(أنفاس الورق) في (المرايا)!
قراءة تناص في ديوانين جديدين للشاعر عبدالله باشراحيل
عهد فاضل *
ديوانان جديدان للشاعر عبدالله باشراحيل صدرا أخيراً عن دار العلم للملايين في بيروت، وهما (أنفاس الورق) و(المرايا) 2005م والعالم الشعري في هذين الكتابين يعززان مرة أخرى تلك المزية الثابتة في شعرية باشراحيل، وهي الرؤية المأسوية الحادة للعالم، عبر نوعية خاصة من الكتابة الشعرية ارتضت الجمع بين المعياري والذاتي على خلفية من الحلم اللامشروط والواقعية الصارمة التصويرية. شعر عبدالله باشراحيل يسلم مفاتيحه لأي قراءة جادة تتخذ من حكم القراءة حكما نهائياً. وهي نوع من القراءة التي تستمد المعيار الشعري من داخلها، بل ومن داخل القراءة ذاتهان عبر تبادلية بين الذات والآخر، القصيدة والكائن.
في الحقيقة حاولت كثير من القراءات، ومنها قراءات لنا، في السابق، الغوص في العالم الشعري الخاص لباشراحيل، ونعترف بأننا لم ندع الإلمام بكل جوانب شعريته، لكننا نقولها شرقاً وغرباً، في بيروت والقاهرة، شعرية باشراحيل تمثل نوعاً من الضمانة لخصوصية الشعر العربي المعاصر.. فهو آثر عدم الانصراف عن البحور، وآثر الحفاظ على قابلية الشعر ليعيد نفسه ديوانا للثقافة العربية.. كل هذا في إطار من العفوية والشفافية وإشراك الواقع في الموضوعات الشعرية الصرف.
في هذين الكتابين يستعيد باشراحيل، مرة أخرى عوالمه، يعززها بفرح وبكآبة وبقلق وبانفتاح على مجاهيل الشعر.. ارتأينا، في هذه القراءة، أن نخرج من الإطار الصحافي النقدي المعروف، من طريق تناص مع قصائد الديوانين يوحي للقارئ بتلك التبادلية بين النص وخيال القارئ.. وقلنا: لِمَ ستظل قراءة الشعر على قاعدة نص /قراءة؟ لِمَ لا تكون: نص / كتابة؟ كما حصل في كثير من التجارب الشعرية العالمية. وهذا النص يكون نوعاً من الاستجابة لفتنة النص المقروء، هذه الفتنة تتمثل بتحويل المقروء مكتوباً، والمنصوص ناصاً. خصوصاً إذا عرف القارئ أن كم التخييل عند باشرتجيل يفوق أي مبدأ آخر، فهو شاعر المخيلة بامتياز، يفيض بالتوقع والهجس بالعوالم البعيدة .. قلنا: حسنا يكون التخيل على التخيل، والنص على النص، على أن التمييز يأتي من خلال وضع شعر باشراحيل مقاطع مستقلة، هذا من دون إغراق المقال بذكر اسم الكتاب هذا أو ذاك.. بل سنكتفي برمز (م) إشارة إلى (المرايا) ورمز (أ) إلى أنفاس الورق. وسندخل دوامة التخييل من خلال معان مفقودة ضائعة ثمة من يبحث فيها وعنها ومنها.. لنبدأ تجربة النص على النص.
هذه المعاني، حقاً، ليست لنا.. من أجل هذا لا نعرف كيف ندافع عنها، ولا كيف نحبها. المعاني التي نقيم عليها، والتي تقف عليها أقدامنا، هي أرض اغتصبناها، سلبناها، نهبناها، لا تستحقها بسند ملكية شرعي. حتى أنه من المعقول طرح السؤال التالي: هل المعاني عرض أم عرض؟ نحن أميل إلى القراءة الثانية، وخصوصاً أنها تلتقي مع المخزون اللامحدود في أعماقنا من تعفف عن المكان، ميتافيزيقي المنشأت، والذي يعتبر أن (الدنيا دار عبور وليست دار استقرار). لهذا تذهب أرضنا كما لو أنها دنانير (تفر من البنان). إنما الحل العشري عند باشراحيل هو تأبيد الأرض والارتباط بسحرها وحراستها كما لو أنه حارس الهيكل:
فلتسكني دمي
لكي يكون للحياة طعمها
وللمنى مذاقها الشهي
تحسسي عواطفي
قصائدي
تأملي الرضا ولوعة الجوى
مثلي إذن تهيمي
فالعمر يا حبيبتي هو السرى (أ).
