لا محالة.
وعلى هذا النحو يأخذ الأسلوب –كالنظم- طبيعة ذهنية تصورية، ومن ثم يصبح اكتساب هذا التصور والتحرك فيه شيئا قابلا للتحقق- وهذا هو المدخل الصحيح عند عبد القاهر لمقولة الأخذ والاقتباس، وهذا التصور الذهني يحيله عبد القاهر إلى صورة نفسية وهي صورة مزدوجة، بمعنى أن لها وجودا داخليا وخارجيا على صعيد واحد، ولا يتحقق الوجود الخارجي إلا بالنظر في التراكيب وما بين مفرداتها من علاقات، وبالنظر فيما ينتج نصيا من دلالة.
" وبما أن الرجل كان معني بالمعاني الثواني، كانت البنى البلاغية هي شاغله في تحديد مفهوم الأسلوب، ولا يمكن أن تتشكل البنى إلا بالاتكاء على الوظائف النحوية التي تهز تطابق الدال بالمدلول، ومن ثم تحدث انزياحا يسمح بوجود فضاء يستوعب المعاني الطائرة التي يمكن أن نسميها مرة تشبيها، ومرة تمثيلا ومرة اتساعا، وقد لا يكون شيء من ذلك وإنما يتحقق العدول بحركات داخلية في التراكيب نتيجة للتقديم أو التأخير، أو الحذف أو الذكر، وبمثل هذه الخواص يتميز أسلوب من آخر، بل يتحقق الأسلوب وجوده الفعليُّ " .
وعلى هذا الأساس فإن أي فاعلية لمفهوم العدول تمارس في المستويات المختلفة للنسق اللغوي المركب، هي فاعلية محددة لخصوصية الأسلوب وتفرده، ومعنى ذلك أن السمات الجمالية التي قد تضمن للاستعمال اللغوي –كلاما وكتابة- شعريته وانتماءه الفني والجمالي، هي نابعة من عدول في النظم تتداعى مستوياته بشكل تصاعدي إلى أن تصل إلى الكلام المعجز الذي يتساوق مع المنظومة اللغوية المتواضع عليها في التصور العربي، ولكن يعدل وينزاح عن نظمها حتى الشعرية منها.
إن حرص الجرجاني على امتلاك رؤية "تفكيكية " في تمييز الكلام تبدو رؤية متقدمة عن تلك التي ذهب إليها شومسكي " من أن القواعد النحوية لا تتشكل بواسطة الكلمات، ولكن بواسطة المجموعات (سانتاغم) أو المركبات، كالمركبات الاسمية والفعلية... إلخ، وهكذا فتحليل عبارة إثباتيه ، وخصوصا علاقتها مع عبارة استفهامية يكون بواسطة المركبات " .
وربما فتحت تأملات الجرجاني بخصوص النظم ومزاياه المجال –فيما بعد- لأفق نقدي جديد، بخاصة حين اقترن ذلك بالدراسات البلاغية حول إعجاز القرآن الأمر الذي سمح بتعدد وجهات النظر، ومسالك التأويل، وآفاق القراءة في فهم وتحليل مبادئ الخطاب الأدبي والشعري.
إن تشابك العلاقات بين الدوال والمدلولات هو ما يفسر صيغة الأنباء الداخلي لوحدات الكلام، وهو التلاحم الذي يكشف عنه روعة التشكيل والأداء الأسلوبي، تلك الروعة التي تترك للقارئ مساحة للغياب يطل بها على شعرية غائبة، يستحضرها بإشراك وعيه في توليد النص.
و"ربما كان امتلاك الجسدي في النص هو الأسلوب نفسه، وليس الشكل سوى اللغة التي يصدر عنها الأداء، وهذا ما حاولت نظرية النظم أن تتوصل إليه، فالنص لا يقول جميع أعضائه، ليصبح جوهر النظم هو البناء الذي لا يحصره حد ولا يحيطه قانون.
إذ الجسد لا قانون له، إنه ينبثق من تلاحمه الداخلي ويجيء على أوجه مختلفة الأنماط أقصاها هي تلك التي تجيد فيها النظم أي البناء " و " إذا عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحد أجزاءه حتى يوضع وضعا واحدا فاعلم أنه النمط العالي، ومما ندر ولطف مأخذه ودق نظر واضعه... الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين – بين امرؤ القيس: "
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً */* لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
يلاحظ أن الجرجاني لا يحلل آراءه ولا يفسر وجهات نظره، وإنما يقذف بها كأنها شذرات ليترك لنا حرية الاستيعاب والتأويل ولعل مرد ذلك إلى السياق التحليلي السائد آنذاك وطالما أشار إلى أن أهمية النظم إنما تكون في البناء، في امتلاك الأداة أو الطريقة –الاحتذاء أو الأسلوب- لكنه لم يفسر كيفية أداء هذه الأنماط العليا من النظم وتلك هي مهمة الشعرية الحديثة في تفكيك جسد البلاغة القديمة وإعادة تركيبها .
وبذلك تبقى هناك أشكال محتمة للبلاغة المفتقدة، تبحث عن خاصيتها في المحتمل التعبيري للغة تنفلت من كل ما هو متداول، ذلك أن الدلالة وحدها لا تكفي " لتمعين" الخطاب وإعانته على اكتشاف جسده من جديد، هناك أيضا الشكل بوصفه اللغة الأولى لفهم القائم على استحضار الدال الغائب وهذا الغياب هو ما يتضمن وجود شكل يتم بمقتضاه تمثل الصورة البنيوية للخطاب.
إن الشعرية بهذا المعنى، ليست مستحدثة، وطبيعة العدول التي تلحق بالخطابات المجازية هي التي تفرض تمايز هذه الخطابات بامتلاكها لغة تعمل في غياب.
ولقد أسس الشيخ عبد القاهر الجرجاني لفاعلية هذه الشعرية عبر مستويين:
- شعرية المجاز، التي يشكل العدول محور اشتغالها.
- شعرية النحو، المؤطرة لهذا الاشتغال جماليا.
( مقاربة في نظرية المعنى
ومعنى المعنى عند الجرجاني)
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت 711 هـ) قول اللغويين : "جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع " ، وكان عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده " مفعل من الشيء، يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه اصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع له أولا " .
وهو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فبقول: " ثم اعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه " . والطرف عند عيد القاهر الجرجاني تأكيده على المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه إلى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: " وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت" كل كلمة جزت بها، ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين اصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز " .
ومن هنا يبدو أن التقرير اللغوي متجدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك ي ما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت 626هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، يقول : " المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع " .
ويبدو أن هذا التحديد يغلب عليه البعد المنطقي كما عرف ذلك عند السكاكين وليس هذا الفهم جديدا بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي.
فالجاحظ كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم مجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصورة الفنية .
ولا يعتبر هذا رجوعا إلى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة:
أ- فإن أريد التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب- وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج- وإن أريد التشبيه في ذكر المشبه والمشبه به، فهو الاستعارة.
