[center]
وتجسد بنية المقابلة اللفظية مقابلة معنوية بين موقف الشاعر وموقف ابنة عمه، وتغري الألفاظ العاطفة الانفعالية التي تملأ أرجاء النص، والملامح العذرية فيه بافتراض تجربة عاطفية خاصة يحياها الشاعر، ولكنني لا أجد في نفسي ميلاً إلى مثل هذا الافتراض، فأنا لا أكاد أرى في النص ملامح ذاتية تميز هذه التجربة، بل هي ملامح عامة تصور تجربة عاطفية نمطية، فالشاعر يدور حول المعاني التجريدية الكبرى في تجربة الحب، ويستخدم الألفاظ المألوفة في التعبير عن تلك المعاني، فكأنه يستعير من القدماء عوالمهم الشعورية، واللغوية معاً. ولعل ما يعزز هذا الانطباع في نفسي هو هذا الخمول الذي أصاب بنية المقابلة نظراً للإسراف في تكرارها حتى أوشكت أن تورث النفس مللاً. لقد كان من حق الشعر والحب على الشاعر أن ينشط بنيته اللغوية بطريقة ما، ولكنه لم يفعل!! انظر إليه ماذا فعل في موطن آخر وقد أحس أن لغة الشعر أوشكت أن تذبل ويصيبها النعاس:
يروعني الصبح إن لاحت طلائعه يا ليته: لم يكن ضوء وإصباح
انظر إلى هذا القطع البديع الذي تظهر فيه رشاقة الشعر وحيويته، وإلى هذا التمني الذي يأتي في سياقه انتفاء الضوء والصباح، فيعزز فكرة "الروع" التي لاحت في أول البيت. ما أجمل ما قال!
وأحب أن أقف عند نص آخر يظهر فيه "الطباق" ظهوراً قوياً([20">):
أنا حق، أنا خلق أنا رب، أنا عبد
أنا ماء، أنا نار وهواء، أنا صلد
أنا كم، أنا كيف أنا وجد، أنا فقد
أنا ذات، أنا وصف أنا قرب، أنا بعد
هذا طباق غريب يقوم بوظيفتي "المحو والإثبات" في آن، أو قل ـ بعبارة أدق ـ إنه طباق لا يقوم بوظيفته البلاغية، ما أكثر الوظائف المعطلة في الشعر! فتندثر الحدود بين طرفي الطباق، ويدخل كلاهما في الآخر، فيعبثان معاً بترتيب الكون ونواميسه، ويعيدان هذا الترتيب على نحو خاص جداً. ومما يلفت النظر في هذا النص بنيته اللغوية، فهو من أوله إلى آخره ذو تركيبه لغوية واحدة هي جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر، وأن المسند إليه هو لفظ واحد لا يتغير، إنه ضمير المتكلم مرفوعاً "أنا". ومن الواضح هنا أن ذات المتكلم تفرض سلطة صارمة على دلالة النص، فهي القطب الذي تتمحور حوله الدلالات في غير التباس. ومن الواضح أيضاً أن هذه الجمل الاسمية القصيرة ببنيتها المذكورة، وبتلاحقها وغزارتها تكشف عن طبيعة الموقف الصادرة عنه، فهو موقف يقيني صلب. فما حقيقة هذا الموقف الذي تتماهى فيه الربوبية والعبودية، والماء والنار والهواء، والكم والكيف، والوجد والفقد، والذات والوصف، والقرب والبعد؟! أليس هذا هو موقف المتصوف الذي يؤمن بوحدة الوجود كما لاحظنا في موطن سابق؟
ويقتضي هذا الحديث عن التركيب الوقوف على عدد من قضاياه الأخرى كالحذف، والفصل والوصل، والتقديم والتأخير وسواها.
تحدث عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" عن الحذف، قال: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى فيه ترك الذكر افصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن"([21">) وإذا الحذف خاصة شعرية تقوم على "الاقتصاد في اللغة"، فتمنح البنية الشعرية حيوية وفيض دلالة، أو قل هو علاقة معنى لا علاقة تشكيل. وحين ننظر في شعر الأمير عبد القادر نجد ضروباً من هذا الحذف تزيد على أصابع اليدين عدداً، فهو يحذف المبتدأ والفاعل والخبر الحال والمفعول به وأداة النداء والفعل والجار والمجرور، وقد يحذف جملة، وسوى ذلك كثير على نحو ما يظهر في هذه الأبيات التي نسوقها تمثيلاً لا حصراً:
ـ يثقن النسا بي حيثما كنت حاضرا ولا تثقن في زوجها ذات خلخال
أمير إذا ما كان جيشي مقبلا وموقد نار إذ لم يكن صالي([22">)
ـ وهذا الظبي لا يرعى ذماما ولا يرضى مؤانسة لجار
يتيه بدله ويصول عمدا غني بالجمال فلا يداري([23">)
ـ بطيبة طاب العيش ثم تمررت حلاوته فالنحس أربى على السعد
أردد طرفي بين وادي عقيقها وبين "قباها" ثم ألوي إلى أحد
منازل من أهواه طفلا ويافعا وكهلا إلى أن صرت بالشيب في برد([24">)
هذه نماذج من حذف "المبتدأ"، فأين دقة المسلك، ولطف المأخذ؟ وأين هذا الذي هو "شبيه بالسحر" على حد تعبير عبد القاهر؟ أرجو أن تنحي ما تراه في النص الأول من الإضمار قبل الذكر، فهذه مخالفة نحوية أشرت سابقاً إلى أن في شعر عبد القادر عدداً غير يسير منها، كما أرجو ألا ينافس صوت "جرير" في مدحه "للحجاج" صوت عبد القادر في نفسك، فقد أغار عبد القادر على بيت جرير:
أم من يغار على النساء حفيظة إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
قلت أرجو أن تضرب صفحاً عن هذا الذي ذكرت، وأن تنظر إلى السياق الذي حذف فيه المبتدأ، فهو سياق البطولة والفخر العريض بالذات، فإذا ظهرت كلمة "أمير" في هذا السياق صرفت الأذهان عن الناس جميعاً إلا عن الشاعر، وإذا ما نفع الإتيان بالمبتدأ؟ بل حاول أن تذكر المبتدأ المحذوف، فتقول: أنا أمير... الآن عرفت أن العبارة قد خرجت إلى الغثاثة واعتلال الذوق، وعرفت أن في هذا الحذف مسلكاً دقيقاً ومأخذاً لطيفاً وسحراً.
وسياق النص الثاني سياق عاطفي بدوي ينفرد به هذا الظبي برشاقته، وإخلافه الموعد، وصدوده عن سواه، ودلاله وغنجه، وليس بمنكر في هذا السياق سوى أن تذكر المبتدأ المحذوف، فتقول، هو غني بالجمال أو: وهو غني... لأن السياق كله مرصود لهذا المبتدأ، فذكرك له إفساد للشعر لا محالة لأنه يجعل الشطر الأخير تتمة لما سبقه، والحال أن العكس هو الصحيح، فهذا الجمال هو سر ما سبقه من دلال وصدود وإخلاف وعد.
وسياق النص الثالث سياق ديني تملؤه أسماء أماكن مقدسة (طيبة ـ المدينة المنورة ـ وادي العقيق، قبا، جبل أحد) تحمل معها سياقاً تاريخياً روحياً جليلاً. بعبارة أخرى إن أسماء الأماكن تلج مجالا ًوظيفياً جديداً، فتغمر السياق بفيض روحي نابع من ذاكرة الأمة ووجدانها، فأية جدوى من ذكر مبتدأ لا وجود للسياق لولاه؟ ثم ألا ترى في هذا الحذف ما يشعرك بقربها من النفس، فهي في القلب حيث الهوى؟ أما أن تقول: هذه منازل من أهواه، فتلك لعثمة لا يعرفها الشعر.
وقد يحذف الشاعر "أداة النداء"، فيكشف عن ملاحة الحذف، ورغبة النفس فيه:
ـ بني لئن دعاك الشوق يوما وحنت للقا منا القلوب([25">)
ولن تتذوق ملاحة هذا الحذف حتى تعرف أن هذا البيت من مقطوعة بعث بها الشاعر إلى ابنه الأكبر وهو بعيد مشغول عن أهله بالجهاد، وقد استدار العام على غيبته أو كاد. أفليس يعبر هذا الحذف الجميل عن الإحساس بالقرب النفسي على الرغم من البعد المكاني؟ وأرجو أن تضم إلى دلالة هذا الحذف دلالة هذا التصغير (بني) وما فيها من الحنو والإحساس بالقرب حتى يكاد يطوقه بيديه، وأن تضم إليهما جميعاً هذا الالتفات البديع من المخاطب إلى المتكلمين "منا" عادلاً عن ضمير الخطاب، ومتحدثاً عنه وعن أسرته جميعاً بضمير واحد، وماذا يضيرك لو ضممت إلى النداء المحذوف والتصغير والالتفات هذا "القصر" الجميل في كلمة "اللقا" فكأنه يستعجله فيعدل عن مده ويقصره؟!!
وقد يحذف "الفعل والفاعل أو نائبه والمفعول به معاً كما في قوله:
ـ وإنا بنو الحرب العوان لنا بها سرور إذا قامت وشانئنا عوى
لذاك عروس الملك كان خطيبتي كفجأة موسى بالنبوة في طوى([26">)
ـ فمنوا بلقياكم، وإلا فلا بقا وريح الفنا تسفي علينا إذا سفا([27">)
ـ أريد كتم الهوى حينا فيمنعنى تهتكي. كيف لا؟ والحب فضاح([28">)
لقد فوجىء الأمير بالإمارة، فجاءته على غير انتظار، كما فوجىء موسى بكلمة من ربه في الوادي المقدس طوى، فعبر عن هذه المفاجأة بإيجاز الحذف ـ كما ترى ـ ففجأنا به كأنما يريد للغة أن تجسد المفاجأة!
ويبدو الحذف في الموطن الثاني أدق وأبلغ، فالشاعر يمني النفس بلقاء الأحباب، ويرى بقاءه مرهوناً بهذا اللقاء، ولذلك يطلب اللقاء صراحة "فمنوا بلقياكم" ثم يعمد إلى هذا الحذف البديع "وإلا فلا بقا"، يريد "وإلا تمنوا فلا بقاء لي"، فكأنما جزع من ذكر اللقاء في سياق النفي فحذفه ثم قصر الممدود وحذف الجار والمجرور، فتضافر هذا الحذف كله للتعبير عن جزعه الشديد من عدم اللقاء، وجاء الشطر الثاني من البيت مصوراً لهذا المعنى، فأدرك من دقة التعبير وبلاغته ما لم يكن ليدركه لو ذكر المحذوف ومد المقصور.
ويأتي البيت الأخير في سياق عاطفي هو سياق الحب الصوفي حيث "لا خير في اللذات من دونها ستر"، فالشاعر عاشق يريد أن يصرح بحبه "فصرح بمن تهوى ودعني من الكنى"، وأن يعلنه على الملأ. وفي هذا السياق المفعم بالرغبة الجارفة في الإعلان يأتي حذف منع الإعلان "وكيف لا يمنعني" ليوائم مواءمة ساحرة سياق الرغبة، بل إن الشاعر يسوق هذا الحذف في سياق أصغر هو سياق الاستفهام الإنكاري، ويردفه بما يعزز رغبته فكأنها من طبيعة الحب ومعدنه "والحب فضاح". ولو أنك فليت نفسك في غير استعجال لرأيت هذا الحذف "شبيهاً بالسحر" على حد تعبير عبد القاهر.
