التكرار بحروف المد قول المتنبي:
أهل ما بي من الضنى بطل صيد بتصفيف طرة وبجيـــــــــد
فياء بي وصيد وجيد وتصفيف والضنى كلها حروف مد وعلة(18) ومع هذا فإن مصطلح التجنيس Alliteration لم يكن ثابت المعنى في البلاغة الغربية التقليدية. إن هناك، في حدود علمي، ثلاث استعمالات لهذا المفهوم.
1 ـ يعين الاستعمال الأول معنى التجنيس باعتباره مجرد تكرار لصوت ما في أي موضع داخل الكلمات المتكررة والمتعاقبة في جملة أو جمل. يقول دوبرييز Dupriez متحدثا عن التجانس: "إنه عودة لنفس الصوت"(19). مثلا ذلك ما تقدم في قول زهير "مضرة ضروس تهر" وفي قول المتنبي:
وأمواه تصل بها حصاهــــا صليل الحلي في أيدي الغواني
ومنه قول أحد الشعراء:
عسل الأخلاق ما ياسرتـــه فإذا عاسرت ذقت السلعــــا
2 ـ هناك من البلاغيين من يعتقد أن هذا المفهوم يحيل على التكرارات في أوائل الكلمات المتعاقبة ضمن سياق ما. يقول الناقد الألماني ولفكانك كايزر: "الجناس أي (الأليتراسيون) هو تماثل الأصوات في بداية كلمتين أو أكثر"(20). ويذهب آخرون مذهب حصر هذا التكرار في تكرار صامت بعينه في كلمات متعاقبة. يقول هنريش لاوسبيرغ: "إن الأوميوبروفرون هو تكرار متواتر لنفس الصامت في عديد من الكلمات المتعاقبة، وبالخصوص في بداية العبارة"(21). ولم يفت لاوسبيرغ أن يلاحظ أن هناك من يوسع مدلول هذا المفهوم لكي يدل على تكرارات لنفس المقطع في بدء الكلمات المتعاقبة.
مثلا ذلك قول امرئ القيس الذي يستوعب كل هذه الأصناف من التكرارات سواء تكرار صوامت أم تكرار صوامت صائتة:
"مكر مفر مقبل مدبر معا"
3 ـ وهناك من البلاغيين من يحصر هذا المفهوم ضمن الدلالة على التكرار في أواخر الكلمات. يقول كالنتين غارسيا ييبرا: "إننا نقصد بمفهوم التجانس تكرار نفس الصوت أو الأصوات في نهاية كلمات توجد في مواضع متقاربة جدا حتى يكون تأثيرها التعبيري لافتا للأنظار. ويمكن لهذا التجانس أن يكون صامتيا أو صائتيا أو مركبا. أي يمكن أن يكون عبارة عن تكرار صوامت أو صوائت أو صوامت وصوائت مجتمعين في نفس الشروط الآنفة الذكر"(22) مثال ذلك قول المتنبي أيضا:
قليل عائدي سقم فـــــــــؤادي كثير حاسدي صعب مرامـــــي
ويلتبس التجانس الصوتي هنا بالسجع حينما يتعلق الأمر بالنثر. ويلتبس أيضا بالقافية. ألا يسمى هذا التجانس الداخلي بالموسيقى الداخلية. بل الأكثر من هذا يمكن أن تعتبر القافية شكلا من التجانس.
يبدو لي من الصعوبة التغاضي هنا عن مسألة الوظيفة التي يمكن أن تلعبها هذه التكرارات الصوتية. ففي الوقت الذي يذهب بعض النقاد إلى أن دورها ينحصر في إكساب النص صفة التماسك والتآلف والتجانس التلفظي، ونلتقي هنا بالجاحظ كما نلتقي برومان ياكبسون. نلتقي مع الأول حينما يقول: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، إنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". حيث تدرك الأصوات في حد ذاتها بغض النظر عن المعنى والأشياء لأن هذه يعرفها العربي والعجمي، في حين أن المفخرة هنا هي تعطيل الكلمات عن أداء وظيفتها التوصيلية، لكي تغدو من مظاهر رقص الجهاز الصوتي والسمعي وإدراك الرسالة في ذاتها ولذاتها، كما يقول ياكبسون، حيث لا تصبح الكلمات أدوات إحالة إلى العالم الخارجي ولكنها تغدو أدوات إحالة ذاتية، أي حيث تحيل الكلمات على نفسها بإثارة الانتباه إلى المادة اللفظية لا إلى المعنى أو المرجع الخارجي. ولأمر ما يعترض ياكبسون ومعه الشكلانية الروسية في بداياتها على اعتبار الخطاب الشعري خطابا ذا إحالة ومتوالية لفظية شفافة وكاشفة عن العالم الخارجي، أي خطابا يهون من أهمية المادة اللفظية. والعكس هو الصحيح في رأي ياكبسون. "إن إمكان التكرار هذا المباشر أو غير المباشر، وهذا التشيؤ للرسالة الشعرية ولعناصرها المكونة، وهذا التحويل للرسالة إلى شيء يدوم، كل هذا يمثل خاصية داخلية وفعالة للشعر"(23). ويقول تينيانوف: "الصوت في الشعر يغير معنى الكلمات في حين تغير الدلالة الصوت في النثر"(24).
ولعل بول فاليري هو أحسن من يوضح هذا الموقف. كما أنه هو الذي يتخذ موقفا أشد حسما وانحيازا إلى جانب الشكل الذي يرهن له الخطاب الشعري رهنا تاما. فلأهمية موقف بول فاليري نقتبس منه نصا رغم طوله. "يتبع النثر، شأنه في ذلك شأن السير، طريق أدنى جهد، أي الخط المستقيم. إن اللغة التي أنتهي من استخدامها، والتي تنتهي من التعبير عن قصدي ورغبتي ومطلبي ورأيي وسؤالي أو جوابي تلك اللغة التي أنجزت مهمتها، تتلاشى بمجرد بلوغها الغاية. لقد أرسلتها لكي تتلاشى لكي تتحول بدون رجعة فيكم، وسأعرف بأنني قد فهمت […] فإذا فهمتم ألفاظي فإن هذه الألفاظ نفسها لن تفيدكم في شيء؛ لقد اختفت من أذهانكم في حين أنكم تحتفظون بمقابلها، إنكم تتملكون، في شكل أفكار وعلاقات، ما به تعوضون دلالة هذه الأقوال، في صيغة قد تكون مختلفة تمام الاختلاف.
