منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    عبد اللطيف الزكري: جمالية الرمزية في القصة القصيرة عند محمد عز الدين التازي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    عبد اللطيف الزكري: جمالية الرمزية في القصة القصيرة عند محمد عز الدين التازي Empty عبد اللطيف الزكري: جمالية الرمزية في القصة القصيرة عند محمد عز الدين التازي

    مُساهمة   الأربعاء فبراير 24, 2010 1:04 am

    في جمالية الرمزية:
    اتجه كتاب القصة القصيرة إلى الرمز لأن «الرمز أكثر امتلاء وأبلغ تأثيرا من الحقيقة الواقعة. الرمز أكثر شعبية من الحقيقة الواقعة. فهو ماثل في الخرفات والأساطير والحكايات والنكات وكل المأثور الشعبي. والتفاهم بطريق الرمز بين الناس شيء مألوف. والناس يلتقون عند الرمز لأنه أثر للتراث السحري؛ فهو يأسرهم ويجذبهم إليه بقوة لا تجذبهم بها الحقيقة الواقعة»(1). ويكتسي الرمز هذه الأهمية البالغة لما له من وظائف في البناء الفني للكتابة القصصية.


    إن كل دلالات الرمز تشير إلى معنى متخف ينطوي عليه الرمز، هذا المعنى الذي يُظْهِرُ ـ حتى في تخفيه ـ دلالة ثانية راجحة على الدلالة الأولى المباشرة. وما يهم إذن في تعاريف الرمز المتعددة هو ما يومئ إليه معنى الرمز باعتباره إشارة أو علامة على شيء متوار ينبغي استجلاؤه بالتمعن والتأمل.
    ويقودنا هذا التعريف لمعنى الرمز إلى مفهوم الرمزية. فما هي الرمزية؟
    «1ـ (عامة): اعتقاد بوجود مجموعة من الرموز قادرة على التعبير عن الأحداث والعقائد.
    2ـ (أدبيا): مدرسة شعرية ظهرت في فرنسا حوالي عام 1885...»(2).
    3ـ «والرمزية هنا مفهومة بالمعنى الفني الضيق، أي باعتبارها طريقة في الأداء الأدبي تعتمد على الإيحاء والمشاعر وإثارتها بدلا من تقريرها أو تسميتها أو وصفها...»(3).
    وهكذا فإن ما نقصده ـ نحن ـ بالرمزية هو طريقة الاشتغال الجمالي لمكونات العمل القصصي، تلك الطريقة القائمة على رموز موظفة في العمل القصصي إياه، والتي نجد صدى لها في أعمال كثيرة من كتاب القصة العربية المعاصرة أمثال نجيب محفوظ، وزكريا تامر، وإدوار الخراط... ومحمد عز الدين التازي الذي اتخذناه نموذجا في استجلاء جمالية الرمزية في القصة القصيرة العربية المعاصرة، وقد انتخبنا لهذا الغرض قصة (المارد والقمقم)(4).

    أولا: المتن الحكائي ودلالات أحداثه: الحدث – القناع.
    «تكاد تكون المضامين التي تطرحها القصة لحديثة على اختلاف تياراتها متقاربة وإن اختلفت في حدتها أو تطرفها من أديب لآخر. وإن تنوعت وتشعبت أيضا من قصة لأخرى. ويبقى الشكل الذي تعرض فيه القصة، وأدوات التعبير وأسلوب بناء القصة وتركيبها هي الدلالات الفنية التي تحدد ملامح هذه القصة فيما إذا كانت تجريدية أو تعبيرية أو رمزية»(5). لذلك لا تختلف قصة جمالية الرمزية عن قصة جمالية الواقعية في مضمون الحدث إلا بالقدر الذي يجعل هذا المضمون مقدما في إطار رمزي إيحائي دال، بدل تلك المباشرة التي تطغى على القصة الواقعية. فبين قصة جمالية الرمزية والقصص الأخرى في جمالية التقليد بروافدها المختلفة تباين في بناء الحدث: «أما الحدث فقد اختلف عما كان عليه في القصة التقليدية فلم يعد يحمل عنصر المفاجأة والعقدة والتشويق والخاتمة ولم يعد يرتكز على عنصر (الحدوثة) في القصة الجديدة، وإنما أصبح الحدث لقطة إيحائية رامزة. له أبعاده المختلفة ودوره في تصعيد اللحظة الشعورية، وبلورتها وتعميقها(6) فما هي أحداث قصة (المارد والقمقم)؟ وما دلالتها؟.
    تنفتح قصة محمد عز الدين التازي (المارد والقمقم) على الأقوال الكثيرة التي شاعت بين الناس حول خروج المارد من القمقم، وما قيل بشأن أعماله الكثيرة التي سينجزها لصالح هؤلاء الناس. وجاءت هذه الافتتاحية شبيهة بالأعمال السردية التراثية: «يحكى أن ماردا خرج من القمقم»(7) وتضاربت أقوال الناس بشأن المارد: «وتساءلوا أين هو المارد؟ فقد خرج من القمقم كما أخذوا يؤكدون، ولكنهم لا يعرفون أين هو الآن، وهل سيحقق لهم كل تلك الإنجازات العظيمة بالفعل، أم أنه، مارد، وسيبقى ماردا»(Cool. ثم تسير الأحداث متداخلة تسترجع تارة لحظة خروج المارد من القمقم، وتشير تارة أخرى إلى ما صار إليه أمر الناس بعد خروج المارد من القمقم حيث تجمعوا وتكتلوا وطالبوا بإصلاحات، وانقسموا شيعا حول أمر هذه الإصلاحات، ورفعوا شعارات شتى. وتتناسل الأسئلة حول المارد ووجوده من أفواه الناس (شيخ مسن ـ عاهرة ـ شاب مريض ـ بعض العمال ـ الأطباء ـ المعلمون ـ المهتمون بشؤون البيئة ـ الفنانون والكتاب والشعراء..) ويقوم كل هؤلاء بأفعال تنم رغباتهم وأحلامهم ورؤيتهم تجاه المارد الذي يسأل بدوره عن عدد السنين التي قضاها في ظلماء القمم، لكنه لا يلبث أن يشعر بنعيم الحرية التي يحياها بعدما أصبح طليقا في العالم، له أن يفعل ما يشاء، وما سيفعله ينطوي على أبعاد رمزية تشير إلى عالم يكتنفه الغموض والتعقيد: عالم الإنسان المعاصر المليء بالغرائب والعجائب.
