شعرية الرواية التسجيلية العربية القائمة الرئيسية >>
3) الفصل الثالث: تحليل رواية "يحدث في مصر الآن" - قسم 2
"يحدث في مصر الآن" و "الرواية البوليسية
تعريف السخرية
ملامح السخرية في الثقافة العربية
أصل المصطلح
إشكالية التعريف
السخرية في الرواية
1- العنوان كبنية شعرية
2- التضخيم
3- تعريف الكتابة أو عندما تفكر الرواية في ذاتها وحضور السخرية
لعبة الأسماء
أسماء الأماكن
سخرية المؤلف، السارد من أعضاء السلطة
"يحدث في مصر الآن" والرواية البوليسية:
يستعير يوسف القعيد في روايته "يحدث في مصر الآن" بنية الرواية البوليسية لينقلنا إلى مناخ الحصار والتضييق والإدانة الذي يعيشه الإنسان في القرى المصرية.
يتجلى هذا الحضور من خلال عنصرين: أولهما جريمة قتل معلن عنها، ومرتكبها معروف بالنسبة للقارئ، يكاد يعرف بالنسبة لشخصيات العمل. ثانيهما هو توظيف شكل التحقيق والبحث الذي يقوم به الضابط حيث تحضر عديد من المفردات المستعارة من حقل التقصي البوليسي.
ولنا أن نعلم أن النقد الأدبي، حتى حدود الثمانينيات، كان يستبعد الرواية البوليسية من الحقل الأدبي واصفا إياها بالرخص والابتذال.
والحال أن "كثيرا من الأعمال الأدبية، المجمع على رفعتها، قد ظلت لصيقة بالبناء البوليسي بل إن بعض الأدباء الكبار يبحث عن موضوعاته في أخبار الجرائم والقضايا الجنائية التي يسمع بها أو يقرأ عنها"[1].
غير أن الوضع قد تغير حيث لقيت الرواية البوليسية اهتماما من طرف الباحثين والدارسين، فـ "كلود أمي" Claude Amey مثلا قام باستخلاص بنية الرواية البوليسية، وقاده ذلك إلى ثمان وظائف.
والظاهر أنه كان متأثرا بنمذجة "بروب" وإن كانت الوظائف المستنبطة هنا تتخذ في علاقتها بالرواية البوليسية دلالات مغايرة.
فما مدى حضور الوظائف التي استخلصها Claude Amey[2] في رواية "يحدث في مصر الآن"؟
* وظيفة خرق المنع: la transgression de l’interdit
وتظهر من خلال سلسلة من الأفعال غير القانونية التي تقود إلى حرمان الدبيش من الحياة. هذه السلسلة تتمثل في محاولة توزيع المعونة اعتمادا على الحيلة حتى تبقى بين يدي الطبقة النافذة، وإذ يقوم الدبيش باعتماد حيلة السلطة واستعمالها بخرق الرغبة التي بنتها، حتى تنقض عليه لتزهق روحه، دون اعتماد القانون واحترامه؛ فالقانون الوحيد المعتمد هو قانون حفظ المصالح.
وقد شاركت في هاته اللعبة مجموعة من الشخصيات وعلى رأسها رئيس مجلس القرية، والطبيب والكاتب، إضافة إلى الضابط.
* وظيفة تصور الجريمة: La conception du crime
وتجلت بشكل باهت عندما رغب الطبيب في إنهاء الموضوع لما استرجع المعونة، غير أن إصرار "الدبيش" على فضح المؤامرة وقيامه بالمس بالطبيب، جعل الأمر يتطور إلى تصور واضح، وهو معاقبة الجاني بطريقة تحفظ هيبة الدولة، دون أن تكون النية إحداث الموت. وإن كان العقاب الذي أنزل به من الشدة بحيث كان سببا فيما وقع.
* وظيفة الجريمة: Le crime
إن الجريمة الواقعة في العمل الروائي هي القتل. والقتل هو أحد أركان الرواية البوليسية المطلوب تجلية غموضه سعيا وراء القبض على الجاني.
ومادامت مثل هذه الجريمة غير قادرة على اكتساب قيمتها البوليسية " إلا بالقطع الجذري الذي تحدثه، مؤرجحة حكايتها داخل حكاية التحقيق"[3]. فإن الجريمة المرصودة في "يحدث في مصر الآن" لا تكسب قيمتها إلا بارتباطها بالتحقيق الذي يجرى وراءها.
غير أن ما يجب التنبيه إليه، هو كون الجريمة جاءت تتويجا لسلسلة من الأفعال المؤكدة لخلق المنع. ويتمثل ذلك في الرغبة في المحافظة على المعونة. إذ بالرغم من أن المنادي أشاع الخبر بين السكان، الذين دارت بينهم مناقشات حول الحمل وقيمة المعونة، فإن نشر الخبر كان يقابله التكتم على الهدف الحقيقي المرتبط بالرغبة في الحفاظ على المعونة، لأن الحمل لم يكن إلا حيلة لتبقى المعونة بين أيدي الأغنياء. هذا الخرق سيؤدي بدوره إلى خرق مضاد من طرف الدبيش: مما حتم معاقبته التي أفضت به إلى الموت في غياب الاعتماد على الإجراءات القانونية، التي تخول للضابط إلقاء القبض عليه واتهامه ثم تقديمه للمحاكمة.
وبالرغم من أن الضابط وصحبه حاولوا التستر على مقتل "الدبيش"، بتحويله إلى إنسان هارب ومطلوب من العدالة، فإن الخبر انتشر وعلمه الناس "علم الناس بوفاة الدبيش ودفنه في مكان لا يعلمه أحد"[4].
إن الرواية البوليسية تطلعنا على حادثة القتل منذ البداية تقريبا، الأمر الذي يتطلب فحص الأدلة، وتتبع الإشارات للتعرف على الجاني، ومن ثم إلقاء القبض عليه لينال جزاءه سعيا وراء إعادة النظام للمجتمع. وذلك عن طريق تكليف من يتكفل بالتحقيق.
فمن سيضطلع بهذا الدور في رواية "يحدث في مصر الآن"؟*
وظيفة التوكيل: La mandation
إن توكيل أمر تحري أركان الجريمة، والتحقيق فيها كان لصالح الضابط، إذ هو الذي سيقوم بهذا العمل انطلاقا من وظيفته.
يقول المؤلف-السارد عن هذا العمل الذي سينجزه الضابط، مثبتا بذلك وظيفة التوكيل: "عندما احتاج الضابط لعمل تحريات عن الدبيش لم يكن لديه في نقطة البوليس بالتوفيقية معاون مباحث ولا مخبرين، والمفروض أنه احتاج لعمل تحريات حول موضوع ما"[5]
ومادام أن الضابط هو الذي أوكلت له مهمة التحقيق، فقد سار به في اتجاهين: "الأول اعتداء العامل الزراعي على الطبيب، والثاني واقعة هروبه من غرفة الحجز بالتوفيقية في الليلة الماضية"[6]
ترى ما السبب الذي دفع بالمحقق إلى السير بالتحقيق الوجهة التي تقول إن الدبيش فر من الحجز وهو يعلم أن "الدبيش" قتل؟ !
