القاصة المغربية لطيفة باقا
القاص السوري د. محمد عبد الرحمن يونس
القاص المصري سعيد سالم
القاصة الكويتية ليلى عثمان
خلصت القصة القصيرة لمعالجة الواقع الإنساني، والاجتماعي وإن اختلفت في
مذاهبها الفكرية والفنية، إلا أنها تلتقي في المبادئ والأصول العامة، وفي
هذا الاتجاه نركز على مزيج من أفكار ما بعد الحداثة التي تعني: بالمواقف،
والتي تمثل الاعتبار في الرأي والذوق والفطنة، لما يطرحه الكاتب من خلال
مبادئه، وبعده الثقافي، ووعيه الدقيق للمشكلات الحياتية في مجتمعه، معتمدة
العنصر النفسي بأحواله وبياناته، وظهور الغاية من احتدام عناصر الرؤيا،
والبحث في معرفة أسبابه وحدوده ومعالجاته، في المساحة البصرية الخاصة التي
ينتج بها النص، وهذا ينطبق على الشعر والرواية كلاً بتخصصه وأسلوبه الفني
المستقل، تلك الحصيلة التقنية التي يبتغيها كل أديب، مع ما يُشاكِلُها
ويُماثِلها من وعي لغوي مكثف خالص من الشوائب، يساعد على تحليل وتصوير
حالات اللفظ ومعانيه الخالصة، عبر عناصر الإيحاء الواردة في طرق مختلفة، في
وضوح الدلالة وبعدها الايجابي، نظراً لخصوبة خيال المبدع وتنوعه الثقافي،
وفي تميزه الإبداعي الذي يخلق صوراً تتشكل ببراعة لبعض الحالات النفسية،
والأفكار المطبوعة في حواسنا، بتخصيص العامل السرمدي لتحديد الأخيلة
الاستفهامية والقياسات التعبيرية، التي تغني إنتاج أحداث الشخصيات ذات
التشاكلات العميقة، إذ نجد الكاتب يمنح حواسه لأن تنفذ إلى ما وراء الظواهر
والألوان والصنوف، فيخلق في الحكاية معاني إنسانية، هي مجسات لأصداءٍ لما
يجول في إحساسه، ويختلج في شعوره، فيلتقي بذلك مع بطله بتحديد المواقف،
التي تُقوَّمَ على أساس انسجام صلة اليقظة الإبداعية بالحدث. وهذا يتحدد في
ظهور طبيعة التعبير في الأسلوب الذي يقود إلى الدلالة والعمق، في شخصية
البطل ومسلكه ونواياه الخاصة، وهذه الحالة هي التي تخلق مقياس الناتج
الاحترافي المختلف، على أساس مقدار كميّة القيّم والمفاهيم، تلك التي تساعد
وتطور الازدهار الفني على: استيعاب الحياة الواقعية وعرضها عرضاً مؤثراً
بوسائلها الإيحائية والتصويرية المتخصصة، التي تستطيع أن تخلق بتنوعها جواً
أقرب إلى الحياة، يبلغ فيه الفن ذروته في الكشف، والتأثير، والإقناع.
ولكي تكون القصة ذات حضور دائم، وعمل مؤثر في خيال المتلقي, يجب أن تعتمد
وبحرص شديد على: اللفظ الموحي بالانسجام الفني واللغوي من جهة. والسرد
والحكاية من جهة أخرى. فهذا التناغم الحي في الإيقاع والمجانسة، يبوح
معاينة الهمس الداخلي في النص، ولصقه في خيال القارئ, ومن أهم هذه الخصائص
التي تعزز من ثقة ومكانة القصة، وتحدد خصوصيتها ومكانتها، هو علم التلاقح
الفني كونه:
أولاً: يتسم بالمهارة والمقاربة والانسجام، في كل ما
يتعلق بمادة الكتابة الأدبية، وصواب الباعث النفسي الذي يكشف عن المجهول في
الشخصية العفوية.
ثانياً: ما يتعلق بالمعنى والأحكام الفنية،
والقياسات المحددة في العام والخاص، والباطن والظاهر، وبالنتيجة فهي تتمثل
في ثقافة المواقف المتعددة الأقطاب.