    لقد قرر المارد أن ينتقم من العمر الذي قضاه حبيسا في القمقم: «أنا الآن سأنتقم، وسأحرق هذا العالم.
    ـ.....................
    ـ أنا مارد! المارد خرج من القمقم، وعليه أن يحرق العالم، ولكن بيد ساكنيه»(9). وذاك ما كان: «مشى المارد فوجد في طريقه فلاحا، فأمره بإحراق الحصائد، فأحرقها، وأمره بردم البئر، فردمها، وأمره بنشر أخبار كاذبة حتى يشعل نار الحرب بين القبائل، فنشرها ذلك الفلاح، واستغل فيها حكاية انتهاك عرض فتاة كان هو الذي انتهكه، بإيعاز من المارد، وحكاية سرقة محصول كان هو الذي سرقه، وأمره المارد بأن يقتل فقتل»(10). كل هذا فعله الفلاح وهو لا يدري أنه بإزاء المارد، ولو كان قد عرفه «لطلب منه أن يمد قنوات الري، وأن يعيد الخضرة إلى الحقول، وأن يبني مدرسة للأطفال، وأن يعيد البسمة إلى وجوه الناس»(11). وهذا الأمر سيتكرر مع نماذج أخرى من الناس، كان يلتقيها المارد في طريقه:
    «ـ في طريق المارد، التقى بعامل في معمل (...)
    ـ والتقى المارد في الطريق بطالب نجيب في كلية الطب (...)
    ـ والتقى المارد في الطريق برجل بوهيمي (...)»(12)
    وكل هؤلاء الذين التقاهم المارد، خضعوا لأوامره التخريبية وهم لا يشعرون أنهم إزاء المارد، وإلا لكانوا طالبوه بإصلاح مجالات عملهم وانشغالاتهم:
    «في تلك الأيام المحرقة، تجمع الناس من جديد، في القرى والمدن والساحات، وأخذوا يضعون حكايات عن المارد بصياغة جديدة، فسموه مارد النقابة، وسموه مارد الحكومة، وسموه مارد المثقفين ثم أعطوه أسماء أخرى، كمارد سراييفو، ومارد فلسطين، ومارد الأمم المتحدة.
    حملوا شعارات معادية للمارد، وأصبح المارد حربهم الحقيقية»(13). لقد أصبح المارد ـ في نظر الحكماء من الناس ـ خطراً كبيراً يتهدد البشرية، لذلك ينبغي البحث عن الخاتم الذي يعيده إلى القمقم «حتى يغيروا العالم، بشيء من إرادتهم»(14). لذلك يبقى السؤال معلقا: «أين هو الخاتم، لكي يعاد المارد إلى القمقم؟»(15).
    يقول محمد عز الدين التازي: «الكتابة وهي غير قابلة للتعريف الجاهز الذي يختزل طرائق اشتغالها وأنواع بنائها للأشكال، هي مغامرة حياة أخرى للإنسانية، تمتح من أبهاء التاريخ ومن تفاصيل اليومي والمحلي، وتستفيد من تجارب وصراعات الإنسان مع قوى الظلام وأعداء الديمقراطية وحملة شعارات التضليل والعشائر وهي تتحارب، ولكنها وهي تمتح من ذلك، تنظر إليه باعتباره رمزاً، وأسطورة، حتى وإن كانت الأساطير معاصرة، أولها وجودها الخاص في عصرنا»(16). نفهم من كلام محمد عز الدين التازي أن الكتابة ـ القصصية ـ لديه تنطوي على أبعاد رمزية تعيد الاشتغال على الواقع بطرائق تخييلية، فالمتخيل القصصي مفعم بالرموز التي تعيد صوغ الواقع بما يلائم الكتابة الإبداعية. وهذا ما نجده حقا في قصة (المارد والقمقم).
    فهذه القصة تقارب الواقع بمتخيل رمزي مفعم بالإشارات والعلامات الدلالية الإيمائية. فإلامَ يرمز المارد مثلا؟ إنه شخصية ذائعة الصيت في التراث السردي العربي، ويكفي أن نعود إلى ألف ليلة وليلة لنجد حشدا من المردة لهم نفس الصفات التي أضفاها محمد عز الدين التازي على مارده: صفات الشر المستطير الذي لا يقف عند حد أو حاجز. فهل يعني هذا أن محمد عز الدين التازي يعيد استنساخ المارد في قصته هاته؟ الواقع أن قصة (المارد والقمقم) تنأى عن الاستنساخ وتعانق الإبداع بشكل متفرد. «وستظل القصة متفردة بقدراتها الفذة على التغير والتشكل وفق الإلهامات والرغبات الفنية». تلك الرغبات الفنية التي قادت محمد عز الدين التازي إلى تشكيل الرموز في بلورة أحداث قصته، هذه الرموز التي يمكن تلخيصها في ثلاثة مكونات هي (المارد)، و(الناس)، و(الخاتم)؛ حيث يضفي الكاتب على هذه المكونات أبعادا دلالية رمزية، فالمارد رمز للسلطة الجبارة التي تقود الناس كيف تشاء، إنها السلطة العليا التي لا مرد لقضائها، أما الناس فرمز لتجسد هذه السلطة القوية الخفية التي يتحكم فيها المارد. بينما يبقى الخاتم رمزا للآلة التي يمكن من خلالها التحكم في السلطة العليا الجبارة. وهكذا تتضافر هذه الرموز لتعني في النهاية كل ما يدور في العالم من صراع بين الخير والشر.

    ثانيا: الشخصيات: الأقنوم.
    إذا كانت الشخصية تعد بمثابة العمود الفقري للقصة، إلى درجة قيل فيها إن «القصة فن الشخصية»(17)؛ فإنها في قصة محمد الدين التازي "المارد والقمقم" المكون الأكثر بروزاً، والذي تنهض جمالية هذه القصة عليه. يتساءل هانز جيورج جادامر: «هل كان غوته محقا حينما جعل الرمز مفهوما أساسيا بالنسبة لكل استيطيقا، وزعم "أن كل شيء يشير إلى كل شيء آخر"، وأن "كل شيء يكون رمزا"؟».(18)
    والحق أن غوته كان محقا فيما ذهب إليه من قول، وقوله هذا يصدق على قصة "المارد والقمقم"، ففي هذه القصة يصبح كل شيء رمزا، وأكثر ما يتبلور الرمز في الشخصية، حيث يعمل الكاتب، بفنية التخييل، على إبراز شخصية المارد في كل مستويات القصة.