لكن من هي هذه الأرض التي تمتلك قابلية للتشبه بالكائن؟ والجواب:
سكوت كلكم سكوت
أنتم في حضرة الجمال
والجمال هيبة
وهالة من غيمة صموت
......................
وإنني
أحبها أعشقها
أهيم في فتونها
أموت
.......................
وكلنا لأجلها نموت
أتعرفون من حبيبتي؟
حبيبتي بيروت (أ)
هكذا يمكن أن نفهم تلك الحرقة العتابية الحادة:
مر عتابك ياوطن
فالنبل بات بلا ثمن
أهديت جبهتك الوسام
وأنت لاه بالدمن
وضننت حتى بالمنى
وأنا بروحي لم أضن (م)
ما هو هذا السر الذي يجعلنا نفقدها بسرعة ودون مقدمات ودون أي حرج أو ذكرى ودون ورثة أو ناجين يسردون لنا كيف كانت (تلك) المعاني أرضاً في وقت ما؟ ماذا سيفعل الشاعر في هذا الحال؟:
فآثر النوى
وردت الأصداء
إنما الجمال قد هوى (أ)
وفي حال الفقدان والخسارة يفسر الشاعر الظاهرة عبر تحويل الفكرة إلى مصدر شعري:
وعاد الريح وعاد الطير فما اسطاعا
عجزا عن جلب العطر
والفكر المتأمل يهزأ وهو يقول
عجز المخلوق لجلب عطور الشمس
وعطور الشمس الحب (أ)
ما تلك اللعنة التي تلاحقنا منذ تولد؟ يأتي الواقع الصارم ذو الملامح المتعارف عليها ويكذب في قوله: هذه معانيكم وأرض كلماتكم. نصدق الادعاء ونبدأ في زرعها وحراثتها، ومن ثم التلذذ بثمارها. وماهي إلا أيام أو ساعات أو قرون يأتي الورثة الذين توارثوا الكذبة الواقعية ويتحسسون في جيناتهم أمراً لم يفكر به من قبل وهو أن المعاني التي تقف أقدامهم عليها ليست لهم وأن احداً اغتصبها من مالك لم يعد يعرفه أحد. وهنا دور الشاعر ليعيد لكل مكانه في خريطة الوراثة، وكذلك الاعتراف بشيء من الحزن العميق المتغلل في النفس. اعتراف الشاعر هنا هو نوع من الاعتراف بالأنا وتحديد مكانها مع الجماعة فيقول منتهيا من الاحتفاظ بسره:
آه لو تعرفني
لك في قلبي حقول الألق
يا صدى الناي الذي عودني
نغمة الحزن ورجع الشجن
لحظة وردية الذكرى
فمن أسهرني؟
أيها الصمت الذي سافر بي
تعب الترحال إلا قدمي
آه ما أقسى رمال الزمن (أ)
وهنا حيث تتحدد أكثر معالم البنية المأسوية الناتجة من سيطرة الواقع:
أين عمري غاب في بحر المرايا
سابحا في ليل أحزان السجايا
أرسم الدهشة في عين المدى
صوراً للعصر من كل الزوايا
وأنا المانح عمري كله
أين ما يمنحني بعض البقايا؟ (م)
المشكلة الآن، أن المعاني قسمت بالكامل، ولم يعد هناك من مكان يمكن أن تهرب إليه السلالة الضالة، السلالة التي اكتشفت أن ملكيتها مزورة للأرض التي تقيم عليها.. القرون السالفة كانت أجمل فقد كان هناك كثير من البقاع التي لم يكتشفها بنوآدم، لهذا نشأت حركة ترحل وتجول أسفرت عن ولادة الكثير من الجوالين وقصص البحارة ورواد الآفاق. لو اكتشف أهل هذي المعاني، في العصور السالفة، أن أرضهم ليست لهم لكان بالإمكان الحلول في أرض أخرى.
أما الآن، فماذا نفعل، نحن أهل هذي المعاني؟ أين سنقيم؟ يجيب الشاعر بأن هناك سبباً للهرب من الأرض، والهرب من الواقع، وكذلك حتى الهرب من المعاني. في نبرة من التمرد المنضبط على إيقاع التغيير والرغبة بولادة عالم جديد عبر نقد ذلك العالم.
