[center] دراسة سيميائية معمقة في الخطاب الإشهاري (نظري وتطبيقي)
الخطاب الإشهاري
دراسة سيميائية معمقة
إعداد الباحث:
يامن عيسى خضور
محتويات البحث
مقدمة................................................................ .2 -
أشكال الخطاب الإشهاري وأنواعه..................................6 -
عناصر الخطاب الإشهاري ووظائفه................................8 -
مكونات الخطاب الإشهاري وآلياته.................................10 -
.................................12…SLOGAN الإشهار التجاري -
الخطاب الإشهاري بين التقرير والإيحاء...........................17 -
- المقاربات المنهجية في تحليل الخطاب الإشهاري................19
أنموذج ٌتطبيقي.......................................................22 -
الهوامش ............................................................29 -
- المراجع ............................................................ 31
مقدمة:
تذكر المعاجم اللغوية أن السومة والسيمة والسيمى والسيماء والسيمياء تعني العلامة، ويعرف المعجم الوسيط علم السيمياء بأنه علم يبحث دلالة الإشارات في الحياة الاجتماعية وأَنظمتها اللغوية.
وهناك عدة تعريفات لهذا العلم، من بينها أنه نظام الشبكة من العلامات النظمية المتسلسلة وفق قواعد لغوية متفق عليها في بيئة معينة، أو دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية، أو علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها وأصلها(1) .
و باختصار هو علم شمولي له علاقة بكل ما ينتجه الإنسان من علامات لغوية وغير لغوية (2).
ويهدف إلى دراسة المعنى الخفي لكل نظام علاماتي في كنف الحياة الاجتماعية (3)، وقد يشكل فرعاً من فروع علم النفس الاجتماعي، ومن أبرز أعلامه دي سوسير وشارل بيرس ورولان بارت الذي يقول:
إن التطور الكبير الذي شهده الإشهار والصحافة ، والراديو وفن الديكور دون أن نتعرض لبقايا عدد لا نهائي من الطقوس التواصلية_وهي طقوس المظهر الاجتماعي_ يجعل تشكيل علم سيميائي مهمة أكثر استعجالاً من ذي قبل.
ولا جدال أن الخطاب الإشهاري يعد من الخطابات التي تندرج ضمن الممارسات الثقافية اليومية كالخطاب الأدبي أو السينمائي أو البصري، فإلى جانب بعده الاقتصادي-الاجتماعي المرتبط بالدعاية التجارية، يكتسي هذا الخطاب طابعا ً ثقافيا ً يتمثل في مكوناته اللغوية والأيقونية والسيميائية والتداولية (4).
ويعتبر هذا الخطاب صناعةً إعلاميةً وثقافية بأتم معنى الكلمة، ولذلك فهو يحظى باهتمام كبير في المجتمعات المتطورة لما يتميز به من قدرة عالية على بلورة الرأي وتشكيل الوعي وفي التأثير على الثقافة وتوجيهها في أبعادها المختلفة الأخلاقية والفلسفية، أما في المجتمعات المتخلفة فلا يزال هذا الخطاب مغمورا ًً وبعيداً عن الدراسة إلى حدٍ ما رغم هيمنة الصورة على الحياة المعاصرة وتوجيهها لأهم استراتيجيات التواصل الإنساني و يعزي الدكتور قدور عبد الله ثاني هذا إلى سيادة ما يسميه علماء الاتصال بالثقافة اللفظية أو الشفوية(5)،
ويمكننا أن نقول أن أقوى مستوى ظهور للخطاب الإشهاري وأكثره أداءً هو مجال الصورة بتشكلاتها المتنوعة، فهي تجد لنفسها مكاناً في الجريدة والمجلة والتلفزيون والسينما واللوحة التشكيلية واللباس والكتاب وعلى واجهة الجدران والحافلات والسيارات وعلى صدر لوحات منصوبة على أعمدة بجانب الطريق، بل وفي بعض المدن والبلدان المتقدمة، تنصب لها شاشات عملاقة تقوم فيها على مبدأ التناوب وفق ما يقتضيه ظرف ومصدر وهدف إنتاجها.
وفي ظل هذه الثقافة : ثقافة الصورة واستهلاكها بعفوية وإطلاقية غير واعية، أصبح لزاماً على متلقيها التعامل معها بوصفها خطاباً موازياً للخطاب اللغوي الكلاسيكي،وهنا نذكر المثل الصيني القائل (الصورة بألف كلمة)
فإذا اقتنعنا بعدم وجود إبداع بريء، و لما كانت الصورة إبداعاً في بيئة ثقافية ، فكيف نتصور خروجها عن منطق هذه القاعدة الثابتة، إننا نعيش في عالم الصورة وعولمتها، فنكون مضطرين لاستهلاكها بل وابتلاعها، ولا بد أن نشير إلى أن نوع الصور المشار إليه بالدراسة هو الصور المؤطرة أي تلك التي تدخلت فيها اليد البشرية ، فتم تسخيرها للتأثير على الجمهور في مختلف المجالات والأغراض، أما الصور الأخرى فهي صور طبيعية خاضعة لقوانين فيزيائية، إذن إن النوع الذي يثير اهتمامنا وتساؤلنا هو الصورة المؤسسة والمؤطرة، بوصفها إبداعاً بشرياً يوظفها للإبلاغ عن مشروعه الحياتي : الفكري / الثقافي، والاقتصادي / التجاري، والفني / الإبداعي. وذلك تبعا لمجال اشتغال مبدع هذه الصورة،فما نشاهده في صورة ما ليس هو حقيقة ذلك الشيء الذي تمثله، بدعوى اختلاف وتعدد المنظور الريؤي / البصري، أي تبعاً لزاوية أخد الصورة وظرف التلقي، وأنها أيضا تتأسس على مبدأ الجمال والجودة : صورة جيدة تهدف إلى حصول التأثير في أقل فترة زمنية ممكنة وعلى الأخص لما يكون الموضوع يستهدف تقديم منتج ٍ أو استقطاب جمهور،كما في حالة الملصق الإشهاري.
و هذه الدراسة تهدف إلى محاولة البحث عن جملة العناصر التي تجعل من الإشهار خطاباً سيميائياً وتداولياً بالنظر إلى صوره الثابتة والمتحركة بما تحمله من كفاءة وقوة على التبليغ والتواصل وما يكمن فيها من عناصر جمالية وفنية وطاقة وفاعلية في التأثير على المتلقي، وذلك أن الإشهار فن إعلامي يستند على مؤشرات مرئية مثل العناوين في كتابتها ومضامينها وأنواع الطباعة والصورة... من خلاله يمكن تأسيس تعارف وعلاقة بين المخاطب والمتلقي أو بين المنتج والمستهلك. فهدفه ـ أولاً وقبل كل شيء ـ هو تبليغ خطاب، ولذلك يتوخى أن تكون أفكاره واصفة وهادفة ويستعمل وسائل تبليغ متنوعة ومتناسقة يسخرها كلها في سبيل تحقيق الهدف المحدد.
وهكذا فإن الإشهار متنوع الأشكال والأهداف، فقد يتم توجيهه إلى فرد أو جماعة أو حزب أو أمة... وقد يكون علمياً أو ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً، وقد يكون مسموعاً أو مكتوباً أو سمعياً ـ بصرياً. إنه كما يقال: فن مركب يضع العالم بين يديك (6).
ـ أشكال الخطاب الإشهاري وأنواعه :
أ ـ الإشهار المسموع:
ويتم من خلال الكلمة المسموعة في الإذاعات والمحاضرات والندوات والخطب... وتعد الكلمة المسموعة أقدم وسيلة استعملها الإنسان في الإشهار، وأهم ما يميزها هو طريقة أدائها، إذ يلعب الصوت دوراً بالغ الأهمية في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس، وتصحب الكلمة المسموعة أحياناً الموسيقى فتزيدها طاقة كبرى على الإيحاء والوهم والتخيل، وعملاً على استثارة الحلم وإيقاظ الراقد في الأعماق.
ب ـ الإشهار المكتوب:
ويتخذ وسيلة له الصحف والمجلات والكتب والنشرات والتقارير والملصقات على جدران المدن أو في ساحاتها العامة حيث يكثر الناس(7) وذلك ما نلاحظه من صور لزجاجات العطر أو أنواع الصابون أو الساعات...الخ.
والأمر نفسه لما نلاحظه من إشهار على اللوحات الإعلانية الثابتة أو المتحركة في ملاعب كرة القدم مثلاً، لأنَّ ذلك يجعلها تشيع ويتسع مداها وتصل إلى أكبر قدر ممكن من المتلقين...
جـ ـ الإشهار المسموع والمكتوب (السمعي ـ البصري):
وسيلته الأساسية التلفزة، ويتم بالصورة واللون والموسيقى وطريقة الأداء والحركة والموضوع، فهو فيلم صغير يتعاون على إنتاجه وإنجازه فريق عمل متخصص في: الإخراج والديكور ووضع الأثاث، والحلاقة والتجميل، والإضاءة والتسجيل وضبط الصوت والتركيب والتمثيل...الخ.
وهذا يبين ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أهمية الإشهار كخطاب سار في المجتمع له خصوصياته وأبعاده، وأهمية الدور الذي تلعبه التلفزة كوسيلة إعلامية في المجتمع... أما أنواعه فهي:
أ ـ الإشهار التجاري:
ويرتبط بالاستثمار والمنافسة، ولذلك فإن استراتيجيات التسويق واستراتيجيات الإشهار في ارتباط ٍشديد، وسيكون لهذا النوع خاصة ًقسطٌ وافر ٌمن جهدنا في هذا البحث نظرا ًلأهميته و خطورته.
ب ـ الإشهار السياسي:
ويرتبط بالتعبير عن الآراء المختلفة ومحاولة التأثير على الرأي العام بتقديم الإشهار في شكل يبرز أهمية الرأي بأنه هو الأحسن وهو الأفضل من بين كل الآراء الأخرى المتواجدة في الساحة، كما هو الحال في الدعاية للحملات الانتخابية.
جـ ـ الإشهار الاجتماعي:
ويهدف إلى تقديم خدمة أو منفعة عامة للمجتمع، مثلاً: الإعلان عن مواعيد تلقيح الأطفال أو إسداء نصائح للفلاحين، أو الدعوة إلى الوقاية والحذر من أمراض معينة.
ـ عناصر الخطاب الإشهاري ووظائفه:
إن الحديث عن الخطاب الإشهاري يفرض التمييز بين قطبين أساسيين متباينين ومتكاملين في الآن نفسه، ويتمثلان في البعد النفسي الاجتماعي-الاقتصادي الذي يوجد خارج الخطاب؛ والبعد الخطابي بصفته نسيجا تتشابك فيه مجموعة من العلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية. فالمسار السوسيو-اقتصادي يمثل الإطار العام الذي تمارس داخله عملية الإشهار. ويعطي الخطاب الإشهاري لنفسه مهمة الإخبار عن خصائص ومميزات هذا المنتج أو ذاك بهدف الدفع بالمتلقي إلى القيام بفعل الشراء.
ويتأسس على جملة من العناصر المترابطة ببعضها باعتباره نسيجاً لغوياً وغير لغوي تتشابك فيه مجموعة من الوسائل والعلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية (، وتتمثل هذه العناصر في:
أ ـ المرسل أو الإشهاري:
وهو الذي يُحدث الخطاب ويعمل على شحنه بما يحتاجه من مادة إشهارية لازمة بالنظر إلى الموضوع الذي يدور حوله الإشهار، ثمَّ يقوم بإرساله نحو المتلقي الذي يتحدد بناء على نوعية المنتج: فالروائح والعطور والورود... ترسل إلى النساء والحليب والجبن وأنواع الحلوى واللُّعب ترسل إلى الأطفال... والحقائب البراقة والمكاتب الفاخرة والسيارات اللامعة غالباً ما يتم إرسالها إلى رجال الأعمال... وهكذا يعمل المرسل الإشهاري على تحقيق الوظيفة التعبيرية في الخطاب الإشهاري، فيضمنه ما يثير ذوق المرسل إليه أو المتلقي ويسيل لعابه نحو المنتج، ولذلك يكيف صيغه حسب الأحوال والمقامات التي يقتضيها.
ب ـ المرسل إليه (المتلقي):
وهو العنصر الثاني المهم في العملية الإشهارية وهو المقصود بالإشهار ولا تتم العملية الإشهارية إلا به ومن خلاله تتحقق الوظيفة الإفهامية أو الطلبية إذ يعمل المرسل على إفهام المرسل إليه بجدوى المنتج وأهميته بأي طريقة، فيقدم على استهلاكه ويحقق الهدف الأساسي الذي يريده المرسل.
ب ـ الخطاب أو الرسالة الإشهارية:
ويفترض وجود مرسل أو متكلم يُحدث أقوالاً ومتلقياً يستقبل هذه الأقوال ويعمل على فهم أنساقها الدلالية المختلفة واللسانية والسيميائية (الأيقونة البصرية) وتحليلها وتأويلها بعد ذلك. وهنا تتحقق الوظيفة الأساس في الخطاب بعامة وفي الإشهار بخاصة وبقية الوظائف خدم لها إن جاز القول.
جـ ـ المقام :
إن العلاقة بين المرسل والمرسل إليه أو بين المخاطِب والمتلقي لا تتم بشكل اعتباطي ، وإنما تتم بحسب ما يقتضيه المقام وأحوال الخطاب وظروفه المختلفة المحيطة بإحداثه وإنتاجه وإرساله واستقباله، وما يتطلب ذلك من خصائص لغوية وغير لغوية يمكن أن نطلق عليها "قرائن الخطاب أو الحديث"9 وهي كما يرى الدكتور عصام نور الدين "الإطار أو الموضوع الذي يقع تحته الحديث ـ سواء أكان فكاهة أم رواية أم خطبة أم شعراً أم أي مرسلةٍ أخرى ـ ولكل إطار سمات تميزه عن بقية الأطر وتؤثر لغوياً في الموضوع وفي اختيار الكلمات وضروب الاستعمال وطول التراكيب اللغوية أو قصرها... )10(.
ومن خلال عنصر المقام تتحقق الوظيفة المرجعية بالنسبة لمرسله ولمتلقيه بما يحملان من خصوصيات لغوية وغير لغوية وثقافية وإيديولوجية واجتماعية ونفسية...
