مما يستنبط بالفكر والروية, وليس لأحد فضل على غيره إذا علم أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب, فهذه امكانات متحققة في العلم, وإنما المزية الوصف الموجب للاعراب(9), فأدرك نظام اللغة من خلال النحو, وهو نظام يختلف في تراكيبه من جنس في الكلام الى جنس آخر, وهنا أشار الى ان خصوصية كل شاعر تظهر من خلال اعتماده على امكانات محددة من إمكانات النحو, وان تشابهت المعاني وتداخلت الأغراض, فان المقارنة تبقى قائمة بين تركيب وتركيب, ثم تظهر الفروق بعدئذ في نظم الكلام, من أجل ذلك يغدو نقل المعنى وتأديته بالصورة الموضوع عليها محالا ; لأننا سنجد صياغة جديدة يتحول إليها المعنى بمجرد تحويله من سياق الى سياق, يقول:<<ولا يغرنك قول الناس قد أتى بالمعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه فإنه تسامح منهم, والمراد انه أدى الغرض فأما أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأول حتى لا تعقل ههنا إلا ما عقلته هناك, وحتى يكون حال الصورتين المشتبهتين في عينيك كالسوارين والشنفين ففي غاية المحال>>.(10)
لقد خلص عبدالقاهر في تأييده علاقة النحو بالنظم وبالأسلوب الى أن النحو بإمكاناته الواسعة يتيح لكل منشئ قدرا من التميز الدال على خصوصية نظمه, إذ الالفاظ في ذاتها لا ينجم عن استعمالها فضل للقائل, لأنها لا تختص بأحد دون آخر, وانما تكون الخصوصية في النظم والتركيب.
إن الألفاظ عند عبدالقاهر ما هي إلا رموز للمعاني, لهذا فهي لا تكتسب صفة الفصاحة في ذاتها, لأن الفصاحة عنده سمة للمتكلم دون واضع اللغة, والمتكلم ليس بمقدوره أن يزيد من عنده باللفظ شيئا ليس هو في اللغة, فان فعل ذلك خرج على اللغة, وعليه لا يكون المتكلم متكلما إلا إذا استعمل اللغة على ما وضعت له, وفي ذلك دلالة عنده أن الفصاحة لا تتصل باللفظ بمثل اتصالها بالتركيب, وقد ضرب على ذلك مثالا بقوله: <<فإذا قلت في لفظ <<اشتعل>> من قوله تعالى <<واشتعل الرأس شيبا>> إنها في أعلى مرتبة من الفصاحة لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها, ولكن موصولا بها الرأس معرفا بالألف واللام ومقرونا إليه الشيب منكرا منصوبا (11), وادراكه خاصية الأسلوب في ضوء النحو على هذه الجهة من الدقة والشمول جعله يلتقي مع علماء اللغة المحدثين في أكثر من موضع.(12)
وكما أن ثمة ارتباطا قويا بين النحو والنظم من جهة, وبينهما وبين الأسلوب من جهة ثانية, فهنالك علاقة عضوية بين الأسلوب والبلاغة عند عبدالقاهر, تبدو لنا من خلال اهتمامه بالمعنى والدلالة والغرض والمجاز ومن استعارة وكناية وتمثيل, إذ الدلالة لا يبعث عليها الكلام العادي, وإنما يكون الباعث عليها المجاز الذي يجري وفق آلة النحو أساسا يقول: <<إن الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من مقتضيات النظم, وعنها يحدث وبها يكون; لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم, وهي أفراد لم يتوافر فيما بينها حكم من أحكام النحو, فلا يتصور هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون ألف مع غيره>>.(13)
وعلى هذا النحو تسنى للبلاغيين العرب وضع اساس لدراسة الأسلوب, وهو أساس يتيح للمنشئ استخدام اللغة على نحو يكشف عن خصوصيتها وجماليتها.
وس عت الدراسات اللغوية الحديثة مجالات البحث الأسلوبي لتشمل جوانب متباعدة في مسائل التعبير اللغوي, فكانت جهود <<فرديناند دوسوسير>> (1857- 1913م) في نظريته القائمة على علاقة اللغة بالكلام, وتحليل الرموز اللغوية, ودراسة التركيب العام للنظام اللغوي, ما ينطوي عليه ذلك من صور صوتية ودلالات, تتأسس بينها علاقات اعتباطية في البدء, ثم تخضع تلك الصور للنظام حالما تتشكل التراكيب, غير أن تأصيل العلاقة بين الدال والمدلول كما يرى <<دوسوسير>> من خلال السياق او التركيب يحجب ادراك السمة التواصلية للغة, وعليه فان النظام اللغوي لا يعطي النتيجة المرجوة منه ما لم يرتبط بأنظمة أخرى خارجة عنه(14), وقد افاد <<بالي>> (1865- 1947م) من أفكار دوسوسير في اعتبار اللغة نظاما من العلاقات تبرز الجانب الفكري والانفعالي للمتكلم, غير انه لم يحفل باللغة الأدبية, وكان ذلك كما يشير نفر من الدارسين من الأسباب الداعية لتجاوز آرائه في مجال دراسة الأسلوب (51) مع انه في اعتبار الكثيرين من مؤسسي هذا العلم.
ثم جاء <<كريسو>> ليعيد الاعتبار الى اللغة الأدبية بعدما أبعدها <<بالي>> عن المجال الأسلوبي, فوجد في الأدب شكلا من أشكال التواصل الجمالي بين المؤلف والمتلقي, ونحا <<ماروز>> نحو <<كريسو>> في التركيز على لغة الأدب في التحليل الأسلوبي, مستقصيا ظواهرها مثل العلاقة بين المحسوس بالمجرد, والمجمل بالمفصل, والحقيقة بالمجاز, والشعر بالنثر, واللفظ بالتركيب.(16)
ثم جاء <<آمادو ألونسو>> ليطابق في دراسته الأسلوبية التي اقامها على اشعار بابلو نيرودا, بين النقد الأدبي والأسلوبية محاولا التعرف على السمات الأسلوبية للمنشئ من خلال نتاجه, مركزا على علاقة الأديب بالأثر, وعلاقة الدال بالمدلول من خلال التركيب, وما ينجم عن كل ذلك من عناصر معنوية وتأثيرية. ويتجاوز <<ألونسو>> نظرة دوسوسير الى اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول, لتتحول تلك العلاقة عنده الى علاقة سببية, مما جعل للدراسة الأسلوبية أهدافا تتركز في معظمها حول الغاية التوصيلية للغة, ولعل أهم ما نجم عن مباحث <<ألونسو>> توضيح الكيفية التي يبنى بها الجسر بين الدال والمدلول, وهو في <<حالة التكوين>>. ويلاحظ الدارسون ان محاولته تحديد العلاقات المتشابكة داخل العمل الأدبي أوقعته في متاهات غامضة, خصوصا عندما تكلم عن اللحظة الاستشراقية التي تتداخل مع عوالم غامضة من الأفكار والعواطف والتهويمات والذكريات.(17)
أما الشكلانيون الروس فقد بذلوا جهودا تذكر في باب الدراسات الأسلوبية, إذ تركزت مباحثهم حول الجوانب الفنية للأدب منطلقين من اللغة مركزين على دراسة الأصوات المتكررة, وتمثيل وحدات الدلالة, والوقوف عند البنى النحوية, وجزئيات الصورة, مبينين كيفية تفاعل هذه المستويات في النتاج على نحو شامل.
وفي ألمانيا ظهر <<كارل فوسلر>> الذي أطلق اسم الأسلوبية على الناحية التي تدرس اللغة في علاقتها بالخلق الفردي, ولاحظ في معرض دراسته للغة من هذه الجهة ان الذي يتطور ليس الفن وإنما التكنيك او الجهد الفردي الذي يقدمه المبدع. وقد تبعه <<أولمان>> فربط بين الأسلوبية والألسنية. أما <<بيرس>> فقد وضع المباحث الأسلوبية قبالة السيميولوجيا فدرس الرموز ودلالاتها وعلاقاتها بالموضوعات المتصلة بالطبيعة والانسان, وهذا ما اسهم في تطور الاتجاهات التحليلية في النقد الأدبي, في حين ركز <<جاكبسون>> على اللغة والإنشاء , وكان ذلك في محاضرة له بهذا العنوان ألقاها في أمريكا 1960م, وكانت الأسلوبية قد افادت من جهود <<رينيه ويليك>> و<<اوستن وارين>> خصوصا في مجال النظرية الأدبية التي لا تنظر الى النتاج الأدبي على اعتباره وثيقة اجتماعية او تاريخية, أو موعظة او كشفا دينيا أو تأملا فلسفيا , وإنما على اعتباره لغة بالمقام الأول.(18)
أما مفهوم الأسلوب فقد تكشف في المباحث العربية على يد عبدالقاهر, إذ نراه يضع له تعريفا متصلا بالنظم ليقول: <<هو الضرب من النظم والطريقة فيه>>.(19) ولما جاء حازم القرطاجني وسع مفهوم الأسلوب ليشمل النتاج الادبي كله بما فيه من عناصر داخلة في الصياغة او في أغراض الشعر خاصة حيث يقول: <<ولما كانت الأغراض الشعرية يوقع في واحدة منها الجملة الكبيرة من المعاني والمقاصد, وكانت لتلك المعاني جهات فيها توجد, ومسائل تقتنى, وكانت للنفس بالاستمرار على تلك الجهات, والنقلة من بعضها الى بعض, وبكيفية الاطراد في المعاني صورة وهيئة تسمى الأسلوب>>.(20)
وقد وقف ابن خلدون عند تعريف الأسلوب فذكر انه: <<المنوال الذي تنسج فيه التراكيب, أو القالب الذي تفرغ فيه, ولا يرجع الى الكلام باعتبار افادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الاعراب, ولا باعتبار افادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي هو وظيفة البلاغة, ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه هو وظيفة العروض... إنما يرجع الى صورة ذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص>>.(21)
وإذا ما انتقلنا الى العصر الحديث وجدنا أهم محاولة استهدفت تحديد مفهوم الأسلوب دراسة أحمد الشايب الذي وقف فيها عند الأسلوب محددا المقصود منه, وأنواعه وعناصره ومقوماته, وقد وضع له جملة من التعريفات أبرزها أنه الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني, أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار.(22)
أما علماء اللغة الغربيين فقد وضعوا تعريفات عدة للأسلوب أظهرها ما ذكره <<بالي>> من انه <<يتمثل في مجموعة من عناصر اللغة المؤثرة عاطفيا في المستمع>>(23). وما ذكره <<أمادو ألونسو>> من انه <<الطريقة التي يتكون بها العمل الأدبي في جملته وعناصره التفصيلية, وهي التي تحدد أنماط المتعة الجمالية الناجمة عنها>>.(24) أمارولان بارت فقد رأى أن الأسلوب هو لغة تتميز بالاكتفاء الذاتي وتغرس جذورها في أسطورية المؤلف(25).
ثانيا: ظواهر العدول عند أبي مسلم
انتهينا في عرضنا السابق لجهود الباحثين في مجال الأسلوب الى أن التناول الأسلوبي إنما ينصب على اللغة الأدبية بوصفها مبعث الاحساس بالتنوع والتفرد في مجال الأداء اللغوي بما فيه من وعي واختيار, وما فيه من انحرافات عن أصل الكلام, ويمكن تبيان ظواهر الأسلوب عند البهلاني الشاعر العماني بالنظر الى المواضع التي تمثل تجاوزا وعدولا عن الوضع اللغوي وعن النسق النحوي, وما يمكن أن يؤثر في السياق الاسلوبي عامة.
