60
القراءة، القارئ والتلقي
اسماعيلي عبد حافيظ
تشكل علاقة النص بصاحبه واحدة من أهم الطروحات النقدية الحديثة التي ظلت مهيمنة لردح من الزمن، لتكرس معها وترسخ في الأذهان ما عرف "بسلطة المؤلف". وقد فرض هذا التوجه اهتماما متزايدا بالنص الأدبي انطلاقا من حياة مبدعه وما يرتبط بها من أحداث اجتماعية وتاريخية وثقافية ونفسية. وبهذا فإن أي محاولة كانت تستهدف اقتحام عمل أدبي ما لا يمكن أن يتأتى لها النجاح إلا عندما تأخذ بعين الاعتبار العوامل السالفة الذكر.
بعد هذا أطلت البنيوية كحقل جديد في تاريخ الدراسات الأدبية، فحاولت الحد من "فيتيشية" الكاتب والدعوة إلى التحليل المحايث للنص، والوقوف عند بنائه الداخلي بغض النظر عن العوامل الخارجية؛ فكانت هذه الدعوة إيذانا بتلاشي سلطة المؤلف وتكريس سلطة أخرى هي سلطة النص إن صح التعبير.
وقد برزت ملامح هذا التوجه الجديد بصفة خاصة، عند رولان بارت Rolan Barthes، الذي أعلن "موت المؤلف"، هذا الإعلان الذي جاء متضمنا عند حديثه عن الكتابة يقول: "الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل، الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة، إنها السواد، البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب"
[1].
بهذه الدعوة الجديدة، استطاعت البنيوية أن تخلق تحولا جذريا في مسار الدراسات الأدبية والنقدية، غير أن هذا التحول لم يدم طويلا إذ سرعان ما ظهر اتجاه جديد يعلي من سلطة القراءة والقارئ، لتظهر بهذا ملامح نظرية جديدة ظلت طويلا تحت الظل تنتظر من يميط عنها اللثام، وقد شكل هذا الظهور تحولا في مسار البحث الأدبي بوجه عام، لتكتمل بذلك عناصر المسرحية على حد تعبير ستاروبنسكي.
إن ظهور هذا المفهوم القديم/الجديد سيسد الثغرة التي ظلت قائمة في مسار التاريخ الأدبي، وسيفسح مجالا أرحب لمقاربات جديدة تنضم لسابقاتها.
وسيوكل لـ"نظرية التلقي" ذات الأصول الألمانية النهوض بهذا المشروع الجديد، الذي سيخلق منعطفات جديدة في التاريخ الأدبي بوجه عام؛ وسيعمد إلى إعادة الاعتبار لمفهوم القراءة والقارئ وما يرتبط بهما.
لكن عن أي قراءة تتحدث نظرية التلقي؟
"إن القراءة هي شرط مسبق ضروري لجميع عمليات التأويل الأدبي، كما لاحظ ذلك من قبل "والترسلاتوف W.Slatoff" في كتابه بصدد القراء. يقول:
يشعر المرء بأنه سيكون مضحكا قليلا إذا كان عليه أن يبدأ بالإلحاح على أن الأعمال الأدبية توجد في جانب منها على الأقل لكي تكون مقروءة، وبأننا نقوم بالفعل بقراءتها، وإن من المفيد أن نفكر في ماذا يحدث عندما نفعل ذلك؟ ولنقل هذا بكل صراحة؛ فمثل هذه التصريحات تبدو بديهية لدرجة أنه لم تكن هناك حاجة لذكرها. مع ذلك، فإنه ليس هناك أحد ينكر مباشرة بأن للقراء والقراءة وجودا فعليا"[2].
لكن في الواقع لا نجد قراءة واحدة، بل نجد قراءات. فهناك "القراءة الأولى المقترنة باكتشاف الكتابة، والقراءة التضرعية في المسيحية، والأمر الجبريلي "إقرأ" و"القراءات السبع" في السياق الإسلامي، وتعريف النص الأدبي بأنه "ما تنقرئ فيه الكتابة، وتنكتب فيه القراءة باستمرار" في علم السرد و"قارئ الكاميط" و"القارئ المغنطيسي الكهربائي" في عالم الإلكترونيات"[3]. وهذا ما يعني أن مفهوم القراءة عرف تداولا كبيرا على مر التاريخ أكسبه تضخما دلاليا. لذلك يبدو استيفاء البحث في موضوعه واستنفاذه ضربا من المستحيل.