ويطول بنا الحديث لو مضينا نتتبع تفاريق هذا الحذف، ونحن نريد أن نمضي على اجتزاء القول وطيه، فلنضرب عما نحن فيه بعد وقفة عجلى على قوله:
فما نسج داود كنسج عناكب ولا الغادة الهيفاء تزهو بخلخال
وما عيبها إلا التغرب... ..............................([29">)
لقد مكر الشاعر بالمتلقي مكراً جميلاً، فرفع القدرة على "التنبؤ" في الشطر الأول إلى ذروتها، ثم قوضها، وأعادها إلى درجة "الصفر" بهذا الحذف الذي لم يكن متوقعاً قط تاركاً للمتلقي أن يملأ هذا الفراغ النفسي والمعنوي الذي أحدثه الحذف بما يحقق التناظر والمماثلة بين شطري البيت.
وتحدث عبد القاهر في "الدلائل" عن الفصل والوصل، قال: "واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض، ودقيق صعب إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب"([30">) وتحدث نقاد الشعر المعاصرون عن "الربط" وأدواته وشروطه، وعن سوء الربط أو "عدم الاتساق" كما سماه جان كوين([31">). ولا تنجم صعوبة دراسة "الربط" من وعورة المسلك ودقته وغموضه فحسب بل تنجم أيضاً من انتشاره الواسع في الشعر، بيد أن التمثيل لا الاستقصاء، قد يذلل طرفا ًمن هذه الوعورة. فنحاول النظر في هذه الأبيات:
ـ ما زلت أرميهم بكل مهند وكل جواد همه الكر لا الشوى
وذا دأبنا فيه حياة لديننا
وروح جهاد بعدما غصنه ذوى([32">)
ـ كساه رسول الله ثوب خلافة له الحكم والتصريف والنهي والأمر([33">)
ـ يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخصب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب([34">)
لا جناح على الأمير إذا تناص مع "عنترة" في النص الأول، فالسياق سياق فخر وحماسة. فلنضرب عن هذا التناص، وننظر إلى مافي البيتين من فصل ووصل. لقد عطف الشاعر الجواد على المهند لما بينهما من علاقة ظاهرة، فكلاهما من عدة الفارس، وعطف روح الجهاد على حياة الدين لما بينهما من علاقة حميمة، فحياة هذا الدين تكاد تكون مقترنة بهذه الروح الجهادية. وهذا العطف ـ كما ترى ـ عطف اسم على آخر، ففي الوصل اتساق يقوي دلالة التراكيب. ولكن الشاعر فصل حين قال: "وذا دأبنا فيه حياة..." ولم يقل "وفيه...." فأين الدقة والجمال فيما فعل؟ ولا يذهبن بك الظن إلى أن الوزن قد ألجأه إلى ذلك، فما أيسر أن يتصرف الشاعر لو أحب الوصل! ولكن الذي ألجأه إليه هو الرغبة في تحديد وظيفة الدأب، فلو أنه وصل لكان معنى ذلك أن الحرب دأبه، وأن فيها حياة الدين، فكأن للحرب غايات شتى وحياة الدين واحدة منها، ولم يرد الشاعر ذلك قط بل أراد أن الحرب دأبه لسبب واحد لا غير هو "حياة الدين" كاشفاً بذلك عن رؤيته الدينية العميقة، فتأمّلْ دقة هذا الفصل وغموضه، وما فيه من أسرار.
ويتحدث الشاعر عن أستاذه الصوفي، فيقول:
كساه رسول الله ثوب خلافة له الحكم والتصريف والنهي والأمر
فلماذا عدل عن الوصل إلى الفصل، فقال: له الحكم، ولم يقل: وله الحكم؟ وعلة ذلك واضحة للمتأمل، فالجملة الثانية متصلة من ذات نفسها بالجملة الأولى لأنها مؤكدة ومبينة لها، ولذا فهي مستغنية عن ربط يربطها بها، وهذا شأن الجمل التفسيرية عامة لأنها ـ كما يقول عبد القاهر ـ "كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد"([35">).
ويبدو الاستئناف أغمض وألطف في النص الثالث، ففي كل من البيتين الثاني والثالث سياق شرط جزاؤه محذوف، ولا يجوز أن يكون الشطر الثاني من أحدهما أو من كليهما جزاء، وتكون الفاء رابطة، لأن الشاعر لم يرد الجزاء بل أراد المقابلة والمفارقة، فكأنه قال: من كان يخضب خده بدموعه فله ما يشاء ـ أو شيئاً من هذا القبيل ـ أما نحن فنحورنا بدمائنا تتخضب، ومن كان يتعب خيله في باطل فهو وما يفعل، أما نحن فخيولنا يوم الصبيحة تتعب، وبذلك ينكشف معنى "اللعب" في البيت الأول، وتتم المفارقة، فشتان بين رجل هادىء مطمئن يتعبد الله، ويذرف دموعه، وآخرين يخوضون غمرات القتال فكأنهم في جفن الردى النائم على حد تصوير أبي الطيب.
وليس كل وصل الأمير وفصله من هذا الطراز، فقد يقع في شعره من سوء الربط أو عدم الاتساق ما يعيا دونه النحاة والنقاد، وعلى نحو ما نرى في قوله:
صلى عليه الله ما سح الحيا والآل، ما سيف سطا في الجحفل([36">)
ـ مما عراكم عسى فيه أقاسمكم أو حمله كله لو كان يمكنني([37">)
ـ ومجي رفاتي بعد أن كنت رمة وأكسبني عمرا لعمري هو العمر([38">)
فأنت ترى أنه قد عطف "الآل" على "الحيا"، وهو عطف بين متباعدين، وإنما أراد: وما اضطرب الآل (السراب) إلاّ إذا أراد بـ "الآل" آل الرسول ()، وقديماً التمس أهل الصناعة لجرير العذر في قوله: "وزججن الحواجب والعيونا"، فقالوا: أراد وكحلن العيون لأن التزجيج لا يكون للعيون، ولعل الذي ساعدهم على ما قالوا هو العلاقة الوثيقة بين الحواجب والعيون، وليس بين المطر والسراب ما يعين على التماس العذر.
وهو في البيتين الثاني والثالث يعطف جملة اسمية على جملة فعلية في تنافر فظ تزوّر دونه الأسماع!!
وتحدث عبد القاهر عن التقديم والتأخير، قال: "هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف. بعيد الغاية"([39">)، ثم قال: "وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهم"([40">) وأفاض البلاغيون في الحديث عن وظائف التقديم والتأخير. وفعل مثل ذلك نقاد الشعر والأسلوبيون، فقد عد "جان كوين" التقديم والتأخير مجاوزة شعرية (انحرافا) بالقياس إلى لغة النثر)([41">) ، وذكر أن البلاغيين "عرفوا مبحث التقديم والتأخير باعتباره الصيغة الخاصة بالعاطفة([42">)، وتحدث الأسلوبيون حديثاً طويلاً عن "التعبيرية"، ورأوا مفهوم "الاختبار" وثيق الارتباط بها، وتحدثوا عن وظائف التقديم والتأخير كالتأكيد، والارجاء والتشويق، والشحنة العاطفية، والتأثرية وسواها([43">). وإذاً لا مناص من الوقوف ـ ولو قليلا ـ على "التقديم والتأخير" في شعر الأمير عبد القادر لعلنا نرى بعض ما فيه من محاسن.
ـ إلى الله أشكو ما ألاقي من النوى وحملي ثقيل لا تقوم به الأيدي
بطيبة طاب العيش ثم تمررت حلاوته فالنحس أربى على السعد([44">)
ـ وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم وشمس الضحى من تحت أقدامهم عفر
وفي شمها حقاً بذلنا نفوسنا فهان علينا كل شيء لـه قدر
هجرنا لها الأحباب والصحب كلهم فما عاقنا زيد ولا راقنا بكر
ولا ردنا عنها العوادي ولا العدى ولا هالنا قفر ولا راعنا بحر
وفيها حلالي الذل من بعد عزة فيا حبذا هذا ولو بدؤه مر([45">)
ـ ألا أن قلبي يوم بنتم وسرتم غدا حائماً خلف الظعون يطير([46">)
فلو أنكم يوم الفراق أعرتم قلوبكم لي إنني لصبور
النص الأول من قصيدة يناجي بها الشاعر "جبل أحد"، وقد رد عليه غوابر الشوق، فتذكر الغزوة التاريخية، والمسلمين الأوائل، ونازعته النفس إليهم، فذكر البين الوشيك، ودموعه ونيران قلبه، وعري قلبه من الصبر...
وإذا فالسياق سياق وجداني ديني. فإذا نظرنا في البيتين المذكورين من هذه القصيدة رأينا تقديم "الجار والمجرور: إلى الله، بطيبة"، ولست أظن هذا التقديم إلا استجابة للسياق وتتميماً للجو الديني الذي تتحرك فيه القصيدة، ومن غير المنتظر في هذا السياق أن يقدم الشكوى من النوى على من ترفع إليه هذه الشكوى، أو أن يقدم طيب العيش على ذكر مدينة الرسول .
وفي البيت الأول من النص الثاني يتحدث الشاعر عن تجربة "الوجد الصوفي" حيث يستحكم التيه بالمتصوفة فتتماهى الأشياء، وتختلّ نواميس الكون، ونرى الشاعر في هذا البيت قدم الجار والمجرور "من التية، من تحت أقدامهم" فكان تقديم "التيه" تقوية لكلمة "تاهوا" في أول البيت، تعبيراً عن سطوة هذا التيه على عقولهم وأفئدتهم، وكان تقديم "من تحت أقدامهم" ملائماً لكلمة "عفر"، ومعبراً عن اختلال نواميس الكون، وإلا فكيف تكون شمس الضحى معفرة بالتراب؟! وبذلك تتجانس دلالات البيت وتتآزر، وتغدو الحياة بقبضة التيه الصارمة. وفي الأبيات التي تلي البيت الأول يتحدث الشاعر عن الخمرة الصوفية ـ وهي أكثر الرموز الصوفية ثراء وتكراراً ـ ويقدم الجار والمجرور وما يتبعه في بيت "وفي شمها..." ويقدم الجار والمجرور في الثلاثة الأبيات الأخرى (هجرنا لها الأحباب...، ولا ردنا عنها العوادي...، وفيها حلالي الذل...). وحين ننظر في هذه الضمائر المجرورة (شمها، لها، عنها، فيها) نعلم أنها جميعاً تعود إلى "الخمرة" التي تنزل من نفس الشاعر منزلة لا تدانيها أخرى. وإذا هي أحق بالتقديم من سواها، فإذا تأخرت بها الرتبة النحوية فلا مناص من الانحراف عن مقتضيات "النحو" للتعبير عن مقتضيات "الإحساس" ومتى كان الشعر يذعن لمقتضيات النحو كأنما قصت خوافيه وقوادمه؟!!
