عنصرالمكان في تكوين البناء الروائي
تعقيب على ورقة بناء المكان في رواية المكلاّ لخالد يحيى الأهدل مقدم إلى المهرجان الرابع للأدب اليمني للفترة من 25-29 مايو 2005م.
محمد المنصور
تطمح أية قراءة تهتم بجانب المكان والفضاء الروائي، إلى ملاحظة علاقة المكان بعناصرالبناء الروائي كالزمن، الشخصيات، اللغة وعناصرالسرد الأخرى، وذلك ما تجتهد هذه الورقة التعقيب للقيام به.. مع سابقتها للزميل المبدع خالد يحيى الأهدل والتي بعنوانبناء المكان في رواية المكلا- مقاربة للفضاء الروائي). لقد حاولت في هذه المتناولة أن تكون مختصرة بحيث لا يتجاوز التعقيب الأصل المعقب عليه.. وذلك من خلال إشارات هي:
1- يلحظ بداية خالد الأهدل تجليات كثيرة للمكان في رواية (المكلا) للأستاذ صالح باعامر. ويلحظ كذلك غياب المقاربة، المكانية والفضاء الروائي في السرد، اليمني المعاصر ولم يشر إلى عينة منها كي يصبح قوله (ص1) لذلك فإن هذه الورقة وهي تحاول الإسهام في سد هذا الفراغ القائم في الخطاب النقدي اليمني فإنها في الوقت نفسه تسعى إلى مقاربة الفضاء الروائي في رواية (المكلا) مبرراً، إذ كان بالود أن يشير الأخ خالد الأهدل وهو قاص وروائي، أيضا إلى هذا البعد الغائب في النقد الروائي والقصصي في اليمن، لتكون ورقته إضافة مهمة في هذا الصدد تفتح أمام محاولات قادمة نوافذ مشرعة على المشهد السردي في اليمن.
2- كانت الإشارة (ص1 وما بعدها) إلى فضاء النص، أو الفضاء الطباعي نظرية، لم تتجاوزها إلى التدليل من المتن الروائي، ولم تلامس إلا قليلا من المعالم الرئيسية فيه، وهو ما قد تبرره فرضية الاطلاع الواسع على الرواية وقراءتها من أوسع شريحة متلقية، إذا كان مفيداً تبيان العلاقة بين النص وحيزه المكاني في البياض، وذلك ما كان سيكون جديداً في بابه فعلاً بالنسبة للنقد الروائي والقصصي في اليمن.
3- جاءت الملاحظة رقم (2) (ص2) محايدة لناحية تعيين ورصد مسافة الفقرات الفصول وعدد صفحاتها ولم تبين العلاقة بين طول أو قصر الفقرات، وعلامات الترقيم بدلالة المكان الروائي، وهذه الملاحظة جزئية من أخرى سابقة كنت أرجو فيها من الزميل أن يكون أكثر اصطباراً مع النص والقراءة.. ليكون القارئ والمتلقي أكثراستمتاعاً واستفادة.
وفي الفقرة (4) (ص4)، من ورقة الأستاذ خالد الأهدل ما نصه (يشكل المنزل الذي يقطنه بطل الرواية مع أسرته البؤرة المكانية التي تنطلق منها الشخصية الرئيسية إلى الأماكن الأخرى في الرواية) وذلك برأيي اختزال وتبسيط، يناقض إشارة ورقة الأهدل في المقدمة إلى دلالة عنوان الرواية والذي هو العتبة الأولى بتأكيد دلالي آخر يتمثل في الإهداء ونصه (إلى المكلا المكان والإنسان والأحباب)، فبرغم أهمية المنزل/ المكان كعنصر رمزي متعدد الدلالات بتعدد أشخاصه وأن المنزل أيضا (واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية، ومبدأ هذا الدمج وأساسه هما: أحلام اليقظة)(1)، فالمكلا هي البؤرة المكانية، والفضاء الذي تمتد منه وفيه فضاءات مكانية أخرى أصغر منها على سبيل المثال: المنزل، البحرالذي يتوحد معه الروائي، يناجيه (ص8، ص10، ص11) ويمثل له المأوى والملاذ والصديق (ارتقيت الأحجار مولياً ظهري جبل المكلا، ورميت صنارتي في البحر هنية وتخلقت أمواج- هكذا- من الأعماق فشعرت أن شيئاً قد علق بالصنارة.. البحر لا يبخل على أصدقائه، مهما واجه من بني البشر) ص18.