إن التوكيل قد نهض به محقق بيروقراطي يشتغل ضمن سلطة تسعى إلى حماية مصالحها. طبيعي أن يسلك مسلكا مضادا للتحقيق، رغبة في إبعاد التهمة عنه وعن صحبه، وقد أشار رئيس مجلس القرية بما يوضح ذلك حيث قال: "الفلاحين اللي مش عاجبينكم أصناف الآدمين عندهم مثل يقول: ماشافهومش وهم بيسرقوا شافوهم وهم بيتقاسموا، هل نطبق المثل ده أحنا. العدو واحد والخطر واحد، لازم نتحد في مواجهة المصيبة، دا مطلب أساسي لا يوجد اختيار. أنا ضد أي خلافات. الباقين لازم يسكتوا، أعتقد أن حضرة الضابط يقدر يقفل أي فم بالتهديد أو حتى الحبس أو الغرامة. لا أقبل أن العملية تنقلب ضد كدا.."[7].
واضح، إذا، أن العملية المتبعة هي من أجل إبعاد التهمة، وأن الضابط الذي يقوم بالتحقيق يمتلك صلاحيات إسكات أي صوت بالتهديد. بمعنى أن كلام الرئيس يشير إلى اتحاد الأطراف المجرمة، واتفاقها على إبعاد التهمة عنها اعتمادا على ما يمتلكه الضابط من قوة.
إن الضابط، عوض القيام بالبحث والتحري، قصد بلوغ الهدف، كما يقوم بذلك المحققون في الروايات البوليسية، يعمد إلى طمس الحقائق ليبقى النظام معلقا إلى حين.
وعن هاته المفارقة التي تميز رجلي السلطة هنا وهناك يحدثنا إلياس خوري بوضوح شفاف حيث يقول: "السلطة هي جهاز من خارج المجتمع، من خارج علاقاته، لذلك فهي كجهاز لا تملك أي تبرير إيديولوجي لشرعيتها. ومن هذه الزاوية يصير رجل البوليس الذي يفترض في الإيديولوجيا أن تقدمه على أنه صورة الخير صورة للعسكري الذي ينهب القرى ويستولي على المحاصيل ويجرف السهول ويهتك كل الحرمات.
…وبقيت الشخصية البوليسية الشجاعة هي تلك الشخصية القادمة من الأفلام التلفزيونية والسينمائية الأجنبية، وحتى حين ترجمت القصص البوليسية، فإن رجل البوليس بقي يحمل اسما أجنبيا"[8].
هكذا يقدم صورة سيئة عن رجل السلطة حين يقول: "البوليس واللص، العدالة وقاطع الطريق، ربما كانت الآية معكوسة، حيث يلعب الخارج على القانون دور العدالة آتيا من ذاكرة بدأت تنضب(…) البوليس واللص يصيران إلى وحدة لا ضدية فيها من حيث الشكل، السرقة من فوق تلتحم بتحت، والسرقة من تحت تقود إلى فوق، وللسرقتين جهاز واحد يستطيع أن يعطيها القوة وليس الشرعية: إنه جهاز الدولة، فجهاز الدولة لا شكل له لأنه يحمل في داخله جميع الأشكال بعد أن أفرغها من مضامينها، فتحول إلى أشكال مجردة أي إلى قمع مطلق"[9].
ليصل إلى النتيجة التالية، وكأني به يتحدث عن الضابط في الرواية: " وهذا القمع لا قواعد له ولا أصول، إنه قمع سياسي وقمع اقتصادي وقمع اجتماعي، إنه كل شيء دفعة واحدة. لقد ألغت السلطة الفصل بين كل شيء، فصارت هي كل شيء، هي اللص والبوليس، السارق وقاطع يد السارق، المجرم والقاضي، وبذلك لم يعد هناك من هالة إلا هالة الرمال حيث الرؤوس تنحني فلا ترى إلا الأحذية والرمل (…) فرجل البوليس لا يملك وقتا يضيعه من أجل أن يحجب ويقنع، إنه مشغول بمهماته الكبرى، مهمات سرقة المحاصيل وتدمير الغلال، لذلك فهو لا يأبه لصورته. يكتفي من المرآة بالأفلام الأجنبية، ومن القصص بتلك التي تمجده، ويقيم مجتمعا محطما، وفوق أشلاء هذا المجتمع هناك عرش ورئيس وصورة وحذاء وعصا"[10].
إن الصورة التي قدمها الباحث تتقاطع بشكل جلي ما قاله الدبيش في حق الطبيب:
"حاميها حراميها"[11]، الأمر الذي يدل على أن الجهاز البيروقراطي فاسد وغير مؤهل لأن توكل إليه مامورية بحث النازلة، إذ كيف يمكنه القيام بذلك وهو غير محايد؟ !
وظيفة التحقيق: L’enquête-chasse à l’homme
تعد وظيفة أساسية cardinale، حيث تستغرق عددا جما من الوظائف الأخرى كيفما كان حجمها. إضافة إلى أنها تعطي المساحة الكبرى للعمل البوليسي، وبناء عليه تعد المكان المفضل للقصة وما تعرفه من تأخيرات، وانعراجات، ومفاجآت وتشويقات، والتحقيق يهدف إلى تحقيق إنجازين أولهما معرفي: cognitif فمسعى المحقق هو استجلاء لغز الجريمة، وثانيهما نفعي: pragmatique لأنه مدعو إلى إلقاء القبض على المتهم أو الجاني.
فكيف تحققت هاته الوظيفة في الرواية؟
لقد تم إخبارنا أن الضابط قام بتحقيق ذي مستويين: 1) تحقيق في واقعة اعتداء الدبيش على الطبيب، و2) تحقيق في واقعة هروب الجاني من الحجز.
إننا نجد أنفسنا أمام تحريف لفعل التحقيق، لأن المفروض هو القيام بعملية التعرف على أسباب وفاة الدبيش وعلى القائمين بفعل الجريمة، غير أن الطرف الفاعل في التحقيق أي الضابط هو الفاعل الرئيسي في الجريمة، وبهذا اجتمعت فيه صفة الخصم والحكم، وهو أمر غير مقبول، ولتحقيق مشروعية وظيفة التحقيق بالنسبة للضابط فإنه سيقوم بتحويل مجرى البحث من القتل إلى الهروب، عبر تشكيل مسرحية هزلية لذر الرماد في العيون، وتأمين النفس من العواقب الكائنة والمحتملة.
هكذا يقوم الضابط بتشكيل الشهود وتحفيظهم الشهادة المطلوبة، إضافة إلى القيام بعملية تدوين أقوالهم وفق ما يريد، والسماع إلى شهادة أقرباء الضحية من مثل زوجته، وصديقه والتركيز، في أقوالهم، على ما يخدم القضية وفق السيناريو المحبوك. فضلا عن اعتماده على كل الوثائق التي تثبت تورط الدبيش في أعمال منافية للقانون.
إن التحقيق، إذا كان يرمي إلى فك اللغز، والتعرف على الجاني قصد إلقاء القبض عليه، فإنه في هذا العمل يسير وراء إخفاء الجريمة وتحويلها لغزا من طرف جهاز بيروقراطي فاسد.