وسياق النص الثالث سياق عاطفي ريان، تترقرق فيه المشاعر والانفعالات، وتملأ أرجاءه الكلمات التي ترشح منها العاطفة حتى تكاد تسيل كالقلب والبين والظعون ويوم الفراق والصبر... وتحف بهذا السياق ملامح بدوية مثقلة بالشجن (الظعون)، وملامح عذرية ريا بالعاطفة (القلب الحائم، واستعارة القلب و...)، وتتآزر هذه الأمور جميعاً للتعبير عن موقف إنساني أصيل، هو موقف الفراق بمواجعه وأحزانه، فإذا نظرنا في النص مرة أخرى رأينا الشاعر يقدم يوم البينونة ويوم الفراق (يوم بنتم، يوم الفراق)، أو قل ـ بعبارة أدق ـ يكرر تقديم يوم الفراق، فيكشف عن مكانته في نفسه، وعن شدة وطأته عليها. ويقدم الظرف المتعلق بالمفارقين (خلف الظعون يطير)، فيكشف مرة أخرى عن جزعه من هذا الفراق، وانصداع نفسه له. هل نكرر مرة أخرى: لابد من الانحراف عن مقتضيات "النحو" للتعبير عن مقتضيات "الإحساس والعاطفة"؟
ولقد آثرت حتى الآن ألا أخلط الحديث إلا في النادر اليسير الذي لا يستقيم القول بغيره، فجعلت لكل ظاهرة من ظواهر التركيب مقداراً من القول، ولكنني كنت حريصاً على أن أضم المقدار إلى أخيه، وأشد بينهما الوثائق للكشف عن مفهومين "للرؤية" في القصيدة هما زاوية الرؤية ودرجة نفاذها، أو امتدادها وعمقها. وقد بدت لنا شخصية الشاعر "شخصية بدوية بطولية مؤمنة"، أي بدا لنا أن الرؤية في القصيدة رؤية داخلية تقدم تصور الشاعر للحياة وللكون من حوله. ولئن كانت رؤيته للبداوة رؤية عاشق لها مشغوف بها، إن رؤيته للبطولة رؤية عميقة موصولة برؤيته الدينية أو مشتجرة بها، أو على حد تعبيره في سياق الفخر ببطولته: "وذا دأبنا فيه حياة لديننا..." ولعل من تمام القول أن أصل طرف هذا الحديث بمقدار من القول على "الموسيقا" في ديوان هذا الشاعر.
لقد علمنا تاريخ الشعر العربي أن التغير في الشكل تغير بطيء أو شديد البطء، فقد ظلت القصيدة العربية محافظة على شكلها الجاهلي حتى ثورة الشعر الحديث باستثناء محاولات يسيرة لم يكتب لها الذيوع والانتشار كالموشحات وغيرها. وقد أخفقت جهود طيبة كثيرة في استنباط أحكام دقيقة حول علاقة كل بحر من بحور الشعر بألوان عاطفية بأعيانها، ولكن هذه الجهود كشفت في كثير من الأحيان عن قدرة عالية على تذوق النصوص تذوقاً حاراً على مستوياتها اللفظية والتركيبية والدلالية والموسيقية معاً، وتأسيساً على ذلك سنحاول الوقوف على موسيقا شعر هذا الشاعر معتمدين على بعض المفاهيم العامة، وعلى ما يسعفنا به الذوق والخبرة.
تغن بالشعر إما أنت منشده إن الغناء لهذا الشعر مضمار
هكذا فهم الشاعر القديم تلقي الشعر العربي، ومن أجل هذا وغيره بات بأبواب القوافي يحوكها، ويقوم منآدها، وإذا كان الغناء مضماراً لهذا الشعر كان لابد أن يكون فيه مقادير من الإيقاع أو الوزن النابع من تردد زمني يمتع السامع والمنشد معاً. ولكن هذا الوزن ليس عنصراً خارجياً يضاف إلى المعنى بل هو جزء من سياق المعنى، أو بعبارة جان كوين "لا وجود للوزن إلا باعتباره علاقة بين المعنى والصوت، وهو إذا بناء صوتي معنوي"([47">). ويضيف "وإذا وجد صراع بين البحر والتركيب فإن البحر دائماً هو الذي ينتصر"([48">). والقافية عنصر مهم في موسيقا الشعر، وهي الأخرى ليست عنصراً خارجياً يضاف إلى الشعر، بل هي جزء من سياق المعنى، "ووظيفتها الحقيقية لا تظهر إلا إذا وضعت في علاقة مع المعنى"([49">)، وهي القاعدة التي يبنى عليها البيت وربما وجهت مساره. وإذا كان قطع التوازي الصوتي المعنوي عنصراً إيجابياً في الشعر، فإن القافية في الأبيات المتتابعة تنهض بهذه الوظيفة فتحدث تشابهاً في الصوت وعدم تشابه في المعنى، وتظهر مدلولات مختلفة من خلال دوال متشابهة([50">). وكلما كانت القوافي "شديدة الاتفاق فيما بينها في الصوت، وشديد الاختلاف فيما بينها في المعنى"([51">) كانت أقدر على القيام بهذه الوظيفة على نحو ما نرى في لزوميات أبي العلاء المعري مثلاً.
ويرى لوتمان "أن وقع القافية في نفسية المتلقي يرتبط مباشرة بحظها من المباغتة أو عدم التوقع، وهذا يعني أنها ذات طابع دلالي أكثر مما هي ذات طابع نطقي أو صوتي، وليس من الصعب الاقتناع بهذه الحقيقة إذا قارنا ما بين القوافي التي تعتمد على التكرار لفظاً ومعنى والقوافي التي تشترك لفظاً وتختف معنى، ففي كلتا الحالتين نرى التطابق الصوتي والإيقاعي واحداً غير أن اختلاف المعاني، بل انبتات ما بينها في حالة المشترك اللفظي يجعل القافية تبدو أكثر غنى، وأما في حالة تكرار القوافي لفظاً ومعنى فإنها تترك في النفس انطباعاً ضئيلاً، بل لا يكاد يعترف بها قوافي على الإطلاق"([52">).
وأنا أظن أن الأمير عبد القادر اعتنى بقوافيه عناية تلفت النظر، بل لعله أعنت نفسه في عدد منها انسجاماً مع روح العصر، ورغبة منه في إبراز تفوقه، فكأنما أراد ـ كما أراد عنترة من قبل ـ أن تسري دماء الفروسية في عروق الشعر، فلا ينقاد جواده الشامس إلا لفارس عركته مضائقه. ولست أريد بذلك أنه يتحامى عيوب القافية، فهذا أيسر مطالبه، ولكنني أريد ما يحمل نفسه عليه من "لزوم ما لا يلزم"، ومن قيود ثقيلة أخرى يكبل شعره بها حتى يبدو كأنما قطعت يداه من المعصمين!! وأي كبل أثقل على الشعر من أن يبني الشاعر قصيدته كاملة على كلمة واحدة بعينها تتكرر في نهاية كل بيت؟!! هاهو ذا يرد على صديق أرسل إليه قصيدة مثقلة بالمحسنات البديعية، فإذا هو يجنح إلى هذه القصيدة "الخالية" تدفعه إلى ذلك دفعاً روح العصر، والرغبة في التفوق:
خليلي وافت منكم ذات خلخال تتيه على شمس الظهيرة بالخال
تميس فتزري بالغصون تمايلا تروح وتغدو في برود من الخال
لها منطق حلو به سحر بابل رخيم الحواشي وهو أمضى من الخال([53">)
وتمضي القصيدة على هذا النحو لا تفارقه ولا تحيد عنه، فيتكرر "الدال" عينه في نهاية كل بيت، ولكن "المدلول" يختلف كلَّ مرة!! ومما لا ريب فيه أنّ القافية هنا تؤدي وظيفتها على أتم وجه، فتقطع التوازي بين الصوت والمعنى بل تبتره بترا. ولكنني ـ على الرغم من ذلك ـ لا أستملح هذا التصنيع لأنه يرفع درجة "التنبؤ" إلى درجة "اليقين"، وبذلك يلغيها، ويورث النفس قدراً من الملالة لا يدفع، ويتحول بالشعر من نشاط خلاق إلى مهارة لغوية خاملة.
وقد يخفف من وطأة هذا القيد، فيسترد الشعر بعض روحه، وينهض مرفوفاً يروض جناحيه كما نرى في هذه الأبيات:
إلى الصوت مدت تلمسان يداها ولبت فهذا حسن صوت نداها
وقد رفعت عنا الإزار فلج به وبرد فؤاداً من زلال نداها
وذا روض خديها تفتق نوره فلا ترض من زاهي الرياض عداها
ويا طالما صانت نقاب جمالها عداه وهم بين الأنام عداها([54">)
فقد حقق الجناس هنا وظيفة القافية دون أن يفسد الشعر، بل لعله منحه بعضاً من الرونق. وقد يجنح إلى "لزوم ما لا يلزم" ولكنه لا يلتزمه على امتداد القصيدة، بل يحسو منه نغبة أو أكثر ثم ينصرف عنه كما في هذه الأبيات:
تسائلني أم البنين وإنها لأعلم من تحت السماء بأحوالي
ألم تعلمي يا ربة الخدر أنني أجلي هموم القوم في يوم تجوالي
وأغشى مضيق الموت لا متهيباً وأحمي نساء الحي في يوم تهوال([55">)
ولا ريب في أن هذا السياق الذي يقترن فيه الحب بالبطولة سياق فخم جليل، وهو سياق عريق في شعر البطولة القديم (عنترة في المعلقة على التمثيل لا الحصر)، ولا ريب أيضاً في أن البحر الطويل بإيقاعاته الرصينة يلائم هذا السياق، ويزيده رصانة وجلالاً. وحقاً تقوم القافية في الأبيات المتتالية بقطع التوازي الصوتي المعنوي، ولكنها في كل بيت على حدة تؤدي وظيفة مناقضة لأنها تمثل وقفاً صوتياً ومعنوياً في آن نظراً لعدم ارتباط البيت تركيبياً بالبيت الذي يليه، وهي بتقارب عنصريها البنائيين (الصوت والمعنى) تزيد من قدرة الرسالة على التوصيل أو الإبلاغ. وهذا ملمح عريق في الشعر العربي القديم، وشعر عصر النهضة.
وقد يحرص أحياناً على المجيء في نهاية البيت بكلمتين متجانستين أو متضادتين في الدلالة، ثم يشفعه ببيت ـ أو أكثر ـ في نهايته كلمتان على وزن الكلمتين في البيت السابق، وهذا هو "التطريز" الذي تحدث عنه أبو هلال أو هو قريب منه، فيزيد بذلك موسيقا النص وفرة، ثم تأتي ألف الإطلاق فتحدث إشباعاً موسيقياً بامتداد النفس. وأكثر ما يظهر هذا الصنيع في القصائد الدينية التي نجتزىء منها هذه الأبيات تمثيلاً لا حصراً:
ـ يا ربّ يا رب يا ربّ الأنام ومن إليه مفزعنا سراً وإعلانا
يا ذا الجلال وذا الإكرام مالكنا يا حيّ يا مولياً فضلاً وإحسانا
يا ربّ أيّد بروح القدس ملجأنا عبد المجيد ولا تبقيه حيرانا([56">)
ـ الحمد لله تعظيماً وإجلالاً ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالاً
وما أتت نفحات المسك ناسخة من المكاره أنواعاً وأشكالاً
فالله أكرمني حقاً واسعدني وحطّ عني أوزاراً وأثقالاً
قد طال ما طمحت نفسي وما ظفرت لكن لوصل أوقاتاً وآجالاً([57">)
ونحن نحس في هذين المقطعين وأشباههما توازياً إيقاعياً متكرراً يحدث بتآزره مع القافية وألف الإطلاق انسجاماً صوتياً عميق الأثر في النفس (سراً وإعلاناً، فضلاً وإحساناً// أنواعاً وأشكالاً، أوزاراً وأثقالاً، أوقاتاً وآجالاً)، ولسنا نبعد عن الحق إذا قلنا: إن هذا الانسجام الصوتي يتواءم مع الانسجام النفسي في القصيدة، ولعله نابع منه، ويكمله.
وإذا لم تكن سمعة "التضمين" في نقدنا القديم طيبة ـ وهو تعلق معنى بيت ببيت يليه ـ وكان يحسن بالشاعر أن يتحاماه، فإن نقاد الشعر المعاصرين يعدونه فضيلة حتى إن الشعراء المعاصرين قد ولعوا به وهاموا.
