المدخل إلى بلاغة المحسنات(1)
محمد الولي
يقول أرسطو: "لا يكفي التوفر على مادة الخطابة، بل ينبغي أيضا التكلم بالكيفية المناسبة، وهنا يكمن الشرط الضروري لجعل الخطاب ذا مظهر جيد"(2) ويقول أيضا: " هكذا نجد للعبارة(3) جانبا ضروريا إلى حد ما في كل أنواع التعليم، إذ أنه من الضروري للقيام ببرهنة ما التحدث بهذه الكيفية أو تلك، إلا أن العبارة لا تكتسي هنا الأهمية التي تكتسيها في الخطابة، إذ أن كل شيء في هذه الصناعة يتم إعداده لإحداث تأثير ما ويوجه نحو مستمع ما. وهكذا فلا أحد يعمد إلى هذا المسلك لتعليم الهندسة"(4). تختصر هذه العبارة حل مشكلة هامة وهي أن المتحدث في المجال العلمي لا يضطر إلى الاهتمام بالعبارة إلا بالقدر الذي يسمح بتوصيل الفكرة. بل إننا نستطيع القول إن الأسلوب غير ضروري هنا. إذ أن عامل التأثير واستهداف المتلقي لا تكون له أية أهمية. فكأن الخطاب العلمي، وهو يهتدي بالتجربة وبالبرهنة المنطقية، يجد نفسه في غنى عن الأسلوب. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الخطيب، أي خطيب.
العبارة - ELOCUTIO
إن العبارة تتكفل بنقل الأفكار التي عثر عليها في الإيجاد والمرتبة في نص أو خطاب إلى الصياغة اللغوية أو اللفظية، أو ما يسميه أحيانا بعض البلاغيين بالزي اللفظي، أو التجسيد المادي للأفكار.
تميز الخطابة بين الإيجاد والعبارة باعتبار أولهما هو ماذا؟ واعتبار الثاني هو كيف؟، أو ما يسميه المعاصرون المحتوى والشكل. وبما أن العبارة تعني التشكيل اللغوي فإنها ذات علاقة بالنحو، أي السلامة اللغوية المجردة بغض النظر عن المعنى وعن المقام. وبعلم المعاني باعتبار هذا يهتم بالملاءمة بين الكلام الصائب لغويا والمقام. أي مناسبة الكلام للمقام. وهذا معنى عبارة لكل مقام مقال.
1 - السلامة اللغوية أو الفصاحة
هي ملامح التعبير الذي يحترم القواعد اللغوية. لا تعتبر السلامة اللغوية في أغلب الثقافات مجرد أداة تيسر التواصل الفعال بل إنها ذات صبغة أخلاقية أو دينية. إن قراءة النص القرآني قراءة لاحنة تبعد اللغو بالاقتداء بمن يمثلون الأسوة الحسنة تماما كما يتعلم الأخلاق الحسنة ممن هم قدوة. وهكذا فإن الفضيلتين الأخلاقية واللغوية تتخذان لهما مظهرا واحدا. ولهذا ففي مسرحية موليير النساء العالمات تجرد خادمة البيت مارتين من عملها بسبب اقتراف أخطاء نحوية. وهذه العاهة يمكن أن تنتقل عدواها إلى الأطفال الذين تشرف على تربيتهم. بل إن كينتليان يعتبر الخطأ اللغوي أفظع من الخطإ الأخلاقي(5). ينقسم معيار السلامة اللغوية إلى أربعة نماذج.