وظيفة المواجهة الناجحة: L’affrontement victorieux
تسعى هاته الوظيفة إلى إظهار انتصار المحقق وتفوقه على الجاني، عبر كشف الدلائل التي تثبت تورطه، سعيا وراء إعادة النظام القانوني السابق على الجريمة.
وإذا كان الهدف هو ما تم ذكره، فإن المواجهة في رواية "يحدث في مصر الآن" تنقلب رأسا على عقب، حيث إن الجاني يصبح هو المجني عليه ومن ثم البحث على كل الدلائل والقرائن التي تثبت ذلك بغية توريطه وإدانته.
إننا نجد الضابط وصحبه يعملون على طمس الدلائل والحقائق التي تثبت تورطهم في مقتل "الدبيش"، ويقومون بإنشاء دلائل وحقائق أخرى مستخرجة من أفواه الشهود وبطون الوثائق، تشير إليه على أنه عنصر خطير يهدد أمن الدولة.
إن ادعاء الضابط قيامه بعمل متميز، كان يمكن أن يكون ظاهرة لولا الزمن الضيق، ثم الانتصار الذي شعرت به الأطراف المتورطة في مـقتل العامل الزراعي، ليؤكد على أن الرواية تسير في الاتجاه المعاكس للرواية البوليسية، لأن الرواية، هنا، خاصة في هذا الجانب، تروم تهديم النظام لا إعادته.
يخبرنا المؤلف-السارد بالتالي: "اللحظة التالية كادت تفسد الاتفاق كله، تساءل رئيس القرية عن مصير التحقيق، ضحك الضابط قال إنه سيؤشر عليه بالحفظ لعدم وجود شخص يحمل هذا الاسم، وأنه قام بالتحقيق بناء على بلاغ كاذب من إحدى الجهات، أو الأشخاص ويجب معاقبة هذه الجهة، اعترض الدكتور. حفظ الورق في أي جهة خطر عليهم جميعا، ويجب إعدام الأوراق الآن. رفض الضابط قال إنه لو انكشف الأمر فيما بعد ستكون هذه الأوراق دليل براءتهم الوحيد. كادوا أن يصلوا إلى حافة النزاع، أتى الحل سهلا، ستوضع الأوراق في الخزينة الخاصة بمجلس القرية في عهدة رئيس القرية"[12].
يوضح المقتطف السابق أن الأطراف المتورطة تمتلك أدلة وبراهين على تورطها اختلفت بشأنها إلى حد النزاع، لتصل، في النهاية، إلى حل يؤمن براءتها، إن الأدلة والبراهين يتم تحريفها لتصبح برهان براءتهم. وبذلك تفقد وظيفة المواجهة الناجحة، في هذا العمل، قيمتها.
وظيفة العقاب: la punition
في ظل ترابط الوظائف وتسلسلها، فإن وظيفة العقاب غير ممكنة لأن الأطراف المتورطة في الجريمة قد حادت عن الحق، وعملت على تحريف الأدلة الفاضحة لها. ذلك أن المسعى من التحقيق هو إدانة المجني عليه بجعله جانيا ويجب القبض عليه ومعاقبته.
من هنا، يتبين أن الرواية القعيدية لا تشتغل كالرواية البوليسية الساعية إلى تحقيق النظام أو إعادة التوازن المفقود إليه من جراء الجريمة، وإنما تروم تكريس اللانظام قصد إدانته. فلو تم إنزال العقاب بالجناة لأصبحنا تجاه عمل يغلب عليه طابع الرواية البوليسية، لكن القعيد يعمد إلى الاستفادة من هذا النوع من الأدب قصد استخلاص اللاعدل.
وظيفة المكافأة: La récompense
في ظل غياب التحقيق العادل، رغم وجود الأدلة المورطة للجناة، فإن العقاب يظل معلقا إلى حين، وكذلك الشأن بالنسبة للمكافأة، إذ لا يعقل أن تتحقق هذه الوظيفة و الجناة محميون من طرف الجهاز البيروقراطي الذي يضمن لهم الاستمرار.
وبناء عليه، يتضح أن الرواية لم تعمد، كما الرواية البوليسية، إلى البحث عن النظام قصد إقراره بعد خلخلته، بقدر ما رامت إشاعة اللانظام بغرض إدانته.
تعريف السخرية:
ملامح السخرية في الثقافة العربية:
إذا كانت المفارقة إحدى ركائز السخرية، فإن الحديث عن السخرية يعد مفارقة في حد ذاته، لكون السخرية تعد من الكبائر، إذ وعد الله الذين يخوضون فيها بعذاب أليم، حيث قال: الذين يلزمون المتطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم" (سورة التوبة آية 79)
والمبدأ المعتمد في تحريم السخرية مبدأ أخلاقي اجتماعي؛ لأن السخرية تسعى إلى التحقير والفضح والتشهير، وهي عناصر لا يمكن أن تتحقق إلا في المجتمع الطبقي؛ في حين يسعى الإسلام إلى تحقيق المجتمع (الملحمي) أي المجتمع المتماسك كأسنان المشط انطلاقا من كون الناس من منشإ واحد: "يا أيها الناس إنـا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات أية 13)
غير أن هذا لم يمنع علماء المسلمين من مناقشة جدوى السخرية والفكاهة والمزاج اعتمادا على الفكرة التي تذهب إلى أن الجد الدائم قد يحمل العقل على الجمود والجفاف، وأن السخرية أوالفكاهة أو المزاح باب للعقل ينفذ منه نحو فضاء الحرية قصد استعادة نشاطه؛ بشرط أن تكون المتعة المتحققة مجدية، وألا تكون الحياة كلها مزاحا أو تفكها أو سخرية فحسب، وقد أباحوا السخرية والمزاح ما لم يكونا سفها، لأن الله سبحانه وتعالى قد وعد في "اللمم" بالتجاوز والعفو حيث قال: "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة" ( سورة النجم الآية 32).
إن أزهى فترة للسخرية في الأدب العربي ارتبطت بالعصر العباسي، الذي شهد حركة فكرية وأدبية شاملة، كما احتدت فيه التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية.
وقد قامت السخرية بكشف انقسام المجتمع الإسلامي إلى طبقات ووجود حرف متعددة، حيث لكل حرفة نوادرها "فالقضاة والفقهاء والمحدثون وأئمة المساجد والوعاظ كانوا هدفا للحكايات الساخرة، بل لم يسلم الخلفاء أنفسهم من حكايات تعرض بهم أو تعبر عن رأي في سياستهم وشخصياتهم…"[13] ومن أبرز الشعراء الساخرين في الشعر العربي " أبو دلامة" الذي كانت وظيفته ترتبط بإضحاك الخليفة والحاشية ولا يتورع في توجيه سهام السخرية إلى نفسه رغبة في التخلص من بعض المواقف الحرجة التي يوضع فيها.
ومن الأدباء الذين ساروا على هذا النهج، بديع الزمان الهمداني في "مقاماته" التي جمع فيها بين النقد الساخر للمجتمع والتوظيف الأسلوبي والفني…
وعليه يمكن القول إن الثقافة العربية قد زخرت بألوان ووجوه متنوعة من وجوه السخرية. غير أن ما يلاحظ هو ذلك التهميش الذي لحق السخرية من طرف الكتابات النقدية مما جعل "إمكانية اجتراح مصطلح أو مفهوم بلاغي دقيق، ينظم ويختزل طرائق التعبير الساخر على اختلافه، غير ذات أهمية بالنسبة للبلاغيين، على عكس الأشكال البلاغية كالتشبيه والاستعارة والكتابة والمجاز وغيرها التي كان يتعامل معها الفكر البلاغي عموما"[14].