ويرى "جان كوين" أن في التضمين "لونا من انقطاع التوازي بين الصوت والمعنى وهو تواز يؤكد عادة قوة بناء العبارة"([58">). وأنا أعتقد أن علينا أن ننظر إلى الشعر العربي في ذاته، وألا نقيسه ببنية شعرية أخرى تحققت في سياق تاريخي اجتماعي مختلف عن السياق التاريخي الاجتماعي للشعر العربي. ولكن هذا الاعتقاد لا يحول دون النظر في شعر الآخر ونقده والإفادة منهما. وفي ضوء هذه النظرة لا أعد التضمين عيباً، ولا أعده فضيلة، ولكنني أحتكم في أمره إلى السياق، فإذا كان السياق يستدعيه أو يقبله رضيت به، وإلا فلا. وفي شعر الأمير عبد القادر مقدار غير يسير من التضمين، ولكن جله جاء في سياق وجداني عاطفي أو في سياق ديني روحاني حيث شبوب العواطف والمشاعر وتدفقها، فكأن البيت يضيق على احتواء هذا التدفق فيمتد إلى البيت التالي ويغمره كما في هذا المقطع:
أيا سامع الشكوى ويا دافع البلا ويا منقذ الغرقى ويا واسع البر
تجهت لكم وجهي بأكرم شافع محمد المبعوث للعبد والحر
لترسل لي عند الوفاة مبشرا برضوانك الأوفى وفوزي في الحشر([59">)
وليس يخفى ما في هذا المقطع من عمق العاطفة الدينية وتدفقها، ومن ضراعة الشاعر الملتاعة ولهفته الضارعة، فهل يقوى بيت واحد على النهوض بهذا العبء العاطفي الثقيل؟ لقد شكلت الأبيات جميعاً جملة كبرى واحدة ربط بين وحداتها (أبياتها) التضمين، فكشف عن وحدة الموقف النفسي وجلاها. وأرجو أن تنظر إلى جمل النداء ذات البنية الواحدة (أداة نداء أو استغاثة + منادى اسم علم مضاف إلى مفعول)، وذات الإيقاع الواحد، ولعل وحدة التركيب ووحدة الإيقاع المتكررتين أربع مرات تدلان دلالة عميقة على موقف الشاعر من ربه، فهو موقف ثابت لا يخامره الشك، ولا يعتريه التغير، ألم نقل إن الإيقاع ذو علاقة وثيقة بالمعنى؟ وانظر إلى هذه القافية (البر)، ثم قارنها بالمضاف إليه في جمال النداء السابقة تر أن هذا "البر" ينقذ من الغرق والبلاء والشكوى، فتأمل!! ألا ترى أن هذه القافية تنتمي إلى أنظمة مختلفة صوتية وإيقاعية ودلالية معاً؟ إنها ـ كما قلنا ـ ذات علاقة وثيقة بمستوى المعنى في النص. وقريب من هذا قوله:
يا سواد العين يا روح الجسد يا ربيع القلب يا نعم السند
كنت لي قرة عين وبها هام قلبي لا بمال وولد([60">)
تكرار إيقاعي يوائم هذا السياق العاطفي الصافي النقي، ويعمقه في النفس، وقافية ثرية الدلالة، فسند الإنسان هو ربيع القلب وروح الجسد وسواد العين.
وقد مر بنا في مطلع هذا البحث أنماط من التكرار شتى، ولو أعدت النظر فيها لرأيت أن شطرا غير يسير منها يشكل تكراراً إيقاعياً يمكن ربط دلالته بالسياق بيسر، ولا ضير في أن نعود إلى ضرب من هذا التكرار، ونبين دلالته:
كم نافسوا كم سارعوا كم سابقوا من سابق لفضائل وتفضل
كم حاربوا كم ضاربوا كم غالبوا أقوى العداة بكثرة وتمول
كم صابروا كم كابروا كم غادروا أعتى أعاديهم كعصف مؤكل
كم جاهدوا كم طاردوا وتجلدوا للنائبات بصارم وبمقول
إن هذا الإيقاع المتكرر لا يحتاج إلى فطنة لملاحظة صلته بسياق الحرب، وتعبيره عن أجوائها، فهو في قصره ونبرته القوية الصاخبة وتلاحقه أشبه بقرع طبول الحرب، وإذا فالإيقاع هنا ـ كما هو في مواطن أخرى ـ ذو دلالة تكمل دلالات النص الأخرى، وتكشف عن انسجام العناصر البنائية وتضافرها.
وقد يعمد الأمير عبد القادر أحياناً إلى قوافٍ ضئيلة القيمة الفنية نسبياً، وهي ضآلة ناجمة من معرفة جزء من المعنى قبل سماع القافية كما في هذا المقطع:
ليتهم إذا ملكوني أسجحوا ليتهم إذا ما عفوا أن يصفحوا
رحلوا العبس ولم أشعر بهم ليت شعري أي واد صبحوا؟
أخذوا قلبي وماذا ضرهم أن يكونوا بجميعي جنحوا؟([61">)
فالمتلقي يعرف سلفاً جزءاً من معنى القافية هو هذا الجزء الذي تدل عليه واو الجماعة، ولذا فإن حظ هذه القافية من المباغتة أو عدم التوقع ضئيل. ولكن هذا النوع من القوافي ـ كما ذكرت ـ نادر في ديوان الشاعر حتى يكاد يحسب على أصابع اليد الواحدة.
ونخلص من هذا كله إلى أن الإيقاع والقافية عنصران أصيلان في البنية الشعرية، وليسا عنصرين خارجيين مضافين إليها، وأن وظيفتهما لا تظهر إلا بالنظر إلى المستوى الموسيقي في القصيدة بوصفه بناء صوتياً معنوياً. وقد استطاع الأمير عبد القادر أن يوائم بين هذا المستوى والمستويات الأخرى في القصيدة مواءمة طيبة في جانب غير يسير من شعره.
المصادر والمراجع :
1 ـ اتجاهات البحث الأسلوبي: د/ محمد شكري عيّاد. دار العلوم/ الرياض 1985م.
2 ـ المرايا المحدّبة: د/ عبد العزيز حمودة. سلسلة عالم المعرفة/ الكويت 1998م.
3 ـ المقامات: ط1: عبد الفتاح كيليطو. ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. دار توبقال 1993م.
4 ـ بناء لغة الشعر ط3: جان كوين. ترجمة د/ أحمد درويش. دار المعارف بمصر 1993.
5 ـ تحليل النص الشعري: يوري لوتمان. ترجمة د/ محمد فتوح أحمد. دار المعارف بمصر 1995م.
6 ـ دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. قرأه وعلّق عليه: محمود ومحمد شاكر. مكتبة الخانجي بالقاهرة. بلا تاريخ.
7 ـ ديوان الأمير عبد القادر الجزائري: ط1: شرح وتحقيق د/ ممدوح حقي. بلا تاريخ.
8 ـ شعرنا القديم والنقد الجديد: د/ وهب روميه. سلسلة عالم المعرفة/ الكويت 1996م.
9ـ قضايا الشعرية: يا كبسون. ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون. دار توبقال النشر 1999م.
10 ـ لغة الشعر بين جيلين: د/ إبراهيم السامرائي. دار الثقافة/ بيروت، بلا تاريخ.
11 ـ مقدمة في نظرية الأدب ط2: د/ عبد المنعم تليمة. دار العودة / بيروت 1979م.
12 ـ موقف من البنيوية: د/ محمد شكري عياد. مجلة فصول. المجلد الأول/ العدد الأول 1979م.
________________________________________
([1">) الديوان، ص92.
([2">) الديوان، ص92.
([3">) الديوان/ ص51.
([4">) أبيات ابن الدمينة:
وقد زعموا أن المحب إذا دنا يمل، وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد
علماً أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وأبيات الأمير عبد القادر:
وإن قلتُ يوماً: قد تدانت ديارنا لأسلو عنهم زادني القرب أشجانا
فما القرب لي شافٍ ولا البعد نافع وفي قربنا عشق دعاني هيمانا
فيزداد شوقي كلما زادت قربه ويزداد وجدي كلما زدت عرفانا
([5">) كان حقه كلمة "رضوان" أن تكون مرفوعة، وفي ديوان الشاعر عدد غير قليل من هذه المخالفات النحوية.
([6">) الديوان، ص109.
([7">) الديوان، ص127.
([8">) الديوان، ص135.
([9">) الديوان، القصيدة السابقة.
([10">) الديوان، ص109.
([11">) تحليل النص الشعري، يوري لوتمان، 174.
([12">) دمر: ضاحية من ضواحي مدينة دمشق.
([13">) المقامات، عبد الفتاح كيليطو، ص127.
([14">) الاستطراد إلى لوحة الصيد في القصيدة الجاهلية مثلاً، انظر وهب رومية: شعرنا القديم والنقد الجديد.
([15">) الديوان، ص135، وقد أثبت محقق الديوان كلمة "سائِفها" بالقاف بدلاً من الفاء في طبعتي الديوان ولعل الذي أدخله في هذا الوهم هو ذكر الحاوي، وقد أثبتنا الصواب.
([16">) الديوان، ص22.
([17">) زهير بن أبي سلمى:
علون بأنماطٍ عتاق وكلّة ورادٍ حواشيها مشاكهة الدم
المثقب العبدي:
علونَ بكلةٍ وسدلن أخرى وثقبِّنَ الوصاوص للعيون
عمر بن أبي ربيعة:
وكنَّ إذا أبصرنني أو سمعنني سعينَ فرقعنَ الكوى بالمحاجر
([18">) الديوان، ص41.
([19">) كان حقّ هذه الكلمة النصب على الحال، ولكنه جاء بها على هذا النحو متابعة لرأي ضعيف أو مخالفة للقاعدة.
([20">) الديوان، ص162.
([21">) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص146، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر.
([22">) الديوان، ص20.
([23">) الديوان، ص40.
([24">) الديوان، ص126.
([25">) الديوان، ص65.
([26">) الديوان، ص28.
([27">) الديوان، ص40.
([28">) الديوان، ص152.
([29">) الديوان، ص 48.
([30">) الدلائل، عبد القاهر الجرجاني، 231.
([31">) بناء لغة الشعر جان كوين، انظر الباب الخامس، المستوى المعنوي: الربط.
([32">) الديوان، ص28..
([33">) الديوان، ص135.
([34">) الديوان، ص56، وقد ذكر هذه الأبيات الدكتور شوقي ضيف ونسبها إلى عبد الله المبارك، انظر كتابه: العصر العباسي، ط9: ص404.
([35">) الدلائل: عبد القاهر، 227.
([36">) الديوان، ص92.
([37">) الديوان، ص64.
([38">) الديوان، ص135.
([39">) الدلائل، الجرجاني، 106.
([40">) الدلائل الجرجاني، 108.
([41">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص215.
([42">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص222.
([43">) اتجاهات البحث الأسلوبي، شكري 37 ـ عياد.
([44">) الديوان ص126.
([45">) الديوان ص135.
([46">) الديوان ص114.
([47">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 66.
([48">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 73.
([49">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 98.
([50">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 100.
([51">) بناء لغة الشعر، جان كوين 102.
([52">) تحليل النص الشعري: يوري لوتمان، ص92، 93.
([53">) الديوان، ص48.
([54">) الديوان، ص20.
([55">) الديوان، ص20.
([56">) الديوان، ص109، وفي البيت الثالث مخالفة نحوية، وقد ذكرت غير مرة أن في الديوان عدداً غير يسير من هذه المخالفات أو الضرائر الشعرية.
([57">) الديوان ص105.
([58">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص74.
([59">) الديوان، ص150.
([60">) الديوان، ص89.
