ابن المعتز (نشأته وحياته)
هو عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ، فهو من سلالة الخلفاء الإسلاميين . وينتهى نسبه إلى العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه .
وتولى أبوه أمر الخلافة بعدما أخذت منهم وهو لا يتجاوز العشرين
ولد ابن المعتز فى عام (247هـ) ، وقد نشأ فى قصور الخلفاء نشأة مترفة ناعمة ، وأكب على الأدب واللغة يأخذهما من علماء عصره الزاخر بألوان الثقافات والعلوم والآداب . فكان من أساتذته العالم اللغوى والأديب المشهور محمد بن يزيد المبرد (ت 285هـ) ،وأبو العباس أحمد بن يحيى المشهور بثعلب (ت291هـ) وأحمد بن سعيد الدمشقى (ت306هـ) وهو الذى تعهد ابن المعتز منذ الصغر.
ولم يكن عبد الله قد جاوز الثامنة أو التاسعة من عمره ، وقد نفى إلى مكة وعاش مع جدته ، وقد اطلع على الظروف التى عصفت بأبيه فانطوت نفسه على حزن عميق.
وقد تبين لأهله حينما بلغ سن الخامسة عشرة مدى نبوغه من إدمانه قراءة الكتب والرسائل ومقابلة الأعراب . وقد أنشأت له جدته مكتبة عظيمة ، كان يقضى فيها وقته إذ كان يطلع على كل أنواع المعرفة. وبموت جدته وأمه آلت إليه "دار الصراة" . وعاش ابن المعتز فى بغداد وسر من رأى فى بيئة زخرت بألوان الحضارة والثقافة ، وبيئة خاصة حافلة بألوان الترف .
وعاصر بن المعتز بعد وفاة والده أربعة من الخلفاء الراشدين هم المهتدى، والمعتمد، والمعتضد، والمكتفى.
وكان عبد الله شغوفا باللهو ، مفتونا بجارية يقال لها نشر ، وغلام يقال له نشوان. وكانت حياته مفرقة بينهما، يلهو مع هذه ، وعبث بذلك.
وكان ابن المعتز يعشق المرأة ويهيم بها. ومن الأخبار الطريفة تعلقه بمغنية قبيحة . وعندما سئل عن ذلك قال وهو يضحك:
قلبى وثاب على ذا وذا ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغى ويرحم القبح فيهواه
وكان مسرفا فى لذاته وفى حبه ولهوه وضمن لنفسه الراحة والأمن لبعده عن الحياة السياسية. ولم يكن فى أول أمره غنيا ولا ميسورا ؛ إنما كانت حاله يسيرة بسيطة.
ومن يتأمل شعره يجده يدور حول ما كان ينعم به من رأفة العيش ، وعنايته بالغزل والخمريات إذ أن شعره صورة صادقة لحياته الخاصة أولا، وحياة الطبقة المترفة ثانيا ، والاتجاهات السياسية ثالثا.
وكون حياته مترفة ترفا خالصا ، فلم تؤهله لتفكير عميق . وقد طرق فى شعره فنونا مختلفة ولكنه أنفق جهدا فيما يتصل بالوصف من ذكر الخمر ووصفها واللهو والمجون والدعابة.
أما معانيه فجميلة تتصل بنفسه وحسه؛ فهو فيها دقيق الفكرة محكم التصوير ، فخياله الشعرى واسع يستمد من صور الحياة ومظاهرها . وهو شاعر مطبوع يؤثر السهل على الغريب مع حرصه على جزالة اللفظ. وأما أسلوبه ففيه من الجيد الجزل الكثير ، وأسلوبه به رقة ، ولم يخرج عن مذهب الشعر الخالص إلا عن قاعدة واحدة هى التزام القافية كالذين كانوا من قبله. وأجمل فى شعره خلوه من الصنعة والتكلف: فكان يأخذ الأشياء التى حوله ويعبر عنها بألفاظ تدور على ألسنة الناس جميعا.
ولم يكن ابن المعتز شاعرا فحسب بل كان عالما فى الأدب والغناء بنوع خاص. وذكر من ترجموا له اثنى عشر كتابا منها : كتاب الزهر والرياض، كتاب البديع، مكاتبات الإخوان بالشعر، كتاب الجوارح والصيد...
وتمتاز كتابته بسلامة أسلوبها وجماله وإشراقه، وبسمو معانيها ودقتها، وغلبة روح الحكمة عليها، وبصدورها عن طبع متمكن من اللغة وآدابها.
وأما عقيدته فكان عربيا سنيا يكره الشعريين الذين يظهرون حب آل البيت. وقد تحدث عن الله وعظمته، وكذلك عن القرآن. وقوله عنهما إنما يدل على أن ترفه وتهتكه لم يصرفاه عن التفكير فى الله سبحانه وتعالى وتذكر نعمه.
ولم يكن ابن المعتز ينغمس فى مؤتمرات البلاط العباسى بل اختار لنفسه حياة المرفه الناعم مصاحبا للأدباء والعلماء، ومع ذلك فحينما توفى الخليفة المكتفى تولى المقتدر وتصبح أمه تدير دفة الحكم فيدبر ابن المعتز مؤامرة مع بعض الرؤساء والكتاب فى ربيع الأول سنة 296هـ ، فيخلع المقتدر ويتولى الخلافة . غير أن ذلك لم يدم له سوى يوم وليلة ، إذ أعاد المقتدرَ أصحابُه إلى كرسى الحكم . ولما اختفى ابن المعتز عرفوا مخبأه فقتلوه فى أول ربيع الثانى . وهكذا كانت نهاية ابن المعتز إذ قُتل أسوأ قتلة فلم يبق له إلا أدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرفه فى كل فن من العلوم .
مما سبق يتضح أن ابن المعتز أسير حرم عرش أبيه بعد أن حُرم العطف الأبوى فى الثامنة من عمره ، فكانت حياته مزاجا غريبا من السعادة والشقاء منذ بدايتها إلى نهايتها . وكان دوره السياسى ضئيلا . وأما دوره الأدبى والعلمى فكان أحد معالم الإبداع الرئيسية فى النظم والنثر ، وهو شاعر ملهم وأديب ممتاز.