"وبكلمات أخرى، ففي الاستخدامات العملية أو المجردة للغة التي هي من حيث النوع نثر فإن الشكل لا يحتفظ به. لا يعيش بعد الفهم، إنه يذوب في الوضوح لقد أنجز فعله لقد أفهم لقد عاش.
"وعلى العكس من ذلك فإن القصيدة لا تموت بعد استخدامها لقد أنشئت قصدا لكي تنبعث من رمادها ولكي تصبح من جديد ما كانته في البداية".
وأعتقد أن أهم عنصر يحقق هذا التميز للنص الشعري هو هذا الجانب اللفظي الصوتي. إن الذي يكسب القصيدة هذا الدوام وهذه الاستمرارية هو هذا المستوى اللفظي، إننا نواجه إذن موقفين من التكرارية الصوتية. إنها تارة ذاتية متقوقعة ومنغلقة على ذاتها، أي إنها لا تحيل على شيء خارجها بمعنى أن وظيفتها الإحالية تتعطل لصالح تحقيق امتلاء دلالي ذاتي. وتارة أخرى تشع خارجها بالإحالة على المعاني والأشياء. ففي الحالة الأولى نلتقي بما يسمى الشكلانية أو اللفظية، وبشعار "الكلمات أشياء" أو "الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". وفي الثانية نصادف الشعار "الشعر لغة إذن بالضرورة هو لا يدل إلا أن دلالته مخالفة للدلالة النثرية". وهذه التكرارية الجناسية أو السجعية تلعب الدور الأساسي في هذه الدلالة الشعرية. ونصادف هنا مرة أخرى اتجاهات عديدة تحاول الإمساك عن هذا المعنى. فإذا كنا في الاستعمال العادي نوصل معاني مفهومية فإننا في الاستعمال الشعري نوصل معاني عاطفية. ينزع جان كوهن هذا المنزع مقتفيا أثر هانس أدانك الذي يعرف الشعر بوصفه استعارة ثابتة ومعممة. بل إن كوهن يضع كشرط مطلق لتحقيق الشعرية تغيير المعنى. وحتى الجناس يظل حلية جوفاء إذا لم ينتج عنها تغيير معنوي أي إذا لم تنتج عنه استعارة.
ألم يقل في التعليق على قول بودلير:
Mon enfant, ma soeur songe à la douceur
"نتوفر في هذين البيتين لبودلير على كلمتين في القافية لا يربط بينهما أي جامع دلالي. فالنعومة douceur صفة للنفس في حين أن الأخت soeur عضو في العائلة. لا يوجد إذن بين المفهومين أي تلازم مشترك. والتشابه الصوتي بينهما هو مجرد عرض في اللغة احتالت القافية لإبرازه. إلا أن الحقيقة العاطفية تأتي هنا أيضا، لأجل تصحيح الخطإ المفهومي. فإذا كانت الأخوة (Sororité) توحي بقيمة، يشعر بها كذلك، هي قيمة الحميمية والود، فالأكيد أن كل أخت هي عذبة، وضمنيا فإن كل عذوبة هي بالمقابل أخوية. إن دلالية القافية استعارية. فالمشابهة الصوتية تؤدي نفس الدور الذي تؤديه العلاقة الإسنادية. ولهذا أمكن الحديث عن منافرة القافية التي تقتضي نفس الاختزال.
[…] إن الصعوبة الاستثنائية لمثل هذه القافية ممكنة القياس، إذ ينبغي أن تستجيب لمقتضيات ثلاثة هي أن يضاف إلى 1) المشابهة الصوتية 2) اختلاف في دلالة المطابقة 3) وتعويض هذا الاختلاف بالدلالة المحققة للانسجام(25).
والواقع أن هذا أوسع معنى يمكن أن ينسب إلى مفهوم الاستعارة إذ كنا وما نزال نظن أن حيلة مثل القافية لا علاقة لها بالانزياحات الاستعارية في حين إننا نجدها مدرجة ضمنها هنا. والأخطر من هذا أن هذه الاستعارة تقوم على الانتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الإيحائي أو الوجداني. ولكن على أي أساس نلتمس هذا المعنى الوجداني بين ألفاظ لا نعرف من معانيها إلا الوضعية أو المعجمية. إن هناك إمكانية فتح الباب أمام الأحكام الانطباعية.
ب ـ المحسن التركيبي: figures de construction
نصادف في البداية ذلك المحسن التركيبي الشهير وهو القلب أو التقديم والتأخير. "يتمثل هذا المحسن في الفصل بين كلمتين لا ينبغي من الناحية التركيبية الفصل بينهما وحشر كلمة أو أكثر من كلمة، وهي كلمات لا تنتمي من الناحية التركيبية إلى هذا الموضع، بين جزأين من الجملة. أي إن الأمر يتعلق بإدراج طرف في موقع لا ينتمي إليه. يمكن لهذا الاعتراض أن يؤدي إلى النيل من وضوح النص بل ويمكن أن يؤدي إلى غموضه حينما يرد متكررا".
ونميز هنا صنفين منه. أحدهما مقبول نحويا ولا يمثل أي خرق للقاعدة النحوية، بل إنه يكون ضروريا حينما يقتضي المقام ذلك. والثاني هو ذلك الصنف الذي لا يكون مقبولا نحويا أبدا، إنه عبارة عن ضرورة شعرية. ومن الأمثلة الشهيرة هذا البيت الجميل لذي الرمة:
كأن أصوات، من إيغالهن بنــا، أواخر الميس إنقاض الفراريــج.