ويكمن تفسير هذا الإهمال بكون أشكال التعبير التي اعتمدت الإضحاك والسخرية كانت دوما أشكال تعبير شعبية وجزءا أساسيا من ثقافتها الجماعية، إذ تعد وسيلة الناس لتفريج كربهم من القهر المسلط عليهم، وطبيعي أن تعرف هاته الأشكال التعبيرية مضايقات من الجهات الرسمية بدعوى أنها أقل شأنا من الأنواع الجادة مما نتج عنه إقامة تمايز بين ما هو رسمي، مقبول ومعترف به، وبين ما هو شعبي مستبعد إلى حدود الرفض، وبهذا نحصل على نوعين من البلاغة: "البلاغة الرسمية" والبلاغة المقموعة "التي أنتجتها المجموعات الهامشية التي لعبت دور المعارضة والتي كانت على خلاف مع سلطة "الدولة" القائمة، ابتداء من الدولة الأموية وانتهاء بالدولة المتأخرة التي صحبت انهيار الحضارة العربية"[15].
أصل المصطلح:
لقد ترعرعت السخرية بين أحضان الفلسفة لا الأدب؛ قبل أن تنتقل إلى النظرية الأدبية والدرس البلاغي، وهو ما توضحه الباحثة نبيلة إبراهيم وهي تروم تقديم تعريف لها حيث تقول: "وردت كلمة Eironeia في جمهورية أفلاطون على لسان أحد الأشخاص الذين وقعوا فريسة محاورات سقراط، وهي طريقة معينة في المحاورة لاستدراج شخص ما حتى يصل إلى الاعتراف بجهله وكانت الكلمة نفسها تعني عند أرسطو الاستخدام المراوغ للغة، وهي عنده شكل من أشكال البلاغة، ويندرج تحتها المدح في صيغة الذم والذم في صيغة المدح"[16].
إضافة إلى ما سبق نستشف أن السخرية تتميز باستعمالها المراوغ للغة والذي يظهر في صورة قلب دلالي أو تعارض.
وحين تم انتقال السخرية إلى الدرس البلاغي تم التعامل معها كمجاز Trope والذي يصنف بشكل عام "انطلاقا من معيار تعايش مستويين من المعنى في دال واحد، كما أن نوع المجاز يتحدد انطلاقا من نوعية العلاقة التي تربط بين هذين المستويين"[17].
هكذا أدرج Vossius السخرية ضمن المجازات الرئيسية*، أما كنيت بيرك K. Burke فقد اعتبرها من بين المجازات الرئيسيـة الأربعة والتي هي: الاستعـارة والكناية والمجاز المرسل والسخرية[18].
كما أن الباحثـة كيربر أريكشيونـي Kerbrat arecchioni Cathenine قد نظرت إلى السخرية باعتبارها مجازا يجمع بين الخاصية الدلالية والتداولية، فقد لاحظت أن السخرية، من حيث المكون الدلالي، تستعمل بنية قلب المعنى، أي أن العلاقة بين المعنى الحر في الظاهر، والمعنى المشتق المضمر، علاقة تضاد وتعارض ومفارقة.
إشكالية التعريف:
إذا كانت السخرية بما هي رديف "الهزء والضحك من الناس أمر منهي عنه وفق التصور الديني، باعتبارها نوعا من الاستعلاء والتسلط والإذلال"[19]. فإن تتبع المعنى المعجمي لكلمة السخرية في معاجم اللغة العربية "لا يسعف تماما في فهم طبيعة السخرية الأدبية، وإدراك آليات اشتغالها"[20].
فقد جاء في تعريف ابن منظور للهزء قوله: "الهزء والهزء: السخرية، هزئ به ومنه… وتهزأ واستهزأ به: سخر. والسخرية كما جاءت في لسان العرب: سخر منه وبه سخرا وسخرا وسخرا وسخرة وسخريا وسخريا وسخرية: هزئ به… والذي في الزخرف: "ليتخذ بعضكم بعضا سخريا" عبيدا وإماء، وأجراء. وقال: خادم سخرة، ورجل سخرة أيضا: يسخر منه.*.
وعليه تكون السخرية أو الهزء شكلا من أشكال القهر والإذلال، وكسرا لانتفاخ الأنا من خلال تتبع العيوب والنقائص.
ومن هنا نصل إلى أن: "الوقوف عند الكلمات الحافة لمفهوم السخرية في لسان العرب لا يسعف بدوره في رسم الحدود الدقيقة بين هذه الأشكال اللفظية التي تصير مرادفات لبعضها البعض دون أن تستقر عند مفهوم محدد"[21].
والملاحظ أن الاضطراب في مفهوم السخرية موجود في الثقافة الغربية نفسها، يوضح الباحث د.س ميوك D.C Muecke أنه "لأسباب مختلفة، بقي مفهوم السخرية مفهوما غير مستقر، مطاطا وغامضا. فهو لا يعني اليوم ما كان يعنيه في القرون السابقة، ولا يعني نفس الشيء من بلد إلى آخر، وهو في الشارع غيره في المكتبة، وغيره عند المؤرخ والناقد الأدبي، فيمكن أن يتفق ناقدان أدبيان اتفاقا كاملا في تقديرهما للعمل الأدبي، غير أن أحدهما قد يدعوه عملا ساخرا، في حين يدعوه الثاني عملا هجائيا satirique أو هزليا comique أو فكاهيا Humoristique أو مفارقا paradoxale أو غامضا Ambiguë "[22].
غير أن الأمر لم يعد كذلك بفعل اهتمام الدارسين بالسخرية وامتداد مجال فاعليتها.
فحين يتلفظ X بـ A، فإنه يفكر بعكس A، ويرغب في أن يسمعنا عكس A[23]، الأمر الذي يجعل السخرية تتميز بالمفارقة والالتباس وازدواجية المعنى Ambivalence ، وهي تختلف كثيرا عن الكذب الذي يتلفظ به Xب A ويفكر بعكس A، ويرغب في أن يسمعنا A، وقد عدت السخرية "كذبا معكوسا يتخذ قناع الحقيقة"[24]. كما أنها تختلف عن الاستعارة في كونها تقوم على التضاد la contradiction أما الاستعارة فتقوم على المشابهة ressemblance بين طرفيها*
نستنتج أن السخرية تركز بالأساس على مفهوم الضد contraire أو التضـاد la contradiction الحاصل بين معنى واضح وجلي ومعنى غامض ومضمر، وتعتمد على بنية قلب المعنى l’antiphrase كبنية مركزية لها.
غير أن الباحثة أوريكيشيوني لاحظت، من خلال تتبعها للغة الواصفة الموظفة في الخطاب الصحفي أو العادي، أن هناك مجموعة من الصعوبات تعترض الدارس عند الحديث عن قلب المعنى، تتلخص في مشكل تشخيص ووصف طبيعة علاقة التضاد والتعارض هاته في تلك الخطابات. إذ أن غالبيتها اعتمدت السخرية دون الاعتماد على التعارض الدلالي، ولا حتى أية مسافة دلالية، لقد جاءت هازئة فقط. كما أن بعضها الآخر قام بتوظيف بنية المبالغة Hyperbole أو التلطيف La litote لا غير.