هـ ـ الوضع المشترك بين المتخاطبين:
ويتمثل في أن ينطلق طرفا الخطاب من الأوضاع نفسها، فهناك علاقات وثيقة بينهما ويمكن أن تراعى في تحليل الخطب الإشهاري واتخاذها سمات تجمع بين مرسل الخطاب ومتلقيه وهي:
ـ وحدة اللغة: فالإشهاري يستثمر في خطابه الكلمات والجمل التي يعبر بها مجتمعه عن أغراضه المختلفة.
ـ وحدة الثقافة: أي التراث الثقافي المشترك والعقيدة الفكرية العامة المشتركة.
ـ وحدة البداهة: أي مجموع الأفكار والمعتقدات وأحكام القيمة التي يفرزها الوسط فيتقبلها كأمور بديهية لا تحتمل التبرير أو الاستدلال وعن هذا العنصر تتولد الوظيفة الماوراء لسانية (11).
و ـ قناة التبليغ:
وهي الوسيلة المستعملة في إيصال الحديث سواء أكانت صوتية أو أي وسيلة أخرى، وفي الخطاب الإشهاري، إما أن تكون وسائل مكتوبة مثل الجرائد والمطبوعات والملصقات... أو تكون سمعية بواسطة الراديو مثلا... أو بواسطة التلفاز... الخ. أو بوسائل أخرى بحسب ما تقتضي الظروف وتستدعي الضرورة، وهنا تتحقق الوظيفة الانتباهية وذلك أن الإشهار يعمل على أن يثير ردود أفعال الملتقي وانتباهه نحو الموضوع.
- مكونات الخطاب الإشهاري وآلياته:
يتكون الخطاب الإشهاري من نسقين دلاليين أساسيين: النسق اللساني، والنسق الأيقوني البصري. أما النسق اللساني فتكمن أهميته بالنسبة للنسق الأيقوني، من حيث كونه يوجه القارئ نحو قراءة محددة، ويربط بين مختلف مقاطع النسق الأيقوني، لاسيما عندما يتعلق الأمر بصورة ثابتة ،مثال شعار خدمة أخبار الجزيرة على الهاتف النقال (الرغيف الساخن،والذي يتبع بمقولة :لأن الوقت لا ينتظر) .
إلا أن أهمية النسق اللساني تبقى رغم ذلك قاصرة أمام بلاغة الصورة ، فهي ذات التأثير الأكبر في نفس المتلقي، فهي تستوقفه لتثير فيه الرغبة والاستجابة، وبلغة التجربة البافلوفية (نسبة إلى بافلوف) لعاب يسيل لمجرد سماع صوت الناقوس.
ويكتسي النسق الأيقوني هذه الأهمية نظراً لوظائفه المتعددة، التي يمكن اختزالها في النقاط الآتية:
ـ أولاً. الوظيفة الجمالية:
ترمي إلى إثارة الذوق قصد اقتراح البضاعة.
_ثانياً. الوظيفة التوجيهية:
الصورة فضاء مفتوح على كل التأويلات، لهذا تكون مرفقة في أغلب الأحيان بتعليق لغوي يسمى الشعار ((SLOGAN قد يطول أو يقصر. وفي هذا الإطار تحيلنا الصورة على قراءة النص الذي يثبت فيه الداعي أفكاره وحججه.
ثالثاً. الوظيفة التمثيلية:
تقدم لنا الأشياء والأشخاص في أبعادها وأشكالها بدقة تامة، الشيء الذي قد تعجز عنه اللغة في كثير من الأحيان، أي أنها تبقى المرجع الأول والأخير الذي يجد فيه النص تجسيده وتقويمه، إذ أن المشاهد يغدو ويروح بين النص والصورة، ليظل باله معلقا بهذه الأخيرة.
رابعاً. الوظيفة الإيحائية:
الصورة تعبير يغازل الوجدان، ويغذي الأحلام، لأنها عالم مفتوح على مصراعيه لكل التأويلات والتصورات، وهي تحاور اللاوعي وتوحي بمشاعر تختلف في طبيعتها من مشاهد إلى آخر.
خامساً. الوظيفة الدلالية:
إن الوظائف الأربعة الأولى تتضافر لخلق عالم دلالي معين، وهذه الدلالة تأتي نتيجة التفكير والتأمل الذي أسسته الصورة لدى المشاهد.
وداخل هذين النسقين اللساني والأيقوني، تتمظهر مجموعة من الآليات الفاعلة داخل نسيج الخطاب الإشهاري، والتي تشكل استراتيجية أساسية مشابهة لاستراتيجية المحارب، حيث تهدف إلى إفشال الطاقة النقدية لدى المتلقي/المشاهد، عبر استمالته لفعل الشراء. ومن بين الآليات المعتمدة في ذلك "آليات الإقناع المنطقي" وبعض الآليات الأخرى التي تستند إلى العلامات والرموز والصور التي تجد مرجعيتها في المتخيل العام للمجتمع: فإذا كان إشهار منظف الغسيل ( أرييل (Ariel يتوسل الإقناع المنطقي من خلال إخضاع المنتج المرغوب ترويجه إلى تجارب دقيقة تجعل منه مادة فريدة من نوعها، فإن إشهار(نيدو.. حليبٌ تنمو معه الأجيال)، يعتمد الرمز لخلق التميز عند الفرد، ويلحقه بفئة تمثل المرجعية على المستوى الاجتماعي. ونتيجة لذلك تصبح البضاعة واجباً على كل من يرغب في الالتحاق بصف الأبطال والمتفوقين وبالتالي الاندماج مع فئة نموذجية. وهذا ما نلاحظه أيضا بشكل جلي في الإرساليات الإشهارية التي توهم المتلقي أن بإمكانه التميز عن غيره في حالة استعمال هذا المنتج دون غيره ،كالإشهار الذي يروج لسيارة (لينكولن) وعند تتبع هذا الخطاب بالتحديد وجد أن له شكلين: خطابٌ موجه للخليج العربي وهو (سيارةٌ تسمو بها) وآخر مستخدم في أوروبة وهو (سيارةٌ تسمو بك) ولا يحتاج هذا إلى كثير شرح ٍ ،فهذه الشركة تستثمر فهمها للبنية النفسية للمجتمعات وتسوق منتجاتها عبرها.
و مما يعمد الخطاب الإشهاري إليه أحياناً شخصنة الشيء ، بأن يضفي عليه طابعاً إنسانياً مثلاً إشهار رونو5: ( أنا رونو خمسة)، و إشهار البنك السعودي الفرنسي /بيمو/ : (منا و فينا)، والتشخيص مفهوم إيديولوجي أساسي لمجتمع يهدف من وراء تشخيص الأشياء والمعتقدات إدماج الفرد في نمط اجتماعي معين،
ومن خدع آليات الإشهار كذلك محاولته الظهور بمظهر البراءة، وبمظهر الصديق الذي لا يحركه هاجس المنفعة (الجانب الاقتصادي)، وإنما هدفه تقديم مساعدات وخدمات، لذا غالبا ما يلجأ الإشهاري إلى المطابقة بين المرسل والمرسل إليه بتوظيف لعبة الضمائر: (من شيمنا كرم الضيافة، فلنتشبث بكرمنا؛ مع رونو نشعر بالأمان..).
ويلاحظ أن المكون اللساني الأهم للخطاب الإشهاري التجاري هو الشعار أو ما يصطلح على تسميته ((SLOGAN.
- الإشهار التجاري (SLOGAN) :
وهو جملة قصيرة مختصرة تتخذها الشركة شعاراً في الحملات الإشهارية, وينبغي لهذا الشعار أن يكون مدروساً بحيث يحقق الهدف النهائي المرجو منه وهو ترك أثرٍ نفسيٍ إيجابي في نفس الزبون (المُحتَمَل).
وهنا يجتمع الأثر الذي يتركه الإشهار اللساني مع أثر الإشهار الأيقوني للشركة ليعكسا الصورة التي تريد الشركة ترسيخها داخل العقل الباطن للمتلقي (المستهدف).
وتختار الشركات الكبيرة شعاراتها بشكل بالغ الدقة والحذر, فالشعار هو من أخطر الأمور التي قد تضر بالشركة في حال تبين فشله أو عدم تركه الأثر المطلوب. ومن شروطه:
1. أن يكون بسيطاً سهل الحفظ ذو لهجة انسيابية موسيقية معينة.
2. أن يفهم المستهلك ما تريد الشركة قوله من وراء هذا الشعار دون أن يعكس بالضرورة نشاط الشركة بشكل مباشر.
فحتى يترك الشعار أثره المطلوب لا بد أن يكون سلساً يعلق في الذاكرة دون جهد يُذكر من قبل المستهلك, فعلى سبيل المثال شعار على غرار نحن الأفضل في عالم الاتصالات) هو شعار ناهيك عن كونه مبتذلاً فسينسى على الفور, وخصوصاً إذا ما قورن بشعار شركة الثريا للاتصالات الفضائية نذهب بعيداً, لتبقى قريباً).
وليس بالضرورة أن يكون الشعار موزوناً ومباشراً, ولنأخذ مثلاً شعاراً لشركة / Crossfire/ المعروفة في مجال صناعة الأحذية: We Lead, Other’s Follow)) : (نحن نقود ، الآخرون يلحقون) .
لا بد لكل متلقٍ لهذا الشعار أن يفكر في الثقة المفرطة التي تدعيها هذه الشركة والتي لا تعتبر نفسها الأفضل فحسب, بل تعد نفسها رائدة ً وأن بقية الشركات تقوم بمحاولة تقليدها واللحاق بها، هذا النوع من الشعارات نستطيع أن نضعه في خانة شعارات التحدي والتي قد تترك أثراً جيداً في نفس الزبون بشرط ألا تستخدمها شركات مغمورة أو ناشئة لأنها قد تتحول إلى مثار سخرية الزبون بدل إعجابه.
وليس بالضرورة أن يعكس الشعار نشاط الشركة التجاري بشكل مباشر, بل على العكس فإن هذا النوع يعد من أردأ أنواع الشعارات ،لأن أكثر الشعارات عبقرية ًهي تلك التي تمتاز بالانزياح وهي ما نسميها بالإشهارات البلاغية والتي تلعب دوراً مهماً في افتتان المتلقي وبالتالي استحالة نسيانه للشعار. وتقسم الشعارات إلى أنواع ثلاث هي:
1. شعارات تعكس نشاط الشركة أو خصائص المنتج بشكل مباشر.
2. شعارات تعكس النشاط بشكل غير مُباشر.
3. شعارات لو نظر إليها بشكل مجرد لوجد أنها لا تعكس شيئاً مما تقدمه الشركة.
بالنسبة لشعارات النوع الأول فهي كما ذكرنا سابقاً من أسوأ أنواع الشعارات ومثالٌ عليها :
(الأفضل في عالم التكييف). إن الزبون في هذا العصر لن يُصدق أن تلك الشركة هي الأفضل في عالم التكييف لمجرد أنها تقول هذا عن نفسها, فالزبائن في هذا العصر أصبحوا صعبي الإقناع لا ينجذبون إلا بعد أن تُجهد الشركة نفسها باحثة عن عبارات ملتفة تؤثر في نفس الزبون وعقله الباطن دون أن يشعر.
أما النوع الثاني من الشعارات فهو على غرار شعار شركة الثريا ( نذهب بعيداً, لتبقى قريباً) يشير الشعار بشكل غير مباشر إلى نشاط الشركة المتمثل في تقديم خدمة الاتصال عن طريق الأقمار الصناعية .
النوع الثالث و هو أصعب أنواع الشعارات بالنسبة للشركات ولا تغامر باستخدام هذا النوع سوى الشركات العملاقة والمشهورة عالمياً، وهذا يجعلنا هاهنا نتطرق إلى نقطة هامة, وهي أن هذا النوع من الشعارات يتم إرساله استنادا ًإلى تدرج الشركة في بناء سمعتها على مدى أعوام .
فلنتخيل أن تقوم شركة جديدة ومغمورة في مجال الالكترونيات بطرح الشعار التالي كأول شعار لها:
( Ideas For Life) أفكارٌ من أجل الحياة) ،لا يعتقد أن شعاراً كهذا سيكون عاملاً مساعداً على نجاح شركة جديدة لم يسمع بها إلا القليل. لكن عندما تستخدم شركة مثل Panasonic هذا الشعار فهو سوف يتحول إلى بذرة إلهام عند المتلقي لدى قراءته أو السماع به, فالانطباع الذي تريد شركة عملاقة كهذه تركه عند الزبون هو أنها شركة تطور وتبتكر وتنتج في سبيل جعل الحياة أسهل وأكثر متعةً.
وللنظر كيف يمكن للإشهار أن يذهب بعيدا ً و يكرس منتجه كصفة خالصة في الذهنية الاجتماعية ومثال هذا شعار شركة سوني ( SONY IT’S.. إنه سوني). هذا الشعار يمثل قمة التألق لهذه الشركة, فمن المستحيل لشركة عادية أن تستخدم هذا الشعار، فلننظر إلى تلك الثقة المفرطة في كل شيء كُتب عليه Sony. فهي استخدمت كلمة Sony وكأنها صفة فبدل أن تقول عن منتجها أنه رائع أو ممتاز أو .. الخ. نراها تقول: إنه سوني، It’s Sony. وهذا أمر مفاده أن ماركة بهذه الجودة والشهرة لم تعد هنالك من كلمة لوصف جودتها إلا اسم الماركة بحد ذاته. فلو سُأل أحدهم : هل جهاز التلفزيون الذي تملكه جيد؟ فحينها سيجيب : إنه سوني، وبهذا ينتهي النقاش.
ولم تول ِالشركات العربية فيما مضى أهمية للشعارات في حملاتها التسويقية, ثم فيما بعد بدأت الشركات باستخدام الشعارات دون أن يكون لها ذلك الاهتمام المطلوب, ولهذا نرى غالبية الشعارات سخيفة ومبتذلة على غرار: للجودة عنوان , لأننا نهتم, وغيرها.