سعيت لأن أجعل من هذا العلم
موضع اهتمام، ومثاراً للنقاش مع القارئ الكريم. وهذا ما تخصص في معالجاتي
للنصوص التي تناولتها في التحليل والمقارنة، في ما طرحته في أكثر من كيفية
وتعليل ومساءلة, وقد سعيت جاهداً لأن يكون هذا التوجه منهجاً، ووسيلة متممة
لإغناء العلوم النقدية وأصولها المعرفية، من خلال اختيار الأدوات اللازمة
في التخصص النقدي الحديث، والذي هو بالأساس يشكل الركيزة الأساسية لمحورية
التباين والإيضاح، لمطابقة الغرض المقصود من الوسيلة النقدية، وبواسطته
يمكننا الكشف عن متانة التركيب والبناء الصوتي، في النص المنثور في
الكتابات والسياقات الدالة على خصوبة المعاني ومتلاقيات إحساسها وبيانها,
عبر وعي يتمتع بشواهد تأتي بالفائدة على النص والمتلقي بآن، تغذي إيقاع
مادة الخيال دون تهويل, كتلك النصوص على اختلافها التي وصلتنا مشيعة
بالواقعية العفوية. فالتلاقح الذي شكل أبعاد الجملة الشعرية في الأدب
العربي الجاهلي وما بعدهُ، حمل في مضامينه قطبين مهمين:
أولهما:
الإلهام: يؤسس فراسة في الخلق، وفي ذات الوقت هو تعاطي انسجامي رياضي بين
الموهبة والفكرة، ونضوج المعاني المثلى التي تتجلى في التضحية والكرم
والمعاناة، كما هو الحال في فلسفة امرئ القيس، والمتنبي، وعروة بن الورد،
والرصافي، والجواهري، والسياب، وأميل دنقل. فالشاعر صوفي جذل الكلام
والرؤية، ومتلّقيهِ مُرِيْدٌ عاطفي.
وثانيهما: الرؤيا التجاذبية وما
ينسجم معها من خيال دلالي, وما يرمز إليها من المعاني، والإيماءات،
والإشارات، وما يصبو إلى ما يريد أن يوصله الشاعر من سياحة المناجاة،
وذائقة اللذات، بينه وبين نصه.
هذه الشهوات البلاغية التي تتلاقح
بصرياً وروحياً، تأخذ اللغة إلى دلالات جديدة في مسيرة ارتحالها إلى
عالمها الطلق الجميل، الذي يكون فيه الفنان مستلهماً ومستنبطاً أدواته من
واقعها المؤهل لمشاهداته اليومية، في ترحالاته واختلاطه مع المكونات
الناطقة وغيرها، في سير أحداثها الحياتية في السر والعلانية، والتي تفضي
إلى مشاعر الكاتب وإحساساته في بوحها وصمتها، إلهاماً موحياً له واختياراً
لتصوير محققات ملموسة، تتفاعل بحكمتها في إظهار ملامح الرؤية الواقعية
للنص، يكون الكاتب قاطف ثمار المعرفة من موجودات يراها ويتحسسها ويتفاعل
معها هو، وبهذا يكون مهيئاً لتمكين مخلوقاته من الفعل الخاص بهِ، وذلك
بتحقيق انجاز المكانة التي تقود البطل والآخرين حوله إلى الهدف، وفي ذات
الوقت يكون الكاتب مركز المعرفة في الاتصال النفسي المشاعري، بين شخوص هذه
الكائنات فيكشف عن صفاتها ومعطياتها، في كلية الكتابة التي تنسجم بالحالتين
الايجابية والسلبية المعبرة في الناس، لأنها فلسفة صناعة "العقل الكمي
والكيفي" كما عبر عنها روسو. تلك المستنبطة من قوانين الحياة، أما الرؤية
الفلسفية وتطابقها مع المكون الأدبي فيقول فيها تودوروف: " أن الأدب مثل
الفلسفة تعالج المفاجئة وتنحو نحو التجريد الذي ينتج لها صيانة قوانين عامه
".
في حين نجد القوانين الاجتماعية الحديثة طورت هذا المفهوم من
خلال انعكاس الفنون العظيمة على الواقع الحياتي المعاش، كما ثبت أرسطو
تشريع بأن: " الخطيئة هي التمرد بعينه." "وأنا أتناول الخطيئة من جانبها
الإبداعي" فلولا التمرد لما وجد فناً مغايراً، يتلاءم مع التطورات الآنية
للمجتمع وتحولاته السريعة، والذي هو المحور الأساسي الذي ينهل منه الفنان
مادته، في تعايشها الفني مع النماذج اللحظية الملتقطة من الجو المحيط،
الأكثر إثارة ومرونة وجرأة، وأكثر قدرة على الوفاء باحتياجات عطائه.