همهم، وتمتم، وانتقم
ماذا يضير الصابرين الجاثمين الرافضين؟
وهل يضير الجرح في جسد الردى
نزف الدماء أو العدم؟
.............................
حملق، وهدد، وانتقم
أو لم تؤيدك القوارع والمصائر
فلكل قارعة بيارق والأسى
موت المدائن والهواجس
وارتعاش الخوف
في قلب الأمم
..............................
هيا التهم
فجميعهم يا سيدي
لرضاك
قد صاروا.. غنم (أ)
كذلك نقرأ في خلفية السخط والنقد الشعريين:
كنت سلطانا وقد
صرت صعلوكاً يذل
زدت كبراً وغباء
أي شر فيك حل
اي عدل يرتجى
وهو يوما ما عدل (م)
في الحضارة الغربية خوف سري، غير معلن، من مسألة تلوث المعاني المفاجئ والناتج من انفجار على يد عالم فيلسوف فقد عقله، أو على يد متحاربين في لحظة يفقدون فيها السيطرة على الأمور. المعنى الشعري في هذه الحالة هو الضامن لاستمرارية النوع، بل التكوين الجمالي للكائن. ما هنا يدخل الشاعر في كهانة التعرف والأسئلة والحيرة لهذا نفهم ذلك الخوف العالمي على المعنى الإنساني الذي يعبر عنه باشراحيل شعرياً:
العقول البكر في الأرض ثكالى
وأدت أفكارها كرها
وهامت في دياجي التيه
تستنطق أصوات المواعيد
وتنأى عن سواد أطرقت منه الخفايا
سجف أغفت وضيم خافت
وفراغ أشبع الوهن جدالاً (أ)
وليس هذا هو الخوف الوحيد، إذ هناك من يقول إن أرض المعاني الواسعة ستتحول إلى صحراء ملحية جرداء لا يستطيع العيش فيها إلا نوع من العدم والفراغ والحجب المعقدة التكوين.. والخوف الآخر هو من طفل الضجر الذي يتسع باستمرار، ومخاوف أخرى عديدة.. هذا دفعهم إلى الحلم بإمكانية الإقامة في كواكب أخرى كالشعر على وجه الخصوص. فيرسلون الكلمات الشعرية وكل أدوات الاستكشاف لملاحقة نقطة ماء في كوكب في الفضاء الخارجي.
إذا تلوثت المعاني كما قالوا، فسافروا إلى العالم الخارجي واستوطنوه، بعدما يكونوا قد أمنوا كل المستلزمات، فإن المعاني ستكون فارغة إلا من القوم الذين كانوا وما زالوا بلا معاني يمتلكونها شرعاً وقانوناً. حينها سيصبح لنا معان لكن ليس من المتوقع أن نحبها ولا أن ندافع عنها، على الأقل لأن الدفاع يفترض الاعتداء، و من سيعتدي على معنى من الملح حقيقته بلا معنى، ومعناه بلا أساس إنساني أصيل:
هكذا طبعي وشعري هكذا
قد تعودت على نشر الشذى
ما ارتقى النابغ في أوطاننا
خيفة من فكره أن يحتذى
كلما صاح بأعلى صوته
في سبيل الحق قالوا: قد هذى (م)
هكذا تتبدى أجزاء من شعرية الشاعر عبدالله باشراحيل. في قليل من تخيل القراءة، الأخيرة التي لم تجازف عميقاً في التناص كيلا يزاح النص الشعري من منشئه الأصلي والجمالي، وكي يحافظ على استقلاليته الكاملة إن من خلال الأدوات وإن من خلال العالم الشعري الخاص. دائماً يحافظ الشاعر عبدالله باشراحيل على توازن الخيال والأدوات الشعرية بما لا يخل بمكان أي منها، سواء من جهة المنطق الشعري أو من جهة تكامل المعنى مع اللفظ، ذلك الذي عول ويعول عليه النقاد قديماً وحديثاً. نترك البقية، في طبيعة الحال إلى انطباع القارئ الذي هو على موعد شعري خالص في (المرايا) وفي (أنفاس الورق).