من هنا وجوب استحضار المكون التداولي الذي يستلزم حضور القصدية intentionnalité. وقد أشارت أوريكشيوني إلى أن المكون التداولي أكثر هيمنة قياسا إلى المكون الدلالي حيث تقول: "إن قيمة التداولية لمتوالية ما أكثر من قيمتها الدلالية هي التي تجعلنا نحس أنها ساخرة، فأن نسخر معناه أساسا أن نستهزئ أكثر من أن نتكلم بالتضاد"[25].
ومن الإشارات التي طرحتها أوريكشيوني، التي يمكن أن يعتمدها القارئ في فك سنن الرسالة الساخرة، نوعان من السياق:
السياق اللغوي contextelinguistique بواسطته نحدد شكل ( قلب المعنى).
السياق الخارج لغوي: Extra linguistique الذي يتمثل في رأيها في شيئين:
أ-في التناقض بين النيات المتخذة وبين ما نعرفه أو نلاحظه عن المرجع. فالمثال "ما أجمل هذا الطقس !" يوضح ذلك، إذ أن المتلقي إذا استقبل هذه الجملة في شروط أحوال جوية سيئة سوف يفهم الجملة على أنها حاملة لمعنى آخر بحكم عدم مطابقتها لواقع أحوال الجو، ومن ثمة سيؤولها باعتبارها جملة ساخرة.
ب- التناقض بين البنيات المتخذة وبين ما نعتقد أننا نعرفه عن المتكلم، سواء ما يتعلق بشخصه وبأيديولوجيته وبخصائصه النفسية وكفاءته الفكرية…"[26]
إن التواصل الساخر يعتبر تواصلا معقدا في تسلسله، الأمر الذي يتطلب من القارئ:
"1- أن يتحقق من وجود قصد ساخر لدى المؤلف، وهو ما يفترض الاسترشاد ببعض العلامات الخاصة.
2- القيام بفرز المعاني المضمرة المحتملة قبل:
3- اختيار الدلالة الساخرة الممكنة بطرح المعاني الأخرى أو المعنى العرفي الأوحد"[27].
لذلك تخبرنا لندا هوتشون L. Hutcheon أن "السخرية هي في الوقت نفسه بنية لقلب المعنى واستراتيجية تقويمية تضمن موقف الكاتب المسنن إزاء النص نفسه، موقف يستدعي من القارئ مفكك السنن تأويل وتقويم النص الذي هو بصدد قراءته"[28].
ومن أجل تفكيك الرسالة الساخرة لابد أن يتوفر القارئ على ثلاث كفاءات وهي:
"1- الكفاءة اللغوية.
2- الكفاءة البلاغية: أي معرفة القارئ المعايير الأدبية والبلاغية أو قوانين الخطاب.
3- الكفاءة الإيديولوجية: أي المعارف والمعتقدات وأنظمة الرموز والقيم التي من شأنها أن تجعل القارئ في واقع يقربه من معرفة أهداف الكاتب ومقاصده الإيديولوجية التي تجعله يسخر من أشياء لا يتوافق معها"[29].
إذا كان معيار التضاد يساهم في تفكيك الرسالة الساخرة، فإنه يبقى شرطا غير ضروري مثلما هو الحال بالنسبة للمكون التداولي، وذلك لكون السخرية قد تتولد دونما ضرورة إلى الانتقال، سواء على مستوى الإنتاج أو التأويل، من المعنى الحرفي الأول إلى المعنى المشتق الثاني، الأمر الذي يدعو إلى اعتماد معايير أخرى تقوم بتفسير اشتغال فاعلية السخرية الأدبية. من ذلك اعتبار السخرية استرجاعا.
فالاسترجاع، على العموم، ينهض على اعتبار السخرية حوارا مع موقف أو رأي سابق، ففي المثال التالي، الجو جميل ! إذا تم النطق بها في سياق غير مناسب لمنطوق اللفظ كسقوط المطر، فهو استرجاع للرأي الذي يدعي أن الجو سيكون جميلا، وعليه يساهم الاسترجاع في إصدار حكم لنسفه بطريقة غير مباشرة، ودون أن يبدر من المتكلم ما يدل صراحة على معارضته لذلك الحكم.
هذا إضافة إلى وضع المتلفظ بالجملة موضع تساؤل في قدراته على تقديم التوقعات، أو ببساطة، قول شيء له علاقة بالواقع.
يمكننا الاسترجاع، إذا، من تفسير عدد كبير من الأمثلة استعصت على نظرية المجاز، فضلا عن كشفه للجانب الحواري في السخرية وجعله في المقدمة، مما يظهر حيويته وخصوبته*.
والانتقاد الموجه إلى الاسترجاع يتمثل في أن "الاعتداد بمبدأ الحوارية في هذه النظرية يعني التسليم بأن الخطاب بجميع أنواعه يتأسس على السخرية، طالما أن الخطاب مشحون بأقوال الآخرين الصادرة في مواقف وسياقات اجتماعية مختلفة ومسكون بأصوات متعددة يزاحم بعضها البعض، وهذا ما يتعارض مع الفكرة القائلة بتميز وتفرد الخطاب الساخر"[30].
كما أن هاته المقاربة ترتكز في عمقها على التعارض و التضاد ولم تفعل أكثر من إضافة خاصية ثانوية إلى الظاهرة كما وصفت من قبل اعتمادا على التضاد".
ومهما يكن من أمر، فإن كل المقاربات تبقى ضرورية قصد القبض على المعنى الثاوي في الإرسالية الساخرة والذي يعد أكثر ورودا وقابلية.
السخرية في الرواية:
لعل من أبرز الملاحظات التي يمكن أن يخرج بها القارئ لرواية "يحدث في مصر الآن" اعتمادها استراتيجية السخرية، بما هي فعل عدالة تفضح المسخ وتسعى إلى تقويم الاعوجاج، وترغب في تصحيح ما يسيء إلى الحقيقة، إنها لا تستتر على النقص وتخفيه، بل هي تفضح الاعوجاج وترغمه على الظهور والتجلي، ف "الفضح كآلية من آليات إنتاج السخرية يتغيا الإبحار عبر عاهات الإنسان ونزواته ومتاهاته الشخصية.. لدفعه إلى اكتشاف مفارقاته، ومن ثم التخلي عن خيلائه، وبذلك فهو يخدم السخرية بما هي كسر لانفتاح الأنا"[31].
وبما أن الرواية ذات بعد اجتماعي، أي أنها تسعى إلى رصد واقعها بإشكالاته للكشف عن الأعطاب التي تحيط به، فإنها قد اتخذت السخرية سلاحا بلاغيا لتعرية الجوانب المعتمة من منطقة الضهرية الريفية.
سيكون مسعانا، هنا، الوقوف عند بعض ملامح هاته السخرية الحاضرة في النص الروائي من خلال:
1-العنــوان كبنية شعرية:
يتكون العنوان من جملة فعلية فعلها مضارع محدد الزمان والمكان بفضل حضور لفظة "الآن" إلى جواره، هاته اللفظة تجعل القارئ في عمق الفترة الزمنية التي تسعى الرواية إلى تتبعها.