وفي هذه القصة الموسومة ب " النار تأكل أوراق اللعب1" للقاصة المغربية
لطيفة باقا، التي وجدتها تغني مبتغاة هدفي من دراستي هذه في الجوانب
اللغوية والفنية القياسية في القصة القصيرة العربية وهي: "المقاييس
والأحكام اللغوية والفنية." فالأسلوب هنا في قياس هذا العمل القصصي، ينفذ
إلى سلطان العامل النفسي المتمرد على القوانين الاجتماعية الوضعية
المتطرفة، والمواقف المحكومة بالنهج الديني القابض على حرية الاختلاف
فتقول: "أفكر أن عبد العالي يمارس أنوثته، وصفية تمارس ذكورتها، تدس أصبعها
في أنفها، تحك مابين فخذيها، وتدخن "الكيف" أمام الملأ، وعندما يبدو أنها
فهمت شيئاً مما تقوله، وراق لها، تضبط بيدها على راحة أقربنا إليها، رأيت
في الشهور الأخيرة كيف صارت زهور الشوافة تفعل مثلها، وغاظني أن يتعامى
الكبار مع بعضهم مثل الصغار، كانت صفيّة تعرف كيف تجعلنا نستلقي من الضحك
دون أن تشاركنا ذلك، ثم ننسى وجودنا حولها وتستغرق في حديث داخلي مطول."
هذا اللون الجرئ من الكتابة للأديبات العربيات مهم جداً، خاصة إذا كانت
الأديبة تلك تعيش في وسط متخلف في الغالب الأعم في تكوين عناصره
الاجتماعية، بمعزل عن النسبة المتحضرة والمتعلمة، وفئة الكتاب والفنانين
والمثقفين في ذلك المكان، وأعلم أنه لا خلاف كبير بين أديب عربي وآخر من
حيث عيشه في المجتمعات العربية المتشابهة، باستثناء لبنان البلد الحضاري
الأشبه بالبلدان الأوروبية في مناطق وجوانب عديدة، إلا فيما تقدم بعضه على
البعض الآخر في الثقافة والإبداع والتميز في امتلاك الأدوات المُحَدِثةِ،
والتجاوز على خصخصة المألوف الاجتماعي العام، لما يعني بصناعة الكلام
وتجليات الصوت الفني في حلاوة النص وهيمنته على القارئ. والأديبة المغربية
لطيفه باقا واحدة من هؤلاء الأديبات اللاتي تميزن بهذه الخاصية، في النصوص
التي تتناول جسد المرأة وممارستها الجنسية المتمردة، والعلنية منها، فهن أي
الأديبات العربيات َيَعدّنَ على الأصابع. كون الأديبة باقا حققت صفة
قائمة بإيمانها الأدبي، ومصنفاتها التي لم تمنع أفكارها من أن تبوح بما
تؤمن به، من أفكار تكشف عن الواقعية التي تعيشها، ولم تُسْكِتْ عواطفها
التي صاغتها معالجاتها الجريئة، فأكدت إقرار الحدث قيامه وبرهانه في
الاحتراف والمواجهة، في الرؤية الحوارية التي تبنتها عضواً عن ضمير البطلة،
وهذا الدلالي ألانسجامي الذي أكدته القاصة هو كشف الممارسات اليومية
بجمالها وعيوبها، وطرحها بلغة غاية في الدقة والحرفية، فالدهشة التي بينتها
لنا القاصة هي إحدى الجوانب المجهولة والمغيبة باسم العادات والتقاليد،
فهي لم تغض البصر، ولم تتخذ من الصمت هروبا إلى ما يسمى بالعقلانية، بل
أكدت الحكاية وجعلتها وسيلة للتذكير والكشف والمعالجة، وبهذا تكون القاصة:
قد اتخذت من الاستدلال بالأمور الظاهرة معاينة الحدث، وطرحه على أنه معالجة
لحالة غير مألوفة في المجتمعات العربية، مع أنها طبيعية جداُ في المجتمعات
الأوروبية، "وهذا واضح في ثقافة القاصة" كونها تمتلك مساحة أوسع من
التحرر، وخاصة في مجال حرية المرأة المنطقي منه والشاذ.
