وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ
وَكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيلِ مُخَصَّرٍ وَسَاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ[24]
فالشاعرهنا يصف محبوبته بأوصافٍ متعدِّدة، ويشغله من هذه الأوصاف شعرُها، فيصفهبالطول والنعومة، وشدَّة السواد، وشدَّة التداخُل والكثافة؛ حيث تتزاحَمخصلاته على رأسها.
ويجبألاَّ ننسى أن الشَّعْر يأخذ شيئًا من الأهمية عند امرئ القيس، باعتبارهمن أدلِّ الأمور على التكوين الأنثوي من ناحية، وباعتباره عاملاً فعَّالاًفي تجلية الجمال من ناحية أخرى، ولأمرٍ ما أضفى الشاعر على شَعر المرأةطابعًا مركَّبًا، فعقَّّد من حركته حيث أطلق بعضه أحيانًا وقيَّد بعضهأحيانًا أخرى (فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ)، ويبدو واضحًا حرصُ امرئ القيسعلى أن يكون لهذا الشعر مواصفات خاصة تهيِّئ له من التناسُب مع بعضالأعضاء الأخرى المجاوِرَة له، فشدَّة سواد الشعر تُحدِث تقابلاًومفارَقةً مع بياض الوجه وإشراقه، كما أن خواصَّ الشعر نفسَها تعتَمِد علىالتقابُل في انسيابه على الظهر من ناحية، وارتفاعه إلى أعلى من ناحيةأخرى، وفي تثنِّيه تارةً وإرسالهِ تارة أخرى، فالتقابُل كان خارجيًّاوداخليًّا في آنٍ واحد[25].
والناظرلكلمة (مستشزرات) يحسُّ منها - بدايةً - تنافرًا في الحروف وثِقَلاً فيالنطق "ولكن قليلاً من التفكير يهدينا إلى أن هذا التنافر لازمٌ لزومًافنيًّا مؤكدًا؛ لأنه ينطبق على الصورة التي يريد الشاعر أن يرسمها لهذهالخصلات الكثيرة الكثيفة التي تتزاحم على رأس محبوبته، وترتفع إلى أعلى،ويغيب باقي الشعر الكثيف تحتها من مفتولٍ ظل على انتظامه، وغير مفتولٍانطلق هنا وهناك، صورة غنية رائعة... إذا أجدنا تصوُّرها واستمعنا إلى(مستشزرات) أدركنا أنها تقتضي هذا التنافر... حقًّا هو تنافر، ولكن ماأقوى انسجامه مع الصورة المرسومة" التي قصدها الشاعر.
إنالشاعر المطبوع يستخدم الكلمات عن قصد، وليس استخدامه لها استخدامًاعشوائيًّا، وقد يكون القصد غير واعٍ، ولكن الرؤية الفنية لديه توجِّهاستعماله للغة سواء من حيث المفردات أو من حيث التراكيب، والذي نريد أننقوله في هذا المقام: إن اللغة غنية بالمترادفات لكلِّ كلمة[26]، والشاعرحينما يستخدم أحد هذه المترادفات فلأنه يرى أن فيه غُنية وخصوصية عن غيره،ويؤيِّد هذا المعنى المعجميُّ فقد جاء في "لسان العرب": "شزر الحبل: فتله؛أي: لوَّاه وبرَمه، واستشزر: انفتل"، ونلحظ هنا أن زيادة المبنى تبعهازيادةٌ في المعنى؛ فلفظة (انفتل) تدلُّ على مدى تداخُل خصلات الشعرواختلاف أوضاعها، كما نلحظ في مادة الكلمة (شزر) وجهًا من أوجه التسمية،وكأن هذا الوجه سببٌ في اختيار ذلك اللفظ لهذا المعنى، وهذا ما يسمَّىبـ(السياق السببي)، وهو السياق الذي "يُسهِم من جانبٍ في كثرة المترادفات،وإنشاء ألفاظ جديدة يُلحَظ فيها وجوه مختلفة للتسمية، ومن جانب آخر يُسهِمفي تفسير وجود المترادفات في اللغة، من حيث كونها ظاهرة"[27].
علىأن الذي ينبغي أن نلاحظه هنا - إيضاحًا لما سبق وإكمالاً له - أن التنافرفي تلك الكلمة ناشئ من اجتماع أصوات متقاربة المخرج هي السين والشينوالزاي، وقد أبدع امرؤ القيس في الجمع بين تلك الأصوات المتقاربة في كلمةواحدة، فهي تعرف بحروف الصفير، وكأن امرأ القيس يريد أن يوظِّف هذا الصفيرفي الدلالة على تطاير الشعر وارتفاعه في الهواء، فنسمع له صوتًا: "وتأملقيمة الألف في (مستشزرات) في الدلالة على ارتفاع هذا الشعر إلى العلا"[28].
وكأنهذا التعثُّر أو التنافر في حروف الكلمة يصوِّر هيئة الشعر وحاله وشكله؛فالكلمة دالَّة بشكلها، مصوِّرة بنطقها، موحيَة بالمعنى المقصود، ونحننعلم أن امرأ القيس من المجِيدِين في التشبيه والتصوير، فهل كان عاجزًا عنالإتيان بكلمةٍ أسهل نطقًا من هذه الكلمة؟ لا أظنُّ ولكنه أتى بالكلمةالمصوِّرة الهادِفة الموحِيَة المحقِّقة للغرض النابعة من الفطرة السليمة،والسليقة المعتدِلة والخيال المحلق، وبهذا التوجيه للكلمة والتحليللبِنْيَتها نكون قد راعَينا حال المتكلم وحال المخاطب والسياق العاموالخاص.
ويزدادالأمر وضوحًا لو توقَّفنا عند كلمة (المتعثكل) في البيت السابق،وتأمَّلناها صوتًا ومعنى ودلالة، نجدها تتميَّز ببنيتها الصوتية العامَّة،وتنقل صورة الشعر المتداخِل الملقى على ظهر محبوبته، وهذه الكلمة التيتبدو هي الأخرى غريبة نافرة في مسامعنا، والتي أشكلت على البلاغيينوالنقَّاد؛ لأنهم لم يتنبَّهوا إلى صدقها التصويري ولزومها الحيوي فيمكانها من النص، فلو نظرنا إليها بعين الشاعر لرأينا انسجامًا وتعاونًابين حروفها وترتيب مقاطعها، وإبداعها في رسم صورة الشعر الكثيف المتداخِل،فالبنية المقطعية لصورة ذلك الشَّعر حكاية دقيقة صادقة، فهي تتميَّزبالتقابُل بين المقاطع القصيرة المفتوحة: (مُ - تَ -... كِ - لِ)، وبينالمقطع الطويل المغلق (عَثْ).
وكأنالمقطعين القصيرين الأوَّلَين يصوِّران بداية تدرُّج شَعرها على رأسهاوأعلى كتفها، بينما يصوِّر المقطع الطويل طوله واسترساله على كتفها،ويصوِّر المقطعان الأخيران نهاية هذا التدرُّج وسكونه واستقراره وتتميز(الثاء) الساكنة في (المتعثكل) - كما لاحظ الدكتور النويهي - بالتقاطهالنغم الثاءين اللتين تقدَّمتا في كلمة (أثيث)[29].
لذلكينبِّه أحد البلاغيين المحدَثِين إلى أن الكلمة الواصفة في بيت امرئ القيسهي كلمة (أثيث) فيقول: "ولو جهدت في طلب كلمة تصف الشعر الكثيف المسترسِلالذي يغشَى متن الحسناء، لما وجدت أوصف من كلمة (أثيث)، وصوت الثاءالمؤذِن بتخلُّل الهواء من بين طرف اللسان والثنايا العليا، وتكرَّر هذاالصوت يصف معناه بحق"[30].