    يبدوا المارد شخصية رمزية في كل ما يند عنه من أقوال أو أفعال، فهو تارة يرمز إلى الشر المطلق بمعناه الميتافيزيقي، وتارة يرمز إلى الإنسان في ضعفه وقوته، وتارة ثالثة يتبدى أقنوما لكل ما يمارس في عالم الإنسان من شر... «فالقوة الرمزية هنا لا تؤدي الوظيفة التمثيلية في الإشارة لشيء ما يكون هناك اتفاق مشترك عليه من قبل، وإنما هي تؤدي الوظيفة التمثيلية على وجه التحديد في إيقاظ وعي مشترك بشيء ما من خلال قوتها التعبيرية الخاصة»(19). وذلك ما ينميه ويطوره محمد عز الدين التازي في هذه القصة، فهو عندما يجعل المارد قوة رمزية محملة بطاقة تعبيرية، إنما يسعى إلى بلورة وعي بقضايا الحياة والمجتمع من حوله.
    واللافت للنظر أن شخصية المارد الرمزية لا تقوم بالأفعال بشكل مباشر، وإنما تأمر الناس بفعل هذا الشيء (الشرير) أو ذاك. ولذلك فهذه الشخصية الرمزية لا تقوم بالبطولة بالمفهوم التقليدي، وإنما هي شخصية متقنعة خلف شخصيات آدمية أخرى تلبي نداءها في الفعل، ولا تتفطن إلى ما اقترفته من آفات إلا بعد اكتشاف حقيقة المارد الذي يظهر ويختفي. وهو في كل ذلك يشف عن بعد أسطوري يلف حياة الإنسان المعاصر «ولذلك فإن كل أسطورة بإمكانها بسهولة أن تسعف في أن تكون رمزا للوضعية الدرامية الحالية» كما يقول غاستون باشلار(20).
    ثمة تمثل للحكايات الشعبية الموروثة في قصة محمد عز الدين التازي (المارد والقمقم)، فألف ليلة وليلة تنفتح على حكايات المارد، وتتكرر فيها قصص المارد بشتى الصنوف، ومن بينها ما اقتبسه التازي من أمر تحرر المارد من القمقم بضربة فأس أحد الفلاحين، بيد أن ما يميز مارد التازي من غيره من مردة ألف ليلة وليلة، أن هذا المارد يتخفى وراء أفعال البشر، أما مارد ألف ليلة وليلة فهو الذي يمارس الفعل بنفسه. فكيف نفسر هذا التحول في سلوك مارد التازي؟ «فالمهمة هنا هي أن نتيح للنص أن يتحدث إلينا من جديد»(21).
    كان يحلو لبول فاليري أن يقول عن الشخصيات القصصية إنهم أحياء بدون أحشاء، والواقع أن من يتأمل شخصية المارد في قصة التازي (المارد والقمقم) يشعر بإحساس غريب تجاه الشخصية، فهي حية ملموسة تسير أقدار الناس وكأنها سلطة ميتافيزيقية تتحكم في البشر بطريقة فولاذية قوية إلى حد تسخيرهم لفعل ما لم يفكروا في فعله، وهي بكل ذلك تتسلط عليهم كأنها قدر محتوم.
    تبدأ القصة هكذا: «يحكى أن ماردا خرج من القمقم، كما ذكر ذلك أناس رأوا ما رأوه، وعاشوه وحكوه، وجاء من دونه في بعض الكتب»(22). وهي بداية تنفتح على الشخصية، وتحدد حقائق عنها، فالمارد وما كان منه يعد حكاية، ذكرها أناس كانوا شهودا عليها، وقد جاء من دون تلك الحكاية في الكتب، ومن هؤلاء المدونين الكاتب نفسه «وما على الكاتب إلا أن يتخفى، حتى يتناسل الرمز في الواقع، والأسطورة من الذات الجماعية التي هي رحم الكتابة»(23). وهذا جلي في قصة (المارد والقمقم). فالكاتب يتخفى وراء قناع المارد ورمزه الذي أضحى أسطورة معاصرة تجلوا الحياة الإنسانية المعاصرة في مختلف مستوياتها. إن المارد يتشكل في صورة تتدرج به من حال إلى حال حسب الشخصيات الأخرى التي يتخفى وراءها ليمارس أفعاله الشريرة. إن ملازمة الشر لأفعال هذه الشخصية يومئ إلى أصولها الخرافية الأسطورة التي تعلق عليه كل ما يمور في الحياة من شرور. إلا أن ما يميز المارد المعاصر هو انسلاله إلى مرافق الحياة المختلفة ومزاولته لأفعاله الشيطانية التي تسحق حياة البشر وتودي بهم إلى الهاوية. فكيف تتشكل صورة المارد؟.
    إنه يبدو في صورته المترسخة في الحكايات والأساطير: مسجونا في قمقم لأمد طويل مترسب في القدم منذ كان الإنسان يتخلص من مكائد المارد بحبسه في قمقم محكم الإغلاق. لكن يحدث مصادفة أن يعثر عليه صياد أو فلاح كما هو في قصة التازي فيخرجه بالمصادفة، ثم لا يلبث أن يعود إلى صولجانه في ميدان الشر، فينتقم ويهدد بالقتل والسفك. وما حدث في قصة التازي أن المارد تقنع هذه المرة وتوارى وترك البشر أنفسهم يقومون بأفعال الشر عوضا عنه وبإيحاء منه وهو في هذا يبدو ـ كما ذكرنا سابقاـ أقنوما للشر يعبث بحياة البشر ويسيرها حسب هواه، وذلك في كل مجالات الحياة الإنسانية. إنه رمز للسلطة الغاشمة التي تفسد، لا تبقي ولا تذر أي أمل للإنسان في حياة كريمة سعيدة. لقد اتخذ التازي المارد رمزا لكل مظاهر الفساد في الحياة الإنسانية، ليبلغ بذلك فكرة عميقة وهي أنه بدون الخاتم ليس ثمة حياة كريمة.. أيكون الخاتم ـ إذن ـ هو الديمقراطية التي تصون حرية الإنسان وكرامته؟... أجل، ذلك ما يتبدّى في القصة، وذلك ما يمكن استخلاصه من شخصية المارد.