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجاوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها إلا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يخفيه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج باللغة إلى ميدان أوسع، والتطلع بها نحو أفق رحيب ونجد الشيخ عبد القاهر، ينطلق من مقاربته للمجاز باعتباره عدولا جماليا داخل اللغة ونظمها، من النصوص القرآنية، ليدفع شبهة حمل اللفظ على ظاهره، ومن ذلك تحليله لكل من قوله تعالى:
أ- (هل ينظرون إلا أن ياتيهم الله) [البقرة، 210]
ب- (وجاء ربك) [الفجر، 22]
ت- (الرحمن على العرش استوى)[طه 5]
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان ، وصفة من وصفات الأجسام وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيزا، ويأخذ مكانا، والله عز وجل خالق الأمكنة والأزمنة، ومنشئ كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكن والانفصال والاتصال والمحاسنة والمحاذاة .
ولهذا كان لا بد من الاعتماد على المجاز، كآلية بلاغية فاعلة لتفسير الخطاب في شكليه الحقيقي والجمالي معا، لأن كشف الدلالات الكامنة وراء التركيب اللغوي، يكون من صميم محاولة الحصول على حقيقة الخطاب باعتباره قصدا من جهة أولى وعلى جماليته الأدبية باعتباره نوعا خاص من التعبير.
لقد اعتبر الجرجاني المجاز روح العملية الشعرية، وهو يؤطر جهازا نقديا واعيا واصفا لحقيقة الواقعة الأسلوبية، حيث اعتبر مفهوم معنى المعنى، ينطلق من اللغة ذاتها ليصل إلى اللغة في شعريتها وانزياحها، وكما سبقت الإشارة فإن نظرية المعنى ومعنى المعنى أفرزت سياقا مفتوحا للنص الأدبي وفق أنساق تعدد القراءات بغرض اختراق تطابق الدلالة، فالفرق الذي أراده الجرجاني ليس في ما بين ( الشعر والنثر)، وإنما هو فرق بين ما يدل على أنه كلام أدبي وعلى ما يدل على أنه محضر كلام عادي:
- ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام عادي)
- ضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام فيه عدول)
فالمعنى ينزاح عن مدلوله اللفظي الكائن في دلالته الظاهرة و المباشرة (معنى أول)، ولكن إلى ما ينزاح المعنى؟
إلى دلالة خفية غير مصرح بها (معنى ثان = معنى المعنى).
والحقيقة أن هذه الدلالة الخفية لا تحقق إلا بتقنية المجاز في شكله العام، ف"جملة الأمر أن صورة المعنى لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهرها وضعت له في اللغة ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر" .، إذن فالشعرية تضمن وجودها بواسطة قوانين خاصة داخل الأنظمة اللغوية الأخرى، ولكن بوصفها وظيفة شعرية متميزة، ولذلك خصت بمزايا لتجوز والانحراف والاتساع والعدول وكلها يوجزها النظام اللغوي الذي امتاز بهذا النمط من الكلام، إن المسألة، مسألة نظام قائم بذاته، وليس فرقا بين (شعر ونثر) فنظام الشعر يختلف عن الأنظمة اللغوية الأخرى بانتظامه البناء الخاص، وبتشكيل المتميز، وبأسلوبه المغاير، وبصوره وتراكيبه المنزاحة.
والانزياح أو العدول ليس صفة لصيقة بالشعر، إنه الشعر ذاته ويشترك كل من النص والقارئ في تحقيق هذه الصفة، الأول بالأداء والثاني بفاعلية التلقي.
العدول إذن هو أسلوب شعري يميز الجملة الشعرية، ويمنحها فنية خاصة، ومزية لا يمكن لجملة أخرى أن تشترك معها فيها، ومعنى هذا أنه الشكل الذي تجيء به اللغة الشعرية في نظامها التراكيبي والذي يولد من تضافر دواله مع مدلولاته لتوليد المحتمل الدلالي في كينونته المتجددة " فالشعر يكسر البناء المنطقي للجملة فيقف على غير مواضع الوقوف، ويفصل بين أجزاء الجملة بعضها ببعض، ويشعت كثيرا من هذه الأجزاء ويكون هذا مقبولا فيه، لأنه فصل وتشعيت في مقابل غاية فنية، وتحطيم يرمي إلى بناء آخر، فهو هدم من أجل البناء الشعري، وكسر من أجل التركيب الفني" .
ومعنى هذا أن النظم يلزمنا الوقوف على شعرية المجاز التي مدارها الاتساع والذي من شأنه أن يحدث خللا في علائق الدوال في مدلولاتها.
لقد تميزت نظرية " معنى المعنى " بالتفرد، باعتبارها قانونا شاملا لتفسير دلالة المجاز وأدبية الأسلوب، ولعل أهمية ذلك يعود إلى ارتباط هذه النظرية بمساءل النقد الحديث والألسنية والأسلوبية، بل تكاد تشمل كثيرا من قضايا الشعرية التي أثارها الشكلانيون الروس مع بداية القرن. ويمكن التركيز هنا على تمييز الجرجاني بين اللغة والكلام، بطرحه ظاهرة كلامية يفصل فيها بين معاني الألفاظ ومعاني الدلالات، وفي هذا اقتراب من مفهوم تودوروف في الفرق بين المدلول الأول والمدلول الثاني، غير أن الجرجاني في تقسيمه للكلام إلى ضربين يقحم المتلقي الذي يشترك مع الباث في الفهم والاستيعاب والتأويل.
وعلى الرغم من العلاقة الاعتباطية بين اللفظ ومعناه، إلا أن الجرجاني يذهب إلى تمييز الدلالات نفسها:
دلالة اللفظ (معنى أول) المعنى.
دلالة المعنى (معنى ثان) معنى المعنى.
لقد كان تركيز الجرجاني على المدلولات بدل الدوال، أي على معاني الألفاظ لا على الألفاظ ذاتها من صميم الوصول إلى روح العملية المجازية في حقيقتها، التي تعتمد على تجاوز المدلولات كما سماها " تودوروف" حين يقول : إن خصائص شيء ما – على سبيل المثال – تستثار في الذهن عندما يذكر شخص ما إسم هذا الشيء، فاللبن يستثير معنى البياض ، و الأسد يستثير معنى الشجاعة ...ولا يجب ألا ننسى –مع ذلك- أن السياق المشار إليه سياقا لغويا (أي نتيجة لتجاوز الدوال ) ولكن سياق حضاري( أي نتيجة لتجاور المدلولات ) فالتأويل لا يستدعي تماثل الدوال و إنما تماثل المدلولات وإدراك هذه المعاني يتطلب وعيا مرجعيا مشتركا بين المتكلم والمخاطب ويتم ذلك بالوقوف على المعنى المباشر وهدمه وتجاوزه إلى المعنى الخفي.
إذا نظرنا إلى أمر ما استخلصته الشعرية الحديثة واعتبرته في صلب أدبية الخطاب الشعري:
هناك : خطاب +متكلم + متلق
هناك : معنى مباشر( أول ) ومعنى غير مباشر ( ثان)
هناك : مرجعية الخطاب (اللغة+ العالم الخارجي) ومقصديته
هناك : السياق اللغوي والدلالي والحضاري.
نجد في الوقت ذاته أن شعرية الجرجاني تلح على تعالق الدوال والمدلولات ودمجها بالمستوى النحوي، بالإضافة إلى توطيدها بمستويات التلقي التي تؤهل المخاطب، وتساعد على في توسيعه أفقه التقبلي ليس بحصر هذه العلاقات، ولكن بإعادة تصور الشكل الذي انبثقت عنه بما ينسجم مع الاستجابة التأملية لمظاهر العدول الجمالية.
