التأويل المُضاعَف والعكسيّ للنص الأدبي ..3/3 |
فاتن نور | 05 يوليو 2011 |
هذه المادة بثلاثة أجزاء تحت سقف العنوان أعلاه وسترد تباعا، وهي:
1. حول النقد ومظلته السايكولوجية.
2. حول الشعر والتأويل، وثنائية الشكل والمضمون.
3. توطئة حول نقد النقد، ومثالين عن مادتين نقديتين.
توطئة حول نقد النقد، ومثالين عن مادتين نقديتين:
(القسم الأول)
في هذه التوطئة لابد لنا من الوقوف على هامش إشكالية النقد التي تستحِث نقد القراءات النقدية أو مجادلتها موضوعيا.
بجانب طبيعة العقلانية العربية التي أشرنا إليها في الجزء الأول،
وانزياحاتها السايكولوجية العامة المؤثرة سلبا في حركة النقد الأدبي، ثمة
إشكالية لا يمكننا تجاوزها في هذا المقام، وهي أن الحركة النقدية تفتقر الى
منهجية واضحة المعالم والبنى، فهي في الغالب مزاجية الطابع تتأرجح بين
التقليد والتغريب، وكلاهما مشوش مقارنة بأصوله. فقديما كان النقد بفعل
التذوق والتأثر بالمنتج الشعري لفرز جيده عن رديئه، وقد ترأس النابغة
الذبياني سوق عكاظ لعلو منزلته آنذاك ونبوغه، لإستقبال ما يعرض عليه من
أشعار وفرزها. ولا يعد الفرز نقدا بمفاهيم النقد المعاصر بل “إنتقادا” فهو
حكم بياني عام، وقد تطور في العصور اللاحقة فظهر النقد البلاغي في العصرين
الأموي والعباسي وبمعايير الجودة اللغوية نحوا وصرفا، والسلامة العروضية
وجزالة الأسلوب وحسن التصوير والتركيب وثراء الخيال وما إليه من معايير
ومقاييس بلاغية وفنية متبعة. بجانب رصد الظواهر الأدبية وتحديدها ووصفها
كظاهرة الغزل الحضري والغزل البدوي العفيف والتجارب الشعرية الشخصية. ولم
يكن النقد البلاغي في إرثنا الأدبي عقيم الجدوى، وله صور في تهذيب العملية
الإبداعية نسبيا وتجويد منتجها. أما في يومنا الحاضر فالقراءات التقليدية
لم تعد تقليدية الأصول فجلها “تقريض” للمنجز الأدبي، أي إعادة تقديمه
للمتلقي من قبل الناقد، وغايته وضع المنجز في بقعة ضوء تحفيزا للمتلقي
وتكريما للناص في أحسن الأحوال وبمعية شروح إنطباعية.
أما التغريب فهو عالق بفوضى الإستعارة مما أفرزته حضارة الغرب من مناهج
نقدية تشكلت على أسس إرثها الثقافي والفكري والفلسفي، وعلومها الألسنية وما
رافقها من ثورات معاصرة أنتجت نظريات ومدارس لغوية هيمنت على العلوم
الإنسانية والمناهج النقدية. ولا تخلو هذه المناهج من تباين أو تضاد فكري
يتبع تباين الأسس المنبعثة عنها أو تضاداتها. وإذا كان التضاد الفكري وازعا
للنشاط العقلي والإثراء المعرفي في العالم الغربي، فأنه يبدو في عالمنا
العربي وازعا للركود والإحباط أو منتجا لمتاهة فكرية منشطة لنعرات التعصب
القبلي أو الإستبداد الفكري. فثورة العالم اللغوي السويسري فردينان دي
سوسير(1857-1907) والتي حدثت بعد وفاته على يد تلامذته وبما جمعوه من
مخطوطات له ومحاضرات، وهو من أشهر لغويّ العصر الحديث وكان أستاذا لعلم
اللغة العام في جامعة جنيف، ويعد الأب الحقيقي للحركة البنيوية. أعقبتها
ثورة المفكر والعالم اللغوي الأمريكي نعوم تشومسكي (1928) في مجال علم
اللغويات ببحوثه في البنى التركيبية ودراسته للدلالة في القواعد التوليدية
وخلافه، فأسس نظريته “التوليدية التحويلية” التي تنتمي الى المدرسة
التوليدية، فبرزت البنيوية التوليدية مقابل البنيوية التصنيفية. وبهذه
الحركة الثورية في اللسانيات والتي لا تقف عند ما ذكرناه هنا هامشيا ولا
تحصر به، وبما أفرزته من نظريات ودراسات مكثفة للأصوات اللغوية تم جدولتها
فيما يشبه الجداول الرياضياتية، وبما فتحته من آفاق لا حدود لها مهدت
الطريق لوضع مناهج نقدية معاصرة.