([61">) الديوان، ص162.
awu-dam.org/trath/101/turath101-002.htm
[/b]
وتجسد بنية المقابلة اللفظية مقابلة معنوية بين موقف الشاعر وموقف ابنة عمه، وتغري الألفاظ العاطفة الانفعالية التي تملأ أرجاء النص، والملامح العذرية فيه بافتراض تجربة عاطفية خاصة يحياها الشاعر، ولكنني لا أجد في نفسي ميلاً إلى مثل هذا الافتراض، فأنا لا أكاد أرى في النص ملامح ذاتية تميز هذه التجربة، بل هي ملامح عامة تصور تجربة عاطفية نمطية، فالشاعر يدور حول المعاني التجريدية الكبرى في تجربة الحب، ويستخدم الألفاظ المألوفة في التعبير عن تلك المعاني، فكأنه يستعير من القدماء عوالمهم الشعورية، واللغوية معاً. ولعل ما يعزز هذا الانطباع في نفسي هو هذا الخمول الذي أصاب بنية المقابلة نظراً للإسراف في تكرارها حتى أوشكت أن تورث النفس مللاً. لقد كان من حق الشعر والحب على الشاعر أن ينشط بنيته اللغوية بطريقة ما، ولكنه لم يفعل!! انظر إليه ماذا فعل في موطن آخر وقد أحس أن لغة الشعر أوشكت أن تذبل ويصيبها النعاس:
يروعني الصبح إن لاحت طلائعه يا ليته: لم يكن ضوء وإصباح
انظر إلى هذا القطع البديع الذي تظهر فيه رشاقة الشعر وحيويته، وإلى هذا التمني الذي يأتي في سياقه انتفاء الضوء والصباح، فيعزز فكرة "الروع" التي لاحت في أول البيت. ما أجمل ما قال!
وأحب أن أقف عند نص آخر يظهر فيه "الطباق" ظهوراً قوياً([20">):
أنا حق، أنا خلق أنا رب، أنا عبد
أنا ماء، أنا نار وهواء، أنا صلد
أنا كم، أنا كيف أنا وجد، أنا فقد
أنا ذات، أنا وصف أنا قرب، أنا بعد
هذا طباق غريب يقوم بوظيفتي "المحو والإثبات" في آن، أو قل ـ بعبارة أدق ـ إنه طباق لا يقوم بوظيفته البلاغية، ما أكثر الوظائف المعطلة في الشعر! فتندثر الحدود بين طرفي الطباق، ويدخل كلاهما في الآخر، فيعبثان معاً بترتيب الكون ونواميسه، ويعيدان هذا الترتيب على نحو خاص جداً. ومما يلفت النظر في هذا النص بنيته اللغوية، فهو من أوله إلى آخره ذو تركيبه لغوية واحدة هي جملة اسمية مكونة من مبتدأ وخبر، وأن المسند إليه هو لفظ واحد لا يتغير، إنه ضمير المتكلم مرفوعاً "أنا". ومن الواضح هنا أن ذات المتكلم تفرض سلطة صارمة على دلالة النص، فهي القطب الذي تتمحور حوله الدلالات في غير التباس. ومن الواضح أيضاً أن هذه الجمل الاسمية القصيرة ببنيتها المذكورة، وبتلاحقها وغزارتها تكشف عن طبيعة الموقف الصادرة عنه، فهو موقف يقيني صلب. فما حقيقة هذا الموقف الذي تتماهى فيه الربوبية والعبودية، والماء والنار والهواء، والكم والكيف، والوجد والفقد، والذات والوصف، والقرب والبعد؟! أليس هذا هو موقف المتصوف الذي يؤمن بوحدة الوجود كما لاحظنا في موطن سابق؟
ويقتضي هذا الحديث عن التركيب الوقوف على عدد من قضاياه الأخرى كالحذف، والفصل والوصل، والتقديم والتأخير وسواها.
تحدث عبد القاهر في "دلائل الإعجاز" عن الحذف، قال: "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى فيه ترك الذكر افصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن"([21">) وإذا الحذف خاصة شعرية تقوم على "الاقتصاد في اللغة"، فتمنح البنية الشعرية حيوية وفيض دلالة، أو قل هو علاقة معنى لا علاقة تشكيل. وحين ننظر في شعر الأمير عبد القادر نجد ضروباً من هذا الحذف تزيد على أصابع اليدين عدداً، فهو يحذف المبتدأ والفاعل والخبر الحال والمفعول به وأداة النداء والفعل والجار والمجرور، وقد يحذف جملة، وسوى ذلك كثير على نحو ما يظهر في هذه الأبيات التي نسوقها تمثيلاً لا حصراً:
ـ يثقن النسا بي حيثما كنت حاضرا ولا تثقن في زوجها ذات خلخال
أمير إذا ما كان جيشي مقبلا وموقد نار إذ لم يكن صالي([22">)
ـ وهذا الظبي لا يرعى ذماما ولا يرضى مؤانسة لجار
يتيه بدله ويصول عمدا غني بالجمال فلا يداري([23">)
ـ بطيبة طاب العيش ثم تمررت حلاوته فالنحس أربى على السعد
أردد طرفي بين وادي عقيقها وبين "قباها" ثم ألوي إلى أحد
منازل من أهواه طفلا ويافعا وكهلا إلى أن صرت بالشيب في برد([24">)
هذه نماذج من حذف "المبتدأ"، فأين دقة المسلك، ولطف المأخذ؟ وأين هذا الذي هو "شبيه بالسحر" على حد تعبير عبد القاهر؟ أرجو أن تنحي ما تراه في النص الأول من الإضمار قبل الذكر، فهذه مخالفة نحوية أشرت سابقاً إلى أن في شعر عبد القادر عدداً غير يسير منها، كما أرجو ألا ينافس صوت "جرير" في مدحه "للحجاج" صوت عبد القادر في نفسك، فقد أغار عبد القادر على بيت جرير:
أم من يغار على النساء حفيظة إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
قلت أرجو أن تضرب صفحاً عن هذا الذي ذكرت، وأن تنظر إلى السياق الذي حذف فيه المبتدأ، فهو سياق البطولة والفخر العريض بالذات، فإذا ظهرت كلمة "أمير" في هذا السياق صرفت الأذهان عن الناس جميعاً إلا عن الشاعر، وإذا ما نفع الإتيان بالمبتدأ؟ بل حاول أن تذكر المبتدأ المحذوف، فتقول: أنا أمير... الآن عرفت أن العبارة قد خرجت إلى الغثاثة واعتلال الذوق، وعرفت أن في هذا الحذف مسلكاً دقيقاً ومأخذاً لطيفاً وسحراً.
وسياق النص الثاني سياق عاطفي بدوي ينفرد به هذا الظبي برشاقته، وإخلافه الموعد، وصدوده عن سواه، ودلاله وغنجه، وليس بمنكر في هذا السياق سوى أن تذكر المبتدأ المحذوف، فتقول، هو غني بالجمال أو: وهو غني... لأن السياق كله مرصود لهذا المبتدأ، فذكرك له إفساد للشعر لا محالة لأنه يجعل الشطر الأخير تتمة لما سبقه، والحال أن العكس هو الصحيح، فهذا الجمال هو سر ما سبقه من دلال وصدود وإخلاف وعد.
وسياق النص الثالث سياق ديني تملؤه أسماء أماكن مقدسة (طيبة ـ المدينة المنورة ـ وادي العقيق، قبا، جبل أحد) تحمل معها سياقاً تاريخياً روحياً جليلاً. بعبارة أخرى إن أسماء الأماكن تلج مجالا ًوظيفياً جديداً، فتغمر السياق بفيض روحي نابع من ذاكرة الأمة ووجدانها، فأية جدوى من ذكر مبتدأ لا وجود للسياق لولاه؟ ثم ألا ترى في هذا الحذف ما يشعرك بقربها من النفس، فهي في القلب حيث الهوى؟ أما أن تقول: هذه منازل من أهواه، فتلك لعثمة لا يعرفها الشعر.
وقد يحذف الشاعر "أداة النداء"، فيكشف عن ملاحة الحذف، ورغبة النفس فيه:
ـ بني لئن دعاك الشوق يوما وحنت للقا منا القلوب([25">)
ولن تتذوق ملاحة هذا الحذف حتى تعرف أن هذا البيت من مقطوعة بعث بها الشاعر إلى ابنه الأكبر وهو بعيد مشغول عن أهله بالجهاد، وقد استدار العام على غيبته أو كاد. أفليس يعبر هذا الحذف الجميل عن الإحساس بالقرب النفسي على الرغم من البعد المكاني؟ وأرجو أن تضم إلى دلالة هذا الحذف دلالة هذا التصغير (بني) وما فيها من الحنو والإحساس بالقرب حتى يكاد يطوقه بيديه، وأن تضم إليهما جميعاً هذا الالتفات البديع من المخاطب إلى المتكلمين "منا" عادلاً عن ضمير الخطاب، ومتحدثاً عنه وعن أسرته جميعاً بضمير واحد، وماذا يضيرك لو ضممت إلى النداء المحذوف والتصغير والالتفات هذا "القصر" الجميل في كلمة "اللقا" فكأنه يستعجله فيعدل عن مده ويقصره؟!!
وقد يحذف "الفعل والفاعل أو نائبه والمفعول به معاً كما في قوله:
ـ وإنا بنو الحرب العوان لنا بها سرور إذا قامت وشانئنا عوى
لذاك عروس الملك كان خطيبتي كفجأة موسى بالنبوة في طوى([26">)
ـ فمنوا بلقياكم، وإلا فلا بقا وريح الفنا تسفي علينا إذا سفا([27">)
ـ أريد كتم الهوى حينا فيمنعنى تهتكي. كيف لا؟ والحب فضاح([28">)
لقد فوجىء الأمير بالإمارة، فجاءته على غير انتظار، كما فوجىء موسى بكلمة من ربه في الوادي المقدس طوى، فعبر عن هذه المفاجأة بإيجاز الحذف ـ كما ترى ـ ففجأنا به كأنما يريد للغة أن تجسد المفاجأة!
ويبدو الحذف في الموطن الثاني أدق وأبلغ، فالشاعر يمني النفس بلقاء الأحباب، ويرى بقاءه مرهوناً بهذا اللقاء، ولذلك يطلب اللقاء صراحة "فمنوا بلقياكم" ثم يعمد إلى هذا الحذف البديع "وإلا فلا بقا"، يريد "وإلا تمنوا فلا بقاء لي"، فكأنما جزع من ذكر اللقاء في سياق النفي فحذفه ثم قصر الممدود وحذف الجار والمجرور، فتضافر هذا الحذف كله للتعبير عن جزعه الشديد من عدم اللقاء، وجاء الشطر الثاني من البيت مصوراً لهذا المعنى، فأدرك من دقة التعبير وبلاغته ما لم يكن ليدركه لو ذكر المحذوف ومد المقصور.
ويأتي البيت الأخير في سياق عاطفي هو سياق الحب الصوفي حيث "لا خير في اللذات من دونها ستر"، فالشاعر عاشق يريد أن يصرح بحبه "فصرح بمن تهوى ودعني من الكنى"، وأن يعلنه على الملأ. وفي هذا السياق المفعم بالرغبة الجارفة في الإعلان يأتي حذف منع الإعلان "وكيف لا يمنعني" ليوائم مواءمة ساحرة سياق الرغبة، بل إن الشاعر يسوق هذا الحذف في سياق أصغر هو سياق الاستفهام الإنكاري، ويردفه بما يعزز رغبته فكأنها من طبيعة الحب ومعدنه "والحب فضاح". ولو أنك فليت نفسك في غير استعجال لرأيت هذا الحذف "شبيهاً بالسحر" على حد تعبير عبد القاهر.
ويطول بنا الحديث لو مضينا نتتبع تفاريق هذا الحذف، ونحن نريد أن نمضي على اجتزاء القول وطيه، فلنضرب عما نحن فيه بعد وقفة عجلى على قوله:
فما نسج داود كنسج عناكب ولا الغادة الهيفاء تزهو بخلخال
وما عيبها إلا التغرب... ..............................([29">)
لقد مكر الشاعر بالمتلقي مكراً جميلاً، فرفع القدرة على "التنبؤ" في الشطر الأول إلى ذروتها، ثم قوضها، وأعادها إلى درجة "الصفر" بهذا الحذف الذي لم يكن متوقعاً قط تاركاً للمتلقي أن يملأ هذا الفراغ النفسي والمعنوي الذي أحدثه الحذف بما يحقق التناظر والمماثلة بين شطري البيت.