إلا أن الشركات الأجنبية العملاقة التي توجهت لسوق الشرق الأوسط قامت بإضافة الشعارات لحملاتها التسويقية باللغة العربية منها ما جاء ترجمة حرفية للشعارات الانكليزية لتلك الشركات ومنها ما تمت كتابته خصيصا للغة العربية. وهاك بعض الشعارات العربية:
- ريد بول بيعطيك جوانح... (ريد بول).
- ليس هدفنا هو الربح إرضاؤكم هو هدفنا...(الحمزة للكهربائيات).
- إسعد بامتلاكها... (هيونداي).
- مع تمنياتنا بالتوفيق ...(أريج للعطور).
- لأن الوقت لا ينتظر ...(الجزيرة موبايل) .
– دائما ً معك ...(سيريا تيل).
- نذهب بعيداً لتبقى قريباً... (الثريا).
– عنوان الرياضة في سوريا...(المخزن الكبير).
- عندما تُعشق الشوكولاته... (غالاكسي).
- نافذتك إلى العالم... (جريدة الدليل).
- الرأي والرأي الآخر...(قناة الجزيرة).
– شاشة ٌتجمعنا...(التلفزيون السوري).
- أن تعرف أكثر...(قناة العربية).
- نظافةٌ نالت ثقة الجميع...(النورس).
- البقع مفيدة...(أومو).
- ملتزمون بالتفوق...(كافاك).
- لسنا الوحيدين لكننا الأفضل... معظم الشركات السورية.
وغيره من المفارقات التي تدعو للدهشة والتفكر في حجم التفاوت الهائل المتعلق بفهم هذا الخطاب - من حيث مباشرتُه أو إيحائه ، ذكاؤه أو سذاجته ،جدته أو طرافته - والذي نزعم أنه يعود إلى ارتباطات ٍ وثيقة الصلة بالبنية النفسية و الاقتصادية والثقافية للمجتمع .
الخطاب الإشهاري بين التقرير و الإيحاء(البلاغة الإشهارية):
لا يقوم الإشهاري بالدعوة المباشرة إلى اقتناء منتج معين ، لأن المستوى التقريري يعتمد في بنيته على الإخبار عن المنتج فقط ، وعن صفاته التقنية، ومدى جودته، هذه المقومات وإن كان لها دورها الأساسي في عملية الإقناع بالتدليل على أهمية المنتج تبقى قاصرة ً عن إقناع المرسل إليه.
من هنا، تفرض مسألة الإيحاء نفسها بحيث إن الحديث عن البلاغة الإشهارية هو إلى حد بعيد حديث عن الإيحاء، الذي يعني حضور وإدماج الذاكرة السياقية في سيرورة الدلالة.
فنجاح إرسالية معينة رهين بكثافة الشحنات التي تحملها، وصورها الشاعرية الإيحائية، بحيث تكتسي لباساً أنيقاً من المعاني، وتنتقل من طبيعة مادية إلى عالم من القيم والدلالات بفضل تلك الهالة التي يضفيها عليها الإشهاري، فهو يعرف مواطن الإغراء والاغترار لدى الزبائن (سيارةٌ تسمو بها)، فيستعمل لذلك الاستعارة، والتشبيه المناسب، والكناية الموفقة، والأسلوب الغنائي الذي يلتزم السهولة والعذوبة، علاوة على مكونات بلاغية أخرى كبلاغة الصورة الحية، وبلاغة الحركة، وبلاغة الصوت المشكل، وبلاغة الموسيقى، وبلاغة الفضاء، وبلاغة الجسد(كتوظيف صورة المرأة، كاسيةً كانت أو عارية،والتي أصبحت نموذجاً في بعض المجتمعات لترويج السلع والبضائع، من خلال أبعاد صورتها الجسمانية، وما يتداعى عنها من غرائز جنسية، تستدعيها في نفسية المشاهد ، ليكون بعد ذلك أحد المستهلكين للبضاعة التي مرت إلى عقله عبر قناة الجسد، جسد المرأة المشتهى والأمثلة كثيرة )....
فكل مقوم من هذه المقومات الإيحائية ببنيته الداخلية، أو في علاقته بالمقومات الأخرى، يلعب دوراً مهماً في تكوين وخلق صور اصطناعية، تتراءى للمتلقي باعتبارها أشياءً طبيعية. من هنا يتجاوز الخطاب الإشهاري عبر آلياته المعتمدة فعل الشراء إلى احتضانٍ وتمثلٍ اجتماعيٍ لمقولاتٍ وتصوراتٍ ورؤىً، تتم صياغته في أشكال بلاغية سحرية، ويقدم على أنه الواقع والحقيقة.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات المشار إليها، تكمن خطورة الخطاب الإشهاري كحقل غني بإيحاءاته وأساليبه وانزياحاته في استحواذه على اهتمام معظم الفئات الاجتماعية في عصرنا الراهن، إذ يشكل مهد علم الأساطير الحديثة، وبؤرة ثقافية للحياة اليومية، وهو الشيء الذي أكده "روبير كيران" بقوله: "إن الهواء الذي نستنشقه مكون من الأوكسيجين والنيتروجين والإشهار (12).
من هذا المنظور تأتي مشروعية المنهج السيميائي في الكشف عن الأبعاد الإيديولوجية التي تتسرب داخل نسيج الخطاب الإشهاري، أي تحديد نمط وجود هذه الإيديولوجية باعتبارها سلسلة من السلوكيات البسيطة التي تتميز ببديهيتها، لأنها تعد جزءاً من إرغامات النشاط اليومي، وهذا ما يجعلها _ في غالب الأحيان _ تنفلت من الدرس والمراقبة.
من هنا تكمن خطورة الإشهار في تمرير خطابه عبر مجموعة من الصور التي يستهلكها المتلقي بشكل طبيعي، ما دام أن كل صورة من هذه الصور تقدم دائماً كنسخةٍ ميكانيكيةٍ لوضعيةٍ واقعية، الشيء الذي يجعلها مغلفةً بمجموعة من القيم (كالفوز، والسعادة، والحب، والأمومة، والانتماء الاجتماعي…الخ)، والتي تجد مرجعيتها في المتخيل العام للمجتمع.
ـ المقاربات المنهجية في تحليل الخطاب الإشهاري:
توجد عدة مقاربات منهجية لتحليل الخطاب الإشهاري، وهي متداخلة مع بعضها ولا يخلو منها أي خطاب إشهاري وهي:
أ ـ المقاربة اللسانية:
أي دراسة الإشهار اللساني (الشعار التجاري) وهي البوابة التي ندخل من خلالها عالم الإشهار، إذ قلما ما يوجد-كما بينا سابقاً- إشهارٌ من دون لغة منطوقة أو مكتوبة بحسب ما تقتضيه الصورة الإشهارية في ثباتها وسكونها أو في حركاتها ونموها وتغيرها. وتكتسي هذه المقاربة المنهجية الانطلاق من النظام أو النسق اللساني فيبحث في مستوياته الصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية والدلالات الناتجة عن هذه المستويات كلها.
إلا أن أهمية النسق اللساني تبقى رغم ذلك قاصرة أمام بلاغة الصورة وأوليتها المتفاعلة المؤثرة ، فهي ذات التأثير الأكبر في نفس المتلقي حين تستوقفه لتثير فيه الرغبة والاستجابة (13).
ب ـ المقاربة النفسية:
وتكتسب أهميتها القصوى في كون الخطاب الإشهاري يركز على إغواء المتلقي واستدراجه بأن يتسلط على الحساسية المتأثرة لديه ويهيمن على أفق انتظاره فيجعله لا يرى شيئا غيره، فهو المناسب وهو الأجمل والأحلى والأبهى وهو الجديد الذي لم يصنع من قبل بل صنع لأجل المتلقي دون غيره...
جـ ـ المقاربة التداولية:
وتتمثل في كون الخطاب الإشهاري يهدف إلى تحقيق منفعة أو ربح أو فائدة ولا يكتفي بتبليغ الخطاب فقط وإنما يحرص على أن يلبس خطابه أجمل حلة ويتزيّا بأحلى الأزياء ويتأنق ويتألق من أجل تحقيق المبتغى. ويبرز ذلك في لغته المكثفة وجمله المختصرة وكلماته المشعة البراقة التي تتوجه نحو المستقبل فهو الذي يعنيها أكثر من غيره ولا تتوجه نحو الماضي إلا بما يخدم مصلحة الإشهاري ويتعلق بمستقبل المتلقي.
د ـ المقاربة الاجتماعية ـ الثقافية:
تحمل رؤى المجتمع المختلفة وثقافته، إذ يعد الإشهار إنتاجا لغوياً اجتماعياً يبرز العلاقات الاجتماعية المختلفة (سياسية ـ ثقافية ـ اقتصادية ـ واجتماعية) وتعد العلامات والسمات المختلفة التي تميز الإشهار مرآة تعكس ما يجري في المجتمع من أحداث وتفاعلات سلباً أو إيجاباً يحاول الإشهاري تأكيدها أو الإقناع بها أو تعريتها وكشفها أمام الجماهير، ويمكن للإشهار أن يُمكننا من معرفة بنية الوعي الاجتماعي، إلى جانب شرح العناصر المكونة له وتحليل الروابط المتبادلة ودراسة قوانين تطوره (14).
فالممعن في الإشهاريات الخليجية مثلاً يخلص إلى كمٍ هائلٍ من الصفات التي تسم مجتمعاً بكامله بالاستهلاكية والسطحية ،بعكس ما يمكن أن يلاحظ في المجتمع الألماني على سبيل المثال لا الحصر...
هـ ـ المقاربة السيميائية:
وهي أهم المقاربات وأنسبها لتحليل الخطاب الإشهاري إلى جانب المقاربة التداولية، لأنها تجمع بين الصوت والصورة والموسيقى والحركة والأداء واللون والإشارة والأيقونة والرمز واللغة والديكور. الشيء الذي يجعلنا نقول إن الخطاب الإشهاري، وخصوصاً السمعي ـ البصري، عبارة عن فيلم قصير جداً يقوم بإنجازه أعوان كثيرون من مهندسين في اختصاصات مختلفة. ثمَّ إننا نزعم أن المقاربة السيميائية تشمل كل المقاربات السابقة وخصوصاً التداولية منها.
تتفرع السيمياء إلى فرعين كبيرين هما: سيمياء التبليغ وسيمياء الدلالة ولها اتجاهات كثيرة منها: الاتجاه الإيطالي الذي يتزعمه أمبرتو إيكو و لاندي والاتجاه الروسي الذي يشمل الشكلانية الروسية ومدرسة تارتو والاتجاه الفرنسي بمختلف تفرعاته، والاتجاه الأمريكي بزعامة بيرس وهو المؤسس الحقيقي للفكر السيميائي الغربي الحديث في نظر بعض الدارسين.
تتأسس النظرية السيميائية على عدة عناصر عند بيرس، وهي التطورية الواقعية والبراغماتية وانسجاماً مع هذه العناصر يؤسس بيرس فلسفته على الظاهراتية التي تعنى بدراسة ما يظهر(15)،وهو بهذا يوسع من نطاق العلامة لتشمل اللغة وغيرها من الأنظمة التبليغية غير اللغوية، فكل ما في الكون بالنسبة لبيرس علامة قابلة للدراسة .
ولهذا يعد منظور بيرس الأنسب والأصلح لدراسة الخطابات البصرية ومنها الإشهار؛ فلقد عملت الثورة التقنية في مجال تمثيل وإعادة إنتاج الواقع على قلب تاريخ التمثيل البصري التقليدي... فمن جانب سوف تحتكر الصورة الفوتوغرافية مجموعة مجالات التعبير التي كانت من نصيب الفنون التشكيلية من مثل رسم الطبيعة والصور الشخصية إلى غير ذلك، ومن جانب آخر ستعمل السينما والتلفزيون على تطوير استعمال الطرائق الفوتوغرافية وبخاصة فيما يتعلق بتمثيل الوقائع والمشاهد المتحركة موسعة بذلك من مفهوم الفرجة العرض الذي كان مقتصرا على المسرح (16) .
لن نطيل الحديث عن السيمياء واتجاهاتها وفروعها وروادها؛ وإنما سنحاول التطبيق مستثمرين أيضاً باقي المقاربات وخصوصاً التداولية والاجتماعية ـ الثقافية وذلك انطلاقاً من نص تراثي قديم.
- أنموذج ٌتطبيقي:
"يروى أن تاجرا عراقياً قدم إلى مدينة الرسول الله (ص)، بعدْل من الخُمُر، فباعها كلها إلا السود، فلم يجد لها طالباً، فكسدت عليه وضاق صدره فقيل لـه: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعر والموصوفين بالظرف والخلاعة، فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه وقص عليه القصة. فقال له: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال؟. فقال له التاجر: أنا رجل غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرّع إليه. فقال له الدارمي: "ما تجعل لي على أن أحتال لك حيلة قد تبيعها كلها على حكمك؟" فأجابه التاجر العراقي: "ما شئتَ". فخرج الدارمي من المسجد، وعمد إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وأعاد لباسه الأول، وقال شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنيين، فغنى به وكان الشعر:
قل للمليحةِ في الخمار الأسودِ ماذا فعلت بزاهدٍ متعبدِ
قد كان شّمر للصلاة ثيابهُ حتّى خطرتِ له ببابِ المسجدِ
ردي عليهِ صلاته وصيامهُ لا تقتليه بحق دين محمدِ
فشاع هذا الغناء في المدينة، وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق مليحة بالمدينة إلا واشترت خماراً أسوداً، وباع التاجر ما كان معه، فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي، فيقولون له: ماذا صنعت؟. فيقول: ستعلمون بنبأه بعد حين. فملا أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه (17).
نحاول قراءة هذا النص بتقسيمه كما يلي:
1ـ مقام النص: ويبدأ من "يروى أن تاجراً عراقياً... إلى فغنى به"
2ـ بؤرة النص: وتتمثل في الأبيات الشعرية الثلاث.