وبدلالة حضورالمكلا المدينة كفضاء كبير مفتوح على دلالات شبه مغلقة للمكان كالشوارع والحارات، والشوارع والمقهى نجد أن نسبة حضورها بالتسمية أو الإشارة إليها في الضمير من خلال الصفة المسندة إلى الاسم تتفوق على المنزل، فالمدينة- المكلا تلعب دورالبطولة وتتمحور حولها أحداث الراوي المسقطة على الحاضر والماضي، ويتم الإسقاط عبر إحالات متعددة للمكان، بما يشبه هذه المعادلة.
المكلا = المنزل= الحارات والشوارع، والبحر، والسجن، والبشر= الذاكرة= الوطن= الرواية، وعليه يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في الرواية إلى قسمين:
أ- الفضاء الرمزي.. وتمثله المكلا وتؤدي من خلال السرد وظيفة رمزية استعارية، مشبعة بالخصوصية الثقافية للبنية السياسية والاجتماعية التي تقترحها الرواية بما يمكن أن نطلق عليه الهوية (نوستالجيا النص أو الحنين إلى الماضي، هذه النزعة التي يحملها كل من في لا شعوره، وحينما نقدم خصوصيتنا الثقافية التي تستوعبها الرواية في نص روائي فإننا نعرف الآخر بنا، على أن لنا حضوراً مختلفاً لنذكره بوجودنا، ونجعله يتناص معنا، فنحمي أنفسنا مثلما نحمي ثقافتنا من النسيان فالاندثار) فالمكلا بهذا المعنى لدى صالح باعامر تجسيد للبوتوبيا والمثال الذي يقع في الماضي مقابل المكلا كما هي في لازمن الروائي اليوم والتي تحملها وتعبر عنها رؤيته التي يكثفها في خاتمة الرواية للمكلا قائلاً ص128: (أطرقت وتأملت كل شيء وفكرت، ما هذا الذي يجري؟ ما كل هذا الحب، بعد كل هذا هل أهرب؟ هل أغادر؟ لا أظن أنني سأقدم على عمل كهذا، مهما حدث لي بل لن أفكر فيه البتة، كيف أغادر وقد أعطتني المكلا ثروة لا تقدر بثمن هي إعادة الاعتبار لي)، فبهذا المشهد العاطفي الاسترجاعي السريع للزمن وتداعياته يختتم الراوي حديثه ورؤيته لسيرة المكان المكلا بما يشبه المناجاة والابتهال، وكما بدأ الرواية بالحديث عن المكلا.. فإن الختام يكون بها.
ب- الفضاء الواقعي: وينقسم إلى عدة فضاءات تمتد من المكلا ذاته، البحر- المنزل- أسماء الشوارع- الأبنية (القصور- السجون.. الخ) والتي يصنفها خالد الأهدل بقوله (أما الأماكن الأخرى في الرواية فمعظمها يخضع للاستقطاب في مجموعتين من الثنائيات الضدية أولاهما ثنائية (الأمن، الخطر فهناك (المكلا، عدن) حيث المكلا الآمنة في مقابل عدن حرب 86م).. أما الثنائية الضدية الأخرى كما يراها فهي (ثنائية المفتوح، المغلق) حيث تحفل الرواية بالكثير من الأماكن المفتوحة (المقهى، الشاطئ، الشارع، المكتب..، وأغلب هذه الأماكن هي أماكن قسرية اضطرارية وهو ما يجسد مدى الأزمة التي تعانيها الشخصية) ص5، ومع صحة ذلك التعليل.. إلا أن الملاحظ إغفال عامل الزمن الذي يتموضع ضمن ثنائيتي الماضي والحاضر وعلاقته بتلك الأماكن المصنفة ضمن ثنائتين أشار إليهما الأهدل، ذلك أن الراوي يعمد إلى المزاوجة بين الماضي والحاضر أثناء السرد بما يجعل تلك الأماكن عنصراً متحركاً في علاقتها بالزمن تتفجر من خلاله أسئلة الراهن، تبحث فيها الشخصية الرئيسية عن وجودها الإنساني والوطني بإزاحة الستار عن المسكوت عنه، وبذلك تقدم الرواية عبر النص البنية السياسية والثقافية والاجتماعية في حركتها من خلال الرواية، وضمن الفضاء الواقعي.. أيضا نرصد في الرواية أماكن أخرى وفضاءات أهمها:
1- عدن كبؤرة للصراع السياسي والعنف (13 يناير 86-22 يونيو 1969- أحداث 1978).