ونحن في هذا المقام لسنا ضد إقتناء المعرفة النقدية من الغرب فما ينتجه
الإنسان للإنسان في أية رقعة، ولكننا ضد الإستهلاك العشوائي أو الآلي في
الحقل الأدبي، الذي لا تحده دراسة فاحصة أو معالجة معرفية بما يتسق مع
إرثنا الثقافي وفلسفاتنا الفكرية ومناخنا الأدبي واللغوي فالمناهج النقدية
ليست جهاز حاسوب وهاتف خلوي. ورب سؤال يطرح نفسه: هل آمن الإنسان العربي
بفلسفات الغرب وأيديولوجياته الفكرية كي يتبنى بواعثها المنهجية في الأدب،
أو هل أتقن إستيعاب خلفياتها الفكرية وفلسفاتها قبل إخضاع النص العربي
لها؟، وربما تنبري تساؤلات ممتعة في الطريق نتركها للمتلقي وهي: هل حقق كل
منهج نقدي تكاملا ذاتيا في حقله لاستنطاق النص وتحليله بمعزل عن المناهج
الآخر، وهل إنتقاء منهج بعينه من قبل الناقد يكون بما يفرضه النص إستباقا
أم هو إنتقاء يفرضه الناقد على النص؟ وهل المزاوجة بين المناهج النقدية لها
حضور في النقد الحديث، وكيف ننظر الى هذه المزاوجة، هل هي قصور في تكامل
المنهج الواحد أم قصور في حرفية الناقد وفهمه للمنهج، أم النص يقتضي مثل
هذه المزاوجة. وهل أصبح النقد إرضاءً للمنهج على حساب النص، أم إرضاءً
للحداثة؟ وهل الحداثة كمفهوم عام، ولع ومجون كموضة الأزياء أم الحداثة خروج
الإنسان من قمم الوصايات أولا، وشعارها إستخدم عقلك وفكر بحرية لإشاعة
الأنوار والتقدم، وكما عرفها الفيلسوف الروسي كانط في القرن الثامن عشر
وبتصرف. والحرية ليست فوضى وعبث بل مسؤولية كبرى، هذا إن كان الإنسان
العربي مُرتِعا بالحرية أساسا ومتفهما لمسؤوليته. أما إعمال العقل والتفكير
فلإجل إنتاج المعارف والعلوم وتطويرها وليس لإستهلاك جديدها تقليدا، أو
إجترار قديمها تمجيدا وتقديسا.
ولا تنحصر فوضى الإستعارة بالإستهلاك العشوائي للمعارف الغربية فما
ينزاح عن الأخير يلقي بظلاله الموحشة على المشهد الأدبي، ونخص منها إشكالية
الترادف الإصطلاحي التي تشيع فوضى مقابلة في القراءات النقدية الحديثة أو
الحداثوية، إذ تفتقر الساحة العربية الى معجم موحد ومفهرس جامع للمصطلحات
واشتقاقاتها عن أصولها الأجنبية. فكل مصطلح أجنبي هو كيان عرفيّ وخزين من
المعاني المستنبطة من بيئتها وحقولها العلمية. ولا يستوعبها المتلقي العربي
بإتقان لكثرة مرادفاتها أولا. ولأن المناهج ذاتها ثانيا، لم تجمع من قبل
جهة متخصصة وتُهذب بشكل علمي رصين وتقدم للمتلقي لتصبح مرجعا متاحا وجزءً
متداولا من ثقافتنا العربية، فهي مبعثرة بين كتب شتى لم تترجم بعد، أو
مترجمات عن اصولها الأجنبية وبما يضفيه كل مترجم من رؤية أو نزعة أو ما
يعتمده من مرادفات إصطلاحية. والناقد بدوره لا يسعف المتلقي بل يزيدنه حيرة
إن كان قد تمكن من المنهج ومصطلحاته. مثالنا عن فوضى الترجمة والتي تعم كل
الحقول المعرفية وتشتد وخامتها في حقل الفلسفة، وهو مثال بسيط للغاية من
بين أطنان الأمثلة الأكثر تعقيدا التي تزخر بها الكتب، وهو كتاب العالم
اللغوي الأمريكي وتني وعنوانه “” Life and growth of Language جاءت ترجمته
العربية “حياة اللسان”، وهذا العنوان لا ينفع كترجمة ولا كتعريب، بينما
الترجمة الناجعة التي قد لا يخطئ بها طلبة المتوسطة هي ” تطور اللغة
ونموها”. بمثل هذه الترجمات يفقد المتلقي تواصله مع المعارف أو يُضلل، لا
سيما أن علم اللغة المعاصر ، حديث العهد في ثقافتنا العربية بما يتبعه من
مناهج.
