دراسة سيميائية لنص سردي تراثي
كتبها*د جمال حضري
قصة المنصور مع أبي مسلم الخراساني
دراسة سيميائية لنص سردي تراثي
د. جمال حضري
مقدمة:
في هذا العرض المختصر تجربة وتطبيق لأحد أخصب المناهج التحليلية للنص الأدبي، التحليل السيميائي، على مدونة هي من أرسخ نصوص التراث ثراء باعتبار النص منتقى من البيان والتبيين الذي يشكل في ذاته رؤية سيميائية خصبة أغرت ولا تزال الكثير من الباحثين على البحث في طياتها، ولا أجزم بندرة التجربة وأوليتها وقد شهدت تطبيقات لبعض الباحثين الجزائريين على النص السردي التراثي، ولكن يمكنني الإدعاء بأنها محاولة سبقت إلى هذا النموذج السردي الذي يتداخل فيه برنامجان سرديان أحدهما رئيسي والآخر فرع عنه، بحيث يصبحان متعالقين تعالق الخادم بالمخدوم، أقصد نصا خادما وآخر مخدوما، وتوصلت إلى ما أسميه البرنامج السردي المحفز، بحيث يكون عاملا معنويا محفزا لتنفيذ البرنامج السردي الرئيسي، ومبررا له في الآن ذاته، كما توصلت إلى نموذج وصل وفصل متداخلين بالنظر إلى تعدد موضوع القيمة باختلاف مواقع العناصر، وخلاصة الأمر أن هذا التناول الوظائفي وفر آلية خصبة جدة لاستيعاب الاستطراد الذي عرف به النص الجاحظي والذي كثيرا ما فسر بعامل خارج المدونة وبعيدا عن البناء الذكي للنص الإبداعي الجاحظي، وهو خاصية الثقافة الموسوعية، وهو ما تصدت له هذه التجربة البسيطة والأولية والمنفتحة على الإثراء والتوجيه، خاصة وأني قرأت فيما أذكر للدكتور محمد العمري صاحب الخطابة العربية كلاما عن المنهجية التأليفية عند الجاحظ تصب في توكيد تلك السمة ولكن ربما تسمح هذه الرؤية التحليلية وغيرها بتجاوز بعض هذه المسلمات، خاصة وأن هذه المناهج في منابتها قد سلطها أصحابها على نصوصهم الكلاسيكية وهم في صدد التنظير والكشف ولم لا يكون هم الكشف هو الرائد لنا بعيدا عن كل حكم مسبق.
أ-الجهاز المفهومي(1):
1-العلاقات والعمليات:
- العلاقات هي المتبلورة في التضاد والتناقض والتضمين
- أما العمليات فهي تمفصل لعلاقات ثابتة تتحول بموجبها قيم المعاني.
- ويحاول المربع السيميائي وضع نموذج تركيبي يضبط تنظيم العمليات، وتناسب علاقة التناقض التي يبرزها عملية النفي التي تكفل الانتقال من س1 إلى سَ1 بنفي س1 وإبرازسَ1، أما علاقة التضمين فتناسب عملية الانتقاء التي تكفل الانتقال من سَ1 إلى س2: انتقاء س2 وإبرازه باعتباره المضاد لس1 انطلاقا من سَ1.
- يرتب المربع السيميائي بعدي العلاقات والعمليات الكامنة في عمق النص، بينما يشتغل على السطح المكون السردي الذي ينظم الحالات والتحولات والمكون الخطابي الذي ينظم المسارات الصورية (الأشكال الخطابية)، ويتم الانتقال من السطح إلى العمق من خلال تحليل السمات الدلالية وتتبع أفعال التحول السردي والانزياحات الحالية، وإيجاد التشاكلات الممكنة للفضاء الدلالي من خلال مقولات جامعة.