الأول هو العبارة العقلية التي تستند إلى القياس وإلى الاشتقاق. القياس Analogie هو استنباط المجهول من المعروف. إنني أتوصل إلى اعتبار ضارب مذكر اسم فاعل ضرب، قياسا على كون كاتب مذكر اسم فاعل كتب. يتشبث القياسيون بهذا الاطراد حفاظا على المفهومية والمعقولية، حتى وإن تعارض ذلك مع الاستعمال. في حين يتشبث السماعيون Anomalistes بالاستعمال المتغير وغير المطرد حتى ولو كان ذلك يتعارض مع القاعدة. إن العقليين أميل إلى الحل القياسي، لأنه هو الذي ينسجم للعقل. وتستند العبارة العقلية إلى الاشتقاق أيضا. وهذا الموقف يلتمس "الحقيقة الأصلية" حيث يعتبر أن استعمال كلمة ما هو استعمال سليم لأنه ينسجم مع الاستعمال الإتيمولوجي الأصلي. مثال ذلك القول إن كلمة كافر مناسبة الاستعمال نظرا لأن هناك تناسبا بين المعنى الحالي والمعنى الأصلي أي الإتيمولوجي الذي يعني الليل. وهكذا ندرك العلاقة الوطيدة بين المعنيين. ونظرا لقيام هذه العلاقة الجلية فإن هذا الاستعمال اللاحق ينسجم مع العقل.
والثاني هو العبارة العتيقة، وإن شئت فقل الجزلة التي يمكن أن تقابل الضعف والليونة. والثالث هو عبارة الذين يعتبرون حجة أو سلطة لغوية جديرة بالاقتداء. والرابع هو عبارة الاستعمال الشائع والفعلي، وهو يمثل موقفا معتدلا وربما حاسما للصراع بين القياس والسماع، كما يمثل المعيار الأقوى من بين كل هذه المعايير.
إن معيار "الاستعمال الفعلي للغة" يحظى بالهيمنة على المعايير الثلاثة الأخرى. إن من يهتدي بالاستعمال لن يتورط في الخطإ أبدا. في حين أن المعايير الأخرى يمكن أن تجر إلى السقوط في الخطإ. تتمثل السلامة اللغوية (أي الفصاحة مقابل العجمة)، باعتبارها تحقق الجودة، في مجالين هما مجال الكلمات المفردة ومجال الكلمات المركبة. هذا الخرق للسلامة على مستوى الكلمات يسمى باللاتينية البَرْبَارِسْمُوسْ أي العجمة، وعلى مستوى الكلام المركب يسمى باللاتينية سُلْئِسْمُوسْ أي الركاكة المتعارضة مع التمكن. وكما هو الأمر بالنسبة إلى كل العيوب فإن العجمة المفردة أو المركبة قد تحظى بالتسامح باعتبارها ضرورة أي أخطاء لغوية ذات هدف جمالي. إن للسلامة اللغوية علاقة حميمة بالفائدة المعنوية إذ أن الانحراف عن تلك يؤدي بالضرورة إلى الانحراف عن هذه.
2 - الفائدة المعنوية:
الفائدة المعنوية أو توخيا للاختصار الفائدة، تعني قابلية فهم الخطاب. بما أن السلامة اللغوية تنتمي إلى النحو فإن الفائدة تعتبر أولى الفضائل البلاغية. ففي خطابة أرسطو تعتبر الفهمية الفضيلة المركزية للعبارة بوجه عام. ويقابل الفهمية الغموض والاستغلاق أو المعمى بوصفه عيبا. وكما يحصل دوما لعلاقة الفضائل بالعيوب فإن المعمى قد يقبل أحيانا بدعوى الضرورة.
والفهمية تتوزع على دائرتين اثنتين وهما دائرة الأفكار ودائرة الألفاظ. إن وضوح الأفكار يكمن في التميز (أو التعارض) وفي الانتظام الكافي للأفكار التي ينبغي أن تنبسط على امتداد المادة اللفظية وتحقيق فعالية الخطاب.
أما وضوح الصياغة اللغوية فيتحقق حينما يتطابق ما يقصد إليه الخطيب مع ما يفهمه المتلقي سواء كان ذلك على مستوى الجمل أم على مستوى الخطاب ككل. والعيوب التي يمكن أن تتعرض لها الخطابة هي تعذر فهم أي معنى كيفما كان بالنسبة إلى المتلقي، تماما كما يحصل لنا حينما نقرأ نصا بلغة أجنبية لا نتقنها. ويتحقق هذا أيضا حينما يحتمل النص أكثر من تأويل واحد متعارض مع قصد أو رغبة الخطيب وذلك ينتج عن استخدام كلمات ملتبسة أو عن اللجوء إلى مركبات ملتبسة.