المنظور في الساحة الأدبية، تباين مرادفات المصطلح الواحد بين رقعة
جغرافية وآخرى على امتداد الرقعة العربية وعلى مستوى الفهم، والتعريب أو
الترجمة. مثالا..البنيوية / التركيبية / البنائية / البنيانية / البنوية
وغيرها، في مقابل المصطلح الأجنبي “STRUCTURALISM “. وقد يستحضر الناقد
اكثر من تعريب أو ترجمة للمصطلح في مادة واحدة مما يربك المتلقي والناص
محدثا حالة من التغريب والبلبلة في فضاء مادة ناطقة بلغة الضاد، أو تُحدث
نفورا من التلقي، فتذهب القيمة المتوخاة أو الغرض الى بوار، أي “موت
المتلقي” وهو عنصر مهم في الثالوث الإبداعي، وهذا يذكرنا بـنظرية “موت
المؤلف” التي دعا إليها الفيلسوف والناقد الفرنسي رولان بارت(1915-1980)
والتي اثارت جدلا في الأوساط الثقافية، وربما هنالك من فهمها فهما حرفيا
وكأن بارت قد أشهر سيفه لتصفية المؤلف جسديا أو أدبيا، ومقولته الشهيرة ”
إنّ النّص ليُصنع من الآن فصاعدا و يُقرأ بطريقة تجعل المؤلف عنه غائبا على
كلّ المستويات” لربما تلخص القصد المراد، فلذة النص تتأتى من خلال إستنطاق
المتلقي له بعيدا عن هيمنة المؤلف. أي ترك لغة النص تتحدث عن دواخلها
ومكامنها ومداليلها، وهذا بحد ذاته يمنح النص قدسية أدبية بعيدا على
المؤثرات الخارجية، ويسهم في إثراء القراءة الإبداعية لمنجز المؤلف، فهيمنة
الأخير هي إقفال لمنجزه أو إخماد لجذوته. أي، وبمعنى آخر “موت المنجز “.
وثمة نزعة محمودة نستشفها في الوسط الأدبي وهي أن المؤلف وخصوصا في حقل
الشعر، لا يلجأ في الغالب الى تفسير مؤلـَفه أو تحليله ويتركه مشرعا
للمتلقي، وهذا تغييب ذاتيّ تلقائي جميل وغير مفروض من قبل منهج أو فلسفة.
ومن مصطلحات الحداثة النقدية التي أسرف النقاد في تناول مرادفاتها والتي
تثير الدهشة حقا لكثرتها، مصطلح ” SEMIOLOGIE” في اللغة الأنكليزية، أو ما
يقابلها في اللغة الفرنسية “SEMIOTIC” . مع أن مفردة “سيمياء” لا تبدو
غريبة في إرثنا اللغوي ولها جذور موغلة في القدم، فالسُّومَةُ والسِّيمةُ
والسِّيماء والسِّيمِياءُ في لسان العرب: العلامة. وسَوَّمَ الفرسَ: جعل
عليه السِّيمة. ولها حضور في النصوص القرآنية كقوله تعالى: حجارةً من طينٍ
مُسَوَّمَةً عند ربك للمُسْرفين؛ قال الزجاج: روي عن الحسن أَنها مُعَلَّمة
ببياض وحمرة، وقال غيره: مُسَوَّمة بعلامة يعلم بها أَنها ليست من حجارة
الدنيا ويعلم بسيماها أَنها مما عَذَّبَ اللهُ بها؛ الجوهري: مُسَوَّمة أَي
عليها أَمثال الخواتيم. الجوهري: السُّومة، بالضم، العلامة تجعل على الشاة
وفي الحرب أَيضاً. وقد قال الشاعر الجاهلي المخضرم أسيد بن عنقاء من قبيلة
فزارة: غلامٌ رَمَاهُ الله ُبِالحُسْنِ يَافعًا / لَهُ سيمياءُ لا تشقُّ
عَلى البصرْ.