أ - العدول عن الأصل اللغوي:
يتمثل هذا الضرب من العدول في ظواهر لا تنحصر في مجال الاستخدام الأدبي في شعر البهلاني. واذا كان الشاعر عامة لا يفكر في اللغة أو النحو وهو يعبر عن تجربته الشعرية, إلا أن ما يقوله فعلا لا يخرج عن الاطار الذي رسمته القواعد إلا في حالات قليلة وجدت البلاغة لها مسوغات في سبيل ايجاد لغة ذات طبيعة تواصلية, بوسعها التأثير في السامع ملبية لديه حاجات فنية وجمالية. غير أن ما تتيحه البلاغة لمنشئ القول الأدبي لا يصل في كل حالاته الى درجة تحطيم القواعد المستقرة للغة, وانما تتيح ما يضمن للظاهرة الأدبية النمو في حدود ما تجيزه القواعد أصلا, وهي الحال التي لا تتعدى استخدام بعض الكلمات بعيدا عن دلالاتها المألوفة كما هو الشأن في المجاز, أو التصرف في ترتيب الكلمة بصورة تخالف النسق المألوف كما هو الحال في التقديم والتأخير, أو التركيز على الصيغ المتقابلة التي من شأنها كسر تسلسل الكلام, ومنعه من الجريان على وتيرة واحدة كالحال التي تبدو في استعمال التضاد.
ومن شأن هذه الوسائل جميعا التحول على الصعيد الاسلوبي الى منبهات تثير المتلقي, وتخلق لديه قدرة على تمثل القيم الفنية التي ينطوي عليها الأثر الأدبي, ومن هنا كان الاهتمام بها وتسجيلها من مهام هذا المبحث الذي نعقده لاستكشاف الملامح الأسلوبية في خطاب أبي مسلم الشعري.
الاستبدال والمجاز:
تقر الدراسات الأسلوبية بازدواجية الخطاب في الناتج الكلامي الصادر عن مستعمل اللغة, إذ المنشئ عادة يجد نفسه, في أثناء انشائه الكلام, أمام طائفة من المفردات, يمكن لكل واحدة أن تؤدي المعنى المطلوب, وحالما يخرج المنشئ معناه من التصور الى الواقع, يختار من هيئات الألفاظ واحدة يسوق بها معناه, حينئذ تنعزل سائر الألفاظ المشابهة, ثم تأتي مرحلة النظم لتستقر الكلمة المختارة في سياق يقر به النحو, وترتب بحسب ترتيب المعاني في نفس صاحبها على الصورة التي حددها عبدالقاهر الجرجاني في نظرية النظم, وهكذا تتشكل لبنات القول حتى تتم صورته الكلية, وهي صورة لا تخرج عن كونها خطابا عاديا يؤدي غرضا نفعيا أو رسالة يريد المنشئ تبليغها للمتلقي.
غير أن صناع الأدب لا يمضون وفق السبيل الذي أشرنا إليه آنفا في تعاملهم مع اللغة, وإنما يعمدون الى خلخلة الأنظمة الثابتة للغة, فيختارون من المفردات ما يحتمل طاقات تأثيرية واسعة, ومن ثم تحمليها دلالات اضافية, لينجم عن ذلك خلل في العلاقات اللغوية الراسخة, ذلك لأن الألفاظ في أثناء ذلك تلبس دلالات جديدة لتؤصل علاقات لم تكن مألوفة من قبل, وهذا عمل مقصود يتوخى منه الأديب زيادة الطاقات الايحائية للألفاظ, وتوسيع حقولها الدلالية لتستوعب دقائق التجارب التي يعبر عنها, من أجل ذلك كان المجاز وما يتيحه من امكانات تسعف على تجاوز ما هو مألوف في المجال الدلالي من أهم الوسائل المثيرة التي تنطوي على منبهات أسلوبية تمكن الأديب من ترك بصماته الشخصية على اللغة.
لقد عر ف البلاغيون المجاز بأنه الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له(26). أو ما سماه السكاكي <<الكلمة المستعملة في معنى معناها>> (27). وبمقتضيات المجاز تبدو مؤشرات الأسلوب مركزة على مستويين للدلالة: الأول: ما يعرف بدلالة المطابقة وهو ما يفهم من اللفظ الذي انتقل من مجاله الحقيقي الى مجال مجازي مثل كلمة (صلاة- كتب...) إذ كانت كلمة <<كتب>> في الأصل تعني (خاط أو ربط) ككتب القربة أي شد ها بالوكاء, غير انها استخدمت فيما بعد لغير الخياطة, ثم تعذر عليها الرجوع الى ما كانت عليه في الأصل, وما من أحد اليوم يستخدمها إلا بمعناها الجديد, مع أن ذلك المعنى مخالف لما وضعت له. وهذا ينطبق على ألفاظ كثيرة في اللغة تيسر لها الانتقال من دلالة إلى أخرى في ضوء تزايد المعاني ومحدودية الألفاظ, وهذا الضرب من المجاز غدا من الآلية بحيث لا يشعر بأثره في الكلام أحد سوى المعنيين بتاريخ الألفاظ.
والثاني: دلالة اللفظ على شيء أخرجه المتكلم عن معناه بغية حمل السامع على التأثر به مما يشكل على مستوى الأسلوب انحرافا عن الوضع يتوقف قبوله على مدى استجابة المتلقي لمثل هذا الضرب من العدول, وهناك شواهد كثيرة في تاريخنا الأدبي تشير الى نفور الذوق من مجازات أبي تمام خصوصا كقوله(28) :
لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائي
فقالوا ما معنى ماء الملام, أي أنهم لم يقبلوا العلاقة الناجمة عن اضافة الملام للماء.
وكان أبومسلم البهلاني ركب أسلوب المجاز في شواهد لا تنحصر في شعره, وعمد إلى التركيز على مفردات بعينها أجراها مجرى المجاز كما هو الشأن في قصيدته <<النهروانية>> حيث يذكر(29):
عهودا على عين الرقيب اختلست ها
ذوت روضة منها وجف غدير
فإذا كانت مجمل المفردات في هذا الشاهد يمكن أن تخضع لعملية الاستبدال, بمعنى أنها مختارة من مجموعات لفظية حل المذكور منها محل المعزول, إلا أن قوله (اختلستها) فيه عدول مجازي عن الأصل لا يمكن رده الى الاستبدال; لأن نسبة اختلاس النظر انحراف عن النمط التركيبي الأصيل للغة. فالاختلاس بحسب ما وضع له في الأصل المعجمي يعني <<الاستلاب>>, والشاعر هنا عدل عن هذا المعنى فخرج به عن الأصل, وإذا كان استخدام (الاختلاس) بمعنى النظر ليس من ابتداع أبي مسلم, إلا أنه تحول الى سمة أسلوبية لمجرد ترجيحه المجاز على الحقيقة هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان التركيب الذي صب فيه البهلاني المجاز حمل بصمة شخصية على اعتباره مقرونا بكلمة (عهودا ) فنجمت دلالة اضافية بعودة الضمير في (اختلستها) على (عهودا ) فصارت العهود من كثرة تأمل الشاعر لتفصيلاتها بمقام النظر الذي يسترقه بين حين وآخر.
ونرى البهلاني يلح على هذه الكلمة في مواضع أخرى من شعره, مما يشي بأنه كان يرى فيها ملمحا جماليا يلبي حاجته الى التجاوز, يقول (30):
سحر ومكر وأحزان نضارتها
فاحذر إذا خالست مكرا وتمويها
وأراد بقوله (خالست ): النظرة الماكرة, والضمير عائد الى الدنيا التي لا تني تنظر نظرات ماكرة الى الأحياء.
وإذا ما تجاوزنا كلمة (خالس) وما تنطوي عليه من دلالات مجازية عند أبي مسلم وجدناه مولعا باستخدام كلمة (الشمس) وما يلحق بها من مفردات تجانسها مثل (النجوم, الأقمار, الكواكب, السماوات, الأنوار, الأضواء...) وغيرها مما يلبي عنده حاجات فنية لا تنحصر, وقد جرى في استعمالها على جهة المجاز وفق علاقة المشابهة التي تبرز في قوله(31):
فإن نبك أهل العلم نبك حياتنا
عليهم كما بالماء ينضر عود
خذا حدثاني عن شموس تساقطت
ببطن الثرى ماذا هناك تريد
فأراد بالشموس هنا أهل العلم, والعلاقة قائمة على المشابهة, وبقرينة السياق الذي يمنع من ايراد المعنى الحقيقي. ويقول في شاهد آخر مركزا على الدلالة نفسها(32):
فمن عجب أن ت حبس الشمس في الثرى
فتعتقب الأيام والجو مظلم
ويقول(33):
شمس المعارف يا سلطانها كسفت
كسوف شمسك عن صبح وعن ط ف ل
ويقول(34):
أما وشموس للمعارف أسفرت
بأسفاره إني به لكميد
ويقول (35):
كنت فيه الشمس نورا وهدى
وارتفاعا وانتفاعا بل أجل
وإذا ما انفلت من سحر كلمة (الشمس), سارع ليجري في فلك كلمات لا تبعد عنها من حيث الدلالة المجازية ككلمة (كوكب) في قوله مخاطبا الموت(36):
أطفأت أزهر كوكب ملأ الفضا
ضوءا وجئت بظلمة الأكدار
وكلمة (الضياء) في قوله (37):
بل من على الشمس إذ تجري مقدر
لمستقر لها حيث الضيا انكتما
فالضياء هنا أريد به سنا المرثي الذي انحسر بعد أن افلت شمسه, وإلى هذه الدلالة تنتهي كلمة (أشعة) في قوله(38):
وإن كنت قد خلفت فينا أشعة
ع را الشمس من إشراقهن خمود
نرى السبعة السيارة امتثلت لها
فهن ركوع حولها وسجود
وضمن كلمة (مصباح) معنى مجازيا في قوله(39):
لقد كنت مصباح الورى لرشادهم
فقد طفىء المصباح عنهم فأظلموا
وكذلك استخدم كلمة (الأقمار) على جهة المجاز في قوله(40):
وفي الخمسة الأقمار أنجالك انتهت
ظنون حسان يقتضيها التوسم
فهذه الكلمات جميعا انطوى عليها موضوع الرثاء في شعر أبي مسلم, ولها مؤشر واضح يتحدد بكون كل من خص بهذا الشعر هو من الفضلاء والعلماء ورجال الدين والمصلحين والواعظين والزهاد الذين كانوا في حياتهم شموسا أو نجوما أو كواكب بعثت النور والضياء في حياة الناس لتجلو غياهب الجهل, وتسعف على تلمس سبل نيرة في الهداية والصلاح والتمسك بأصول الدين, ونبذ الفساد والغي والضلال.
ومن الطبيعي إذا ما طوت يد الموت حياة هؤلاء الرجال أفل ضوؤهم, وتبدد سناهم, وقد وجد الشاعر في مثل هذه الألفاظ ما يؤدي غرضا للتعبير عن هذا المعنى, وهنا تنجلي خاصية أسلوبه; أعني بالتركيز على هذا النمط من المفردات والعدول بها عن وضعها المألوف.
غير أن الانحراف الأسلوبي الذي يشير اليه المجاز عامة لا يعد خروجا سافرا على ما هو مستقر , أو ما هو أصل, أو أن يكون المجاز ترتيبا ثانيا تبلغه الكلمة بعد أن تجوز المدى الحقيقي لوضعها; لأن ما هو مستقر في موضوع الدلالة افتراضي, أو أنه اعتباطي لا يتصل بماهية الكلمة ومنطقها, وإنما يصدر عما يعتقده المتكلم فيها, لذا فلا يعدو كونه اعتقادا أسطوريا , من أجل ذلك قد يكون المجاز سابقا للحقيقة, أو أنه أصل والحقيقة فرع(41), ولا سيما ان الحقيقة اللغوية ما هي إلا قيود أضفتها المعجمات على الكلمات فطوقتها في إسار محدود, ومن شأن المجاز اطلاق اللغة من قيدها لتعود طليقة في فضاء رحب يلائم طبيعتها الخارجة على التحديد, والشاعر الذي يركب أسلوب المجاز يبعث الكلمات من جديد ليعيدها إلى طبيعتها المطلقة, فيصبح المجاز بهذا المعنى عدولا إلى الأصل, وهو سابق للحقيقة على أية حال.