2-البرنامج السردي والبنية العميقة:
البرنامج السردي تمظهر لصور فعل تستمد من إيزوتوبيات الفضاء الدلالي.وكما تمد هذه التشاكلات صور فعل البرنامج السردي فإنها تعكس تشكلات على مستوى العمق، فبنية العلاقات تتمظهر في العمليات _وهذه بدورها تتمظهر في المسارات الصورية_ من خلال: عمليات تحول (فعل) أو انزياح (من حال إلى حال)
3- أبعاد النص وتحليل الوظائف:
ينخرط النص في رسم ثلاثة أبعاد هي: البعد الأولي والبعد التحويلي والبعد النهائي، وتشتغل في رسم هذه الأبعاد شبكة من العوامل والوظائف، فالعوامل هي الكائنات والأشياء التي تسهم في الحدث من خلال أداء وظائف بأية صفة أو طريقة حتى بشكل صامت أو بطريقة سلبية.
وتمثل هذه الشبكة بالترسيمة الأولية التالية:
و: وظيفة
ف: العامل/الفاعل
م: الموضوع
وتشتغل الوظيفة في ملفوظ حالة كما يلي: و(ف، م):
و/ صلة (ف/م) و/ تحويل ](ف، م)[
ولتحقيق الوصلة والأداء يوضع شرط الكفاءة كما تصوره قريماس موسعا مقولة شومسكي النحوية: الكفاءة والإنجاز:
فعنده نوعان من الأداء:
- نوع يستهدف امتلاك قيم الجهة
- نوع يستهدف امتلاك وإنتاج قيم الوصفية
والكفاءة هي ضمان تنفيذ البرنامج السردي يضمره كل سلوك مبرر، تنبني هذه الكفاءة على تنظيم متدرج الجهات توجه الفعل وهي:
- إرادة الفعل
- إضمار
- وجوب الفعل
- القدرة على الفعل
- تحيين معرفة الفعل
فالأداء إذا مشروط بمواضيع الجهة هذه التي تندرج ضمن جهتين:
1-جهات إضمار (إرادة الفعل / وجوب الفعل):
ويتأسس الفاعل في اللحظة التي يدرك فيها أنه يجب أو يريد تنفيذ برنامج معطى وقد يقف وراءه مرسل تسند له مهمة التبليغ.
2- جهات تحيين (معرفة الفعل/ القدرة على الفعل):
وترتبط المعرفة بالخبرات والتجارب للفاعل تجعله قادرا على توقع وبرمجة العمليات الضرورية لتنفيذ برنامج معطى وتتموضع على الصعيد المعرفي.
3-جهة التحقيق:
وهو إسقاط عناصر الكفاءة على الأداء الأساسي المحول للحالات وتختفي الأطراف المحفزة له (المرسل) وتظهر الأطراف المضادة للفاعل والمعيقة لرغبته مما ينتج مواجهة تتم عبرها تحويلات أساسية وتنشأ في إطاره المواقع الاستراتيجية للعوامل ومواضيع القيمة وتنقلاتها من طرف إلى آخر تبعا لقوة الأطراف وضعفها.
تتفرع التحويلات إلى قسمين:
- سعي الفاعل إلى امتلاك قيمة الجهة
- سعي الفاعل إلى الدخول في وصلة بالقيم الوصفية
وباعتبار النص السردي المعالج يتسق وسعي الفاعل إلى حالتي فصل ووصل مع موضوعي قيمة فتجدر الإشارة إلى:
- أداء يتجلى في ملفوظ سردي وصلي ينتقل الفاعل فيه من وضعية فصلة عن موضوع القيمة إلى وضعية وصلة به:
- ف (ت) (ف1) [ (ف1 U م) (ف1 ∩ م) ]
أو من خلال ملفوظ سردي فصلي ينتقل الفاعل فيه من وضعية وصلة بالموضوع إلى وضعية فصل:
ف(ت) (ف1) [(ف1∩ م) (ف1 U م) ].