إن التقديم والتأخير الذين نلاحظهما هنا يكادان يمسخان هذا البيت. إننا لا ندرك المعنى إلا بإعادة بناء البيت وإرجاعه إلى الأصل الذي نفترض أنه هو: "كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا". إن ما نلاحظه هنا تقديم من إيغالهن بنا، من جهة، فموقع هذه العبارة الأصلي هو التأخير، وهي هنا متقدمة. وموقع أواخر الميس التقديم، نظرا لكونها مضافا إليه. ويمكن أن نعتبر من إيغالهن بنا بمثابة اعتراض يفصل بين المضاف والمضاف إليه اللذين لم يتقدم أحدهما عن الآخر بل فصل بينهما. ههنا إذن محسنان تركيبيان القلب والاعتراض. ومن الأول أيضا، لك يامنازل في بيت أبي الطيب:
لك يا منازل في القلوب منــازل أقفرت أنت وهن منك أواهـــل
إن الجار والمجرور هنا عبارة عن خبر مقدم والمبتدأ هو منازل في آخر الشطر الأول. ونقع على حالة أخرى لهذا القلب، أي التقديم والتأخير، في عبارة في القلوب منازل فالعبارة المعتادة هي منازل في القلوب، ويتعلق الأمر هنا بتأخير بالنعت. ولعل هذا ما يوضحه هنريش لاوسبيرغ بقوله وهو يميز هذين النوعين من القلب: "بما أن تعاقب لفظين من الجملة هو في الاستعمال متحرر موقعيا في اللغات الكلاسيكية [وينطبق هذا على العربية أيضا] فإننا لا نعتبر من قبيل القلب إلا بعض قلوب الجمل والأدوات التي لا تتفق مع الاستعمال(26).
ومن الثاني المثال في البيت: هن منك أواهل إن تقديم منك أمر لا يسوغه النحو إلا لداعي الضرورة، أي إنه خطأ لا يسمح به إلا للشعراء. ومن المحسنات التركيبية التي نعثر عليها هنا: الاعتراض: وقد يلتبس هنا بالتقديم والتأخير. كما يمكن أن يلتبس بالالتفات. والاعتراض هنا عبارة عن "حشر جزء من الكلام في قول ما. وهذا الكلام المحشور يمكن أن يكون من طبيعة متباينة من حيث التكون ومن حيث التركيب. ففي اللغة المحكية يمكن للنحو أن يدلنا على هذا الجزء المحشور وفي اللغة الكتابية يمكن للخطية أن تدلنا على ذلك"(27). ويتمثل ذلك في يا منازل. إننا نعثر هنا على محسن تركيبي أغنى من السابق. فلنلاحظ وجود نوعين من الجمل بالانتقال من الشطر الأول إلى الثاني. ففي الشطر الثاني نلاحظ وجود جملتين متشابهتين الأولى هي "أقفرت أنت" والثانية هي "هن… أواهل". علينا أن نتجاهل هنا اسمية وفعلية الجملتين لأن التشديد على هذا الجانب قد يطمس الجانب الذي يمثل جانبا تصويريا مهما ويتمثل هذا في البناء المتوازي للجملتين. إن المسند في الحالتين هو منازل. في حالةأقفرت أنت هي منازل الأحبة وفي الحالة الثانية هي المنازل المخصوصة لمنازل الأحبة في القلوب. فإذا كان المسند إليه هو لفظيا المنازل في الحالين فإن المسند هو في حالة الإقفار وفي حال أخرى الأهول. "هن… أواهل" فالمسند إليه هنا متقدم.
ومن المحسنات التركيبية المحسن المعروف بتسمية التوازي: ومن هذا قول المتنبي:
وما التأنيث للشمس عيــــــب ولا التذكير فخر للهــــــلال
ومنه قول المتنبي أيضا:
أذم إلى هذا الزمان أهيلـــــــه فأعلمهم فدم وأحزمهم وغــد
وأكرمهم كلب وأبصرهم عــــم وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد
إن البيت يتألف من مركبات متماثلة تلتزم بنفس الهيكل النحوي. وتتعدى أهمية هذا المحسن مجال الشعر والأدبية. إننا نصادفه في الشعارات السياسية من قبيل مارسوا الحب ولا تمارسوا الحرب. ومن اللعب اللفظي Folle à la messe Molle à la fesse وهذا يمثل واحدا من المحسنات الكبرى التي اعتنى بها النقد المعاصر كما اعتنت بها البلاغة التقليدية. وقد كان التوازي يسمى في البلاغة الغربية القديمة إيسوكولون، ومعنى إيسو تماثل وكولون أجزاء الجملة. وسمي أيضا باريسون، وهو يقابل في العربية التقطيع حسب مصطلح ابن رشيق. وذلك حينما يلتقي التقطيع المتوازي مع التقطيع العروضي.
سأطلب حقي بالقنا ومشايـــــخ كأنهم من طول ما التثموا مـرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا كثير إذا شدوا، قليل إذا عدوا
إن البيت الثاني يتألف من أربعة مركبات معطوفة وهي بالإضافة إلى التزامها نفس البناء التركيبي فإن هذه المركبات المتآلفة تلتزم بنفس الهيكل العروضي. على أن هذا المحسن قد يتخذ أشكالا تبتعد عن هذا الشكل المطرد. ومنه هذا البيت لامرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامـــــة وإرخاء سرحان وتقريب تتفــل
إن البيتين معا يخضعان لنفس بحر الطويل وزنا وتقطيعا لفظيا. ولذلك فإن له أيطلا ظبي: تلائم بالتمام فعولن مفاعيلن.
ويمكن لهذا التشاكل أن يتخطى حدود تطابق التقطيع اللفظي والعروضي لكي يشمل اتفاق أواخر أطراف التوازي على الاختتام بنفس الحرف، ولهذا ترتكز القافية في آخر البيت بقواف داخل البيت. ومن هذا قول المتنبي:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي وفاض به ثمدي، وأورى به زندي.