إن الهدف من هذه المحاولة، هو بالأساس، استجلاء خصائص مفهوم القراءة انطلاقا من أطروحات نظرية التلقي من خلال أعمال رائديها هانس روبيرت ياوس Hans Robert Jauss وفولفغانغ إيزر Wolfgang Iser.
إذا رجعنا إلى مفهوم القراءة في النظريات النقدية التي سبقت نظرية التلقي فإننا سنجده، على الرغم من تداوله الكبير، قد عرف ضيقا شديدا وانحسارا واضحا في دلالاته، إذ ظل يتحرك داخل الإطار المنهجي الذي يختاره القارئ، وهذا ما يحد من فاعلية القراءة. من هنا كانت دعوة نظرية التلقي إلى القراءة التكاملية التي: "تفرض على القارئ، خلاف غيرها، أن ينظر إلى النص بكل العيون لا بعين واحدة وأن يتحسس النص بكل الحواس لا بحاسة واحدة، المهم في كل هذا أن هذه القراءة تبصر بعيونها عيون النص، وتدرك بوعيها وعي النص، والأهم أن هذه القراءة تقرأ النص بعيونه وتتعمق في ما تخفيه تلك العيون من أسرار وسرائر لا يعرف قيمتها إلا من يكابد شوق الوصول إليه"[4]. بهذا يمكننا القول إن نظرية التلقي تشير على الإجمال إلى تحول عام من الاهتمام بالمؤلف والعمل إلى النص والقارئ، ومن ثم فإنها تستخدم بوصفها مصطلحا شاملا يستوعب مشروعات ياوس وإيزر كليهما، كما يستوعب البحث التجريبي والاشتغال التقليدي بموضوع المؤثرات"[5]. وبناء على هذا فإن القراءة من منظور هذه النظرية الجديدة نظرية التلقي تتجاوز معايير وقيم القراءات النموذجية السائدة، كما تسعى إلى تحرير النص وفك أسره من القراءات المقيدة التي تطوق معانيه. وكل ذلك نابع من اعتقاد راسخ وهو أن "العمل الأدبي حتى في لحظة صدوره، لا يكون مولودا من فراغ، فعن طريق مجموعة من الإعلانات والإشارات الظاهرة أو المستبطنة، ومن الإحالات الضمنية والخصائص المعتادة، يكون جمهوره مهيأ من قبل ليتلقاه بطريقة ما"[6].
إن هذا التهيأ والاستعداد المسبق هو ما يسميه ياوس Jauss "أفق الانتظار" الذي تفرضه التجربة الأدبية للقارئ والتي تفلت من النزعة النفسانية التي هي عرضة لها لوصف تلقي العمل والأثر الناتج عنه.
ويتحدد أفق الانتظار عند كل قارئ بالعوامل التالية:
1 ـ المعرفة المسبقة للقارئ بالعمل الذي سيقبل على قراءته
2 ـ التجربة التي اكتسبها من خلال قراءته لأجناس أدبية معينة.
3 ـ الخبرة القرائية العامة للقارئ، وما تولد عنها من دراية
4 ـ إدراكه الفرق بين اللغة الشعرية واللغة العملية.
إن القارئ يحاول أن يقتحم عالم النص انطلاقا من رؤيته المحكومة بالعناصر الأربعة السالفة، في حين يسعى كاتب النص إلى خلخلة هذه الرؤية، والتشويش على القارئ، فينتج عن هذا التوتر بين العمل الأدبي وافق الانتظار ما يسمى بـ"المسافة الجمالية" هذه المسافة التي تتحدد بواسطتها ردود فعل القارئ إزاء النص والتي لا تخرج في عموميتها عن ثلاث استجابات/ردود ممكنة، يمكن أن نوجزها في الآتي:
1 ـ الرضى والارتياح: ويكون ذلك حين يقتحم القارئ عالم النص فيجد فيه انسجاما مع أفق انتظاره.
2 ـ الخيبة: يحس القارئ بالخيبة أساسا حين يحاول أن يقرأ عملا أدبيا، انطلاقا من شروط ومحددات كونها من خلال قراءته لعمل أدبي مغاير.
3 ـ التغيير: ويكون عندما يذعن القارئ للجنس الأدبي الذي يقرأه، ويستطيع أن يكون رؤية أو نظرة خاصة بالجنس الذي قرأه، وهذا يعني أن يكيف أفق انتظاره مع العمل الجديد.