وتراثنا اللغوي زاخر بما أنتجه اسلافنا من دراسات ومناهج لغوية مستفيضة لم
تحظ بنظرة علمية واعية لتطويرها وتطويعها وفق الإحتياجات المعاصرة، فهي
مؤرشفة كأرصدة جامدة في البنك التراثي، نخص منها مثالا لا حصرا، كتاب
“دلائل الإعجاز” للعالم عبد القاهر الجرجاني، فهذا الكتاب بحد ذاته يعد
ثورة في البحث اللغوي فقد تناول فيه المعنى ومعنى المعنى، أي مستويات
الدلالة اللغوية، ولم يركز على عناصر البنية لذاتها بل من أجل إنتاج
المعنى، وكان هدفه البرهنة على أن القرآن معجز بالنظم وأن البلاغة الكلامية
لا تقترن بالألفاظ بل بما بينها من صلة وترابط ، ومسألة النظم هذه مطروقة
في بيئة المعتزلة والأشاعرة أيضا. ربما يفتقر الكتاب الى منهج واضح مقارنة
بمقاييس العصر الحديث ولكن، علنا لا ننسى أن تسعة قرون وثيرة تفصلنا عن
الحقبة التي عاشها الجرجاني. إلا أن نزعة إستهلاك الجديد الذي لا ننتج،
باتت عرفا متواترا للإتكاء، بينما لدينا أسس لسانية جيدة لبناء جديدنا
عليها أو إنتاجه، لا سيما أن اللغة العربية لم تتطور بالمعنى العلمي للتطور
بصفتها كيانا بنيويا حيا، على مدى ثلاثة الآف سنة فهي “جوهر مقدس” في
الوعي العربي نرغب بثبوته ونفخر بإستقراره، بينما نسارع لإقتناء حداثة
نقدية قامت على أساس تطور لغة الأخر تطورا ثوريا.
أما “السيمياء” إصطلاحا وبشكل عام، هو علم شامل يغطي كل العلوم
الإنسانية والطبيعية، ويُعنى تلخيصا بدراسة الأنساق الإشاراتية أو
العلاماتية وعلاقاتها ومداليلها، والإشارة قد تكون لسانية أو غير لسانية
(أي لفظية وغير لفظية) فهي كونية الوسِع. بيد أن “الرمز” الذي قد يحصل
الخلط بينه وبين الإشارة، هو إتفاق بالنية والقصد في المجتمع البشري.
وتطور هذا العلم في الحقل اللساني على يد العالم سوسير أنف الذكر،
والفيلسوف الأمريكي شارل بيرس (1839- 1914 )، وجذور المصطلح الغربي مرتبطة
بالطب النفسي لدراسة العلامات المرضية وظواهرها المحسوسة. أما أصله
الأغريقي فمشتق من لفظ “Sémion” بمعنى العلامة أو الإشارة، وقد أستعار
الناقد العربي هذا المصطلح وبات يظهر بمرادفات شتى كـ السيماء / السيمياء/
السيماتية/ السيمائية /السيمولوجيا / السيموطيقيا / الدلائلية أو الدلالية/
الإشاريّة أو العلاميّة / علم الإشارة أو علم العلامة..الخ.. وهذا تضخم
ترادفي يشي بفقر معرفي أو تقصير، فلغة النقد لابد أن تكون لغة بيان واضحة
تُيسر ولا تُعسر، ودقيقة في إستعمال المفردة أو المصطلح بما لا يترك غموضا
أو لبسا لدى المتلقي.