إن اللغة الشعرية هي تلك التي تستثر خلف أقنعة من القتامة والغموض ومن الصعب التعرف على جميع خصائصها الباطنية، وربما مبعث ذلك هو الإحساس النابع من جوهر الكتابة الشعرية لونا جماليا وفنيا مغايرا يستقطب الأسماع ويستجلب الأذواق؛ ولم يخل الوجدان العربي من وعي بهذه التجربة الشعرية، ننظر مثلا قول الشاعر:
ولا زَوَرْدِيّةً تَزْهُو بزُرْقَتِها */* بيْنَ الرّياض على حُمْر اليَوَاقِيتِ
كأنّها فَوق قامَاتِ ضَعْنَ بِها */* أوائلُ النّار في أطْرافِ كِبْريتِ
فتشبيه البنفسج هنا " أغرب وأعجب، وأحق بالولوع واجدر من تشبيه النرجس بمداهن درّ حشوهن عقيق، لأنه إذ ذاك مشيه لبنات غص يرف، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف يلعب نار مستول عليه اليبس، وبلا فيه الكلف، ومبني الطباع وموضوع الجلبة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس أكثر، وكان بالشغف منها أجدر، فسواء في إثارة التعجب وإخراجه إلى روعة المستغرب، وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته ووجود شيء لم يوجد، ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبها في شيء من المتلونات لم تجد له هذه الغرابة ولم ينل من الحسن هذا الحظ ، فالثقافة الشعرية هي التي تبدع أدواتها وسياقاتها الجمالية ولا يفرض عليها شيء من الخارج.
وفي هذا السياق يقر الجرجاني أن عمق العملية المجازية يكمن العدول ما امدان عن الجمع بين المدركات الحسية، فرغم أن الحواس هي الوسيلة الأولية للإدراك عموما، لكن دورها يتوقف بعد نقل المدرك من الخارج إلى الداخل، ثم رده إلى الخارج مرة أخرى في تشكيل لغوي، وفي ذلك لا تكون العين وسيلة إدراك، بقدر ما تكون نافذة ينطلق من خلالها الوعي ليشكل مفردات الواقع تشكيلا فنيا، فلا يتم مراعاة: " ما يصغر العين، ولكن ينظر إلى الأشياء من حيث توعى فتحويها الأمكنة، بل من حيث تعيها القلوب الفطنة " .
" وتبعا لهذه الرؤية الباطنية يكون الجمع بين المتشابهات في الجنس والمتفقات في النوع نزولا بالشعرية إلى أدنى درجاتها، إذ يكون الناتج الدلالي قريبا من مستوى المعاني الأولى التي تستغني بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيها عن أعمال الشاعرية في إيجابها " . إن الشعرية الحقيقية هي تلك القادرة على الجمع بين المتباعدات والمتنافرات أحيانا، في انسجام دلالي يولد نظيرا جماليا، حيث تتحقق من وراء ذلك شبكة من العلاقات التي تتحرك في خطوط معاكسة للتنافر والتباين، فيكون الناتج شيئا يجمع بين التنافر والتوافق على صعيد واحد. يقول الشاعر:
إنّ المَكارم أرْواح يكون لهَا */* آل المهلّب دون الناسِ أجْسادُ
فليست الدلالة نابعة من المفارقة بين الأرواح والأجساد، وإنما تنبع من الموافقة والمفارقة على صعيد واحد، إذ تتم الموافقة بين (آل المهلب وغيرهم من الناس) على صعيد البشرية، وتأتي المفارقة في تميز (آل المهلب) بصلاحيتهم لحلول المكارم فيهم دون غيرهم.
إن شعرية المجاز عند الجرجاني، شعرية إلى نوع المكابدة والمعاناة الذهنية ليتم الارتقاء إلى عمق الواقعة الأدبية، فهي تحتاج بذلك إلى نوع من الكثافة، تولّد نوعا من المتعة واللذاذة المتماهية مع التعب العقلي أثناء عملية التلقي، وبقد ما تكون الكثافة لطيفة، يكون الوصول إلى أعماقها أكثر صعوبة؛ " والمركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، والميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكان به أضنّ وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ببرد الماء على الظمأ كما قال:
وهُنّ ينبذن من قَولٍ يُصِبْن به */* مَواقِع الماء من ذي الغُّلَّةِ الصَّادي.
وكما يرفض "جون كوهن" الصيغ الانزياحية التي تعج بالقتامة والإبهام (العدد ثلاثة يبيض) ويخرجها من دائرة الشعرية، فإن الجرجاني قبله لاحظ الفرق بين المستوى الدلالي العالي المنمق وبين (التعقيد والتعميه) أو ما اصطلح عليه "شعرية العمى" التي يكون اعتقاد الشاعر فيها احتمالا للانغلاق الدلالي، وهذا الانغلاق ينقلنا إلى خارج دائرة الشعرية بل خارج دائرة الاتصال على الإطلاق، فالجرجاني رفض هذا النوع من الشعرية التي تنعدم فيها سبل التواصل، وكان رائدا في إعطاء فاعلية التلقي القائمة التواصل أهمية كبرى، عندما ما كان يتحدث عن القارئ، ولكنه في نفس الوقت جعله قارءا حاذقا، أي أن عملية الشاعرية وفاعلية الشعرية، تقع لديه في موقع وسط بين غموض الشعرية المحسوب وتواصل التلقي المطلوب.
ويبقى المجاز عند الجرجاني هو روح العملية الإبداعية عامة والشعرية خاصة، بل جعله في بعض الأحيان مُساو للشعرية وعلامة على الشاعرية أيضا، فقد روى حديث عبد الرحمان بن حسان عندما رجع إليه أبيه حسان وهو صبي يبكي ويقول : (لسعني طائر)، فقال حسان: صفه يا بني، فقال : كأنه ملتف في بردي حُبَّرة، وكأنه لسعه زنبور، فقال حسان: قال ابني الشعر، ورَبِّ الكعبة، " أفلا تراه جعل هذا التشبيه مما يستدل به على مقدار قوة الطبع، ويجعل عيارا في الفرق بين الذهن المستعد للشعر وغير المستعد له " ، فالشاعرية في تصور الجرجاني هي تلك القدرة على استثمار تقنية المجاز، لإثارة عناصر الغرابة والتعجيب في الخطاب الإبداعي بصفة عامة.
لقد تميز الجرجاني في معرض تناول لخصيصة المجاز باعتباره آلية بلاغية ونقدية في الوقت ذاته، بتصور خاص لهذه الظاهرة التي يقاربها فمن تصوره الخاص للنظم، ما الذي انتبه إليه الجرجاني في تحليله لظاهرة أصيلة ضاربة في عمق الإبداع والتراث العربي.
إن طرافة ولطافة المجاز عند الجرجاني لا تكمن في الصورة الجمالية التي يوفرها، فالدهشة التي يبعثها فينا هذا العدول المجازي، ترجع في رأي الجرجاني إلى النظام الداخلي الكامن في عمق التصرف في اللغة، نظام متكامل يجمع بين خصائص تركيبية وصرفية ودلالية تتجاوب فيما بينها بالقدر الذي يثير الجمال ويحافظ على نظام اللغة في الوقت ذاته، إنه نظام يشكله ذلك التفاعل المستمر بين النظم والنحو بشكل عام.