"وهكذاترقى القيمة الصوتية إلى حكاية معنى عرفي رصَدَه المعجم للفظ أو معنىطبيعي ممَّا تستوحِيه النفس ولا تستطيع وصفه، فإن أمكن أحيانًا أن نشيرإليه من بُعْدٍ فإننا لا نستطيع تفسير العلة التي جعلته مُوحِيًا على هذاالنحو، وكأنه فعل الموسيقا في النفس، فمَثَل التأثُّر به كمَثَل التأثُّرباللحن الموسيقي نطرب له ولا ندرس لماذا؟... وإن استعمال مثل هذه الكلماتيحقِّق أغراضًا إيحائية بالمعاني الطبيعية التي تضيف إلى المعاني العرفيةللألفاظ أبعادًا إضافية ما كان لها أن تتحقَّق لولا ما تحمِلُه حكايةالصوت من طاقة إيحائية[31]".
بعدهذا التحليل للأبيات والتوقُّف عند بنية الكلمات المصورة، نستطيع أن نقولمطمئنِّين: إن الألفاظ التي استخدَمَها امرؤ القيس في وصف الشَّعر ألفاظمقصودة، قارَّة في موضعها، نابعة من عاطفة صادقة؛ لذلك جاء كلُّ لفظٍ منهامحمَّلاً بمدٍّ دلالي مُفعَم لا يسعفنا به غيرُه.
وتزداد القضية وضوحًا عند امرئ القيس في قوله من القصيدة نفسها:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَاِنْتَحَى بِنَا بَطْنُ خَبْثٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ[32]
فالحِقفمن الرمل: المعوج، والعَقَنْقَل: هو الرمل المنعقد المتداخِل، وقد اختارله امرؤ القيس كلمة معقَّدة كذلك؛ لأنها تحتوي على صوت العين الحلقي معتكرير القاف المقلقلة، وهو تعقيدٌ فني مقصود؛ لأنه ينسجم مع تلك الرمالالمتراكِبَة المتداخِلَة من ناحية، كما ينسجم مع (الجرس الصوتي) السائد فيالبيت من ناحية أخرى، وهو جرس غليظ، تفصح عنه أصوات الخاء والطاء والقاف؛لأنها أصوات مفخَّمة تجمع بين الاستعلاء والإطباق، فامرؤ القيس إذًا لميستعمل هذه الألفاظ لأنه شاعر جاهلي بدوي خشِن، يحبُّ الحُوشِيَّ منالكلام، ويعجز عن تحقيق التناسُق والتناسُب فيما ينظم؛ بل لأنه يرى فيهاالصورة المقصودة، والعاطفة الغالبة تقتضيها اقتضاءً عضويًّا، فالشاعرعندما يقصِد إلى كلمات بعينها غير خاضعة لأصول الفصاحة المعيارية،ويتجاوَز تلك الأصول، فهو يرى أن مجاوزة تلك المعايير يحقِّق له هدفهالمقصود، ولو خضع لمعايير الفصاحة في هذا الموضع لفسَد الخطاب وأُهدِرَتمستهدفاته الدلالية.
ومما ردَّه النقاد لعدم فصاحته كلمة (الجِرِشَّى) بكسر الجيم وتشديد الشين بمعنى (النفس) في بيت المتنبي يمدح سيف الدولة:
مُبَارَكُ الاِسْمِ أَغَرُّ اللَقَبْ كَرِيمُ الجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ[33]
لقدعاب النقَّاد أبا الطيب في استخدام لفظة (جِرِشَّى)، واعتبروها قبيحةغريبة ثقيلة على السمع؛ لأنها غير مألوفة الاستعمال، وأظن أن هذا الحكمفيه تزيُّد على المتنبي؛ لأن الحكم على اللفظة بعيدةٌ عن سياقها وعن الوزنالشعري الذي احتضنها، لا شكَّ أن ذلك يقلِّل من قيمتها، ولكي ننصِفالمتنبي أرى أن نعرِض بعض أبيات القصيدة التي تمثِّل السياق الذي وَرَدفيه البيت والذي اشتمَل على الكلمة، يقول المتنبي[34]:
فَهِمْتُ الكِتَابَ أَبَرَّ الكُتُبْ فَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ العَرَبْ
وَطَوْعًا لَهُ وَابْتِهَاجًا بِهِ وَإِنْ قَصَّرَ الفِعْلُ عَمَّا وَجَبْ
وَمَا لاقَنِي بَلَدٌ بَعْدَكُمْ وَلاَ اعْتَضْتُ مِنْ رَبِّ نُعْمَايَ رَبْ
وَمَا قِسْتُ كُلَّ مُلُوكِ البِلاَدِ فَدَعْ ذِكْرَ بَعْضٍ بِمَنْ فِي حَلَبْ
وَلَوْ كُنْتُ سَمَّيْتُهُمْ بِاسْمِهِ لَكَانَ الحَدِيدَ وَكَانُوْا الخَشَبْ
أَفِي الرَّأْيِ يُشْبَهُ أَمْ فِي السَّخَا ءِ أَمْ فِي الشَّجَاعَةِ أَمْ فِي الأَدَبْ
مُبَارَكُ الاِسْمِ أَغَرُّ اللَّقَبْ كَرِيمُ الجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ
واضحأن الأبيات في مقام المدح، وهو مقام يستدعي الإطناب، وقد جاءت القصيدة علىهذا المقتضى؛ إذ تتألَّف من أربعةٍ وأربعين بيتًا كلها في المدح، وسَوْقُالمتنبي القصيدةَ على هذا الغرض مطابقةٌ لمقتضى الحال.
ولونظرنا إلى البيت موضع الشاهد من خلال سياقه لوجدناه متساوقًا مع أبياتالقصيدة كلها، وكلمة (الجِرشَّى) متساوقة مع الوزن، وبخاصة أن البحر الذيبُنِيت عليه القصيدة هو (بحر المتقارب)، وهو من البحور ذات التفعيلةالواحدة المتكرِّرة (فعولن) ثمان مرات في البيت، مما يُسهِّل الإيقاعويُضفِي عليه جمالاً، فلا نحسُّ للكلمة ثقلاً أو غرابة في سياقها.
يقولريتشاردز: "إنَّ وقْع الصوت لدى النفس لا يتوقَّف على الصوت نفسه بقدر مايتوقَّف على ظروفه المحيطة به؛ أي: على مقدار ما بينه وبين ما قبله ومابعده من الأصوات من انسجام، فإن هذه الأصوات تتآلَف وتكوِّن شبكة محبوكةالنسيج، وإنَّ الكلمة التي تستطيع أن تقع موقع الرضا والقبول لدى هذهالأصوات جميعها، وتنسجم معها كلها في وقت واحد، هي الكلمة التي تظهر بمظهرالفوز الموسيقي"[35].
ويؤكِّد هذا الفهم جاكبسون حيث يقول: "أنا لا أومن بالأشياء بحدِّ ذاتها، بل أومن بالعلاقات القائمة بينها"[36].
ونجدعندنا سندًا تراثيًّا يؤيِّد هذا؛ فقد نقَل المَرْزُبَاني قول المبرد:"وقد يضطرُّ الشاعر المُفْلِق والخطيب المُصْقِع والكاتب البليغ، فيقع فيكلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظ المستكرَه، فإذا انعطفت عليه جنبتَاالكلام، غطَّتَا على عُواره، وستَرتَا من شيْنه"[37].
وأظنأن المتنبي شاعر مُفلِق وأديب بليغ، فإذا وقع منه ذلك في قصيدة كبيرةقصدًا أو اضطرارًا، فلا يغضُّ ذلك من شأنه، ولا يقلِّل من فصاحة الكلمة فيموضعها وسياقها، وقد اتَّفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر فيأثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوامعلَّقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة، رغم ما بهما من ألفاظ ثقيلة.
•ومما تجدر ملاحظته أن تطبيقات النقَّاد المعنيِّين بالغريب دلَّت على ولَعمعظمهم بأحكام القيمة، واقتصرت - أو كادت - على استخلاص شواهد الغريب مندواوين الشعراء، وإشاعتها في المجالس، أو تدوينها في المصنَّفات؛ حتى تؤديرسالتها في تنفير أجيال الشعراء من تعاطي الغريب.
وقدتخلَّى أنصار هذا الاتجاه عن مهامَّ نقديةٍ خطيرةٍ؛ كالنظر في مصدرالغريب، ومعرفة أكثر عناصر الموروث الثقافي تأثيرًا في الشاعر، ومناقشةحقِّ الشاعر في بعث ميت الألفاظ، ودعوة المتلقِّين إلى الارتقاء بثقافتهمحتى يُحسِنوا ذوق الشعر، لقد أراح معظم النقَّاد أنفسهم من مثل هذه المهام.