ب-النص السردي(2):
"قال: وكان المنصور داهيا أريبا، مصيبا في رأيه سديدا، وكان مقدما في علم الكلام، ومكثرا من كتاب الآثار، ولكلامه كتاب يدور في أيدي الوراقين معروف عندهم، ولما هم بقتل أبي مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشورة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحاق بن مسلم العقيلي، فقال له: حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحران. قال: أخبرني أبي عن الحضين بن المنذر أن ملكا من ملوك فارس يقال له سابور الأكبر كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبا من آداب الملوك، وشاب ذلك بفهم في الدين، فوجهه سابور داعية إلى أهل خراسان وكانوا قوما عجما يعظمون الدنيا جهالة بالدين، ويخلون بالدين استكانة لقوت الدنيا، وذلا لجبابرتها، فجمعهم على دعوة من الهوى يكيد بها مطالب الدنيا، واغتر بقتل ملوكهم لهم وتخولهم إياهم، وكان يقال (لكل ضعيف صولة ولكل ذليل دولة) فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقح، استحالت حربا عوانا شالت أسافلها بأعاليها، فانتقل العز إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأشربوا له حبا مع خفض من الدنيا افتتح بدعوة من الدين، فلما استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم وما أحال عليهم من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم، وكان يقال:
وما قطع الرجاء بمثل يأس تبادره القلوب على اغترار
فصمم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث، فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بيت الغربة ونأي الرجعة، وتخطف الأعداء، وتفرق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور، ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه.
فأطرق المنصور مليا ثم رفع رأسه وهو يقول:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الإنسان إلا ليعلما
وأمر إسحاق بالخروج ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلا قال:
قد اكتنفتك خلات ثلاث جلبن عليك محذور الحمام
خلافك وامتنانك ترتميني وقودك للجماهير العظام
ثم وثب إليه ووثب معه بعض حشمه بالسيوف على أبي مسلم، فلما رآهم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربة طوحه منها، ثم قال:
إشرب بكأس كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم
زعمت أن الدين لا يقتضى
كتبها*د جمال حضري
قصة المنصور مع أبي مسلم الخراساني
دراسة سيميائية لنص سردي تراثي
د. جمال حضري
مقدمة:
في هذا العرض المختصر تجربة وتطبيق لأحد أخصب المناهج التحليلية للنص الأدبي، التحليل السيميائي، على مدونة هي من أرسخ نصوص التراث ثراء باعتبار النص منتقى من البيان والتبيين الذي يشكل في ذاته رؤية سيميائية خصبة أغرت ولا تزال الكثير من الباحثين على البحث في طياتها، ولا أجزم بندرة التجربة وأوليتها وقد شهدت تطبيقات لبعض الباحثين الجزائريين على النص السردي التراثي، ولكن يمكنني الإدعاء بأنها محاولة سبقت إلى هذا النموذج السردي الذي يتداخل فيه برنامجان سرديان أحدهما رئيسي والآخر فرع عنه، بحيث يصبحان متعالقين تعالق الخادم بالمخدوم، أقصد نصا خادما وآخر مخدوما، وتوصلت إلى ما أسميه البرنامج السردي المحفز، بحيث يكون عاملا معنويا محفزا لتنفيذ البرنامج السردي الرئيسي، ومبررا له في الآن ذاته، كما توصلت إلى نموذج وصل وفصل متداخلين بالنظر إلى تعدد موضوع القيمة باختلاف مواقع العناصر، وخلاصة الأمر أن هذا التناول الوظائفي وفر آلية خصبة جدة لاستيعاب الاستطراد الذي عرف به النص الجاحظي والذي كثيرا ما فسر بعامل خارج المدونة وبعيدا عن البناء الذكي للنص الإبداعي الجاحظي، وهو خاصية الثقافة الموسوعية، وهو ما تصدت له هذه التجربة البسيطة والأولية والمنفتحة على الإثراء والتوجيه، خاصة وأني قرأت فيما أذكر للدكتور محمد العمري صاحب الخطابة العربية كلاما عن المنهجية التأليفية عند الجاحظ تصب في توكيد تلك السمة ولكن ربما تسمح هذه الرؤية التحليلية وغيرها بتجاوز بعض هذه المسلمات، خاصة وأن هذه المناهج في منابتها قد سلطها أصحابها على نصوصهم الكلاسيكية وهم في صدد التنظير والكشف ولم لا يكون هم الكشف هو الرائد لنا بعيدا عن كل حكم مسبق.