إن ما أرادته شعرية النحو هو ضرورة قيام " رابطة بين المعنى والمسائل المتعلقة بنظام التركيب والعبارة على حسب مقتضيات النحو، فهذا المقتضى هو الوسيلة إلى إدراك المعنى من وراء اللفظ، وتفهم الغرض الكامن وراء الشكل " .
فالإمكانيات النحوية لا تعني امتحان الخطأ والصواب بقدر ما تحيلنا إلى استغلال جمالياتها بابتعاد القراءة ما أمكن عن مستوى اليقين إلى مستوى التقدير والاحتمال، لأن النحو –في رأي الجرجاني- ليس مجرد حركات إعرابية، ونظام رتب، إنه قبل كل شيء نظام داخلي، يتكئ على وحدات لسانية صرفية ونحوية، يبني عليها القارئ معرفته بالنص وتضيء فهمه للعلاقة المورفولوجية بين معنى العبارة ومستواها النحوي.
وعلى هذا الأساس حظيت العلاقات التي هي أساس التفكير البنيوي والشكلاني مثل علاقات التوازي والتناسب والتجاوز والتشاكل، ...بحضورها في تصور الجرجاني، وبمكانتها السديدة في شعرية النحو، فإذا تم للمبدع أن ينتج صورا مجازية جمالية " بتوخي معاني النحو"، فما سبيله إلى ذلك؟
يمكن تصور ما يقصده الجرجاني بـ " توخي معاني النحو" من خلال شعرية النظم بناء و أسلوبا على الشكل التالي:
- الفرق بين نظام النحو في الشعر ونظام النحو في النثر.
- خصوصية النحو لدى كل شاعر.
- إدراك الفرق الجوهري بين التراكيب.
- ارتباط هذه العناصر بالتلقي والتأويل .
لقد كانت البلاغة لدى الجرجاني خبرة متسامية بالنحو ولعل ما أحدثه ذلك التأمل هو ما تسمى الشعريات النصية اليوم إلى استكماله من خلال محاولة استيعاب موقع النحو بالنسبة للشعر وفهم مستوى العلاقة بينهما.
لقد بحث الجرجاني في العلاقة بين النحو والنظم (كما سبقت الإشارة)، واعتبرها مدخلا لفهم اللغة الشعرية، ويتضح عمق هذا التصور من حيث ارتباط النحو بالشعر (شعريا) " لما في ذلك من تجاوز النحاة الذين لم يميزوا بين نظام النحو في الشعر، ونظام النحو في النثر، فالمسألة إذن، هي مسألة نظام، وهذا الإدراك المبكر لأدبية الخطاب هو مدار كل شعرية اليوم " .
وكما أعطى (جون كوهن) أهمية للقواعد النحوية في أول كتابه "بنية الشعرية" وهو يؤسس لنظرية الانزياح، انطلق الجرجاني في أول كتابه "دلائل الإعجاز" من الحديث عن أصول النحو وأهميتها في إقامة أي نوع ن الخطاب، وبالتالي لم تصل شعرية الجرجاني النحو التعقيدي، إلا أنها ثمنت معاني النحو التي تضمن للقول الشعري إبداعيته الخاصة: وهكذا وبشكل تفاعلي تحت إطار النظم يتم دمج التركيبي بالدلالي والصور النحوية بالصور البلاغية، وتؤكد شعرية النحو على هذا الدمج بحيث لا يمكن تذوق الصور المجازية بمعزل عن التراكيب النحوية التي تهيئ لها حيزا جماليا لبروز معانيها:
ومن خلال قول بشار:
كأَنّ مَثارَ النَّقْعِ فَوق رُؤوسِنا */* وأَسْيافَنا لَيْلٌ تَهاوَى كَواكِبُهُ.
تتوجه شعرية النحو إلى العلاقة بين التركيب النحوي وغرض المعنى المندس فيه، وفق هذه العلاقة فسر الجرجاني تجربة النحو في إثراء الصورة التي أراد الشاعر إيصالها إلى المتلقي والتي من دون معاني النحو لم تكن شيئا " وانظر هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفرادا عارية من معاني النحو التي تراها فيها، وأن يكون وقع [كأن] في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء وأن يكون فكر في [مثار النقع] من غير أن يكون أراد إضافة الأولى إلى الثانية، وفكر في [فوق رؤوسنا] من غير أن يكون قد أراد أن يضيف [فوق] إلى [الرؤوس] وفي الأسياف من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على [مثار] وفي الواو نت دون أن يكون أراد العطف بها، وأن يكون كذلك في [الليل] من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا لكأن، وفي [تهاوى كواكبه] من دون أن يكون أراد أن يجعل تهاوى فعلا للكواكب ثم يجعل الجملة صفة لليل ليتم الذي أراد من التشبيه ".
وسواء أراد بشار ذلك أم لم يرده، فإن قراءة الجرجاني تبدو قراءة شكلانية في أساسها، اهتمت في الأساس ببناء النص، أي بالقوانين التي تشكلت في وعي المبدع بوصفها تمس الجانب التكويني لما يكون عليه النص، أي في شكل محتواه وليس محتوى مضمونه ، ويصف الجرجاني بخصوص بيت بشار قائل: " وذلك أنه لم يرد أن يشبه النقع بالليل على حدة والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر الكواكب وتتهاوى فيه" .
وبهذا الشكل تكون قراءة الجرجاني، تبنت أسلوبا جديدا في تأويل معاني النحو من حيث اشتباكها بدلالة معاني الكلم، على اعتبار أن معاني النحو تختلف من صيغة إلى صيغة أخرى تعطي بموجبها دلالة لا تعطيها في الصيغة الأولى؛ وأن النظام اللغوي الذي تم التواضع عليه لم يستوعب جميع الانزياحات، لذلك تطلعت شعرية الجرجاني إلى استكشاف قوانين "نحو – شعري" أخرجت النحو من حيث الكمون إلى حيز الفاعلية بإعطائه دلالة النسق.
وقياسا على ما سبق، تبقى شعرية المجاز انتهاكا واختراقا لأنظمة اللغة المتواضع عليها، بغية تأصيل نظامها الخاص، وتحقيق أسلوبية انزياحية تنشأ في فراغ اللغة فإذا كانت حقيقة الشعر هي عُدولٌ عن قواعد الاستعمال، فليس معنى ذلك أن ماهيته لا تتجلى إلا عن طريق هذا العدول، فالتجاوز أو الانحراف حتى وإن كان ظاهرة أسلوبية، فإن الشعر لا يكون مجرد اختراق مجاني للغة، بل هو يهدمها ليعيد خلق لغته الخاصة، وهذه العملية المُجازفة، تضمنها شعرية النحو كما تصورها الجرجاني والتي لم تكتف بأن جعلت جوهر كل أسلوب يتمثل في التمكن من الإمكانات النحوية وكيفية استغلالها، وإنما امتدت لتشمل بعضا من مظاهر التلقي تحقيقا للذة النص ومتعة الغور في مكنوناته.
ذ.عبد الرحيم تكشميطة أبوصفاء.