2- فضاء الأماكن الأخرى التي لم يشر إليها في الورقة والتي جاءت ضمن البناء الروائي ورصد حركة المتغير التاريخي ونقد الأيديولوجيا وآليات القهر أهمها:
- مكة، الحج (لقد سألني إن كنت اعتزم مغادرة البلاد هربا فأكدت له السفر للحج ونفيت الهرب ص 23.
- أفغانستان: جاءت الإشارة إليها في سياق تهمة المحقق للراوي بالمشاركة في الجهاد والذهاب إلى أفغانستان ص 63؟
- الحبشة: المتحف الأثيوبي: جاءت الإشارة إليها في سياق التذكر أثناء وجود بطل الرواية في السجن بالمكلا ص82.
- الصحراء تكررت الإشارة إليها كمكان للموت (ص10) أو النجاة والخلاص (ص105)، وحضور تلك الأماكن وفضاءاتها في الرواية يعبر عن توق الراوي والبطل للرحيل والذهاب بعيداً بقصد توسيع رقة الروح والخلاص لا رقعة المكان.
إن الأماكن المشار إليها تختلف علاقتها بالشخصيات، وبالتالي تختلف هويتها الزمنية والدلالية ليغدو المكان ذاته هو الزمن الذي يتمحور حوله وجود تلك الشخصيات والأحداث والصور، والصراع المحتدم في الواقع وفي داخل الشخصية الرئيسية ووجودها بين الماضي والحاضر، بين الحلم والمستحيل، بين الذات والآخر..
لقد لاحظ الأستاذ خالد الأهدل وجود أماكن: (لا – يتعدا حضورها في الخطاب مجرد التسمية، لأنها لم تكن وعاء لأي حدث، بل إن ظهورها الأسمي لم يكن أكثر من تجسيد للمرور العابر للشخصية خلالها ص5)، وليسمح لي الزميل الأهدل أن أرى إلى المكان الواقعي وما صنفه بالأماكن الأخرى كمحاولة واعية من الكاتب لاستدراج القارئ إلى التيقن من وجود مطابقة بين النص والواقعي..، ذلك أن رواية المكلا تحمل من خصائص رواية السيرة الذاتية الكثير من الملامح، وخصوصياتها الثقافية واضحة، بل إن اشتغالها على الحنين والنوستالوجيا يجعل المكان بكل مستوياته عنصراً سردياً رئيسياً، وما الشخصيات إلا جزء من التفاصيل المكانية كما أرى.
في الفقرة الخامسة من الورقة نرى اختزالاً لأزمة الشخصية الرئيسية- التي لا نعرف أسمها- في علاقتها بالمكان والمتمثلة في: أزمة السكن والعوز المادي، وعملية السطو على الأراضي والإثراء غير المشروع للطبقات الطفيلية..، والموقف مما يحدث من تشويه لجمال المكلا، ولم يلتفت الأخ خالد الأهدل إلى قيمة جوهرية في الرواية تنبني عليها شخصية البطل الراوي ومن خلاله نرى المثقف الجدلي، المثقف الناقد للسلطة بكل أشكالها وآلياتها في القمع والممارسة في الماضي والحاضر، والتي كانت- لهذا السبب- عرضة للسجن والملاحقة الأمنية، والتي تحددت علاقتها بالمكان من خلال رؤيتها للذات وللآخر.. وفي كل الأحوال فهي لا تبدو لنا شخصية نفعية متهافتة على ركوب موجة الإثراء غير المشروع، على حساب الوطن والقيم وفضح الزائف منها التي تمثلها وتتمثلها الشخصية، في كل تحولاتها وأزمنتها: (في غمرة كل هذا كنت أنا ورفيقي سعيد ننهل من منبع واحد هو اليسار إلى أن دبت الحساسيات بين رفاق الأمس، والتي تطورت إلى التنافس على المقاعد الكبيرة والاتهام المتبادل بالخيانة تارة وبالإقليمية أو القروية أو التعصب القبلي أو الشطري تارة أخرى..، فمال سعيد إلى الفريق الثاني وملت أنا إلى الفريق الأول واشتد الصراع وتعاظم إلى أن حسم في 1978م، لصالح الفريق الثاني) ص38 قد تبدو هذه اللغة المباشرة بعيدة عن الإيحاء والرمز، والاكتفاء بالتلميح، لكنها يمكن أن تكون مبررة فنياً في سياقها النقدي للذات، وللسياسي والأيديولوجي داخلها بما أن راوية صالح باعامر ربما تكون أول عمل أدبي يحاول نقد ممارسة اليسارالوطني للسلطة، وفضح المنطق القامع للأيديولوجيا في الماضي مثلما هو في الحاضر..، ثم إن اللغة الشعرية في الرواية مبثوثة في سياقات كثيرة، أشار إلى بعضها الأخ خالد الأهدل في الورقة ملازمة مع وصف الأماكن وهذا التلوين في لغة السرد، وبناء الجملة والعبارة بغية التعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية أو في رصد جماليات المكان.