داخل فلك هذه المحددات إذن يدور الحوار بين العمل الأدبي والقارئ غير أن شرط كل كتابة أصيلة أن تنزاح عن كل التوقعات والقوانين الجمالية المشكلة لأفق انتظار القارئ. وبناء على هذا المعيار يمكننا القول إن أدبية النص الأدبي لا تتحقق إلا بانزياح النص عن أفق انتظار القارئ.
إن "ياوس" واستنادا إلى المعايير السابقة يميز بين أصناف من القراء أو المتلقين إذ نجد:
*القارئ العادي
*القارئ الناقد
*الكاتب الناقد.
ومن ثمة فكل قارئ يتناول العمل الأدبي من منطلقات خاصة، وهذا ما يجعل من القراءة فعلا مختلفا ونشاطا متجددا بتجدد القراء، بل بتجدد القارئ نفسه، وهذا يعني أيضا "أن القراءة هي، في حقيقتها، نشاط فكري/لغوي مولد للتباين، منتج للاختلاف، فهي تتباين، بطبيعتها، عما تريد بيانه، وتختلف، بذاتها، عما تريد قراءته. وشرطها، بل علة وجودها وتحققها أن تكون كذلك، أي مختلفة عما تريد أن تقرأ فيه، لكن فاعلة في الوقت نفسه ومنتجة باختلافها، ولاختلافها بالذات"[7] وفي هذا دحض للقراءات التي تسعى إلى تقزيم النص.
من هنا نفهم أنه لا مجال للقراءة الواحدة الوحيدة، كما أنه لا فائدة من البحث عن قراءة تتغيا الكشف عما أراد أن يخبئه الكاتب بين السطور. بل الهدف هو التركيز على لحظة معينة تمارس فيها عملية القراءة، وهذه اللحظة نفسها تختلف أيضا باختلاف القراءة السابقة عنها، بل قد تختلف حتما عن القراءة اللاحقة، وهذا يعني التأكيد على عملية التلقي "والمقصود بالتلقي هنا هو تلقي الأدب، أي العملية المقابلة لإبداعه أو إنشائه أو كتابته، وعندئذ قد يختلط مفهوم التلقي ومفهوم الفاعلية التي يحدثها العمل، وإن كان الفرق بينهما كبيرا، حيث يرتبط التلقي بالقارئ، والفاعلية بالعمل نفسه، ومن ثمة يختلف تاريخ التلقي عن تاريخ الفاعلية"[8].
إن الشيء الأساس في قراءة عمل أدبي ما هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه وهذا يعني "أن للعمل الأدبي قطبين، قد نسميهما "القطب الفني والقطب الجمالي" الأول هو نص المؤلف والثاني هو التحقق الذي ينجزه القارئ، وفي ضوء هذا التقاطب يتضح أن العمل ذاته لا يمكن أن يكون مطابقا لا للنص ولا لتحققه بل لا بد أن يكون واقعا في مكان ما بينهما"[9]. وفي هذا إشارة واضحة إلى تركيز إيزر Iser على عملية القراءة كفعل أساس في تحقق العمل الأدبي، ولكن ليس أي قراءة، فهي قراءة من نوع خاص تسير في اتجاهين متبادلين، من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص؛ وفي هذا إقصاء لأنواع القراءة الأخرى التي تعرف مسارا واحدا ينطلق من النص ويقف عند حدود القارئ ولا يتجاوزها.
إن القراءة هنا لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال دخول القارئ في علاقة بالمقروء. وهنا يظهر تأثر نظرية التلقي بالفلسفة الظواهرية التي كانت بمثابة رد فعل ضد الفلسفة العقلية التي تنشد الحقيقة المطلقة وفي هذا إشارة واضحة إلى تركيز الفلسفة الظواهرية على النسبية في تعاملها مع الأشياء؛ ومنها النص الأدبي الذي يأبى كل قراءة تدعي الاكتمال. "فالعمل الأدبي ليس له وجود إلا عندما يتحقق؛ وهو لا يتحقق إلا من خلال القارئ، ومن ثمة تكون عملية القراءة هي تشكيل جديد لواقع مشكل من قبل هو العمل الأدبي نفسه. وهذا الواقع المشكل في النص الأدبي لا وجود له في الواقع حيث أنه صنعة خيالية أولا وأخيرا؛ وذلك على الرغم من العلاقة الوثيقة بينه وبين الواقع. وعندئذ تنصب عملية القراءة على كيفية معالجة هذا التشكيل المحول إلى الواقع، وتتحرك على مستويات مختلفة من الواقع: واقع الحياة، وواقع النص، وواقع القارئ ثم أخيرا واقع جديد لا يتكون إلا من خلال التلاحم الشديد بين النص والقارئ"[10].