إن هذين العيبين يمكن أن يتحققا باعتبارهما عيبين أو باعتبارهما ضروريتين. كما أن الغموض بوصفه ضرورة يودع الثقة في الجمهور إذ أنه يشعر بأنه مكرم وذلك بإشراكه في صناعة الأثر الأدبي: إن المبدع يكسب أثره الأدبي بعض الغموض ويترك للجمهور فرصة تحقيق الوضع النهائي للأثر: وهكذا فإن الوضوح الحاصل بعد القراءة هو من إنتاج الجمهور. هذا الغموض المتروك للجمهور هو ظاهرة الإثارة الجمالية.
3 - المحسنات البلاغية:
يحدد البلاغيون وظائف ثلاثة لفن القول الخطابي وهي الإفادة والإمتاع والإثارة. وإذا كان البلاغيون يشددون على هذه الوظائف في تقديم الخطابة فالواقع أن هذه السمات لا تغادر ذهن الخطيب على امتداد كل مراحل نص الخطابة. ففي كل لحظة قد يجد الخطيب نفسه أمام مستمع خامل أو متعب أو منحاز إلى الخصم. وفي مثل هذه الأحوال يغدو الحضور الجمالي ضرورة ملحة لأجل القضاء على سلبية المستمع.
من المناسبات الأساسية التي تفرض فيها هذه الوظيفة نفسها لحظة الصياغة اللفظية أو اللغوية. ويتمثل ذلك في الانتقال باللغة من مهمة الامتثال لصرامة القواعد اللغوية وقيود المناسبة المقامية إلى الاستسلام لنداء الوظيفة الجمالية، التي يمكن أن تتنكر للقيدين اللغوي والمقامي. إننا نلتقي هنا مع فعل استعمال اللغة استعمالا يستدعي لفت الانتباه إلى المادة اللفظية، عبر انتزاعها من حال كونها مجرد دلائل -أي علامات وآثار وقرائن وأعراض- على شيء آخر غير لغوي أي الفكر والمواقف والأغراض والأوامر أو النواهي. هذه الحالة تجعل الكلمات تتنصل من مهمة التوصيل لكي تبرز الأداة اللفظية في ذاتها. هنا لا تصبح الكلمات خدما للمعاني بل خادمة نفسها. وقد أحسن شيشرون التعبير عندما قال وهو يصف هذه الحالة: "إن الزي الذي ابتكر تحت ضغط الحاجة لحماية الجسد من البرد قد تحول فيما بعد إلى أداة زينة. كذلك اللغة ابتكرت في البداية تحت ضغط الحاجة لتوصيل الفكر إلا أنها تحولت فيما بعد لكي تصبح مادة تزيينية"(6). وهنا تتقاطع الخطابة مع الشعر. وتصبح التصريحات هنا متطابقة بين علماء الخطابة وعلماء الشعر. وليست هذه العبارة غريبة عن مواقف الكثير من المعاصرين إن سارتر على سبيل المثال يكرر في قولته الآتية: "الشعراء هم أناس يمتنعون عن اعتبار اللغة مجرد وسيلة […] الشاعر نفض يده دفعة واحدة من اللغة-الأداة، واختار اختيارا نهائيا الموقف الشعري الذي يعتبر الكلمات أشياء لا مجرد دلائل"(7). أي إن الشاعر يتمرد على الموقف الذي يعتبر اللغة مجرد أداة تواصل نفعي. تماما كما يتمرد الإنسان، متى تحققت الوفرة والغنى، عن اعتبار اللباس مجرد وسيلة لاتقاء البرد. وهذا معنى قول أرشيبالد ماكليش:
لا ينبغي للشعــر أن يــدل
بل ينبغـــي أن يكــــــون(
إن التعبير المعتمد على استعمال المحسنات figura يعتبر تحويلا للخطاب المعتاد دون زخارف. "يقارن الخطاب المجرد من المحسنات بوضع جسد في حالة استرخاء (غير تعبيري) في حين أن figura [محسن ] تمثل وضع جسد إنسان يبتعد عن حال الاسترخاء. إن وضع الجسد في حال حركة لهو مظهر الحياة".