إن ملمح الشخصية العام لا يمكن اختزاله في بعد المعاناة الإنسانية الفقر وتبدل القيم والعلاقات بل في كل ذلك (لقد سبق أن أوصدوا الدروب في وجهنا ترى وماذا بعد؟ لم يبق لنا إلا المكان والزمان فهل سيزيلوننا منهما؟) ص44 إن هذا الصوت الاحتجاجي المتذمر كان في الماضي أي ما قبل الوحدة.. والذي يأتي على شكل تساؤل يبثه البطل لصديقه سعيد الذي كان رفيقاً له ثم أصبح من ضمن ضباط أمن الدولة، وكلف- ويا للمفارقة- باعتقاله- وفي منظور الراوي وتجربته نتعرف على الأحداث وانعكاسها على الشخصية التي تمر بكل التجارب السياسية، وترصد من خلال علاقتها بالآخرين كل المتغيرات الإيجابية والسلبية في المكان الذي يصبح شاهداً على استبدال عناوين الأيديولوجيات مع بقاء شرط الهيمنة والتسلط قائماً، فبعد استجواب للشخصية/ البطل في أحد السجون، بتهمة (الإرهاب) والذهاب إلى أفغانستان و.. نراه يردد:
- يبدو أن التهم والملفات لن تنتهي.
- لكن الظرف اختلف فهناك ديمقراطية، ومحاكم ونيابة، وقانون، وقضاء ومحامون، وتعددية، وصحافة، وبرلمان، ومجالس محلية و..
- حكم قد لا يبنى على حقيقة.
ص66
إن شخصية الراوي/ البطل تجسد في تحولاتها محنة المثقف اليمني خلال قرابة نصف قرن من الزمن وعلاقته الاستلابية بالسلطة والذي يصبح المكان ذاته مجالاً لممارستها القمع.. لذلك يصبح الاغتراب والنفي الداخلي أو الخارجي في لحظة بعينها من الزمن وفي المكان ذاته بديلاً يفكر فيه البطل (الاحتمال الأقوى هو أنني لن أبقى هنا، بعد الذي حصل، الاغتراب هو المأوى والملاذ، سأغادر المكلا حتى لو اكتشفت أنني غير مطلوب من أولئك أو من الحكومة، بضع سنين أقضيها في الخارج وأعود وقد نسيني الجميع) ص104.
وإذا كانت فكرة الاغتراب تعبير عن حنين إلى الخروج واستبدال المكان وعلاقاته والتغيير إلى الأفضل- فإن الإيمان بالوطن / المدينة/ المنزل، كما في (المعادلة المقترحة آنفاً) تتغلب على كل عوامل الواقع الاستلابية لتنتصر إرادة البقاء والتحدي التي جاءت خاتمة للرواية ودفقه كيانية انقادت للغتها الشعرية بسلاسة ذلك أن علاقة الإنسان بالمكان تأخذ أبعاداً روحية وجمالية تفصح عنها لغة الشعر والحنين.
< المصادر:
1- غاستون باشلار: جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع بيروت (2ط2/1984م ص38).
2- شهلا العجيلي- النص الرواي وداول الهوية الثقافية – مجلة علامات مج 53- سبتمبر 2004م.
3- المكلا- راوية صالح باعامر صادرة عام 2004م عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومركز عبادي للدراسات والنشر.
-
أتى هذا المقال من صحيفة 26سبتمبر
http://www.26sep.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.26sep.net/newsweekarticle.php?sid=21297
تعقيب على ورقة بناء المكان في رواية المكلاّ لخالد يحيى الأهدل مقدم إلى المهرجان الرابع للأدب اليمني للفترة من 25-29 مايو 2005م.