نتواصل مع
هذه الأفكار التي حاولت القاصة أن تكشف عنها، بوجوهها المختلفة فتقول:
"اكتشفت أنها لم تلتفت إليه وهو يرقص أمامنا، كانت تتابع حلقات الدخان
الكثيف بعينيها الغائرتين، كنا نضحك، لكني توقفت فجأة، أحسست بالعضلتين في
جانبي فمي تؤلماني وصرخت في أذن صفية: أنت ذكر وهو أنثى / ضحكت ودفعتني حتى
انقلبت على ظهري وهي تقول بصوت مرتفع: لقد كنت أنثى فيما مضى، لكن ذلك لم
ينفعني في شئ كما ترين / وهزت أسمالها حتى كشفت ساقيها النابضتين / أردت أن
اسألها عن تاريخ ساقيها ويديها ونهديها / لكنها تراجعت." وإذا كان الأمر
كذلك، كان الفعل الإبداعي حاضراً، فلا وجود للتكلف هنا، ولا لصناعة الخيال
الاختراعي بشئ، إنما هو تحصيل حاصل لحالة الشخصية التي أصابها اليأس
الأنثوي فتقمصت شخصية الذكر وتمسرحت في أجوائها، على اعتبار أن الذكور لهم
الحق المطلق في ما يفعلون في زمكنة الدول الإسلامية، حتى إذا كانت تلك
التصرفات والأفعال مخلة بالنظام الإنساني والأخلاقي العام، ولكن السؤال هنا
إذا حصلت الأنثى على الذكورة الحاصلة في تصرفاتها، فهل يمكن أن تقفل على
رغباتها الجنسية عندما تنام جنبا إلى جنب مع زوجها عبد العالي وتلامس
أعضاءه، هو الآخر تقمص دور الأنثى كتصرف شكلي، في ما يتفق عليه العامة
"بالتخنث": يلبس ملابس النساء ويرقص رقصهن، مع أن الحكاية أخذت جانب
المبالغة في التوهم والظنون، هذا لأن النظام الفسيولوجي في جسم الإنسان
يلعب دوراً مهماً، في تحريك التصرف الجنسي عند الرجل والمرأة لمجرد
الملامسة، فالرجل هنا تتسلل إلى روحه رائحة الأنوثة، والمرأة تثيرها
الذكورة فتنتظر الاقتراب، لتبدأ الأجنة الذكرية والأنثوية عبر إيعاز الدماغ
بتحريك وإيقاظ فعل العاطفتين معاً.
في لقطة موفقة ومهمة بلا شك
تسأل الراوية بطلتها صفية عن "نهديها" ، لما في النهدين عند المرأة من غدد
أنثوية متحفزة للإثارة من لمسة واحدة من الرجل، لتطلق فزعها الأنثوي
منسجماً مع رغبتها الحادة للمشتهى الذي يسكنها في كل لحظة، وسؤال الراوية
لطيفة عن نهدي بطلتها أرادت أن تقول لها ولنا، وماذا عن هذه الأنوثة
المشبعة خدرا في روحك ونفسك؟ وبهذه اللمسة الموفقة أرادت القاصة، أن تدلنا
إلى أن التصرفات الخارجية الظاهرة عن البطلة، إنما تقمصت الذكورة عند
صفيةً، وليس بالضرورة أن صفية أصبحت ذكراً واقعاً بأعضائها التناسلية،
وعطشها الأنثوي. إنما هو الإشباع الذاتي الجنسي عند صفية بقي ناقصاً من
لدن زوجها عبد العال، فأرادت الفحولة في فعلها وميولها الخارجية. فلنتابع
أهواء صفية وغليانها الأنثوي الباطني، والغاية من الذكورة الظاهرة على
تصرفاتها، إلى أين توصلنا، والقاصة إلى أين تأخذنا بحكايتها الجميلة: "
أفكر أنني أحب وجهها القديم وخطوط تاريخها الخاص، أحب صمتها، وضجيجها، ولا
أعلم شيئاً عن مونولوجاتها المطولة التي تنفذها داخل حلقات الدخان الكثيف."
ومحصلة هذا التلاقح بين البطلة صفية والراوية، هو الفعل وتكراراته
المتوالية، وهو أيضاً المنظور الحسي للدهشة التي تتسامى في طباع الزوجة
الذكرية، والانفعالات الصاخبة المتولدة غالبا من نتاج تكوينها الاجتماعي،
الذي تندحر فيه القيم، وتتشظّى العلاقات الإنسانية، لتصبح هدفا مرناً
للشواذ، وعدم القدرة على التحكم بالذات، وفي المقطع التالي من القصة نجد
القاصة لطيفة قد دخلت في مضمون سياق النص من الخارج، فأرادت تحرير موقفها
الذاتي من بطلتها "صفية"، وهو ضمير الراوي المعلن، فهي تضعنا في قلب الحدث،
وتكشف عن نبضها الخاص إزاء مثل هكذا إحساس: "أتخيل فيها رجلاً، رجلاً
صاعقاً، ولحظات من ضوء وموسيقى لم يستطع كل هذا العمر أن يخمد نبضها في
الذاكرة، آه يا صفية لقد مر الزمن فوق وجهك وترك آثار أقدامه اللعينة." هذه
المعالجة الذكية في إشغال الإحساس المعنوي، بصدد الاحتدام الذاتي في
السياق العام لمحورية الأنوثة الانفعالي عن قرب، قد أشاع في النفس المنافسة
مع الرجل فيما تأتي من قدرة على تأكيد الفعل وبواعثه، فهل هذا هو مطمع خاص
أم انتقام من أنوثتها؟ ولكن أنىّ لصفية أن تكشف سحر نهديها وتأثيرهما
بعيون الرجال؟ أم هي المبادئ الشخصية الشاذة التي لا تحوط صفية من عاقبة
بشيء؟
أما الخلل التقني البسيط الذي صاحب هذه القصة هو استخدام
الزمن في السياق العام للمعنى، الذي لا يتطابق مع وحدة البناء القصصي
ضمنياً، أي مع احتدام النسق الفني في وحدة السياق، لأنه يتعارض مع التناغم
الإبداعي التحليلي الذي اعتمدته القاصة، والذي أرادت منه أن يظهر علم
الشذوذ الجنسي الذي يتجاوز طبيعة خصائص العلاقات الاجتماعية، وهو سبب
النجاح الذي تحقق في هذا النص الموفق، فالحالتان الاجتماعية والفسيولوجية
تطابقتا لتجعلا من صفية تلبست الذكورة، وجعلت من زوجها عبد العالي أنثوي
الطبع، هي التي شكلت هذين المجازين، بتشبيه المراد منه على هذا السياق
النافذ في تكوين المقصود من الحكاية، على بساط هذا النمط الشاذ، ولهذا لو
لم تسقط الكاتبة في متاهات قول العامة المتوارث " فعل الزمان " وإن كان
محدوداً، لكانت هذه القصة تؤدي دوراً مؤثراً بالاتجاه الصحيح في حداثة
القصة القصيرة، وتنافسها مع بقية النصوص العربية المهمة.