ابن المعتز وآراؤه البلاغية
عرف ابن المعتز آراءه فى البلاغة فقال :" البلاغة هى البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام".
وحتى نعرض آراء ابن المعتز البلاغية فلا بد للرجوع إلى كتابه "البديع". و"البديع" أول كتاب فى البلاغة العربية بالمعنى الصحيح ، إذ لم يتجاوز مؤلفه دائرة البحث البلاغى ؛ ذلك أن الدراسات السابقة كانت تعرض للبلاغة مخلوطة بمسائل كثيرة تتصل بالدراسات القرآنية .
وكلمة "البديع" كانت مستعملة فى كلام العرب قبل أن يستعملها ابن المعتز وذلك
كما فى قول عدى بن زيد :
لا أنا بدع من الحوادث تعترى
رجالا غدت من بعد بؤس بأسعد
وفى القرآن الكريم أن الله سبحانه "بديع السماوات والأرض" ومعناها منشئهما ومبدئهما على غير مثال.
وكذلك استخدمها الجاحظ عندما قرر أن البديع مقصور على العرب ، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة:
أما ابن المعتز فيرجع إليه الفضل لأنه أول من جمع فنون "البديع" وسبب تأليفه "البديع" الخصومة القوية التى احتدمت بين أنصار القديم الذين يقيسون البلاغة بالمقاييس العربية الخالصة ، وأنصار الحديث الذين تأثروا بآثارالفكر اليونانى ويرونها المثل الأعلى . فصنف ابن المعتز "البديع" دفاعا عن آراء أنصار القديم سنة أربع وسبعين ومائتين.
وفى الصفحة الأولى من الكتاب يعلن ابن المعتز أنه صنفه ليدل دلالة واضحة على أن ما يكثر منه المحدثون مما يسمى بديعا موجود من قديم فى القرآن الكريم ، واللغة ، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم ، وأشعار المتقدمين.
ويؤكد ذلك بقوله:"إن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شئ من أبواب البديع". ويقول إن الشعراء المحدثين من أمثال بشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى نواس وأبى تمام أكثروا فى أشعارهم وقصدوا إليه.
ولون الثقافة فى هذا الكتاب عربى خالص من شوائب الثقافات الأخرى ومصطلح "البديع" الذى استخدمه ابن المعتز إنما هو بمدلوله العام بما يشمل كل الصور والأساليب البلاغية الطريفة. فابن المعتز يعتبر الاستعارة من البديع ، بل إنه يجعلها الباب الأول منه .ولم يأخذ "البديع" مفهومه البلاغى إلا فى أواخر القرن السابع الهجرى .
واشتمل الكتاب على خمسة فنون وهى : الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامى. ولكل منها باب مستقل أورد فيه كثيرا من الشواهد والأمثلة من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الصحابة وأشعار المتقدمين ، وفى ختام كل باب يذكر الشواهد غير الجيدة للفن الذى يتكلم عنه.
وبعد أن تكلم عن هذه الفنون الخمسة ذكر ابن المعتز كلاما نفهم منه أن الكتاب تم ، لكنه لا يلبث أن يقول :"ونحن الآن نذكر بعض محاسن الكلام والشعر ومحاسنها كثيرة ......" .
وذكر من محاسن الكلام ثلاثة عشر فنا وهى الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج من معنى إلى معنى ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وتجاهل العارف ، والهزل يراد به الجد ، وحسن التضمين ، والتعريض ، والكناية، والإفراط فى الصفة ، وحسن التشبيه ، وإعنات الشاعر نفسه فى القوافى وتكلفه من ذلك ما ليس له.
ومما سبق نفهم أن ابن المعتز بعدما ختم الكلام عن فنون البديع قد تطرق إلى فنون سماها محاسن الكلام فما الفرق بين هذه وتلك؟
نقول إن ابن المعتز ألف الكتاب على مرحلتين – وهذا ما نفهمه من كلام للدكتور بدوى طبانة – وقد أحصى فنون البديع فى المرحلة الأولى ، ولعله بعد أن سمع اعتراضا من النقاد والمتتبعين عليها ، أقرهم على دعواهم بقصر البديع ، وكتب بقية المحسنات فى المرحلة الثانية . وسوف نعرض – إن شاء الله – لكل فن من فنون البديع ومحاسن الكلام.
وأول فن هو الاستعارة:
عرفها فقال : "هى استعارة الكلمة لشئ لم يعرف بها من شئ عرف بها"
كقوله تعالى: "هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ،
وقوله تعالى: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة"
وقوله تعالى : "واشتعل الرأس شيبا"
وختم كلامه فيها بذكر المعيب منها كقول حبيب بن أوس الطائى :
فضربت الشتاء فى أخدعيه
ضربة غادرته عودا ركوبا
ويتضح من كلامه عن الاستعارة أنها قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة .
ثم انتقل إلى الكلام عن التجنيس فى الباب الثانى :
فقال: هو أن تجئ الكلمة تجانس أخرى فى بيت شعر وكلام ومجانستها لها أن تشبهها فى تأليف حروفها على السبيل الذى ألف الأصمعى كتاب الأجناس عليه . وقال الخليل :"الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعروض والنحو"
والتجنيس قد يكون عبث لفظى كقول الشاعر :"يوم خلجت على الخليج نفوسهم:
وإما لعب بالمعانى ومهارة فى استخدام المفردات كقوله تعالى:"وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"
وأنهى الكلام عن التجنيس بذكر المعيب منه كقول منصور بن الفرج
إن كان يوما صائرا لمنية
إلفا فيوم تفرق الإلفين
أما الفن الثالث فهو المطابقة:
نقل فيه كلام الخليل بن أحمد :"طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على خد واحد" ومـــثاله قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع"
وأما المطابقة فلا تخرج عن مجرد مقابلات بين المعانى ويلاحظ أن ابن المعتز قد تأثر بالأصمعى الاذى يعد أول من تكلم فى المطابقة
وأنهى كلامه بذكر المعيب منها كقول الشاعر
قلت المقام وناعب قال النوى
فعصيت أمرى والمطاع غراب
أما الفن الرابع فهو رد أعجاز الكلام على ما تقدمها
ولم يضع له ابن المعتز تعريفا محددا ولكنه قسمه ثلاثة أقسام:
أ. ما يوافق آخر كلمة فيه آخر كلمة فى نصفه الأول:
كقول الشاعر
تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما
فى جيش رأى لا يفل عرمرم
ب. ما يوافق آخر كلمة منه أول كلمة فى نصفه الأول:
كقول الشاعر:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه
وليس إلى داعى الندى بسريع
ت. ما يوافق آخر كلمة من البيت بعض ما فيه أو بعض ما فى حشوه.
كقول الشاعر :
عميد بنى سليم أقصدته
سهام الموت وهى لها سهام
ومنه قوله تعالى :" انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا)
ويختم كلامه فى هذا الباب بذكر المعيب منه:
كقول المنصور بن الفرج:
زرناك شوقا ولو أن النوى نشرت
بسط الملا بيننا بعدا لزرناك
الفن الخامس : المذهب الكلامى:
والذى سماه هو الجاحظ . ولم يحاول ابن المعتز تعريفه ، وكل ما فعله أنه ذكر بعض الأمثلة والشواهد كقول إبراهيم بن العباس:
وعلمتنى كيف الهوى وجهلته
وعلمكم صبرى على ظلمكم ظلمى
واعلم مالى عندكم فيميل بى
هواى إلى جهلى فأعرض عن حلمى
ولعل ابن المعتز والجاحظ كانا يريدان به مذهب المتكلمين العقلى فى الاحتجاج والجدل والاستدلال والتماس العلل. "فالمذهب الكلامى" نوع من الجدل العقلى ، والقدرة على توليد المعانى ، والدقة فى المفاراقات" .
وأنهى ابن المعتز الباب بذكر المعيب منه كقول العلوى الكوفى :
أشكو إلى الله قلبا لو كحلت به
عينيك لاكتملت من حره بدم
وبعد أن انتهى ابن المعتز من الكلام على الفنون الخمسة الأساسية تكلم عما سماه محاسن الكلام
المحسن الأول : الالتفات :
قال ابن المعتز : "هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك ، ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر"
ونفهم أن الالتفات عنده ثلاثة أنواع:
أ. ينصرف فيه المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار
كقوله تعالى: " حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم"
ب. ينصرف فيه المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة:
كقول جرير بن عطية :
طرب الحمام بذى الآراك فشاقنى
لا زلت فى غلل وأيك ناضر
ت. نوع ينصرف فيه المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر :
كقول الطائى :
وأنجدتم من بعد إتهام داركم
فيادمع أنجدنى على ساكنى نجد
المحسن الثانى: اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يتم معناه ثم يعود غليه فيتممه فى بيت واحد:
مثل له بقول كثير عزة :
لو أن الباخلين - وأنت منهم -
رأوك تعلموا منك المطالا
المحسن الثالث : الرجوع : حده بقوله :" أن يقول الشاعر شيئا ويرجع عنه
كقول بشار
نبئت فاضح أمه يعاتبنى
عند الأمير وهل عليه أمير
وقد عده البلاغيون فنا من فنون البديع المعنوى
المحسن الرابع: حسن الخروج من معنى إلى معنى :
وابن المعتز لم يعرفه :ومثل له بقول الطائى :
لا والذى هو عالم أن النوى
صبر وأن أبال الحسين كريم
المحسن الخامس: تأكيد المدح بما يشبه الذم :
كقول النابغة الذبيانى :
فتى كملت أخلاقه غير أنه
جواد فما يبقى من المال باقيا
وهذا الفن سماه بعض البلاغيين من بعده الاستثناء.
المحسن السادس : تجاهل العارف
كقول زهير بن أبى سلمى :
وما أدرى – وسوف إخال أدرى -
أقوم آل حــصـــــــــــن أم نــــساء
ويبدو أن هذا الفن ضرب من مزج الشك باليقين ، يأتى به الشاعر أو الكاتب ليزيد الكلام تأكيدا
المحسن السابع : الهزل الذى يراد به الجد
كقول أبى العتاهية يهجو هازئا :
أرقيك أرقيك باسم الله أرقيكا
من بخل نفس لعل الله يشفيكا
ما سلم نفسك إلا من يتاركها
وما عدوك إلا من يرجيكا
المحسن الثامن : حسن التضمين . ولم يعرفه ابن المعتز وإنما اكتفى بالتمثيل له فقط، وهو استعارة الشاعر الأبيات وأنصافها أو بعض الألفاظ فى حشوها من شعر غيره ، وإدخالها فى أبيات قصيدته ، كما فى قول الشاعر :
ولقد سما للخرمى فلم يقل
بعد الوغى لكن تضايق مقدمى
فكلمة " لكن تضايق مقدمى" استعارها الشاعر من عنترة إذ يقول :
إذ يتقون بى الأسنة لم أخم
عنها ولكن تضايق مقدمى
والمحسن التاسع : التعريض والكناية:
ومثل له بأمثلة كثيرة من النثر والنظم منها قول بشار :
وإذا ما التقى ابن أعيا وبكر
زاد فى ذا شبر وفى ذاك شبر
أراد أنهما يتبادلان ، وأن كل منهما يحن إلى صاحبه حنين الحليلة لبعلها .
ويلاحظ أن ابن المعتز ون لم يعرّف الكناية فقد فهم معناها وهو أن يكنى عن الشئ ويعرض به ولا يصرح . ويلاحظ كذلك أنه جعلها من فنون البديع وأن البلاغيين المتأخرين قد جعلوها من مباحث علم البيان . وكذلك لم يطل ابن المعتز فى الحديث عنها.