إن القراءة إذن نشاط مكثف وفعل متحرك، كما أنها ليست "مجرد صدى للنص [بل هي ] احتمال من بين احتمالاته الكثيرة، والمختلفة، وليس القارئ في قراءته كالمرآة، لا دور له، إلا أن يعكس الصور والمفاهيم والمعاني، فالأحرى القول إن النص مرآة يتمرأى فيه قارئه على صورة من الصور، ويتعرف من خلاله، على نفسه بمعنى من المعاني"[11]. إن هذا ما يجعل قارئ إيزر Iser لا يعرف التوقف، فهو قارئ مشاء على حد تعبير E.Freund، وموازاة مع سير القارئ، تعرف القراءة استمرارية دون أن يعني ذلك انسياب معاني النص لأن القارئ الجيد في نظر إيزر هو الذي يتوقف بين الفينة والأخرى بقراءته لملء الفراغات التي يتركها النص، وبذلك تكون القراءة فعلا جماعيا، وحصيلة لتأويلات ومعان ودلالات مختلفة. كما يكون النص هو ما يقرر، إلى حد كبير، استجابة القارئ.
يظهر بوضوح أن نظرية التلقي من خلال فرضياتها تمزج بين أفق التوقعات التي تتحدد بتوقعات القارئ لحظة استقباله للعمل الأدبي، ونظرية التأثير التي تلغي الثنائية بين الذات والموضوع لصالح التفاعل والالتحام بينهما.
من خلال ما سبق نستنتج أن هناك تقاطعا واضحا بين نظرية التلقي والنظريات التي اهتمت بمفهوم القراءة، كما هو الحال بالنسبة لمدرسة بوردو ومدرسة إسكاربيت المنضويتين تحت لواء سوسيولوجيا الأدب، كما تظهر وشائج القربى أيضا بين هذه النظرية ونظريات أخرى كمدرسة براغ من خلال أعمال رائدها موكاروفسكي.
"إن منظور التلقي له مبرراته ومشروعيته، إنه إعادة القيمة للقارئ، وإعادة لأهمية السياق التاريخي والاجتماعي وكأنه نفي لتطرف الشكلانية وسرف البنيوية. إن جوهر منظور التلقي هو إعادة الصلة الحميمة والضرورية بين النص ومتلقيه"[12] وضمان قراءة فاعلة تفسح المجال للقارئ قصد التجول في مدائن النص وسراديبهn
[1] - رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1986، ص81.
[2] - فولفغانغ إيزر، فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (الأدب)، ترجمة حميد الحميداني، الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، ص11.
[3] - رشيد بنحدو، قراءة القراءة، مجلة وليلي، المغرب، العدد4، السنة 1984، ص4.
[4] - قاسم الموني، "نحو تأسيس مفهوم معاصر لقراءة النص الأدبي"، مجلة كلية التربية، العدد الخامس عشر، جامعة عين شمس، 1991، ص72.
[5] - هانس روبرت ياوس، نظرية التلقي، ترجمة عز الدين إسماعيل، النادي الثقافي بجدة، الطبعة الأولى، ص33.
[6] - Hans Robert Jauss : Pour une Esthtitique de la réception, Gallimard, Paris, 1978, p50.
[7] - علي حرب: قراءة ما لم يقرأ: نقد القراءة، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، ع6، س1989ـ ص41-52. انظر (تحديدا ص42).
[8] - هانس روبرت ياوس، مرجع مذكور، ص7.
[9] - فولفغانغ إيزر، مرجع مذكور، ص12.
[10] - نبيلة إبراهيم، القارئ في النص: نظرية التأثير والاتصال، ضمن مجلة فصول، القاهرة، المجلد الخامس، العدد الأول، أكتوبر، نوفمبر-دجنبر، ص101-104 وتحديدا الصفحة 103.
[11] - علي حرب، مرجع مذكور، ص41.
[12] - رجاء عيد، ما وراء النص، مجلة علامات، السعودية، المجلد الثامن الجزء الثلاثون. شعبان 1419هـ ديسمبر 1998، ص179-193 (انظر تحديدا، ص193).