محمد المنصور
تطمح أية قراءة تهتم بجانب المكان والفضاء الروائي، إلى ملاحظة علاقة المكان بعناصرالبناء الروائي كالزمن، الشخصيات، اللغة وعناصرالسرد الأخرى، وذلك ما تجتهد هذه الورقة التعقيب للقيام به.. مع سابقتها للزميل المبدع خالد يحيى الأهدل والتي بعنوانبناء المكان في رواية المكلا- مقاربة للفضاء الروائي). لقد حاولت في هذه المتناولة أن تكون مختصرة بحيث لا يتجاوز التعقيب الأصل المعقب عليه.. وذلك من خلال إشارات هي:
1- يلحظ بداية خالد الأهدل تجليات كثيرة للمكان في رواية (المكلا) للأستاذ صالح باعامر. ويلحظ كذلك غياب المقاربة، المكانية والفضاء الروائي في السرد، اليمني المعاصر ولم يشر إلى عينة منها كي يصبح قوله (ص1) لذلك فإن هذه الورقة وهي تحاول الإسهام في سد هذا الفراغ القائم في الخطاب النقدي اليمني فإنها في الوقت نفسه تسعى إلى مقاربة الفضاء الروائي في رواية (المكلا) مبرراً، إذ كان بالود أن يشير الأخ خالد الأهدل وهو قاص وروائي، أيضا إلى هذا البعد الغائب في النقد الروائي والقصصي في اليمن، لتكون ورقته إضافة مهمة في هذا الصدد تفتح أمام محاولات قادمة نوافذ مشرعة على المشهد السردي في اليمن.
2- كانت الإشارة (ص1 وما بعدها) إلى فضاء النص، أو الفضاء الطباعي نظرية، لم تتجاوزها إلى التدليل من المتن الروائي، ولم تلامس إلا قليلا من المعالم الرئيسية فيه، وهو ما قد تبرره فرضية الاطلاع الواسع على الرواية وقراءتها من أوسع شريحة متلقية، إذا كان مفيداً تبيان العلاقة بين النص وحيزه المكاني في البياض، وذلك ما كان سيكون جديداً في بابه فعلاً بالنسبة للنقد الروائي والقصصي في اليمن.
3- جاءت الملاحظة رقم (2) (ص2) محايدة لناحية تعيين ورصد مسافة الفقرات الفصول وعدد صفحاتها ولم تبين العلاقة بين طول أو قصر الفقرات، وعلامات الترقيم بدلالة المكان الروائي، وهذه الملاحظة جزئية من أخرى سابقة كنت أرجو فيها من الزميل أن يكون أكثر اصطباراً مع النص والقراءة.. ليكون القارئ والمتلقي أكثراستمتاعاً واستفادة.
وفي الفقرة (4) (ص4)، من ورقة الأستاذ خالد الأهدل ما نصه (يشكل المنزل الذي يقطنه بطل الرواية مع أسرته البؤرة المكانية التي تنطلق منها الشخصية الرئيسية إلى الأماكن الأخرى في الرواية) وذلك برأيي اختزال وتبسيط، يناقض إشارة ورقة الأهدل في المقدمة إلى دلالة عنوان الرواية والذي هو العتبة الأولى بتأكيد دلالي آخر يتمثل في الإهداء ونصه (إلى المكلا المكان والإنسان والأحباب)، فبرغم أهمية المنزل/ المكان كعنصر رمزي متعدد الدلالات بتعدد أشخاصه وأن المنزل أيضا (واحد من أهم العوامل التي تدمج أفكار وذكريات وأحلام الإنسانية، ومبدأ هذا الدمج وأساسه هما: أحلام اليقظة)(1)، فالمكلا هي البؤرة المكانية، والفضاء الذي تمتد منه وفيه فضاءات مكانية أخرى أصغر منها على سبيل المثال: المنزل، البحرالذي يتوحد معه الروائي، يناجيه (ص8، ص10، ص11) ويمثل له المأوى والملاذ والصديق (ارتقيت الأحجار مولياً ظهري جبل المكلا، ورميت صنارتي في البحر هنية وتخلقت أمواج- هكذا- من الأعماق فشعرت أن شيئاً قد علق بالصنارة.. البحر لا يبخل على أصدقائه، مهما واجه من بني البشر) ص18.