فهذاالصاحب بن عباد (ت385هـ) يعفي نفسه من عناء النظر في مدى قدرة المتنبي(ت354هـ) على توظيف ثقافته اللغوية، ويكتفي بإصدار أحكام القيمة على البيتالتالي:
أُسَائِلُهَا عَنِ المُتَدَيِّرِيهَا فَلاَ تَدْرِي وَلاَ تُذْرِي دُمُوعَا[38]
يقول:"لفظة (المتديريها) لو وقعت في بحرٍ صافٍ لكدَّرته، ولو أُلقِي ثقلها علىجبلٍ سامٍ لهدَّه، وليس للمقت فيها نهاية، ولا للبرد معها غاية"[39].
وواضحمن تعليق الصاحب بن عبَّاد التزيُّد الشديد على المتنبي، ولو أنصف الصاحبلأدرك أن أبا الطيب لا يُعَابُ على غزارة معارفه، ولا على إتيانه بألفاظلا إلفَ للناس بها، بل يُعَابُ إذا كانت معارفه ضَحْلَة، أو إذا لميُحْسِن توظيفها، فهو يُسائِل الديار عن أهلها: أين ذهبوا؟ فلا تدري ولاتجيبه ولا تساعده على البكاء، فهذه حاله، ولا بُدَّ أن نراعي أنه ذو عاطفةجيَّاشة، وفي حيرةٍ من أمر سكَّان الديار.
وإنمَن يتأمَّل كلمة (المتديريها) يجدها أخف على اللسان من كلمة مثل(المستشزرات)، كما أن السياق الموقِفي، والسياق السببي، والإحساس النفسيأطاحوا بغرابتها؛ فوجودها بعد الجملة الفعلية (أسائلها)، وبعد حرف الجر(عن)، وقبل الجملتين المنفيتين: (فلا تدري)، (ولا تذري)، يذيب غرابتها،ويعفي المتلقِّي من اللجوء إلى معاجم اللغة، خاصة إذا كان المتلقِّي ممِّنمرنوا على قراءة الشعر العربي، وعرفوا تقاليد الشعراء في سؤال الديارواستعجامها عن الجواب.
وإذاكان البعض يرى أن كلمات مثل (ساكنيها) أو (قاطنيها) أن تَسُدَّ مَسَدَّ(المتديريها)، لكن مثل هذه الكلمات تجعل المتنبي لا يختلف عن غيره منالشعراء، ولا تتَّفق مع حرصه على إثبات جدارته بصحبة الأمراء والملوك،وتفوُّقه على مَن يغشى مجالسهم من أعيان الشعراء، والكُتَّاب، والفلاسفة،واللغويين، والنقَّاد، والمتصوِّفة.
الغريبإذًا يتَّفق مع التكوين النفسي للمتنبي، ويتَّفق مع حرصه على أن يملأالدنيا ويشغل الناس بأمره، مع توقه إلى إسكات حُسَّاده وشانِئيه، وليسكذلك المألوف، ولكن الصاحب بن عباد لم يفطن إلى شيءٍ من ذلك[40].
ونزيد القضية وضوحًا بالتوقُّف مع قول تأبَّط شرًّا:
قَلِيلِ ادِّخَارِ الزَّادِ إِلاَّ تَعِلَّةً وَقَدْ نَشَزَ الشُّرْسُوفُ وَالْتَصَقَ المِعَى
يرىبعض النقَّاد أن في قوله: (نشز الشرسوف) تنافرًا وثقلاً، ولو تأمَّلناموقف الشاعر وحالته النفسية لاختلف الأمر، فالشاعر لم يلجأ إلي هذاالتعبير لأنه بدوي، متنافر الطباع، عديم الفصاحة، بل لأنه يصف نفسه - وهوشاعر من الشعراء الصعاليك - بالجوع وقلَّة الطعام حتى أُصِيب بالهُزَالفبرزت رؤوس ضلوعه في صدره شاخصةً للعيان، وضمرت معدته وأمعاؤه لدرجة أنهاالتَصَقت بعضها ببعضٍ؛ لخلوِّها من الطعام، أفكان يستطيع أن يؤدِّي صورتههذه أداءً حيًّا بغير هذا التعبير الذي يعدُّه النقَّاد غير فصيح، وأنكلماته متنافرة أو ثقيلة؟
هكذاتتَّضح الصورة بالنظر إلى السياق؛ لأن نشاط السياق في الإبداع يجمع بين"عناصر النشاط اللغوي من ناحية، وعناصر الموقف النفسي الاجتماعي من ناحيةأخرى"[41]؛ لذلك يقول أحد اللغويين المعاصرين: "إن معنى الكلام لا يتأتَّىفصلُه بأيَّة حال من الأحوال عن السياق الذي يُعرَض فيه"[42].
وكثيرًاما نجد في شعرنا القديم أمثلةً لهذا التنافر المقصود؛ لأنه يؤدِّي وظيفةًعضوية في الصورة الشعرية، وذلك حين يربط بين المعنى واللفظ ربطًا وثيقًا.
ومنهنا نعلم أن الحالة النفسية أو الحالة العاطفية للمُبدِع لها دورٌ فياختيار الكلمات، ولعلَّ إهمال البلاغيين القدامَى لهذا الأمر، ونظرهم إلىهذه الكلمات مفردة بعيدةً عن سياقها اللغوي وسياقها الموقفي - هو ما جعلهميتَّهمون مثل هذه الإبداعات بعدم الفصاحة، يقول القاضي عبدالجبار:"فالفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام وإنما تظهر في الكلام بالضمِّ علىطريقة مخصوصة، ولا بُدَّ مع الضمِّ من أن يكون لكلِّ كلمة صِفَة، وقد يجوزفي هذه الصفَة أن تكون بالمواضَعَة التي تتناوَل الضم، وقد تكون الإعرابالذي له مدخلٌ فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع؛لأنه إمَّا أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولا بُدَّ من هذافي كل كلمة، ثم لا بُدَّ من اعتبار مثله من الكلمات إذا انضمَّ بعضها إلىبعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها، وحركاتها،وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه، إنما تظهر الفصاحة بهذه الوجوه دونما عداها"[43].
علىأننا كثيرًا ما نفعل مثلَ ذلك ببعض ألفاظنا العامية إذا اقتضى الأمرللتعبير عن المعنى المقصود، فمن ذلك على سبيل المثال الكلمات الدارجةمفشكل - متختخ - ملظلظ - مدندش - مبعجر) نجد أن كلاًّ منها يدلُّ علىمعنى خاص مرتبط ارتباطًا عضويًّا بلفظه.
لقدالتفت القدماء إلى ما بين الأصوات والمعاني من مناسبة، فهناك فرق بين(خَشُنَ) و(اخْشَوْشَن)، ذكر سيبويه أنه قد سأل الخليل عن ذلك فقال:"كأنهم أرادوا المبالغة والتوكيد كما أنه إذا قال: (اعْشَوْشَبَت الأرض)،فإنما يريد أن يجعل ذلك كثيرًا عامًّا قد بالغ"[44].
والتفتابن جني إلى هذه القضية وقيَّدها في كتابه "الخصائص" في بابٍ كبير القيمةسمَّاه (في إمساس الألفاظ أشباه المعاني)، وهو باب ممتع بما فيه من شواهدوأمثلة رائعة وتحليل جيِّد، يقول: "إنك تجد المصادر الرباعية المضعَّفةتأتي للتكرير، نحو: الزَّعزعة والقلقلة والصلصلة... ونجد أيضًا الفَعَلىفي المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: (البَشَكَى والجَمَزَىوالوَلقَى...) فجعلوا المثال المكرَّر للمعنى المكرَّر، والمثال الذيتوالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها[45].