*كاتب سوري يقيم في القاهرة
الرجوع
قراءة تناص في ديوانين جديدين للشاعر عبدالله باشراحيل
عهد فاضل *
ديوانان جديدان للشاعر عبدالله باشراحيل صدرا أخيراً عن دار العلم للملايين في بيروت، وهما (أنفاس الورق) و(المرايا) 2005م والعالم الشعري في هذين الكتابين يعززان مرة أخرى تلك المزية الثابتة في شعرية باشراحيل، وهي الرؤية المأسوية الحادة للعالم، عبر نوعية خاصة من الكتابة الشعرية ارتضت الجمع بين المعياري والذاتي على خلفية من الحلم اللامشروط والواقعية الصارمة التصويرية. شعر عبدالله باشراحيل يسلم مفاتيحه لأي قراءة جادة تتخذ من حكم القراءة حكما نهائياً. وهي نوع من القراءة التي تستمد المعيار الشعري من داخلها، بل ومن داخل القراءة ذاتهان عبر تبادلية بين الذات والآخر، القصيدة والكائن.
في الحقيقة حاولت كثير من القراءات، ومنها قراءات لنا، في السابق، الغوص في العالم الشعري الخاص لباشراحيل، ونعترف بأننا لم ندع الإلمام بكل جوانب شعريته، لكننا نقولها شرقاً وغرباً، في بيروت والقاهرة، شعرية باشراحيل تمثل نوعاً من الضمانة لخصوصية الشعر العربي المعاصر.. فهو آثر عدم الانصراف عن البحور، وآثر الحفاظ على قابلية الشعر ليعيد نفسه ديوانا للثقافة العربية.. كل هذا في إطار من العفوية والشفافية وإشراك الواقع في الموضوعات الشعرية الصرف.
في هذين الكتابين يستعيد باشراحيل، مرة أخرى عوالمه، يعززها بفرح وبكآبة وبقلق وبانفتاح على مجاهيل الشعر.. ارتأينا، في هذه القراءة، أن نخرج من الإطار الصحافي النقدي المعروف، من طريق تناص مع قصائد الديوانين يوحي للقارئ بتلك التبادلية بين النص وخيال القارئ.. وقلنا: لِمَ ستظل قراءة الشعر على قاعدة نص /قراءة؟ لِمَ لا تكون: نص / كتابة؟ كما حصل في كثير من التجارب الشعرية العالمية. وهذا النص يكون نوعاً من الاستجابة لفتنة النص المقروء، هذه الفتنة تتمثل بتحويل المقروء مكتوباً، والمنصوص ناصاً. خصوصاً إذا عرف القارئ أن كم التخييل عند باشرتجيل يفوق أي مبدأ آخر، فهو شاعر المخيلة بامتياز، يفيض بالتوقع والهجس بالعوالم البعيدة .. قلنا: حسنا يكون التخيل على التخيل، والنص على النص، على أن التمييز يأتي من خلال وضع شعر باشراحيل مقاطع مستقلة، هذا من دون إغراق المقال بذكر اسم الكتاب هذا أو ذاك.. بل سنكتفي برمز (م) إشارة إلى (المرايا) ورمز (أ) إلى أنفاس الورق. وسندخل دوامة التخييل من خلال معان مفقودة ضائعة ثمة من يبحث فيها وعنها ومنها.. لنبدأ تجربة النص على النص.
هذه المعاني، حقاً، ليست لنا.. من أجل هذا لا نعرف كيف ندافع عنها، ولا كيف نحبها. المعاني التي نقيم عليها، والتي تقف عليها أقدامنا، هي أرض اغتصبناها، سلبناها، نهبناها، لا تستحقها بسند ملكية شرعي. حتى أنه من المعقول طرح السؤال التالي: هل المعاني عرض أم عرض؟ نحن أميل إلى القراءة الثانية، وخصوصاً أنها تلتقي مع المخزون اللامحدود في أعماقنا من تعفف عن المكان، ميتافيزيقي المنشأت، والذي يعتبر أن (الدنيا دار عبور وليست دار استقرار). لهذا تذهب أرضنا كما لو أنها دنانير (تفر من البنان). إنما الحل العشري عند باشراحيل هو تأبيد الأرض والارتباط بسحرها وحراستها كما لو أنه حارس الهيكل:
فلتسكني دمي
لكي يكون للحياة طعمها
وللمنى مذاقها الشهي
تحسسي عواطفي
قصائدي
تأملي الرضا ولوعة الجوى
مثلي إذن تهيمي
فالعمر يا حبيبتي هو السرى (أ).