ومن أجناس التوازي ذلك الذي يعمد إلى تكرار نفس الكلمات وفيه يختلط التكرار أو الجناس بالتوازي. على أن هذا التكرار لا يندرج ضمن محسن التوازي إلا عندما يرد في بنيات تركيبية متوازنة. فلنتأمل هذا البيت:
وكيف وأنت من الرؤساء عنــدي عتيق الطير ما بين الخشــــــاش
فما خاشيك للتكذيـــــــــب راج ولا راجيك للتخييب خاشـــــي
على الرغم من أن البيت الثاني هو من قبيل التوازي إذ أن هناك مركبين متماثلين نحويا، إلا أن هناك حضور عاملِ تنويعٍ قوي ينفي عن هذا التوازي ما قد يعتوره من رتابة. ويتمثل هذا في قلب ترتيب مجموعة من الكلمات المتكررة مع الاحتفاظ بنفس الهيكل الترتيبي. إن خاشي المتقدمة في الجزء الأول من الموازنة قد وردت متأخرة في الجزء الثاني منها. في حين أن التي تأخرت في الجزء الأول من التوازي قد تقدمت في الجزء الثاني منه.
ومنه أيضا قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الأمثلة على هذا التوازي المقلوب هذا البيت الجميل لأحيمر السعدي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى صوت إنسان فكدت أطـيــــــــر
إن الكلمتين الذئب وعوى قد تكررتا بقلب نظامهما التركيبي الأول. هذا مما يكسب هذا التوازي الكثير من الجمال والشعرية.
ويمكن للشعراء أن يتفننوا في هذا إلى غير غاية. بل إن رومان ياكبسون كثيرا ما عمد إلى عنونة مقالاته عن التوازي عناوين متوازية. مثال ذلك نحو الشعر وشعر النحو. ويبدو أن وضع مثل هذه العناوين مما يلفت النظر عند المعاصرين. ومما يشبه هذا البناء المقلوب قول أبي تمام:
مطر يذوب الصحو منه وبعـــده صحو يكاد من الغضارة يمطــر
فقد قلب ترتيب الكلمتين مطر وصحو. ومن هذا أيضا قول شوقي بزيع الشاعر اللبناني:
يسكنها البحر حينا وحينا يحاصرها الماء حتى الثمالة[…](28).
ومن هذا القبيل أيضا هذه المقطوعة الجميلة للشاعر الشيلي بابلو نيرودا:
Pequêna
rosa
rosa pequêna(29)
ينبغي التوقف مع آخر حالة التوازي نقصد به ذلك الذي لا يعمد إلى قلب الكلمات المتكررة وإنما ذلك الذي يعمد إلى قلب الفئات النحوية أو المواقع التركيبية، أو ما يسميه المعاصرون أجزاء الخطاب. فلنتأمل هذا العبارة الشعرية لشوقي بزيع أيضا:
مضى كل شيء إلى البحر
مر المساء ومرت طيور المساء
وهاجرت الغيمة الذهبية في القلب
والشمس في آخر الأفق غابت(30)
ومن هذا أيضا قول الشاعر العباسي ابن الرومي:
طواه الردى فأضحى مـــــزاره بعيدا على قرب، قريبا على بعد
إن ما نلاحظه هنا هو التوازي القائم على قلب الفئات النحوية والمواقع التركيبية فالفعل الذي كان متقدما في الجزء الأول من التوازي قد أصبح متأخرا في الجزء الثاني منه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الأطراف. وتم تقديم الاسم لكي يحتل موقع الفعل وكذلك الجار والمجرور.
ومن هذا النوع قول المثل الفرنسي:
Tel qui rit vendredi, dimanche pleurera(31).
وقد يلتقي قلب نفس الكلمات مع قلب الفئات التركيبية ويقدم شوقي بزيع مثالا على هذا:
رأيت حبيبين سهوا
وطفلين سهوا
وسهوا رأيت المدينة(32)
ومن هذا القبيل العنوان الشهير الذي وضعه كارل ماركس، فلسفة البؤس أم بؤس الفلسفة للكتاب الذي يرد فيه على انتقاد الفيلسوف الفرنسي لفلسفته في الكتاب الشهير الذي سماه فلسفة البؤس. ومن الخطاب الحكمي القولة المأثورة: لا نعيش لنأكل بل نأكل لنعيش. وهناك مفكرين اتخذوا من هذا المقوم الأداة التعبيرية المفضلة لأداء أفكارهم الجدلية والنقدية من هؤلاء المفكر الفرنسي كي دوبور الذي يضج كتابه بمثل هذه العبارات:
Il ne réalise pas la philosophie, il philosophise la réalité.
وعنده أيضا:
La philosophie, en tant que pouvoir de la pensée séparée, et pensée du pouvoir séparé(33).
إلا أن الشعراء هم الذين توسلوا بهذا المقوم أكثر من غيرهم ولهذا فقد رأى فيه الكثير من علماء الشعر المقوم الأساسي للخطاب الشعري.
وهو يستوعب الكثير من المقومات التي كنا نراها متميزة عن بعضها البعض، إلا أن شعرية جاكبسون تجمعها كلها تحت المقوم الكبير المدعو التوازي. وهي لمجرد أنها تتكرر في مواقع نحوية متماثلة تستوقف نظرنا وتشد انتباهنا إلى هذه المقومات. وإن الآثار الأشد بروزا تتحقق على المستوى الصوتي بفضل الأليتيراسيون [ أي الجناس ] والقافية ونبور المقاطع الثابتة وتحقق نفس الصوائـت والمقاطع بأكملها في مواقع بارزة صوتيا، الخ. وعلى المستوى التركيبي بفضل التوازي والمقابلة والتكرار الافتتاحي الخ. وعلى المستوى المعجمي بفضل علاقات الترادف والاستعارة والكناية والمجاز المرسل بين ألفاظ النص(34).