المجاز من الجزئية إلى الشمولية:
لا يتخذ المجاز في شعر ابي مسلم صورة واحدة بل يترجح بين مستويات عدة, ويمكن الوقوف هنا على جانب من مجازات الجزئية في علاقاتها المرسلة, وهو أسلوب يدل على مدى الانحراف الذي بلغه أسلوبه في التعبير عن تجاربه بصورة تنم عن عدوله عن النسق الموضوع للكلام فمن مجازاته في هذا الباب قوله(42):
ارحم عظامك أن تصلى بزفرتها وخز البعوضة لو فكرت يؤذيها
فكلمة (عظامك) مختصة في الأصل بالدلالة على جزء من كل, غير أن الشاعر هنا أراد بها كامل الجسد, وفي ذلك انحراف عن الأصل, ومن ذلك أيضا قوله(43):
واختر على الذل عزا أن ت سام به
فدون وجهك في ادراكه سبل
اراد نفسك بما فيها (وجهك) , وقوله(44):
وكلمة الله لم تنزل محجبة عن البصائر بين الوهم والفكر
وكلمة الله تعلو فوق جاحدها وآية الحجر تعلو آية الح جر
فكلمة الله أي القرآن, والكلمة جزء من كل, وهو بهذا الأسلوب يخرج الكلمة من دلالتها الموضعية الى معنى أرحب يلامس بها كامل الشيء الموصوف, مما يدل على تحو ل هذا الضرب من المجاز الى سمة فنية أسهمت في اطلاق لغته من المحدود الى المطلق.
التمثيل:
لقد وجد البهلاني في أسلوب التمثيل ما يلبي نزوعه الى المطلق في مجال استخدامه اللغة, ومعلوم أن التمثيل كالمجاز يعبر عن انحراف أسلوبي عن الأصل, وهو من وجهة أخرى يلائم توجهه الوعظي في شعره الذي يدخل في مجمله في باب الأذكار والاستنهاض, لهذا كان التمثيل أداة طيعة بيده ليمتد الى أقصى ما تحتمله الكلمة من دلالات, والتشبيه التمثيلي خاصة يختلف عن سائر التشبيهات بكون وجه الشبه فيه منتزعا من أشياء متعددة, إذ هو من هذه الناحية مجال لشحن الكلام بدلالات واسعة تجعل المعنى على غاية من التشعب والامتداد. ومن ضروب تمثيله قوله(45):
إن التملق للألباب يجبهها مثل الغشاوة للأبصار يعميها
فالحال التي يجسدها التشبيه هنا قائمة على تمثيل صورة بصورة, إذ (التملق) يقضي على أصالة الرأي, ويجعل العقل ذائبا في غيره, وخارجا عن ذاته, ومستترا لا يبين له كيان, وهي حال تشبه الأبصار حين تغشاها الظ لم فتحتجب عنها الأنوار لتصير الى ظلام دامس, ومن أقواله في التمثيل أيضا(46):
فإن نبك أهل العلم نبك حياتنا عليهم كما بالماء ينضر عود
وجه الشبه هنا ليس مفردا , وإنما هو صورة حافلة بالمعاني, إذ البكاء على أهل العلم بعد وفاتهم هو عين الوفاء الذي نجد فيه عوضا عما فاتنا من وجودهم, وهذا أشبه بالأس الذي تقوم عليه حياتنا, وهو من ثم بمقام الماء الذي لا تقوم حياة للنبات بدونه, ويقول أيضا(47)
وما بال هذا الكون ولهان مطرق كما ضيم بين الأقوياء حريد
إذ بدا إطراق الكون وصمته تألما على ما حل بالمرثي, شبيها بمن مسه الضيم بين قوم أشداء, وهو منفرد وحيد, ويقول(48):
تزال تنبت نفسا ثم تأكلها وإنما يحرث الحراث للأكل
يعني الدنيا التي لا تني تحتصد الأحياء بعدما انبتتهم, كما لو أن مزارعا اعتنى بزروعه زمنا حتى إذا ما استوت حصدها لينتفع بها.
ومن الواضح أن التمثيل هنا أسهم في توسيع مدى الدلالة للكلمات, مما هيأ للشاعر التخلص من التحديدات المفرطة المفروضة عليها, وقد اتيح لها من خلال المجاز الانتقال من المستوى النفعي المحدود الى المستوى الفني الجمالي الواسع.
ب : العدول عن النسق النحوي:
إن اللغة في نسقها المثالي <<ما هي إلا ثمرة ترابط بين ما يقول به النحاة, وما يقول به اللغويون>> (49), ولهذا كان كسر نمطية هذا الوفاق علامة أسلوبية تدل على مقدار انحراف الشاعر عن الأصل.
لقد انصبت جهود البهلاني على كسر النسق اللغوي المألوف, معتمدا على امكانات بلاغية كثيرة كالالتفات والتقديم والتأخير والحذف والعدول في استخدام أدوات الربط.
الالتفات على اعتباره عدولا:
عر ف قدامة بن جعفر الالتفات بقوله: <<هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه, أو ظن أن رادا يرده عليه, أو سائلا يسأله عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه>>.(50) غير أن الالتفات عند البلاغيين جاز حد الاعتراض الى أبواب لا تنحصر, فذكر ابن المعتز أنه يقترن <<بانصراف المتكلم عن الإخبار الى المخاطبة>> (51), وقد أيد المبرد ذلك في تعليقه على قول الشاعر:
وامتعني على العشا بوليدة فأبت بخير منك يا هود حامدا
فقال: <<كان يتحدث عنه, ثم أقبل عليه يخاطبه, وترك تلك, والعرب تترك مخاطبة الغائب الى مخاطبة الشاهد إلى المتكلم, ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب>> (52).
لقد أكثر البهلاني من الالتفات في شعره, فنراه يترك مخاطبة الشاهد الى مخاطبة الغائب كما في قوله(53)
تدارك وصايا الحق والصبر إنما
يفوز محق بالفلاح صبور
وكن في طريق الاستقامة حاذرا
كمين الأعادي فالشجاع حذور
تعلم لوجه الله وأعمل لوجهه
وثق منه بالموعود فهو جدير
ويلتفت من التكلم إلى المخاطب كقوله(54):
اقول للعقل والبرهان في يده
هلا حكمت وأنت الفيصل الدمر
ويلتفت من خطاب المفرد الشاهد الى المفرد الغائب كقوله55)
قم بحول الله لا تحفل بها
رقصت أم سكنت أم العبر
ومن خطاب الغائب الى خطاب الشاهد كقوله(56):
ولم يبق في الدنيا له من معول
سواك ونعم الركب أنت معولا
ومثل ذلك قوله(57):
وما لبست سوى التقوى على حذر
والله يخشاه من هذا الورى العلما
ويلتفت من خطاب المفرد الى خطاب الجمع كما في قوله(58):
ليس من يدعي الفخار يساويـ
ـك ولا كل مابنوا بمنيف
وقوله(59) :
لله ما سنة لك البشرى بها
ولنا بها كالنار في إعصار
ومعلوم أن هذه الأضرب من الالتفات تسهم في تلوين الخطاب, وتقطع جريان الكلام على جهة واحدة مثل أن يأتي على جهة الحكاية أو الإخبار ثم ينعطف الى جهة أخرى في الخطاب, توخيا للتأثير في السامع ودفع السأم عنه, والبهلاني لا يمضي في التفاتاته على النحو الذي جرت عليه أساليب السابقين فحسب, وإنما نجده يعمد أحيانا إلى مجانبة الطرائق المألوفة في الالتفات مثل الالتفات عن مخاطبة الجمع الى خطاب المفرد كما في قوله(60):
أنحن نعلم بالتعقيل منعدما
وخالق العقل عنه الأمر مستتر
يقول النحاة في مثل هذه الحال: إنه لا يجوز للمتكلم إذا بدا بضمير الجمع أن يأتي بعده بما هو دال على المفرد, لأن ذلك لا يزيل الابهام عن الكلام(61), غير ان البلاغيين يحملون هذا النمط من العدول على المجاز, على اعتباره وسيلة فنية وإن لم تطابق النسق إلا أنها تحقق نوعا من التوازن في الكلام(62).
التقديم والتأخير:
يخضع التركيب من حيث ترتيب كلماته الى نمط يتبع حركة الإعراب التي من شأنها ضبط المعاني, وترتيبها بحسب النسق الذي أقره النحو, مثل أن يكون حق المسند إليه التقدم, ولا مقتضى للعدول عن تقديمه إلا لأغراض حصرت القواعد مجالاتها, ومن هنا أضحى من حق المبتدأ التقدم على الخبر والفعل على الفاعل والمفعول, والموصوف على الصفة, غير أن مجالات الاستخدام الأدبي للغة كثيرا ما تخترق هذا النظام لأغراض نفسية وإبلاغية كالتشويق والتفاؤل والتلذذ(63), وقد جرى البهلاني في صور من شعره على الابتداء بالنكرة كقوله(64):
قائم أنت على أرجائها
بملاك الأمر والحق الأغر
وهذا الاستخدام يستدعي بيان الأصل الذي يفترضه النحو في صورته المثالية المألوفة المتحققة في قولنا: (أنت قائم), غير أن الشاعر عدل عن ذلك ليخص المخاطب بالقيام فقدم الخبر على المبتدأ مع تنكيره, ومن صور التقديم عنده تجاهل رتبة الفعل ليأتي به عقب المفعول كما في قوله(65):
عهودا على عين الرقيب اختلستها
ذوت روضة منها وجف غدير
وقوله(66):
ولو أملا أدركته لم تجد له
بقاء ولم تصحبك منه عهود
وكثيرا ما يحظى المفعول به عند البهلاني بالتقديم على الفاعل كقوله(68):
ولو كان يجدي هالكا ندب فاقد
لسال مكان الدمع من غربه الدم
وقوله(68):
تشوقت يوما للقياكم
كذا يجذب النفس أحباب ها
فسرت أسعى إلى بابكم
وقد أرهق النفس أتعاب ها
وكذلك نجده مغرما بتقديم الجار والمجرور كقوله(69):
بنفسي من تشكو الى ذي صبابة
وليت النوى طارت مطار غرابها
بحكم بنات الدهر فارقت إلفها
وسلني عنها لم أضق عن جوابها
بهن تركت الإلف رغما وأنه
لترك حياة النفس بين شعابها
على عجمات الصبر شجت قلوبنا
ليمتاز رخو الصبر بين صلابها
بعيشكما هل تعلمان وديعة
ولم تطرق الأكدار عتبة بابها
وبلغ احتفاله بهذا النمط من التقديم الى درجة الضغط على صيغ بعينها, مثل تكراره (في سبيل الله) في قوله(70):
في سبيل الله أنفقت العنا
وفي مراد الله أنفقت العمل
في سبيل الله لم تحفل بها
أسقيت الصاب أم كأس العسل
في سبيل الله تدعو جاهدا
لتقيم القسط أو تلك الأجل
في سبيل الله أجهدت القوى
لم تحد إن جد خطب أو هزل
ومن ضروب تقديم الظرف قوله(71):
دونك الجد أفرغي فيه أنفا
سك فالهزل ضاق عنه مداها
وقوله(72):
لدى ملكوت الله يتلى ثناؤه
وللملأ الأعلى لأمثاله ولا
وقوله(73):
ودون مدارك الآمال رصد
من الآجال منقطع الظنون
ومن الواضح أن التقديم في صوره المختلفة كان غرضه عند أبي مسلم التخصيص وهو غرض إبلاغي يسر له الانحراف عن النسق النحوي الذي يقتضي ترتيب الكلام بحسب الموقع الإعرابي كتقديم ما حقه التقدم بالرتبة وتأخير ما يتوجب تأخيره, وبحسب المنطق الذي يوجب تقديم العلة على المعلول والعلم على العالمية, والواحد على الاثنين, والتقدم بالشرف, والتقدم بالمكان والتقدم بالزمان(74), وهذه القيود يجد المنشئ انه في حل منها في سبيل ايجاد لغة تواصلية, تشكل في واقع الأمر انحرافا عن النسق بمستوييه النحوي والمنطقي.