وقدالتَفَت أيضًا إلى هذه الظاهرة الثعالبي صاحب "فقه اللغة وسر العربية"؛حيث يقول: "فإذا استمعت إلى إنشاد بيت البحتري في وصف الذئب الجائعالمرتجِف بسبب البرد ظننته أمامك:
يُقَضْقِضُ عُصْلاً فِي أَسِرَّتِهَا الرَّدَى كَقَضْقَضَةِ المَقْرُورِ أَرْعَدَهُ البَرْدُ
فإن تكرار القاف وتواليها خمس مرات، وتكرار الراء ست مرات مع الحروف الأخرى يوحي بصورة الذئب في ضراوته وجوعه وارتجافه"[46].
ولسناوحدنا الذين يلفتهم جمال الحرف المكرَّر ورجع صوته إذا عاد على أبعادمتجاوبة في التركيب، وإن كنَّا قد سبقنا غيرنا في الدلالة على ذلك، فقدالتَفَتَ أيضًا إلى هذه الظاهرة علماءُ الغرب، ووضعوا لها اصطلاحًا خاصًافسموها (أونوماتوبيا) Onomatopoeia، ويعنون بها: (موافقة الصوتوالصورة)[47].
ونجدشاهدًا على ذلك ما نقله آرثر سيمونز Arthur Symons عن إرنست دوسون إقرارهبأن مثَلَه الأعلى في الشعر هو هذا البيت للشاعر الأمريكي بو Poe:
[size=16] google_protectAndRun("ads_core.google_render_ad", google_handleError, google_render_ad);
The viol ،the violet ،and the vine
وأنه كان يرى أن الحرف (V) هو أجمل الحروف في اللغة الإنجليزية[48]، وقدأتى هكذا مكرَّرًا في أوائل الكلمات الثلاث متجاوب النغم، كما رأينا فيأمثلتنا من النصوص العربية، والجناس معروف في بلاغات الآخَرين كما هومعروف في بلاغة العرب[49]".
إنالكلمة الفصيحة تجمُل بجرسها ووقعها في الأذن، وسهولة جريانها على اللسان،وبما لها من إيحاءٍ بالمعنى، وبما تبعثه من نبرات دقيقة تسمعنا صوتالعاطفة، وذلك متوقِّف على مقدارِ ما بينها وما قبلها وما بعدها من انسجاموتآلف صوتي استدعاه السياق.
2- الغرابة:
والشرط الثاني لدخول الكلمة دائرة الفصاحة: ألاَّ تكون غريبةً أو نادرةَالاستعمالِ غير متداوَلة أو مألوفة، بحيث لا نحتاج إلى البحث عنها فيالمعاجم لكي نفهم معناها، ولئلاَّ يكون بينها وبين المتلقِّي انفصالٌ يعوقوصوله إلى مدلولها.
والنقيضالمباشر للاستعمال هو (الوحشية)، وقصدوا بها أن الألفاظ تكون مهجورة أوغير مأنوسة الاستعمال، ومن هنا يكون بينها وبين المتلقِّي انفصالٌ يعوقوصوله إلى مدلولها، لكن اللافت أن موقف النقد القديم لم يكن رافضًا رفضًامطلقًا للتعامُل مع مثل هذه الدوال (الكلمات)، فالجاحظ مثلاً يربطاستعماله بالإطار الاجتماعي، فللمتكلم أن يسلك هذا المسلك إذا كان بدويًّاأعرابيًّا، ولوجود التلاؤم بين طبيعة اللفظة وطبيعة مستعمِلها ومتلقِّيها:"فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس"[50].
إن الغرابة التي ينبو عنها حسن البيان ككلمة (الطرموق) بدل (الطين)، و(الاستمصال) بدل (الإسهال)، و(الهزبر) بدل (الأسد).
هذههي الغرابة المخِلَّة بالفصاحة عند البلاغين، وقد ذكروا من أمثالها قصةطريفة تُروَى عن علقمة النحوي قالوا: إنه سقط عن حماره فاجتمع عليه الناسفقال: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكُئِكُم على ذي جِنَّة، افرنقِعُوا.
وأظنُّأن علي بن عيسى - وكان حسن التخلُّص جيد المداعبة - إنما اصطنع هذهالألفاظ ليشغل بها الذين أحاطوا به وليصرفهم بهذه الدعابة[51].
وممايُحسَب لابن سنان في هذا المجال ربطه المفردة بالسياق؛ حيث رأى أن السياقأحيانًا يقتضي استخدام اللفظة الموصوفة بالتوحُّش، وحيث لا يكون للمبدعمندوحة عنها، كأن تكون اسمًا لمكان، فلا بُدَّ من ذكرها لكمال الإفادة،كقول البحتري:
وَأَنَا الشُّجَاعُ وَقَدْ رَأَيْتَ مَوَاقِفِي بِعَقَرْقَسٍ وَالمَشْرَفِيَّةُ شُهَّدِي
فالشاعر له عذر واضح في ذكر (عَقرْقَسٍ)؛ لأنه الموضع الذي شهد الممدوح به قتاله، وليس يحسن أن يذكر موضعًا غيره[52].
لقد رأى ابن سنان أن استخدام كلمة (عَقرْقَسٍ) وإن كانت غريبة إلاَّ أن الشاعر مضطر لذكرها، ولا مندوحة له عنها؛ لأنها اسم مكان.
أماابن الأثير فيتقدَّم خطوة لها خطورتها في ربط المصطلح بالتطوُّر الزمني،فهناك ألفاظ استعمَلَها الأوائل دون الأواخر، وهذا لا يُعَاب استعماله عندالعرب؛ لأنه لم يكن عندهم وحشيًّا، وهو في زمن ابن الأثير يُعَدُّ وحشيًّالعدم استعماله، ويعود ابن الأثير ويضيف إلى رأيه السابق وجود نوعٍ آخرأسماه (الغريب الحسن)، وهو الذي يختلف باختلاف السبب والإضافة، ويرتبط هذاالنوع بالجنس الأدبي، فيسوغ استعماله في الشعر دون الخُطَب والمُكاتَبَات،وذكَر من هذا الغريب الحسن كلمة (شَرَنْبَثَة) في قول الفرزدق:
وَلَوْلاَ حَيَاءٌ زِدْتُ رَأْسَكَ شَجَّةً إِذَا سُبِرَتْ ظَلَّتْ جَوَانِبُهَا تَغْلِي
شَرَنْبَثَةٌ شَمْطَاءُ مَنْ يَرْتَمِي بِهَا تَشُبْهُ وَلَوْ بَيْنَ الخُمَاسِيِّ وَالطِّفْلِ[53]
"فقولهشَرَنْبَثَة) من الألفاظ الغريبة التي يسوغ استعمالها في الشعر، وهي هناغير مستكرَهة، وكذلك لفظة (مشمخر) ولفظة (الكَنَهْوَر)[54].
وقدكان الشعراء قديمًا يتعمَّدون استخدام الغريب إذا كان الموقف أو الحاليستدعي ذلك؛ ومن ذلك ما تعمَّده بشار فيما رواه الأصمعي من أن بشارًا قالقصيدةً أكثر فيها من الغريب لما رأى سلمًا يتباصَر بالغريب، فأراد أنيردَّ عليه بما لا يعرفه[55].
ومما عدَّه النقَّاد غريبًا كلمة (اطلخمَّ) في قول أبي تمام:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا اطْلَخَمَّ الأَمْرُ وَانبَعَثَتْ عَشْوَاءُ تَالِيَةً غُبْسًا دَهَارِيسَا[56]
يرىبعض النقَّاد المحدَثِين أن ألفاظًا مثل: (اطلخم، غبسًا، دهاريسا) تقيمبغرابتها سدودًا حائلة دون انسياب المعنى في ذهن المتلقِّي أو وجدانه، حتىإن كل لفظ منها يبدو وكأنه مشكلة معقَّدة تتحدَّى العقل والسمع[57].