وتحدث عبد القاهر في "الدلائل" عن الفصل والوصل، قال: "واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: إنه خفي غامض، ودقيق صعب إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب"([30">) وتحدث نقاد الشعر المعاصرون عن "الربط" وأدواته وشروطه، وعن سوء الربط أو "عدم الاتساق" كما سماه جان كوين([31">). ولا تنجم صعوبة دراسة "الربط" من وعورة المسلك ودقته وغموضه فحسب بل تنجم أيضاً من انتشاره الواسع في الشعر، بيد أن التمثيل لا الاستقصاء، قد يذلل طرفا ًمن هذه الوعورة. فنحاول النظر في هذه الأبيات:
ـ ما زلت أرميهم بكل مهند وكل جواد همه الكر لا الشوى
وذا دأبنا فيه حياة لديننا
وروح جهاد بعدما غصنه ذوى([32">)
ـ كساه رسول الله ثوب خلافة له الحكم والتصريف والنهي والأمر([33">)
ـ يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخصب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب([34">)
لا جناح على الأمير إذا تناص مع "عنترة" في النص الأول، فالسياق سياق فخر وحماسة. فلنضرب عن هذا التناص، وننظر إلى مافي البيتين من فصل ووصل. لقد عطف الشاعر الجواد على المهند لما بينهما من علاقة ظاهرة، فكلاهما من عدة الفارس، وعطف روح الجهاد على حياة الدين لما بينهما من علاقة حميمة، فحياة هذا الدين تكاد تكون مقترنة بهذه الروح الجهادية. وهذا العطف ـ كما ترى ـ عطف اسم على آخر، ففي الوصل اتساق يقوي دلالة التراكيب. ولكن الشاعر فصل حين قال: "وذا دأبنا فيه حياة..." ولم يقل "وفيه...." فأين الدقة والجمال فيما فعل؟ ولا يذهبن بك الظن إلى أن الوزن قد ألجأه إلى ذلك، فما أيسر أن يتصرف الشاعر لو أحب الوصل! ولكن الذي ألجأه إليه هو الرغبة في تحديد وظيفة الدأب، فلو أنه وصل لكان معنى ذلك أن الحرب دأبه، وأن فيها حياة الدين، فكأن للحرب غايات شتى وحياة الدين واحدة منها، ولم يرد الشاعر ذلك قط بل أراد أن الحرب دأبه لسبب واحد لا غير هو "حياة الدين" كاشفاً بذلك عن رؤيته الدينية العميقة، فتأمّلْ دقة هذا الفصل وغموضه، وما فيه من أسرار.
ويتحدث الشاعر عن أستاذه الصوفي، فيقول:
كساه رسول الله ثوب خلافة له الحكم والتصريف والنهي والأمر
فلماذا عدل عن الوصل إلى الفصل، فقال: له الحكم، ولم يقل: وله الحكم؟ وعلة ذلك واضحة للمتأمل، فالجملة الثانية متصلة من ذات نفسها بالجملة الأولى لأنها مؤكدة ومبينة لها، ولذا فهي مستغنية عن ربط يربطها بها، وهذا شأن الجمل التفسيرية عامة لأنها ـ كما يقول عبد القاهر ـ "كالصفة التي لا تحتاج في اتصالها بالموصوف إلى شيء يصلها به، وكالتأكيد الذي لا يفتقر كذلك إلى ما يصله بالمؤكد"([35">).
ويبدو الاستئناف أغمض وألطف في النص الثالث، ففي كل من البيتين الثاني والثالث سياق شرط جزاؤه محذوف، ولا يجوز أن يكون الشطر الثاني من أحدهما أو من كليهما جزاء، وتكون الفاء رابطة، لأن الشاعر لم يرد الجزاء بل أراد المقابلة والمفارقة، فكأنه قال: من كان يخضب خده بدموعه فله ما يشاء ـ أو شيئاً من هذا القبيل ـ أما نحن فنحورنا بدمائنا تتخضب، ومن كان يتعب خيله في باطل فهو وما يفعل، أما نحن فخيولنا يوم الصبيحة تتعب، وبذلك ينكشف معنى "اللعب" في البيت الأول، وتتم المفارقة، فشتان بين رجل هادىء مطمئن يتعبد الله، ويذرف دموعه، وآخرين يخوضون غمرات القتال فكأنهم في جفن الردى النائم على حد تصوير أبي الطيب.
وليس كل وصل الأمير وفصله من هذا الطراز، فقد يقع في شعره من سوء الربط أو عدم الاتساق ما يعيا دونه النحاة والنقاد، وعلى نحو ما نرى في قوله:
صلى عليه الله ما سح الحيا والآل، ما سيف سطا في الجحفل([36">)
ـ مما عراكم عسى فيه أقاسمكم أو حمله كله لو كان يمكنني([37">)
ـ ومجي رفاتي بعد أن كنت رمة وأكسبني عمرا لعمري هو العمر([38">)
فأنت ترى أنه قد عطف "الآل" على "الحيا"، وهو عطف بين متباعدين، وإنما أراد: وما اضطرب الآل (السراب) إلاّ إذا أراد بـ "الآل" آل الرسول ()، وقديماً التمس أهل الصناعة لجرير العذر في قوله: "وزججن الحواجب والعيونا"، فقالوا: أراد وكحلن العيون لأن التزجيج لا يكون للعيون، ولعل الذي ساعدهم على ما قالوا هو العلاقة الوثيقة بين الحواجب والعيون، وليس بين المطر والسراب ما يعين على التماس العذر.
وهو في البيتين الثاني والثالث يعطف جملة اسمية على جملة فعلية في تنافر فظ تزوّر دونه الأسماع!!
وتحدث عبد القاهر عن التقديم والتأخير، قال: "هو باب كثير الفوائد، جم المحاسن، واسع التصرف. بعيد الغاية"([39">)، ثم قال: "وقد وقع في ظنون الناس أنه يكفي أن يقال إنه قدم للعناية، ولأن ذكره أهم، من غير أن يذكر من أين كانت تلك العناية؟ وبم كان أهم"([40">) وأفاض البلاغيون في الحديث عن وظائف التقديم والتأخير. وفعل مثل ذلك نقاد الشعر والأسلوبيون، فقد عد "جان كوين" التقديم والتأخير مجاوزة شعرية (انحرافا) بالقياس إلى لغة النثر)([41">) ، وذكر أن البلاغيين "عرفوا مبحث التقديم والتأخير باعتباره الصيغة الخاصة بالعاطفة([42">)، وتحدث الأسلوبيون حديثاً طويلاً عن "التعبيرية"، ورأوا مفهوم "الاختبار" وثيق الارتباط بها، وتحدثوا عن وظائف التقديم والتأخير كالتأكيد، والارجاء والتشويق، والشحنة العاطفية، والتأثرية وسواها([43">). وإذاً لا مناص من الوقوف ـ ولو قليلا ـ على "التقديم والتأخير" في شعر الأمير عبد القادر لعلنا نرى بعض ما فيه من محاسن.
ـ إلى الله أشكو ما ألاقي من النوى وحملي ثقيل لا تقوم به الأيدي
بطيبة طاب العيش ثم تمررت حلاوته فالنحس أربى على السعد([44">)
ـ وتاهوا فلم يدروا من التيه من هم وشمس الضحى من تحت أقدامهم عفر
وفي شمها حقاً بذلنا نفوسنا فهان علينا كل شيء لـه قدر
هجرنا لها الأحباب والصحب كلهم فما عاقنا زيد ولا راقنا بكر
ولا ردنا عنها العوادي ولا العدى ولا هالنا قفر ولا راعنا بحر
وفيها حلالي الذل من بعد عزة فيا حبذا هذا ولو بدؤه مر([45">)
ـ ألا أن قلبي يوم بنتم وسرتم غدا حائماً خلف الظعون يطير([46">)
فلو أنكم يوم الفراق أعرتم قلوبكم لي إنني لصبور
النص الأول من قصيدة يناجي بها الشاعر "جبل أحد"، وقد رد عليه غوابر الشوق، فتذكر الغزوة التاريخية، والمسلمين الأوائل، ونازعته النفس إليهم، فذكر البين الوشيك، ودموعه ونيران قلبه، وعري قلبه من الصبر...
وإذا فالسياق سياق وجداني ديني. فإذا نظرنا في البيتين المذكورين من هذه القصيدة رأينا تقديم "الجار والمجرور: إلى الله، بطيبة"، ولست أظن هذا التقديم إلا استجابة للسياق وتتميماً للجو الديني الذي تتحرك فيه القصيدة، ومن غير المنتظر في هذا السياق أن يقدم الشكوى من النوى على من ترفع إليه هذه الشكوى، أو أن يقدم طيب العيش على ذكر مدينة الرسول .
وفي البيت الأول من النص الثاني يتحدث الشاعر عن تجربة "الوجد الصوفي" حيث يستحكم التيه بالمتصوفة فتتماهى الأشياء، وتختلّ نواميس الكون، ونرى الشاعر في هذا البيت قدم الجار والمجرور "من التية، من تحت أقدامهم" فكان تقديم "التيه" تقوية لكلمة "تاهوا" في أول البيت، تعبيراً عن سطوة هذا التيه على عقولهم وأفئدتهم، وكان تقديم "من تحت أقدامهم" ملائماً لكلمة "عفر"، ومعبراً عن اختلال نواميس الكون، وإلا فكيف تكون شمس الضحى معفرة بالتراب؟! وبذلك تتجانس دلالات البيت وتتآزر، وتغدو الحياة بقبضة التيه الصارمة. وفي الأبيات التي تلي البيت الأول يتحدث الشاعر عن الخمرة الصوفية ـ وهي أكثر الرموز الصوفية ثراء وتكراراً ـ ويقدم الجار والمجرور وما يتبعه في بيت "وفي شمها..." ويقدم الجار والمجرور في الثلاثة الأبيات الأخرى (هجرنا لها الأحباب...، ولا ردنا عنها العوادي...، وفيها حلالي الذل...). وحين ننظر في هذه الضمائر المجرورة (شمها، لها، عنها، فيها) نعلم أنها جميعاً تعود إلى "الخمرة" التي تنزل من نفس الشاعر منزلة لا تدانيها أخرى. وإذا هي أحق بالتقديم من سواها، فإذا تأخرت بها الرتبة النحوية فلا مناص من الانحراف عن مقتضيات "النحو" للتعبير عن مقتضيات "الإحساس" ومتى كان الشعر يذعن لمقتضيات النحو كأنما قصت خوافيه وقوادمه؟!!