فاس/المغرب
وعلى هذا النحو يأخذ الأسلوب –كالنظم- طبيعة ذهنية تصورية، ومن ثم يصبح اكتساب هذا التصور والتحرك فيه شيئا قابلا للتحقق- وهذا هو المدخل الصحيح عند عبد القاهر لمقولة الأخذ والاقتباس، وهذا التصور الذهني يحيله عبد القاهر إلى صورة نفسية وهي صورة مزدوجة، بمعنى أن لها وجودا داخليا وخارجيا على صعيد واحد، ولا يتحقق الوجود الخارجي إلا بالنظر في التراكيب وما بين مفرداتها من علاقات، وبالنظر فيما ينتج نصيا من دلالة.
" وبما أن الرجل كان معني بالمعاني الثواني، كانت البنى البلاغية هي شاغله في تحديد مفهوم الأسلوب، ولا يمكن أن تتشكل البنى إلا بالاتكاء على الوظائف النحوية التي تهز تطابق الدال بالمدلول، ومن ثم تحدث انزياحا يسمح بوجود فضاء يستوعب المعاني الطائرة التي يمكن أن نسميها مرة تشبيها، ومرة تمثيلا ومرة اتساعا، وقد لا يكون شيء من ذلك وإنما يتحقق العدول بحركات داخلية في التراكيب نتيجة للتقديم أو التأخير، أو الحذف أو الذكر، وبمثل هذه الخواص يتميز أسلوب من آخر، بل يتحقق الأسلوب وجوده الفعليُّ " .
وعلى هذا الأساس فإن أي فاعلية لمفهوم العدول تمارس في المستويات المختلفة للنسق اللغوي المركب، هي فاعلية محددة لخصوصية الأسلوب وتفرده، ومعنى ذلك أن السمات الجمالية التي قد تضمن للاستعمال اللغوي –كلاما وكتابة- شعريته وانتماءه الفني والجمالي، هي نابعة من عدول في النظم تتداعى مستوياته بشكل تصاعدي إلى أن تصل إلى الكلام المعجز الذي يتساوق مع المنظومة اللغوية المتواضع عليها في التصور العربي، ولكن يعدل وينزاح عن نظمها حتى الشعرية منها.
إن حرص الجرجاني على امتلاك رؤية "تفكيكية " في تمييز الكلام تبدو رؤية متقدمة عن تلك التي ذهب إليها شومسكي " من أن القواعد النحوية لا تتشكل بواسطة الكلمات، ولكن بواسطة المجموعات (سانتاغم) أو المركبات، كالمركبات الاسمية والفعلية... إلخ، وهكذا فتحليل عبارة إثباتيه ، وخصوصا علاقتها مع عبارة استفهامية يكون بواسطة المركبات " .
وربما فتحت تأملات الجرجاني بخصوص النظم ومزاياه المجال –فيما بعد- لأفق نقدي جديد، بخاصة حين اقترن ذلك بالدراسات البلاغية حول إعجاز القرآن الأمر الذي سمح بتعدد وجهات النظر، ومسالك التأويل، وآفاق القراءة في فهم وتحليل مبادئ الخطاب الأدبي والشعري.
إن تشابك العلاقات بين الدوال والمدلولات هو ما يفسر صيغة الأنباء الداخلي لوحدات الكلام، وهو التلاحم الذي يكشف عنه روعة التشكيل والأداء الأسلوبي، تلك الروعة التي تترك للقارئ مساحة للغياب يطل بها على شعرية غائبة، يستحضرها بإشراك وعيه في توليد النص.
و"ربما كان امتلاك الجسدي في النص هو الأسلوب نفسه، وليس الشكل سوى اللغة التي يصدر عنها الأداء، وهذا ما حاولت نظرية النظم أن تتوصل إليه، فالنص لا يقول جميع أعضائه، ليصبح جوهر النظم هو البناء الذي لا يحصره حد ولا يحيطه قانون.
إذ الجسد لا قانون له، إنه ينبثق من تلاحمه الداخلي ويجيء على أوجه مختلفة الأنماط أقصاها هي تلك التي تجيد فيها النظم أي البناء " و " إذا عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحد أجزاءه حتى يوضع وضعا واحدا فاعلم أنه النمط العالي، ومما ندر ولطف مأخذه ودق نظر واضعه... الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين – بين امرؤ القيس: "
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً */* لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
يلاحظ أن الجرجاني لا يحلل آراءه ولا يفسر وجهات نظره، وإنما يقذف بها كأنها شذرات ليترك لنا حرية الاستيعاب والتأويل ولعل مرد ذلك إلى السياق التحليلي السائد آنذاك وطالما أشار إلى أن أهمية النظم إنما تكون في البناء، في امتلاك الأداة أو الطريقة –الاحتذاء أو الأسلوب- لكنه لم يفسر كيفية أداء هذه الأنماط العليا من النظم وتلك هي مهمة الشعرية الحديثة في تفكيك جسد البلاغة القديمة وإعادة تركيبها .
وبذلك تبقى هناك أشكال محتمة للبلاغة المفتقدة، تبحث عن خاصيتها في المحتمل التعبيري للغة تنفلت من كل ما هو متداول، ذلك أن الدلالة وحدها لا تكفي " لتمعين" الخطاب وإعانته على اكتشاف جسده من جديد، هناك أيضا الشكل بوصفه اللغة الأولى لفهم القائم على استحضار الدال الغائب وهذا الغياب هو ما يتضمن وجود شكل يتم بمقتضاه تمثل الصورة البنيوية للخطاب.
إن الشعرية بهذا المعنى، ليست مستحدثة، وطبيعة العدول التي تلحق بالخطابات المجازية هي التي تفرض تمايز هذه الخطابات بامتلاكها لغة تعمل في غياب.
ولقد أسس الشيخ عبد القاهر الجرجاني لفاعلية هذه الشعرية عبر مستويين:
- شعرية المجاز، التي يشكل العدول محور اشتغالها.
- شعرية النحو، المؤطرة لهذا الاشتغال جماليا.
( مقاربة في نظرية المعنى
ومعنى المعنى عند الجرجاني)
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت 711 هـ) قول اللغويين : "جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع " ، وكان عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده " مفعل من الشيء، يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه اصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع له أولا " .
وهو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فبقول: " ثم اعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه " . والطرف عند عيد القاهر الجرجاني تأكيده على المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه إلى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: " وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت" كل كلمة جزت بها، ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين اصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز " .
ومن هنا يبدو أن التقرير اللغوي متجدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك ي ما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت 626هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، يقول : " المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع " .
ويبدو أن هذا التحديد يغلب عليه البعد المنطقي كما عرف ذلك عند السكاكين وليس هذا الفهم جديدا بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي.
فالجاحظ كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم مجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصورة الفنية .
ولا يعتبر هذا رجوعا إلى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة:
أ- فإن أريد التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب- وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج- وإن أريد التشبيه في ذكر المشبه والمشبه به، فهو الاستعارة.
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجاوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها إلا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يخفيه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج باللغة إلى ميدان أوسع، والتطلع بها نحو أفق رحيب ونجد الشيخ عبد القاهر، ينطلق من مقاربته للمجاز باعتباره عدولا جماليا داخل اللغة ونظمها، من النصوص القرآنية، ليدفع شبهة حمل اللفظ على ظاهره، ومن ذلك تحليله لكل من قوله تعالى:
أ- (هل ينظرون إلا أن ياتيهم الله) [البقرة، 210]
ب- (وجاء ربك) [الفجر، 22]
ت- (الرحمن على العرش استوى)[طه 5]
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان ، وصفة من وصفات الأجسام وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيزا، ويأخذ مكانا، والله عز وجل خالق الأمكنة والأزمنة، ومنشئ كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكن والانفصال والاتصال والمحاسنة والمحاذاة .