القراءة، القارئ والتلقي
اسماعيلي عبد حافيظ
تشكل علاقة النص بصاحبه واحدة من أهم الطروحات النقدية الحديثة التي ظلت مهيمنة لردح من الزمن، لتكرس معها وترسخ في الأذهان ما عرف "بسلطة المؤلف". وقد فرض هذا التوجه اهتماما متزايدا بالنص الأدبي انطلاقا من حياة مبدعه وما يرتبط بها من أحداث اجتماعية وتاريخية وثقافية ونفسية. وبهذا فإن أي محاولة كانت تستهدف اقتحام عمل أدبي ما لا يمكن أن يتأتى لها النجاح إلا عندما تأخذ بعين الاعتبار العوامل السالفة الذكر.
بعد هذا أطلت البنيوية كحقل جديد في تاريخ الدراسات الأدبية، فحاولت الحد من "فيتيشية" الكاتب والدعوة إلى التحليل المحايث للنص، والوقوف عند بنائه الداخلي بغض النظر عن العوامل الخارجية؛ فكانت هذه الدعوة إيذانا بتلاشي سلطة المؤلف وتكريس سلطة أخرى هي سلطة النص إن صح التعبير.
وقد برزت ملامح هذا التوجه الجديد بصفة خاصة، عند رولان بارت Rolan Barthes، الذي أعلن "موت المؤلف"، هذا الإعلان الذي جاء متضمنا عند حديثه عن الكتابة يقول: "الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل، الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة، إنها السواد، البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب"
[1].
بهذه الدعوة الجديدة، استطاعت البنيوية أن تخلق تحولا جذريا في مسار الدراسات الأدبية والنقدية، غير أن هذا التحول لم يدم طويلا إذ سرعان ما ظهر اتجاه جديد يعلي من سلطة القراءة والقارئ، لتظهر بهذا ملامح نظرية جديدة ظلت طويلا تحت الظل تنتظر من يميط عنها اللثام، وقد شكل هذا الظهور تحولا في مسار البحث الأدبي بوجه عام، لتكتمل بذلك عناصر المسرحية على حد تعبير ستاروبنسكي.
إن ظهور هذا المفهوم القديم/الجديد سيسد الثغرة التي ظلت قائمة في مسار التاريخ الأدبي، وسيفسح مجالا أرحب لمقاربات جديدة تنضم لسابقاتها.
وسيوكل لـ"نظرية التلقي" ذات الأصول الألمانية النهوض بهذا المشروع الجديد، الذي سيخلق منعطفات جديدة في التاريخ الأدبي بوجه عام؛ وسيعمد إلى إعادة الاعتبار لمفهوم القراءة والقارئ وما يرتبط بهما.
لكن عن أي قراءة تتحدث نظرية التلقي؟
"إن القراءة هي شرط مسبق ضروري لجميع عمليات التأويل الأدبي، كما لاحظ ذلك من قبل "والترسلاتوف W.Slatoff" في كتابه بصدد القراء. يقول:
يشعر المرء بأنه سيكون مضحكا قليلا إذا كان عليه أن يبدأ بالإلحاح على أن الأعمال الأدبية توجد في جانب منها على الأقل لكي تكون مقروءة، وبأننا نقوم بالفعل بقراءتها، وإن من المفيد أن نفكر في ماذا يحدث عندما نفعل ذلك؟ ولنقل هذا بكل صراحة؛ فمثل هذه التصريحات تبدو بديهية لدرجة أنه لم تكن هناك حاجة لذكرها. مع ذلك، فإنه ليس هناك أحد ينكر مباشرة بأن للقراء والقراءة وجودا فعليا"[2].
لكن في الواقع لا نجد قراءة واحدة، بل نجد قراءات. فهناك "القراءة الأولى المقترنة باكتشاف الكتابة، والقراءة التضرعية في المسيحية، والأمر الجبريلي "إقرأ" و"القراءات السبع" في السياق الإسلامي، وتعريف النص الأدبي بأنه "ما تنقرئ فيه الكتابة، وتنكتب فيه القراءة باستمرار" في علم السرد و"قارئ الكاميط" و"القارئ المغنطيسي الكهربائي" في عالم الإلكترونيات"[3]. وهذا ما يعني أن مفهوم القراءة عرف تداولا كبيرا على مر التاريخ أكسبه تضخما دلاليا. لذلك يبدو استيفاء البحث في موضوعه واستنفاذه ضربا من المستحيل.