وهذه الحالة التي تنتقل فيها اللغة من حال التعبير البريء إلى حال التعبير التزييني أو التعبير التوسطي يتحقق على أربع مستويات وهي محسنات التلفظ أو الأصوات، أي المحسنات اللفظية، ومحسنات المعاني أو البيان، ومحسنات التركيب أو النظم، ومحسنات الفكر حيث يتم خرق الاستعمال المعتاد القائم على الارتباط بين العبارة والمرجع وبينها وبين الباث وبينها وبين المتلقي. يكفي على سبيل المثال أو تتوجه بالخطاب إلى الجمهور بدل القاضي، أو أن تتحدث إلى الغائبين أو الأشياء، لكي نقول إن الأمر يتعلق بمحسن فكر.
إن هذا المستوى الخاص بالمحسنات أي الأورناتوس حسب العبارة اللاتينية هو الذي استحوذ على تسمية بلاغة لأمد قرون. والواقع أن ذلك يبدأ مع برنار دولارامي حينما عمد إلى تقويض التمييز الأرسطي بين الاستدلالات التحليلية التي تعود إلى المنطق والاستدلالات الجدلية التي تعود إلى الخطابة. ففي الحالة الأولى يسيطر البرهان المنطقي والتجريبي وفي الحالة الثانية يسيطر الإجراء الاحتمالي القيمي. لقد ذهب برنار دولارامي إلى "أنه على الرغم من أن الأشياء منها ما هو قائم على الضرورة العلمية ومنها ما هو قائم على الاحتمالية والرأي، إذ أن البصر مشترك في إبصار كل الألوان سواء المتغيرة منها أم الثابتة، فكذلك الأمر بالنسبة إلى صناعة المعرفة أي الجدل أو المنطق فإنه نفس العلم لإبصار كل الأشياء"(9). "إن هذا التوسيع الذي حظي به الجدل الذي أصبح يشمل الاستدلالات الصحيحة كما يشمل فن العثور على الحجج وتقويمها قد جرد البلاغة الأرسطية من جزأين أساسيين وهما الإيجاد والترتيب ولم يترك لها إلا العبارة [ أو الأسلوب ] أي أشكال اللغة المزخرفة. بهذه الروح […] عمد سنة 1572 صديق برنار دولارامي أومير تالن إلى نشر أول بلاغة محصورة بشكل منسق في دراسة المحسنات. وقد كان هذا ضربة قاصمة للبلاغة بمعناها الأرسطي. وساهم هذا في الواقع في قتلها"(10).
وبهذا وجهت ضربة موجعة إلى التمييز الأرسطي بين المنطق الصوري وبين الجدل وبالتالي الخطابة. وفي هذه الحالة وما دامت نواة البلاغة الحجاجية قد ألحقت بالمنطق وقوض بذلك مجال الإيجاد الذي تعتبر الوسائل الإقناعية نواته، وما دام طرف من البلاغة قد ألحق بالمنطق فقد اختزلت البلاغة العامة في صيغتها الأرسطية(11) إلى بلاغة محسنات وزخارف. والمفارقة أن واحدة من بلاغات المحسنات هذه قد أطلقت على نفسها تسمية بلاغة عامة Rhétorique générale، كما نشاهد ذلك عند جماعة لييج البلجيكية. وهذه البلاغة المختزلة، التي استغنت عن مباحث الإيتوس والباتوس والحجج بجميع أصنافها والترتيب، هي التي تتطابق مع الشعرية أو الأسلوبية. هذا المستوى الأخير من صرح البلاغة المسماة بلاغة المحسنات هو الذي يغطي بالتمام المجال الذي ندعوه اليوم الشعرية. ومع هذا فإننا حينما ننتقل من مجرد التسليم المجرد بكون اللغة في الممارسة الشعرية والجمالية عامة تكف عن أن تكون مجرد خادمة لتوصيل الأفكار، لا نجد العلماء يتفقون عن الملمح الذي تسند إليه مهمة نقل الدليل اللغوي من وضع النثرية إلى وضع الشعرية. فإذا كنا نسلم بأن الدليل اللغوي كيان متعدد الواجهات المكونة إذ هناك المادة اللفظية أو الدال وهناك المادة المعنوية أي المدلول فإن هذه الشعرية قد يقصرونها حينا على اللفظ وقد يقصرونها طورا آخر على المعنى(12).