وبدلالة حضورالمكلا المدينة كفضاء كبير مفتوح على دلالات شبه مغلقة للمكان كالشوارع والحارات، والشوارع والمقهى نجد أن نسبة حضورها بالتسمية أو الإشارة إليها في الضمير من خلال الصفة المسندة إلى الاسم تتفوق على المنزل، فالمدينة- المكلا تلعب دورالبطولة وتتمحور حولها أحداث الراوي المسقطة على الحاضر والماضي، ويتم الإسقاط عبر إحالات متعددة للمكان، بما يشبه هذه المعادلة.
المكلا = المنزل= الحارات والشوارع، والبحر، والسجن، والبشر= الذاكرة= الوطن= الرواية، وعليه يمكن أن نقسم الفضاء الروائي في الرواية إلى قسمين:
أ- الفضاء الرمزي.. وتمثله المكلا وتؤدي من خلال السرد وظيفة رمزية استعارية، مشبعة بالخصوصية الثقافية للبنية السياسية والاجتماعية التي تقترحها الرواية بما يمكن أن نطلق عليه الهوية (نوستالجيا النص أو الحنين إلى الماضي، هذه النزعة التي يحملها كل من في لا شعوره، وحينما نقدم خصوصيتنا الثقافية التي تستوعبها الرواية في نص روائي فإننا نعرف الآخر بنا، على أن لنا حضوراً مختلفاً لنذكره بوجودنا، ونجعله يتناص معنا، فنحمي أنفسنا مثلما نحمي ثقافتنا من النسيان فالاندثار) فالمكلا بهذا المعنى لدى صالح باعامر تجسيد للبوتوبيا والمثال الذي يقع في الماضي مقابل المكلا كما هي في لازمن الروائي اليوم والتي تحملها وتعبر عنها رؤيته التي يكثفها في خاتمة الرواية للمكلا قائلاً ص128: (أطرقت وتأملت كل شيء وفكرت، ما هذا الذي يجري؟ ما كل هذا الحب، بعد كل هذا هل أهرب؟ هل أغادر؟ لا أظن أنني سأقدم على عمل كهذا، مهما حدث لي بل لن أفكر فيه البتة، كيف أغادر وقد أعطتني المكلا ثروة لا تقدر بثمن هي إعادة الاعتبار لي)، فبهذا المشهد العاطفي الاسترجاعي السريع للزمن وتداعياته يختتم الراوي حديثه ورؤيته لسيرة المكان المكلا بما يشبه المناجاة والابتهال، وكما بدأ الرواية بالحديث عن المكلا.. فإن الختام يكون بها.
ب- الفضاء الواقعي: وينقسم إلى عدة فضاءات تمتد من المكلا ذاته، البحر- المنزل- أسماء الشوارع- الأبنية (القصور- السجون.. الخ) والتي يصنفها خالد الأهدل بقوله (أما الأماكن الأخرى في الرواية فمعظمها يخضع للاستقطاب في مجموعتين من الثنائيات الضدية أولاهما ثنائية (الأمن، الخطر فهناك (المكلا، عدن) حيث المكلا الآمنة في مقابل عدن حرب 86م).. أما الثنائية الضدية الأخرى كما يراها فهي (ثنائية المفتوح، المغلق) حيث تحفل الرواية بالكثير من الأماكن المفتوحة (المقهى، الشاطئ، الشارع، المكتب..، وأغلب هذه الأماكن هي أماكن قسرية اضطرارية وهو ما يجسد مدى الأزمة التي تعانيها الشخصية) ص5، ومع صحة ذلك التعليل.. إلا أن الملاحظ إغفال عامل الزمن الذي يتموضع ضمن ثنائيتي الماضي والحاضر وعلاقته بتلك الأماكن المصنفة ضمن ثنائتين أشار إليهما الأهدل، ذلك أن الراوي يعمد إلى المزاوجة بين الماضي والحاضر أثناء السرد بما يجعل تلك الأماكن عنصراً متحركاً في علاقتها بالزمن تتفجر من خلاله أسئلة الراهن، تبحث فيها الشخصية الرئيسية عن وجودها الإنساني والوطني بإزاحة الستار عن المسكوت عنه، وبذلك تقدم الرواية عبر النص البنية السياسية والثقافية والاجتماعية في حركتها من خلال الرواية، وضمن الفضاء الواقعي.. أيضا نرصد في الرواية أماكن أخرى وفضاءات أهمها:
1- عدن كبؤرة للصراع السياسي والعنف (13 يناير 86-22 يونيو 1969- أحداث 1978).