إن الهدف من هذه المحاولة، هو بالأساس، استجلاء خصائص مفهوم القراءة انطلاقا من أطروحات نظرية التلقي من خلال أعمال رائديها هانس روبيرت ياوس Hans Robert Jauss وفولفغانغ إيزر Wolfgang Iser.
إذا رجعنا إلى مفهوم القراءة في النظريات النقدية التي سبقت نظرية التلقي فإننا سنجده، على الرغم من تداوله الكبير، قد عرف ضيقا شديدا وانحسارا واضحا في دلالاته، إذ ظل يتحرك داخل الإطار المنهجي الذي يختاره القارئ، وهذا ما يحد من فاعلية القراءة. من هنا كانت دعوة نظرية التلقي إلى القراءة التكاملية التي: "تفرض على القارئ، خلاف غيرها، أن ينظر إلى النص بكل العيون لا بعين واحدة وأن يتحسس النص بكل الحواس لا بحاسة واحدة، المهم في كل هذا أن هذه القراءة تبصر بعيونها عيون النص، وتدرك بوعيها وعي النص، والأهم أن هذه القراءة تقرأ النص بعيونه وتتعمق في ما تخفيه تلك العيون من أسرار وسرائر لا يعرف قيمتها إلا من يكابد شوق الوصول إليه"[4]. بهذا يمكننا القول إن نظرية التلقي تشير على الإجمال إلى تحول عام من الاهتمام بالمؤلف والعمل إلى النص والقارئ، ومن ثم فإنها تستخدم بوصفها مصطلحا شاملا يستوعب مشروعات ياوس وإيزر كليهما، كما يستوعب البحث التجريبي والاشتغال التقليدي بموضوع المؤثرات"[5]. وبناء على هذا فإن القراءة من منظور هذه النظرية الجديدة نظرية التلقي تتجاوز معايير وقيم القراءات النموذجية السائدة، كما تسعى إلى تحرير النص وفك أسره من القراءات المقيدة التي تطوق معانيه. وكل ذلك نابع من اعتقاد راسخ وهو أن "العمل الأدبي حتى في لحظة صدوره، لا يكون مولودا من فراغ، فعن طريق مجموعة من الإعلانات والإشارات الظاهرة أو المستبطنة، ومن الإحالات الضمنية والخصائص المعتادة، يكون جمهوره مهيأ من قبل ليتلقاه بطريقة ما"[6].
إن هذا التهيأ والاستعداد المسبق هو ما يسميه ياوس Jauss "أفق الانتظار" الذي تفرضه التجربة الأدبية للقارئ والتي تفلت من النزعة النفسانية التي هي عرضة لها لوصف تلقي العمل والأثر الناتج عنه.
ويتحدد أفق الانتظار عند كل قارئ بالعوامل التالية:
1 ـ المعرفة المسبقة للقارئ بالعمل الذي سيقبل على قراءته
2 ـ التجربة التي اكتسبها من خلال قراءته لأجناس أدبية معينة.
3 ـ الخبرة القرائية العامة للقارئ، وما تولد عنها من دراية
4 ـ إدراكه الفرق بين اللغة الشعرية واللغة العملية.
إن القارئ يحاول أن يقتحم عالم النص انطلاقا من رؤيته المحكومة بالعناصر الأربعة السالفة، في حين يسعى كاتب النص إلى خلخلة هذه الرؤية، والتشويش على القارئ، فينتج عن هذا التوتر بين العمل الأدبي وافق الانتظار ما يسمى بـ"المسافة الجمالية" هذه المسافة التي تتحدد بواسطتها ردود فعل القارئ إزاء النص والتي لا تخرج في عموميتها عن ثلاث استجابات/ردود ممكنة، يمكن أن نوجزها في الآتي:
1 ـ الرضى والارتياح: ويكون ذلك حين يقتحم القارئ عالم النص فيجد فيه انسجاما مع أفق انتظاره.
2 ـ الخيبة: يحس القارئ بالخيبة أساسا حين يحاول أن يقرأ عملا أدبيا، انطلاقا من شروط ومحددات كونها من خلال قراءته لعمل أدبي مغاير.
3 ـ التغيير: ويكون عندما يذعن القارئ للجنس الأدبي الذي يقرأه، ويستطيع أن يكون رؤية أو نظرة خاصة بالجنس الذي قرأه، وهذا يعني أن يكيف أفق انتظاره مع العمل الجديد.