    لقد تدرج محمد عز الدين التازي في رسم صورة المارد ورمزه.. تدرج بها من الحكاية إلى الواقع ومن الواقع إلى الحكاية في جدلية شفيفة مؤداها أن عالمنا المعاصر يشبه، في حقيقته السرية، عالم الإنسان القديم، فثمة دائما سلطة غاشمة تعمل على تدهور حياة البشر. «ألا ينبغي أن يتجاوز الرمز ما وراء تعبيره؟ ألا يفضي إلى ربط علاقة أساسية بين معنيين: معنى ظاهر، ومعنى آخر خفي»(24)، نتساءل مع غاستون باشلار. حقا إن شخصية المارد الرمزية تتعدى التعبير السطحي عنها إلى ما هو أعمق، إلى الحياة الإنسانية في تعقدها وتشابكها.
    إن الاشتغال الجمالي لمكون الشخصية في جمالية الرمزية ينهض على أساس فني قوامه أن يكون أقنوما يرمز إلى دلالات ثرة غنية تحتوي القصة في كليتها.

    ثالثا: الزمان: البعثرة المنهجية.
    يذهب هايدغر إلى أن الزمان هو أفق الوجود(25)، وهو حقا كذلك بالنسبة إلى شخوص ملقى بهم في الواقع يواجهون مصيرهم، وهذا المصير المأساوي المتحكم فيه من لدن شخصية المارد العجيبة.
    فهل للزمان في قصة التازي (المارد والقمقم) أي بعد رمزي؟ ذلك حقا ما نحاول استجلاءه.
    يبدو الزمان خاضعا للبعثرة المنهجية حسب اصطلاح الروائي ألدوس هكسلي، فهو ليس زمنا خطيا تصاعديا كما تعودنا رؤيته في قصة جمالية التقليد، بل هو زمان مفتت متشظ مبعثر ينم انتماء قصة التازي إلى جمالية التحديث. فما هي مظاهر هذه البعثرة المنهجية؟
    تتجلى البعثرة أول ما تتجلى في انبثاقات الزمان وسيرورته؛ إذا يرافق تلك التحيزات المكانية المتنوعة التي تستوعب أحداث القصة عبر شخصياتها المختلفة: عن «الوجود الإنساني مهموم بتحقيق إمكانياته في الوجود»(26). تلك الإمكانيات التي وقفت على حافتي الزمان: الآن والمستقبل: الآن بما كانت تقوم به الشخصيات ـ بإيحاء من المارد ـ بأشياء مدمرة. والمستقبل بما كانت الشخصيات تتمنى تحقيقه على يد المارد بعد التأكد من وجوده العيني. لكن الآن والمستقبل لا ينسابان بالتوالي، بل بالتزامن؛ وهذه هي قمة البعثرة المنهجية للزمان، فالآن والمستقبل يتلازمان وكأن وجود الواحد لا يتحقق إلا بوجود الآخر.
    لكل شيء زمانه الخاص به: هذا واضح في تعدد الأحداث واختلافها وتنوعها، وإن كانت كلها تصب في مجرى واحد ثابت هو الدمار الذي يطول الحياة الإنسانية بفعل تدخلات المارد وإيحاءاته الرعناء. لكن كل شيء يمكن ان يفهم في ذاته، أو في معزل عن الأشياء الأخرى.كل شيء يمس الحياة الإنسانية. عن المارد المتخفي يتربص بالناس في كل مكان، وهو في كل آن يظهر فيه يصنع شيئا جديدا مدمرا، ومن كل ذلك يتبدى الزمان مفتتا بتفتت الأحداث وتنوعها واختلافها.
    يقول بول ريكور إن «الرمز وحده يبتعث الفكر، بابتعاثه الكلام أولا»(27)، يعني هذا أن الرمز يبلور الفكر بانسياب الكلام، وتلازما مع هذا القول يمكن الإبانة عن الزمان في قصة التازي (المارد والقمقم) باعتباره رمزا للمصير الذي تؤول إليه الشخصيات بحكم ما تصنعه بإيعاز من المارد، وهي في ذلك شبيهة بالكائن الحائر الذي يجهل مصيره في أتون من الصراع الحاد المحتشد بالألغاز.
    هكذا «يعمل الرمز، بمعناه العام جدا، بصفته "فائض دلالة"»(28). فما الدلالة التي تفيض عن رمز الزمان في قصة التازي (المارد والقمقم)؟.
    للجواب عن ذلك يمكننا استعارة عنوان كتاب الكسيس كاريل (الإنسان ذلك المجهول) لنقول إن المارد الخفي يلعب لعبته في الزمان ليبقي على الإنسان في مصيره المجهول، يدفع به دفعا إلى الغموض والتشاؤم والحيرة والشك والسوداوية. إن زمان القصة – أو على الأصح ـ أزمنة هذه القصة تشف على الحيرة التي تلف الحياة الإنسانية، حيث تتبدد مجهودات الإنسان في إرساء عالم جميل خير يستجيب لتطلعات البشر في السعادة والوئام، ليحل محله مصير مجهول مشؤوم مداره أزمنة متوثبة مبعثرة قلقة. جاء في القصة: «وتساءلوا ـ أي الناس ـ أين هو المارد؟ فقد خرج من القمقم كما أخذوا يؤكدون، ولكنهم لا يعرفون أين هو الآن، وهل سيحقق لهم كل تلك الإنجازات العظيمة بالفعل، أم أنه، مارد، وسيبقى ماردا؟»(29). هذه الأسئلة، وما هو بسبيلها من أحلام الناس وتطلعاتهم سيكشف عنه الزمن الآتي، وهو زمن محتدم يمور بالأحداث العجيبة الغريبة التي لا تنفك تتكشف بين لحظة وأخرى.