الحـــذف:
إن طي العامل يفترض وجود أصل له في صورة الكلام, فإذا ما عمد المنشئ الى حذفه بقيت صورته ماثلة في الذهن لاعتبارات تستدعيها الوظيفة الإعرابية, ويكون الحذف لعلل كثيرة منها معرفة السامع به وضيق المقام عن ذكره, وقد اعتمد البهلاني على الحذف في مواضع كثيرة من شعره أبرزها قوله(75):
إذا نحن بالباب زنجية
تقض الشياطين أنيابها
وهذا من أفانين الحذف المركب عنده, ذلك لأن صورة الحذف المألوفة بعد إذا تستوجب تقدير فعل محذوف, ليعرب الاسم المرفوع بعدها فاعلا لفعل محذوف يفسره المذكور بعده كقولنا: (إذا الطالب درس نجح), فدرس يفسر ما حذف هنا, والتقدير: (إذا درس الطالب درس...), غير أن الشاهد السابق طوى فعلين فلزم التقدير على الوجه الآتي: (إذا نقف نحن بالباب تقف زنجية), وهو انحراف بالغ عن الأصل ينطوي على منبه أسلوبي واضح.
ومن صور الحذف عنده ما يكون للاستعمال كقوله(76):
واهتزت الأرض عاليها وسافلها
حتى السماوات والعرش الذي عظما
والتقدير: (حتى اهتزت السماوات واهتز العرش الذي عظما), فإذا قيل هذا حذف مفسر على اعتباره ذكر الفعل (اهتزت) في صدر البيت قلنا: ان من شأن المفسر أن يتأخر عن المحذوف في المحل. ومن شواهد الحذف عنده قوله(77):
نرى غاية الدنيا وكيف صروفها
ونحن على رأي الركون ركون
فحسن تقدير محذوف بعد كيف أي: (كيف تكون صروفها), وقد كان البهلاني مولعا بحذف كان في مطاوي شعره كقوله(78):
مجهدا للنفس في نشر الهدى
خير من وقى وأندى من بذل
صابرا في منشط أو مكره
ثابت العزم شديد المكتهل
شاسع النظرة لا يقصرها
زخرف الدنيا وجاه وخول
راجح الايمان معصوم الخطا
قوله الفصل وإن قال فعل
سائرا بالجد حتى نلته
<<كل من سار على الدرب وصل>>
فهذه الأبيات في رثاء السالمي حملها على جهة التأبين والثناء على الفقيد بمعنى أن المرثي (كان مجهدا وصابرا وشاسع النظرة وراجح الإيمان وسائرا بالجد). ومن ضروب حذفه الفعل وذكره المصدر نيابة عنه قوله(79):
ألهوا ومخبوء المنايا حبائل
وأرواحنا فيها وقوع وحوم
سكونا إليها والمقابر تمتلي
وتخلو بيوت الراحلين وتهدم
وهذه الشواهد تعد عدولا عن النسق لأن الأصل أن تذكر الكلمة في موضعها, فإذا ما حذفت دل ذلك على انحراف.
العدول في أدوات الربط:
تتميز أدوات الربط بامكانات أسلوبية واسعة; لأنها اضافة لوظيفتها النحوية المتمثلة بالربط بين الكلمات والجمل, فهي تؤدي دورا في المعنى, ولا تقتصر أدوات الربط على أحرف العطف, وإنما شملت أحرف الجر أيضا لأن لها معاني تزيد عن وظيفتها النحوية كما قال ابن الأثير(80). وحروف الربط عامة لا تكتسب جودها من جراء الدلالة المعجمية المحددة لها, وانما قد يؤدي بعضها معاني بعضها الآخر, وهو ما يعرف بتشريب الحرف معنى حرف غيره, مثل احتمال (الباء) معنى (في) وغيرها من الشواهد الدالة على الافتنان في استخدام تلك الأدوات, وهنا تمكن الاشارة الى أن استخدام أبي مسلم لأدوات الربط ترجح بين المحافظة على وظائفها المعنوية والعدول عن تلك الوظائف , يقول(81):
وجئت بالدين وا
مضت الدراسات الأدبية التي تصب في مضمار تحليل النصوص الشعرية في العصر الحديث في سبل تكاد تنعدم فيها الصور وتقلبت مناهج لا يحسن للمرء ضمها في طاقة تشدها قوة الى التجانس والتشابه, وهذه بالطبع علامة ثراء, مثلما هي إشعار فوضى, إذ تعاظم مد الاشكالات بوجه النقد الأدبي اليوم وهو يحدد مداخله لتقديم توصيف أو تحليل للظاهرة الأدبية للخروج من مأزق تنوع المناهج النقدية الجديدة وكثرتها, ومع ذلك تسنى لكثير من الدارسين الولوج في النصوص الأدبية باحدى طريقتين: الأولى لا تخرج عن شرح النصوص وتفسير الغامض منها على صعيد الألفاظ والمعاني, ومتابعة ما يبرز على السطح من أنماط أسلوبية يشار إلى أثرها الجمالي والفني, وتحديد أصول الموضوعات والأفكار, وتحليل العواطف والانفعالات والصور المثيرة, والخيالات الجامحة وغيرها من الطاقات الفنية واللغوية في النص المدروس, وكل ذلك إنما يكون لغرض الفهم والتمثل.
والأخرى: تخطو خطوات واسعة باتجاه ما أتاحته المناهج النقدية الحديثة في الغرب من افكار ومصطلحات مقبوسة من الألسنية والشكلانية والبنيوية والأسلوبية والتفكيكية ونظرية التلقي وغيرها, وقد صلح منها شيء في أثناء التطبيق الأدبي, وتعذر صلاح أشياء أخر, وعلى أية حال فهناك كثير من الباحثين من أظهر حماسة لتطبيق مبادئ هذه المناهج ولاسيما البنيوية, ظانين بأنهم قدموا انجازات مهمة بتحويل النص المدروس, خصوصا القديم, الى رسوم بيانية وأشكال هندسية ورموز رياضية من شأنها ايذاء الظاهرة الأدبية قبل كل شيء, كما هو الشأن في محاولات كمال أبو ديب البنيوية وتطبيقاته على النصوص الشعرية الجاهلية في مؤلفه <<جدلية الخفاء والتجلي>>. وفهد عكام في كتابه <<الشعر الأندلسي نصا وتأويلا>> وغيرهما.
أما الدراسات التي تناولت الأسلوب في تراث السلف والمحدثين مثل دراسة عبدالسلام المسدي <<الأسلوب والأسلوبية>> ومحمد عبدالمطلب في <<البلاغة والأسلوبية>> وصلاح فضل في <<علم الأسلوب>> فقد عرضت لمسائل في غاية الأهمية, وخصوصا في الجوانب النظرية, وأما المجال التطبيقي فكان مداه محدودا .
ونحن إذ نقدم هذه المحاولة لا نزعم أننا نستوفي تلك الجهود, وإنما قد نقع في مدى أضيق مما لاحظناه عند غيرنا, غير أن هذه الدراسة تجد لنفسها مسوغا لتسهم في هذا الباب, يتمثل باجراء تطبيقات أسلوبية على نتاج شاعر محدد, والافادة من النواحي النظرية الثرة التي أفرزتها الدراسات السابقة, وفي الوقت ذاته الافادة من تطبيقات المفسرين والبلاغيين الموضعية التي حفلت بها الكتب القديمة سواء أكان ذلك في كتب التفسير كما هو الشأن عند الزمخشري في <<الكشاف>> أم في كتب البلاغة كما هو الحال عند عبدالقاهر في <<دلائل الإعجاز>>.
وقد استقر لنا النظر الى الظواهر الأسلوبية في شعر أبي مسلم على الوجه الآتي:
1 - مجالات الأسلوب ومفهومه: وهنا حاولنا الوقوف عند شواهد منتقاة من تراث السلف في تعريف الأسلوب وتحديد مجالاته التطبيقية ليكون ذلك مرتكزا يتكامل وما أفدناه من آراء علماء اللغة والدارسين المحدثين في هذا الباب.
2 - ظواهر العدول في شعر أبي مسلم البهلاني, وقد تهيأ لنا ان تلك الظواهر تتركز حول ثلاث نقاط: الأولى تتصل بالانحراف الأسلوبي او ما يعرف بالعدول عن الأصل, ويندرج تحت اطارها مؤشران:
أ - انحراف عن القاعدة وعن أصل الكلام الوضعي لغرض بلاغي, وهو انحراف يشكل منبهات أسلوبية تلفت نظر القارئ الى مدى التجاوز الذي قام به الشاعر في هذا الموضع أو ذاك كالاعتماد على المجاز والاستعارة والتمثيل, وفي الوقت نفسه يمثل قيدا جديدا يضاف الى مجموعة القيود التي تحدد لضبط مجالات الاستخدام اللغوي بالصورة المثالية.
ب - وانحراف عن النسق النحوي كالالتفات والتقديم والتأخير والحذف والعدول في استخدام أدوات الربط وغيرها.
والثانية: ما يعرف بالسياق الأسلوبي , أو <<النموذج اللغوي المنكسر بعنصر غير متوقع>> كما عر فه ريفاتير, وتناولنا في هذه النقطة أزمنة الافعال وما تشير اليه مسألة التنوع الزمني على صعيد السياق الأسلوبي, ثم وقفنا عند معدلات التكرار والتضاد.
والثالثة: انحراف ينتهك القاعدة دون مراعاة الأسس, كالتصرف في أبنية بعض الكلمات, وهي أمثلة محكومة بالضرورة ومحصورة في مجالات محددة كان الباعث عليها في كثير من الأحيان الحفاظ على الكيان العروضي للبيت.
أما المنهج في هذه الدراسة فيحسن تحديده في جهتين: الأولى تحديد ظواهر الانحراف طبقا لتأثرها بمبدأ الاختيار والتركيب, وهي الطريقة الخاصة بنظم الألفاظ ضمن عبارات تشير الى استعمال خاص للغة, وفي الوقت نفسه تدل على الانحراف عن الأصل الذي وضعه المعجم والنحو على حد سواء وقياس مدى الانحراف او مدى المطابقة مع ما أقرته المباحث البلاغية التي وجهت النظر الى الوظيفة الجمالية للغة, وكانت فتحت في هذا المجال بابا واسعا للعدول عن الأصل لبلوغ ذلك الملمح. وهنا نشير الى انه يصعب وضع جداول إحصائية لتلك الانحرافات, لذلك اكتفينا بتحديد أنماط الأسلوب الموضحة لهذا الجانب.
والثانية: الوقوف عند ظواهر الانحراف الشامل المتمثل بمعدلات التكرار في شعر أبي مسلم, وملاحظة الأسباب الداعية الى تطويله الشعر, وهنا يصعب التصنيف أيضا, أو انه عديم الجدوى على اعتبار أن التكرار لا يخضع عند شاعرنا الى مسألة فنية بمقدار خضوعه الى حاجات إنشادية هي في واقع الحال خارجة عن بنية القصيدة.
إن تطبيق المنهج بالصورة الموصوفة آنفا يكشف عن إشكاليات, يتركز معظمها حول صعوبة تصنيف الظواهر الأسلوبية في جداول احصائية تحريا للدقة والانضباط في الحكم على تلك الظواهر, هذا من جهة ومن جهة أخرى صعوبة التحقق من صحة المقاربة التي يقوم بها الباحث عند استخلاصه السمات الأسلوبية, ومدى تأثيرها في السياق, ذلك لأن البهلاني في كثير من الأحيان يعمد إلى محاكاة أساليب من سبقه, وهذا يستلزم تبصرا بأساليب الأقدمين من الشعراء, مثلما يستلزم معرفة أكيدة بالقواعد النحوية, وأنساق اللغة في أوضاعها القياسية والسماعية, اعتمادا على المعجمات, وخبرة بمجريات المباحث البلاغية التي اشارت الى المدى الذي يحسن فيه العدول عن الأصل.