ومع هذا كله فإن الشعرية التي تعيش اليوم مرحلة جديدة وهي تطرح أسئلتها المحيرة بصدد موضوعها تجد نفسها مضطرة إلى الاقتداء بالبلاغة القديمة لأجل الربط من جديد بين النص الشعري وبين مادته المعرفية والعاطفية وعلاقات إنتاجه وتلقيه. ولكي تنجز الشعرية هذا المشروع عليها أن تطرح إشكالاتها الخاصة المختلفة عن إشكالات البلاغة الإقناعية. وليست الثورات المعاصرة المتمثلة في نظريات "جمالية التلقي" و"تاريخ الأدب" و"تداولية النص الأدبي" الخ. إلا بدايات لإعادة النظر في أسس نظرية الأدب التي اختزلت لعهود في نظرية المحسنات.
1 - المحسنات الصوتية: figures de diction
تكتسي المحسنات الصوتية أهمية كبيرة في الشعرية التقليدية الشرقية والغربية. لقد كانت تجد في هذا المستوى المقومات الأساسية للخطاب الشعري. يقول دانييل دولاس وجاك فيليولي: "إن كل النصوص المنتسبة إلى كل الحضارات تقيم رابطا حميميا بين الموسيقى واللغة الشعرية، والأكيد إذن أنه على المستوى الشفوي حصل الوعي بإمكانات استثمار احتمالات صفات "الشعرية" في اللغة. تعتبر هذه الإمكانات مزدوجة فالمادة اللفظية يمكن النظر إليها بوصفها قابلة لانتظام موسيقي خاص بها أو أنها قابلة للارتباط بأداء آلة موسيقية يحاول الشاعر التلاؤم معها"(13). هذا الجانب الصوتي المسموع المتمثل في الإيقاع المجرد أو الممتلئ باعتباره توازيا هو الذي ظل لعهود، وما يزال، يعتبر الخاصية الشعرية الأساسية. والأهم من هذا أن المحاولات الكثيرة التي حاولت التمرد عليه، انتهت إلى الاعتدال بالتسليم بضرورة هذا المقوم اللفظي أو الصوتي.
هذا المقوم اللفظي اعتبر تارة مجرد أداة لتحقيق الأداة أو المقوم الشعري. أي باعتباره الأداة التي تكسب الدليل اللغوي ذلك البروز الذي يحرم منه في الخطاب النثري. ويتمثل هذا البروز في التهوين من قيمة الدلائل وإحالتها ورمزيتها. إن الدليل يفقد في هذا التصور شفافيته النثرية لكي يغدو ثاخنا أو معتما أو زجاجا سميكا ومزخرفا لا يسمح برؤية ما وراءه. وهذا معنى قول رومان ياكبسون: "إن إمكان التكرار هذا المباشر أو غير المباشر وهذا التحويل للرسالة الشعرية وعناصرها المكونة إلى أشياء وجعل الرسالة شيئا يدوم، كل ذلك يمثل حقا خاصية الشعر المحايثة والفعالة"(14) واعتبر هذا المقوم التكراري طورا آخر طريقة للإحالة الطبيعية والعفوية أو الرمزية. هنا لا تستعيد الكلمات شفافيتها وحسب بل إنها تناهض الدلالة الاعتباطية الاصطلاحية المكتسبة لكي تدل بشكل عفوي ومباشر فتصبح الأصوات تتكلم أكثر مما تفعل في الكلام العادي. هنا نلتقي بالرمزية الصوتية، هنا نصادف ما يشبه قول البحتري:
يقضقض عصلا في أسرتها الردى كقضقضة المقرور أرعده البــــرد
الذي يحيل على معناه على سبيل الطبيعة وليس على سبيل الاعتباط أو الاصطلاح، كما تعودنا في الكلام النثري.