ولِمَلا يكون التعقيد في هذه الألفاظ مقصودًا؟ إن الرؤية الصحيحة التي تتناسَبوالسياق أن هذه الكلمة تحكي - بثقلها وتداخل حروفها - الشدَّة والاختلاطحين ينبهم الأمر وتنبعث النوائب العشواء، فإذا أضفنا إلى ذلك دلالة(غبسًا) التي تُوحِي بالظلام الحالك وتتابُع الآلام والهموم، ثم قوله(دهاريسا) التي تصوِّر بجرسها آثار الدواهي وفعل الدهس والهرس في شدةطاحنة، وكأنما تعاوَنت كلمات البيت في رسم صورة للممدوح بجوده وكرَمِهيدفع الشرَّ عن أمته، ويتصدَّى للنوازل متحمِّلاً في سبيل ذلك آلام الدهرومعاناته.
ومن عجبٍأن الذين استهجنوا غريب أبي تمام (ت229هـ) يدركون بداهةً أن الغريب كانجزءًا لا من ثقافته فحسب، بل من ثقافة كلِّ الشعراء الذين أقاموابالبادية، تلبيةً لتوجيهات النقاد أنفسهم.
ثمإن أبا تمام تميَّز بسعة اطِّلاعه وعمق ثقافته، وانقضاضه على معارف عصرهوتمثَّلها تمثُّلاً دقيقًا، حتى بلغ محفوظه أربعة عشر ألف أرجوزة غيرالقصائد، وسبعة عشر ديوانًا للنساء فقط، وله من التصانيف ما يعكس معرفتهالعميقة بالشعر والشعراء؛ كـ"الحماسة"، و"الوحشيات"، و"مختار أشعارالقبائل"، و"فحول الشعراء"[58].
أمَّامعرفته باللغة والغريب فلا يختلف على غزارتها أنصارُه وخصومُه، فإن أباتمام تعمَّد أن يدلَّ في شعره على علمه باللغة وبكلام العرب، فيعمد لإدخالألفاظ غريبة في مواضع كثيرة من شعره[59]، وإن الغرابة وصف نسبي، وخصوصًاأن "العرب كانت قبائل، ولكلِّ قبيلة لغة، هي حُوشِيَّة عند غيرهم،والفصاحة مخاطبة كلِّ قوم بلغتهم الدائر استعمالها بينهم"[60].
وأبوتمام (ت229هـ) رأس مذهب وهو ينطلق في إبداعه، لا من رغبته في استرضاء خاصةالمتلقِّين أو عامتهم، ولا يعنيه أن يدرأ سخطهم على ما في قصائده من غريبالألفاظ، أو معقَّد التراكيب، أو غامض المعاني، وإنما ينطلق أبو تمام منرغبته في مباينة السائد، والثورة على المألوف.
ولابُدَّ لهذه المنطلقات أن تنعكس على ألفاظه وتراكيبه وصُوَره، وهو مُغرَمبالجمال العسير؛ ولذلك لا يتردَّد في الاستعانة بالكلمة الغريبة التيتلائم ذوقه وتعبِّر عن موقفه[61]، لا يعنيه أن يجد المتلقِّي معاناة فياستقبال أشعاره؛ لأن "التلقي عند أبي تمام معاناة وليس استرخاء، ومن ثمَّكان على المتلقِّي - لكي يحسن فقه أشعاره - أن يرتقي بثقافته إلى المرتبةالتي تؤهِّله للتفاعل معها، بدلاً من أن يَزْوَرَّ عنها مواريًا ضعفثقافته خلف أحكام نقدية جاهزة، أحكام تُنْعَت بالغموض والتعقيد، أيَّةقصيدة لا تبوح من أول قراءة بما يرقد في أحشائها من قِيَم جماليةوإنسانية"[62].
وأرىأخيرًا أن أبا تمام يريد لنفسه أن يكوِّن صوتًا شعريًّا متميِّزًا يُدهِشالمتلقِّين ويُثِيرهم ويأتيهم بما لم يَأْلَفُوا، وهو لا يبالي "بأن تصلمعانيه إلى شيء من الغموض يجعلها تصعُب في فهمها على أولئك الذين لميَصِلُوا في ثقافتهم إلى المستوى الذي وصل إليه"[63].
ومنالغرابة أن تحتاج الكلمة إلى تأويل ومشقَّة في تخريجها على وجهٍ منالوجوه، وهذا يمثِّل لونًا من التعقيد وعدم الوضوح؛ كقول العجاج ابن رؤبةمتغزِّلاً:
أَيَّامَ أَبْدَتْ وَاضِحًا مُفَلَّجَا
أَغَرَّ بَرَّاقًا وَطَرْفًا أَدْعَجَا
وَمُقْلَةً وَحَاجِبًا مُزَجَّجَا
وَفَاحِمًا وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا
إذيرى النقاد أن كلمة (مسرَّجا) غريبة؛ لأننا لا نقف على معناها إلا بعدالاختلاف في تخريجها، فقيل: هي من قولهم للسيوف: سُرَيجيَّة، نسبة إلىحداد يقال له: سُرَيج، وعلى ذلك يكون المعنى: أنها مستوية ودقيقة كالسيفالسُّرَيجي، وقيل: إنها من السراج، وهو البريق، مأخوذ من قولهم: سَرِجوجهه؛ أي: حَسُن[64].
إنالذي أدَّى إلى هذا الاختلاف في تخريجها أنها عُزِلت عن سياقها الموقفي،ولو أنهم نظروا إليها في سياقها لرَأَوْا أنها لا تحتمل إلاَّ تخريجًاواحدًا، فرؤبة يصف محبوبته بسواد الشعر، وبياض الأسنان المفلجة، والعيونالواسعة الجميلة، والحاجب المزجَّج المدقق المقوَّس، والأنف المستويالدقيق الحسن، فكأن أنفها يُشبِه السيف السُّرَيجيَّ في دقَّته واستوائه.
وهذاهو المعنى الوحيد الذي يُفهَم من السياق الموقفي، ويكشف عن حالته النفسية،ومدى تفجُّعه على محبوبته الموصوفة بتلك الصفات، ويُسهِم في تحديد هذاالمعنى قوله: "أَزْمَانَ أَبْدَتْ وَاضِحًا...".
إذًا؛فلا معنى لاحتمال وصف الأنف بالبريق كالسراج؛ لأنه لا يتَّفق مع الجوِّالنفسي وعاطفة الشاعر "وكان رؤبة رجَّازًا مُجِيدًا بصيرًا باللغة قيِّمًابحوشيِّها وغريبها"[65].
إنالاستخدام الأدبي للألفاظ يعتمد فيما يعتمد على المعنى السيكولوجي لها؛أعني: دلالتها الارتباطية الذاتية والجماعية، ولكنه اعتماد يتَّجه فنيًّابهذه الإيحاءات الخاصة إلى سياق موضوعي، كأنه يفكُّ ارتباطها التقليدي...وتلك مهمَّة الصناعة الأدبية[66].
وبناءًعلى تلك النظرة من فحص الكلمة في سياقها، ومراعاة الحالة النفسية للشاعر؛نقول: إن الكلمة ليست غريبة، ولا تحتمل أكثر من تخريج، وهي فصيحة فيموضعها، دالَّةٌ على الغرض الذي قصَد إليه الشاعر الغَزِل المتهالِك.
والذيأريد أن أقوله: إن هذه الكلمات تجري على لسان الشاعر لا تكلُّف فيها ولاتصنُّع، وإنما تأتيه طواعية تحمل المعنى الذي يدور في نفسه، ويحلِّق فيسماء خياله، وتفيض به عاطفته، وهذا يذكِّرني بأوَّل ما تردَّد من معنىالبلاغة في سؤال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش: "ما هذه البلاغة التيفيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورُنا فتقذفه على ألسنتنا"[67].
ومثل هذا ما يحكمون به على كلمة (جحيش) في قول تأبَّط شرًّا:
يَظَلُّ بِمَوْمَاةٍ وَيُمْسِي بِغَيْرِهَا جَحِيشًا وَيَعْرَوْرِي ظُهُورَ المَهَالِكِ
فهي في نظر العلوي قبيحة جدًّا، ونظيرها قولنا: (فريد) فإنه بمعناها، وبينهما بَوْنٌ لا يُدرَك بقياس[68].
ويؤيِّدهابن الأثير حيث يقول: "ويا لله العجب! أليس أنها بمعنى (فريد)، و(فريد)لفظة حسنة رائقة، ولو وُضِعت في هذا البيت موضع جحيش لما اختلَّ شيء منوزنه"[69].