إلا أن هاته العتبة لا تمهد لقراءة بسيطة يسيرة، بقدر ما تحدث توترا بين محفل الإنتاج ومحفل التلقي، الأمر الذي ينتج عنه سخرية أدبية بفعل الاختلاف الحاصل بين التوقعات الناشئة بين العنوان ومضمون النص، ذلك أن القارئ يسعى، وقد سلمته تلك العتبة إلى النص الكبير، إلى فهم ما يدور ويجري في مصر لحظة ما تشير إليه "الآن" غير أنه سيلف بالغموض لأنه لن يعرف ماذا يحدث. إن السخرية تتولد من خلال الحركتين المركبتين للنص، أي المد والجزر، واللتين ستصيبان القارئ الملهوف، بالدوار، لأن توقعاته ستخيب مما يحتم عليه إعادة القراءة قصد تشكيل أفقه من جديد حتى يستجيب لمتطلبات القراءة الحديثة المواكبة للكتابة الجديدة.
إشكالية التجنيس الأدبي:
لم يذيل غلاف الرواية بأية إشارة تحيل على مرجعها النوعي، الأمر الذي يزيد من ذلك التوتر الذي لاحظناه على مستوى العنوان، ويضيف إلى حيرة المتلقي حيرة أخرى، خاصة وأنه اعتاد التعيين الإجناسي قبل أن يدلف إلى قراءة العمل، أما في هذا العمل فإنه يصاب بالدوار، مما يحتم عليه، إن أراد إشباع فضوله، تقليب الصفحات ليجد ما يطمئن فؤاده ويروي عطشه.
ولا ريب أن الكاتب تعمد إغفال التعيين وعيا منه بأنه بصدد بلورة كتابة لا تذعن للتصنيف السابق، لاسيما أن "ليس هناك تعريف محدد قاطع للشكل الروائي، وليس هناك صيغة أو صفة جاهزة نهائية تحدد لنا أدبية الأدب، بل تتنوع الأشكال وتنمو وتتجدد بتنوع التجارب والدلالات ونموها وتجددها"[32].
إضافة إلى كون الصفحة الأولى تستحث المتلقي على المشاركة في كتابة الرواية، بمعنى أن العمل قيد الإنجاز، وبالتالي فإن التعيين الإجناسي سيكون سابقا لأوانه.
وبناء على ما سبق نجد أن هذا العمل يطرح بعض التساؤلات:
1-هل يسعى الكاتب، من خلال إغفال التعيين، إلى خلخلة توقعات المتلقي بالإتيان بما لم يتعوده؟.
2-هل يميل إلى التأكيد على أنه بصدد كتابة رواية جديدة تنزاح عن السائد وعن عمودية الرواية السابقة؟.
3-هل يرغب في التنبيه إلى كتابة تقيم علاقة بين المتلقي والمؤلف في عملية الإيجاد؟.
هذه بعض من أسئلة تنبع من غياب التعيين الإجناسي، وهي أسئلة تجد أجوبتها في كون هذا العمل يميل إلى خلخلة المطرد وزعزعة أفق المتلقي ودفعه إلى إعادة صياغته وفق متطلبات الكتابة الجديدة. وهي إذ تفعل ذلك فإنها في الوقت ذاته تسخر من التلقي المتقوقع في مقاييس سابقة ينطلق منها لقراءة أي عمل فيحتضنه بالقبول إذا استجاب لأفق انتظاره، ويطرحه بعيدا إذا انزاح عن المألوف والمعتاد.
إشكالية تسمية المؤلف:
إن إشراف اسم المؤلف على غلاف الرواية يروم تثبيت شرعية النص حتى لا يوسم باللقيط، خاصة أن القارئ لا يستسيغ نصا مفارقا لمؤلفه حتى لا يبقى معناه مرتهنا.
وقد جاء اسم المؤلف قابعا تحت عنوان الرواية، وإذا كان الأمر معتادا، غالبا، وهو ما جرت به العادة، فإن ما يربك التلقي هو إدراج هذا الاسم داخل النص الروائي، مما نتج عنه الأسئلة التالية:
1-هل الاسم الذي على ظهر الغلاف هو نفسه المشار إليه داخل النص الروائي؟
2-هل هناك اختلاف بين الاسمين؟
3-ما هوية الشخصية التي تحمل اسم المؤلف داخل النص الروائي؟
4-ما الغاية من إطلاق اسم المؤلف على شخصية حاضرة في النص الـروائي؟…
إن المؤلف في هذا العمل، إذا، "يتدخل في الرواية لا بالتعليق على الأحداث فحسب، بل باللقاء المباشر مع أشخاصها والحوار معهم ثم بتعميق الدلالة العامة للرواية"[33]
وهو تدخل لم تألفه الذائقة السابقة، ولم يتعوده القارئ فيما سلف، والإقرار بتطابق حاصل بين الاسم الموجود على الغلاف وبين الشخصية الحاملة له داخل العمل الروائي ستنتج عنه سخرية من طرف الكاتب، لأن مثل ذلك الأمر يغفل عنصرا مهما، وإضافة نوعية، وهي التوقيع الداخلي Signature intérieure، "والتي ترتقي باسم المؤلف من مستوى غير دلالي إلى مستوى دلالي يجعله يتعايش مع الدلائل النصية، ويموت ضمنها، بعدما يمدها بنبضات حية، ومن ثم ينشط، وينقاد للقراءة، بعد ما كان مجرد إشارة تنبه إلى درجة شهرة المؤلف"[34].
إن اسم الكاتب الذي على ظهر الغلاف والموسوم بسلطته يتم تجريده منها بجعله مجرد دليل ألسني يفقد تعاليه ويتنزل منزلة باقي الشخصيات ويتساوى مع باقي الدلائل النصية، ويمتلك ما تمتلكه من قوة وحضور دون تسلط أو طغيان، وهكذا لا يرتهن بأية مرجعية ثابتة، كما أنه يؤسس لشعريته الخاصة بوضعنا قبالة أحد مكامن أدبيته، "إن تدخل المؤلف باسمه هذا التدخل المباشر لا يلغي الطابع المتخيل في الرواية، بل لعله أن يضاعفه، ذلك أن تدخله يستشعر كحيلة فنية لتأكيد واقعية الحدث الروائي…"[35].
2- التضـــخيم:
قلنا سابقا إن السخرية تتغذى من المفارقات وتعمل على تفجيرها سعيا وراء إعادة الأمور إلى نصابها بعد أن كانت تمشي على رأسها، وهي إذ تعمد إلى ذلك فإنما لنصرة الحق والعدل.