ولهذا كان لا بد من الاعتماد على المجاز، كآلية بلاغية فاعلة لتفسير الخطاب في شكليه الحقيقي والجمالي معا، لأن كشف الدلالات الكامنة وراء التركيب اللغوي، يكون من صميم محاولة الحصول على حقيقة الخطاب باعتباره قصدا من جهة أولى وعلى جماليته الأدبية باعتباره نوعا خاص من التعبير.
لقد اعتبر الجرجاني المجاز روح العملية الشعرية، وهو يؤطر جهازا نقديا واعيا واصفا لحقيقة الواقعة الأسلوبية، حيث اعتبر مفهوم معنى المعنى، ينطلق من اللغة ذاتها ليصل إلى اللغة في شعريتها وانزياحها، وكما سبقت الإشارة فإن نظرية المعنى ومعنى المعنى أفرزت سياقا مفتوحا للنص الأدبي وفق أنساق تعدد القراءات بغرض اختراق تطابق الدلالة، فالفرق الذي أراده الجرجاني ليس في ما بين ( الشعر والنثر)، وإنما هو فرق بين ما يدل على أنه كلام أدبي وعلى ما يدل على أنه محضر كلام عادي:
- ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام عادي)
- ضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام فيه عدول)
فالمعنى ينزاح عن مدلوله اللفظي الكائن في دلالته الظاهرة و المباشرة (معنى أول)، ولكن إلى ما ينزاح المعنى؟
إلى دلالة خفية غير مصرح بها (معنى ثان = معنى المعنى).
والحقيقة أن هذه الدلالة الخفية لا تحقق إلا بتقنية المجاز في شكله العام، ف"جملة الأمر أن صورة المعنى لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهرها وضعت له في اللغة ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر" .، إذن فالشعرية تضمن وجودها بواسطة قوانين خاصة داخل الأنظمة اللغوية الأخرى، ولكن بوصفها وظيفة شعرية متميزة، ولذلك خصت بمزايا لتجوز والانحراف والاتساع والعدول وكلها يوجزها النظام اللغوي الذي امتاز بهذا النمط من الكلام، إن المسألة، مسألة نظام قائم بذاته، وليس فرقا بين (شعر ونثر) فنظام الشعر يختلف عن الأنظمة اللغوية الأخرى بانتظامه البناء الخاص، وبتشكيل المتميز، وبأسلوبه المغاير، وبصوره وتراكيبه المنزاحة.
والانزياح أو العدول ليس صفة لصيقة بالشعر، إنه الشعر ذاته ويشترك كل من النص والقارئ في تحقيق هذه الصفة، الأول بالأداء والثاني بفاعلية التلقي.
العدول إذن هو أسلوب شعري يميز الجملة الشعرية، ويمنحها فنية خاصة، ومزية لا يمكن لجملة أخرى أن تشترك معها فيها، ومعنى هذا أنه الشكل الذي تجيء به اللغة الشعرية في نظامها التراكيبي والذي يولد من تضافر دواله مع مدلولاته لتوليد المحتمل الدلالي في كينونته المتجددة " فالشعر يكسر البناء المنطقي للجملة فيقف على غير مواضع الوقوف، ويفصل بين أجزاء الجملة بعضها ببعض، ويشعت كثيرا من هذه الأجزاء ويكون هذا مقبولا فيه، لأنه فصل وتشعيت في مقابل غاية فنية، وتحطيم يرمي إلى بناء آخر، فهو هدم من أجل البناء الشعري، وكسر من أجل التركيب الفني" .
ومعنى هذا أن النظم يلزمنا الوقوف على شعرية المجاز التي مدارها الاتساع والذي من شأنه أن يحدث خللا في علائق الدوال في مدلولاتها.
لقد تميزت نظرية " معنى المعنى " بالتفرد، باعتبارها قانونا شاملا لتفسير دلالة المجاز وأدبية الأسلوب، ولعل أهمية ذلك يعود إلى ارتباط هذه النظرية بمساءل النقد الحديث والألسنية والأسلوبية، بل تكاد تشمل كثيرا من قضايا الشعرية التي أثارها الشكلانيون الروس مع بداية القرن. ويمكن التركيز هنا على تمييز الجرجاني بين اللغة والكلام، بطرحه ظاهرة كلامية يفصل فيها بين معاني الألفاظ ومعاني الدلالات، وفي هذا اقتراب من مفهوم تودوروف في الفرق بين المدلول الأول والمدلول الثاني، غير أن الجرجاني في تقسيمه للكلام إلى ضربين يقحم المتلقي الذي يشترك مع الباث في الفهم والاستيعاب والتأويل.
وعلى الرغم من العلاقة الاعتباطية بين اللفظ ومعناه، إلا أن الجرجاني يذهب إلى تمييز الدلالات نفسها:
دلالة اللفظ (معنى أول) المعنى.
دلالة المعنى (معنى ثان) معنى المعنى.
لقد كان تركيز الجرجاني على المدلولات بدل الدوال، أي على معاني الألفاظ لا على الألفاظ ذاتها من صميم الوصول إلى روح العملية المجازية في حقيقتها، التي تعتمد على تجاوز المدلولات كما سماها " تودوروف" حين يقول : إن خصائص شيء ما – على سبيل المثال – تستثار في الذهن عندما يذكر شخص ما إسم هذا الشيء، فاللبن يستثير معنى البياض ، و الأسد يستثير معنى الشجاعة ...ولا يجب ألا ننسى –مع ذلك- أن السياق المشار إليه سياقا لغويا (أي نتيجة لتجاوز الدوال ) ولكن سياق حضاري( أي نتيجة لتجاور المدلولات ) فالتأويل لا يستدعي تماثل الدوال و إنما تماثل المدلولات وإدراك هذه المعاني يتطلب وعيا مرجعيا مشتركا بين المتكلم والمخاطب ويتم ذلك بالوقوف على المعنى المباشر وهدمه وتجاوزه إلى المعنى الخفي.
إذا نظرنا إلى أمر ما استخلصته الشعرية الحديثة واعتبرته في صلب أدبية الخطاب الشعري:
هناك : خطاب +متكلم + متلق
هناك : معنى مباشر( أول ) ومعنى غير مباشر ( ثان)
هناك : مرجعية الخطاب (اللغة+ العالم الخارجي) ومقصديته
هناك : السياق اللغوي والدلالي والحضاري.
نجد في الوقت ذاته أن شعرية الجرجاني تلح على تعالق الدوال والمدلولات ودمجها بالمستوى النحوي، بالإضافة إلى توطيدها بمستويات التلقي التي تؤهل المخاطب، وتساعد على في توسيعه أفقه التقبلي ليس بحصر هذه العلاقات، ولكن بإعادة تصور الشكل الذي انبثقت عنه بما ينسجم مع الاستجابة التأملية لمظاهر العدول الجمالية.