3ـ فائدة النص: وتتمثل في نتيجته المحققة ويبدأ من "فشاع هذا الغناء في المدينة.. إلى آخر النص"
1ـ مقام النص: ويمثل جملة الظروف والأحوال المحيطة بإنتاج هذا النص/ الخطاب، فيحكي لنا التاجر العراقي الذي قصد المدينة بعدْل من الخمر فباعها كلها إلا السود فلم يجد لها طالبا فكسدت عليه، وقد أدى هذا الكساد إلى تأثر التاجر العراقي وتأزمه نفسياً، وذلك ما تلخصه عبارة: "وضاق صدره" فخاف من الخسارة، شأنه شأن أي تاجر، وخصوصاً أنه قطع رحلة طويلة من العراق إلى المدينة، وكان عليه أن يجد وسيلة لبيع سلعته الكاسدة "الخمر السود"، فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي".
إن المرسل ـ هنا ـ غير محدد بشخص معين شأنه شأن بداية النص بـ "يروى"؛ فكلاهما مبني للمجهول أو لمن يسمّى فاعله؛ إن المرسل ـ هنا ـ قد يكون واحداً أو جماعة ممَّا يؤكد على أن هناك اتفاقاً من الجماعة على قدرة مسكين الدارمي في جعل التاجر العراقي يبيع سلعته المتمثلة في خمره السود.
ولذلك تمَّ استعمال الفعل "ينفّقها لك" على وزن "يُفًعّلها" دلالة على الكثرة مسبوقاً بنفي "ما" ومتبوعاً بأداة الحصر "إلا" تأكيداً على دور مسكين الدارمي وشهرته في مثل هذه الأشياء وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالنساء، ومسكين مشهور بالظرف والخلاعة والسلعة التي أتى بها التاجر العراقي إلى المدينة سلعة موجهة إلى النساء.
"فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد".
تمثل هذه العبارة عقدة الخبر، فالتاجر العراقي قصد الشاعرً بسرعة فوجده في حالة مختلفة عن الحالة المنتظرة، فمن الظرف والخلاعة إلى التزهد والانقطاع للعبادة في المسجد ممَّا يمثل خيبة انتظاره، ولكن مع ذلك أتاه وقص عليه القصة، ممَّا أثار تعجب مسكين فقال له: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال؟.
يمثل هذا السؤال من مسكين الدارمي بداية التمهيد لإبرام عقد تواصلي بينه وبين التاجر العراقي والتوقيع على بنوده. وقد أدى هذا بالتاجر العراقي لأن يترجاه ويتضرع إليه ، ما يمثل علامة دالة على ضعفه؛ إذ لا يتضرع إلا من يوجد في موقف ضعف، ويدل من جانب آخر، على أن الشاعر مسكين الدارمي صاحب خبرة ومراس ودراية بما يفعل بالرغم من تزهده وهو ما نلمسه ونلاحظه في عبارته:
"ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة قد تبيعها كلها على حكمك"
إن هذه العبارة مشحونة بعناية إغراء وإغواء تسلط بها الدارمي على الحساسية المتأثرة عند التاجر العراقي، وجعلها تنطق برغباته ، ممَّا يبين أنها عبارة إشهارية بامتياز تعبر عن ثقة التاجر العراقي بما طلبه الدارمي فقال: "ما شئتَ". وكأنه يوقع صكاً على بياض يسجل فيه الرقم الذي يريد مقابل بيع خمره السود، ممَّا يدل على أنها خمر غالية وثمينة.
إن عبارة "ما شئتَ" هي الأخرى إغرائية أسالت لعاب الدارمي، فقبل العرض بالرغم من انقطاعه في المسجد للعبادة، ولعل هذا يعود إلى كون العرض مغرياً، فكلمة "ما شئتَ" مفتوحة والإنسان مهما يكن يحب المال، ولذلك خرج الدارمي من المسجد ونزع ثياب النسك عنه ليناسب المقام الجديد ويؤدي الوظيفة بإتقان ويحقق الفائدة له وللتاجر العراقي، وتلك غاية الإشهار.
لقد انتهت مهمة التاجر العراقي وبدأت مهمة الشاعر مسكين الدارمي الذي عاوده الحنين إلى ماضيه فلبس لباسه الأول الذي كان يرتدي أيام الظرف والخلاعة قبل أن يتزهد. وهذا ما نجده في الإشهار في وقتنا، إذ أن "الإشهاري" يرتدي اللباس الذي يناسب محتوى موضوع الإشهار وبما يتعلق به من إثارة وإبهار، هي عبارة عن نظام من العلامات ذات علاقة بالثقافة التي يحملها الجمهور المشاهد للإشهار تمكنه من قراءتها ومتابعتها.
2ـ بؤرة النص:
وتتمثل في الأبيات الثلاثة التي أنشدها الدارمي وتعد القلب النابض للنص، وهي من الناحية الشكلية تتوسطه، تسبقها مقدمة النص أو مقامه كما رأينا، وتتلوها خاتمته، وهذا لا يعني أن ما قبل الأبيات الشعرية وما بعدها "حشو يمكن الاستغناء عنه، وإنما يجب أن نجعله سبباً ونتيجة، وليس لنا من مقياس علمي لضبطها وإنما هي موكولة إلى حس القارئ وذوقه... (18).
تظهر هذه الأبيات:
أـ الشاعر مسكين الدارمي وقد حدد هدفاً له: وهو بيع الخمر السود التي كسدت على التاجر العراقي ولم يستطع بيعها.
ب ـ حدد نوعية المتلقي الذي سيوجه إليه الخطاب ويتمثل في فتيات المدينة جميعها ولذلك كيّف صيغ خطابه ليلائمهن فاستعمل عبارة: "قل للمليحة في الخمار الأسود"
إن المليحة ـ هنا ـ هي التي ترتدي الخمار الأسود ولكن من لا ترتدي خماراً أسود فهي ليست مليحة. ويمكن أن يكون هذا هو عنوان النص بلا منازع: "المليحة في الخمار الأسود"(19).
إن عنواناً كهذا "يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا: إنه يقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه؛ إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه"(20).
ويمثل صورة نابضة بالحياة ناطقة بالرغبة، تمارس الإغراء على المتلقي وتعمل على استدراجه وإدخاله إلى ملكوتها، وقد مارست سحرها وفاعليتها في التأثير على الزاهد المتعبد فأخرجته من المسجد، وهو أمر قد تجاوز العادي إلى اللاعادي؛ لأنها لو مارست مفعولها على شخص عادي من المشهورين بالتلهف على النساء لما كان في ذلك غرابة.
والغرابة دليل على أدلة الإشهار.
فلو تخيلنا أن هذه المليحة في الخمار الأسود قد تم تصويرها فعلاً في صورة فوتوغرافية أو رسمها فنان تشكيلي في لوحة متناسقة الألوان وتم تعليقها على واجهة محل لبيع الملابس النسوية (الخمارات مثلاً...) مع قليل من الموسيقى أو مع أغنية ناظم الغزالي أو صباح فخري اللذين غنيا الأبيات المذكورة سابقاً... أو أن هذه الصورة ركبت وتمّ إخراجها في إشهار تلفزي فإن ما يثيرنا هو بلاغة الصورة في ثباتها وسكونها وما تحمله من تعابير ومعان وما تتأسس عليه من خلفيات معرفية واجتماعية، وهذا ما يذهب رولان بارت إليه عندما يقول "لا تقف البلاغة عند حدود النص المكتوب، بل إن الصورة أيضاً تتضمن أحداثاً بلاغية على عكس ما هو سائد عند البعض من أن البلاغة حكر على اللغة، وأن الصورة هي نسق جد بدائي قياساً إلى اللغة، ويرى البعض الآخر أن الدلالة تستنفذ ثراء الصورة الذي لا يمكن وصفه"(21).
ثمَّ إن الخمار الأسود يعد العلامة الأساسية في هذا النص، لأن هذه العلامة تلبس لباس الأمة وتكتسي بطابعها وتمثل قيمة عربية إسلامية مهمة لها خصوصياتها ومرجعياتها الدينية والاجتماعية التي ترتبط في وجدان من يتلقاها أو يستهلكها "بعوالم ثقافية ودوائر قيمية يتحول المفتوح (الخمار) من خلالها وفيها إلى مثير نفسي يحتكم إليه السلوك الفردي والجماعي"(22).
جـ ـ حوّل مسكين الدارمي السلعة الكاسدة وهي الخمر السود المرغوب عنها علامة مسجلة في سوق السلع النفسية، أو بتعبير آخر ماركة" مرغوباً فيها وذلك بمخاطبة المليحة في الخمار الأسود ورجائها أن ترد عليه صلاته وصيامه وهو الناسك المتعبد المنقطع في المسجد (23). وهكذا إذا كانت الألوان قد اكتسبت على مر العصور معاني ودلالات في حياة الأمم ما لبثت أن استقرت في ألفاظها وعباراتها وأصبحت رموزاً وإيحاءات فكرية، فإن اللون الأسود في الثقافة العربية الإسلامية يدل غالباً على الظلم والعبودية والظلام واليأس على العكس من اللون الأبيض الذي يرمز إلى النقاء والطهر والأمل والسلام.
ولقد حوّل مسكين الدارمي اللون الأسود لوناً ساحراً أخاذاً تلبسه المليحات؛ ممَّا يظهر براعته الفنية وعمق قريحته الشعرية الأصيلة وحسه المرهف، وحسن درايته وخبرته بالمليحات وما تحلم به الأنثى. وبهذا فإن الخمار الأسود باعتباره "ماركة" قد تحول إليها "ميثاق اجتماعي وثقافي واقتصادي يحيل على قيم مثل الثقة والتزكية والارتباط والأمانة"(24) وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعد الإشهار خطاباً حيوياً سعيداً خالياً من الهموم مملوءاً بالآمال الوردية، يعمل على تأسيس الألفة وبناء الثقة بينه وبين المتلقي، فمن هذه الزاوية ليس الإشهار "سوى صيغة أخرى من الصيغ "التطهيرية" التي تمكن الذات من الانتشاء بنفسها عبر المزيد من الانغماس في الوهم. ويتم هذا التطهير عبر السوق وفعل الشراء" (25)، وبخاصة عندما يركز الإشهاري الانتباه على الزوايا والمثيرات التي قد لا يلاحظها المتلقي.
ولقد عرّف مصممو الإشهار العناصر والألوان التي تلفت الأنظار وتؤثر في الاستجابات العاطفية لمشاهدي الإشهار فاستعملوا الألوان الدافئة المفرحة التي تنبض بالحركة والحيوية لدفع الناس إلى الإقبال على شراء السلع وبخاصة إذا تكاملت في سحرها وتناغمها مع الصورة في تأثيرها وتناسق ألوانها.
لا ننس حنكة الدارمي الذي استعان بصديق له يجيد الغناء فغنى الأبيات الشعرية في أرجاء المدينة فشاعت بين النساء، ويمثل المغني هنا وسيلة التبليغ التي نقلت الخطاب من المرسل إلى المرسل إليه بعد أن تمَّ شحنه لكي يكون أكثر فاعلية في التأثير على المتلقي المتمثل في فتيات المدينة. وتجب الإشارة إلى أن المغني الذي تغنى بأبيات الدارمي الشعرية، لم يغنها مرة واحدة وفي مكان واحد فقط، وإنما كرر التغني بها في مختلف أرجاء المدينة لتشيع بين الفتيات بل ليست الفتيات فقط؛ وإنما كل من يشتري خماراً أسود حتّى من الرجال؛ فمنهم من يشتري للمليحة خماراً أسود ليؤكد لها ولعه وحبه. نلاحظ هذا في حياتنا الاجتماعية المعاصرة ممثلاً في الاستعانة بالممثلين أو الرياضيين أو المغنيين أو غيرهم... بحسب ما يقتضيه موضوع الإشهار.
يكمن مفعول الأغنية في الوصلة الإشهارية في كون "اللحن يحمي الكلمات من كل حكم ومن الرقابة؛ فالغناء يضمد الجسم الاجتماعي مثلما تفعل الأناشيد والتراتيل الكنائسية..."(26)، ويجعل المتلقي يعيش الحلم، حلم اليقظة ويحلق مع ما تنطق به رغباته ومخيلته.
3ـ خاتمة النص:
وتبدأ من "فشاع هذا الغناء في المدينة... إلى: فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه". وأهم ما يميز هذه الخاتمة أنها:
أـ أثارت حيرة الناس فقالوا: "قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الأسود" وتؤكد هذه العبارة معرفة الناس بالدارمي وبسلوكه القديم الذي كان يتميز بالظرف والخلاعة، وبشعبيته عند الفتيات وتعلقهن به "أو بمن يشبهه من الشباب أو بما يمثله الدارمي من شباب ونزق وحركة وحياة ورجولة وشاعرية ومركز اجتماعي... وطمع كل واحدة منهن بأن تكون صاحبة الخمار الأسود التي تتصدى للناسك المتعبد، فترده عن صلاته وصيامه وتجعله يخلع ثياب الزهد والتعبد والوقار من أجل جمالها والظفر بحبها ووصلها"(27)، وهو ما يؤكد أنها مليحة خارقة تجاوزت العادي المألوف، وهذا ما نلاحظه أيضاً في وقتنا، فكثيراً ما تتعلق الفتيات بمغنين أو بممثلين... فهذا التعلق يلامس الفتيات من الداخل ويدغدغ عواطفهن ويعمل على إيقاظ الإنسان الذي يرقد في أعماقهن جميعاً، حتّى إن كان ذلك مستوراً خفياً ومقيداً بعادات اجتماعية وقيم أخلاقية تحد منه أو تكتمه أحياناً، وقد يظهر في اللحظة المناسبة التي تكسر القيود وتفجر المكبوت.
ب ـ أثارت استغراب النساك إخوان الدارمي فجعلوا يقولون له: "... ماذا صنعت؟"؛ فقد ظنوا أنه ارتد وحاد عن طريق الحق وجادة الصواب، ولكنه كان واثقاً من نفسه عارفاً بالوظيفة التي يؤديها ولذلك كان يقو
الخطاب الإشهاري
دراسة سيميائية معمقة
إعداد الباحث:
يامن عيسى خضور
محتويات البحث
مقدمة................................................................ .2 -
أشكال الخطاب الإشهاري وأنواعه..................................6 -
عناصر الخطاب الإشهاري ووظائفه................................8 -
مكونات الخطاب الإشهاري وآلياته.................................10 -
.................................12…SLOGAN الإشهار التجاري -
الخطاب الإشهاري بين التقرير والإيحاء...........................17 -
- المقاربات المنهجية في تحليل الخطاب الإشهاري................19
أنموذج ٌتطبيقي.......................................................22 -
الهوامش ............................................................29 -
- المراجع ............................................................ 31
مقدمة:
تذكر المعاجم اللغوية أن السومة والسيمة والسيمى والسيماء والسيمياء تعني العلامة، ويعرف المعجم الوسيط علم السيمياء بأنه علم يبحث دلالة الإشارات في الحياة الاجتماعية وأَنظمتها اللغوية.