أهل ما بي من الضنى بطل صيد بتصفيف طرة وبجيـــــــــد
فياء بي وصيد وجيد وتصفيف والضنى كلها حروف مد وعلة(18) ومع هذا فإن مصطلح التجنيس Alliteration لم يكن ثابت المعنى في البلاغة الغربية التقليدية. إن هناك، في حدود علمي، ثلاث استعمالات لهذا المفهوم.
1 ـ يعين الاستعمال الأول معنى التجنيس باعتباره مجرد تكرار لصوت ما في أي موضع داخل الكلمات المتكررة والمتعاقبة في جملة أو جمل. يقول دوبرييز Dupriez متحدثا عن التجانس: "إنه عودة لنفس الصوت"(19). مثلا ذلك ما تقدم في قول زهير "مضرة ضروس تهر" وفي قول المتنبي:
وأمواه تصل بها حصاهــــا صليل الحلي في أيدي الغواني
ومنه قول أحد الشعراء:
عسل الأخلاق ما ياسرتـــه فإذا عاسرت ذقت السلعــــا
2 ـ هناك من البلاغيين من يعتقد أن هذا المفهوم يحيل على التكرارات في أوائل الكلمات المتعاقبة ضمن سياق ما. يقول الناقد الألماني ولفكانك كايزر: "الجناس أي (الأليتراسيون) هو تماثل الأصوات في بداية كلمتين أو أكثر"(20). ويذهب آخرون مذهب حصر هذا التكرار في تكرار صامت بعينه في كلمات متعاقبة. يقول هنريش لاوسبيرغ: "إن الأوميوبروفرون هو تكرار متواتر لنفس الصامت في عديد من الكلمات المتعاقبة، وبالخصوص في بداية العبارة"(21). ولم يفت لاوسبيرغ أن يلاحظ أن هناك من يوسع مدلول هذا المفهوم لكي يدل على تكرارات لنفس المقطع في بدء الكلمات المتعاقبة.
مثلا ذلك قول امرئ القيس الذي يستوعب كل هذه الأصناف من التكرارات سواء تكرار صوامت أم تكرار صوامت صائتة:
"مكر مفر مقبل مدبر معا"
3 ـ وهناك من البلاغيين من يحصر هذا المفهوم ضمن الدلالة على التكرار في أواخر الكلمات. يقول كالنتين غارسيا ييبرا: "إننا نقصد بمفهوم التجانس تكرار نفس الصوت أو الأصوات في نهاية كلمات توجد في مواضع متقاربة جدا حتى يكون تأثيرها التعبيري لافتا للأنظار. ويمكن لهذا التجانس أن يكون صامتيا أو صائتيا أو مركبا. أي يمكن أن يكون عبارة عن تكرار صوامت أو صوائت أو صوامت وصوائت مجتمعين في نفس الشروط الآنفة الذكر"(22) مثال ذلك قول المتنبي أيضا:
قليل عائدي سقم فـــــــــؤادي كثير حاسدي صعب مرامـــــي
ويلتبس التجانس الصوتي هنا بالسجع حينما يتعلق الأمر بالنثر. ويلتبس أيضا بالقافية. ألا يسمى هذا التجانس الداخلي بالموسيقى الداخلية. بل الأكثر من هذا يمكن أن تعتبر القافية شكلا من التجانس.
يبدو لي من الصعوبة التغاضي هنا عن مسألة الوظيفة التي يمكن أن تلعبها هذه التكرارات الصوتية. ففي الوقت الذي يذهب بعض النقاد إلى أن دورها ينحصر في إكساب النص صفة التماسك والتآلف والتجانس التلفظي، ونلتقي هنا بالجاحظ كما نلتقي برومان ياكبسون. نلتقي مع الأول حينما يقول: "المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني، إنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". حيث تدرك الأصوات في حد ذاتها بغض النظر عن المعنى والأشياء لأن هذه يعرفها العربي والعجمي، في حين أن المفخرة هنا هي تعطيل الكلمات عن أداء وظيفتها التوصيلية، لكي تغدو من مظاهر رقص الجهاز الصوتي والسمعي وإدراك الرسالة في ذاتها ولذاتها، كما يقول ياكبسون، حيث لا تصبح الكلمات أدوات إحالة إلى العالم الخارجي ولكنها تغدو أدوات إحالة ذاتية، أي حيث تحيل الكلمات على نفسها بإثارة الانتباه إلى المادة اللفظية لا إلى المعنى أو المرجع الخارجي. ولأمر ما يعترض ياكبسون ومعه الشكلانية الروسية في بداياتها على اعتبار الخطاب الشعري خطابا ذا إحالة ومتوالية لفظية شفافة وكاشفة عن العالم الخارجي، أي خطابا يهون من أهمية المادة اللفظية. والعكس هو الصحيح في رأي ياكبسون. "إن إمكان التكرار هذا المباشر أو غير المباشر، وهذا التشيؤ للرسالة الشعرية ولعناصرها المكونة، وهذا التحويل للرسالة إلى شيء يدوم، كل هذا يمثل خاصية داخلية وفعالة للشعر"(23). ويقول تينيانوف: "الصوت في الشعر يغير معنى الكلمات في حين تغير الدلالة الصوت في النثر"(24).
ولعل بول فاليري هو أحسن من يوضح هذا الموقف. كما أنه هو الذي يتخذ موقفا أشد حسما وانحيازا إلى جانب الشكل الذي يرهن له الخطاب الشعري رهنا تاما. فلأهمية موقف بول فاليري نقتبس منه نصا رغم طوله. "يتبع النثر، شأنه في ذلك شأن السير، طريق أدنى جهد، أي الخط المستقيم. إن اللغة التي أنتهي من استخدامها، والتي تنتهي من التعبير عن قصدي ورغبتي ومطلبي ورأيي وسؤالي أو جوابي تلك اللغة التي أنجزت مهمتها، تتلاشى بمجرد بلوغها الغاية. لقد أرسلتها لكي تتلاشى لكي تتحول بدون رجعة فيكم، وسأعرف بأنني قد فهمت […] فإذا فهمتم ألفاظي فإن هذه الألفاظ نفسها لن تفيدكم في شيء؛ لقد اختفت من أذهانكم في حين أنكم تحتفظون بمقابلها، إنكم تتملكون، في شكل أفكار وعلاقات، ما به تعوضون دلالة هذه الأقوال، في صيغة قد تكون مختلفة تمام الاختلاف.