من
القصص العربية المميزة، ما قدمه القاص والناقد المبدع محمد عبد الرحمن
يونس، في أسلوبه المتأني الذي يحمل الأحداث شأناً مقدساً، حسب أوضاعها
الكيفية، التي تتوزع بين السرد والفعل التخيلي، مع تحميل النص قسطاً
قليلاً من التناظر بين الضمير الراوي وبين البطلة، وهذا تنظيم دلالي في
توازن البناء العام في أساسيات متعة الحوار الغزلي، وعلى بساط هذه القصة
الموسومة "باللوتس" وهي عنوان مجموعته القصصية، دعونا نتمتع بحلاوة حكايتها
حيث يأخذنا القاص إلى: "صديقتي مليكه التي تحب الرقص والموسيقى، والتي لم
تترك منكراً ولا فاحشة إلاّ وارتكبتهما سراً وعلناً كما صرَّحت لي مراراً
بذلك، قالت: لقد عرفت أزقة المدينة بطولها وعرضها.. عرفت شتى صنوف الرجال..
من القصبة حتى الحراش حتى بوفاريك مروراً بأسطوالي حتى الأسفوديل كلهم
خانوني، ولغوا كلاباً في دمائي، وتلال جسدي.2 " إذن هو الرهان على التجاوز
على المنشور اليومي من القصة القصيرة، هذا التجاوز الذي شكل بحد ذاته
نجاحاً ومرتكزاً فكرياً في تقديم نماذج مكتملة التكوين التقني، بمقتضيات
السلامة من التوحش والرداءة، وهو أسلوب معاصر تفرد به القاص محمد عبد
الرحمن يونس بين أبناء بلده سوريا، من وعي ثمرة جهوده التي أوجبت تطوير
قناعة الآخر بأسلوبه، وبسط رؤاه إلى مساحات أوسع لمعرفة ودراية في النص،
يتأتى من خلال جرأة الكاتب وقناعته الفكرية، أن ينجب قصصاً على مستوى عالٍ
من الأهمية، ونبوغ فضاءات تطورها، وبتقديري أنّ هذا هو السبيل الأنجع
لاقتناء اللحظة المثيرة من نوابغها الأصلية، فقد تجانست هذه القصة بكلام
يشد القارئ عبر تداعيات موصولة إليه، فالنص تواصل بعمق في كثافته الفنية،
حين أجاد الكاتب إدخال عنصر الرؤية القياسية، كوسيلة للتعبير عن الأفكار
الأولى، وأحاسيسها التي تجاوزت قالب القصة التقليدي بقوله: "وتساءلت: ما
سرّ العلاقة التي تربطني بمليكة؟ بالرغم من أنّ جميع الطلبة يتهمونها
بالعاهرة والمتهتكة والقحبة والقحبونة، وكل العبارات الرنانة الفخمة ذات
الإيقاع اللساني الحاد، والتي تَطلق على كل امرأة تعلن حبها السريَّ أو
العلني؟. هل جسدها الأبيض الفارع.. أطول جسد في الجامعة، هل شعرها المنساب
المتداعي الذي يصل حتى عجيزتها.. أم عيناها الماسيتان المتألقتان حزناً
وعمقاً، العينان التي تحاصران ذاكرتي، فأغيب عن المحاضرات.. وعن الخليل بن
أحمد الفراهيدي وأبن قتيبة والجاحظ، ومحمد بن سلام الجحمي ورولان بارت،
ولوسيان غولدمان، حتى يبدو هؤلاء القريبون إلى قلبي مجرد شراع أبيض شفيف في
بحر عينيها، وذات مساء ونحن نتسكع على شواطئ سيدي فرج التي ما خلق الله
شواطئ أجمل وأشدّ سحراً منها، قلت لها: أريد أن أرى حلمة نهديك يا مليكة..