ومن هذا الجنس هذا البيت الثالث للمتنبي:
مغاني الشعب طيبا في المغانـي بمنزلة الربيع من الزمــــــان
[…]
لها ثمر تشير إليك منــــه بأشربة وقفن بـــــــــــلا أوان
وأمواه تصل بها حصاهــا صليل الحلي في أيدي الغواني
حيث تمثل الحروف المتكررة اللام والصاد مجتمعة في كلمة واحدة تصل وصليل محاكاة للشيء وهو الصوت الصادر عن حركة المياه والصوت الصادر عن ارتطام الحصى بفضل تدفق المياه. وإذا كان هذا التكرار معطى لغويا سابقا لوجود القصيدة، فإن الشاعر قد دعم هذا التكرارية المحاكاتية بورود نفس الحرفين في كلمتين مجاورتين. وهذا مضافا إلى تكرار الكلمة تصل صليل كسب البيت لونا محاكاتيا ذاتيا أي من ابتكار الشاعر هذا القوم المتكلم بهذه اللغة. ومن هذا النمط التكراري هذا البيت الجميل للشاعر الإسباني كارسيلاسو
En el silencio solo se escuchaba
Un susurro de abejas que sonaba
حيث يحاكي تكرار حرف السين S صوت النحل الذي اتخذه البيت موضوعا له. وعلى الرغم من أهمية هذا الجانب في الممارسة اللغوية فإن هناك من يطعن في شرعية مثل هذه الدراسة. إن القول بالقيمة الرمزية للأصوات والحركات يقتضي العودة باللغة إلى وضعها الطبيعي الأول حيث كانت الكلمات توحي بمعناها بشكل طبيعي وعفوي ومباشر. وهذه هي الكراتيلية كما تحدث عنها أفلاطون. وعلى الرغم من تعطل هذا الملمح في اللغات المعاصرة فإن الشعراء يحاولون ابتكارات وتأليفات لفظية من شأنها إظهار هذه الخاصية الكامنة. إن الشعراء يحلمون، بشعور أم بغيره، بالقضاء على اللغة الاعتباطية الجافة التي تقتصر على الإحالة الاتفاقية بين الناس على معنى العبارة.
والرائع هنا في تكرار الكلمة على وجه الخصوص هو أن التحقق الثاني قد جاء حاملا لمعنى استعاري. التكرار مصاحب لعدول دلالي في ابتكار الشاعر لهذه الاستعارة الجميلة: صوت الحصى وصليل الحلي. وهذا هو مصدر هذه الجمالية التي لا نعقلها خلال التلقي إلا أنها مع ذلك تفعل فعلها القوي. التكرار اللفظي البديعي يدعم بخرق دلالي استعاري أو بمقوم بياني. ولهذا أمكن الزعم أن كلمة واحدة تستقطب محسنين أحدهما لفظي والآخر دلالي. هذه هي الصناعة الخفية التي يتقنها أبو الطيب المتنبي.
ومنه أيضا قول المتنبي:
الراميات لنا وهن نوافـــــ ـر والخاتلات لنا وهن غوافــل
كافأننا عن شبهن من المهـ ـا فلهن في غير التراب حبائـل
من طاعني ثغر الرجال جآذر ومن الرماح دمالج وخلاخــل
فلنتأمل في البيت الثالث ما فيه من تكرارات المد. واللافت أن هذا المحسن قد جاء هنا مصحوبا بمحسن بياني آخر هو التشبيه البليغ. وبمحسن تركيبي هو التوازي الموزع على شطري البيت. وهذا التأليف لعدة محسنات على جسد عبارة واحدة هو مصدر الجمال والسحر الشعريين.