المحسن العاشر : الإفراط فى الصفة :
مثل ابن المعتز لها بقول إبراهيم بن عباس الصولى :
يا أخا لم أر فى الناس خلاّ
مثله أسرع هجرا ووصلا
كنت لى فى صدر يومى صديقا
فعلى عهدك أمسيت أم لا
فقد اكتفى بالتمثيل دون التعريف ولكن يفهم من أمثلته أن الإفراط فى الصفة يأتى عنده على ضربين : ضرب فيه ملاحة وقبول ؛ وضرب آخر فيه إسراف وخروج بالصفة عن حد القبول.
المحسن الحادى عشر : حسن التشبيه :
ومثل له بأمثلة وشواهد كثيرة منها قول امرئ القيس :
ومشدودة السك موضونة
تضاءل في الطِىّ كالمبرد
تفيض على المرء أردانها
كفيض الأتى على الجدجد
فقد شبه الدرع بالأتى فى بياضها وسبوغها ، لأنها تعم الجسد كما يعم الأتى الجدجد إذا تفجر منه
ومن عجائب التشبيه عنده قول عدى بن الرقاع
تزجى أغن كأن إبرة روقه
قلم أصاب من الدواة مدادها
ومن التشبيه الحسن عنده قول الشاعر
يخفى الزجاجة لونها فكأنها
فى الكف قائمة بغير إناء
وإنا لنجد أن ابن المعتز يكتفى بإيراد أمثلة كثيرة لنوعين من التشبيه فى رأيه تشبيه عجيب وتشبيه حسن . هذا فضلا عن أنه جعل التشبيه أحد فنون البديع
المحسن الثانى عشر : إعنات الشاعر نفسه فى القوافى وتكلفه من ذلك ما ليس له:
ومثل له بأمثلة كثيرة منها قول الشاعر :
يقولون فى البستان للعين لذة
وفى الخمر والماء الذى غير آسن
فإن شئت أن تلقى المحاسن كلها
ففى وجه من تهوى جميع المحاسن
فالشاعر قد التزم السين قبل النون
ويلاحظ أن ابن المعتز قد أراد بهذا المحسن ما اصطلح عليه باسم"لزوم ما لا يلزم" وهو ألا يكتفى الشاعر فى قصيدته أو مقطوعته بروى واحد ، بل يضيف إليه التزام الحرف السابق له
وأبو العلاء المعرى هو من ألف ديوان "اللزوميات" الذى شغل نفسه فيه بعقد ولوازم غريبة ، وصعب على نفسه الممرات إلى شعره.
"ولا أدرى كيف جعل ابن المعتز هذ الفن محسنا من محسنات الكلام؟! وقد أنكره بعض البلاغيين كابن سنان الخفاجى(ت466هـ)
أما المحسن الثالث عشر فهو حسن الابتداءات
ومثل ابن المعتز له بقول النابغة :
كلينى لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطئ الكواكب
وهذا أحسن ابتداءات الجاهلية
وقول بعض المحدثين :
كأن الواتى قلن لى أتسير
غصون رمال فوقهن بدور
فالشاعر يجب عليه أن يحسن ابتداءاته ، ويتجنبالألفاظ والمعانى التى يتطير منها،ويستشنع سماعها ."وإذا كان الابتداء حسنا بديعيا ، ومليحا رشيقا ، كان داعية إلى الاستماع لما يجئ بعده من الكلام . ولهذا المعنى يقول الله عز وجل آلم . وحم ، وطس،طسم ، كهيعص فيقرع أسماعهم بشئ بديع ليس لهم بمثله عهد ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده والله أعلم بكتابه. ولذلك جعل أكثر الابتداءات بالحمد لله ، لأن النفوس تتشوق للثناء على الله فهو داعية إلى الاستماع ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كل كلام لم يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أبتر"
وبهذا المحسن – حسن الابتداءات – ينهى ابن المعتز كتابه"البديع"
ويلاحظ أن ابن المعتز لم يتوسع فى الكلام عن هذه المحسنات كما فعل مع الفنون الخمسة الأساسية ، واكتفى بالتمثيل لها دون ذكر للمعيب منها إلا أنه حرص أن يستشهد عليها من كلام القدماء والمحدثين
وعلى الرغم من أن ثقافة "البديع" عربية خالصة إلا أن الدكتور محمد مندور يقرر أن ابن المعتز أخذ بعض مصطلحاته من كتاب "الخطابة" لأرسطو الذى ترجمه حنين بن إسحق (ت 296هـ) ثم يقول "فهذا لم يسلب ابن المعتز فضله وذلك لأنه لم يأخذ عن أرسطو إلا مجرد التوجيه العام،..... "
والواقع أن الفنون التى تكلم عنها الدكتور محمد مندور أن ابن المعتز أخذها عن أرسطو قد تكلم فيها الأصمعى والجاحظ ولا شك أنه تأثر بهما ونقل عنهما صراحة كما فعل فى الجنيس.
وكتاب البديع يعد بلا شك محاولة علمية جادة تأثر بها البلاغيون من بعده وهو كتاب فى البلاغة يوضح فنونها . وهذا الكتاب يعد أول كتاب بلاغى خالص جمع فيه صاحبه كل الفنون البلاغية المعروفة حينئذ وأضاف إليها من اختراعاته ، مع حشد مجموعة كبيرة من الأمثلة الجيدة للفنون التى عرض لها.
هو عبد الله بن المعتز بن المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ، فهو من سلالة الخلفاء الإسلاميين . وينتهى نسبه إلى العباس بن عبد المطلب رضى الله عنه .