لكن من هي هذه الأرض التي تمتلك قابلية للتشبه بالكائن؟ والجواب:
سكوت كلكم سكوت
أنتم في حضرة الجمال
والجمال هيبة
وهالة من غيمة صموت
......................
وإنني
أحبها أعشقها
أهيم في فتونها
أموت
.......................
وكلنا لأجلها نموت
أتعرفون من حبيبتي؟
حبيبتي بيروت (أ)
هكذا يمكن أن نفهم تلك الحرقة العتابية الحادة:
مر عتابك ياوطن
فالنبل بات بلا ثمن
أهديت جبهتك الوسام
وأنت لاه بالدمن
وضننت حتى بالمنى
وأنا بروحي لم أضن (م)
ما هو هذا السر الذي يجعلنا نفقدها بسرعة ودون مقدمات ودون أي حرج أو ذكرى ودون ورثة أو ناجين يسردون لنا كيف كانت (تلك) المعاني أرضاً في وقت ما؟ ماذا سيفعل الشاعر في هذا الحال؟:
فآثر النوى
وردت الأصداء
إنما الجمال قد هوى (أ)
وفي حال الفقدان والخسارة يفسر الشاعر الظاهرة عبر تحويل الفكرة إلى مصدر شعري:
وعاد الريح وعاد الطير فما اسطاعا
عجزا عن جلب العطر
والفكر المتأمل يهزأ وهو يقول
عجز المخلوق لجلب عطور الشمس
وعطور الشمس الحب (أ)
ما تلك اللعنة التي تلاحقنا منذ تولد؟ يأتي الواقع الصارم ذو الملامح المتعارف عليها ويكذب في قوله: هذه معانيكم وأرض كلماتكم. نصدق الادعاء ونبدأ في زرعها وحراثتها، ومن ثم التلذذ بثمارها. وماهي إلا أيام أو ساعات أو قرون يأتي الورثة الذين توارثوا الكذبة الواقعية ويتحسسون في جيناتهم أمراً لم يفكر به من قبل وهو أن المعاني التي تقف أقدامهم عليها ليست لهم وأن احداً اغتصبها من مالك لم يعد يعرفه أحد. وهنا دور الشاعر ليعيد لكل مكانه في خريطة الوراثة، وكذلك الاعتراف بشيء من الحزن العميق المتغلل في النفس. اعتراف الشاعر هنا هو نوع من الاعتراف بالأنا وتحديد مكانها مع الجماعة فيقول منتهيا من الاحتفاظ بسره:
آه لو تعرفني
لك في قلبي حقول الألق
يا صدى الناي الذي عودني
نغمة الحزن ورجع الشجن
لحظة وردية الذكرى
فمن أسهرني؟
أيها الصمت الذي سافر بي
تعب الترحال إلا قدمي
آه ما أقسى رمال الزمن (أ)
وهنا حيث تتحدد أكثر معالم البنية المأسوية الناتجة من سيطرة الواقع:
أين عمري غاب في بحر المرايا
سابحا في ليل أحزان السجايا
أرسم الدهشة في عين المدى
صوراً للعصر من كل الزوايا
وأنا المانح عمري كله
أين ما يمنحني بعض البقايا؟ (م)
المشكلة الآن، أن المعاني قسمت بالكامل، ولم يعد هناك من مكان يمكن أن تهرب إليه السلالة الضالة، السلالة التي اكتشفت أن ملكيتها مزورة للأرض التي تقيم عليها.. القرون السالفة كانت أجمل فقد كان هناك كثير من البقاع التي لم يكتشفها بنوآدم، لهذا نشأت حركة ترحل وتجول أسفرت عن ولادة الكثير من الجوالين وقصص البحارة ورواد الآفاق. لو اكتشف أهل هذي المعاني، في العصور السالفة، أن أرضهم ليست لهم لكان بالإمكان الحلول في أرض أخرى.
أما الآن، فماذا نفعل، نحن أهل هذي المعاني؟ أين سنقيم؟ يجيب الشاعر بأن هناك سبباً للهرب من الأرض، والهرب من الواقع، وكذلك حتى الهرب من المعاني. في نبرة من التمرد المنضبط على إيقاع التغيير والرغبة بولادة عالم جديد عبر نقد ذلك العالم.