وتقوم السخرية، إضافة إلى ذلك، بالتغلغل عميقا في مفارقات الواقع حيث تقوم بتضخيم بعض الجوانب بشكل كاريكاتوري بغية تجلية الأمور السلبية وانتقادها، وسنعتمد على ما ورد في الرواية لإبراز ذلك* وكمثال واحد نشير إلى هذا المقتطف: "في الليل داروا على الذين ينتظرون حدوث معجزة، الشيخ عبد ربه كفيف، أخبروه أن في البواخر عيونا للعميان. رئيس القرية يضايقه صلع يزحف على كل رأسه، في أمريكا زيت يكفي أن تمر به على الرأس لكي يطلع الشعر بعد يوم السبت نفرسة عاقر. لفت الدنيا ولم تنجب، ابتسم الزائر وقال: في البواخر علاج بجعلها تنجب سبعة من الذكور وثلاث بنات كالبدور. وتحرك الكل، الكسيح والمصدور...." ص36.
تظهر ضفيرة السخرية المنسوجة بإتقان من عدة خيوط تشير إلى ما يطبع المقتطف الأول (36-37) من مفارقات متعددة المناحي، يلعب فيها السجع دورا فاعلا في إضفاء الطابع الموسيقي الساحر، الذي يقود الجماعة منومة إلى بيع حاضرها ومستقبلها جريا وراء سراب خلب، رامية ظهريا ماضيها المليء بالفواجع والآلام والتضحيات. فلنقم ببسط بعض عناصر هاته الضفيرة حلا، رغم مخاطر إطفاء جذوة هاته السخرية المرة.
تحضر المفارقة الزمنية لتؤسس ما سينهض عليها من مفارقات تطبع الزمن الحاضر والمستقبل معا، في تناقضها الفاضح مع الزمن الماضي، وتبلغ ذروة هذا التناقض في إشارتين:
1-لف جسم الفتاة الصغيرة، بنت أحد الشهداء، بالعلم الأمريكي (التطويق).
2-التفكير في تسمية إحدى القرى بنيكسون بعد رغبة سابقة في تسميتها بقرية الشهداء (التحريف).
تمهر اللحظة الحاضرة والقادمة بطابع الحلم الأمريكي الجارف، فمعامله شغالة بإنتاج الأحلام الساعية إلى طمس الماضي بكل ما يحمله من آلام وتضحيات. والمنتوجات الموعود بها كثيرة وجمة تحمل بصمات النموذج الأمريكي ذي البعد المادي من جهة، والمفقد لإرادة الرفض من جهة أخرى، فالويسكي والسجائر وعقاقير الجنون أدوات لحجب التفكير، وشل الإرادة، والملابس الجاهزة ضرب لاقتصاد البلد؛ مما يعني جر أبناء المدن والقرى معا إلى النموذج الامريكي وثقافته بعيدا عن الثقافة الأصلية للبلد.
إن السفن راسية محملة بالمتمنيات، فإذا ما تم تدمير التاريخ الموشوم بالنضال، فإنها ستمر حاملة وعدا بحياة الرفاه. الذي لن يتحقق إلا إذا نجح الاستقبال.
يقوم المؤلف-السارد بصوغ هذا المقتطف ودمغه برؤيته الساخرة عن طريق لحم الأحلام بالزمن الذي نفخت فيه، إنه الليل. وطبيعي أن وشائج القربى واضحة بين الحلم والليل، كما أن فاعل نفث الأحلام في النفوس له معرفة بخصوصيات أهل الضهرية وبمعاناتهم وتطلعاتهم من مثل الشيخ الكفيف، ورئيس القرية الأصلع، وست النفوس العاقر، إضافة إلى الكسيح والمصدور والطالب والتاجر… كل واحد تحركه رغبته، والحلم الأمريكي قادر على تمكين كل فرد من حل لمشكلته.
وقد استضمر المؤلف-السارد لغة وحوار كل هؤلاء ليصبهما في قالب ساخر متعمدا هدم تلك الأحلام وتسخيف تلك الأماني، مبرزا أن تحقق الأحلام الجماعية مشروط بنجاح الاستقبال.
إضافة إلى كونه وظف لغتين متنافرتين الأولى حديثه تدل عليها كلمات من مثل: "أنصبة وأسهم" وهما جمعا تكسير للقلة بغية الإشارة إلى الضآلة قبالة التضخيم الموعود به، بمعنى آخر ضآلة الأحلام وتفاهتها المعبر عنهما بوزني القلة؛ يزيد من حدة التهكم ذلك الاختلاف الحاد الذي وقع أثناء الاجتماع قصد توزيع الغنيمة وتحديد نصيب كل واحد !. والثانية قديمة خاصة من خلال توظيف السجع لا للتزيين والتنميق وإنما لإذكاء جذوة السخرية المبطنة في ذلك الاستعمال، إن السجع ينزاح عن هدفه محققا هدفا مختلفا يرتبط بالنقد والتعرية والفضح. هكذا يرتفع نبض اللغة ويتنامى المحكي بنبرته الغائمة. إنها شعرية تسيل في أوردة المقتطف بتوهج أخاذ، فترقى به إلى مديات قصوى من الرواء اللغوي، واللذة الجارحة. تـتبخر جمرة السخرية حارة مشرقة تحت رماد الروح ومباهجها الفظة.
إن المرارة حين تبلغ درجتها القصوى قد تتمرد على طبيعتها الراسخة كي تتحول إلى النقيض الصارم وتطفح بشحنتها السوداء، حد الضحك، وفي هذه الفسحة بين البهجة وانهدامها المفاجئ، تكمن ضدية أخرى بين مقدمة المقتطف وخاتمته حيث تطل المفارقة عبرها، وتشرئب السخرية بأعناقها، ملوحة بنقدها للذاكرة المنطفئة لدى الجموع الزاحفة نحو الحلم الأمريكي، باستثناء القلة التي لازالت متشبثة بالرفض، لأن الجراح لازالت لم تندمل بعد، وذكرى الشهداء، على مرمى الحزن لم تمض عليها سنة واحدة.
إنه لشيء صادم أن يهرول الجميع إلا البعض، نحو الأحضان الأمريكية راميا ظهريا ذاكرته الموشومة بالأحزان، وما قدمته القرية من تضحيات، وما حل بالعامل الزراعي من عقاب، كل ذلك تحت تأثير الرغبة في حصول التغيير الموعود نحو الأحسن، وحيث سيتحول:
الجـفـاف خضرة
الفـقـر غنى
جوع كل يوم شبع وامتلاء
وذلك بفعل نيكسون الساحر، لأن الماء الذي يحمله النهر سيضفي على البلاد الخضرة والحياة. إلا أن تفكيكا خارج لساني يضعنا أمام مفارقة ساخرة صادمة بصراحتها الجارحة، بين رئيس يصور على أنه صاحب المعجزات، وبين واقعه المرذول بفعل فضيحة ووترغيت، والذي لا يمتلك قدرة حماية نفسه من العدالة التي تطارده.
وحين نتقدم إلى المقتطف الثاني محللين فسنصدم بالمفارقة التي يختزنها بين عملية بيع الإنسان (الدبيش) بثمن بخس وبين الوعود المقدمة التي لن تتحقق أبدا.
مفارقة ساخرة بين ضياع القيم الإنسانية النبيلة وبين الجشع في الحصول على منافع مادية. وهنا سيقوم المؤلف-السارد بتسفيه هاته الأحلام عبر توظيفه لمعجم لغوي دال من مثل: و"ابور شحم" التي تشير إلى الرئيس نيكسون المعلقة عليه آمال عراض من مثل قدرته الإتيان بالخوارق كمنع الحرب عن مصر لمدة قرن، وهي إشارة زمنية تبطن السخرية من مثل هاته التخيلات، وستدفع السخرية أبعد من ذلك، عندما يتم التفكير جديا في وجود الجيش وبفعل السلم المأمول ستعرف المدن المصرية تحولات عديدة حيث ستعيش الوفرة في الدقيق والآلات المختلفة وغير ذلك، كما ستظهر أحياء راقية للإفرنج وملوك العرب.