وهنا يحسن الوقوف عند ما سماه د. صلاح فضل بعوائق البحث الأسلوبي لمحاورتها, ذلك لأنها تشكل أكثر من نقطة خلاف في هذا الباب. وقد ذكر أنه: <<يترتب على هذه النظرية (دراسة الأسلوب) وجود نصوص بلا أسلوب, وهي النصوص التي لا تنحرف عن قاعدة ما, إذ يصعب تحديد كل من القاعدة والانحراف بالدقة العلمية المنشودة , فلا تتطابق الانحرافات مع الخواص الاسلوبية في مقدارهما, ولا تغطي احداهما الأخرى فهناك انحرافات لا يترتب عليها تأثير أسلوبي مثل جمع الأخطاء, والجمل غير المكتملة, كما ان هناك عناصر ذات أهمية أسلوبية دون أن تكون خروجا على اللغة, ولهذا ربما كانت هذه النظرية قابلة للتطبيق في الأدب على الأسلوب ذي الطابع الشخصي البارز الشديد التمثيل لمزاج خاص في بعض التجارب الشعرية المتميزة, ولكنها فيما يبدو لا تصلح للتطبيق على مؤلفين يكتبون بأسلوب عادي, ولعل أخطر ما يترتب على تطبيق هذه النظرية في تفسير النصوص الأدبية هو الاعتداد بالملامح الأسلوبية القليلة المميزة غير المستعملة عادة, واهمال بقية ملامح النص وبنيته الأساسية>>.(1)
وهنا يمكن التساؤل: إذا كان هناك نص بلا أسلوب, إذ الأسلوب كما يقول فاليري ما هو إلا انحراف عن القاعدة أو الأصل الموضوع عليه الكلام أو هو الانتهاك كما قال كوهين, فلن يكون هناك نص ينطوي على خصائص نوعية للأسلوب, لأن النص الذي تغيب ملامحه الأسلوبية يذوب في غيره, إذن لا بد للنص من علامات فارقة في الأسلوب ليعبر عن فرادته, وهذا لا يمنع أن تكون هنالك عناصر موروثة وتقليدية, بجانب تلك العناصر الفريدة, لأنه من المحال أن يقوم نص على ما هو فريد فحسب, وكذلك لا قيمة له إذا قام على عناصر تقليدية بصورة كلية, وقد التفت النقاد القدامى الى هذه الناحية فذكر ابن رشيق في باب الس رق أن انصراف الشاعر عن كل ما سبق إليه دليل غفلة, واتكاله على من تقدمه مؤشر بلادة(2) والأصل ان تتداخل النصوص ليتشكل ما يعرف بفسيفساء النص, أو الرماد الثقافي الذي يختزنه كل نص بتناصه مع نصوص لا حصر لها, وفي الوقت ذاته ينطوي على ما يحفظ له كيانه من الذوبان الكامل في غيره, وهذا انما يكون على صعيد الأسلوب قبل كل شيء.
هذه العقبات التي وضعها د. فضل أمام الدراسات التي تتناول الأسلوب مبالغ فيها, لأن المباحث البلاغية قد شملت انحاء متعددة في مجالات الدراسة الخاصة بالأسلوب, وهذه إنما تمثل مرتكزا لكل دراسة لاحقة تعينها على تلمس الانحرافات. وأما معرفة القواعد فمتيسر لأن اللغة العربية استوفت مباحثها النحوية, وكذلك نضجت مباحثها اللغوية مما يجعل قضية استقصاء القواعد على الصعيدين اللغوي والنحوي أمرا ممكنا .
ان الأخطاء اللغوية, والجمل غير المكتملة ينجم عنها أثر سلبي في الأسلوب, وليس من الممكن عزلها عن الظواهر الأسلوبية, فقد عد الأصمعي لحن ابن المقفع في بعض الكلمات مثل تعريفه (كل وبعض) من علامات تراجع أسلوبه(3). ذلك لأن العناصر السلبية تضعف الأسلوب, كما ان الاشارة الى العيوب التي تخالط أساليب الأدباء تعين على تقييم مستوى مستخدم اللغة في آخر الأمر, إذ لا تقف دراسات الأسلوب عند ابراز العناصر الجمالية في الأداء فحسب, وإنما تحاول وضع يدها على مواضع القوة والضعف فيه, هذا من ناحية, ومن ناحية ثانية فإن محاكاة أصل الكلام لا تتعارض مع الأسلوب, فالأسلوب مع انه علامة شخصية إلا أنه يتصل بعناصر ثابتة تشده الى أصل الكلام والقواعد, ومحال أن يكون هناك نص يمثل انحرافا كاملا عن الأصل, حينئذ لن يكون هناك نص ولا لغة.
الأسلوب شخصي مهما تضاءلت نسبة انحرافه عن الأصل, ثم ليس هنالك أديب يكتب بأسلوب عادي, وإن وجد لا يسمى أديبا على أية حال.
لاشك ان دراسة الأسلوب تهتم بالخصائص النوعية الخارجة على الاستخدام العادي للغة, واما الظواهر المتبقية فإن ذلك من شأن المناهج الأخرى.
أولا: الأسلوب ومجالاته
راودت فكرة الأسلوب ووجوه الأداء الكلامي أذهان المفسرين والبلاغيين والنقاد منذ القرن الثالث الهجري, وقد استأثر موضوع الاعجاز القرآني باهتمامهم البالغ , فانصرفوا الى تحديد وجوهه وتجلياته في القرآن الكريم, على اعتبار الاعجاز متصلا بالجانب البياني اساسا, وكان ابن قتيبة الدينوري (276هـ) قد لاحظ أن دراسة الاساليب الكلامية في لغة العرب ضرورة لفهم الأسلوب القرآني, فلفت النظر الى اهمية دراسة تلك الأساليب على اعتبارها أداة لفهم فكرة الاعجاز التي ينطوي عليه الأسلوب القرآني فذكر: <<انما يعرف فضل القرآن من كثر نظره واتسع علمه وفهم مذاهب العرب واقتناها في الأساليب>>(4). أما الباقلاني فقد حاول تأكيد فكرة تفرد القرآن الكريم من جهة نظمه المعجز, بطريق مقارنة بعض أساليبه بما تعده العرب غاية في نظمها, وكان الباقلاني قد رأى ذلك في نصين شعريين. أحدهما لامرئ القيس على اعتباره من القدماء المجودين في الشعر, وقد سبق الناس الى أشياء ابتدعها, والآخر للبحتري وهو من أصحاب الديباجة في الشعر, وكان يسمي بعض شعره سلاسل الذهب. مشيرا وهو يعرض هذين النموذجين الى أهم ملامحهما البنائية في الابتداء والتخلص والانتهاء وتوالي الأجزاء وتماسك الأقسام, منبها لما يمتازان به من سمات على نطاق اللغة والأسلوب والمعاني والموضوعات, منتهيا الى القول: <<إن نظم القرآن على تصرف وجوهه وتباين مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم, ومباين للمألوف من ترتيب خطابه, وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام>>.(5)
أما الزمخشري فقد دقق النظر في الخواص الأسلوبية لبعض سور القرآن في كتابه (الكشاف), كما هو الأمر في سورة الحمد: (الحمدلله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, إياك نعبد, وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم,صراط الذين أنعمت عليهم, غير المغضوب عليهم ولا الضالين), فقال: <<فإن قلت لم عدل عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب, قلت هذا يسمى الالتفات في علم البيان, وقد يكون من الغيبة الى الخطاب, ومن الخطاب الى الغيبة, ومن الغيبة الى التكلم>>.(6)
وقد ظل البحث الأسلوبي قائما على وصف وجوه الاستخدام اللغوي, وملاحظة وجود المنبهات الأسلوبية, الى أن جاء عبدالقاهر الجرجاني فقدم تصورا دقيقا لمفهوم الأسلوب فذكر: <<انه الضرب من النظم والطريقة فيه>>(7), ثم اشار الى أن مجالات الأسلوب في النظم لا تخرج عن تركيب الألفاظ في أنساق بصورة تتبع ترتيب المعاني في نفس المتكلم, ومن خلال ذلك تنبه لصلة النحو بالمعاني فقال في كلامه على النظم: <<هو أن نضع كلامك الوضع الذي يرتضيه النحو وتعمل على قوانينه>>(, وعلى هذا الاساس غدا النحو متصلا عنده بالمستوى الجمالي مثل اتصاله بجانب الاستخدام المثالي, إذ النحو لا يعني بنظره العلم بمواضع الاعراب, فهذا كما يشير أمر مشترك بين الناس, وهو ليس مما يستنبط بالفكر والروية, وليس لأحد فضل على غيره إذا علم أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب, فهذه امكانات متحققة في العلم, وإنما المزية الوصف الموجب للاعراب(9), فأدرك نظام اللغة من خلال النحو, وهو نظام يختلف في تراكيبه من جنس في الكلام الى جنس آخر, وهنا أشار الى ان خصوصية كل شاعر تظهر من خلال اعتماده على امكانات محددة من إمكانات النحو, وان تشابهت المعاني وتداخلت الأغراض, فان المقارنة تبقى قائمة بين تركيب وتركيب, ثم تظهر الفروق بعدئذ في نظم الكلام, من أجل ذلك يغدو نقل المعنى وتأديته بالصورة الموضوع عليها محالا ; لأننا سنجد صياغة جديدة يتحول إليها المعنى بمجرد تحويله من سياق الى سياق, يقول:<<ولا يغرنك قول الناس قد أتى بالمعنى بعينه وأخذ معنى كلامه فأداه على وجهه فإنه تسامح منهم, والمراد انه أدى الغرض فأما أن يؤدي المعنى بعينه على الوجه الذي يكون عليه في كلام الأول حتى لا تعقل ههنا إلا ما عقلته هناك, وحتى يكون حال الصورتين المشتبهتين في عينيك كالسوارين والشنفين ففي غاية المحال>>.(10)
لقد خلص عبدالقاهر في تأييده علاقة النحو بالنظم وبالأسلوب الى أن النحو بإمكاناته الواسعة يتيح لكل منشئ قدرا من التميز الدال على خصوصية نظمه, إذ الالفاظ في ذاتها لا ينجم عن استعمالها فضل للقائل, لأنها لا تختص بأحد دون آخر, وانما تكون الخصوصية في النظم والتركيب.
إن الألفاظ عند عبدالقاهر ما هي إلا رموز للمعاني, لهذا فهي لا تكتسب صفة الفصاحة في ذاتها, لأن الفصاحة عنده سمة للمتكلم دون واضع اللغة, والمتكلم ليس بمقدوره أن يزيد من عنده باللفظ شيئا ليس هو في اللغة, فان فعل ذلك خرج على اللغة, وعليه لا يكون المتكلم متكلما إلا إذا استعمل اللغة على ما وضعت له, وفي ذلك دلالة عنده أن الفصاحة لا تتصل باللفظ بمثل اتصالها بالتركيب, وقد ضرب على ذلك مثالا بقوله: <<فإذا قلت في لفظ <<اشتعل>> من قوله تعالى <<واشتعل الرأس شيبا>> إنها في أعلى مرتبة من الفصاحة لم توجب تلك الفصاحة لها وحدها, ولكن موصولا بها الرأس معرفا بالألف واللام ومقرونا إليه الشيب منكرا منصوبا (11), وادراكه خاصية الأسلوب في ضوء النحو على هذه الجهة من الدقة والشمول جعله يلتقي مع علماء اللغة المحدثين في أكثر من موضع.(12)
وكما أن ثمة ارتباطا قويا بين النحو والنظم من جهة, وبينهما وبين الأسلوب من جهة ثانية, فهنالك علاقة عضوية بين الأسلوب والبلاغة عند عبدالقاهر, تبدو لنا من خلال اهتمامه بالمعنى والدلالة والغرض والمجاز ومن استعارة وكناية وتمثيل, إذ الدلالة لا يبعث عليها الكلام العادي, وإنما يكون الباعث عليها المجاز الذي يجري وفق آلة النحو أساسا يقول: <<إن الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من مقتضيات النظم, وعنها يحدث وبها يكون; لأنه لا يتصور أن يدخل شيء منها في الكلم, وهي أفراد لم يتوافر فيما بينها حكم من أحكام النحو, فلا يتصور هاهنا فعل أو اسم قد دخلته الاستعارة من دون أن يكون ألف مع غيره>>.(13)
وعلى هذا النحو تسنى للبلاغيين العرب وضع اساس لدراسة الأسلوب, وهو أساس يتيح للمنشئ استخدام اللغة على نحو يكشف عن خصوصيتها وجماليتها.