وهناك عدة تعريفات لهذا العلم، من بينها أنه نظام الشبكة من العلامات النظمية المتسلسلة وفق قواعد لغوية متفق عليها في بيئة معينة، أو دراسة الأنماط والأنساق العلاماتية غير اللسانية، أو علم الإشارة الدالة مهما كان نوعها وأصلها(1) .
و باختصار هو علم شمولي له علاقة بكل ما ينتجه الإنسان من علامات لغوية وغير لغوية (2).
ويهدف إلى دراسة المعنى الخفي لكل نظام علاماتي في كنف الحياة الاجتماعية (3)، وقد يشكل فرعاً من فروع علم النفس الاجتماعي، ومن أبرز أعلامه دي سوسير وشارل بيرس ورولان بارت الذي يقول:
إن التطور الكبير الذي شهده الإشهار والصحافة ، والراديو وفن الديكور دون أن نتعرض لبقايا عدد لا نهائي من الطقوس التواصلية_وهي طقوس المظهر الاجتماعي_ يجعل تشكيل علم سيميائي مهمة أكثر استعجالاً من ذي قبل.
ولا جدال أن الخطاب الإشهاري يعد من الخطابات التي تندرج ضمن الممارسات الثقافية اليومية كالخطاب الأدبي أو السينمائي أو البصري، فإلى جانب بعده الاقتصادي-الاجتماعي المرتبط بالدعاية التجارية، يكتسي هذا الخطاب طابعا ً ثقافيا ً يتمثل في مكوناته اللغوية والأيقونية والسيميائية والتداولية (4).
ويعتبر هذا الخطاب صناعةً إعلاميةً وثقافية بأتم معنى الكلمة، ولذلك فهو يحظى باهتمام كبير في المجتمعات المتطورة لما يتميز به من قدرة عالية على بلورة الرأي وتشكيل الوعي وفي التأثير على الثقافة وتوجيهها في أبعادها المختلفة الأخلاقية والفلسفية، أما في المجتمعات المتخلفة فلا يزال هذا الخطاب مغمورا ًً وبعيداً عن الدراسة إلى حدٍ ما رغم هيمنة الصورة على الحياة المعاصرة وتوجيهها لأهم استراتيجيات التواصل الإنساني و يعزي الدكتور قدور عبد الله ثاني هذا إلى سيادة ما يسميه علماء الاتصال بالثقافة اللفظية أو الشفوية(5)،
ويمكننا أن نقول أن أقوى مستوى ظهور للخطاب الإشهاري وأكثره أداءً هو مجال الصورة بتشكلاتها المتنوعة، فهي تجد لنفسها مكاناً في الجريدة والمجلة والتلفزيون والسينما واللوحة التشكيلية واللباس والكتاب وعلى واجهة الجدران والحافلات والسيارات وعلى صدر لوحات منصوبة على أعمدة بجانب الطريق، بل وفي بعض المدن والبلدان المتقدمة، تنصب لها شاشات عملاقة تقوم فيها على مبدأ التناوب وفق ما يقتضيه ظرف ومصدر وهدف إنتاجها.
وفي ظل هذه الثقافة : ثقافة الصورة واستهلاكها بعفوية وإطلاقية غير واعية، أصبح لزاماً على متلقيها التعامل معها بوصفها خطاباً موازياً للخطاب اللغوي الكلاسيكي،وهنا نذكر المثل الصيني القائل (الصورة بألف كلمة)
فإذا اقتنعنا بعدم وجود إبداع بريء، و لما كانت الصورة إبداعاً في بيئة ثقافية ، فكيف نتصور خروجها عن منطق هذه القاعدة الثابتة، إننا نعيش في عالم الصورة وعولمتها، فنكون مضطرين لاستهلاكها بل وابتلاعها، ولا بد أن نشير إلى أن نوع الصور المشار إليه بالدراسة هو الصور المؤطرة أي تلك التي تدخلت فيها اليد البشرية ، فتم تسخيرها للتأثير على الجمهور في مختلف المجالات والأغراض، أما الصور الأخرى فهي صور طبيعية خاضعة لقوانين فيزيائية، إذن إن النوع الذي يثير اهتمامنا وتساؤلنا هو الصورة المؤسسة والمؤطرة، بوصفها إبداعاً بشرياً يوظفها للإبلاغ عن مشروعه الحياتي : الفكري / الثقافي، والاقتصادي / التجاري، والفني / الإبداعي. وذلك تبعا لمجال اشتغال مبدع هذه الصورة،فما نشاهده في صورة ما ليس هو حقيقة ذلك الشيء الذي تمثله، بدعوى اختلاف وتعدد المنظور الريؤي / البصري، أي تبعاً لزاوية أخد الصورة وظرف التلقي، وأنها أيضا تتأسس على مبدأ الجمال والجودة : صورة جيدة تهدف إلى حصول التأثير في أقل فترة زمنية ممكنة وعلى الأخص لما يكون الموضوع يستهدف تقديم منتج ٍ أو استقطاب جمهور،كما في حالة الملصق الإشهاري.
و هذه الدراسة تهدف إلى محاولة البحث عن جملة العناصر التي تجعل من الإشهار خطاباً سيميائياً وتداولياً بالنظر إلى صوره الثابتة والمتحركة بما تحمله من كفاءة وقوة على التبليغ والتواصل وما يكمن فيها من عناصر جمالية وفنية وطاقة وفاعلية في التأثير على المتلقي، وذلك أن الإشهار فن إعلامي يستند على مؤشرات مرئية مثل العناوين في كتابتها ومضامينها وأنواع الطباعة والصورة... من خلاله يمكن تأسيس تعارف وعلاقة بين المخاطب والمتلقي أو بين المنتج والمستهلك. فهدفه ـ أولاً وقبل كل شيء ـ هو تبليغ خطاب، ولذلك يتوخى أن تكون أفكاره واصفة وهادفة ويستعمل وسائل تبليغ متنوعة ومتناسقة يسخرها كلها في سبيل تحقيق الهدف المحدد.
وهكذا فإن الإشهار متنوع الأشكال والأهداف، فقد يتم توجيهه إلى فرد أو جماعة أو حزب أو أمة... وقد يكون علمياً أو ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً، وقد يكون مسموعاً أو مكتوباً أو سمعياً ـ بصرياً. إنه كما يقال: فن مركب يضع العالم بين يديك (6).
ـ أشكال الخطاب الإشهاري وأنواعه :
أ ـ الإشهار المسموع:
ويتم من خلال الكلمة المسموعة في الإذاعات والمحاضرات والندوات والخطب... وتعد الكلمة المسموعة أقدم وسيلة استعملها الإنسان في الإشهار، وأهم ما يميزها هو طريقة أدائها، إذ يلعب الصوت دوراً بالغ الأهمية في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس، وتصحب الكلمة المسموعة أحياناً الموسيقى فتزيدها طاقة كبرى على الإيحاء والوهم والتخيل، وعملاً على استثارة الحلم وإيقاظ الراقد في الأعماق.
ب ـ الإشهار المكتوب:
ويتخذ وسيلة له الصحف والمجلات والكتب والنشرات والتقارير والملصقات على جدران المدن أو في ساحاتها العامة حيث يكثر الناس(7) وذلك ما نلاحظه من صور لزجاجات العطر أو أنواع الصابون أو الساعات...الخ.
والأمر نفسه لما نلاحظه من إشهار على اللوحات الإعلانية الثابتة أو المتحركة في ملاعب كرة القدم مثلاً، لأنَّ ذلك يجعلها تشيع ويتسع مداها وتصل إلى أكبر قدر ممكن من المتلقين...
جـ ـ الإشهار المسموع والمكتوب (السمعي ـ البصري):
وسيلته الأساسية التلفزة، ويتم بالصورة واللون والموسيقى وطريقة الأداء والحركة والموضوع، فهو فيلم صغير يتعاون على إنتاجه وإنجازه فريق عمل متخصص في: الإخراج والديكور ووضع الأثاث، والحلاقة والتجميل، والإضاءة والتسجيل وضبط الصوت والتركيب والتمثيل...الخ.
وهذا يبين ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ أهمية الإشهار كخطاب سار في المجتمع له خصوصياته وأبعاده، وأهمية الدور الذي تلعبه التلفزة كوسيلة إعلامية في المجتمع... أما أنواعه فهي:
أ ـ الإشهار التجاري:
ويرتبط بالاستثمار والمنافسة، ولذلك فإن استراتيجيات التسويق واستراتيجيات الإشهار في ارتباط ٍشديد، وسيكون لهذا النوع خاصة ًقسطٌ وافر ٌمن جهدنا في هذا البحث نظرا ًلأهميته و خطورته.
ب ـ الإشهار السياسي:
ويرتبط بالتعبير عن الآراء المختلفة ومحاولة التأثير على الرأي العام بتقديم الإشهار في شكل يبرز أهمية الرأي بأنه هو الأحسن وهو الأفضل من بين كل الآراء الأخرى المتواجدة في الساحة، كما هو الحال في الدعاية للحملات الانتخابية.
جـ ـ الإشهار الاجتماعي:
ويهدف إلى تقديم خدمة أو منفعة عامة للمجتمع، مثلاً: الإعلان عن مواعيد تلقيح الأطفال أو إسداء نصائح للفلاحين، أو الدعوة إلى الوقاية والحذر من أمراض معينة.
ـ عناصر الخطاب الإشهاري ووظائفه:
إن الحديث عن الخطاب الإشهاري يفرض التمييز بين قطبين أساسيين متباينين ومتكاملين في الآن نفسه، ويتمثلان في البعد النفسي الاجتماعي-الاقتصادي الذي يوجد خارج الخطاب؛ والبعد الخطابي بصفته نسيجا تتشابك فيه مجموعة من العلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية. فالمسار السوسيو-اقتصادي يمثل الإطار العام الذي تمارس داخله عملية الإشهار. ويعطي الخطاب الإشهاري لنفسه مهمة الإخبار عن خصائص ومميزات هذا المنتج أو ذاك بهدف الدفع بالمتلقي إلى القيام بفعل الشراء.
ويتأسس على جملة من العناصر المترابطة ببعضها باعتباره نسيجاً لغوياً وغير لغوي تتشابك فيه مجموعة من الوسائل والعلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية (، وتتمثل هذه العناصر في:
أ ـ المرسل أو الإشهاري:
وهو الذي يُحدث الخطاب ويعمل على شحنه بما يحتاجه من مادة إشهارية لازمة بالنظر إلى الموضوع الذي يدور حوله الإشهار، ثمَّ يقوم بإرساله نحو المتلقي الذي يتحدد بناء على نوعية المنتج: فالروائح والعطور والورود... ترسل إلى النساء والحليب والجبن وأنواع الحلوى واللُّعب ترسل إلى الأطفال... والحقائب البراقة والمكاتب الفاخرة والسيارات اللامعة غالباً ما يتم إرسالها إلى رجال الأعمال... وهكذا يعمل المرسل الإشهاري على تحقيق الوظيفة التعبيرية في الخطاب الإشهاري، فيضمنه ما يثير ذوق المرسل إليه أو المتلقي ويسيل لعابه نحو المنتج، ولذلك يكيف صيغه حسب الأحوال والمقامات التي يقتضيها.
ب ـ المرسل إليه (المتلقي):
وهو العنصر الثاني المهم في العملية الإشهارية وهو المقصود بالإشهار ولا تتم العملية الإشهارية إلا به ومن خلاله تتحقق الوظيفة الإفهامية أو الطلبية إذ يعمل المرسل على إفهام المرسل إليه بجدوى المنتج وأهميته بأي طريقة، فيقدم على استهلاكه ويحقق الهدف الأساسي الذي يريده المرسل.
ب ـ الخطاب أو الرسالة الإشهارية:
ويفترض وجود مرسل أو متكلم يُحدث أقوالاً ومتلقياً يستقبل هذه الأقوال ويعمل على فهم أنساقها الدلالية المختلفة واللسانية والسيميائية (الأيقونة البصرية) وتحليلها وتأويلها بعد ذلك. وهنا تتحقق الوظيفة الأساس في الخطاب بعامة وفي الإشهار بخاصة وبقية الوظائف خدم لها إن جاز القول.
جـ ـ المقام :
إن العلاقة بين المرسل والمرسل إليه أو بين المخاطِب والمتلقي لا تتم بشكل اعتباطي ، وإنما تتم بحسب ما يقتضيه المقام وأحوال الخطاب وظروفه المختلفة المحيطة بإحداثه وإنتاجه وإرساله واستقباله، وما يتطلب ذلك من خصائص لغوية وغير لغوية يمكن أن نطلق عليها "قرائن الخطاب أو الحديث"9 وهي كما يرى الدكتور عصام نور الدين "الإطار أو الموضوع الذي يقع تحته الحديث ـ سواء أكان فكاهة أم رواية أم خطبة أم شعراً أم أي مرسلةٍ أخرى ـ ولكل إطار سمات تميزه عن بقية الأطر وتؤثر لغوياً في الموضوع وفي اختيار الكلمات وضروب الاستعمال وطول التراكيب اللغوية أو قصرها... )10(.
ومن خلال عنصر المقام تتحقق الوظيفة المرجعية بالنسبة لمرسله ولمتلقيه بما يحملان من خصوصيات لغوية وغير لغوية وثقافية وإيديولوجية واجتماعية ونفسية...
هـ ـ الوضع المشترك بين المتخاطبين:
ويتمثل في أن ينطلق طرفا الخطاب من الأوضاع نفسها، فهناك علاقات وثيقة بينهما ويمكن أن تراعى في تحليل الخطب الإشهاري واتخاذها سمات تجمع بين مرسل الخطاب ومتلقيه وهي:
ـ وحدة اللغة: فالإشهاري يستثمر في خطابه الكلمات والجمل التي يعبر بها مجتمعه عن أغراضه المختلفة.