إن اللغة الشعرية هي تلك التي تستثر خلف أقنعة من القتامة والغموض ومن الصعب التعرف على جميع خصائصها الباطنية، وربما مبعث ذلك هو الإحساس النابع من جوهر الكتابة الشعرية لونا جماليا وفنيا مغايرا يستقطب الأسماع ويستجلب الأذواق؛ ولم يخل الوجدان العربي من وعي بهذه التجربة الشعرية، ننظر مثلا قول الشاعر:
ولا زَوَرْدِيّةً تَزْهُو بزُرْقَتِها */* بيْنَ الرّياض على حُمْر اليَوَاقِيتِ
كأنّها فَوق قامَاتِ ضَعْنَ بِها */* أوائلُ النّار في أطْرافِ كِبْريتِ
فتشبيه البنفسج هنا " أغرب وأعجب، وأحق بالولوع واجدر من تشبيه النرجس بمداهن درّ حشوهن عقيق، لأنه إذ ذاك مشيه لبنات غص يرف، وأوراق رطبة ترى الماء منها يشف يلعب نار مستول عليه اليبس، وبلا فيه الكلف، ومبني الطباع وموضوع الجلبة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس أكثر، وكان بالشغف منها أجدر، فسواء في إثارة التعجب وإخراجه إلى روعة المستغرب، وجودك الشيء في مكان ليس من أمكنته ووجود شيء لم يوجد، ولم يعرف من أصله في ذاته وصفته، ولو أنه شبه البنفسج ببعض النبات، أو صادف له شبها في شيء من المتلونات لم تجد له هذه الغرابة ولم ينل من الحسن هذا الحظ ، فالثقافة الشعرية هي التي تبدع أدواتها وسياقاتها الجمالية ولا يفرض عليها شيء من الخارج.
وفي هذا السياق يقر الجرجاني أن عمق العملية المجازية يكمن العدول ما امدان عن الجمع بين المدركات الحسية، فرغم أن الحواس هي الوسيلة الأولية للإدراك عموما، لكن دورها يتوقف بعد نقل المدرك من الخارج إلى الداخل، ثم رده إلى الخارج مرة أخرى في تشكيل لغوي، وفي ذلك لا تكون العين وسيلة إدراك، بقدر ما تكون نافذة ينطلق من خلالها الوعي ليشكل مفردات الواقع تشكيلا فنيا، فلا يتم مراعاة: " ما يصغر العين، ولكن ينظر إلى الأشياء من حيث توعى فتحويها الأمكنة، بل من حيث تعيها القلوب الفطنة " .
" وتبعا لهذه الرؤية الباطنية يكون الجمع بين المتشابهات في الجنس والمتفقات في النوع نزولا بالشعرية إلى أدنى درجاتها، إذ يكون الناتج الدلالي قريبا من مستوى المعاني الأولى التي تستغني بثبوت الشبه بينها وقيام الاتفاق فيها عن أعمال الشاعرية في إيجابها " . إن الشعرية الحقيقية هي تلك القادرة على الجمع بين المتباعدات والمتنافرات أحيانا، في انسجام دلالي يولد نظيرا جماليا، حيث تتحقق من وراء ذلك شبكة من العلاقات التي تتحرك في خطوط معاكسة للتنافر والتباين، فيكون الناتج شيئا يجمع بين التنافر والتوافق على صعيد واحد. يقول الشاعر:
إنّ المَكارم أرْواح يكون لهَا */* آل المهلّب دون الناسِ أجْسادُ
فليست الدلالة نابعة من المفارقة بين الأرواح والأجساد، وإنما تنبع من الموافقة والمفارقة على صعيد واحد، إذ تتم الموافقة بين (آل المهلب وغيرهم من الناس) على صعيد البشرية، وتأتي المفارقة في تميز (آل المهلب) بصلاحيتهم لحلول المكارم فيهم دون غيرهم.
إن شعرية المجاز عند الجرجاني، شعرية إلى نوع المكابدة والمعاناة الذهنية ليتم الارتقاء إلى عمق الواقعة الأدبية، فهي تحتاج بذلك إلى نوع من الكثافة، تولّد نوعا من المتعة واللذاذة المتماهية مع التعب العقلي أثناء عملية التلقي، وبقد ما تكون الكثافة لطيفة، يكون الوصول إلى أعماقها أكثر صعوبة؛ " والمركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، والميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكان به أضنّ وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه، ببرد الماء على الظمأ كما قال:
وهُنّ ينبذن من قَولٍ يُصِبْن به */* مَواقِع الماء من ذي الغُّلَّةِ الصَّادي.
وكما يرفض "جون كوهن" الصيغ الانزياحية التي تعج بالقتامة والإبهام (العدد ثلاثة يبيض) ويخرجها من دائرة الشعرية، فإن الجرجاني قبله لاحظ الفرق بين المستوى الدلالي العالي المنمق وبين (التعقيد والتعميه) أو ما اصطلح عليه "شعرية العمى" التي يكون اعتقاد الشاعر فيها احتمالا للانغلاق الدلالي، وهذا الانغلاق ينقلنا إلى خارج دائرة الشعرية بل خارج دائرة الاتصال على الإطلاق، فالجرجاني رفض هذا النوع من الشعرية التي تنعدم فيها سبل التواصل، وكان رائدا في إعطاء فاعلية التلقي القائمة التواصل أهمية كبرى، عندما ما كان يتحدث عن القارئ، ولكنه في نفس الوقت جعله قارءا حاذقا، أي أن عملية الشاعرية وفاعلية الشعرية، تقع لديه في موقع وسط بين غموض الشعرية المحسوب وتواصل التلقي المطلوب.
ويبقى المجاز عند الجرجاني هو روح العملية الإبداعية عامة والشعرية خاصة، بل جعله في بعض الأحيان مُساو للشعرية وعلامة على الشاعرية أيضا، فقد روى حديث عبد الرحمان بن حسان عندما رجع إليه أبيه حسان وهو صبي يبكي ويقول : (لسعني طائر)، فقال حسان: صفه يا بني، فقال : كأنه ملتف في بردي حُبَّرة، وكأنه لسعه زنبور، فقال حسان: قال ابني الشعر، ورَبِّ الكعبة، " أفلا تراه جعل هذا التشبيه مما يستدل به على مقدار قوة الطبع، ويجعل عيارا في الفرق بين الذهن المستعد للشعر وغير المستعد له " ، فالشاعرية في تصور الجرجاني هي تلك القدرة على استثمار تقنية المجاز، لإثارة عناصر الغرابة والتعجيب في الخطاب الإبداعي بصفة عامة.
لقد تميز الجرجاني في معرض تناول لخصيصة المجاز باعتباره آلية بلاغية ونقدية في الوقت ذاته، بتصور خاص لهذه الظاهرة التي يقاربها فمن تصوره الخاص للنظم، ما الذي انتبه إليه الجرجاني في تحليله لظاهرة أصيلة ضاربة في عمق الإبداع والتراث العربي.
إن طرافة ولطافة المجاز عند الجرجاني لا تكمن في الصورة الجمالية التي يوفرها، فالدهشة التي يبعثها فينا هذا العدول المجازي، ترجع في رأي الجرجاني إلى النظام الداخلي الكامن في عمق التصرف في اللغة، نظام متكامل يجمع بين خصائص تركيبية وصرفية ودلالية تتجاوب فيما بينها بالقدر الذي يثير الجمال ويحافظ على نظام اللغة في الوقت ذاته، إنه نظام يشكله ذلك التفاعل المستمر بين النظم والنحو بشكل عام.