وس عت الدراسات اللغوية الحديثة مجالات البحث الأسلوبي لتشمل جوانب متباعدة في مسائل التعبير اللغوي, فكانت جهود <<فرديناند دوسوسير>> (1857- 1913م) في نظريته القائمة على علاقة اللغة بالكلام, وتحليل الرموز اللغوية, ودراسة التركيب العام للنظام اللغوي, ما ينطوي عليه ذلك من صور صوتية ودلالات, تتأسس بينها علاقات اعتباطية في البدء, ثم تخضع تلك الصور للنظام حالما تتشكل التراكيب, غير أن تأصيل العلاقة بين الدال والمدلول كما يرى <<دوسوسير>> من خلال السياق او التركيب يحجب ادراك السمة التواصلية للغة, وعليه فان النظام اللغوي لا يعطي النتيجة المرجوة منه ما لم يرتبط بأنظمة أخرى خارجة عنه(14), وقد افاد <<بالي>> (1865- 1947م) من أفكار دوسوسير في اعتبار اللغة نظاما من العلاقات تبرز الجانب الفكري والانفعالي للمتكلم, غير انه لم يحفل باللغة الأدبية, وكان ذلك كما يشير نفر من الدارسين من الأسباب الداعية لتجاوز آرائه في مجال دراسة الأسلوب (51) مع انه في اعتبار الكثيرين من مؤسسي هذا العلم.
ثم جاء <<كريسو>> ليعيد الاعتبار الى اللغة الأدبية بعدما أبعدها <<بالي>> عن المجال الأسلوبي, فوجد في الأدب شكلا من أشكال التواصل الجمالي بين المؤلف والمتلقي, ونحا <<ماروز>> نحو <<كريسو>> في التركيز على لغة الأدب في التحليل الأسلوبي, مستقصيا ظواهرها مثل العلاقة بين المحسوس بالمجرد, والمجمل بالمفصل, والحقيقة بالمجاز, والشعر بالنثر, واللفظ بالتركيب.(16)
ثم جاء <<آمادو ألونسو>> ليطابق في دراسته الأسلوبية التي اقامها على اشعار بابلو نيرودا, بين النقد الأدبي والأسلوبية محاولا التعرف على السمات الأسلوبية للمنشئ من خلال نتاجه, مركزا على علاقة الأديب بالأثر, وعلاقة الدال بالمدلول من خلال التركيب, وما ينجم عن كل ذلك من عناصر معنوية وتأثيرية. ويتجاوز <<ألونسو>> نظرة دوسوسير الى اعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول, لتتحول تلك العلاقة عنده الى علاقة سببية, مما جعل للدراسة الأسلوبية أهدافا تتركز في معظمها حول الغاية التوصيلية للغة, ولعل أهم ما نجم عن مباحث <<ألونسو>> توضيح الكيفية التي يبنى بها الجسر بين الدال والمدلول, وهو في <<حالة التكوين>>. ويلاحظ الدارسون ان محاولته تحديد العلاقات المتشابكة داخل العمل الأدبي أوقعته في متاهات غامضة, خصوصا عندما تكلم عن اللحظة الاستشراقية التي تتداخل مع عوالم غامضة من الأفكار والعواطف والتهويمات والذكريات.(17)
أما الشكلانيون الروس فقد بذلوا جهودا تذكر في باب الدراسات الأسلوبية, إذ تركزت مباحثهم حول الجوانب الفنية للأدب منطلقين من اللغة مركزين على دراسة الأصوات المتكررة, وتمثيل وحدات الدلالة, والوقوف عند البنى النحوية, وجزئيات الصورة, مبينين كيفية تفاعل هذه المستويات في النتاج على نحو شامل.
وفي ألمانيا ظهر <<كارل فوسلر>> الذي أطلق اسم الأسلوبية على الناحية التي تدرس اللغة في علاقتها بالخلق الفردي, ولاحظ في معرض دراسته للغة من هذه الجهة ان الذي يتطور ليس الفن وإنما التكنيك او الجهد الفردي الذي يقدمه المبدع. وقد تبعه <<أولمان>> فربط بين الأسلوبية والألسنية. أما <<بيرس>> فقد وضع المباحث الأسلوبية قبالة السيميولوجيا فدرس الرموز ودلالاتها وعلاقاتها بالموضوعات المتصلة بالطبيعة والانسان, وهذا ما اسهم في تطور الاتجاهات التحليلية في النقد الأدبي, في حين ركز <<جاكبسون>> على اللغة والإنشاء , وكان ذلك في محاضرة له بهذا العنوان ألقاها في أمريكا 1960م, وكانت الأسلوبية قد افادت من جهود <<رينيه ويليك>> و<<اوستن وارين>> خصوصا في مجال النظرية الأدبية التي لا تنظر الى النتاج الأدبي على اعتباره وثيقة اجتماعية او تاريخية, أو موعظة او كشفا دينيا أو تأملا فلسفيا , وإنما على اعتباره لغة بالمقام الأول.(18)
أما مفهوم الأسلوب فقد تكشف في المباحث العربية على يد عبدالقاهر, إذ نراه يضع له تعريفا متصلا بالنظم ليقول: <<هو الضرب من النظم والطريقة فيه>>.(19) ولما جاء حازم القرطاجني وسع مفهوم الأسلوب ليشمل النتاج الادبي كله بما فيه من عناصر داخلة في الصياغة او في أغراض الشعر خاصة حيث يقول: <<ولما كانت الأغراض الشعرية يوقع في واحدة منها الجملة الكبيرة من المعاني والمقاصد, وكانت لتلك المعاني جهات فيها توجد, ومسائل تقتنى, وكانت للنفس بالاستمرار على تلك الجهات, والنقلة من بعضها الى بعض, وبكيفية الاطراد في المعاني صورة وهيئة تسمى الأسلوب>>.(20)
وقد وقف ابن خلدون عند تعريف الأسلوب فذكر انه: <<المنوال الذي تنسج فيه التراكيب, أو القالب الذي تفرغ فيه, ولا يرجع الى الكلام باعتبار افادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الاعراب, ولا باعتبار افادته كمال المعنى من خواص التركيب الذي هو وظيفة البلاغة, ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه هو وظيفة العروض... إنما يرجع الى صورة ذهنية للتراكيب المنظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص>>.(21)
وإذا ما انتقلنا الى العصر الحديث وجدنا أهم محاولة استهدفت تحديد مفهوم الأسلوب دراسة أحمد الشايب الذي وقف فيها عند الأسلوب محددا المقصود منه, وأنواعه وعناصره ومقوماته, وقد وضع له جملة من التعريفات أبرزها أنه الصورة اللفظية التي يعبر بها عن المعاني, أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار.(22)
أما علماء اللغة الغربيين فقد وضعوا تعريفات عدة للأسلوب أظهرها ما ذكره <<بالي>> من انه <<يتمثل في مجموعة من عناصر اللغة المؤثرة عاطفيا في المستمع>>(23). وما ذكره <<أمادو ألونسو>> من انه <<الطريقة التي يتكون بها العمل الأدبي في جملته وعناصره التفصيلية, وهي التي تحدد أنماط المتعة الجمالية الناجمة عنها>>.(24) أمارولان بارت فقد رأى أن الأسلوب هو لغة تتميز بالاكتفاء الذاتي وتغرس جذورها في أسطورية المؤلف(25).
ثانيا: ظواهر العدول عند أبي مسلم
انتهينا في عرضنا السابق لجهود الباحثين في مجال الأسلوب الى أن التناول الأسلوبي إنما ينصب على اللغة الأدبية بوصفها مبعث الاحساس بالتنوع والتفرد في مجال الأداء اللغوي بما فيه من وعي واختيار, وما فيه من انحرافات عن أصل الكلام, ويمكن تبيان ظواهر الأسلوب عند البهلاني الشاعر العماني بالنظر الى المواضع التي تمثل تجاوزا وعدولا عن الوضع اللغوي وعن النسق النحوي, وما يمكن أن يؤثر في السياق الاسلوبي عامة.
أ - العدول عن الأصل اللغوي:
يتمثل هذا الضرب من العدول في ظواهر لا تنحصر في مجال الاستخدام الأدبي في شعر البهلاني. واذا كان الشاعر عامة لا يفكر في اللغة أو النحو وهو يعبر عن تجربته الشعرية, إلا أن ما يقوله فعلا لا يخرج عن الاطار الذي رسمته القواعد إلا في حالات قليلة وجدت البلاغة لها مسوغات في سبيل ايجاد لغة ذات طبيعة تواصلية, بوسعها التأثير في السامع ملبية لديه حاجات فنية وجمالية. غير أن ما تتيحه البلاغة لمنشئ القول الأدبي لا يصل في كل حالاته الى درجة تحطيم القواعد المستقرة للغة, وانما تتيح ما يضمن للظاهرة الأدبية النمو في حدود ما تجيزه القواعد أصلا, وهي الحال التي لا تتعدى استخدام بعض الكلمات بعيدا عن دلالاتها المألوفة كما هو الشأن في المجاز, أو التصرف في ترتيب الكلمة بصورة تخالف النسق المألوف كما هو الحال في التقديم والتأخير, أو التركيز على الصيغ المتقابلة التي من شأنها كسر تسلسل الكلام, ومنعه من الجريان على وتيرة واحدة كالحال التي تبدو في استعمال التضاد.
ومن شأن هذه الوسائل جميعا التحول على الصعيد الاسلوبي الى منبهات تثير المتلقي, وتخلق لديه قدرة على تمثل القيم الفنية التي ينطوي عليها الأثر الأدبي, ومن هنا كان الاهتمام بها وتسجيلها من مهام هذا المبحث الذي نعقده لاستكشاف الملامح الأسلوبية في خطاب أبي مسلم الشعري.
الاستبدال والمجاز:
تقر الدراسات الأسلوبية بازدواجية الخطاب في الناتج الكلامي الصادر عن مستعمل اللغة, إذ المنشئ عادة يجد نفسه, في أثناء انشائه الكلام, أمام طائفة من المفردات, يمكن لكل واحدة أن تؤدي المعنى المطلوب, وحالما يخرج المنشئ معناه من التصور الى الواقع, يختار من هيئات الألفاظ واحدة يسوق بها معناه, حينئذ تنعزل سائر الألفاظ المشابهة, ثم تأتي مرحلة النظم لتستقر الكلمة المختارة في سياق يقر به النحو, وترتب بحسب ترتيب المعاني في نفس صاحبها على الصورة التي حددها عبدالقاهر الجرجاني في نظرية النظم, وهكذا تتشكل لبنات القول حتى تتم صورته الكلية, وهي صورة لا تخرج عن كونها خطابا عاديا يؤدي غرضا نفعيا أو رسالة يريد المنشئ تبليغها للمتلقي.
غير أن صناع الأدب لا يمضون وفق السبيل الذي أشرنا إليه آنفا في تعاملهم مع اللغة, وإنما يعمدون الى خلخلة الأنظمة الثابتة للغة, فيختارون من المفردات ما يحتمل طاقات تأثيرية واسعة, ومن ثم تحمليها دلالات اضافية, لينجم عن ذلك خلل في العلاقات اللغوية الراسخة, ذلك لأن الألفاظ في أثناء ذلك تلبس دلالات جديدة لتؤصل علاقات لم تكن مألوفة من قبل, وهذا عمل مقصود يتوخى منه الأديب زيادة الطاقات الايحائية للألفاظ, وتوسيع حقولها الدلالية لتستوعب دقائق التجارب التي يعبر عنها, من أجل ذلك كان المجاز وما يتيحه من امكانات تسعف على تجاوز ما هو مألوف في المجال الدلالي من أهم الوسائل المثيرة التي تنطوي على منبهات أسلوبية تمكن الأديب من ترك بصماته الشخصية على اللغة.