ـ وحدة الثقافة: أي التراث الثقافي المشترك والعقيدة الفكرية العامة المشتركة.
ـ وحدة البداهة: أي مجموع الأفكار والمعتقدات وأحكام القيمة التي يفرزها الوسط فيتقبلها كأمور بديهية لا تحتمل التبرير أو الاستدلال وعن هذا العنصر تتولد الوظيفة الماوراء لسانية (11).
و ـ قناة التبليغ:
وهي الوسيلة المستعملة في إيصال الحديث سواء أكانت صوتية أو أي وسيلة أخرى، وفي الخطاب الإشهاري، إما أن تكون وسائل مكتوبة مثل الجرائد والمطبوعات والملصقات... أو تكون سمعية بواسطة الراديو مثلا... أو بواسطة التلفاز... الخ. أو بوسائل أخرى بحسب ما تقتضي الظروف وتستدعي الضرورة، وهنا تتحقق الوظيفة الانتباهية وذلك أن الإشهار يعمل على أن يثير ردود أفعال الملتقي وانتباهه نحو الموضوع.
- مكونات الخطاب الإشهاري وآلياته:
يتكون الخطاب الإشهاري من نسقين دلاليين أساسيين: النسق اللساني، والنسق الأيقوني البصري. أما النسق اللساني فتكمن أهميته بالنسبة للنسق الأيقوني، من حيث كونه يوجه القارئ نحو قراءة محددة، ويربط بين مختلف مقاطع النسق الأيقوني، لاسيما عندما يتعلق الأمر بصورة ثابتة ،مثال شعار خدمة أخبار الجزيرة على الهاتف النقال (الرغيف الساخن،والذي يتبع بمقولة :لأن الوقت لا ينتظر) .
إلا أن أهمية النسق اللساني تبقى رغم ذلك قاصرة أمام بلاغة الصورة ، فهي ذات التأثير الأكبر في نفس المتلقي، فهي تستوقفه لتثير فيه الرغبة والاستجابة، وبلغة التجربة البافلوفية (نسبة إلى بافلوف) لعاب يسيل لمجرد سماع صوت الناقوس.
ويكتسي النسق الأيقوني هذه الأهمية نظراً لوظائفه المتعددة، التي يمكن اختزالها في النقاط الآتية:
ـ أولاً. الوظيفة الجمالية:
ترمي إلى إثارة الذوق قصد اقتراح البضاعة.
_ثانياً. الوظيفة التوجيهية:
الصورة فضاء مفتوح على كل التأويلات، لهذا تكون مرفقة في أغلب الأحيان بتعليق لغوي يسمى الشعار ((SLOGAN قد يطول أو يقصر. وفي هذا الإطار تحيلنا الصورة على قراءة النص الذي يثبت فيه الداعي أفكاره وحججه.
ثالثاً. الوظيفة التمثيلية:
تقدم لنا الأشياء والأشخاص في أبعادها وأشكالها بدقة تامة، الشيء الذي قد تعجز عنه اللغة في كثير من الأحيان، أي أنها تبقى المرجع الأول والأخير الذي يجد فيه النص تجسيده وتقويمه، إذ أن المشاهد يغدو ويروح بين النص والصورة، ليظل باله معلقا بهذه الأخيرة.
رابعاً. الوظيفة الإيحائية:
الصورة تعبير يغازل الوجدان، ويغذي الأحلام، لأنها عالم مفتوح على مصراعيه لكل التأويلات والتصورات، وهي تحاور اللاوعي وتوحي بمشاعر تختلف في طبيعتها من مشاهد إلى آخر.
خامساً. الوظيفة الدلالية:
إن الوظائف الأربعة الأولى تتضافر لخلق عالم دلالي معين، وهذه الدلالة تأتي نتيجة التفكير والتأمل الذي أسسته الصورة لدى المشاهد.
وداخل هذين النسقين اللساني والأيقوني، تتمظهر مجموعة من الآليات الفاعلة داخل نسيج الخطاب الإشهاري، والتي تشكل استراتيجية أساسية مشابهة لاستراتيجية المحارب، حيث تهدف إلى إفشال الطاقة النقدية لدى المتلقي/المشاهد، عبر استمالته لفعل الشراء. ومن بين الآليات المعتمدة في ذلك "آليات الإقناع المنطقي" وبعض الآليات الأخرى التي تستند إلى العلامات والرموز والصور التي تجد مرجعيتها في المتخيل العام للمجتمع: فإذا كان إشهار منظف الغسيل ( أرييل (Ariel يتوسل الإقناع المنطقي من خلال إخضاع المنتج المرغوب ترويجه إلى تجارب دقيقة تجعل منه مادة فريدة من نوعها، فإن إشهار(نيدو.. حليبٌ تنمو معه الأجيال)، يعتمد الرمز لخلق التميز عند الفرد، ويلحقه بفئة تمثل المرجعية على المستوى الاجتماعي. ونتيجة لذلك تصبح البضاعة واجباً على كل من يرغب في الالتحاق بصف الأبطال والمتفوقين وبالتالي الاندماج مع فئة نموذجية. وهذا ما نلاحظه أيضا بشكل جلي في الإرساليات الإشهارية التي توهم المتلقي أن بإمكانه التميز عن غيره في حالة استعمال هذا المنتج دون غيره ،كالإشهار الذي يروج لسيارة (لينكولن) وعند تتبع هذا الخطاب بالتحديد وجد أن له شكلين: خطابٌ موجه للخليج العربي وهو (سيارةٌ تسمو بها) وآخر مستخدم في أوروبة وهو (سيارةٌ تسمو بك) ولا يحتاج هذا إلى كثير شرح ٍ ،فهذه الشركة تستثمر فهمها للبنية النفسية للمجتمعات وتسوق منتجاتها عبرها.
و مما يعمد الخطاب الإشهاري إليه أحياناً شخصنة الشيء ، بأن يضفي عليه طابعاً إنسانياً مثلاً إشهار رونو5: ( أنا رونو خمسة)، و إشهار البنك السعودي الفرنسي /بيمو/ : (منا و فينا)، والتشخيص مفهوم إيديولوجي أساسي لمجتمع يهدف من وراء تشخيص الأشياء والمعتقدات إدماج الفرد في نمط اجتماعي معين،
ومن خدع آليات الإشهار كذلك محاولته الظهور بمظهر البراءة، وبمظهر الصديق الذي لا يحركه هاجس المنفعة (الجانب الاقتصادي)، وإنما هدفه تقديم مساعدات وخدمات، لذا غالبا ما يلجأ الإشهاري إلى المطابقة بين المرسل والمرسل إليه بتوظيف لعبة الضمائر: (من شيمنا كرم الضيافة، فلنتشبث بكرمنا؛ مع رونو نشعر بالأمان..).
ويلاحظ أن المكون اللساني الأهم للخطاب الإشهاري التجاري هو الشعار أو ما يصطلح على تسميته ((SLOGAN.
- الإشهار التجاري (SLOGAN) :
وهو جملة قصيرة مختصرة تتخذها الشركة شعاراً في الحملات الإشهارية, وينبغي لهذا الشعار أن يكون مدروساً بحيث يحقق الهدف النهائي المرجو منه وهو ترك أثرٍ نفسيٍ إيجابي في نفس الزبون (المُحتَمَل).
وهنا يجتمع الأثر الذي يتركه الإشهار اللساني مع أثر الإشهار الأيقوني للشركة ليعكسا الصورة التي تريد الشركة ترسيخها داخل العقل الباطن للمتلقي (المستهدف).
وتختار الشركات الكبيرة شعاراتها بشكل بالغ الدقة والحذر, فالشعار هو من أخطر الأمور التي قد تضر بالشركة في حال تبين فشله أو عدم تركه الأثر المطلوب. ومن شروطه:
1. أن يكون بسيطاً سهل الحفظ ذو لهجة انسيابية موسيقية معينة.
2. أن يفهم المستهلك ما تريد الشركة قوله من وراء هذا الشعار دون أن يعكس بالضرورة نشاط الشركة بشكل مباشر.
فحتى يترك الشعار أثره المطلوب لا بد أن يكون سلساً يعلق في الذاكرة دون جهد يُذكر من قبل المستهلك, فعلى سبيل المثال شعار على غرار نحن الأفضل في عالم الاتصالات) هو شعار ناهيك عن كونه مبتذلاً فسينسى على الفور, وخصوصاً إذا ما قورن بشعار شركة الثريا للاتصالات الفضائية نذهب بعيداً, لتبقى قريباً).
وليس بالضرورة أن يكون الشعار موزوناً ومباشراً, ولنأخذ مثلاً شعاراً لشركة / Crossfire/ المعروفة في مجال صناعة الأحذية: We Lead, Other’s Follow)) : (نحن نقود ، الآخرون يلحقون) .
لا بد لكل متلقٍ لهذا الشعار أن يفكر في الثقة المفرطة التي تدعيها هذه الشركة والتي لا تعتبر نفسها الأفضل فحسب, بل تعد نفسها رائدة ً وأن بقية الشركات تقوم بمحاولة تقليدها واللحاق بها، هذا النوع من الشعارات نستطيع أن نضعه في خانة شعارات التحدي والتي قد تترك أثراً جيداً في نفس الزبون بشرط ألا تستخدمها شركات مغمورة أو ناشئة لأنها قد تتحول إلى مثار سخرية الزبون بدل إعجابه.
وليس بالضرورة أن يعكس الشعار نشاط الشركة التجاري بشكل مباشر, بل على العكس فإن هذا النوع يعد من أردأ أنواع الشعارات ،لأن أكثر الشعارات عبقرية ًهي تلك التي تمتاز بالانزياح وهي ما نسميها بالإشهارات البلاغية والتي تلعب دوراً مهماً في افتتان المتلقي وبالتالي استحالة نسيانه للشعار. وتقسم الشعارات إلى أنواع ثلاث هي:
1. شعارات تعكس نشاط الشركة أو خصائص المنتج بشكل مباشر.
2. شعارات تعكس النشاط بشكل غير مُباشر.
3. شعارات لو نظر إليها بشكل مجرد لوجد أنها لا تعكس شيئاً مما تقدمه الشركة.
بالنسبة لشعارات النوع الأول فهي كما ذكرنا سابقاً من أسوأ أنواع الشعارات ومثالٌ عليها :
(الأفضل في عالم التكييف). إن الزبون في هذا العصر لن يُصدق أن تلك الشركة هي الأفضل في عالم التكييف لمجرد أنها تقول هذا عن نفسها, فالزبائن في هذا العصر أصبحوا صعبي الإقناع لا ينجذبون إلا بعد أن تُجهد الشركة نفسها باحثة عن عبارات ملتفة تؤثر في نفس الزبون وعقله الباطن دون أن يشعر.
أما النوع الثاني من الشعارات فهو على غرار شعار شركة الثريا ( نذهب بعيداً, لتبقى قريباً) يشير الشعار بشكل غير مباشر إلى نشاط الشركة المتمثل في تقديم خدمة الاتصال عن طريق الأقمار الصناعية .
النوع الثالث و هو أصعب أنواع الشعارات بالنسبة للشركات ولا تغامر باستخدام هذا النوع سوى الشركات العملاقة والمشهورة عالمياً، وهذا يجعلنا هاهنا نتطرق إلى نقطة هامة, وهي أن هذا النوع من الشعارات يتم إرساله استنادا ًإلى تدرج الشركة في بناء سمعتها على مدى أعوام .
فلنتخيل أن تقوم شركة جديدة ومغمورة في مجال الالكترونيات بطرح الشعار التالي كأول شعار لها:
( Ideas For Life) أفكارٌ من أجل الحياة) ،لا يعتقد أن شعاراً كهذا سيكون عاملاً مساعداً على نجاح شركة جديدة لم يسمع بها إلا القليل. لكن عندما تستخدم شركة مثل Panasonic هذا الشعار فهو سوف يتحول إلى بذرة إلهام عند المتلقي لدى قراءته أو السماع به, فالانطباع الذي تريد شركة عملاقة كهذه تركه عند الزبون هو أنها شركة تطور وتبتكر وتنتج في سبيل جعل الحياة أسهل وأكثر متعةً.
وللنظر كيف يمكن للإشهار أن يذهب بعيدا ً و يكرس منتجه كصفة خالصة في الذهنية الاجتماعية ومثال هذا شعار شركة سوني ( SONY IT’S.. إنه سوني). هذا الشعار يمثل قمة التألق لهذه الشركة, فمن المستحيل لشركة عادية أن تستخدم هذا الشعار، فلننظر إلى تلك الثقة المفرطة في كل شيء كُتب عليه Sony. فهي استخدمت كلمة Sony وكأنها صفة فبدل أن تقول عن منتجها أنه رائع أو ممتاز أو .. الخ. نراها تقول: إنه سوني، It’s Sony. وهذا أمر مفاده أن ماركة بهذه الجودة والشهرة لم تعد هنالك من كلمة لوصف جودتها إلا اسم الماركة بحد ذاته. فلو سُأل أحدهم : هل جهاز التلفزيون الذي تملكه جيد؟ فحينها سيجيب : إنه سوني، وبهذا ينتهي النقاش.
ولم تول ِالشركات العربية فيما مضى أهمية للشعارات في حملاتها التسويقية, ثم فيما بعد بدأت الشركات باستخدام الشعارات دون أن يكون لها ذلك الاهتمام المطلوب, ولهذا نرى غالبية الشعارات سخيفة ومبتذلة على غرار: للجودة عنوان , لأننا نهتم, وغيرها.
إلا أن الشركات الأجنبية العملاقة التي توجهت لسوق الشرق الأوسط قامت بإضافة الشعارات لحملاتها التسويقية باللغة العربية منها ما جاء ترجمة حرفية للشعارات الانكليزية لتلك الشركات ومنها ما تمت كتابته خصيصا للغة العربية. وهاك بعض الشعارات العربية:
- ريد بول بيعطيك جوانح... (ريد بول).
- ليس هدفنا هو الربح إرضاؤكم هو هدفنا...(الحمزة للكهربائيات).