إن من يجري مصدقا كل ذلك، شخصيات تتصف بالعروق الخالية من الدم والبطون الضامرة. وإنه لأمر بالغ السخرية حد الشذوذ أن تصدق هاته الفئة مثل هذه الأحلام، وهي التي فقدت، حقيقة لا وهما، أحد الأفراد المنتمين إليها لما ظن أن المعونة مخصصة له ولأمثاله.
النتيجة التي نخلص إليها من خلال هذين المقتطفين، هو النظرة النقدية الساخرة من حلول ثقافة جديدة مدمرة، ترتبط بالاستهلاك، وتسعى إلى تحويل مآسي الإنسان إلى مشروعات استثمارية تدر المال على حساب المشاعر الإنسانية*.
وتبقى، رغم هاته الصورة الكالحة، نقطة ضوء مشعة في هاته العتمة التي تكاد تكتسح كل شيء حيث "مازالت أعماق الإنسان تطمح وتشتاق للاتصال بأعماق إنـسان آخر.
3- تعرية الكتابة، أو عندما تفكر الرواية في ذاتها وحضور السخرية:
إننا نقف أمام محكي يفكر في نصه ويتخذه موضوعا له، فبالإضافة إلى احتفاء الرواية بالحكاية هناك احتفاء مواز بكيفية حكي هاته الحكاية، الأمر الذي جعل التلفظ يحتل بموازاة الملفوظ موقع الصدارة، وهو ما نتج عنه انتهاك الرواية للميثاق السردي القائم على منطقية الأحداث بغية تأسيس فضاء من الالتباس والتناقض قائم على نقد أنساق القراءة السائدة يتسم بالمواربة والسخرية، فإذا كان القارئ ينتظر من الرواية أن تعيد إنتاج الرؤى الجاهزة والأشكال التقليدية فإن انتظاره سيخيب لأن الرواية حرصت على تخييب انتظاره هذا* معلنة عن "اختلافها المبدئي الجذري مع القواعد الشكلية للكتابة الروائية التقليدية"[36].
إنها كيفية انتهجها المؤلف-السارد من أجل وضع المتلقي أمام احتمالات التعدد، والاتكاء على نسبية الحقائق بدل إطلاقيتها، والقارئ المشار إليه هو ذلك المصاب بـ "قلق الكتابة" الذي تستفزه الانتهاكات التي تقوم بها الرواية للميثاق السردي السائد، والمتخيل السردي المطرد، المبني على التماهي مع عالم يكتنفه التشويق والترقب ومعرفة ما تختزنه نهايته من حقائق.
كما أنها كيفية اعتمدها المؤلف-السارد لإرباك سيرورة التلقي بإضفاء مسحة ساخرة على التلقي السلبي، فهو يعتمد "ترقية القارئ" إلى مرتبة المؤلف مادام فعل القراءة، في الشعرية المعاصرة، كتابة جديدة للنص. فعلى امتداد صفحات الرواية، ترتسم صورة القارئ كسلطة إنتاجية (رمزية) يعترف بها المؤلف نفسه، بل يدعوها إلى التعاون مع سلطته الخاصة (الضمنية) من أجل إنتاج رواية"[37]. وبهذا الصنيع يتم تحفيز المتلقي قصد تلمس المسافة الجمالية التي تعدل بها الرواية عن السائد الروائي لأنها تعلن، بذلك، "قطيعتها مع نوع من التقليد يجعل الروائيين يستهلون رواياتهم بتنبيهات توضح للقارئ خلفيات النص، أو بمقاطع وصفية تحدد بإسهاب زمن الأحداث الروائية، وأماكن وقوعها، إلخ… لتنطلق فورا من الحدث المركزي، وباختيارها المبدئي هذا، تومئ الرواية بمكر إلى النقاد بأنها واعية كل الوعي بالأهمية القصوى التي يمثلها لديهم "مفتتح" الرواية(l’incipit)، لانطوائه على شروط مقروئية النص، أي على شفرة قراءته، لكنها، رغم وعيها هذا بل بسببه، اختارت الشروع في الانحكاء دون وساطة هذا المفتتح، لاسيما أن قابلية التصديق تضيع فيه، لأنه يمثل، في رأي هؤلاء النقاد ذلك الفضاء الذي "يتنصص" فيه الواقع، أي يصبح نصا تخييليا لا علاقة له بعد بنثرية العالم، اختارت ذلك تفاديا لتلك القراءة غير الإحالية التي يستلزمها المفتتح الروائي، والذي تقطع كل صلة بين النص وما هو خارجه، وإيهاما للقارئ دائما بواقعية العالم الذي سيقبل على اقتحامه"[38].
إننا بصدد خطاب يمارس الاستعراء ضدا على رداء القداسة الذي تدثرت به الروايات التقليدية وكشفا لشروط تكوينها ضاربة، بذلك، الهالة التقديسية التي تسترت بها الأعمال السابقة تحت مفاهيم من مثل الأصالة والإلهام والإبداع، "إن رواية "يحدث في مصر الآن" تتعمد التأكيد على فعل الإنتاج ذاته (الكتابة) بحيث تحرص، بحديثها عن الروائي، على جعل سيرورة تبنينها شفافة على مساحة النص"[39].
لعبة الأســـماء:
تعد الشخصية إحدى أهم مكونات الخطاب الروائي، تأخذ قيمتها من علاقتها المتفاعلة مع المكونات الأخرى للعالم التخييلي.
كما أنها تعد مجرد دليل ألسني فارغ يتفاعل مع نظائره، في إطار منظومة نسقيه نصية تدفع القارئ إلى تلقي النص بأكمله بغية استجماع تفاصيله وصولا إلى دلالاته داخل العمل الروائي.
لقد كانت الشخصية تعرف امتلاء في الرواية التقليدية من أجل الإيهام بآدميتها، امتلاء يفقد كل مجال للحوار… أما في الرواية الجديدة فإن محتوى دليلها قد تقلص حيث تخلصت الكتابة من المواصفات النعتية الزائدة، مقتصرة على المواصفات التي توحي إلى الشخصية، مؤدية، بذلك، وظيفة إبلاغية تستثير التأويل، مؤكدة نسبية الحقائق لتضمن صيرورة تلقيها، إذ ما يكاد المتلقي يلم شعتها حتى يعود العقد إلى الانفراط بين يديه، وهو ما يؤشر على انفتاحها… إن الرواية الجديدة بهذا التصور، لم تعد مهووسة بالوهم المرجعي والحقيقة المطلقة، مما أدى إلى خلخلة المنظومة المرجعية للمؤلف والقارئ معا، انطلاقا من سعيها الحثيث إلى التمييز بين نصية النص وواقعية الواقع.
ولم ينبع مثل هذا التصور إلا لكون عالمنا أصبح أقل ثقة بنفسه، حين تخلى عن فكرة