"وبكلمات أخرى، ففي الاستخدامات العملية أو المجردة للغة التي هي من حيث النوع نثر فإن الشكل لا يحتفظ به. لا يعيش بعد الفهم، إنه يذوب في الوضوح لقد أنجز فعله لقد أفهم لقد عاش.
"وعلى العكس من ذلك فإن القصيدة لا تموت بعد استخدامها لقد أنشئت قصدا لكي تنبعث من رمادها ولكي تصبح من جديد ما كانته في البداية".
وأعتقد أن أهم عنصر يحقق هذا التميز للنص الشعري هو هذا الجانب اللفظي الصوتي. إن الذي يكسب القصيدة هذا الدوام وهذه الاستمرارية هو هذا المستوى اللفظي، إننا نواجه إذن موقفين من التكرارية الصوتية. إنها تارة ذاتية متقوقعة ومنغلقة على ذاتها، أي إنها لا تحيل على شيء خارجها بمعنى أن وظيفتها الإحالية تتعطل لصالح تحقيق امتلاء دلالي ذاتي. وتارة أخرى تشع خارجها بالإحالة على المعاني والأشياء. ففي الحالة الأولى نلتقي بما يسمى الشكلانية أو اللفظية، وبشعار "الكلمات أشياء" أو "الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير". وفي الثانية نصادف الشعار "الشعر لغة إذن بالضرورة هو لا يدل إلا أن دلالته مخالفة للدلالة النثرية". وهذه التكرارية الجناسية أو السجعية تلعب الدور الأساسي في هذه الدلالة الشعرية. ونصادف هنا مرة أخرى اتجاهات عديدة تحاول الإمساك عن هذا المعنى. فإذا كنا في الاستعمال العادي نوصل معاني مفهومية فإننا في الاستعمال الشعري نوصل معاني عاطفية. ينزع جان كوهن هذا المنزع مقتفيا أثر هانس أدانك الذي يعرف الشعر بوصفه استعارة ثابتة ومعممة. بل إن كوهن يضع كشرط مطلق لتحقيق الشعرية تغيير المعنى. وحتى الجناس يظل حلية جوفاء إذا لم ينتج عنها تغيير معنوي أي إذا لم تنتج عنه استعارة.
ألم يقل في التعليق على قول بودلير:
Mon enfant, ma soeur songe à la douceur
"نتوفر في هذين البيتين لبودلير على كلمتين في القافية لا يربط بينهما أي جامع دلالي. فالنعومة douceur صفة للنفس في حين أن الأخت soeur عضو في العائلة. لا يوجد إذن بين المفهومين أي تلازم مشترك. والتشابه الصوتي بينهما هو مجرد عرض في اللغة احتالت القافية لإبرازه. إلا أن الحقيقة العاطفية تأتي هنا أيضا، لأجل تصحيح الخطإ المفهومي. فإذا كانت الأخوة (Sororité) توحي بقيمة، يشعر بها كذلك، هي قيمة الحميمية والود، فالأكيد أن كل أخت هي عذبة، وضمنيا فإن كل عذوبة هي بالمقابل أخوية. إن دلالية القافية استعارية. فالمشابهة الصوتية تؤدي نفس الدور الذي تؤديه العلاقة الإسنادية. ولهذا أمكن الحديث عن منافرة القافية التي تقتضي نفس الاختزال.
[…] إن الصعوبة الاستثنائية لمثل هذه القافية ممكنة القياس، إذ ينبغي أن تستجيب لمقتضيات ثلاثة هي أن يضاف إلى 1) المشابهة الصوتية 2) اختلاف في دلالة المطابقة 3) وتعويض هذا الاختلاف بالدلالة المحققة للانسجام(25).
والواقع أن هذا أوسع معنى يمكن أن ينسب إلى مفهوم الاستعارة إذ كنا وما نزال نظن أن حيلة مثل القافية لا علاقة لها بالانزياحات الاستعارية في حين إننا نجدها مدرجة ضمنها هنا. والأخطر من هذا أن هذه الاستعارة تقوم على الانتقال من المعنى المفهومي إلى المعنى الإيحائي أو الوجداني. ولكن على أي أساس نلتمس هذا المعنى الوجداني بين ألفاظ لا نعرف من معانيها إلا الوضعية أو المعجمية. إن هناك إمكانية فتح الباب أمام الأحكام الانطباعية.
ب ـ المحسن التركيبي: figures de construction
نصادف في البداية ذلك المحسن التركيبي الشهير وهو القلب أو التقديم والتأخير. "يتمثل هذا المحسن في الفصل بين كلمتين لا ينبغي من الناحية التركيبية الفصل بينهما وحشر كلمة أو أكثر من كلمة، وهي كلمات لا تنتمي من الناحية التركيبية إلى هذا الموضع، بين جزأين من الجملة. أي إن الأمر يتعلق بإدراج طرف في موقع لا ينتمي إليه. يمكن لهذا الاعتراض أن يؤدي إلى النيل من وضوح النص بل ويمكن أن يؤدي إلى غموضه حينما يرد متكررا".
ونميز هنا صنفين منه. أحدهما مقبول نحويا ولا يمثل أي خرق للقاعدة النحوية، بل إنه يكون ضروريا حينما يقتضي المقام ذلك. والثاني هو ذلك الصنف الذي لا يكون مقبولا نحويا أبدا، إنه عبارة عن ضرورة شعرية. ومن الأمثلة الشهيرة هذا البيت الجميل لذي الرمة:
كأن أصوات، من إيغالهن بنــا، أواخر الميس إنقاض الفراريــج.