    وإذا كانت الرموز، مبعث تفسير لا نهاية له، كما يقول بول ريكور(30)، فإن الزمان في تدفقه المتبعثر يدل في هذه القصةـ على الشتات العام الذي يميز الحياة الإنسانية، إنها حياة لا نظيم يلحمها، بل هي بالأحرى حياة مفعمة بالفوضى. والزمان في انسيابه يدل على ذلك كله ويومئ إليه بطريقة موحية تجعل القارئ يطالع الأحداث وكأنه يراها في فيلم سينمائي يصور حربا شعواء لا هدنة فيها. عن شريط الأحداث ينساب مبعثرا في تلك التكرارات الحديثة لفعل واحد هو التدمير الذي يمارسه المارد. إن زمن المارد يبدو أبديا مطلقا، وهو لا يعرف كم من السنين قضاها مسجونا في القمقم، يتساءل:
    «ـ كم من السنين وأنا حبيس في ظلمائك؟»(31). وهو يشعر بالزهو إذ تحرر من ظلمات القمقم، وأتى زمن انتقامه من ذاك السجن.. وهكذا يتبعثر الزمن في الانتقامات المتتالية، وتختم القصة بزمن الحكي المستعاد: «ويحكى أن المارد قد بقي هناك، حبيسا في القمقم، وأنه قد عاد ليتحرر من حبسه بضربة فأس، وبفتح الفلاح لفتحة القمقم، وأن المارد في القرن الحادي والعشرين، سوف يصبح ماردا آخر، يحرق العالم بأدوات أخرى، وإقناع آخر، فأين هو الخاتم لكي يعاد المارد إلى القمقم؟»(32). فهذا زمن منشطر إلى قسمين: زمن ما كان من أمر المارد، وزمن ما سيكون من أمره: ماض ومستقبل متلاحمان متلازمان إن لم يكونا متزامنين. يقول الكاتب الفرنسي مورياك في كتابه "أوراق روائي": إن "بعض قصص جوجول، بوشكين وموباسان تفتح على أروح الإنسانية آفاقا لا نهائية"(33). وكذلك هو الحال مع قصة التازي هذه، فهي تشف عن روح نقدية لاذعة في مقاربة الواقع بتخييل سردي جديد.

    رابعا: المكان، جدلية المفتوح والمغلق:
    يقول بول ريكور: إن "الرمز مقيد بالكون"(34). بمعنى آخر إنه مقيد بالمكان، فالرمز يتجلى في المكان. وقصة التازي (المارد والقمقم) مفعمة بالرموز، وهي رموز متشابكة، منها ما يحيل على الشخصية، ومنها ما يحيل على الزمان، ومنها ما يحيل على المكان.. ويهمنا الآن، أن نلامس رموز المكان في هذه القصة.
    تقوم رمزية المكان في قصة التازي (المارد والقمقم)، على جدلية المفتوح والمغلق، آية ذلك أن الأحداث لا تقع في مكان ما إلا بعد فتح مكان مغلق هو القمقم؛ حيث كان المارد يقيم مسجونا. فبانفتاح القمقم تغير كل شيء، لذلك ينبع المعنى من بنية عالم المكان ذاته. وهذا هو السبب في أن القمقم، مثلا، يتوافق دائما مع نموذج المارد، وهو أيضا السبب في أن الحكايات تتناسل على ألسنة الناس بعد انفتاح القمقم. فهناك مطابقة ما بين انفتاح القمقم وتناسل الحكايات، وكلها تشترع أحلاما طوباوية بإصلاح العالم وتحسين ظروف العيش فيه. هذه هي طريقة الاشتغال الجمالي لمكون المكان في قصة (المارد والقمقم). فما هي تجليات هذا الاشتغال؟.
    هناك مطابقة ثلاثية بين القمقم والمارد والكون، تجعل القمقم يرمز إلى حياة المارد، والمارد يرمز إلى الشر، والكون يرمز إلى حياة الإنسان. وفي طيات هذه الرموز تتفاعل جدلية المفتوح والمغلق من الأمكنة. تلك الجدلية التي تنم التشكل الجمالي للمكان في جمالية الرمزية.
    ثمة شيء مضمر تومئ إليه القصة وهو حياة المارد الماضية في غياهب القمقم سجينا لا حراك له. لكن كل شيء يتبدل بعد أن يضرب الفلاح بفأسه فتحة القمقم، فيخرج المارد إلى العالم ويقرر الانتقام لحياته الماضية بأيدي سكان هذا العالم. إن القمقم المفتوح علامة دالة على الدمار الذي سيلحق حياة الناس، بينما القمقم المغلق علامة على الراحة والهناء. بيد أن الناس يستبشرون خيرا بانفتاح القمقم: «لم يكن خروج المارد من القمقم حدثا بسيطا، بل إن الناس قد انشغلوا به، ونسجوا حوله الحكايات، وسمحوا لخيالهم أن يضيف إلى تلك الحكايات حكاياته، وما أعجبهم وهم يسمرون، ويتطلعون إلى ما سوف يفعله المارد، فهل سيبني سدودا وقناطر، هل سيطعم كل الجائعين في هذا العالم، وهل سياتي بالدواء لكل المرضى؟»(35). وتظل هذه التساؤلات معلقة إلى حين الانتقال إلى الفعل – فعل المارد في التأثير على حياة الناس. كل ذلك يرد في إطار أمكنة كأنها أقنعة لأفكار الكاتب. وهو يورد في البدء أسماء أماكن عامة: «تجمعوا في أماكن شتى، في القرى والمدن»(36). ولهذا التعميم فائدته الرمزية، فهو يومئ إلى أماكن حياة الإنسان في هذا العالم، فإما أن تكون قرى أو مدنا. مما يعني أن هذه الأماكن ترمز إلى أفكار الكاتب بشأن الحياة الإنسانية المعاصرة، فهي حياة تنغل بالحركة والدينامية، ودأبها دائما تجمهرات الناس المتطلعين إلى حياة الرفاهية واليسر. لذلك فإن التعميم في تسمية الأماكن ذو فائدة رمزية جلية. وقد تلبست الأمكنة في هذه القصة بالإيحاء لا بالنص الصريح، وهذا من أول أهداف الرمزية(37). والمثير للنظر أن الفضاء المكاني «يلقي بفيوض تأثيراته، ويشع بقواه اللامرئية ويفصح عن المعطيات الحياتية والتاريخية والنفسية والاجتماعية»(38). مما يؤدي إلى تكوين رؤية شمولية في العمل القصصي، وهكذا نلحظ أن المكان في قصة المارد والقمقم يؤدي وظيفة رمزية قوامها الإيماء والإيحاء.