داخل فلك هذه المحددات إذن يدور الحوار بين العمل الأدبي والقارئ غير أن شرط كل كتابة أصيلة أن تنزاح عن كل التوقعات والقوانين الجمالية المشكلة لأفق انتظار القارئ. وبناء على هذا المعيار يمكننا القول إن أدبية النص الأدبي لا تتحقق إلا بانزياح النص عن أفق انتظار القارئ.
إن "ياوس" واستنادا إلى المعايير السابقة يميز بين أصناف من القراء أو المتلقين إذ نجد:
*القارئ العادي
*القارئ الناقد
*الكاتب الناقد.
ومن ثمة فكل قارئ يتناول العمل الأدبي من منطلقات خاصة، وهذا ما يجعل من القراءة فعلا مختلفا ونشاطا متجددا بتجدد القراء، بل بتجدد القارئ نفسه، وهذا يعني أيضا "أن القراءة هي، في حقيقتها، نشاط فكري/لغوي مولد للتباين، منتج للاختلاف، فهي تتباين، بطبيعتها، عما تريد بيانه، وتختلف، بذاتها، عما تريد قراءته. وشرطها، بل علة وجودها وتحققها أن تكون كذلك، أي مختلفة عما تريد أن تقرأ فيه، لكن فاعلة في الوقت نفسه ومنتجة باختلافها، ولاختلافها بالذات"[7] وفي هذا دحض للقراءات التي تسعى إلى تقزيم النص.
من هنا نفهم أنه لا مجال للقراءة الواحدة الوحيدة، كما أنه لا فائدة من البحث عن قراءة تتغيا الكشف عما أراد أن يخبئه الكاتب بين السطور. بل الهدف هو التركيز على لحظة معينة تمارس فيها عملية القراءة، وهذه اللحظة نفسها تختلف أيضا باختلاف القراءة السابقة عنها، بل قد تختلف حتما عن القراءة اللاحقة، وهذا يعني التأكيد على عملية التلقي "والمقصود بالتلقي هنا هو تلقي الأدب، أي العملية المقابلة لإبداعه أو إنشائه أو كتابته، وعندئذ قد يختلط مفهوم التلقي ومفهوم الفاعلية التي يحدثها العمل، وإن كان الفرق بينهما كبيرا، حيث يرتبط التلقي بالقارئ، والفاعلية بالعمل نفسه، ومن ثمة يختلف تاريخ التلقي عن تاريخ الفاعلية"[8].
إن الشيء الأساس في قراءة عمل أدبي ما هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه وهذا يعني "أن للعمل الأدبي قطبين، قد نسميهما "القطب الفني والقطب الجمالي" الأول هو نص المؤلف والثاني هو التحقق الذي ينجزه القارئ، وفي ضوء هذا التقاطب يتضح أن العمل ذاته لا يمكن أن يكون مطابقا لا للنص ولا لتحققه بل لا بد أن يكون واقعا في مكان ما بينهما"[9]. وفي هذا إشارة واضحة إلى تركيز إيزر Iser على عملية القراءة كفعل أساس في تحقق العمل الأدبي، ولكن ليس أي قراءة، فهي قراءة من نوع خاص تسير في اتجاهين متبادلين، من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص؛ وفي هذا إقصاء لأنواع القراءة الأخرى التي تعرف مسارا واحدا ينطلق من النص ويقف عند حدود القارئ ولا يتجاوزها.
إن القراءة هنا لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال دخول القارئ في علاقة بالمقروء. وهنا يظهر تأثر نظرية التلقي بالفلسفة الظواهرية التي كانت بمثابة رد فعل ضد الفلسفة العقلية التي تنشد الحقيقة المطلقة وفي هذا إشارة واضحة إلى تركيز الفلسفة الظواهرية على النسبية في تعاملها مع الأشياء؛ ومنها النص الأدبي الذي يأبى كل قراءة تدعي الاكتمال. "فالعمل الأدبي ليس له وجود إلا عندما يتحقق؛ وهو لا يتحقق إلا من خلال القارئ، ومن ثمة تكون عملية القراءة هي تشكيل جديد لواقع مشكل من قبل هو العمل الأدبي نفسه. وهذا الواقع المشكل في النص الأدبي لا وجود له في الواقع حيث أنه صنعة خيالية أولا وأخيرا؛ وذلك على الرغم من العلاقة الوثيقة بينه وبين الواقع. وعندئذ تنصب عملية القراءة على كيفية معالجة هذا التشكيل المحول إلى الواقع، وتتحرك على مستويات مختلفة من الواقع: واقع الحياة، وواقع النص، وواقع القارئ ثم أخيرا واقع جديد لا يتكون إلا من خلال التلاحم الشديد بين النص والقارئ"[10].