إن التقديم والتأخير الذين نلاحظهما هنا يكادان يمسخان هذا البيت. إننا لا ندرك المعنى إلا بإعادة بناء البيت وإرجاعه إلى الأصل الذي نفترض أنه هو: "كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن بنا". إن ما نلاحظه هنا تقديم من إيغالهن بنا، من جهة، فموقع هذه العبارة الأصلي هو التأخير، وهي هنا متقدمة. وموقع أواخر الميس التقديم، نظرا لكونها مضافا إليه. ويمكن أن نعتبر من إيغالهن بنا بمثابة اعتراض يفصل بين المضاف والمضاف إليه اللذين لم يتقدم أحدهما عن الآخر بل فصل بينهما. ههنا إذن محسنان تركيبيان القلب والاعتراض. ومن الأول أيضا، لك يامنازل في بيت أبي الطيب:
لك يا منازل في القلوب منــازل أقفرت أنت وهن منك أواهـــل
إن الجار والمجرور هنا عبارة عن خبر مقدم والمبتدأ هو منازل في آخر الشطر الأول. ونقع على حالة أخرى لهذا القلب، أي التقديم والتأخير، في عبارة في القلوب منازل فالعبارة المعتادة هي منازل في القلوب، ويتعلق الأمر هنا بتأخير بالنعت. ولعل هذا ما يوضحه هنريش لاوسبيرغ بقوله وهو يميز هذين النوعين من القلب: "بما أن تعاقب لفظين من الجملة هو في الاستعمال متحرر موقعيا في اللغات الكلاسيكية [وينطبق هذا على العربية أيضا] فإننا لا نعتبر من قبيل القلب إلا بعض قلوب الجمل والأدوات التي لا تتفق مع الاستعمال(26).
ومن الثاني المثال في البيت: هن منك أواهل إن تقديم منك أمر لا يسوغه النحو إلا لداعي الضرورة، أي إنه خطأ لا يسمح به إلا للشعراء. ومن المحسنات التركيبية التي نعثر عليها هنا: الاعتراض: وقد يلتبس هنا بالتقديم والتأخير. كما يمكن أن يلتبس بالالتفات. والاعتراض هنا عبارة عن "حشر جزء من الكلام في قول ما. وهذا الكلام المحشور يمكن أن يكون من طبيعة متباينة من حيث التكون ومن حيث التركيب. ففي اللغة المحكية يمكن للنحو أن يدلنا على هذا الجزء المحشور وفي اللغة الكتابية يمكن للخطية أن تدلنا على ذلك"(27). ويتمثل ذلك في يا منازل. إننا نعثر هنا على محسن تركيبي أغنى من السابق. فلنلاحظ وجود نوعين من الجمل بالانتقال من الشطر الأول إلى الثاني. ففي الشطر الثاني نلاحظ وجود جملتين متشابهتين الأولى هي "أقفرت أنت" والثانية هي "هن… أواهل". علينا أن نتجاهل هنا اسمية وفعلية الجملتين لأن التشديد على هذا الجانب قد يطمس الجانب الذي يمثل جانبا تصويريا مهما ويتمثل هذا في البناء المتوازي للجملتين. إن المسند في الحالتين هو منازل. في حالةأقفرت أنت هي منازل الأحبة وفي الحالة الثانية هي المنازل المخصوصة لمنازل الأحبة في القلوب. فإذا كان المسند إليه هو لفظيا المنازل في الحالين فإن المسند هو في حالة الإقفار وفي حال أخرى الأهول. "هن… أواهل" فالمسند إليه هنا متقدم.
ومن المحسنات التركيبية المحسن المعروف بتسمية التوازي: ومن هذا قول المتنبي:
وما التأنيث للشمس عيــــــب ولا التذكير فخر للهــــــلال
ومنه قول المتنبي أيضا:
أذم إلى هذا الزمان أهيلـــــــه فأعلمهم فدم وأحزمهم وغــد
وأكرمهم كلب وأبصرهم عــــم وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد
إن البيت يتألف من مركبات متماثلة تلتزم بنفس الهيكل النحوي. وتتعدى أهمية هذا المحسن مجال الشعر والأدبية. إننا نصادفه في الشعارات السياسية من قبيل مارسوا الحب ولا تمارسوا الحرب. ومن اللعب اللفظي Folle à la messe Molle à la fesse وهذا يمثل واحدا من المحسنات الكبرى التي اعتنى بها النقد المعاصر كما اعتنت بها البلاغة التقليدية. وقد كان التوازي يسمى في البلاغة الغربية القديمة إيسوكولون، ومعنى إيسو تماثل وكولون أجزاء الجملة. وسمي أيضا باريسون، وهو يقابل في العربية التقطيع حسب مصطلح ابن رشيق. وذلك حينما يلتقي التقطيع المتوازي مع التقطيع العروضي.
سأطلب حقي بالقنا ومشايـــــخ كأنهم من طول ما التثموا مـرد
ثقال إذا لاقوا، خفاف إذا دعوا كثير إذا شدوا، قليل إذا عدوا
إن البيت الثاني يتألف من أربعة مركبات معطوفة وهي بالإضافة إلى التزامها نفس البناء التركيبي فإن هذه المركبات المتآلفة تلتزم بنفس الهيكل العروضي. على أن هذا المحسن قد يتخذ أشكالا تبتعد عن هذا الشكل المطرد. ومنه هذا البيت لامرئ القيس:
له أيطلا ظبي وساقا نعامـــــة وإرخاء سرحان وتقريب تتفــل
إن البيتين معا يخضعان لنفس بحر الطويل وزنا وتقطيعا لفظيا. ولذلك فإن له أيطلا ظبي: تلائم بالتمام فعولن مفاعيلن.
ويمكن لهذا التشاكل أن يتخطى حدود تطابق التقطيع اللفظي والعروضي لكي يشمل اتفاق أواخر أطراف التوازي على الاختتام بنفس الحرف، ولهذا ترتكز القافية في آخر البيت بقواف داخل البيت. ومن هذا قول المتنبي:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي وفاض به ثمدي، وأورى به زندي.