- إسعد بامتلاكها... (هيونداي).
- مع تمنياتنا بالتوفيق ...(أريج للعطور).
- لأن الوقت لا ينتظر ...(الجزيرة موبايل) .
– دائما ً معك ...(سيريا تيل).
- نذهب بعيداً لتبقى قريباً... (الثريا).
– عنوان الرياضة في سوريا...(المخزن الكبير).
- عندما تُعشق الشوكولاته... (غالاكسي).
- نافذتك إلى العالم... (جريدة الدليل).
- الرأي والرأي الآخر...(قناة الجزيرة).
– شاشة ٌتجمعنا...(التلفزيون السوري).
- أن تعرف أكثر...(قناة العربية).
- نظافةٌ نالت ثقة الجميع...(النورس).
- البقع مفيدة...(أومو).
- ملتزمون بالتفوق...(كافاك).
- لسنا الوحيدين لكننا الأفضل... معظم الشركات السورية.
وغيره من المفارقات التي تدعو للدهشة والتفكر في حجم التفاوت الهائل المتعلق بفهم هذا الخطاب - من حيث مباشرتُه أو إيحائه ، ذكاؤه أو سذاجته ،جدته أو طرافته - والذي نزعم أنه يعود إلى ارتباطات ٍ وثيقة الصلة بالبنية النفسية و الاقتصادية والثقافية للمجتمع .
الخطاب الإشهاري بين التقرير و الإيحاء(البلاغة الإشهارية):
لا يقوم الإشهاري بالدعوة المباشرة إلى اقتناء منتج معين ، لأن المستوى التقريري يعتمد في بنيته على الإخبار عن المنتج فقط ، وعن صفاته التقنية، ومدى جودته، هذه المقومات وإن كان لها دورها الأساسي في عملية الإقناع بالتدليل على أهمية المنتج تبقى قاصرة ً عن إقناع المرسل إليه.
من هنا، تفرض مسألة الإيحاء نفسها بحيث إن الحديث عن البلاغة الإشهارية هو إلى حد بعيد حديث عن الإيحاء، الذي يعني حضور وإدماج الذاكرة السياقية في سيرورة الدلالة.
فنجاح إرسالية معينة رهين بكثافة الشحنات التي تحملها، وصورها الشاعرية الإيحائية، بحيث تكتسي لباساً أنيقاً من المعاني، وتنتقل من طبيعة مادية إلى عالم من القيم والدلالات بفضل تلك الهالة التي يضفيها عليها الإشهاري، فهو يعرف مواطن الإغراء والاغترار لدى الزبائن (سيارةٌ تسمو بها)، فيستعمل لذلك الاستعارة، والتشبيه المناسب، والكناية الموفقة، والأسلوب الغنائي الذي يلتزم السهولة والعذوبة، علاوة على مكونات بلاغية أخرى كبلاغة الصورة الحية، وبلاغة الحركة، وبلاغة الصوت المشكل، وبلاغة الموسيقى، وبلاغة الفضاء، وبلاغة الجسد(كتوظيف صورة المرأة، كاسيةً كانت أو عارية،والتي أصبحت نموذجاً في بعض المجتمعات لترويج السلع والبضائع، من خلال أبعاد صورتها الجسمانية، وما يتداعى عنها من غرائز جنسية، تستدعيها في نفسية المشاهد ، ليكون بعد ذلك أحد المستهلكين للبضاعة التي مرت إلى عقله عبر قناة الجسد، جسد المرأة المشتهى والأمثلة كثيرة )....
فكل مقوم من هذه المقومات الإيحائية ببنيته الداخلية، أو في علاقته بالمقومات الأخرى، يلعب دوراً مهماً في تكوين وخلق صور اصطناعية، تتراءى للمتلقي باعتبارها أشياءً طبيعية. من هنا يتجاوز الخطاب الإشهاري عبر آلياته المعتمدة فعل الشراء إلى احتضانٍ وتمثلٍ اجتماعيٍ لمقولاتٍ وتصوراتٍ ورؤىً، تتم صياغته في أشكال بلاغية سحرية، ويقدم على أنه الواقع والحقيقة.
انطلاقاً من هذه الاعتبارات المشار إليها، تكمن خطورة الخطاب الإشهاري كحقل غني بإيحاءاته وأساليبه وانزياحاته في استحواذه على اهتمام معظم الفئات الاجتماعية في عصرنا الراهن، إذ يشكل مهد علم الأساطير الحديثة، وبؤرة ثقافية للحياة اليومية، وهو الشيء الذي أكده "روبير كيران" بقوله: "إن الهواء الذي نستنشقه مكون من الأوكسيجين والنيتروجين والإشهار (12).
من هذا المنظور تأتي مشروعية المنهج السيميائي في الكشف عن الأبعاد الإيديولوجية التي تتسرب داخل نسيج الخطاب الإشهاري، أي تحديد نمط وجود هذه الإيديولوجية باعتبارها سلسلة من السلوكيات البسيطة التي تتميز ببديهيتها، لأنها تعد جزءاً من إرغامات النشاط اليومي، وهذا ما يجعلها _ في غالب الأحيان _ تنفلت من الدرس والمراقبة.
من هنا تكمن خطورة الإشهار في تمرير خطابه عبر مجموعة من الصور التي يستهلكها المتلقي بشكل طبيعي، ما دام أن كل صورة من هذه الصور تقدم دائماً كنسخةٍ ميكانيكيةٍ لوضعيةٍ واقعية، الشيء الذي يجعلها مغلفةً بمجموعة من القيم (كالفوز، والسعادة، والحب، والأمومة، والانتماء الاجتماعي…الخ)، والتي تجد مرجعيتها في المتخيل العام للمجتمع.
ـ المقاربات المنهجية في تحليل الخطاب الإشهاري:
توجد عدة مقاربات منهجية لتحليل الخطاب الإشهاري، وهي متداخلة مع بعضها ولا يخلو منها أي خطاب إشهاري وهي:
أ ـ المقاربة اللسانية:
أي دراسة الإشهار اللساني (الشعار التجاري) وهي البوابة التي ندخل من خلالها عالم الإشهار، إذ قلما ما يوجد-كما بينا سابقاً- إشهارٌ من دون لغة منطوقة أو مكتوبة بحسب ما تقتضيه الصورة الإشهارية في ثباتها وسكونها أو في حركاتها ونموها وتغيرها. وتكتسي هذه المقاربة المنهجية الانطلاق من النظام أو النسق اللساني فيبحث في مستوياته الصوتية والصرفية والمعجمية والتركيبية والدلالات الناتجة عن هذه المستويات كلها.
إلا أن أهمية النسق اللساني تبقى رغم ذلك قاصرة أمام بلاغة الصورة وأوليتها المتفاعلة المؤثرة ، فهي ذات التأثير الأكبر في نفس المتلقي حين تستوقفه لتثير فيه الرغبة والاستجابة (13).
ب ـ المقاربة النفسية:
وتكتسب أهميتها القصوى في كون الخطاب الإشهاري يركز على إغواء المتلقي واستدراجه بأن يتسلط على الحساسية المتأثرة لديه ويهيمن على أفق انتظاره فيجعله لا يرى شيئا غيره، فهو المناسب وهو الأجمل والأحلى والأبهى وهو الجديد الذي لم يصنع من قبل بل صنع لأجل المتلقي دون غيره...
جـ ـ المقاربة التداولية:
وتتمثل في كون الخطاب الإشهاري يهدف إلى تحقيق منفعة أو ربح أو فائدة ولا يكتفي بتبليغ الخطاب فقط وإنما يحرص على أن يلبس خطابه أجمل حلة ويتزيّا بأحلى الأزياء ويتأنق ويتألق من أجل تحقيق المبتغى. ويبرز ذلك في لغته المكثفة وجمله المختصرة وكلماته المشعة البراقة التي تتوجه نحو المستقبل فهو الذي يعنيها أكثر من غيره ولا تتوجه نحو الماضي إلا بما يخدم مصلحة الإشهاري ويتعلق بمستقبل المتلقي.
د ـ المقاربة الاجتماعية ـ الثقافية:
تحمل رؤى المجتمع المختلفة وثقافته، إذ يعد الإشهار إنتاجا لغوياً اجتماعياً يبرز العلاقات الاجتماعية المختلفة (سياسية ـ ثقافية ـ اقتصادية ـ واجتماعية) وتعد العلامات والسمات المختلفة التي تميز الإشهار مرآة تعكس ما يجري في المجتمع من أحداث وتفاعلات سلباً أو إيجاباً يحاول الإشهاري تأكيدها أو الإقناع بها أو تعريتها وكشفها أمام الجماهير، ويمكن للإشهار أن يُمكننا من معرفة بنية الوعي الاجتماعي، إلى جانب شرح العناصر المكونة له وتحليل الروابط المتبادلة ودراسة قوانين تطوره (14).
فالممعن في الإشهاريات الخليجية مثلاً يخلص إلى كمٍ هائلٍ من الصفات التي تسم مجتمعاً بكامله بالاستهلاكية والسطحية ،بعكس ما يمكن أن يلاحظ في المجتمع الألماني على سبيل المثال لا الحصر...
هـ ـ المقاربة السيميائية:
وهي أهم المقاربات وأنسبها لتحليل الخطاب الإشهاري إلى جانب المقاربة التداولية، لأنها تجمع بين الصوت والصورة والموسيقى والحركة والأداء واللون والإشارة والأيقونة والرمز واللغة والديكور. الشيء الذي يجعلنا نقول إن الخطاب الإشهاري، وخصوصاً السمعي ـ البصري، عبارة عن فيلم قصير جداً يقوم بإنجازه أعوان كثيرون من مهندسين في اختصاصات مختلفة. ثمَّ إننا نزعم أن المقاربة السيميائية تشمل كل المقاربات السابقة وخصوصاً التداولية منها.
تتفرع السيمياء إلى فرعين كبيرين هما: سيمياء التبليغ وسيمياء الدلالة ولها اتجاهات كثيرة منها: الاتجاه الإيطالي الذي يتزعمه أمبرتو إيكو و لاندي والاتجاه الروسي الذي يشمل الشكلانية الروسية ومدرسة تارتو والاتجاه الفرنسي بمختلف تفرعاته، والاتجاه الأمريكي بزعامة بيرس وهو المؤسس الحقيقي للفكر السيميائي الغربي الحديث في نظر بعض الدارسين.
تتأسس النظرية السيميائية على عدة عناصر عند بيرس، وهي التطورية الواقعية والبراغماتية وانسجاماً مع هذه العناصر يؤسس بيرس فلسفته على الظاهراتية التي تعنى بدراسة ما يظهر(15)،وهو بهذا يوسع من نطاق العلامة لتشمل اللغة وغيرها من الأنظمة التبليغية غير اللغوية، فكل ما في الكون بالنسبة لبيرس علامة قابلة للدراسة .
ولهذا يعد منظور بيرس الأنسب والأصلح لدراسة الخطابات البصرية ومنها الإشهار؛ فلقد عملت الثورة التقنية في مجال تمثيل وإعادة إنتاج الواقع على قلب تاريخ التمثيل البصري التقليدي... فمن جانب سوف تحتكر الصورة الفوتوغرافية مجموعة مجالات التعبير التي كانت من نصيب الفنون التشكيلية من مثل رسم الطبيعة والصور الشخصية إلى غير ذلك، ومن جانب آخر ستعمل السينما والتلفزيون على تطوير استعمال الطرائق الفوتوغرافية وبخاصة فيما يتعلق بتمثيل الوقائع والمشاهد المتحركة موسعة بذلك من مفهوم الفرجة العرض الذي كان مقتصرا على المسرح (16) .
لن نطيل الحديث عن السيمياء واتجاهاتها وفروعها وروادها؛ وإنما سنحاول التطبيق مستثمرين أيضاً باقي المقاربات وخصوصاً التداولية والاجتماعية ـ الثقافية وذلك انطلاقاً من نص تراثي قديم.
- أنموذج ٌتطبيقي:
"يروى أن تاجرا عراقياً قدم إلى مدينة الرسول الله (ص)، بعدْل من الخُمُر، فباعها كلها إلا السود، فلم يجد لها طالباً، فكسدت عليه وضاق صدره فقيل لـه: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي، وهو من مجيدي الشعر والموصوفين بالظرف والخلاعة، فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد، فأتاه وقص عليه القصة. فقال له: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال؟. فقال له التاجر: أنا رجل غريب وليس لي بضاعة سوى هذا الحمل، وتضرّع إليه. فقال له الدارمي: "ما تجعل لي على أن أحتال لك حيلة قد تبيعها كلها على حكمك؟" فأجابه التاجر العراقي: "ما شئتَ". فخرج الدارمي من المسجد، وعمد إلى ثياب نسكه فألقاها عنه، وأعاد لباسه الأول، وقال شعراً ورفعه إلى صديق له من المغنيين، فغنى به وكان الشعر:
قل للمليحةِ في الخمار الأسودِ ماذا فعلت بزاهدٍ متعبدِ
قد كان شّمر للصلاة ثيابهُ حتّى خطرتِ له ببابِ المسجدِ
ردي عليهِ صلاته وصيامهُ لا تقتليه بحق دين محمدِ
فشاع هذا الغناء في المدينة، وقالوا: قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم تبق مليحة بالمدينة إلا واشترت خماراً أسوداً، وباع التاجر ما كان معه، فجعل إخوان الدارمي من النساك يلقون الدارمي، فيقولون له: ماذا صنعت؟. فيقول: ستعلمون بنبأه بعد حين. فملا أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه (17).
نحاول قراءة هذا النص بتقسيمه كما يلي:
1ـ مقام النص: ويبدأ من "يروى أن تاجراً عراقياً... إلى فغنى به"
2ـ بؤرة النص: وتتمثل في الأبيات الشعرية الثلاث.