لقدالتبس على النقَّاد الأمر، فقالوا بقبح هذه الكلمة حين نظروا إليها بعيدةعن مكانها من البيت، بل بعيدة عن الأبيات السابقة واللاحقة، أمَّا حينتُوضَع في مكانها من القصيدة - ولا أقول: البيت - فإن الأمر جِدُّ مختلف،فالشاعر يمدح ابنَ عمِّه فيخلع عليه من الصفات ما لا يكاد يجتمع في أحدٍفيقول:
قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ كَثِيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالمَسَالِكِ
يَظَلُّ بِمَوْمَاةٍ وَيُمْسِي بِغَيْرِهَا جَحِيشًا وَيَعْرَوْرِي ظُهُورَ المَهَالِكِ
وَيَسْبِقُ وَفْدَ الرِّيحِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَحِي بِمُنْخَرِقٍ مِنْ شَدِّهِ المُتَدَارِكِ
إِذَا خَاطَ عَيْنَيْهِ كَرَى النَّوْمِ لَمْ يَزَلْ لَهُ كَالِئٌ مِنْ قَلبِ شَيْحَانَ فَاتِكِ
يَرَى الْوَحْشَةَ الأُنْسَ الأَنِيسَ وَيَهْتَدِي بِحَيْثُ اهْتَدَتْ أُمُّ النُّجُومِ الشَّوَابِكِ[70]
(وفدالريح): أولها، (ينتحي): يعتمد ويقصد، (المنخرق): السريع الواسع،(المتدارك): المتلاحق، والمعنى: أنه لخفَّته ونشاطه يسبق الريح من حيثيقصد بعَدْوٍ وجَرْيٍ سريعٍ متلاحقٍ، بل يرى في الوحشة الأنسَ الأنيسَويهتدي إلى مقاصده كما تهتدي النجوم في سيرها، فلا يضلُّ ولا ينحرف عنمقصده[71].
إذًا؛فالشاعر يصف ابن عمه بالصبر والجَلَد واحتمال الخُطُوب دون شكوى إلى أحد،ولكنَّه يعمل على إزالتها ودفع مضرَّتها، وهو مع ذلك كثير الهوى شتَّيالنَّوى، يركب المهالك، كثير الجولان في الأرض، مستأنِس بنفسه، شديدالحماس والجرأة.
ويؤكِّدهذا المعنى في البيت الأخير، بل إن الأوصاف الأخرى تتعاوَن وتتآزَر من أجلإبراز إيثاره عدم مخالطة الناس، حيث يجِدُ الوحشة أنسه الأنيس، ولما كانذلك من الأمور الغريبة التي تشذُّ عن الطبائع العادية عبَّر عنها الشاعربلفظة غريبة، فهي مقصودة مناسِبة للغرض دالَّة على مراده... ويؤيد هذاالمعنى المعجميُّ والسياقُ السببيُّ للكلمة؛ ففي لسان العرب: جحش عنالقوم: تنحَّى... والجحيش: المتنحِّي عن الناس... وقال أبو حنيفة: الجحيش:الفريد الذي لا يُزاحِمه في داره مزاحم[72].
ومعنىهذا: أن كلمة (فريد) لا تدلُّ على ما تدلُّ عليه كلمة (جحيش)، فللكلمةالأخيرة من الدلالات والإيحاءات ما ليس للأولى، وبينهما كما قال العلوي:بونٌ لا يُدرَك بقياسٍ، مدحًا لا ذمًّا.
ويرىبعض النقَّاد أن الشاعر استعمل كلمة (جحيشًا) لأنها لفظة أكثر غرابة وأقوىجشَّة، فهي أكبر ملائمة لمعناها وسياقها السببي، والفعل (يعروري) كماوضعته اللغة يحكي معناه الشديد الخشِن، يقال: اعروريت الفرسَ، إذا ركبتهعَرِيًّا ليس تحتك شيءٌ، فأصله من المصدر الثلاثي (عري)، وهذا هو دورالسياق السببي[73] في اختيار الشاعر لهذه اللفظة دون غيرها.
وقدلاحَظ اللغويون القدماء أن زيادة المبنى تحمل زيادة المعنى، ولو أضفنا إلىذلك تصوير الحركة السريعة المتتالية والتي نفهمها من قوله: "ويسبق وفدالريح" بما تُوحِي به من سرعة وحركة دائبة، وتصويرٍ فائقٍ مبدِعٍ بحروفهاوحركاتها، وبترتيب مقاطعها وتواليها كأنها تَصِفُ الحركة وصفًا دقيقًا،وتُسمِعنا صوت الحركة بوضوح[74].
وثمَّةملحَظ آخر لم يفطن إليه ابن الأثير وهو "أن سلامة اللفظ يتبع سلامة الطبع،ودماثة الكلام بقدر دماثة الخِلْقَة"[75]، وأن انحياز شاعر صعلوك مثلتأبَّط شرًّا إلى (جحيش) يتَّفق مع ما جُبِل عليه من طبع جافٍّ، وما عُرِفعنه من غدر ولصوصية وإغارة[76]، وربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته وفيجرسه ولهجته[77].
إذًا؛فاستخدام الشاعر مثل هذه اللفظة مُتَساوِق مع تكوينه الثقافي وتكوينهالخلقي، مُتَساوِق مع السياق الموقفي والسياق السببي والسياق اللغويوالحالة النفسية؛ وبناءً على ذلك فالكلمة محمَّلة بالمدِّ الدلالي الذي لانجده في كلمة (فريد) التي ظنَّ بعض النقَّاد أن تكون بديلاً لكلمة (جحيش)،وليس الأمر كذلك؛ لأن الشاعر عندما ينحرف بالكلمة عن استعمالها المألوففلا بُدَّ أن له غاية من وراء ذلك.
•لاحِظ أنه إذا وُجِدَت قرينة تحدِّد المراد من الكلمة الغريبة فإن هذهالقرينة تمحو غرابتها، وتكون الكلمة مقبولة، وهذه القرينة ترتبط بالسياقارتباطًا وثيقًا؛ كما في قوله - تعالى -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِوَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف: 157]، فـ(عَزَّر) مشتركة بين التعظيموالإهانة، ولكن ذُكِر في الآية قرينةٌ دالَّة على إرادة التعظيم، وبهذاتكون الكلمة فصيحة في عُرْفِ جمهور البلاغيين ما لم يلتبس في فهمها.
ومنالشواهد التي جاء فيها الغريب منسجِمًا مع السياق فبدا التناسب بينالكلمات الغريبة جميلاً، وبدا حسن الجوار بين الكلمات متناسقًا: قولُه -تعالى -: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَحَرَضًا} [يوسف: 85]، لما جاء بأغرب ألفاظ القسم (التاء) أتى - سبحانهوتعالى - بأغرب صِيَغ الأفعال من أخوات كان (تفتأ)، وبأغرب ألفاظ الهلاك(حرضًا)، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها فيالغرابة أو الاستعمال[78]، استهجانًا لما فعلوه ودلالة على استنكار أبيهملفعلتهم، وبيانًا لتكلُّفهم في القول، فتشاكَلت الألفاظ وتجاوَرت،وتعانَقت المعاني وحسنت، وتآلفت الألفاظ مع المعاني، فعبَّرت أصدق تعبيرعمَّا في أنفسهم، فكانت معادلة وموازية لما في أنفسهم[79].
إنالكلمة تكتسب كثيرًا من الظلال والإيحاءات نتيجة استعمالها عبر التاريخ إذتمرُّ بآلاف التجارب الإنسانية، فرُبَّ كلمة كانت مألوفة في زمانٍ ثمأصبحت غير مألوفة، إنها ليست رمزًا يشير إلى فكرة أو معنى فحسب، بل هونسيج متشعِّب من صور ومشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية، فثبتت في اللفظةوارتبطت بها؛ فزادت معناها الأصلي حياة وإيحاءً... غير أن للألفاظ فوق ذلك- أي: فوق أصلها المجرَّد وارتباطها التراثي والشخصي - ظلالاً تضفيهاعليها مجالاتها المختلفة التي تدخلها في سياق كلي وبنيوي جديد هو من صنعالأديب أو الشاعر.