ومن أجناس التوازي ذلك الذي يعمد إلى تكرار نفس الكلمات وفيه يختلط التكرار أو الجناس بالتوازي. على أن هذا التكرار لا يندرج ضمن محسن التوازي إلا عندما يرد في بنيات تركيبية متوازنة. فلنتأمل هذا البيت:
وكيف وأنت من الرؤساء عنــدي عتيق الطير ما بين الخشــــــاش
فما خاشيك للتكذيـــــــــب راج ولا راجيك للتخييب خاشـــــي
على الرغم من أن البيت الثاني هو من قبيل التوازي إذ أن هناك مركبين متماثلين نحويا، إلا أن هناك حضور عاملِ تنويعٍ قوي ينفي عن هذا التوازي ما قد يعتوره من رتابة. ويتمثل هذا في قلب ترتيب مجموعة من الكلمات المتكررة مع الاحتفاظ بنفس الهيكل الترتيبي. إن خاشي المتقدمة في الجزء الأول من الموازنة قد وردت متأخرة في الجزء الثاني منها. في حين أن التي تأخرت في الجزء الأول من التوازي قد تقدمت في الجزء الثاني منه.
ومنه أيضا قول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الأمثلة على هذا التوازي المقلوب هذا البيت الجميل لأحيمر السعدي:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى صوت إنسان فكدت أطـيــــــــر
إن الكلمتين الذئب وعوى قد تكررتا بقلب نظامهما التركيبي الأول. هذا مما يكسب هذا التوازي الكثير من الجمال والشعرية.
ويمكن للشعراء أن يتفننوا في هذا إلى غير غاية. بل إن رومان ياكبسون كثيرا ما عمد إلى عنونة مقالاته عن التوازي عناوين متوازية. مثال ذلك نحو الشعر وشعر النحو. ويبدو أن وضع مثل هذه العناوين مما يلفت النظر عند المعاصرين. ومما يشبه هذا البناء المقلوب قول أبي تمام:
مطر يذوب الصحو منه وبعـــده صحو يكاد من الغضارة يمطــر
فقد قلب ترتيب الكلمتين مطر وصحو. ومن هذا أيضا قول شوقي بزيع الشاعر اللبناني:
يسكنها البحر حينا وحينا يحاصرها الماء حتى الثمالة[…](28).
ومن هذا القبيل أيضا هذه المقطوعة الجميلة للشاعر الشيلي بابلو نيرودا:
Pequêna
rosa
rosa pequêna(29)
ينبغي التوقف مع آخر حالة التوازي نقصد به ذلك الذي لا يعمد إلى قلب الكلمات المتكررة وإنما ذلك الذي يعمد إلى قلب الفئات النحوية أو المواقع التركيبية، أو ما يسميه المعاصرون أجزاء الخطاب. فلنتأمل هذا العبارة الشعرية لشوقي بزيع أيضا:
مضى كل شيء إلى البحر
مر المساء ومرت طيور المساء
وهاجرت الغيمة الذهبية في القلب
والشمس في آخر الأفق غابت(30)
ومن هذا أيضا قول الشاعر العباسي ابن الرومي:
طواه الردى فأضحى مـــــزاره بعيدا على قرب، قريبا على بعد
إن ما نلاحظه هنا هو التوازي القائم على قلب الفئات النحوية والمواقع التركيبية فالفعل الذي كان متقدما في الجزء الأول من التوازي قد أصبح متأخرا في الجزء الثاني منه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بقية الأطراف. وتم تقديم الاسم لكي يحتل موقع الفعل وكذلك الجار والمجرور.
ومن هذا النوع قول المثل الفرنسي:
Tel qui rit vendredi, dimanche pleurera(31).
وقد يلتقي قلب نفس الكلمات مع قلب الفئات التركيبية ويقدم شوقي بزيع مثالا على هذا:
رأيت حبيبين سهوا
وطفلين سهوا
وسهوا رأيت المدينة(32)
ومن هذا القبيل العنوان الشهير الذي وضعه كارل ماركس، فلسفة البؤس أم بؤس الفلسفة للكتاب الذي يرد فيه على انتقاد الفيلسوف الفرنسي لفلسفته في الكتاب الشهير الذي سماه فلسفة البؤس. ومن الخطاب الحكمي القولة المأثورة: لا نعيش لنأكل بل نأكل لنعيش. وهناك مفكرين اتخذوا من هذا المقوم الأداة التعبيرية المفضلة لأداء أفكارهم الجدلية والنقدية من هؤلاء المفكر الفرنسي كي دوبور الذي يضج كتابه بمثل هذه العبارات:
Il ne réalise pas la philosophie, il philosophise la réalité.
وعنده أيضا:
La philosophie, en tant que pouvoir de la pensée séparée, et pensée du pouvoir séparé(33).
إلا أن الشعراء هم الذين توسلوا بهذا المقوم أكثر من غيرهم ولهذا فقد رأى فيه الكثير من علماء الشعر المقوم الأساسي للخطاب الشعري.
وهو يستوعب الكثير من المقومات التي كنا نراها متميزة عن بعضها البعض، إلا أن شعرية جاكبسون تجمعها كلها تحت المقوم الكبير المدعو التوازي. وهي لمجرد أنها تتكرر في مواقع نحوية متماثلة تستوقف نظرنا وتشد انتباهنا إلى هذه المقومات. وإن الآثار الأشد بروزا تتحقق على المستوى الصوتي بفضل الأليتيراسيون [ أي الجناس ] والقافية ونبور المقاطع الثابتة وتحقق نفس الصوائـت والمقاطع بأكملها في مواقع بارزة صوتيا، الخ. وعلى المستوى التركيبي بفضل التوازي والمقابلة والتكرار الافتتاحي الخ. وعلى المستوى المعجمي بفضل علاقات الترادف والاستعارة والكناية والمجاز المرسل بين ألفاظ النص(34).