وسياق النص الثالث سياق عاطفي ريان، تترقرق فيه المشاعر والانفعالات، وتملأ أرجاءه الكلمات التي ترشح منها العاطفة حتى تكاد تسيل كالقلب والبين والظعون ويوم الفراق والصبر... وتحف بهذا السياق ملامح بدوية مثقلة بالشجن (الظعون)، وملامح عذرية ريا بالعاطفة (القلب الحائم، واستعارة القلب و...)، وتتآزر هذه الأمور جميعاً للتعبير عن موقف إنساني أصيل، هو موقف الفراق بمواجعه وأحزانه، فإذا نظرنا في النص مرة أخرى رأينا الشاعر يقدم يوم البينونة ويوم الفراق (يوم بنتم، يوم الفراق)، أو قل ـ بعبارة أدق ـ يكرر تقديم يوم الفراق، فيكشف عن مكانته في نفسه، وعن شدة وطأته عليها. ويقدم الظرف المتعلق بالمفارقين (خلف الظعون يطير)، فيكشف مرة أخرى عن جزعه من هذا الفراق، وانصداع نفسه له. هل نكرر مرة أخرى: لابد من الانحراف عن مقتضيات "النحو" للتعبير عن مقتضيات "الإحساس والعاطفة"؟
ولقد آثرت حتى الآن ألا أخلط الحديث إلا في النادر اليسير الذي لا يستقيم القول بغيره، فجعلت لكل ظاهرة من ظواهر التركيب مقداراً من القول، ولكنني كنت حريصاً على أن أضم المقدار إلى أخيه، وأشد بينهما الوثائق للكشف عن مفهومين "للرؤية" في القصيدة هما زاوية الرؤية ودرجة نفاذها، أو امتدادها وعمقها. وقد بدت لنا شخصية الشاعر "شخصية بدوية بطولية مؤمنة"، أي بدا لنا أن الرؤية في القصيدة رؤية داخلية تقدم تصور الشاعر للحياة وللكون من حوله. ولئن كانت رؤيته للبداوة رؤية عاشق لها مشغوف بها، إن رؤيته للبطولة رؤية عميقة موصولة برؤيته الدينية أو مشتجرة بها، أو على حد تعبيره في سياق الفخر ببطولته: "وذا دأبنا فيه حياة لديننا..." ولعل من تمام القول أن أصل طرف هذا الحديث بمقدار من القول على "الموسيقا" في ديوان هذا الشاعر.
لقد علمنا تاريخ الشعر العربي أن التغير في الشكل تغير بطيء أو شديد البطء، فقد ظلت القصيدة العربية محافظة على شكلها الجاهلي حتى ثورة الشعر الحديث باستثناء محاولات يسيرة لم يكتب لها الذيوع والانتشار كالموشحات وغيرها. وقد أخفقت جهود طيبة كثيرة في استنباط أحكام دقيقة حول علاقة كل بحر من بحور الشعر بألوان عاطفية بأعيانها، ولكن هذه الجهود كشفت في كثير من الأحيان عن قدرة عالية على تذوق النصوص تذوقاً حاراً على مستوياتها اللفظية والتركيبية والدلالية والموسيقية معاً، وتأسيساً على ذلك سنحاول الوقوف على موسيقا شعر هذا الشاعر معتمدين على بعض المفاهيم العامة، وعلى ما يسعفنا به الذوق والخبرة.
تغن بالشعر إما أنت منشده إن الغناء لهذا الشعر مضمار
هكذا فهم الشاعر القديم تلقي الشعر العربي، ومن أجل هذا وغيره بات بأبواب القوافي يحوكها، ويقوم منآدها، وإذا كان الغناء مضماراً لهذا الشعر كان لابد أن يكون فيه مقادير من الإيقاع أو الوزن النابع من تردد زمني يمتع السامع والمنشد معاً. ولكن هذا الوزن ليس عنصراً خارجياً يضاف إلى المعنى بل هو جزء من سياق المعنى، أو بعبارة جان كوين "لا وجود للوزن إلا باعتباره علاقة بين المعنى والصوت، وهو إذا بناء صوتي معنوي"([47">). ويضيف "وإذا وجد صراع بين البحر والتركيب فإن البحر دائماً هو الذي ينتصر"([48">). والقافية عنصر مهم في موسيقا الشعر، وهي الأخرى ليست عنصراً خارجياً يضاف إلى الشعر، بل هي جزء من سياق المعنى، "ووظيفتها الحقيقية لا تظهر إلا إذا وضعت في علاقة مع المعنى"([49">)، وهي القاعدة التي يبنى عليها البيت وربما وجهت مساره. وإذا كان قطع التوازي الصوتي المعنوي عنصراً إيجابياً في الشعر، فإن القافية في الأبيات المتتابعة تنهض بهذه الوظيفة فتحدث تشابهاً في الصوت وعدم تشابه في المعنى، وتظهر مدلولات مختلفة من خلال دوال متشابهة([50">). وكلما كانت القوافي "شديدة الاتفاق فيما بينها في الصوت، وشديد الاختلاف فيما بينها في المعنى"([51">) كانت أقدر على القيام بهذه الوظيفة على نحو ما نرى في لزوميات أبي العلاء المعري مثلاً.
ويرى لوتمان "أن وقع القافية في نفسية المتلقي يرتبط مباشرة بحظها من المباغتة أو عدم التوقع، وهذا يعني أنها ذات طابع دلالي أكثر مما هي ذات طابع نطقي أو صوتي، وليس من الصعب الاقتناع بهذه الحقيقة إذا قارنا ما بين القوافي التي تعتمد على التكرار لفظاً ومعنى والقوافي التي تشترك لفظاً وتختف معنى، ففي كلتا الحالتين نرى التطابق الصوتي والإيقاعي واحداً غير أن اختلاف المعاني، بل انبتات ما بينها في حالة المشترك اللفظي يجعل القافية تبدو أكثر غنى، وأما في حالة تكرار القوافي لفظاً ومعنى فإنها تترك في النفس انطباعاً ضئيلاً، بل لا يكاد يعترف بها قوافي على الإطلاق"([52">).
وأنا أظن أن الأمير عبد القادر اعتنى بقوافيه عناية تلفت النظر، بل لعله أعنت نفسه في عدد منها انسجاماً مع روح العصر، ورغبة منه في إبراز تفوقه، فكأنما أراد ـ كما أراد عنترة من قبل ـ أن تسري دماء الفروسية في عروق الشعر، فلا ينقاد جواده الشامس إلا لفارس عركته مضائقه. ولست أريد بذلك أنه يتحامى عيوب القافية، فهذا أيسر مطالبه، ولكنني أريد ما يحمل نفسه عليه من "لزوم ما لا يلزم"، ومن قيود ثقيلة أخرى يكبل شعره بها حتى يبدو كأنما قطعت يداه من المعصمين!! وأي كبل أثقل على الشعر من أن يبني الشاعر قصيدته كاملة على كلمة واحدة بعينها تتكرر في نهاية كل بيت؟!! هاهو ذا يرد على صديق أرسل إليه قصيدة مثقلة بالمحسنات البديعية، فإذا هو يجنح إلى هذه القصيدة "الخالية" تدفعه إلى ذلك دفعاً روح العصر، والرغبة في التفوق:
خليلي وافت منكم ذات خلخال تتيه على شمس الظهيرة بالخال
تميس فتزري بالغصون تمايلا تروح وتغدو في برود من الخال
لها منطق حلو به سحر بابل رخيم الحواشي وهو أمضى من الخال([53">)
وتمضي القصيدة على هذا النحو لا تفارقه ولا تحيد عنه، فيتكرر "الدال" عينه في نهاية كل بيت، ولكن "المدلول" يختلف كلَّ مرة!! ومما لا ريب فيه أنّ القافية هنا تؤدي وظيفتها على أتم وجه، فتقطع التوازي بين الصوت والمعنى بل تبتره بترا. ولكنني ـ على الرغم من ذلك ـ لا أستملح هذا التصنيع لأنه يرفع درجة "التنبؤ" إلى درجة "اليقين"، وبذلك يلغيها، ويورث النفس قدراً من الملالة لا يدفع، ويتحول بالشعر من نشاط خلاق إلى مهارة لغوية خاملة.
وقد يخفف من وطأة هذا القيد، فيسترد الشعر بعض روحه، وينهض مرفوفاً يروض جناحيه كما نرى في هذه الأبيات:
إلى الصوت مدت تلمسان يداها ولبت فهذا حسن صوت نداها
وقد رفعت عنا الإزار فلج به وبرد فؤاداً من زلال نداها
وذا روض خديها تفتق نوره فلا ترض من زاهي الرياض عداها
ويا طالما صانت نقاب جمالها عداه وهم بين الأنام عداها([54">)
فقد حقق الجناس هنا وظيفة القافية دون أن يفسد الشعر، بل لعله منحه بعضاً من الرونق. وقد يجنح إلى "لزوم ما لا يلزم" ولكنه لا يلتزمه على امتداد القصيدة، بل يحسو منه نغبة أو أكثر ثم ينصرف عنه كما في هذه الأبيات:
تسائلني أم البنين وإنها لأعلم من تحت السماء بأحوالي
ألم تعلمي يا ربة الخدر أنني أجلي هموم القوم في يوم تجوالي
وأغشى مضيق الموت لا متهيباً وأحمي نساء الحي في يوم تهوال([55">)
ولا ريب في أن هذا السياق الذي يقترن فيه الحب بالبطولة سياق فخم جليل، وهو سياق عريق في شعر البطولة القديم (عنترة في المعلقة على التمثيل لا الحصر)، ولا ريب أيضاً في أن البحر الطويل بإيقاعاته الرصينة يلائم هذا السياق، ويزيده رصانة وجلالاً. وحقاً تقوم القافية في الأبيات المتتالية بقطع التوازي الصوتي المعنوي، ولكنها في كل بيت على حدة تؤدي وظيفة مناقضة لأنها تمثل وقفاً صوتياً ومعنوياً في آن نظراً لعدم ارتباط البيت تركيبياً بالبيت الذي يليه، وهي بتقارب عنصريها البنائيين (الصوت والمعنى) تزيد من قدرة الرسالة على التوصيل أو الإبلاغ. وهذا ملمح عريق في الشعر العربي القديم، وشعر عصر النهضة.
وقد يحرص أحياناً على المجيء في نهاية البيت بكلمتين متجانستين أو متضادتين في الدلالة، ثم يشفعه ببيت ـ أو أكثر ـ في نهايته كلمتان على وزن الكلمتين في البيت السابق، وهذا هو "التطريز" الذي تحدث عنه أبو هلال أو هو قريب منه، فيزيد بذلك موسيقا النص وفرة، ثم تأتي ألف الإطلاق فتحدث إشباعاً موسيقياً بامتداد النفس. وأكثر ما يظهر هذا الصنيع في القصائد الدينية التي نجتزىء منها هذه الأبيات تمثيلاً لا حصراً:
ـ يا ربّ يا رب يا ربّ الأنام ومن إليه مفزعنا سراً وإعلانا
يا ذا الجلال وذا الإكرام مالكنا يا حيّ يا مولياً فضلاً وإحسانا
يا ربّ أيّد بروح القدس ملجأنا عبد المجيد ولا تبقيه حيرانا([56">)
ـ الحمد لله تعظيماً وإجلالاً ما أقبل اليسر بعد العسر إقبالاً
وما أتت نفحات المسك ناسخة من المكاره أنواعاً وأشكالاً
فالله أكرمني حقاً واسعدني وحطّ عني أوزاراً وأثقالاً
قد طال ما طمحت نفسي وما ظفرت لكن لوصل أوقاتاً وآجالاً([57">)
ونحن نحس في هذين المقطعين وأشباههما توازياً إيقاعياً متكرراً يحدث بتآزره مع القافية وألف الإطلاق انسجاماً صوتياً عميق الأثر في النفس (سراً وإعلاناً، فضلاً وإحساناً// أنواعاً وأشكالاً، أوزاراً وأثقالاً، أوقاتاً وآجالاً)، ولسنا نبعد عن الحق إذا قلنا: إن هذا الانسجام الصوتي يتواءم مع الانسجام النفسي في القصيدة، ولعله نابع منه، ويكمله.
وإذا لم تكن سمعة "التضمين" في نقدنا القديم طيبة ـ وهو تعلق معنى بيت ببيت يليه ـ وكان يحسن بالشاعر أن يتحاماه، فإن نقاد الشعر المعاصرين يعدونه فضيلة حتى إن الشعراء المعاصرين قد ولعوا به وهاموا.