2- فضاء الأماكن الأخرى التي لم يشر إليها في الورقة والتي جاءت ضمن البناء الروائي ورصد حركة المتغير التاريخي ونقد الأيديولوجيا وآليات القهر أهمها:
- مكة، الحج (لقد سألني إن كنت اعتزم مغادرة البلاد هربا فأكدت له السفر للحج ونفيت الهرب ص 23.
- أفغانستان: جاءت الإشارة إليها في سياق تهمة المحقق للراوي بالمشاركة في الجهاد والذهاب إلى أفغانستان ص 63؟
- الحبشة: المتحف الأثيوبي: جاءت الإشارة إليها في سياق التذكر أثناء وجود بطل الرواية في السجن بالمكلا ص82.
- الصحراء تكررت الإشارة إليها كمكان للموت (ص10) أو النجاة والخلاص (ص105)، وحضور تلك الأماكن وفضاءاتها في الرواية يعبر عن توق الراوي والبطل للرحيل والذهاب بعيداً بقصد توسيع رقة الروح والخلاص لا رقعة المكان.
إن الأماكن المشار إليها تختلف علاقتها بالشخصيات، وبالتالي تختلف هويتها الزمنية والدلالية ليغدو المكان ذاته هو الزمن الذي يتمحور حوله وجود تلك الشخصيات والأحداث والصور، والصراع المحتدم في الواقع وفي داخل الشخصية الرئيسية ووجودها بين الماضي والحاضر، بين الحلم والمستحيل، بين الذات والآخر..
لقد لاحظ الأستاذ خالد الأهدل وجود أماكن: (لا – يتعدا حضورها في الخطاب مجرد التسمية، لأنها لم تكن وعاء لأي حدث، بل إن ظهورها الأسمي لم يكن أكثر من تجسيد للمرور العابر للشخصية خلالها ص5)، وليسمح لي الزميل الأهدل أن أرى إلى المكان الواقعي وما صنفه بالأماكن الأخرى كمحاولة واعية من الكاتب لاستدراج القارئ إلى التيقن من وجود مطابقة بين النص والواقعي..، ذلك أن رواية المكلا تحمل من خصائص رواية السيرة الذاتية الكثير من الملامح، وخصوصياتها الثقافية واضحة، بل إن اشتغالها على الحنين والنوستالوجيا يجعل المكان بكل مستوياته عنصراً سردياً رئيسياً، وما الشخصيات إلا جزء من التفاصيل المكانية كما أرى.
في الفقرة الخامسة من الورقة نرى اختزالاً لأزمة الشخصية الرئيسية- التي لا نعرف أسمها- في علاقتها بالمكان والمتمثلة في: أزمة السكن والعوز المادي، وعملية السطو على الأراضي والإثراء غير المشروع للطبقات الطفيلية..، والموقف مما يحدث من تشويه لجمال المكلا، ولم يلتفت الأخ خالد الأهدل إلى قيمة جوهرية في الرواية تنبني عليها شخصية البطل الراوي ومن خلاله نرى المثقف الجدلي، المثقف الناقد للسلطة بكل أشكالها وآلياتها في القمع والممارسة في الماضي والحاضر، والتي كانت- لهذا السبب- عرضة للسجن والملاحقة الأمنية، والتي تحددت علاقتها بالمكان من خلال رؤيتها للذات وللآخر.. وفي كل الأحوال فهي لا تبدو لنا شخصية نفعية متهافتة على ركوب موجة الإثراء غير المشروع، على حساب الوطن والقيم وفضح الزائف منها التي تمثلها وتتمثلها الشخصية، في كل تحولاتها وأزمنتها: (في غمرة كل هذا كنت أنا ورفيقي سعيد ننهل من منبع واحد هو اليسار إلى أن دبت الحساسيات بين رفاق الأمس، والتي تطورت إلى التنافس على المقاعد الكبيرة والاتهام المتبادل بالخيانة تارة وبالإقليمية أو القروية أو التعصب القبلي أو الشطري تارة أخرى..، فمال سعيد إلى الفريق الثاني وملت أنا إلى الفريق الأول واشتد الصراع وتعاظم إلى أن حسم في 1978م، لصالح الفريق الثاني) ص38 قد تبدو هذه اللغة المباشرة بعيدة عن الإيحاء والرمز، والاكتفاء بالتلميح، لكنها يمكن أن تكون مبررة فنياً في سياقها النقدي للذات، وللسياسي والأيديولوجي داخلها بما أن راوية صالح باعامر ربما تكون أول عمل أدبي يحاول نقد ممارسة اليسارالوطني للسلطة، وفضح المنطق القامع للأيديولوجيا في الماضي مثلما هو في الحاضر..، ثم إن اللغة الشعرية في الرواية مبثوثة في سياقات كثيرة، أشار إلى بعضها الأخ خالد الأهدل في الورقة ملازمة مع وصف الأماكن وهذا التلوين في لغة السرد، وبناء الجملة والعبارة بغية التعبير عن العواطف والمشاعر الإنسانية أو في رصد جماليات المكان.