إن القراءة إذن نشاط مكثف وفعل متحرك، كما أنها ليست "مجرد صدى للنص [بل هي ] احتمال من بين احتمالاته الكثيرة، والمختلفة، وليس القارئ في قراءته كالمرآة، لا دور له، إلا أن يعكس الصور والمفاهيم والمعاني، فالأحرى القول إن النص مرآة يتمرأى فيه قارئه على صورة من الصور، ويتعرف من خلاله، على نفسه بمعنى من المعاني"[11]. إن هذا ما يجعل قارئ إيزر Iser لا يعرف التوقف، فهو قارئ مشاء على حد تعبير E.Freund، وموازاة مع سير القارئ، تعرف القراءة استمرارية دون أن يعني ذلك انسياب معاني النص لأن القارئ الجيد في نظر إيزر هو الذي يتوقف بين الفينة والأخرى بقراءته لملء الفراغات التي يتركها النص، وبذلك تكون القراءة فعلا جماعيا، وحصيلة لتأويلات ومعان ودلالات مختلفة. كما يكون النص هو ما يقرر، إلى حد كبير، استجابة القارئ.
يظهر بوضوح أن نظرية التلقي من خلال فرضياتها تمزج بين أفق التوقعات التي تتحدد بتوقعات القارئ لحظة استقباله للعمل الأدبي، ونظرية التأثير التي تلغي الثنائية بين الذات والموضوع لصالح التفاعل والالتحام بينهما.
من خلال ما سبق نستنتج أن هناك تقاطعا واضحا بين نظرية التلقي والنظريات التي اهتمت بمفهوم القراءة، كما هو الحال بالنسبة لمدرسة بوردو ومدرسة إسكاربيت المنضويتين تحت لواء سوسيولوجيا الأدب، كما تظهر وشائج القربى أيضا بين هذه النظرية ونظريات أخرى كمدرسة براغ من خلال أعمال رائدها موكاروفسكي.
"إن منظور التلقي له مبرراته ومشروعيته، إنه إعادة القيمة للقارئ، وإعادة لأهمية السياق التاريخي والاجتماعي وكأنه نفي لتطرف الشكلانية وسرف البنيوية. إن جوهر منظور التلقي هو إعادة الصلة الحميمة والضرورية بين النص ومتلقيه"[12] وضمان قراءة فاعلة تفسح المجال للقارئ قصد التجول في مدائن النص وسراديبهn
[1] - رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1986، ص81.
[2] - فولفغانغ إيزر، فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (الأدب)، ترجمة حميد الحميداني، الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، ص11.
[3] - رشيد بنحدو، قراءة القراءة، مجلة وليلي، المغرب، العدد4، السنة 1984، ص4.
[4] - قاسم الموني، "نحو تأسيس مفهوم معاصر لقراءة النص الأدبي"، مجلة كلية التربية، العدد الخامس عشر، جامعة عين شمس، 1991، ص72.
[5] - هانس روبرت ياوس، نظرية التلقي، ترجمة عز الدين إسماعيل، النادي الثقافي بجدة، الطبعة الأولى، ص33.
[6] - Hans Robert Jauss : Pour une Esthtitique de la réception, Gallimard, Paris, 1978, p50.
[7] - علي حرب: قراءة ما لم يقرأ: نقد القراءة، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، ع6، س1989ـ ص41-52. انظر (تحديدا ص42).
[8] - هانس روبرت ياوس، مرجع مذكور، ص7.
[9] - فولفغانغ إيزر، مرجع مذكور، ص12.
[10] - نبيلة إبراهيم، القارئ في النص: نظرية التأثير والاتصال، ضمن مجلة فصول، القاهرة، المجلد الخامس، العدد الأول، أكتوبر، نوفمبر-دجنبر، ص101-104 وتحديدا الصفحة 103.
[11] - علي حرب، مرجع مذكور، ص41.
[12] - رجاء عيد، ما وراء النص، مجلة علامات، السعودية، المجلد الثامن الجزء الثلاثون. شعبان 1419هـ ديسمبر 1998، ص179-193 (انظر تحديدا، ص193).