همهم، وتمتم، وانتقم
ماذا يضير الصابرين الجاثمين الرافضين؟
وهل يضير الجرح في جسد الردى
نزف الدماء أو العدم؟
.............................
حملق، وهدد، وانتقم
أو لم تؤيدك القوارع والمصائر
فلكل قارعة بيارق والأسى
موت المدائن والهواجس
وارتعاش الخوف
في قلب الأمم
..............................
هيا التهم
فجميعهم يا سيدي
لرضاك
قد صاروا.. غنم (أ)
كذلك نقرأ في خلفية السخط والنقد الشعريين:
كنت سلطانا وقد
صرت صعلوكاً يذل
زدت كبراً وغباء
أي شر فيك حل
اي عدل يرتجى
وهو يوما ما عدل (م)
في الحضارة الغربية خوف سري، غير معلن، من مسألة تلوث المعاني المفاجئ والناتج من انفجار على يد عالم فيلسوف فقد عقله، أو على يد متحاربين في لحظة يفقدون فيها السيطرة على الأمور. المعنى الشعري في هذه الحالة هو الضامن لاستمرارية النوع، بل التكوين الجمالي للكائن. ما هنا يدخل الشاعر في كهانة التعرف والأسئلة والحيرة لهذا نفهم ذلك الخوف العالمي على المعنى الإنساني الذي يعبر عنه باشراحيل شعرياً:
العقول البكر في الأرض ثكالى
وأدت أفكارها كرها
وهامت في دياجي التيه
تستنطق أصوات المواعيد
وتنأى عن سواد أطرقت منه الخفايا
سجف أغفت وضيم خافت
وفراغ أشبع الوهن جدالاً (أ)
وليس هذا هو الخوف الوحيد، إذ هناك من يقول إن أرض المعاني الواسعة ستتحول إلى صحراء ملحية جرداء لا يستطيع العيش فيها إلا نوع من العدم والفراغ والحجب المعقدة التكوين.. والخوف الآخر هو من طفل الضجر الذي يتسع باستمرار، ومخاوف أخرى عديدة.. هذا دفعهم إلى الحلم بإمكانية الإقامة في كواكب أخرى كالشعر على وجه الخصوص. فيرسلون الكلمات الشعرية وكل أدوات الاستكشاف لملاحقة نقطة ماء في كوكب في الفضاء الخارجي.
إذا تلوثت المعاني كما قالوا، فسافروا إلى العالم الخارجي واستوطنوه، بعدما يكونوا قد أمنوا كل المستلزمات، فإن المعاني ستكون فارغة إلا من القوم الذين كانوا وما زالوا بلا معاني يمتلكونها شرعاً وقانوناً. حينها سيصبح لنا معان لكن ليس من المتوقع أن نحبها ولا أن ندافع عنها، على الأقل لأن الدفاع يفترض الاعتداء، و من سيعتدي على معنى من الملح حقيقته بلا معنى، ومعناه بلا أساس إنساني أصيل:
هكذا طبعي وشعري هكذا
قد تعودت على نشر الشذى
ما ارتقى النابغ في أوطاننا
خيفة من فكره أن يحتذى
كلما صاح بأعلى صوته
في سبيل الحق قالوا: قد هذى (م)
هكذا تتبدى أجزاء من شعرية الشاعر عبدالله باشراحيل. في قليل من تخيل القراءة، الأخيرة التي لم تجازف عميقاً في التناص كيلا يزاح النص الشعري من منشئه الأصلي والجمالي، وكي يحافظ على استقلاليته الكاملة إن من خلال الأدوات وإن من خلال العالم الشعري الخاص. دائماً يحافظ الشاعر عبدالله باشراحيل على توازن الخيال والأدوات الشعرية بما لا يخل بمكان أي منها، سواء من جهة المنطق الشعري أو من جهة تكامل المعنى مع اللفظ، ذلك الذي عول ويعول عليه النقاد قديماً وحديثاً. نترك البقية، في طبيعة الحال إلى انطباع القارئ الذي هو على موعد شعري خالص في (المرايا) وفي (أنفاس الورق).
*كاتب سوري يقيم في القاهرة
الرجوع