    على الرغم من الطابع الأسطوري الذي يلف هذه القصة، فإن المكان ينشد إلى الواقع ويرتبط به. وللتازي وعي بمسألة المكان في الإبداع القصصي، يقول في حوار معه بهذا الشأن: «عندما أتحدث عن علاقة الفضاء بالتجربة والمعيش واليومي، فالأمر، هنا يتعلق بخصوصية تستمد حضورها من التجربة المباشرة للكاتب، ومن حساسيته في تلقي الأماكن وقراءتها والانفعال بها، وامتلاكها على مستوى الذاكرة، وخرق معانيها الأصلية المحدودة»(39). وهذا حقا ما نلمسه في قصة التازي ـ موضوع تحليلنا ـ إذ تتجاوز فيه دلالة المكان المعنى الأصلي المباشر إلى معان إيحائية رمزية تقوم على جدلية المفتوح والمغلق، سواء كان هذا المفتوح أم المغلق المكان ذاته أو دلالته الرمزية المتراوحة بين الظهور (المفتوح) والتخفي (المغلق).

    خامسا: الرؤية السردية: الراوي الحداثي
    من الصعب التأكيد أن التحديث قد شمل كل المكونات الفنية في الكتابة القصصية، فثمة دائما رسوبات من جمالية التقليد تنسرب في تضاعيف أعمال جمالية التحديث. وهذه المسألة غاية في التعقيد، تفرض على الباحث الإنصات للنبضات الفنية للنص، ذلك أن كل توسيع يستتبع جملة من المواقف النقدية، والتي تصف جمالية النص من حيث اشتغال المكونات الفنية.
    إن نص التازي (القمقم والمارد)، يتوافر على حظ كبير من التحديث الذي يتجلى في طرائق اشتغال المكونات الفنية، فهذا الاشتغال ينم في جل تجلياته الانتماء إلى جمالية الرمزية – بما هي مظهر من مظاهر جمالية التحديث. ألا تشكل الكتابة، من ثمة، وعيا محملا بالرموز؟ ألا تعبر عن رؤية؟ فمن أين تنبثق هذه الرؤية؟ إنها تنبثق من أحد أنماط التبئير الثلاثة حيث «يختص مفهوم وجهة النظر بصيغة التلفظ. ويتعلق الأمر بطرح الأسئلة الآتية: «من يرى؟ ومن أية زاوية؟ هل من منظور علاقة مباشرة مع الواقع أم من منظور تباعد عنه؟"»(40). والجواب فيما يخص قصة التازي أن من يرى أو يروي الأحداث هو الراوي / الكاتب «لذلك يمكننا اعتبار الراوي مؤقتا قناعا للكاتب إلى حد ما، أو ذاتا ثانية للكاتب كما يقول بوث Booth»(41). وفي بداية القصة ذاتها ما يشير إلى أننا إزاء راوٍٍ هو الكاتب المقنع نفسه: «يحكى أن ماردا خرج من القمقم، كما ذكر ذلك أناس رأوا ما رأوه، وعاشوه وحكوه، وجاء من دونه في بعض الكتب»(42). فالقصة بكاملها حكاية عن مارد خرج من القمقم كما روى ذلك أناس كانوا شهود عيان، وجاء الكاتب فدون عنهم هذه الحكاية. ويبقى السؤال قائما: "من يروي في القصة"(43). والجواب: «المؤلف، هذا هو الجواب البديهي، لكن الجواب الأكثر صعوبة هو كيف يروي؟ نحن هنا أمام متوالية احتمالية: راو يخبر بقصة، تقديم البطل بصورة الغائب. أو راو يروي قصته، الإيحاء بالحميمية والصدق عبر استخدام صيغة ضمير المتكلم "أنا"، أو راو يروي عن أشخاص عرفهم، أو راو يكتب انطلاقا من دفتر مذكرات وجده، أو الخ»(44). هذه التعددية في الرواة تجعلنا «أمام مجموعة من احتمالات الراوي التي يمكن تلخيصها على الصورة التالية:
    الراوي الظاهر: المنفصل عن أحداث ما يرويه، ولكن الذي يكشف نفسه باعتباره راوياً، دون أن يقوم بالضرورة بتحديد نفسه.
    الراوي الخفي: الذي يستخدم صيغة ضمير الغائب.
    في هذين الشكلين من الراوي، هناك سيطرة مفترضة للكاتب (...) الراوي المتطابق مع البطل: أي الراوي البطل، عبر اللجوء إلى أسلوب ضمير المتكلم (...)»(45). فأي نوع من هؤلاء الرواة هو راوي قصة التازي؟ إنه الراوي الخفي الذي يستخدم صيغة ضمير الغائب: «الراوي هنا منحاز إلى بطله: الشخص أو الرمز. منحاز في موقع له هويته. منه ينطق، ومنه يمارس اللعبة الفنية، أو باتجاهه يمارس هذه اللعبة، بانيا عالم قصة. الموقع هو أبدا إيديولوجي. لكن هيمنته تعني، في نظر الكثيرين، هيمنة هوية إيديولوجية معينة. (إن الهوية للإيديولوجي هي دخوله في الصراع، وهي مؤشر على السياسي). الكاتب معني طبعا بهذه الهوية، وإن نجح فنيا بتلبس لبوس الحيادية، وتوسل بـ«تقنية الخفاء»(46). ولكن ما يجدر التأكيد عليه أن الراوي في قصة التازي هذه لا ينحاز إلى الرمز – المارد الأقنوم، وإنما ينحاز إلى الشخصيات الآدمية المغلوبة على أمرها، وكأنه بذلك يمارس لعبة التخفي والظهور في الوقت نفسه، فهو يتخفى وراء الشخصيات، لكنه يكشف عن وعي إيديولوجي قوامه مؤازرة الإنسان في محنته الوجودية. إن الراوي في هذه القصة، لا يروي من تلقاء ذاته، وإنما يروي بالارتكاز على ما خبره وسمعه عن أناس رأوا المارد وعايشوه وحكوا عنه، فدون الراوي / الكاتب كل ذلك من أجل التعريف بهذا المارد المسيطر على الحياة.
    تنعطف الرؤية السردية بهذه القصة إلى مصاف القصة الحداثية، وذلك أن الراوي وإن بدا ظاهريا أنه من نوع الراوي التقليدي – كما ألمعنا إلى ذلك في مستهل حديثنا عن الرؤية السردية – فإنه لا يتسم بجميع خصائص الرؤية السردية لجمالية التقليد. إنه راو غير عالم بكل شيء، بل هو ينقل عن الآخرين ما عاشوه وحكوه، وهذا النقل لا يقوم على الإسناد كما هو الحال في الحكي التقليدي القديم. ويمكن القول بإيجاز عن الرؤية السردية في قصة التازي (المارد والقمقم) إنها حداثية تشف عن بعد رمزي ذي برنامج «تشكل بمجموعة من العناصر المرتبطة بالتذكر والمرئي والوصفي، وعلى الخصوص بمرجعية ثقافية وأسطورية معينتين..»(47).