يرحم والديك." الامتياز الذي يقود الكلام إلى أفننة الفكرة، واصطحابها إلى
لغة ناضجة، في كل معاييرها الفنية والتقية، هي ذاتها التي تحصد بلاغة
الكاتب إلى منتج التمايز في فنه، ولهذا فقد ترك القاص متسعاً للقارئ أن
يكتشف ما يرمي إليه، من حرفيته في تجانس أدوات التعبير، وبسط سلطانها على
المتلقي، كونها طابقت الغرض المقصود منها، بإجادة الصورة وتأسيس وحي
التلاقي بين الكاتب والنص، من خلال التأملات والألفاظ الدائرة عبر المنطوق
والحوارات، التي دبرت أفكارها ومسلكها من التوازن الإيحائي ألغرائبي، وذلك
عبر جمع متضادات ومتلاقيات المضمون في إنجاز يظهر فائدة الخطاب اللغوي،
وعلانية شكله المنظور، من بسط السهولة في معانيها الباعثة لما تختزنه ذاكرة
الكاتب، من اختلاف في وعيه وتفاعله مع النص. وهنا نسترشد ببليغ قول
الروائي حنة مينه، حول هواجسه في التجارب الروائية العربية، وإشكالاتها من
جهة، والنضوج الحاصل في التلاقح البنائي في سيرة النص من جهة أخرى، وقيمته
الاحتمالية إذا ما قورنت بالرواية العالمية، وتناسق بعدها في تطابق شكلانية
النزاعات الداخلية المجتمعية، وما يتجاذب الذات من إحباط وما ينطوي علية
من مؤثرات سلبية جمة على الفرد، حيث يأخذنا مينه إلى منهجه القائل: " وإذا
ما قادنا هذا إلى التساؤل عن الكيفية التي أصوغ بها بطلي الروائي، وعن
النطفة التي أصنعه منها، فأنني أجيب أن كل الأجنة أدبية كانت أم بشرية، هي
من نطفة الواقع، وحين أتناول شخصاً من شخوص الحياة أو بيئة من بيئاتها،
أتناوله كأساس، كخامة لها زمانها ومكانها وعلاقتها وحداثتها، ثم يتكون
البطل وفق قانونه الخاص، دون أن أفقد سيطرتي عليه، إنني لا أعمد إلى صياغة
فكرية أبحث لها عن صياغة أدبية، بل أجدني أمام صياغات حياتية تبحث من خلالي
عن موجودات أدبية لها. 3" إذن المنحى الذي يقود الكاتب إلى التلاقي بينه
وبين بطله مستمدٌ من الواقع المعاش كما بين لنا مينة، ثم يأخذ الكاتب بطله
وفق قانونه الخاص، وبهذه الحالة نجد القصص المستمدة حالاتها من واقع الحياة
هي أقرب القصص إلى القارئ والناقد، كونها تحضي بأفضلية من رديف القصة
المبتكرة من الخيال، التي تنحو بالكاتب لتخليص قصته من شوائبها والسمو بها
ضمن حدود الممكنات الخصبة. وفكرة الاختيار تتلخص في اللقطة الحوارية
السريعة والتكثيف الفني الجميل للقصة، وتصاعد اللحظة المتوترة إلى مستوى
التنوير والانفعال الذي يعانق الفعل اللغوي على أساس:
أولا: هو البطل الفني، وهو المعني بالمناخ السردي ومعاينته.
وثانياً: هو الإرث النابض بمقتضيات المعاصرة، بتأكيد أحْكَام المألوفات، تلك التي تتبناها قياساته الخاصة.
وثالثاً: هو استدعاء ممكنات الماضي، الذي أحاط بالطقوس المسكوبة في
إناء الحاضر، في تدوين اللمسة الإبداعية في متألقات الشخصية ومتغيراتها.
ورابعا: هو أيضا الخيال الزاخر بالارتعاش المشحون بالوهج الإنساني ومصافاته.
وخير تطبيق لهذا القول, "قول الله لآدم" " لقد صورتك على صورتي بكل
دقه." وبهذا لابد من أن نضيف إلى هذا التكوين الواحد حالة الاجتماعي
الواقعي بين الكاتب واللغة ومنجزه، من خلال تناغم النظر إلى الأشياء
بالكلية، وضبط الحواس في جوانبها. وقول الله في موسى: "وأصّطَنَعْتُكَ
لِنَفسِي- طه-41" فالكتابة هي ولادة ووريث متصل بصاحبها.