ولعلنا نسأل هاهنا عن دور المجامع اللغوية العربية ودور منظمة الأليسكو (
المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم) في تقنين فوضى المصطلحات
ومرادفاتها أو تفعيل خططها في هذا الإتجاه، وعن دور الناقد في تهذيب تناوله
للمرادفات وانتقاءه لتعريب رقعته الجغرافية للمصطلح، أو التعريب الأنسب
الذي يرتأي إعتماده في طروحاته النقدية بعيدا عن المزاوجة والخلط أو
التنوع، وعن دورنا كـ “أمة” لها تاريخ وإرث معرفي ولغوي غزير نفخر به
ونتصادح، في إنتاج ثقافة لسانية معاصرة تؤسس لمناهج نقدية عربية تستشِرف
المناهج الغربية بحثا وإستقراءً للإستفادة منها والإستهداء بها. والجدير
بالذكر أن مفهوم التعريب بحد ذاته ليس واضحا في الثقافة العربية المعاصرة،
فهناك لبس وخلط بين التعريب والترجمة فقد يشار الى التعريب كترجمة والعكس
صحيح، رغم الفروق الدقيقة بينهما، ويظهر هذا الخلط جليا في التعاطي مع
النصوص الأجنبية بنقلها الى العربية.
ولأن الواقع العربي متخم بقضايا شائكة على أكثر من صعيد وصعيد غير
الصعيد الأدبي واللغوي، فأن إنتاج ثقافة لسانية بهذا المستوى العلمي الرفيع
يبدو بحظٍ عاثر ودون سبيل في الوقت الحاضر، لذا ثمة سبيل آخر لربما أقل
تعثرا، نرى أنه بات ملحا وضررويا لإحداث يقظة نسبية أو ملامح في مجال النقد
المأزوم، وهو سبيل” نقد النقد”. فثمة غزارة في المنتج النقديّ تفوقت على
غزارة المنتج الأدبي ودون تحقيق قيمة ملموسة في سيرورة العملية الإبداعية
ومنتجها، وهذا يذكرنا بمقولة ” وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع” للفيلسوف
الأمريكي برنادشو عن توصيفه الموجز للرأسمالية، فلربما “الرأسمالية
الأدبية” لو جاز لنا التعبير، قد أدركتنا مع الفارق، فمع سوء توزيع
القراءات النقدية على الزخم الأدبي بشكل ملفت لا تبرره النصوص بل قد تبرره
الشخوص، فأن وفرة إنتاجها لم تخلص الى تنافس في الجودة والتسويق. والحديث
هنا عن المنتج العام الغالب، فثمة خاص منه له قيمة وأثر لجودته الأدبية
وأكاديميته، وأهتمامه بالمنجز الأدبي تحليلا وتشريحا، وإنتقاءَ أدبيا لقيمة
المنجز قبل أي شيء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما قدمه عبد الله
محمد الغذامي / أستاذ النقد والنظرية في جامعة الملك سعود بالرياض، عن نصوص
قديمة ومعاصرة في كتابي “تشريح النص” و “القصيدة والنص المضاد”. وما قدمه
عبد الملك مرتاض/ دكتوراه في الآداب من جامعة الجزائر ودكتوراه في الآداب
من السوربون بباريس، ومنها نقده رواية زقاق المدق لنجيب محفوظ، ونقده
للمعلقات في كتابه “طقوس الماء في المعلقات”. وما قدمه الدكتور عبد العزيز
المقالح/ رئيس جامعة صنعاء، ومنها كتابه” علي أحمد باكثير: رائد التحديث في
الشعر العربي المعاصر”. والساحة الأدبية تكاد لا تخلو من النقد المنهجي
الحصيف أو المتوازن نسبيا، إلا أن سواده الأعظم قراءات مفعمة بالتوصيفات
الإنشائية والإنفعالات الشعورية أزاء النص أو متخمة بالمصطلحات الخاطفة
وكأنها من إرث السلف ولها دلالة واضحة ومألوفة في وعي الخلف. وهي قراءات لا
ترتقي الى مستوى النقد العلمي بأي حال، لكنها تفاعل طيب وبقدر ما تعكسه من
مصداقية في التوصيف والإنفعال بعيدا عن المحاباة والإفتعال لأغراض لا تخدم
الثقافة والأدب. ولا تخلو الساحة بالمقابل من “نقد النقد” لكنه أقل مما
تقتضيه مقارنة بغزارة الإنتاج وجله قراءات تستحث نقدها أو مجادلتها.