إن ملمح الشخصية العام لا يمكن اختزاله في بعد المعاناة الإنسانية الفقر وتبدل القيم والعلاقات بل في كل ذلك (لقد سبق أن أوصدوا الدروب في وجهنا ترى وماذا بعد؟ لم يبق لنا إلا المكان والزمان فهل سيزيلوننا منهما؟) ص44 إن هذا الصوت الاحتجاجي المتذمر كان في الماضي أي ما قبل الوحدة.. والذي يأتي على شكل تساؤل يبثه البطل لصديقه سعيد الذي كان رفيقاً له ثم أصبح من ضمن ضباط أمن الدولة، وكلف- ويا للمفارقة- باعتقاله- وفي منظور الراوي وتجربته نتعرف على الأحداث وانعكاسها على الشخصية التي تمر بكل التجارب السياسية، وترصد من خلال علاقتها بالآخرين كل المتغيرات الإيجابية والسلبية في المكان الذي يصبح شاهداً على استبدال عناوين الأيديولوجيات مع بقاء شرط الهيمنة والتسلط قائماً، فبعد استجواب للشخصية/ البطل في أحد السجون، بتهمة (الإرهاب) والذهاب إلى أفغانستان و.. نراه يردد:
- يبدو أن التهم والملفات لن تنتهي.
- لكن الظرف اختلف فهناك ديمقراطية، ومحاكم ونيابة، وقانون، وقضاء ومحامون، وتعددية، وصحافة، وبرلمان، ومجالس محلية و..
- حكم قد لا يبنى على حقيقة.
ص66
إن شخصية الراوي/ البطل تجسد في تحولاتها محنة المثقف اليمني خلال قرابة نصف قرن من الزمن وعلاقته الاستلابية بالسلطة والذي يصبح المكان ذاته مجالاً لممارستها القمع.. لذلك يصبح الاغتراب والنفي الداخلي أو الخارجي في لحظة بعينها من الزمن وفي المكان ذاته بديلاً يفكر فيه البطل (الاحتمال الأقوى هو أنني لن أبقى هنا، بعد الذي حصل، الاغتراب هو المأوى والملاذ، سأغادر المكلا حتى لو اكتشفت أنني غير مطلوب من أولئك أو من الحكومة، بضع سنين أقضيها في الخارج وأعود وقد نسيني الجميع) ص104.
وإذا كانت فكرة الاغتراب تعبير عن حنين إلى الخروج واستبدال المكان وعلاقاته والتغيير إلى الأفضل- فإن الإيمان بالوطن / المدينة/ المنزل، كما في (المعادلة المقترحة آنفاً) تتغلب على كل عوامل الواقع الاستلابية لتنتصر إرادة البقاء والتحدي التي جاءت خاتمة للرواية ودفقه كيانية انقادت للغتها الشعرية بسلاسة ذلك أن علاقة الإنسان بالمكان تأخذ أبعاداً روحية وجمالية تفصح عنها لغة الشعر والحنين.
< المصادر:
1- غاستون باشلار: جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع بيروت (2ط2/1984م ص38).
2- شهلا العجيلي- النص الرواي وداول الهوية الثقافية – مجلة علامات مج 53- سبتمبر 2004م.
3- المكلا- راوية صالح باعامر صادرة عام 2004م عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومركز عبادي للدراسات والنشر.
-
أتى هذا المقال من صحيفة 26سبتمبر
http://www.26sep.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://www.26sep.net/newsweekarticle.php?sid=21297