    سادسا: البنية السردية، البنية الشذرية
    تقوم البنية السردية، في قصة التازي – المارد والقمقمـ على الشذرية، وهي إحدى السمات الجمالية للقصة القصيرة المعاصرة(48). وهي بنية مركبة، لا تسلس القياد لأول وهلة، بل تحتاج إلى تعمق وتمعن شديدين «وليس هذا إلا لأن النص الجديد لم يعد يوحي بما يحمل بسهولة ويسر»(49). بل إن قصة التازي عالم مغلق على ذاته، يحتاج إلى من يسبر أغواره بالتفاعل المثمر. إن «جمالية العمل الأدبي والفني لا تتكشف في ظل مطلق منهجي، بحكم طبيعتها الدينامية، وهذا ما يجعلها تستدعي جهازا مفهوميا معقدا لرصد مسارات تشكلاتها، وترفض أي منهج أحادي يختزل سيرورتها المعقدة»(50). ويهمنا من كل هذا أن نلامس البنية السردية الشذرية في قصة التازي: إنها بنية موزعة على شذرات سردية مكتفية بذاتها، إذا ما نُظِرَ إليها، في بعدها السردي، باعتبارها متوالية سردية لا تترابط بضرورة ما، وهي مع ذلك تتسق في نظام متماسك، بحكم انسجامها وتكاملها.
    إن أول ما يلفت انتباهنا، في البنية السردية ـ لهاته القصة القصيرة ـ أنها تتمرد على الشكل التقليدي الهرمي، الذي يبدأ بفرشة، فعقدة، فحل، وإنما نجد أحداثا محتشدة متشابهة في عمقها، بحكم تكرار نفس الحدث أو الفعل الذي يقوم به المارد ومعه الشخصيات الآدمية. مؤدى هذا الفعل هو الأمر بالتخريب والتدمير. وليس ثمة أزمة تنفرج في النهاية، بل إن نهاية القصة تنطوي على أزمة تحتاج إلى حل، تلك الأزمة المرتبطة بالخاتم الذي ينبغي إيجاده للتحكم في المارد والتخلص من شروره.
    تقوم هاته القصة القصيرة، على شذرات، قوامها حركة الفعل بين المارد وشخصية من الشخوص الآدمية. وكل شذرات القصة مدارها إما الحديث عن المارد، وما يكون من شأنه في إصلاح الحياة الإنسانية، وإما قيام المارد ـ ومعه شخصية من الآدميين ـ بفعل تدميري، ينمي الحدث في اتجاه نهاية متوقعة... وتصل عدد الشذرات المكونة للقصة تسعا وعشرين شذرة. كل شذرة تومئ إلى لقطة من الحياة، وبإمكان القارئ ملء الفراغات والبياضات التي تثوي في ثنايا القصة، ليخرج برؤية فكرية شاملة متكاملة عن الحياة المعاصرة، وما تعج به من صراعات وأحداث.
    ولقد تنبه النقاد إلى هذا الجديد الذي يميز الكتابة القصصية عند التازي، فهذا نجيب العوفي يجوس التحديث في أول مجموعة قصصية للتازي، وهي "أوصال الشجرة المقطوعة"(51) فيقول في شأن الظواهر التحديثية التي اشترعها التازي: «أولى هذه الظواهر، تتمثل في خرق العمود القصصي وكسر عروضه الكلاسيكي بوحداته الموبسانية المعروفة / البداية ـ العقدة ـ لحظة التنوير، والإجهاز من ثم على الحبكة القصصية التي تشد أوصال النص وتشكل لحمته وسداه، مما أفضى إلى بعثرة نظام الكتابة القصصية، وإنتاج نص سائل ومتحرر تارة، ونص مركب وبنيوي تارة ثانية..»(52).
    وما قيل عن مجموعة (أوصال الشجرة المقطوعة) يقال عن مجموعة (شيء من رائحته)، ويصل التازي إلى الذروة في خرق البنية السردية التقليدية في مجموعته (شمس سوداء)(53). وما يهمنا نحن، في هذا المقال، هو قصة (المارد والقمقم) التي انزاح فيها التازي عن البنية السردية التقليدية الهرمية، خالقا بذلك عالما قصصيا شذريا، تتسق شذراته في لحمة فنية منسجمة.

    خلاصات
    نخلص، مما سبق في التحليل، إلى نتائج عامة تخص جمالية الرمزية عند التازي الذي «أراد أن يفجر قواعد القص وأصوله، بمثابة تعويض وبديل رمزي وجمالي عن تفجير قواعد الواقع الهشة، والإسمنتية في آن»(54). وهذه النتائج تخص جمالية الرمزية بشكل عام.
    * أولا: الانزياح عن قواعد القص التقليدية بكل أشكالها ومكوناتها، ويلاحظ ذلك جليا في صوغ الحدث، وفي توصيف الشخصية التي لا تؤدي البطولة بقدر ما تشتغل باعتبارها آلية رمزية في بناء العالم القصصي.
    * ثانيا: الاندفاع بالزمان إلى حدوده القصوى في التعبير عن رؤية فكرية جمالية قوامها كسر رتابة التسلسل المنطقي.
    * ثالثا: جعل المكان ذريعة لتبليغ الموقف الإيديولوجي من الواقع في سمت جديد، ينبني على الجدلية والتصارع.
    * رابعا: الإيهام في الرؤية السردية بالخضوع إلى القواعد في الآن الذي تتبلور فيه رؤية سردية جديدة، تتقنع وراء الكاتب لتصل إلى وعي ممكن بما يجري في الواقع.
    * خامسا: خلخلة البنية السردية التقليدية، والتركيز على الشذرات في البناء السردي للقصة، بما تفيده الشذرات من تشظ وبعثرة منسجمة العناصر.
    إن محمدا عز الدين التازي يمثل جمالية الرمزية في القصة القصيرة العربية المعاصرة خير تمثيل منذ أول مجموعة قصصية له إلى أحدث هذه المجاميع...