ويرى "جان كوين" أن في التضمين "لونا من انقطاع التوازي بين الصوت والمعنى وهو تواز يؤكد عادة قوة بناء العبارة"([58">). وأنا أعتقد أن علينا أن ننظر إلى الشعر العربي في ذاته، وألا نقيسه ببنية شعرية أخرى تحققت في سياق تاريخي اجتماعي مختلف عن السياق التاريخي الاجتماعي للشعر العربي. ولكن هذا الاعتقاد لا يحول دون النظر في شعر الآخر ونقده والإفادة منهما. وفي ضوء هذه النظرة لا أعد التضمين عيباً، ولا أعده فضيلة، ولكنني أحتكم في أمره إلى السياق، فإذا كان السياق يستدعيه أو يقبله رضيت به، وإلا فلا. وفي شعر الأمير عبد القادر مقدار غير يسير من التضمين، ولكن جله جاء في سياق وجداني عاطفي أو في سياق ديني روحاني حيث شبوب العواطف والمشاعر وتدفقها، فكأن البيت يضيق على احتواء هذا التدفق فيمتد إلى البيت التالي ويغمره كما في هذا المقطع:
أيا سامع الشكوى ويا دافع البلا ويا منقذ الغرقى ويا واسع البر
تجهت لكم وجهي بأكرم شافع محمد المبعوث للعبد والحر
لترسل لي عند الوفاة مبشرا برضوانك الأوفى وفوزي في الحشر([59">)
وليس يخفى ما في هذا المقطع من عمق العاطفة الدينية وتدفقها، ومن ضراعة الشاعر الملتاعة ولهفته الضارعة، فهل يقوى بيت واحد على النهوض بهذا العبء العاطفي الثقيل؟ لقد شكلت الأبيات جميعاً جملة كبرى واحدة ربط بين وحداتها (أبياتها) التضمين، فكشف عن وحدة الموقف النفسي وجلاها. وأرجو أن تنظر إلى جمل النداء ذات البنية الواحدة (أداة نداء أو استغاثة + منادى اسم علم مضاف إلى مفعول)، وذات الإيقاع الواحد، ولعل وحدة التركيب ووحدة الإيقاع المتكررتين أربع مرات تدلان دلالة عميقة على موقف الشاعر من ربه، فهو موقف ثابت لا يخامره الشك، ولا يعتريه التغير، ألم نقل إن الإيقاع ذو علاقة وثيقة بالمعنى؟ وانظر إلى هذه القافية (البر)، ثم قارنها بالمضاف إليه في جمال النداء السابقة تر أن هذا "البر" ينقذ من الغرق والبلاء والشكوى، فتأمل!! ألا ترى أن هذه القافية تنتمي إلى أنظمة مختلفة صوتية وإيقاعية ودلالية معاً؟ إنها ـ كما قلنا ـ ذات علاقة وثيقة بمستوى المعنى في النص. وقريب من هذا قوله:
يا سواد العين يا روح الجسد يا ربيع القلب يا نعم السند
كنت لي قرة عين وبها هام قلبي لا بمال وولد([60">)
تكرار إيقاعي يوائم هذا السياق العاطفي الصافي النقي، ويعمقه في النفس، وقافية ثرية الدلالة، فسند الإنسان هو ربيع القلب وروح الجسد وسواد العين.
وقد مر بنا في مطلع هذا البحث أنماط من التكرار شتى، ولو أعدت النظر فيها لرأيت أن شطرا غير يسير منها يشكل تكراراً إيقاعياً يمكن ربط دلالته بالسياق بيسر، ولا ضير في أن نعود إلى ضرب من هذا التكرار، ونبين دلالته:
كم نافسوا كم سارعوا كم سابقوا من سابق لفضائل وتفضل
كم حاربوا كم ضاربوا كم غالبوا أقوى العداة بكثرة وتمول
كم صابروا كم كابروا كم غادروا أعتى أعاديهم كعصف مؤكل
كم جاهدوا كم طاردوا وتجلدوا للنائبات بصارم وبمقول
إن هذا الإيقاع المتكرر لا يحتاج إلى فطنة لملاحظة صلته بسياق الحرب، وتعبيره عن أجوائها، فهو في قصره ونبرته القوية الصاخبة وتلاحقه أشبه بقرع طبول الحرب، وإذا فالإيقاع هنا ـ كما هو في مواطن أخرى ـ ذو دلالة تكمل دلالات النص الأخرى، وتكشف عن انسجام العناصر البنائية وتضافرها.
وقد يعمد الأمير عبد القادر أحياناً إلى قوافٍ ضئيلة القيمة الفنية نسبياً، وهي ضآلة ناجمة من معرفة جزء من المعنى قبل سماع القافية كما في هذا المقطع:
ليتهم إذا ملكوني أسجحوا ليتهم إذا ما عفوا أن يصفحوا
رحلوا العبس ولم أشعر بهم ليت شعري أي واد صبحوا؟
أخذوا قلبي وماذا ضرهم أن يكونوا بجميعي جنحوا؟([61">)
فالمتلقي يعرف سلفاً جزءاً من معنى القافية هو هذا الجزء الذي تدل عليه واو الجماعة، ولذا فإن حظ هذه القافية من المباغتة أو عدم التوقع ضئيل. ولكن هذا النوع من القوافي ـ كما ذكرت ـ نادر في ديوان الشاعر حتى يكاد يحسب على أصابع اليد الواحدة.
ونخلص من هذا كله إلى أن الإيقاع والقافية عنصران أصيلان في البنية الشعرية، وليسا عنصرين خارجيين مضافين إليها، وأن وظيفتهما لا تظهر إلا بالنظر إلى المستوى الموسيقي في القصيدة بوصفه بناء صوتياً معنوياً. وقد استطاع الأمير عبد القادر أن يوائم بين هذا المستوى والمستويات الأخرى في القصيدة مواءمة طيبة في جانب غير يسير من شعره.
المصادر والمراجع :
1 ـ اتجاهات البحث الأسلوبي: د/ محمد شكري عيّاد. دار العلوم/ الرياض 1985م.
2 ـ المرايا المحدّبة: د/ عبد العزيز حمودة. سلسلة عالم المعرفة/ الكويت 1998م.
3 ـ المقامات: ط1: عبد الفتاح كيليطو. ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي. دار توبقال 1993م.
4 ـ بناء لغة الشعر ط3: جان كوين. ترجمة د/ أحمد درويش. دار المعارف بمصر 1993.
5 ـ تحليل النص الشعري: يوري لوتمان. ترجمة د/ محمد فتوح أحمد. دار المعارف بمصر 1995م.
6 ـ دلائل الإعجاز: عبد القاهر الجرجاني. قرأه وعلّق عليه: محمود ومحمد شاكر. مكتبة الخانجي بالقاهرة. بلا تاريخ.
7 ـ ديوان الأمير عبد القادر الجزائري: ط1: شرح وتحقيق د/ ممدوح حقي. بلا تاريخ.
8 ـ شعرنا القديم والنقد الجديد: د/ وهب روميه. سلسلة عالم المعرفة/ الكويت 1996م.
9ـ قضايا الشعرية: يا كبسون. ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون. دار توبقال النشر 1999م.
10 ـ لغة الشعر بين جيلين: د/ إبراهيم السامرائي. دار الثقافة/ بيروت، بلا تاريخ.
11 ـ مقدمة في نظرية الأدب ط2: د/ عبد المنعم تليمة. دار العودة / بيروت 1979م.
12 ـ موقف من البنيوية: د/ محمد شكري عياد. مجلة فصول. المجلد الأول/ العدد الأول 1979م.
________________________________________
([1">) الديوان، ص92.
([2">) الديوان، ص92.
([3">) الديوان/ ص51.
([4">) أبيات ابن الدمينة:
وقد زعموا أن المحب إذا دنا يمل، وأن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا على أن قرب الدار خير من البعد
علماً أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من تهواه ليس بذي ود
وأبيات الأمير عبد القادر:
وإن قلتُ يوماً: قد تدانت ديارنا لأسلو عنهم زادني القرب أشجانا
فما القرب لي شافٍ ولا البعد نافع وفي قربنا عشق دعاني هيمانا
فيزداد شوقي كلما زادت قربه ويزداد وجدي كلما زدت عرفانا
([5">) كان حقه كلمة "رضوان" أن تكون مرفوعة، وفي ديوان الشاعر عدد غير قليل من هذه المخالفات النحوية.
([6">) الديوان، ص109.
([7">) الديوان، ص127.
([8">) الديوان، ص135.
([9">) الديوان، القصيدة السابقة.
([10">) الديوان، ص109.
([11">) تحليل النص الشعري، يوري لوتمان، 174.
([12">) دمر: ضاحية من ضواحي مدينة دمشق.
([13">) المقامات، عبد الفتاح كيليطو، ص127.
([14">) الاستطراد إلى لوحة الصيد في القصيدة الجاهلية مثلاً، انظر وهب رومية: شعرنا القديم والنقد الجديد.
([15">) الديوان، ص135، وقد أثبت محقق الديوان كلمة "سائِفها" بالقاف بدلاً من الفاء في طبعتي الديوان ولعل الذي أدخله في هذا الوهم هو ذكر الحاوي، وقد أثبتنا الصواب.
([16">) الديوان، ص22.
([17">) زهير بن أبي سلمى:
علون بأنماطٍ عتاق وكلّة ورادٍ حواشيها مشاكهة الدم
المثقب العبدي:
علونَ بكلةٍ وسدلن أخرى وثقبِّنَ الوصاوص للعيون
عمر بن أبي ربيعة:
وكنَّ إذا أبصرنني أو سمعنني سعينَ فرقعنَ الكوى بالمحاجر
([18">) الديوان، ص41.
([19">) كان حقّ هذه الكلمة النصب على الحال، ولكنه جاء بها على هذا النحو متابعة لرأي ضعيف أو مخالفة للقاعدة.
([20">) الديوان، ص162.
([21">) دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني، ص146، قرأه وعلق عليه: محمود محمد شاكر.
([22">) الديوان، ص20.
([23">) الديوان، ص40.
([24">) الديوان، ص126.
([25">) الديوان، ص65.
([26">) الديوان، ص28.
([27">) الديوان، ص40.
([28">) الديوان، ص152.
([29">) الديوان، ص 48.
([30">) الدلائل، عبد القاهر الجرجاني، 231.
([31">) بناء لغة الشعر جان كوين، انظر الباب الخامس، المستوى المعنوي: الربط.
([32">) الديوان، ص28..
([33">) الديوان، ص135.
([34">) الديوان، ص56، وقد ذكر هذه الأبيات الدكتور شوقي ضيف ونسبها إلى عبد الله المبارك، انظر كتابه: العصر العباسي، ط9: ص404.
([35">) الدلائل: عبد القاهر، 227.
([36">) الديوان، ص92.
([37">) الديوان، ص64.
([38">) الديوان، ص135.
([39">) الدلائل، الجرجاني، 106.
([40">) الدلائل الجرجاني، 108.
([41">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص215.
([42">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص222.
([43">) اتجاهات البحث الأسلوبي، شكري 37 ـ عياد.
([44">) الديوان ص126.
([45">) الديوان ص135.
([46">) الديوان ص114.
([47">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 66.
([48">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 73.
([49">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 98.
([50">) بناء لغة الشعر، جان كوين، 100.
([51">) بناء لغة الشعر، جان كوين 102.
([52">) تحليل النص الشعري: يوري لوتمان، ص92، 93.
([53">) الديوان، ص48.
([54">) الديوان، ص20.
([55">) الديوان، ص20.
([56">) الديوان، ص109، وفي البيت الثالث مخالفة نحوية، وقد ذكرت غير مرة أن في الديوان عدداً غير يسير من هذه المخالفات أو الضرائر الشعرية.
([57">) الديوان ص105.
([58">) بناء لغة الشعر، جان كوين، ص74.
([59">) الديوان، ص150.
([60">) الديوان، ص89.
([61">) الديوان، ص162.
awu-dam.org/trath/101/turath101-002.htm
[/b]