لقد عر ف البلاغيون المجاز بأنه الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له(26). أو ما سماه السكاكي <<الكلمة المستعملة في معنى معناها>> (27). وبمقتضيات المجاز تبدو مؤشرات الأسلوب مركزة على مستويين للدلالة: الأول: ما يعرف بدلالة المطابقة وهو ما يفهم من اللفظ الذي انتقل من مجاله الحقيقي الى مجال مجازي مثل كلمة (صلاة- كتب...) إذ كانت كلمة <<كتب>> في الأصل تعني (خاط أو ربط) ككتب القربة أي شد ها بالوكاء, غير انها استخدمت فيما بعد لغير الخياطة, ثم تعذر عليها الرجوع الى ما كانت عليه في الأصل, وما من أحد اليوم يستخدمها إلا بمعناها الجديد, مع أن ذلك المعنى مخالف لما وضعت له. وهذا ينطبق على ألفاظ كثيرة في اللغة تيسر لها الانتقال من دلالة إلى أخرى في ضوء تزايد المعاني ومحدودية الألفاظ, وهذا الضرب من المجاز غدا من الآلية بحيث لا يشعر بأثره في الكلام أحد سوى المعنيين بتاريخ الألفاظ.
والثاني: دلالة اللفظ على شيء أخرجه المتكلم عن معناه بغية حمل السامع على التأثر به مما يشكل على مستوى الأسلوب انحرافا عن الوضع يتوقف قبوله على مدى استجابة المتلقي لمثل هذا الضرب من العدول, وهناك شواهد كثيرة في تاريخنا الأدبي تشير الى نفور الذوق من مجازات أبي تمام خصوصا كقوله(28) :
لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائي
فقالوا ما معنى ماء الملام, أي أنهم لم يقبلوا العلاقة الناجمة عن اضافة الملام للماء.
وكان أبومسلم البهلاني ركب أسلوب المجاز في شواهد لا تنحصر في شعره, وعمد إلى التركيز على مفردات بعينها أجراها مجرى المجاز كما هو الشأن في قصيدته <<النهروانية>> حيث يذكر(29):
عهودا على عين الرقيب اختلست ها
ذوت روضة منها وجف غدير
فإذا كانت مجمل المفردات في هذا الشاهد يمكن أن تخضع لعملية الاستبدال, بمعنى أنها مختارة من مجموعات لفظية حل المذكور منها محل المعزول, إلا أن قوله (اختلستها) فيه عدول مجازي عن الأصل لا يمكن رده الى الاستبدال; لأن نسبة اختلاس النظر انحراف عن النمط التركيبي الأصيل للغة. فالاختلاس بحسب ما وضع له في الأصل المعجمي يعني <<الاستلاب>>, والشاعر هنا عدل عن هذا المعنى فخرج به عن الأصل, وإذا كان استخدام (الاختلاس) بمعنى النظر ليس من ابتداع أبي مسلم, إلا أنه تحول الى سمة أسلوبية لمجرد ترجيحه المجاز على الحقيقة هذا من جهة, ومن جهة أخرى فان التركيب الذي صب فيه البهلاني المجاز حمل بصمة شخصية على اعتباره مقرونا بكلمة (عهودا ) فنجمت دلالة اضافية بعودة الضمير في (اختلستها) على (عهودا ) فصارت العهود من كثرة تأمل الشاعر لتفصيلاتها بمقام النظر الذي يسترقه بين حين وآخر.
ونرى البهلاني يلح على هذه الكلمة في مواضع أخرى من شعره, مما يشي بأنه كان يرى فيها ملمحا جماليا يلبي حاجته الى التجاوز, يقول (30):
سحر ومكر وأحزان نضارتها
فاحذر إذا خالست مكرا وتمويها
وأراد بقوله (خالست ): النظرة الماكرة, والضمير عائد الى الدنيا التي لا تني تنظر نظرات ماكرة الى الأحياء.
وإذا ما تجاوزنا كلمة (خالس) وما تنطوي عليه من دلالات مجازية عند أبي مسلم وجدناه مولعا باستخدام كلمة (الشمس) وما يلحق بها من مفردات تجانسها مثل (النجوم, الأقمار, الكواكب, السماوات, الأنوار, الأضواء...) وغيرها مما يلبي عنده حاجات فنية لا تنحصر, وقد جرى في استعمالها على جهة المجاز وفق علاقة المشابهة التي تبرز في قوله(31):
فإن نبك أهل العلم نبك حياتنا
عليهم كما بالماء ينضر عود
خذا حدثاني عن شموس تساقطت
ببطن الثرى ماذا هناك تريد
فأراد بالشموس هنا أهل العلم, والعلاقة قائمة على المشابهة, وبقرينة السياق الذي يمنع من ايراد المعنى الحقيقي. ويقول في شاهد آخر مركزا على الدلالة نفسها(32):
فمن عجب أن ت حبس الشمس في الثرى
فتعتقب الأيام والجو مظلم
ويقول(33):
شمس المعارف يا سلطانها كسفت
كسوف شمسك عن صبح وعن ط ف ل
ويقول(34):
أما وشموس للمعارف أسفرت
بأسفاره إني به لكميد
ويقول (35):
كنت فيه الشمس نورا وهدى
وارتفاعا وانتفاعا بل أجل
وإذا ما انفلت من سحر كلمة (الشمس), سارع ليجري في فلك كلمات لا تبعد عنها من حيث الدلالة المجازية ككلمة (كوكب) في قوله مخاطبا الموت(36):
أطفأت أزهر كوكب ملأ الفضا
ضوءا وجئت بظلمة الأكدار
وكلمة (الضياء) في قوله (37):
بل من على الشمس إذ تجري مقدر
لمستقر لها حيث الضيا انكتما
فالضياء هنا أريد به سنا المرثي الذي انحسر بعد أن افلت شمسه, وإلى هذه الدلالة تنتهي كلمة (أشعة) في قوله(38):
وإن كنت قد خلفت فينا أشعة
ع را الشمس من إشراقهن خمود
نرى السبعة السيارة امتثلت لها
فهن ركوع حولها وسجود
وضمن كلمة (مصباح) معنى مجازيا في قوله(39):
لقد كنت مصباح الورى لرشادهم
فقد طفىء المصباح عنهم فأظلموا
وكذلك استخدم كلمة (الأقمار) على جهة المجاز في قوله(40):
وفي الخمسة الأقمار أنجالك انتهت
ظنون حسان يقتضيها التوسم
فهذه الكلمات جميعا انطوى عليها موضوع الرثاء في شعر أبي مسلم, ولها مؤشر واضح يتحدد بكون كل من خص بهذا الشعر هو من الفضلاء والعلماء ورجال الدين والمصلحين والواعظين والزهاد الذين كانوا في حياتهم شموسا أو نجوما أو كواكب بعثت النور والضياء في حياة الناس لتجلو غياهب الجهل, وتسعف على تلمس سبل نيرة في الهداية والصلاح والتمسك بأصول الدين, ونبذ الفساد والغي والضلال.
ومن الطبيعي إذا ما طوت يد الموت حياة هؤلاء الرجال أفل ضوؤهم, وتبدد سناهم, وقد وجد الشاعر في مثل هذه الألفاظ ما يؤدي غرضا للتعبير عن هذا المعنى, وهنا تنجلي خاصية أسلوبه; أعني بالتركيز على هذا النمط من المفردات والعدول بها عن وضعها المألوف.
غير أن الانحراف الأسلوبي الذي يشير اليه المجاز عامة لا يعد خروجا سافرا على ما هو مستقر , أو ما هو أصل, أو أن يكون المجاز ترتيبا ثانيا تبلغه الكلمة بعد أن تجوز المدى الحقيقي لوضعها; لأن ما هو مستقر في موضوع الدلالة افتراضي, أو أنه اعتباطي لا يتصل بماهية الكلمة ومنطقها, وإنما يصدر عما يعتقده المتكلم فيها, لذا فلا يعدو كونه اعتقادا أسطوريا , من أجل ذلك قد يكون المجاز سابقا للحقيقة, أو أنه أصل والحقيقة فرع(41), ولا سيما ان الحقيقة اللغوية ما هي إلا قيود أضفتها المعجمات على الكلمات فطوقتها في إسار محدود, ومن شأن المجاز اطلاق اللغة من قيدها لتعود طليقة في فضاء رحب يلائم طبيعتها الخارجة على التحديد, والشاعر الذي يركب أسلوب المجاز يبعث الكلمات من جديد ليعيدها إلى طبيعتها المطلقة, فيصبح المجاز بهذا المعنى عدولا إلى الأصل, وهو سابق للحقيقة على أية حال.
المجاز من الجزئية إلى الشمولية:
لا يتخذ المجاز في شعر ابي مسلم صورة واحدة بل يترجح بين مستويات عدة, ويمكن الوقوف هنا على جانب من مجازات الجزئية في علاقاتها المرسلة, وهو أسلوب يدل على مدى الانحراف الذي بلغه أسلوبه في التعبير عن تجاربه بصورة تنم عن عدوله عن النسق الموضوع للكلام فمن مجازاته في هذا الباب قوله(42):
ارحم عظامك أن تصلى بزفرتها وخز البعوضة لو فكرت يؤذيها
فكلمة (عظامك) مختصة في الأصل بالدلالة على جزء من كل, غير أن الشاعر هنا أراد بها كامل الجسد, وفي ذلك انحراف عن الأصل, ومن ذلك أيضا قوله(43):
واختر على الذل عزا أن ت سام به
فدون وجهك في ادراكه سبل
اراد نفسك بما فيها (وجهك) , وقوله(44):
وكلمة الله لم تنزل محجبة عن البصائر بين الوهم والفكر
وكلمة الله تعلو فوق جاحدها وآية الحجر تعلو آية الح جر
فكلمة الله أي القرآن, والكلمة جزء من كل, وهو بهذا الأسلوب يخرج الكلمة من دلالتها الموضعية الى معنى أرحب يلامس بها كامل الشيء الموصوف, مما يدل على تحو ل هذا الضرب من المجاز الى سمة فنية أسهمت في اطلاق لغته من المحدود الى المطلق.
التمثيل:
لقد وجد البهلاني في أسلوب التمثيل ما يلبي نزوعه الى المطلق في مجال استخدامه اللغة, ومعلوم أن التمثيل كالمجاز يعبر عن انحراف أسلوبي عن الأصل, وهو من وجهة أخرى يلائم توجهه الوعظي في شعره الذي يدخل في مجمله في باب الأذكار والاستنهاض, لهذا كان التمثيل أداة طيعة بيده ليمتد الى أقصى ما تحتمله الكلمة من دلالات, والتشبيه التمثيلي خاصة يختلف عن سائر التشبيهات بكون وجه الشبه فيه منتزعا من أشياء متعددة, إذ هو من هذه الناحية مجال لشحن الكلام بدلالات واسعة تجعل المعنى على غاية من التشعب والامتداد. ومن ضروب تمثيله قوله(45):
إن التملق للألباب يجبهها مثل الغشاوة للأبصار يعميها
فالحال التي يجسدها التشبيه هنا قائمة على تمثيل صورة بصورة, إذ (التملق) يقضي على أصالة الرأي, ويجعل العقل ذائبا في غيره, وخارجا عن ذاته, ومستترا لا يبين له كيان, وهي حال تشبه الأبصار حين تغشاها الظ لم فتحتجب عنها الأنوار لتصير الى ظلام دامس, ومن أقواله في التمثيل أيضا(46):
فإن نبك أهل العلم نبك حياتنا عليهم كما بالماء ينضر عود
وجه الشبه هنا ليس مفردا , وإنما هو صورة حافلة بالمعاني, إذ البكاء على أهل العلم بعد وفاتهم هو عين الوفاء الذي نجد فيه عوضا عما فاتنا من وجودهم, وهذا أشبه بالأس الذي تقوم عليه حياتنا, وهو من ثم بمقام الماء الذي لا تقوم حياة للنبات بدونه, ويقول أيضا(47)
وما بال هذا الكون ولهان مطرق كما ضيم بين الأقوياء حريد
إذ بدا إطراق الكون وصمته تألما على ما حل بالمرثي, شبيها بمن مسه الضيم بين قوم أشداء, وهو منفرد وحيد, ويقول(48):
تزال تنبت نفسا ثم تأكلها وإنما يحرث الحراث للأكل
يعني الدنيا التي لا تني تحتصد الأحياء بعدما انبتتهم, كما لو أن مزارعا اعتنى بزروعه زمنا حتى إذا ما استوت حصدها لينتفع بها.
ومن الواضح أن التمثيل هنا أسهم في توسيع مدى الدلالة للكلمات, مما هيأ للشاعر التخلص من التحديدات المفرطة المفروضة عليها, وقد اتيح لها من خلال المجاز الانتقال من المستوى النفعي المحدود الى المستوى الفني الجمالي الواسع.