3ـ فائدة النص: وتتمثل في نتيجته المحققة ويبدأ من "فشاع هذا الغناء في المدينة.. إلى آخر النص"
1ـ مقام النص: ويمثل جملة الظروف والأحوال المحيطة بإنتاج هذا النص/ الخطاب، فيحكي لنا التاجر العراقي الذي قصد المدينة بعدْل من الخمر فباعها كلها إلا السود فلم يجد لها طالبا فكسدت عليه، وقد أدى هذا الكساد إلى تأثر التاجر العراقي وتأزمه نفسياً، وذلك ما تلخصه عبارة: "وضاق صدره" فخاف من الخسارة، شأنه شأن أي تاجر، وخصوصاً أنه قطع رحلة طويلة من العراق إلى المدينة، وكان عليه أن يجد وسيلة لبيع سلعته الكاسدة "الخمر السود"، فقيل له: ما ينفقها لك إلا مسكين الدارمي".
إن المرسل ـ هنا ـ غير محدد بشخص معين شأنه شأن بداية النص بـ "يروى"؛ فكلاهما مبني للمجهول أو لمن يسمّى فاعله؛ إن المرسل ـ هنا ـ قد يكون واحداً أو جماعة ممَّا يؤكد على أن هناك اتفاقاً من الجماعة على قدرة مسكين الدارمي في جعل التاجر العراقي يبيع سلعته المتمثلة في خمره السود.
ولذلك تمَّ استعمال الفعل "ينفّقها لك" على وزن "يُفًعّلها" دلالة على الكثرة مسبوقاً بنفي "ما" ومتبوعاً بأداة الحصر "إلا" تأكيداً على دور مسكين الدارمي وشهرته في مثل هذه الأشياء وخصوصاً إذا تعلق الأمر بالنساء، ومسكين مشهور بالظرف والخلاعة والسلعة التي أتى بها التاجر العراقي إلى المدينة سلعة موجهة إلى النساء.
"فقصده فوجده قد تزهد وانقطع في المسجد".
تمثل هذه العبارة عقدة الخبر، فالتاجر العراقي قصد الشاعرً بسرعة فوجده في حالة مختلفة عن الحالة المنتظرة، فمن الظرف والخلاعة إلى التزهد والانقطاع للعبادة في المسجد ممَّا يمثل خيبة انتظاره، ولكن مع ذلك أتاه وقص عليه القصة، ممَّا أثار تعجب مسكين فقال له: وكيف أعمل وأنا قد تركت الشعر وعكفت على هذه الحال؟.
يمثل هذا السؤال من مسكين الدارمي بداية التمهيد لإبرام عقد تواصلي بينه وبين التاجر العراقي والتوقيع على بنوده. وقد أدى هذا بالتاجر العراقي لأن يترجاه ويتضرع إليه ، ما يمثل علامة دالة على ضعفه؛ إذ لا يتضرع إلا من يوجد في موقف ضعف، ويدل من جانب آخر، على أن الشاعر مسكين الدارمي صاحب خبرة ومراس ودراية بما يفعل بالرغم من تزهده وهو ما نلمسه ونلاحظه في عبارته:
"ما تجعل لي على أن أحتال لك بحيلة قد تبيعها كلها على حكمك"
إن هذه العبارة مشحونة بعناية إغراء وإغواء تسلط بها الدارمي على الحساسية المتأثرة عند التاجر العراقي، وجعلها تنطق برغباته ، ممَّا يبين أنها عبارة إشهارية بامتياز تعبر عن ثقة التاجر العراقي بما طلبه الدارمي فقال: "ما شئتَ". وكأنه يوقع صكاً على بياض يسجل فيه الرقم الذي يريد مقابل بيع خمره السود، ممَّا يدل على أنها خمر غالية وثمينة.
إن عبارة "ما شئتَ" هي الأخرى إغرائية أسالت لعاب الدارمي، فقبل العرض بالرغم من انقطاعه في المسجد للعبادة، ولعل هذا يعود إلى كون العرض مغرياً، فكلمة "ما شئتَ" مفتوحة والإنسان مهما يكن يحب المال، ولذلك خرج الدارمي من المسجد ونزع ثياب النسك عنه ليناسب المقام الجديد ويؤدي الوظيفة بإتقان ويحقق الفائدة له وللتاجر العراقي، وتلك غاية الإشهار.
لقد انتهت مهمة التاجر العراقي وبدأت مهمة الشاعر مسكين الدارمي الذي عاوده الحنين إلى ماضيه فلبس لباسه الأول الذي كان يرتدي أيام الظرف والخلاعة قبل أن يتزهد. وهذا ما نجده في الإشهار في وقتنا، إذ أن "الإشهاري" يرتدي اللباس الذي يناسب محتوى موضوع الإشهار وبما يتعلق به من إثارة وإبهار، هي عبارة عن نظام من العلامات ذات علاقة بالثقافة التي يحملها الجمهور المشاهد للإشهار تمكنه من قراءتها ومتابعتها.
2ـ بؤرة النص:
وتتمثل في الأبيات الثلاثة التي أنشدها الدارمي وتعد القلب النابض للنص، وهي من الناحية الشكلية تتوسطه، تسبقها مقدمة النص أو مقامه كما رأينا، وتتلوها خاتمته، وهذا لا يعني أن ما قبل الأبيات الشعرية وما بعدها "حشو يمكن الاستغناء عنه، وإنما يجب أن نجعله سبباً ونتيجة، وليس لنا من مقياس علمي لضبطها وإنما هي موكولة إلى حس القارئ وذوقه... (18).
تظهر هذه الأبيات:
أـ الشاعر مسكين الدارمي وقد حدد هدفاً له: وهو بيع الخمر السود التي كسدت على التاجر العراقي ولم يستطع بيعها.
ب ـ حدد نوعية المتلقي الذي سيوجه إليه الخطاب ويتمثل في فتيات المدينة جميعها ولذلك كيّف صيغ خطابه ليلائمهن فاستعمل عبارة: "قل للمليحة في الخمار الأسود"
إن المليحة ـ هنا ـ هي التي ترتدي الخمار الأسود ولكن من لا ترتدي خماراً أسود فهي ليست مليحة. ويمكن أن يكون هذا هو عنوان النص بلا منازع: "المليحة في الخمار الأسود"(19).
إن عنواناً كهذا "يمدنا بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ونقول هنا: إنه يقدم لنا معونة كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه؛ إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه"(20).
ويمثل صورة نابضة بالحياة ناطقة بالرغبة، تمارس الإغراء على المتلقي وتعمل على استدراجه وإدخاله إلى ملكوتها، وقد مارست سحرها وفاعليتها في التأثير على الزاهد المتعبد فأخرجته من المسجد، وهو أمر قد تجاوز العادي إلى اللاعادي؛ لأنها لو مارست مفعولها على شخص عادي من المشهورين بالتلهف على النساء لما كان في ذلك غرابة.
والغرابة دليل على أدلة الإشهار.
فلو تخيلنا أن هذه المليحة في الخمار الأسود قد تم تصويرها فعلاً في صورة فوتوغرافية أو رسمها فنان تشكيلي في لوحة متناسقة الألوان وتم تعليقها على واجهة محل لبيع الملابس النسوية (الخمارات مثلاً...) مع قليل من الموسيقى أو مع أغنية ناظم الغزالي أو صباح فخري اللذين غنيا الأبيات المذكورة سابقاً... أو أن هذه الصورة ركبت وتمّ إخراجها في إشهار تلفزي فإن ما يثيرنا هو بلاغة الصورة في ثباتها وسكونها وما تحمله من تعابير ومعان وما تتأسس عليه من خلفيات معرفية واجتماعية، وهذا ما يذهب رولان بارت إليه عندما يقول "لا تقف البلاغة عند حدود النص المكتوب، بل إن الصورة أيضاً تتضمن أحداثاً بلاغية على عكس ما هو سائد عند البعض من أن البلاغة حكر على اللغة، وأن الصورة هي نسق جد بدائي قياساً إلى اللغة، ويرى البعض الآخر أن الدلالة تستنفذ ثراء الصورة الذي لا يمكن وصفه"(21).
ثمَّ إن الخمار الأسود يعد العلامة الأساسية في هذا النص، لأن هذه العلامة تلبس لباس الأمة وتكتسي بطابعها وتمثل قيمة عربية إسلامية مهمة لها خصوصياتها ومرجعياتها الدينية والاجتماعية التي ترتبط في وجدان من يتلقاها أو يستهلكها "بعوالم ثقافية ودوائر قيمية يتحول المفتوح (الخمار) من خلالها وفيها إلى مثير نفسي يحتكم إليه السلوك الفردي والجماعي"(22).
جـ ـ حوّل مسكين الدارمي السلعة الكاسدة وهي الخمر السود المرغوب عنها علامة مسجلة في سوق السلع النفسية، أو بتعبير آخر ماركة" مرغوباً فيها وذلك بمخاطبة المليحة في الخمار الأسود ورجائها أن ترد عليه صلاته وصيامه وهو الناسك المتعبد المنقطع في المسجد (23). وهكذا إذا كانت الألوان قد اكتسبت على مر العصور معاني ودلالات في حياة الأمم ما لبثت أن استقرت في ألفاظها وعباراتها وأصبحت رموزاً وإيحاءات فكرية، فإن اللون الأسود في الثقافة العربية الإسلامية يدل غالباً على الظلم والعبودية والظلام واليأس على العكس من اللون الأبيض الذي يرمز إلى النقاء والطهر والأمل والسلام.
ولقد حوّل مسكين الدارمي اللون الأسود لوناً ساحراً أخاذاً تلبسه المليحات؛ ممَّا يظهر براعته الفنية وعمق قريحته الشعرية الأصيلة وحسه المرهف، وحسن درايته وخبرته بالمليحات وما تحلم به الأنثى. وبهذا فإن الخمار الأسود باعتباره "ماركة" قد تحول إليها "ميثاق اجتماعي وثقافي واقتصادي يحيل على قيم مثل الثقة والتزكية والارتباط والأمانة"(24) وعلى هذا الأساس يمكننا أن نعد الإشهار خطاباً حيوياً سعيداً خالياً من الهموم مملوءاً بالآمال الوردية، يعمل على تأسيس الألفة وبناء الثقة بينه وبين المتلقي، فمن هذه الزاوية ليس الإشهار "سوى صيغة أخرى من الصيغ "التطهيرية" التي تمكن الذات من الانتشاء بنفسها عبر المزيد من الانغماس في الوهم. ويتم هذا التطهير عبر السوق وفعل الشراء" (25)، وبخاصة عندما يركز الإشهاري الانتباه على الزوايا والمثيرات التي قد لا يلاحظها المتلقي.
ولقد عرّف مصممو الإشهار العناصر والألوان التي تلفت الأنظار وتؤثر في الاستجابات العاطفية لمشاهدي الإشهار فاستعملوا الألوان الدافئة المفرحة التي تنبض بالحركة والحيوية لدفع الناس إلى الإقبال على شراء السلع وبخاصة إذا تكاملت في سحرها وتناغمها مع الصورة في تأثيرها وتناسق ألوانها.
لا ننس حنكة الدارمي الذي استعان بصديق له يجيد الغناء فغنى الأبيات الشعرية في أرجاء المدينة فشاعت بين النساء، ويمثل المغني هنا وسيلة التبليغ التي نقلت الخطاب من المرسل إلى المرسل إليه بعد أن تمَّ شحنه لكي يكون أكثر فاعلية في التأثير على المتلقي المتمثل في فتيات المدينة. وتجب الإشارة إلى أن المغني الذي تغنى بأبيات الدارمي الشعرية، لم يغنها مرة واحدة وفي مكان واحد فقط، وإنما كرر التغني بها في مختلف أرجاء المدينة لتشيع بين الفتيات بل ليست الفتيات فقط؛ وإنما كل من يشتري خماراً أسود حتّى من الرجال؛ فمنهم من يشتري للمليحة خماراً أسود ليؤكد لها ولعه وحبه. نلاحظ هذا في حياتنا الاجتماعية المعاصرة ممثلاً في الاستعانة بالممثلين أو الرياضيين أو المغنيين أو غيرهم... بحسب ما يقتضيه موضوع الإشهار.
يكمن مفعول الأغنية في الوصلة الإشهارية في كون "اللحن يحمي الكلمات من كل حكم ومن الرقابة؛ فالغناء يضمد الجسم الاجتماعي مثلما تفعل الأناشيد والتراتيل الكنائسية..."(26)، ويجعل المتلقي يعيش الحلم، حلم اليقظة ويحلق مع ما تنطق به رغباته ومخيلته.
3ـ خاتمة النص:
وتبدأ من "فشاع هذا الغناء في المدينة... إلى: فلما أنفذ العراقي ما كان معه رجع الدارمي إلى نسكه ولبس ثيابه". وأهم ما يميز هذه الخاتمة أنها:
أـ أثارت حيرة الناس فقالوا: "قد رجع الدارمي وتعشق صاحبة الخمار الأسود" وتؤكد هذه العبارة معرفة الناس بالدارمي وبسلوكه القديم الذي كان يتميز بالظرف والخلاعة، وبشعبيته عند الفتيات وتعلقهن به "أو بمن يشبهه من الشباب أو بما يمثله الدارمي من شباب ونزق وحركة وحياة ورجولة وشاعرية ومركز اجتماعي... وطمع كل واحدة منهن بأن تكون صاحبة الخمار الأسود التي تتصدى للناسك المتعبد، فترده عن صلاته وصيامه وتجعله يخلع ثياب الزهد والتعبد والوقار من أجل جمالها والظفر بحبها ووصلها"(27)، وهو ما يؤكد أنها مليحة خارقة تجاوزت العادي المألوف، وهذا ما نلاحظه أيضاً في وقتنا، فكثيراً ما تتعلق الفتيات بمغنين أو بممثلين... فهذا التعلق يلامس الفتيات من الداخل ويدغدغ عواطفهن ويعمل على إيقاظ الإنسان الذي يرقد في أعماقهن جميعاً، حتّى إن كان ذلك مستوراً خفياً ومقيداً بعادات اجتماعية وقيم أخلاقية تحد منه أو تكتمه أحياناً، وقد يظهر في اللحظة المناسبة التي تكسر القيود وتفجر المكبوت.
ب ـ أثارت استغراب النساك إخوان الدارمي فجعلوا يقولون له: "... ماذا صنعت؟"؛ فقد ظنوا أنه ارتد وحاد عن طريق الحق وجادة الصواب، ولكنه كان واثقاً من نفسه عارفاً بالوظيفة التي يؤديها ولذلك كان يقو