أما غير
المعدود من محاسن الكتابة القصصية، في عكس ما تقدم، فالكاتب حين تختل
علاقته بالواقع يعجز عن الانسجام مع أفكار ومشاعر أبطاله، فيركن إلى الكلام
الإنشائي الرومانسي، أو المبالغ فيه، الخالي تماماً من الفعل الإبداعي،
والذوق المعمق برجفة الانفعال الأدبي، والمناجاة المنظومة الظاهرة في معاني
اللغة وصبابتها، حيث تجد الكاتب السطحي يتأمل هذه المكونات الفنية
ظاهرياً، فيسقط في المتاهة ليجرد الأشياء من صورتها الحسية، فتصبح قصته
معاني مجردة ورموزاً مشتته غير متجانسة، ومن هؤلاء الكثير، حيث أن غايتهم
الكتابة فقط، الخالية من الألفة والغاية، لأن نظرة الكاتب هنا مجردة من
الإحساس والتلميح والإبداع، الذي يميز الكاتب عن غيره من خلال عملية
الارتباط بالواقع، ومحيطه الاجتماعي، فتجده يلتقط الصورة كما هي بدون
معالجة فنية أو فكرية، فيكون الآخر أي البطل نسخة تطابق الأول أي الكاتب،
وبهذا تفقد القصة معاييرها التقنية وقيمتها الإنسانية، خاصة إذا كانت تلك
المسيرة لا ترتبط بهدف ذات أهمية اجتماعية في عمومها أو سياسيه، أو إذا
كانت في منأى عن معالجة المشكلات والجوانب النفسية عند البطل، من حيث
قياسات أفعاله وأحكام ردوده لما يختص بالخوف والمهابة، أو المحايدة
والخشية. حيث يتصور البعض من "الكتاب" الذين تخدعهم الظواهر الكتابية، أن
في ما يكتبون ذكاءً فائقاً، وفناً نادراً، قد تأثر بتجربة عظيمة، وفي هذا
دلالة واضحة على انه أمرٌ مخالف للخلق والإبداع، كونه فارغاً من الذائقة
الجمالية والاحتراف، حيث تجد من هؤلاء من يلجأ إلى الاستنساخ والتأليف
الخالي من الإحكام والإتقان.
ولهذا نحكم على هذه الشاكلة من النصوص
على أنها سردٌ ظاهرٌ بوضوح، يكون الكاتب فيها قاصداً هذا التطابق المعلن،
حيث أنه يبرر آراءه وتصوراته بالدوافع والأحوال النفسية التي تُسّخر
"الأنا" وتجعلها القرينة المثلى التي لا يتقدم عليها أي فعل، وهذه الثقة
المطلقة عند القاص قد لا تكون دائما صحيحة، إنما هو الإقناع الذاتي غير
المدعوم بالفعل الإبداعي، وهكذا تبدو القصة عند هذا الكاتب أو ذاك الواثق
من كتابته شبيهة بالسيرة الذاتية، قد تكون داكنة حزينة، أو رومانسية فارغة،
كما نرى في هذه القصة المكتوبة بقلم الكاتب المصري المعروف سعيد سالم: 4"
وفي تمام الساعة السادسة من مساء الخامس من نوفمبر 1973 تحقق يقيني ثم
تزوجنا، فتحقق للمرة الثانية، لقاء مقابل مادي كبير وافقت على العمل
كمستشار بمؤسسة دوائية عالميه، اشترطت على رئيس المؤسسة الاستعانة بزميل
كنت اعلم انه بحاجة ماسة إلى عون مادي عاجل ليواجه به أزمة طاحنة ألمت
بحياته فجأة.." هذا التماثل المعلن في الحدث الذاتي، الموغل في دلالته
الشخصية، يتعلق في أحايين كثيرة في ضعف روافد الاستمداد الفني لدى الكاتب،
وعدم قدرته على نسج الأسلوب نسجاً فنياً، يتجاوز معطيات النمط اليومي
الروتيني، والإنصاف يقتضي أن يُنظر إلى هذا الكاتب أو ذاك من خلال: قيمة
أدواته التعبيرية. والتعمق في إحساساته وبثها في روح الشخصية، التي من
المفترض أن تكونه أديباً واضحَ الملامح، متميز الطابع والأسلوب، ينفذ
بتقنيته إلى الحدث ومقياس حواس بطله، ابتداء من مراقبة شؤونه، وتمكينه من
التصرف بخصوصية ترتقي وتعلى على الآخرين باعتبار أن كل أمرٍ خارج من شأنه.