وتولى أبوه أمر الخلافة بعدما أخذت منهم وهو لا يتجاوز العشرين
ولد ابن المعتز فى عام (247هـ) ، وقد نشأ فى قصور الخلفاء نشأة مترفة ناعمة ، وأكب على الأدب واللغة يأخذهما من علماء عصره الزاخر بألوان الثقافات والعلوم والآداب . فكان من أساتذته العالم اللغوى والأديب المشهور محمد بن يزيد المبرد (ت 285هـ) ،وأبو العباس أحمد بن يحيى المشهور بثعلب (ت291هـ) وأحمد بن سعيد الدمشقى (ت306هـ) وهو الذى تعهد ابن المعتز منذ الصغر.
ولم يكن عبد الله قد جاوز الثامنة أو التاسعة من عمره ، وقد نفى إلى مكة وعاش مع جدته ، وقد اطلع على الظروف التى عصفت بأبيه فانطوت نفسه على حزن عميق.
وقد تبين لأهله حينما بلغ سن الخامسة عشرة مدى نبوغه من إدمانه قراءة الكتب والرسائل ومقابلة الأعراب . وقد أنشأت له جدته مكتبة عظيمة ، كان يقضى فيها وقته إذ كان يطلع على كل أنواع المعرفة. وبموت جدته وأمه آلت إليه "دار الصراة" . وعاش ابن المعتز فى بغداد وسر من رأى فى بيئة زخرت بألوان الحضارة والثقافة ، وبيئة خاصة حافلة بألوان الترف .
وعاصر بن المعتز بعد وفاة والده أربعة من الخلفاء الراشدين هم المهتدى، والمعتمد، والمعتضد، والمكتفى.
وكان عبد الله شغوفا باللهو ، مفتونا بجارية يقال لها نشر ، وغلام يقال له نشوان. وكانت حياته مفرقة بينهما، يلهو مع هذه ، وعبث بذلك.
وكان ابن المعتز يعشق المرأة ويهيم بها. ومن الأخبار الطريفة تعلقه بمغنية قبيحة . وعندما سئل عن ذلك قال وهو يضحك:
قلبى وثاب على ذا وذا ليس يرى شيئا فيأباه
يهيم بالحسن كما ينبغى ويرحم القبح فيهواه
وكان مسرفا فى لذاته وفى حبه ولهوه وضمن لنفسه الراحة والأمن لبعده عن الحياة السياسية. ولم يكن فى أول أمره غنيا ولا ميسورا ؛ إنما كانت حاله يسيرة بسيطة.
ومن يتأمل شعره يجده يدور حول ما كان ينعم به من رأفة العيش ، وعنايته بالغزل والخمريات إذ أن شعره صورة صادقة لحياته الخاصة أولا، وحياة الطبقة المترفة ثانيا ، والاتجاهات السياسية ثالثا.
وكون حياته مترفة ترفا خالصا ، فلم تؤهله لتفكير عميق . وقد طرق فى شعره فنونا مختلفة ولكنه أنفق جهدا فيما يتصل بالوصف من ذكر الخمر ووصفها واللهو والمجون والدعابة.
أما معانيه فجميلة تتصل بنفسه وحسه؛ فهو فيها دقيق الفكرة محكم التصوير ، فخياله الشعرى واسع يستمد من صور الحياة ومظاهرها . وهو شاعر مطبوع يؤثر السهل على الغريب مع حرصه على جزالة اللفظ. وأما أسلوبه ففيه من الجيد الجزل الكثير ، وأسلوبه به رقة ، ولم يخرج عن مذهب الشعر الخالص إلا عن قاعدة واحدة هى التزام القافية كالذين كانوا من قبله. وأجمل فى شعره خلوه من الصنعة والتكلف: فكان يأخذ الأشياء التى حوله ويعبر عنها بألفاظ تدور على ألسنة الناس جميعا.
ولم يكن ابن المعتز شاعرا فحسب بل كان عالما فى الأدب والغناء بنوع خاص. وذكر من ترجموا له اثنى عشر كتابا منها : كتاب الزهر والرياض، كتاب البديع، مكاتبات الإخوان بالشعر، كتاب الجوارح والصيد...
وتمتاز كتابته بسلامة أسلوبها وجماله وإشراقه، وبسمو معانيها ودقتها، وغلبة روح الحكمة عليها، وبصدورها عن طبع متمكن من اللغة وآدابها.
وأما عقيدته فكان عربيا سنيا يكره الشعريين الذين يظهرون حب آل البيت. وقد تحدث عن الله وعظمته، وكذلك عن القرآن. وقوله عنهما إنما يدل على أن ترفه وتهتكه لم يصرفاه عن التفكير فى الله سبحانه وتعالى وتذكر نعمه.
ولم يكن ابن المعتز ينغمس فى مؤتمرات البلاط العباسى بل اختار لنفسه حياة المرفه الناعم مصاحبا للأدباء والعلماء، ومع ذلك فحينما توفى الخليفة المكتفى تولى المقتدر وتصبح أمه تدير دفة الحكم فيدبر ابن المعتز مؤامرة مع بعض الرؤساء والكتاب فى ربيع الأول سنة 296هـ ، فيخلع المقتدر ويتولى الخلافة . غير أن ذلك لم يدم له سوى يوم وليلة ، إذ أعاد المقتدرَ أصحابُه إلى كرسى الحكم . ولما اختفى ابن المعتز عرفوا مخبأه فقتلوه فى أول ربيع الثانى . وهكذا كانت نهاية ابن المعتز إذ قُتل أسوأ قتلة فلم يبق له إلا أدبه وشعره وفضله وحسن أخباره وتصرفه فى كل فن من العلوم .
مما سبق يتضح أن ابن المعتز أسير حرم عرش أبيه بعد أن حُرم العطف الأبوى فى الثامنة من عمره ، فكانت حياته مزاجا غريبا من السعادة والشقاء منذ بدايتها إلى نهايتها . وكان دوره السياسى ضئيلا . وأما دوره الأدبى والعلمى فكان أحد معالم الإبداع الرئيسية فى النظم والنثر ، وهو شاعر ملهم وأديب ممتاز.
ابن المعتز وآراؤه البلاغية
عرف ابن المعتز آراءه فى البلاغة فقال :" البلاغة هى البلوغ إلى المعنى ولم يطل سفر الكلام".