أ-الجهاز المفهومي(1):
1-العلاقات والعمليات:
- العلاقات هي المتبلورة في التضاد والتناقض والتضمين
- أما العمليات فهي تمفصل لعلاقات ثابتة تتحول بموجبها قيم المعاني.
- ويحاول المربع السيميائي وضع نموذج تركيبي يضبط تنظيم العمليات، وتناسب علاقة التناقض التي يبرزها عملية النفي التي تكفل الانتقال من س1 إلى سَ1 بنفي س1 وإبرازسَ1، أما علاقة التضمين فتناسب عملية الانتقاء التي تكفل الانتقال من سَ1 إلى س2: انتقاء س2 وإبرازه باعتباره المضاد لس1 انطلاقا من سَ1.
- يرتب المربع السيميائي بعدي العلاقات والعمليات الكامنة في عمق النص، بينما يشتغل على السطح المكون السردي الذي ينظم الحالات والتحولات والمكون الخطابي الذي ينظم المسارات الصورية (الأشكال الخطابية)، ويتم الانتقال من السطح إلى العمق من خلال تحليل السمات الدلالية وتتبع أفعال التحول السردي والانزياحات الحالية، وإيجاد التشاكلات الممكنة للفضاء الدلالي من خلال مقولات جامعة.
2-البرنامج السردي والبنية العميقة:
البرنامج السردي تمظهر لصور فعل تستمد من إيزوتوبيات الفضاء الدلالي.وكما تمد هذه التشاكلات صور فعل البرنامج السردي فإنها تعكس تشكلات على مستوى العمق، فبنية العلاقات تتمظهر في العمليات _وهذه بدورها تتمظهر في المسارات الصورية_ من خلال: عمليات تحول (فعل) أو انزياح (من حال إلى حال)
3- أبعاد النص وتحليل الوظائف:
ينخرط النص في رسم ثلاثة أبعاد هي: البعد الأولي والبعد التحويلي والبعد النهائي، وتشتغل في رسم هذه الأبعاد شبكة من العوامل والوظائف، فالعوامل هي الكائنات والأشياء التي تسهم في الحدث من خلال أداء وظائف بأية صفة أو طريقة حتى بشكل صامت أو بطريقة سلبية.
وتمثل هذه الشبكة بالترسيمة الأولية التالية:
و: وظيفة
ف: العامل/الفاعل
م: الموضوع
وتشتغل الوظيفة في ملفوظ حالة كما يلي: و(ف، م):
و/ صلة (ف/م) و/ تحويل ](ف، م)[
ولتحقيق الوصلة والأداء يوضع شرط الكفاءة كما تصوره قريماس موسعا مقولة شومسكي النحوية: الكفاءة والإنجاز:
فعنده نوعان من الأداء:
- نوع يستهدف امتلاك قيم الجهة
- نوع يستهدف امتلاك وإنتاج قيم الوصفية
والكفاءة هي ضمان تنفيذ البرنامج السردي يضمره كل سلوك مبرر، تنبني هذه الكفاءة على تنظيم متدرج الجهات توجه الفعل وهي:
- إرادة الفعل
- إضمار
- وجوب الفعل
- القدرة على الفعل
- تحيين معرفة الفعل
فالأداء إذا مشروط بمواضيع الجهة هذه التي تندرج ضمن جهتين:
1-جهات إضمار (إرادة الفعل / وجوب الفعل):
ويتأسس الفاعل في اللحظة التي يدرك فيها أنه يجب أو يريد تنفيذ برنامج معطى وقد يقف وراءه مرسل تسند له مهمة التبليغ.
2- جهات تحيين (معرفة الفعل/ القدرة على الفعل):
وترتبط المعرفة بالخبرات والتجارب للفاعل تجعله قادرا على توقع وبرمجة العمليات الضرورية لتنفيذ برنامج معطى وتتموضع على الصعيد المعرفي.
3-جهة التحقيق:
وهو إسقاط عناصر الكفاءة على الأداء الأساسي المحول للحالات وتختفي الأطراف المحفزة له (المرسل) وتظهر الأطراف المضادة للفاعل والمعيقة لرغبته مما ينتج مواجهة تتم عبرها تحويلات أساسية وتنشأ في إطاره المواقع الاستراتيجية للعوامل ومواضيع القيمة وتنقلاتها من طرف إلى آخر تبعا لقوة الأطراف وضعفها.