إنقضية السياق هي القضية الأساسية في تفسير النص الأدبي؛ لأن السياق وحده هوالذي يشكِّل معنى اللفظ تشكيلاً جديدًا؛ إذ ينشأ اللفظ في ظلال هذا السياقويكتسب منه إيحاءه الجديد، من أجل ذلك نقول: إن الألفاظ لا تتفاضَل فيذاتها، فليس هناك كلمة شعرية وأخرى غير شعرية، وإنما تكتسب قيمتهاوشعريتها من خلال السياق[80].
3- مخالفة الوضع/ القياس:
أمَّا الشرط الثالث من شروط فصاحة الكلمة، فهو أن تكون موافِقَة للقوانينالصرفية التي تقرِّر حكم مفردات اللغة، فإذا ما جاءت الكلمة مخالِفَة لماقرَّره اللغويون العرب في هذا الصدد فإنها لا تُعَدُّ فصيحة، وهذهالمخالفة قد تتَّصل ببنية الكلمة من حيث التغيُّر فيها بالزيادة أو النقص،وقد عاب ابنُ سنان رؤبةَ في قوله:
قَوَاطِنًا مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الْحَمَا
يريد(الحمام)، فالشاعر قد لجأ إلى حذف جزء من بنية الكلمة، فخرج على المألوفصياغيًّا، وبالمثل قد يعمد الشاعر إلى إشباع الحركة حتى تصير حرفًا، كماقال ابن هرمة:
وَأَنْتَ عَلَى الغَوَايَةِ حِينَ تَرْمِي وَعَنْ عَيْبِ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
أي: (بمنتزح)[81].
وقدحاوَل بعض العلماء الربط بين هذه الظاهرة الصياغية والناحية الدلالية، فقدلاحَظ الزركشي أن بعض الأفعال تَرِد في الخطاب القرآني وقد قصرت حركتهاالطويلة في الكتابة تبعًا لإسقاطها في النطق، وعلَّل لهذا الإسقاط بأنهللتنبيه على سرعة وقوع الفعل، وسهولته على الفاعل، وشدَّة قبول المنفعلالمتأثِّر به في الوجود، وهو ما يعني من الناحية الصوتية الخالصة قد يكونلها إفراز دلالي مكثَّف في مثل قوله - تعالى -: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق: 18]، ففيه سرعة الفعل، وإجابة الزبانية، وقوة البطش[82].
ويحضرنيشاهد آخر في قوله - تعالى -: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَيَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]، فهي تدلُّ على سرعة الفعل وهو الاستدراجفضلاً عمَّا يصوِّره الفعل من وصف الحدث وهو التدرُّج في التنزُّل بهم إلىالعذاب من حيث لا يعلمون، وهذا الوصف يوحي بأثر المفاجأة.
وفيما يتَّصل بالبنية أيضًا عاب النقَّاد على الشاعر استخدامَ صيغةٍ للجمع غير صحيحة أو مخالفة للقياس، كما في قول المتنبي:
فَإِنْ يَكُ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ
حيث جمع الشاعر كلمة (بوق) جمعَ مؤنثٍ سالمًا، مع أن قياس جمع الكلمة أن تُجمع على (أبواق).
والمتنبيفي هذا البيت يمدح سيف الدولة قائلاً له: إذا كنت سيفًا لدولتك له أثرهوخطره، فغيرك من الملوك بمثابة البوق والطبل؛ أي: لا أثر له ولا غناء فيه.
قالابن جني: "وقد عاب على أبي الطيب مَن لا مَخبَرة له بكلام العرب جمع (بوق)على (بوقات)، والقياس يعضده، إذ له نظائر كثيرة؛ مثل: حمَّام وحمَّامات،سرادق وسرادقات، وجواب وجوابات، وهو كثيرٌ في كلام العرب في جمع ما لايعقل من المذكر"[83].
إذًافلا عيب عليه في استخدام هذا الجمع، لكنِّي أرى أن الشاعر هنا يقصد قصدًاإلى العدول عن جمع التكسير (أبواق) إلى جمع المؤنث (بوقات) لدلالة الأخيرعلى التقليل، والتقليل هنا يوحي بتقليل شأن غيره من الملوك كما أن بوقاتوطبول توحي بالفراغ والخلو؛ لأنها تنفخ وتدقُّ لفراغها لتُحدِث صوتًا،وهذا من "إيحاء الدلالات الهامشية للألفاظ"[84]، حتى في لغتنا العامية إذاأردنا أن نقلِّل من شأن شخص أو نسخر منه، فإننا نصفه بقولنا: فلان هذابوق؛ أي: إنه فارغ القيمة.
جرىالمؤلفون على قولهم: (مخالفة القياس)، ولكننا نُؤثِر أن نقول: (مخالفةالوضع)؛ لأنه قد تكون الكلمة مخالفة للقياس، وهي مع ذلك فصيحة لموافقتهالوضع الواضع مثل: (يأبَى) مضارع (أبَى)، فإن القياس فيه أن يُقال(يأبِِي)؛ لأن (فعَل) المفتوح العين لا يأتي مضارعه على (يفعَل) بفتحهاإلا إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق، كـ(سأل - يسأل) و(منع - يمنع) وليس(أبَى - يأبَى) من هذا القبيل، إذًا ففتح عين مضارعه مخالف للقياس وهو ماذلك فصيح، لموافقته ما ثبت عن الواضع، فقد ورد في قوله - تعالى -:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32].
والواقعأن هناك من الكلمات ما لم يجرِ على الوضع/القياس من
وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ
وَكَشْحٍ لَطِيفٍ كَالجَدِيلِ مُخَصَّرٍ وَسَاقٍ كَأُنْبُوبِ السَّقِيِّ المُذَلَّلِ[24]
فالشاعرهنا يصف محبوبته بأوصافٍ متعدِّدة، ويشغله من هذه الأوصاف شعرُها، فيصفهبالطول والنعومة، وشدَّة السواد، وشدَّة التداخُل والكثافة؛ حيث تتزاحَمخصلاته على رأسها.
ويجبألاَّ ننسى أن الشَّعْر يأخذ شيئًا من الأهمية عند امرئ القيس، باعتبارهمن أدلِّ الأمور على التكوين الأنثوي من ناحية، وباعتباره عاملاً فعَّالاًفي تجلية الجمال من ناحية أخرى، ولأمرٍ ما أضفى الشاعر على شَعر المرأةطابعًا مركَّبًا، فعقَّّد من حركته حيث أطلق بعضه أحيانًا وقيَّد بعضهأحيانًا أخرى (فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ)، ويبدو واضحًا حرصُ امرئ القيسعلى أن يكون لهذا الشعر مواصفات خاصة تهيِّئ له من التناسُب مع بعضالأعضاء الأخرى المجاوِرَة له، فشدَّة سواد الشعر تُحدِث تقابلاًومفارَقةً مع بياض الوجه وإشراقه، كما أن خواصَّ الشعر نفسَها تعتَمِد علىالتقابُل في انسيابه على الظهر من ناحية، وارتفاعه إلى أعلى من ناحيةأخرى، وفي تثنِّيه تارةً وإرسالهِ تارة أخرى، فالتقابُل كان خارجيًّاوداخليًّا في آنٍ واحد[25].
والناظرلكلمة (مستشزرات) يحسُّ منها - بدايةً - تنافرًا في الحروف وثِقَلاً فيالنطق "ولكن قليلاً من التفكير يهدينا إلى أن هذا التنافر لازمٌ لزومًافنيًّا مؤكدًا؛ لأنه ينطبق على الصورة التي يريد الشاعر أن يرسمها لهذهالخصلات الكثيرة الكثيفة التي تتزاحم على رأس محبوبته، وترتفع إلى أعلى،ويغيب باقي الشعر الكثيف تحتها من مفتولٍ ظل على انتظامه، وغير مفتولٍانطلق هنا وهناك، صورة غنية رائعة... إذا أجدنا تصوُّرها واستمعنا إلى(مستشزرات) أدركنا أنها تقتضي هذا التنافر... حقًّا هو تنافر، ولكن ماأقوى انسجامه مع الصورة المرسومة" التي قصدها الشاعر.