وحتى نعرض آراء ابن المعتز البلاغية فلا بد للرجوع إلى كتابه "البديع". و"البديع" أول كتاب فى البلاغة العربية بالمعنى الصحيح ، إذ لم يتجاوز مؤلفه دائرة البحث البلاغى ؛ ذلك أن الدراسات السابقة كانت تعرض للبلاغة مخلوطة بمسائل كثيرة تتصل بالدراسات القرآنية .
وكلمة "البديع" كانت مستعملة فى كلام العرب قبل أن يستعملها ابن المعتز وذلك
كما فى قول عدى بن زيد :
لا أنا بدع من الحوادث تعترى
رجالا غدت من بعد بؤس بأسعد
وفى القرآن الكريم أن الله سبحانه "بديع السماوات والأرض" ومعناها منشئهما ومبدئهما على غير مثال.
وكذلك استخدمها الجاحظ عندما قرر أن البديع مقصور على العرب ، ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة:
أما ابن المعتز فيرجع إليه الفضل لأنه أول من جمع فنون "البديع" وسبب تأليفه "البديع" الخصومة القوية التى احتدمت بين أنصار القديم الذين يقيسون البلاغة بالمقاييس العربية الخالصة ، وأنصار الحديث الذين تأثروا بآثارالفكر اليونانى ويرونها المثل الأعلى . فصنف ابن المعتز "البديع" دفاعا عن آراء أنصار القديم سنة أربع وسبعين ومائتين.
وفى الصفحة الأولى من الكتاب يعلن ابن المعتز أنه صنفه ليدل دلالة واضحة على أن ما يكثر منه المحدثون مما يسمى بديعا موجود من قديم فى القرآن الكريم ، واللغة ، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم ، وأشعار المتقدمين.
ويؤكد ذلك بقوله:"إن المحدثين لم يسبقوا المتقدمين إلى شئ من أبواب البديع". ويقول إن الشعراء المحدثين من أمثال بشار بن برد ومسلم بن الوليد وأبى نواس وأبى تمام أكثروا فى أشعارهم وقصدوا إليه.
ولون الثقافة فى هذا الكتاب عربى خالص من شوائب الثقافات الأخرى ومصطلح "البديع" الذى استخدمه ابن المعتز إنما هو بمدلوله العام بما يشمل كل الصور والأساليب البلاغية الطريفة. فابن المعتز يعتبر الاستعارة من البديع ، بل إنه يجعلها الباب الأول منه .ولم يأخذ "البديع" مفهومه البلاغى إلا فى أواخر القرن السابع الهجرى .
واشتمل الكتاب على خمسة فنون وهى : الاستعارة والتجنيس والمطابقة ورد أعجاز الكلام على ما تقدمها والمذهب الكلامى. ولكل منها باب مستقل أورد فيه كثيرا من الشواهد والأمثلة من القرآن الكريم والحديث الشريف وأقوال الصحابة وأشعار المتقدمين ، وفى ختام كل باب يذكر الشواهد غير الجيدة للفن الذى يتكلم عنه.
وبعد أن تكلم عن هذه الفنون الخمسة ذكر ابن المعتز كلاما نفهم منه أن الكتاب تم ، لكنه لا يلبث أن يقول :"ونحن الآن نذكر بعض محاسن الكلام والشعر ومحاسنها كثيرة ......" .
وذكر من محاسن الكلام ثلاثة عشر فنا وهى الالتفات والاعتراض والرجوع وحسن الخروج من معنى إلى معنى ، وتأكيد المدح بما يشبه الذم ، وتجاهل العارف ، والهزل يراد به الجد ، وحسن التضمين ، والتعريض ، والكناية، والإفراط فى الصفة ، وحسن التشبيه ، وإعنات الشاعر نفسه فى القوافى وتكلفه من ذلك ما ليس له.
ومما سبق نفهم أن ابن المعتز بعدما ختم الكلام عن فنون البديع قد تطرق إلى فنون سماها محاسن الكلام فما الفرق بين هذه وتلك؟
نقول إن ابن المعتز ألف الكتاب على مرحلتين – وهذا ما نفهمه من كلام للدكتور بدوى طبانة – وقد أحصى فنون البديع فى المرحلة الأولى ، ولعله بعد أن سمع اعتراضا من النقاد والمتتبعين عليها ، أقرهم على دعواهم بقصر البديع ، وكتب بقية المحسنات فى المرحلة الثانية . وسوف نعرض – إن شاء الله – لكل فن من فنون البديع ومحاسن الكلام.
وأول فن هو الاستعارة:
عرفها فقال : "هى استعارة الكلمة لشئ لم يعرف بها من شئ عرف بها"
كقوله تعالى: "هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " ،
وقوله تعالى: "واخفض لهما جناح الذل من الرحمة"
وقوله تعالى : "واشتعل الرأس شيبا"
وختم كلامه فيها بذكر المعيب منها كقول حبيب بن أوس الطائى :
فضربت الشتاء فى أخدعيه
ضربة غادرته عودا ركوبا
ويتضح من كلامه عن الاستعارة أنها قد تكون حسنة وقد تكون قبيحة .