ب : العدول عن النسق النحوي:
إن اللغة في نسقها المثالي <<ما هي إلا ثمرة ترابط بين ما يقول به النحاة, وما يقول به اللغويون>> (49), ولهذا كان كسر نمطية هذا الوفاق علامة أسلوبية تدل على مقدار انحراف الشاعر عن الأصل.
لقد انصبت جهود البهلاني على كسر النسق اللغوي المألوف, معتمدا على امكانات بلاغية كثيرة كالالتفات والتقديم والتأخير والحذف والعدول في استخدام أدوات الربط.
الالتفات على اعتباره عدولا:
عر ف قدامة بن جعفر الالتفات بقوله: <<هو أن يكون المتكلم آخذا في معنى فيعترضه إما شك فيه, أو ظن أن رادا يرده عليه, أو سائلا يسأله عن سببه فيلتفت إليه بعد فراغه منه>>.(50) غير أن الالتفات عند البلاغيين جاز حد الاعتراض الى أبواب لا تنحصر, فذكر ابن المعتز أنه يقترن <<بانصراف المتكلم عن الإخبار الى المخاطبة>> (51), وقد أيد المبرد ذلك في تعليقه على قول الشاعر:
وامتعني على العشا بوليدة فأبت بخير منك يا هود حامدا
فقال: <<كان يتحدث عنه, ثم أقبل عليه يخاطبه, وترك تلك, والعرب تترك مخاطبة الغائب الى مخاطبة الشاهد إلى المتكلم, ومخاطبة الشاهد إلى مخاطبة الغائب>> (52).
لقد أكثر البهلاني من الالتفات في شعره, فنراه يترك مخاطبة الشاهد الى مخاطبة الغائب كما في قوله(53)
تدارك وصايا الحق والصبر إنما
يفوز محق بالفلاح صبور
وكن في طريق الاستقامة حاذرا
كمين الأعادي فالشجاع حذور
تعلم لوجه الله وأعمل لوجهه
وثق منه بالموعود فهو جدير
ويلتفت من التكلم إلى المخاطب كقوله(54):
اقول للعقل والبرهان في يده
هلا حكمت وأنت الفيصل الدمر
ويلتفت من خطاب المفرد الشاهد الى المفرد الغائب كقوله55)
قم بحول الله لا تحفل بها
رقصت أم سكنت أم العبر
ومن خطاب الغائب الى خطاب الشاهد كقوله(56):
ولم يبق في الدنيا له من معول
سواك ونعم الركب أنت معولا
ومثل ذلك قوله(57):
وما لبست سوى التقوى على حذر
والله يخشاه من هذا الورى العلما
ويلتفت من خطاب المفرد الى خطاب الجمع كما في قوله(58):
ليس من يدعي الفخار يساويـ
ـك ولا كل مابنوا بمنيف
وقوله(59) :
لله ما سنة لك البشرى بها
ولنا بها كالنار في إعصار
ومعلوم أن هذه الأضرب من الالتفات تسهم في تلوين الخطاب, وتقطع جريان الكلام على جهة واحدة مثل أن يأتي على جهة الحكاية أو الإخبار ثم ينعطف الى جهة أخرى في الخطاب, توخيا للتأثير في السامع ودفع السأم عنه, والبهلاني لا يمضي في التفاتاته على النحو الذي جرت عليه أساليب السابقين فحسب, وإنما نجده يعمد أحيانا إلى مجانبة الطرائق المألوفة في الالتفات مثل الالتفات عن مخاطبة الجمع الى خطاب المفرد كما في قوله(60):
أنحن نعلم بالتعقيل منعدما
وخالق العقل عنه الأمر مستتر
يقول النحاة في مثل هذه الحال: إنه لا يجوز للمتكلم إذا بدا بضمير الجمع أن يأتي بعده بما هو دال على المفرد, لأن ذلك لا يزيل الابهام عن الكلام(61), غير ان البلاغيين يحملون هذا النمط من العدول على المجاز, على اعتباره وسيلة فنية وإن لم تطابق النسق إلا أنها تحقق نوعا من التوازن في الكلام(62).
التقديم والتأخير:
يخضع التركيب من حيث ترتيب كلماته الى نمط يتبع حركة الإعراب التي من شأنها ضبط المعاني, وترتيبها بحسب النسق الذي أقره النحو, مثل أن يكون حق المسند إليه التقدم, ولا مقتضى للعدول عن تقديمه إلا لأغراض حصرت القواعد مجالاتها, ومن هنا أضحى من حق المبتدأ التقدم على الخبر والفعل على الفاعل والمفعول, والموصوف على الصفة, غير أن مجالات الاستخدام الأدبي للغة كثيرا ما تخترق هذا النظام لأغراض نفسية وإبلاغية كالتشويق والتفاؤل والتلذذ(63), وقد جرى البهلاني في صور من شعره على الابتداء بالنكرة كقوله(64):
قائم أنت على أرجائها
بملاك الأمر والحق الأغر
وهذا الاستخدام يستدعي بيان الأصل الذي يفترضه النحو في صورته المثالية المألوفة المتحققة في قولنا: (أنت قائم), غير أن الشاعر عدل عن ذلك ليخص المخاطب بالقيام فقدم الخبر على المبتدأ مع تنكيره, ومن صور التقديم عنده تجاهل رتبة الفعل ليأتي به عقب المفعول كما في قوله(65):
عهودا على عين الرقيب اختلستها
ذوت روضة منها وجف غدير
وقوله(66):
ولو أملا أدركته لم تجد له
بقاء ولم تصحبك منه عهود
وكثيرا ما يحظى المفعول به عند البهلاني بالتقديم على الفاعل كقوله(68):
ولو كان يجدي هالكا ندب فاقد
لسال مكان الدمع من غربه الدم
وقوله(68):
تشوقت يوما للقياكم
كذا يجذب النفس أحباب ها
فسرت أسعى إلى بابكم
وقد أرهق النفس أتعاب ها
وكذلك نجده مغرما بتقديم الجار والمجرور كقوله(69):
بنفسي من تشكو الى ذي صبابة
وليت النوى طارت مطار غرابها
بحكم بنات الدهر فارقت إلفها
وسلني عنها لم أضق عن جوابها
بهن تركت الإلف رغما وأنه
لترك حياة النفس بين شعابها
على عجمات الصبر شجت قلوبنا
ليمتاز رخو الصبر بين صلابها
بعيشكما هل تعلمان وديعة
ولم تطرق الأكدار عتبة بابها
وبلغ احتفاله بهذا النمط من التقديم الى درجة الضغط على صيغ بعينها, مثل تكراره (في سبيل الله) في قوله(70):
في سبيل الله أنفقت العنا
وفي مراد الله أنفقت العمل
في سبيل الله لم تحفل بها
أسقيت الصاب أم كأس العسل
في سبيل الله تدعو جاهدا
لتقيم القسط أو تلك الأجل
في سبيل الله أجهدت القوى
لم تحد إن جد خطب أو هزل
ومن ضروب تقديم الظرف قوله(71):
دونك الجد أفرغي فيه أنفا
سك فالهزل ضاق عنه مداها
وقوله(72):
لدى ملكوت الله يتلى ثناؤه
وللملأ الأعلى لأمثاله ولا
وقوله(73):
ودون مدارك الآمال رصد
من الآجال منقطع الظنون
ومن الواضح أن التقديم في صوره المختلفة كان غرضه عند أبي مسلم التخصيص وهو غرض إبلاغي يسر له الانحراف عن النسق النحوي الذي يقتضي ترتيب الكلام بحسب الموقع الإعرابي كتقديم ما حقه التقدم بالرتبة وتأخير ما يتوجب تأخيره, وبحسب المنطق الذي يوجب تقديم العلة على المعلول والعلم على العالمية, والواحد على الاثنين, والتقدم بالشرف, والتقدم بالمكان والتقدم بالزمان(74), وهذه القيود يجد المنشئ انه في حل منها في سبيل ايجاد لغة تواصلية, تشكل في واقع الأمر انحرافا عن النسق بمستوييه النحوي والمنطقي.
الحـــذف:
إن طي العامل يفترض وجود أصل له في صورة الكلام, فإذا ما عمد المنشئ الى حذفه بقيت صورته ماثلة في الذهن لاعتبارات تستدعيها الوظيفة الإعرابية, ويكون الحذف لعلل كثيرة منها معرفة السامع به وضيق المقام عن ذكره, وقد اعتمد البهلاني على الحذف في مواضع كثيرة من شعره أبرزها قوله(75):
إذا نحن بالباب زنجية
تقض الشياطين أنيابها
وهذا من أفانين الحذف المركب عنده, ذلك لأن صورة الحذف المألوفة بعد إذا تستوجب تقدير فعل محذوف, ليعرب الاسم المرفوع بعدها فاعلا لفعل محذوف يفسره المذكور بعده كقولنا: (إذا الطالب درس نجح), فدرس يفسر ما حذف هنا, والتقدير: (إذا درس الطالب درس...), غير أن الشاهد السابق طوى فعلين فلزم التقدير على الوجه الآتي: (إذا نقف نحن بالباب تقف زنجية), وهو انحراف بالغ عن الأصل ينطوي على منبه أسلوبي واضح.
ومن صور الحذف عنده ما يكون للاستعمال كقوله(76):
واهتزت الأرض عاليها وسافلها
حتى السماوات والعرش الذي عظما
والتقدير: (حتى اهتزت السماوات واهتز العرش الذي عظما), فإذا قيل هذا حذف مفسر على اعتباره ذكر الفعل (اهتزت) في صدر البيت قلنا: ان من شأن المفسر أن يتأخر عن المحذوف في المحل. ومن شواهد الحذف عنده قوله(77):
نرى غاية الدنيا وكيف صروفها
ونحن على رأي الركون ركون
فحسن تقدير محذوف بعد كيف أي: (كيف تكون صروفها), وقد كان البهلاني مولعا بحذف كان في مطاوي شعره كقوله(78):
مجهدا للنفس في نشر الهدى
خير من وقى وأندى من بذل
صابرا في منشط أو مكره
ثابت العزم شديد المكتهل
شاسع النظرة لا يقصرها
زخرف الدنيا وجاه وخول
راجح الايمان معصوم الخطا
قوله الفصل وإن قال فعل
سائرا بالجد حتى نلته
<<كل من سار على الدرب وصل>>
فهذه الأبيات في رثاء السالمي حملها على جهة التأبين والثناء على الفقيد بمعنى أن المرثي (كان مجهدا وصابرا وشاسع النظرة وراجح الإيمان وسائرا بالجد). ومن ضروب حذفه الفعل وذكره المصدر نيابة عنه قوله(79):
ألهوا ومخبوء المنايا حبائل
وأرواحنا فيها وقوع وحوم
سكونا إليها والمقابر تمتلي
وتخلو بيوت الراحلين وتهدم
وهذه الشواهد تعد عدولا عن النسق لأن الأصل أن تذكر الكلمة في موضعها, فإذا ما حذفت دل ذلك على انحراف.
العدول في أدوات الربط:
تتميز أدوات الربط بامكانات أسلوبية واسعة; لأنها اضافة لوظيفتها النحوية المتمثلة بالربط بين الكلمات والجمل, فهي تؤدي دورا في المعنى, ولا تقتصر أدوات الربط على أحرف العطف, وإنما شملت أحرف الجر أيضا لأن لها معاني تزيد عن وظيفتها النحوية كما قال ابن الأثير(80). وحروف الربط عامة لا تكتسب جودها من جراء الدلالة المعجمية المحددة لها, وانما قد يؤدي بعضها معاني بعضها الآخر, وهو ما يعرف بتشريب الحرف معنى حرف غيره, مثل احتمال (الباء) معنى (في) وغيرها من الشواهد الدالة على الافتنان في استخدام تلك الأدوات, وهنا تمكن الاشارة الى أن استخدام أبي مسلم لأدوات الربط ترجح بين المحافظة على وظائفها المعنوية والعدول عن تلك الوظائف , يقول(81):
وجئت بالدين وا