تتفرع التحويلات إلى قسمين:
- سعي الفاعل إلى امتلاك قيمة الجهة
- سعي الفاعل إلى الدخول في وصلة بالقيم الوصفية
وباعتبار النص السردي المعالج يتسق وسعي الفاعل إلى حالتي فصل ووصل مع موضوعي قيمة فتجدر الإشارة إلى:
- أداء يتجلى في ملفوظ سردي وصلي ينتقل الفاعل فيه من وضعية فصلة عن موضوع القيمة إلى وضعية وصلة به:
- ف (ت) (ف1) [ (ف1 U م) (ف1 ∩ م) ]
أو من خلال ملفوظ سردي فصلي ينتقل الفاعل فيه من وضعية وصلة بالموضوع إلى وضعية فصل:
ف(ت) (ف1) [(ف1∩ م) (ف1 U م) ].
ب-النص السردي(2):
"قال: وكان المنصور داهيا أريبا، مصيبا في رأيه سديدا، وكان مقدما في علم الكلام، ومكثرا من كتاب الآثار، ولكلامه كتاب يدور في أيدي الوراقين معروف عندهم، ولما هم بقتل أبي مسلم سقط بين الاستبداد برأيه والمشورة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحاق بن مسلم العقيلي، فقال له: حدثني حديث الملك الذي أخبرتني عنه بحران. قال: أخبرني أبي عن الحضين بن المنذر أن ملكا من ملوك فارس يقال له سابور الأكبر كان له وزير ناصح قد اقتبس أدبا من آداب الملوك، وشاب ذلك بفهم في الدين، فوجهه سابور داعية إلى أهل خراسان وكانوا قوما عجما يعظمون الدنيا جهالة بالدين، ويخلون بالدين استكانة لقوت الدنيا، وذلا لجبابرتها، فجمعهم على دعوة من الهوى يكيد بها مطالب الدنيا، واغتر بقتل ملوكهم لهم وتخولهم إياهم، وكان يقال (لكل ضعيف صولة ولكل ذليل دولة) فلما تلاحمت أعضاء الأمور التي لقح، استحالت حربا عوانا شالت أسافلها بأعاليها، فانتقل العز إلى أرذلهم، والنباهة إلى أخملهم، فأشربوا له حبا مع خفض من الدنيا افتتح بدعوة من الدين، فلما استوسقت له البلاد بلغ سابور أمرهم وما أحال عليهم من طاعتهم، ولم يأمن زوال القلوب وغدرات الوزراء، فاحتال في قطع رجائه عن قلوبهم، وكان يقال:
وما قطع الرجاء بمثل يأس تبادره القلوب على اغترار
فصمم على قتله عند وروده عليه برؤساء أهل خراسان وفرسانهم، فقتله، فبغتهم بحدث، فلم يرعهم إلا ورأسه بين أيديهم، فوقف بهم بيت الغربة ونأي الرجعة، وتخطف الأعداء، وتفرق الجماعة، واليأس من صاحبهم، فرأوا أن يستتموا الدعوة بطاعة سابور، ويتعوضوه من الفرقة، فأذعنوا له بالملك والطاعة، وتبادروه بمواضع النصيحة، فملكهم حتى مات حتف أنفه.
فأطرق المنصور مليا ثم رفع رأسه وهو يقول:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وما علم الإنسان إلا ليعلما
وأمر إسحاق بالخروج ودعا بأبي مسلم، فلما نظر إليه داخلا قال:
قد اكتنفتك خلات ثلاث جلبن عليك محذور الحمام
خلافك وامتنانك ترتميني وقودك للجماهير العظام
ثم وثب إليه ووثب معه بعض حشمه بالسيوف على أبي مسلم، فلما رآهم وثب، فبدره المنصور فضربه ضربة طوحه منها، ثم قال:
إشرب بكأس كنت تسقي بها أمر في الحلق من العلقم
زعمت أن الدين لا يقتضى