ثم انتقل إلى الكلام عن التجنيس فى الباب الثانى :
فقال: هو أن تجئ الكلمة تجانس أخرى فى بيت شعر وكلام ومجانستها لها أن تشبهها فى تأليف حروفها على السبيل الذى ألف الأصمعى كتاب الأجناس عليه . وقال الخليل :"الجنس لكل ضرب من الناس والطير والعروض والنحو"
والتجنيس قد يكون عبث لفظى كقول الشاعر :"يوم خلجت على الخليج نفوسهم:
وإما لعب بالمعانى ومهارة فى استخدام المفردات كقوله تعالى:"وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"
وأنهى الكلام عن التجنيس بذكر المعيب منه كقول منصور بن الفرج
إن كان يوما صائرا لمنية
إلفا فيوم تفرق الإلفين
أما الفن الثالث فهو المطابقة:
نقل فيه كلام الخليل بن أحمد :"طابقت بين الشيئين إذا جمعتهما على خد واحد" ومـــثاله قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار "إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع"
وأما المطابقة فلا تخرج عن مجرد مقابلات بين المعانى ويلاحظ أن ابن المعتز قد تأثر بالأصمعى الاذى يعد أول من تكلم فى المطابقة
وأنهى كلامه بذكر المعيب منها كقول الشاعر
قلت المقام وناعب قال النوى
فعصيت أمرى والمطاع غراب
أما الفن الرابع فهو رد أعجاز الكلام على ما تقدمها
ولم يضع له ابن المعتز تعريفا محددا ولكنه قسمه ثلاثة أقسام:
أ. ما يوافق آخر كلمة فيه آخر كلمة فى نصفه الأول:
كقول الشاعر
تلقى إذا ما الأمر كان عرمرما
فى جيش رأى لا يفل عرمرم
ب. ما يوافق آخر كلمة منه أول كلمة فى نصفه الأول:
كقول الشاعر:
سريع إلى ابن العم يشتم عرضه
وليس إلى داعى الندى بسريع
ت. ما يوافق آخر كلمة من البيت بعض ما فيه أو بعض ما فى حشوه.
كقول الشاعر :
عميد بنى سليم أقصدته
سهام الموت وهى لها سهام
ومنه قوله تعالى :" انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض ، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا)
ويختم كلامه فى هذا الباب بذكر المعيب منه:
كقول المنصور بن الفرج:
زرناك شوقا ولو أن النوى نشرت
بسط الملا بيننا بعدا لزرناك
الفن الخامس : المذهب الكلامى:
والذى سماه هو الجاحظ . ولم يحاول ابن المعتز تعريفه ، وكل ما فعله أنه ذكر بعض الأمثلة والشواهد كقول إبراهيم بن العباس:
وعلمتنى كيف الهوى وجهلته
وعلمكم صبرى على ظلمكم ظلمى
واعلم مالى عندكم فيميل بى
هواى إلى جهلى فأعرض عن حلمى
ولعل ابن المعتز والجاحظ كانا يريدان به مذهب المتكلمين العقلى فى الاحتجاج والجدل والاستدلال والتماس العلل. "فالمذهب الكلامى" نوع من الجدل العقلى ، والقدرة على توليد المعانى ، والدقة فى المفاراقات" .
وأنهى ابن المعتز الباب بذكر المعيب منه كقول العلوى الكوفى :
أشكو إلى الله قلبا لو كحلت به
عينيك لاكتملت من حره بدم
وبعد أن انتهى ابن المعتز من الكلام على الفنون الخمسة الأساسية تكلم عما سماه محاسن الكلام
المحسن الأول : الالتفات :
قال ابن المعتز : "هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك ، ومن الالتفات الانصراف عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر"
ونفهم أن الالتفات عنده ثلاثة أنواع:
أ. ينصرف فيه المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار
كقوله تعالى: " حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم"
ب. ينصرف فيه المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة:
كقول جرير بن عطية :
طرب الحمام بذى الآراك فشاقنى
لا زلت فى غلل وأيك ناضر
ت. نوع ينصرف فيه المتكلم عن معنى يكون فيه إلى معنى آخر :
كقول الطائى :
وأنجدتم من بعد إتهام داركم
فيادمع أنجدنى على ساكنى نجد
المحسن الثانى: اعتراض كلام فى كلام لم يتم معناه، ثم يتم معناه ثم يعود غليه فيتممه فى بيت واحد:
مثل له بقول كثير عزة :
لو أن الباخلين - وأنت منهم -
رأوك تعلموا منك المطالا
المحسن الثالث : الرجوع : حده بقوله :" أن يقول الشاعر شيئا ويرجع عنه
كقول بشار
نبئت فاضح أمه يعاتبنى
عند الأمير وهل عليه أمير
وقد عده البلاغيون فنا من فنون البديع المعنوى
المحسن الرابع: حسن الخروج من معنى إلى معنى :
وابن المعتز لم يعرفه :ومثل له بقول الطائى :
لا والذى هو عالم أن النوى
صبر وأن أبال الحسين كريم
المحسن الخامس: تأكيد المدح بما يشبه الذم :
كقول النابغة الذبيانى :
فتى كملت أخلاقه غير أنه
جواد فما يبقى من المال باقيا
وهذا الفن سماه بعض البلاغيين من بعده الاستثناء.
المحسن السادس : تجاهل العارف
كقول زهير بن أبى سلمى :
وما أدرى – وسوف إخال أدرى -
أقوم آل حــصـــــــــــن أم نــــساء
ويبدو أن هذا الفن ضرب من مزج الشك باليقين ، يأتى به الشاعر أو الكاتب ليزيد الكلام تأكيدا
المحسن السابع : الهزل الذى يراد به الجد
كقول أبى العتاهية يهجو هازئا :
أرقيك أرقيك باسم الله أرقيكا
من بخل نفس لعل الله يشفيكا
ما سلم نفسك إلا من يتاركها
وما عدوك إلا من يرجيكا
المحسن الثامن : حسن التضمين . ولم يعرفه ابن المعتز وإنما اكتفى بالتمثيل له فقط، وهو استعارة الشاعر الأبيات وأنصافها أو بعض الألفاظ فى حشوها من شعر غيره ، وإدخالها فى أبيات قصيدته ، كما فى قول الشاعر :
ولقد سما للخرمى فلم يقل
بعد الوغى لكن تضايق مقدمى
فكلمة " لكن تضايق مقدمى" استعارها الشاعر من عنترة إذ يقول :
إذ يتقون بى الأسنة لم أخم
عنها ولكن تضايق مقدمى
والمحسن التاسع : التعريض والكناية:
ومثل له بأمثلة كثيرة من النثر والنظم منها قول بشار :
وإذا ما التقى ابن أعيا وبكر
زاد فى ذا شبر وفى ذاك شبر
أراد أنهما يتبادلان ، وأن كل منهما يحن إلى صاحبه حنين الحليلة لبعلها .