ولابد لنا أن نسأل: هل المتلقي العربي في حالة إقتناعٍ تام وتسليمٍ
مفتوح بكل القراءات النقدية التي تطرح في الساحة الأدبية، وعلى من تقع
مسؤولية نقد النقد؟ الإجابة عن الشق الأخير تبدو جلية، وهي مسؤولية المتلقي
ناقدا كان أم قارئا جادا. فالناقد من جهته، بإمكانه تحقيق حالة من التوازن
بقراءته للنقود ونقدها بدلا عن فيض إستغراقاته في تقديم قراءات نقدية
للنصوص لا تحرك ساكنا. وللمتلقي من جهته إن كان معنيا بالثقافة والأدب،
ولكل متلقٍ خلفية ثقافية، أن يسأل ويستفسر عما لم يفهم، عن المفردة
والمصطلح، ويتحرى عن صحة ما فهم، بل يتقصى مباحث الناقد ومنطلقاته في الشرح
والتفسير والتأويل مقارنة بالنص ومقاربة به. وأن يجادل موضوعية النقد
بموضوعية مقابلة، فالنقد سواء كان خاضعا لمنهج تراثي أم حداثي أم بدون هذا
وذاك، لا ينبغي أن يخرج في أي حال من الأحوال عن الموضوعية في الطرح
والرزانة العلمية وبلغة بيان واضحة لا تصرف اللفظ أو المصطلح عن معناه
المقرر ولا تنطوي على تشفير أو تعسير أو تحمّل النص ما لا يحتمِل.
ما ذكرناه قد يبدو سهلا على المستوى النظري، لكنه سيرتطم بالكثير من
المعوقات على المستوى التطبيقي تعود بنا الى طبيعة العقلانية العربية
وانزياحاتها السايكولوجية، فالجدال قد يبدو صداما أو تشكيكا بقدرة الناقد
وكفاءته، والرؤية المقابلة قد تبدو تطفلا أو ملامة وقد تولد نفورا أو
مشاحنة، والسؤال قد يحسب فقرا معرفيا ويُستهان به، ناهيك عن الخشية
والإستحياء المتبادلين بين الشخوص، وفروض إشاعة الإرتياح والإرتياح المقابل
على حساب القيمة، وقد ينتقل المحمل من ناصية الأدب الى ناصية الأفراد،
فيصبح تفاعل المتلقي الخلاق تفاعلا غثيثا مـُقطِّعا لأواصر الرحمة والمودة
بين القلوب ومقلِقا للأبدان والعقول،وهكذا في حالة تناول الناقد لنقود
غيره. وبهذا تولد القراءات النقدية مغلقة على نفسها وكأنها نصوص إلهية لا
يمسها إلا أهل الذكر، وهذا بحد ذاته يعد خرقا لمفهوم الحداثة. إلاّ أن
الناقد العربي يفضل عادة أن يطرح قراءته للنص بشكل مستقل متجنبا الخوض في
قراءات غيره من النقاد لذات النص، وهذا يخلق تراكما نقديا تخبو به محفزات
القراءة أو يصيب المتلقي بفتور التخمة. بينما يحفز نقد النقد المتلقي
والمؤلف والناقد..أي يحفز ثالوث العملية الإبداعية ويشيع حراكا جدليا ينشط
العقول ليدافع كل طرف عن رؤيته بحرية وفي رحاب الموضوعية والإقناع
العقلاني، ودون التشبث برؤية فقدت موضوعيتها. وكلنا يعلم بأن الجدل ليس
عداءً أو عدوانا فياحبذا لو نفعّل ما نعلم خارج ثنائية سوح الوغى: النصر
والهزيمة.
أما الشق الأول من السؤال فسنترك الإجابة عنه لتقدير المتلقي أسوة بما ورد
من تساؤلات، ونزيدنها بسؤال عام نختتم به هذا القسم: لماذا للصدق قيمة
نظرية كبيرة في ثقافتنا العربية بينما تنحسر قيمته التطبيقية الى أدنى
المستويات قياسا بثقافات العالم؟ ولو شئنا التعميم سنسأل: هل أخلاقنا
وسلوكياتنا على أرض الواقع تعد تطبيقا لما نعتمد من نظريات أخلاقية وتربوية
أم إنحرافا عنها وخرقا فجّا لها، ولماذا؟
يتبع..
فاتن نور