وفي قصة أخرى وفي ذات المجال يكون التطابق هنا شبه علني في " الآم رأس
الملكة 5" للكاتبة الكويتية المتميزة ليلى عثمان حيث تقول: " قاومت كسلي،
أسلمت جسدي لدش الماء البارد، اندسست في الفراش، تناولت حبتين من العلاج
بدل الواحدة، هويت بوجهي المتعب على وسادتي" وفي صورة ثانية تكاد تكون
متشابه تماماً من حيث البناء السردي الخطابي، وكأنها تعيد ذات السياق
الذاتي المماثل في الرؤية المتباينة والإحساس، دون التخلص من مأزق الأنا
ومركباتها وأوجهها، حيث تقول " فر النوم فزعاً، وحدي في الفراش الثلجي،
رائحة جسدي حريق، رائحة وسادتي رماد، قفزتُ من السرير إلى المرآة، شعري
منسدل، غرتي تكاد تدفن كل وجهي.." رغم أن هذا التكوين جاء في نهاية القصة،
فيما التكوين الأول كان في بدايتها، وهذا مستهجن حيث أن الملامح والرؤيا
الوصفية وعلائقها في الذات تعيد ذات النسيج، بجمل رومانسية غير مترابطة في
بناء قياسات ألفاظها وأحكامها الفنية: كالاستعارة، والملائمة، بينما يجب أن
تكون الفكرة مبنيةً بناءً محكماً في إطار مقياس المعاني، وما ذاك إلاّ لما
تحقق من سرد ذاتي قَلّ فيه بلوغ الغاية الإبداعية، مع أن الكاتبة ليلى
عثمان لها باع طويل في كتابة القصة القصيرة، فقد تنوعت وأبدعت في تاريخها
القصصي، ولكن رغم هذا التناسخ فأن القصة لا تخلو من تداعياتها الجميلة،
وبعض صورها الأنيقة الحالمة في خيال الأنثى الرومانسي المرهف، وطعم
مفرداتها المختارة بعناية وبجرأة مؤتلفةً في العناد، مع إن الكاتبة تنتمي
إلى مجتمع كان بالأمس القريب يعتاش على رعاة الماعز والإبل وصيد الأسماك،
وهو مازال يرضخ لعادات وتقاليد بدويه متخلفة صارمة في محيط الكاتبة، وهذا
ما تؤكده القاصة عثمان، إذ تفرد مساحة قصيرة في قصتها، لتعبر عن حزن
مشاعرها اتجاه مجتمعها الكويتي بشكل خاص، والخليجي بشكل عام، وهذا المقطع
هو القلب النابض الذي تشكل كالاستثناء، يحسن تطابق الغرض والمضمون، الذي
أرادته الكاتبة أن يكون مغيباً بفعل الخوف النفسي تطبيقاً للعقلانية
المتطرفة، مع أن الأدب وسيلة تذكير في الجوانب السلبية والايجابية، ولهذا
فعلى الكاتب أن يهمش العقلية الخائفة، ويبوح مضامين النص بكل أبعاده مبعدا
الخوف منه، مع أن الكاتبة أشارت برمزيتها إلى المفردة الموسومة "بالثعابين"
فحققت للرمز بلاغته ومنهجية أصوله، وبهذا فقد أتمت السياق واقتضت المقصود
في هذا المقطع: "هل كنت سأحدثه عن تلك الثعابين التي تسقط عدوانها الوحشي
لتقذف بثماري بالحجارة والسموم" التقاليد الكويتية والخليجية المعقدة التي
سُنّت قوانينها لتكون سجنا تقيد حرية المرأة، تحت سقف بيت، أو خلف ظلمة
سواد الحجاب، والثعابين هنا هي تلك التقاليد حيناً، وفي أحايين أخرى هم
الرجال الذين اتخذوا من تلك التقاليد حجة، لسن سلطة مطلقة تقيّد وتحجم حرية
المرأة، التي هي الشريكة في الحياة، لها الحق في التمتع بإنسانيتها مثلها
مثل الرجل، في إطلاق طاقاتها ومواهبها الفكرية من خلال سلطتها الذاتية
المشروعة. وما ضمنته الكاتبة في هذه القصة بسط الوقائع النادرة، في هذه
المعالجة الذكية التي حققتها، وكشفت عن ذلك بالبحث والنظر وتحرير الأدلة،
بالكيفية الصادقة من غير ريب أو اضطراب، وذلك في الإشارة إلى القوة الوهمية
المتمثلة بالرجل، على حساب استقلالية المرأة وحريتها الشخصية.
- قصة: النار تأكل أوراق اللعب. للقاصة المغربية: لطيفه باقا. المنشورة في 2 مجلة الآداب اللبنانية. العدد الخاص
2 - قصة اللوتس، د. القاص والباحث محمد عبد الرحمن يونس
3- أنظر حنا مينة " هواجس في التجربة الروائية ص15
4- القاص سعيد سالم: له ست مجاميع قصصية، واثنتا عشرة رواية.
5- الآم رأس الملكة: القاصة الكويتية ليلى عثمان مجلة العربي الكويتية.
[/b]