ويلاحظ أن ابن المعتز ون لم يعرّف الكناية فقد فهم معناها وهو أن يكنى عن الشئ ويعرض به ولا يصرح . ويلاحظ كذلك أنه جعلها من فنون البديع وأن البلاغيين المتأخرين قد جعلوها من مباحث علم البيان . وكذلك لم يطل ابن المعتز فى الحديث عنها.
المحسن العاشر : الإفراط فى الصفة :
مثل ابن المعتز لها بقول إبراهيم بن عباس الصولى :
يا أخا لم أر فى الناس خلاّ
مثله أسرع هجرا ووصلا
كنت لى فى صدر يومى صديقا
فعلى عهدك أمسيت أم لا
فقد اكتفى بالتمثيل دون التعريف ولكن يفهم من أمثلته أن الإفراط فى الصفة يأتى عنده على ضربين : ضرب فيه ملاحة وقبول ؛ وضرب آخر فيه إسراف وخروج بالصفة عن حد القبول.
المحسن الحادى عشر : حسن التشبيه :
ومثل له بأمثلة وشواهد كثيرة منها قول امرئ القيس :
ومشدودة السك موضونة
تضاءل في الطِىّ كالمبرد
تفيض على المرء أردانها
كفيض الأتى على الجدجد
فقد شبه الدرع بالأتى فى بياضها وسبوغها ، لأنها تعم الجسد كما يعم الأتى الجدجد إذا تفجر منه
ومن عجائب التشبيه عنده قول عدى بن الرقاع
تزجى أغن كأن إبرة روقه
قلم أصاب من الدواة مدادها
ومن التشبيه الحسن عنده قول الشاعر
يخفى الزجاجة لونها فكأنها
فى الكف قائمة بغير إناء
وإنا لنجد أن ابن المعتز يكتفى بإيراد أمثلة كثيرة لنوعين من التشبيه فى رأيه تشبيه عجيب وتشبيه حسن . هذا فضلا عن أنه جعل التشبيه أحد فنون البديع
المحسن الثانى عشر : إعنات الشاعر نفسه فى القوافى وتكلفه من ذلك ما ليس له:
ومثل له بأمثلة كثيرة منها قول الشاعر :
يقولون فى البستان للعين لذة
وفى الخمر والماء الذى غير آسن
فإن شئت أن تلقى المحاسن كلها
ففى وجه من تهوى جميع المحاسن
فالشاعر قد التزم السين قبل النون
ويلاحظ أن ابن المعتز قد أراد بهذا المحسن ما اصطلح عليه باسم"لزوم ما لا يلزم" وهو ألا يكتفى الشاعر فى قصيدته أو مقطوعته بروى واحد ، بل يضيف إليه التزام الحرف السابق له
وأبو العلاء المعرى هو من ألف ديوان "اللزوميات" الذى شغل نفسه فيه بعقد ولوازم غريبة ، وصعب على نفسه الممرات إلى شعره.
"ولا أدرى كيف جعل ابن المعتز هذ الفن محسنا من محسنات الكلام؟! وقد أنكره بعض البلاغيين كابن سنان الخفاجى(ت466هـ)
أما المحسن الثالث عشر فهو حسن الابتداءات
ومثل ابن المعتز له بقول النابغة :
كلينى لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطئ الكواكب
وهذا أحسن ابتداءات الجاهلية
وقول بعض المحدثين :
كأن الواتى قلن لى أتسير
غصون رمال فوقهن بدور
فالشاعر يجب عليه أن يحسن ابتداءاته ، ويتجنبالألفاظ والمعانى التى يتطير منها،ويستشنع سماعها ."وإذا كان الابتداء حسنا بديعيا ، ومليحا رشيقا ، كان داعية إلى الاستماع لما يجئ بعده من الكلام . ولهذا المعنى يقول الله عز وجل آلم . وحم ، وطس،طسم ، كهيعص فيقرع أسماعهم بشئ بديع ليس لهم بمثله عهد ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده والله أعلم بكتابه. ولذلك جعل أكثر الابتداءات بالحمد لله ، لأن النفوس تتشوق للثناء على الله فهو داعية إلى الاستماع ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"كل كلام لم يبدأ فيه بحمد الله تعالى فهو أبتر"
وبهذا المحسن – حسن الابتداءات – ينهى ابن المعتز كتابه"البديع"
ويلاحظ أن ابن المعتز لم يتوسع فى الكلام عن هذه المحسنات كما فعل مع الفنون الخمسة الأساسية ، واكتفى بالتمثيل لها دون ذكر للمعيب منها إلا أنه حرص أن يستشهد عليها من كلام القدماء والمحدثين
وعلى الرغم من أن ثقافة "البديع" عربية خالصة إلا أن الدكتور محمد مندور يقرر أن ابن المعتز أخذ بعض مصطلحاته من كتاب "الخطابة" لأرسطو الذى ترجمه حنين بن إسحق (ت 296هـ) ثم يقول "فهذا لم يسلب ابن المعتز فضله وذلك لأنه لم يأخذ عن أرسطو إلا مجرد التوجيه العام،..... "
والواقع أن الفنون التى تكلم عنها الدكتور محمد مندور أن ابن المعتز أخذها عن أرسطو قد تكلم فيها الأصمعى والجاحظ ولا شك أنه تأثر بهما ونقل عنهما صراحة كما فعل فى الجنيس.
وكتاب البديع يعد بلا شك محاولة علمية جادة تأثر بها البلاغيون من بعده وهو كتاب فى البلاغة يوضح فنونها . وهذا الكتاب يعد أول كتاب بلاغى خالص جمع فيه صاحبه كل الفنون البلاغية المعروفة حينئذ وأضاف إليها من اختراعاته ، مع حشد مجموعة كبيرة من الأمثلة الجيدة للفنون التى عرض لها.