فلننظر مرة أخرى إلى هذا البيت للشاعر الإسباني خوان ذي لاكروث:
El silencio sonoroso de los rios
ضمت الوديان الصارخ.
ففي البيت الإسباني نلاحظ هذه التكرارية الجناسية المحاكية فالبيت مسموع كما يزعم أن الصمت مسموع. فخلق ذلك هذا البيت الجميل إلا أنه مما زاده جمالا أن يأتي هذا المحسن مصحوبا بمحسن آخر يتنافس عليه الشعراء وهو هذه الاستعارة المفارقة. وتتمثل في نسبة الجهارة إلى الصمت. ومن هذا القبيل قولة غسان كنفاني الشهيرة في روايته عائد إلى حيفا "يضج بصمت جنوني".
على أن التكرار الذي لا يأتي مصحوبا بمثل هذه المحسنات، من قبيل قول المتنبي:
إذا أتت الإساءة من لئيــــــم ولم ألم المسيء فمن ألـــــــوم؟
قد لا يكون لها نفس الأثر الجمالي الذي نلاحظه لمحسن يكون مصحوبا بمحسن آخر أو محسنات أخرى. وإن كان من الواجب الملاحظة أن هذا البيت نفسه يتوفر على محسن تداولي يتمثل في استعمال الاستفهام بمعنى غير المعنى المعياري. فنحن لا ننتظر جوابا على هذا الاستفهام. ويمكن القول أيضا إن هناك التفاتا أو خروجا للكلام عن مقتضى الظاهر، وذلك للانتقال من الأخبار إلى الإنشاء. إلا أن هذا البيت لا يرتقي إلى مستوى البيت السالف وذلك لخلوه من الاستعارة. أما البيت:
لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهن منك أواهـــل
فإذا لم نكن نقول باحتوائه لمعنى محاكاتي، فإننا نكتفي بالقول بالقيمة التنغيمية لهذه التكرارات. إلا أننا نؤكد مع ذلك وعلى مستوى آخر: إن البيت يشتمل على الجنس الثاني من المحسنات التي رأيناها في البيت السالف ألا وهي ظاهرة تعايش المحسن البديعي والمحسن البياني في كلمة واحدة وينبغي الاستدراك لكي نقول إن هذه الاستعارة هنا من النوع الميت فلا أحد يحس باستعارية المنازل بمعنى المراتب الرفيعة. ولهذا يقترب هذا المحسن من المشترك اللفظي(15) حيث نسند إلى نفس اللفظ في سياقين متباينين معنيين متباينين. أي إن هذه التحققات عبارة عن رجع الصدى للتحقق الأول. إن هناك ما يشبه رجع الصدى في هذا التكرار إلا أنه رجع يفيدنا معنى جديدا لا نستفيده من الكلمة الأولى. الواقع أنه إذا كان النقاد في القديم وفي الحديث يلحون على كون الشعر لا يقبل الترجمة فإن الأمر يتعلق بالأساس بهذه المحسنات اللفظية. تأمل، هذه تمكن ترجمة العبارة الإيطالية: Traducttoritraditori هذه المحسنات اللفظية كان يصفها النقاد القدامى بعبارتهم المشهورة "مشاكلة اللفظ للمعنى"(16) وتوقف عندها عبد الله الطيب وقفة متملية في كتابه الممتع المرشد إلى فهم أشعار العرب: "النوع الأول يسمونه(17) Onomatopeic. والثاني يجعلونه قسمين، فما كان الاعتماد فيه على حروف السلامة سموه Alliteration، وما كان الاعتماد فيه على حروف المد سموه Assonance والقسم الأول المسمى Onomatopeic داخل في صنفي جناس حروف السلامة، وجناس حروف المد والعلة. ولتوضيح مقصودنا من حروف السلامة وحروف المد والعلة، نضرب المثالين الآتيين: فمثال تكرار بحروف السلامة قول زهير "مضرة ضروس تهر" ومثال