إن ما أرادته شعرية النحو هو ضرورة قيام " رابطة بين المعنى والمسائل المتعلقة بنظام التركيب والعبارة على حسب مقتضيات النحو، فهذا المقتضى هو الوسيلة إلى إدراك المعنى من وراء اللفظ، وتفهم الغرض الكامن وراء الشكل " .
فالإمكانيات النحوية لا تعني امتحان الخطأ والصواب بقدر ما تحيلنا إلى استغلال جمالياتها بابتعاد القراءة ما أمكن عن مستوى اليقين إلى مستوى التقدير والاحتمال، لأن النحو –في رأي الجرجاني- ليس مجرد حركات إعرابية، ونظام رتب، إنه قبل كل شيء نظام داخلي، يتكئ على وحدات لسانية صرفية ونحوية، يبني عليها القارئ معرفته بالنص وتضيء فهمه للعلاقة المورفولوجية بين معنى العبارة ومستواها النحوي.
وعلى هذا الأساس حظيت العلاقات التي هي أساس التفكير البنيوي والشكلاني مثل علاقات التوازي والتناسب والتجاوز والتشاكل، ...بحضورها في تصور الجرجاني، وبمكانتها السديدة في شعرية النحو، فإذا تم للمبدع أن ينتج صورا مجازية جمالية " بتوخي معاني النحو"، فما سبيله إلى ذلك؟
يمكن تصور ما يقصده الجرجاني بـ " توخي معاني النحو" من خلال شعرية النظم بناء و أسلوبا على الشكل التالي:
- الفرق بين نظام النحو في الشعر ونظام النحو في النثر.
- خصوصية النحو لدى كل شاعر.
- إدراك الفرق الجوهري بين التراكيب.
- ارتباط هذه العناصر بالتلقي والتأويل .
لقد كانت البلاغة لدى الجرجاني خبرة متسامية بالنحو ولعل ما أحدثه ذلك التأمل هو ما تسمى الشعريات النصية اليوم إلى استكماله من خلال محاولة استيعاب موقع النحو بالنسبة للشعر وفهم مستوى العلاقة بينهما.
لقد بحث الجرجاني في العلاقة بين النحو والنظم (كما سبقت الإشارة)، واعتبرها مدخلا لفهم اللغة الشعرية، ويتضح عمق هذا التصور من حيث ارتباط النحو بالشعر (شعريا) " لما في ذلك من تجاوز النحاة الذين لم يميزوا بين نظام النحو في الشعر، ونظام النحو في النثر، فالمسألة إذن، هي مسألة نظام، وهذا الإدراك المبكر لأدبية الخطاب هو مدار كل شعرية اليوم " .
وكما أعطى (جون كوهن) أهمية للقواعد النحوية في أول كتابه "بنية الشعرية" وهو يؤسس لنظرية الانزياح، انطلق الجرجاني في أول كتابه "دلائل الإعجاز" من الحديث عن أصول النحو وأهميتها في إقامة أي نوع ن الخطاب، وبالتالي لم تصل شعرية الجرجاني النحو التعقيدي، إلا أنها ثمنت معاني النحو التي تضمن للقول الشعري إبداعيته الخاصة: وهكذا وبشكل تفاعلي تحت إطار النظم يتم دمج التركيبي بالدلالي والصور النحوية بالصور البلاغية، وتؤكد شعرية النحو على هذا الدمج بحيث لا يمكن تذوق الصور المجازية بمعزل عن التراكيب النحوية التي تهيئ لها حيزا جماليا لبروز معانيها:
ومن خلال قول بشار:
كأَنّ مَثارَ النَّقْعِ فَوق رُؤوسِنا */* وأَسْيافَنا لَيْلٌ تَهاوَى كَواكِبُهُ.
تتوجه شعرية النحو إلى العلاقة بين التركيب النحوي وغرض المعنى المندس فيه، وفق هذه العلاقة فسر الجرجاني تجربة النحو في إثراء الصورة التي أراد الشاعر إيصالها إلى المتلقي والتي من دون معاني النحو لم تكن شيئا " وانظر هل يتصور أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفرادا عارية من معاني النحو التي تراها فيها، وأن يكون وقع [كأن] في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التشبيه منه على شيء وأن يكون فكر في [مثار النقع] من غير أن يكون أراد إضافة الأولى إلى الثانية، وفكر في [فوق رؤوسنا] من غير أن يكون قد أراد أن يضيف [فوق] إلى [الرؤوس] وفي الأسياف من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على [مثار] وفي الواو نت دون أن يكون أراد العطف بها، وأن يكون كذلك في [الليل] من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا لكأن، وفي [تهاوى كواكبه] من دون أن يكون أراد أن يجعل تهاوى فعلا للكواكب ثم يجعل الجملة صفة لليل ليتم الذي أراد من التشبيه ".
وسواء أراد بشار ذلك أم لم يرده، فإن قراءة الجرجاني تبدو قراءة شكلانية في أساسها، اهتمت في الأساس ببناء النص، أي بالقوانين التي تشكلت في وعي المبدع بوصفها تمس الجانب التكويني لما يكون عليه النص، أي في شكل محتواه وليس محتوى مضمونه ، ويصف الجرجاني بخصوص بيت بشار قائل: " وذلك أنه لم يرد أن يشبه النقع بالليل على حدة والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر الكواكب وتتهاوى فيه" .
وبهذا الشكل تكون قراءة الجرجاني، تبنت أسلوبا جديدا في تأويل معاني النحو من حيث اشتباكها بدلالة معاني الكلم، على اعتبار أن معاني النحو تختلف من صيغة إلى صيغة أخرى تعطي بموجبها دلالة لا تعطيها في الصيغة الأولى؛ وأن النظام اللغوي الذي تم التواضع عليه لم يستوعب جميع الانزياحات، لذلك تطلعت شعرية الجرجاني إلى استكشاف قوانين "نحو – شعري" أخرجت النحو من حيث الكمون إلى حيز الفاعلية بإعطائه دلالة النسق.
وقياسا على ما سبق، تبقى شعرية المجاز انتهاكا واختراقا لأنظمة اللغة المتواضع عليها، بغية تأصيل نظامها الخاص، وتحقيق أسلوبية انزياحية تنشأ في فراغ اللغة فإذا كانت حقيقة الشعر هي عُدولٌ عن قواعد الاستعمال، فليس معنى ذلك أن ماهيته لا تتجلى إلا عن طريق هذا العدول، فالتجاوز أو الانحراف حتى وإن كان ظاهرة أسلوبية، فإن الشعر لا يكون مجرد اختراق مجاني للغة، بل هو يهدمها ليعيد خلق لغته الخاصة، وهذه العملية المُجازفة، تضمنها شعرية النحو كما تصورها الجرجاني والتي لم تكتف بأن جعلت جوهر كل أسلوب يتمثل في التمكن من الإمكانات النحوية وكيفية استغلالها، وإنما امتدت لتشمل بعضا من مظاهر التلقي تحقيقا للذة النص ومتعة الغور في مكنوناته.
ذ.عبد الرحيم تكشميطة أبوصفاء.
فاس/المغرب