    هوامش

    (1) د. عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية. بيروت، دار العودة ودار الثقافة، ط 2/1972، ص. 138-139.
    (2) جبور عبد النور: المعجم الأدبي، بيروت، دار العلم للملايين، ط الثانية يناير 1984، ص. 124.
    (3) د. محمد فتوح أحمد: الرمز والرمزية في الشعر المعاصر، مرجع سابق، ص.3.
    (4) وقد وردت هذه القصة ضمن مجموعة محمد عز الدين التازي القصصية الموسومة ب: "شيئ من رائحته"، الرباط، مكنشورات عكاظ، أكتوبر 1999، من ص. 47 إلى ص.55.
    (5) د. أحمد الزعبي: التيارات المعاصرة في القصة القصيرة في مصر، أربد، الأردن، ط الأولى 1995م، ص.81.
    (6) المرجع نفسه، ص.115.
    (7) محمد عز الدين التازي، شيء من رائحته، مصدر سابق، ص.49.
    (Cool نفسه، ص. 49.
    (9) نفسه، ص. 52.
    (10) نفسه، ص. 52.
    (11) نفسه، ص. 52.
    (12) نفسه، ص.25-53.
    (13) نفسه، ص.54.
    (14) نفسه، ص.55.
    (15) نفسه، ص.55.
    (16) مجموعة من المؤلفين: الكتابة والتخييل في أعمال محمد عز الدين التازي، طنجة، مطبعة ألطوبريس، ط الأولى، نوفمبر 1999، ص.66. (يتضمن هذا الكتاب إعمال اليوم الدراسي الذي نظمه نادي الكتاب لكلية الآداب بتطوان يوم 11 مارس 1999.
    (17) د. طه وادي: دراسات في نقد الرواية، القاهرة، دار المعارف، ط 3/1994، ص.25.
    (18) هانز – جيورج جادامر: تجلي الجميل، ترجمة سعيد توفيق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997، ص. 166.
    (19) نفسه، ص.299.
    (20) Préface de Gaston Bachelard au livre de Paul Diel: le symbolisme dans la mythologie grecque. Paris.Ed. Payot 1966, p:6.

    (21) جادامر، المصدر السابق، ص. 285.
    (22) محمد عز الدين التازي، شيء من رائحته، مصدر سابق، ص.49.
    (23) محمد عز الدين التازي، الكاتب الخفي والكتابة المقنعة، طنجة، كتاب الشهر رقم 72، سلسلة شراع، 1 يونيو 2000، ص. 14.
    G. Bachelard, in préface, le symbolisme dans la mythologie grecque. Op cité, P.7. (24)
    (25) د. عبد الرحمن بدوي: الزمن عند مارتن هيدجر، الكويت مجلة عالم الفكر، المجلد 8، العدد 2، يوليو – أغسطس- سبتمبر 1977، ص. 187.
    (26) نفسه، ص. 189.
    (27) بول ريكور: نظرية التأويل – الخطاب وفائض المعنى، ترجمة سعيد الغانمي، الدار البيضاء، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط الأولى 2003، ص. 96.
    (28) نفسه، ص. 96.
    (29) محمد عز الدين التازي، شيء من رائحته (قصة المارد والقمقم) م.م، ص. 49.
    (30) بول ريكور، نظرية التأويل، مرجع سابق، ص. 99.
    (31) محمد عز الدين التازي، شيء من رائحته، م.س، ص. 51.
    (32) نفسه، ص. 55.
    (33) عن: Jean Pierre Aubrit/ le Conte et la nouvelle, Arme colin, 1977, P.158.
    (34) بول ريكور، نظرية التأويل، مرجع سابق، ص. 106.
    (35) محمد عز الدين التازي، شيء من رائحته، م.س، ص. 49.
    (36) نفسه، ص. 50.
    (37) إدمون ولسون: قلعة اكسل، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، ب بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط الثالث 1982، ص. 23.
    (38) عبد الرحيم العلام، الافتتان بالمكان عند محمد عز الدين التازي، قراءة في المجموعة القصصية "منزل اليمام": ضمن كتاب جماعي: الكتابة والتخييل في أعمال محمد عز الدين التازي، م.س، ص. 17.
    (39) محمد عز الدين التازي في حوار معه، أنجزه عبد اللطيف البازي، جريدة أنوال العدد 1856، 31 أكتوبر 1995، ص. 7، نقلا عن عبد الرحيم العلام، المرجع السابق، ص. 19.
    (40) بيرنار فاليط، النص الروائي – مناهج وتقنيات، ترجمة د. رشيد بنحدو، طنجة، منشورات سل
    (41) سعيد يقطين، القراءة والتجربة، الدار البيضاء، دار الثقافة، ط الأولى 1985، ص. 76-77.
    (42) محمد عز الدين التازي، شيء من رائحته، ص. 49.
    (43) وقائع ندوة مكناس، دراسات في القصة القصيرة: مقالة إلياس خوري: "ملاحظات حول الكتابة القصصية: اللغة – الراوي – الكاتب" بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، ط. الأولى.
    (44) نفسه، ص. 60.
    (45) نفسه، ص. 60.
    (46) يمني العيد، الراوي، الموقع والشكل، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية.
    (47) أحمد المديني، الكتابة السردية في الأدب المغربي الحديث – التكوين والرؤية، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، ط الأولى أكتوبر 2000، ص. 240.
    Voie: Daniel Grojnowski: lire la nouvelle, Paris Dunod, 1993, P.38-39. (48)
    (49) سليمان الشطي، المز والرمزية في أدب نجيب محفوظ، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، دون طبعة، 2004، ص. 395.
    (50) د. محمد بوعزة إستراتيجية الترجمة في "جمالية التلقي" لرشيد بنحدو، الرباط، العلم الثقافي، السنة 35، السبت 6 نونبر 2004م، ص.11.
    (51) محمد عز الدين التازي، أوصال الشجرة المقطوعة، الدار البيضاء، دار النشر المغربية / د.ط، د.ت.
    (52) نجيب العوفي، "أوصال الشجر المقطوعة" وتحديث الكتابة القصصية، ضمن كتاب ندوة "الكتابة والتخييل في أعمال محمد عز الدين التازي" م سابق، ص.12.
    (53) محمد عز الدين التازي، شمس سوداء، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط الأولى، 2000.
    (54) نجيب العوفي، المرجع السابق، ص.14.



      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 4:51 pm