إنالشاعر المطبوع يستخدم الكلمات عن قصد، وليس استخدامه لها استخدامًاعشوائيًّا، وقد يكون القصد غير واعٍ، ولكن الرؤية الفنية لديه توجِّهاستعماله للغة سواء من حيث المفردات أو من حيث التراكيب، والذي نريد أننقوله في هذا المقام: إن اللغة غنية بالمترادفات لكلِّ كلمة[26]، والشاعرحينما يستخدم أحد هذه المترادفات فلأنه يرى أن فيه غُنية وخصوصية عن غيره،ويؤيِّد هذا المعنى المعجميُّ فقد جاء في "لسان العرب": "شزر الحبل: فتله؛أي: لوَّاه وبرَمه، واستشزر: انفتل"، ونلحظ هنا أن زيادة المبنى تبعهازيادةٌ في المعنى؛ فلفظة (انفتل) تدلُّ على مدى تداخُل خصلات الشعرواختلاف أوضاعها، كما نلحظ في مادة الكلمة (شزر) وجهًا من أوجه التسمية،وكأن هذا الوجه سببٌ في اختيار ذلك اللفظ لهذا المعنى، وهذا ما يسمَّىبـ(السياق السببي)، وهو السياق الذي "يُسهِم من جانبٍ في كثرة المترادفات،وإنشاء ألفاظ جديدة يُلحَظ فيها وجوه مختلفة للتسمية، ومن جانب آخر يُسهِمفي تفسير وجود المترادفات في اللغة، من حيث كونها ظاهرة"[27].
علىأن الذي ينبغي أن نلاحظه هنا - إيضاحًا لما سبق وإكمالاً له - أن التنافرفي تلك الكلمة ناشئ من اجتماع أصوات متقاربة المخرج هي السين والشينوالزاي، وقد أبدع امرؤ القيس في الجمع بين تلك الأصوات المتقاربة في كلمةواحدة، فهي تعرف بحروف الصفير، وكأن امرأ القيس يريد أن يوظِّف هذا الصفيرفي الدلالة على تطاير الشعر وارتفاعه في الهواء، فنسمع له صوتًا: "وتأملقيمة الألف في (مستشزرات) في الدلالة على ارتفاع هذا الشعر إلى العلا"[28].
وكأنهذا التعثُّر أو التنافر في حروف الكلمة يصوِّر هيئة الشعر وحاله وشكله؛فالكلمة دالَّة بشكلها، مصوِّرة بنطقها، موحيَة بالمعنى المقصود، ونحننعلم أن امرأ القيس من المجِيدِين في التشبيه والتصوير، فهل كان عاجزًا عنالإتيان بكلمةٍ أسهل نطقًا من هذه الكلمة؟ لا أظنُّ ولكنه أتى بالكلمةالمصوِّرة الهادِفة الموحِيَة المحقِّقة للغرض النابعة من الفطرة السليمة،والسليقة المعتدِلة والخيال المحلق، وبهذا التوجيه للكلمة والتحليللبِنْيَتها نكون قد راعَينا حال المتكلم وحال المخاطب والسياق العاموالخاص.
ويزدادالأمر وضوحًا لو توقَّفنا عند كلمة (المتعثكل) في البيت السابق،وتأمَّلناها صوتًا ومعنى ودلالة، نجدها تتميَّز ببنيتها الصوتية العامَّة،وتنقل صورة الشعر المتداخِل الملقى على ظهر محبوبته، وهذه الكلمة التيتبدو هي الأخرى غريبة نافرة في مسامعنا، والتي أشكلت على البلاغيينوالنقَّاد؛ لأنهم لم يتنبَّهوا إلى صدقها التصويري ولزومها الحيوي فيمكانها من النص، فلو نظرنا إليها بعين الشاعر لرأينا انسجامًا وتعاونًابين حروفها وترتيب مقاطعها، وإبداعها في رسم صورة الشعر الكثيف المتداخِل،فالبنية المقطعية لصورة ذلك الشَّعر حكاية دقيقة صادقة، فهي تتميَّزبالتقابُل بين المقاطع القصيرة المفتوحة: (مُ - تَ -... كِ - لِ)، وبينالمقطع الطويل المغلق (عَثْ).
وكأنالمقطعين القصيرين الأوَّلَين يصوِّران بداية تدرُّج شَعرها على رأسهاوأعلى كتفها، بينما يصوِّر المقطع الطويل طوله واسترساله على كتفها،ويصوِّر المقطعان الأخيران نهاية هذا التدرُّج وسكونه واستقراره وتتميز(الثاء) الساكنة في (المتعثكل) - كما لاحظ الدكتور النويهي - بالتقاطهالنغم الثاءين اللتين تقدَّمتا في كلمة (أثيث)[29].
لذلكينبِّه أحد البلاغيين المحدَثِين إلى أن الكلمة الواصفة في بيت امرئ القيسهي كلمة (أثيث) فيقول: "ولو جهدت في طلب كلمة تصف الشعر الكثيف المسترسِلالذي يغشَى متن الحسناء، لما وجدت أوصف من كلمة (أثيث)، وصوت الثاءالمؤذِن بتخلُّل الهواء من بين طرف اللسان والثنايا العليا، وتكرَّر هذاالصوت يصف معناه بحق"[30].
"وهكذاترقى القيمة الصوتية إلى حكاية معنى عرفي رصَدَه المعجم للفظ أو معنىطبيعي ممَّا تستوحِيه النفس ولا تستطيع وصفه، فإن أمكن أحيانًا أن نشيرإليه من بُعْدٍ فإننا لا نستطيع تفسير العلة التي جعلته مُوحِيًا على هذاالنحو، وكأنه فعل الموسيقا في النفس، فمَثَل التأثُّر به كمَثَل التأثُّرباللحن الموسيقي نطرب له ولا ندرس لماذا؟... وإن استعمال مثل هذه الكلماتيحقِّق أغراضًا إيحائية بالمعاني الطبيعية التي تضيف إلى المعاني العرفيةللألفاظ أبعادًا إضافية ما كان لها أن تتحقَّق لولا ما تحمِلُه حكايةالصوت من طاقة إيحائية[31]".
بعدهذا التحليل للأبيات والتوقُّف عند بنية الكلمات المصورة، نستطيع أن نقولمطمئنِّين: إن الألفاظ التي استخدَمَها امرؤ القيس في وصف الشَّعر ألفاظمقصودة، قارَّة في موضعها، نابعة من عاطفة صادقة؛ لذلك جاء كلُّ لفظٍ منهامحمَّلاً بمدٍّ دلالي مُفعَم لا يسعفنا به غيرُه.
وتزداد القضية وضوحًا عند امرئ القيس في قوله من القصيدة نفسها:
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وَاِنْتَحَى بِنَا بَطْنُ خَبْثٍ ذِي حِقَافٍ عَقَنْقَلِ[32]
فالحِقفمن الرمل: المعوج، والعَقَنْقَل: هو الرمل المنعقد المتداخِل، وقد اختارله امرؤ القيس كلمة معقَّدة كذلك؛ لأنها تحتوي على صوت العين الحلقي معتكرير القاف المقلقلة، وهو تعقيدٌ فني مقصود؛ لأنه ينسجم مع تلك الرمالالمتراكِبَة المتداخِلَة من ناحية، كما ينسجم مع (الجرس الصوتي) السائد فيالبيت من ناحية أخرى، وهو جرس غليظ، تفصح عنه أصوات الخاء والطاء والقاف؛لأنها أصوات مفخَّمة تجمع بين الاستعلاء والإطباق، فامرؤ القيس إذًا لميستعمل هذه الألفاظ لأنه شاعر جاهلي بدوي خشِن، يحبُّ الحُوشِيَّ منالكلام، ويعجز عن تحقيق التناسُق والتناسُب فيما ينظم؛ بل لأنه يرى فيهاالصورة المقصودة، والعاطفة الغالبة تقتضيها اقتضاءً عضويًّا، فالشاعرعندما يقصِد إلى كلمات بعينها غير خاضعة لأصول الفصاحة المعيارية،ويتجاوَز تلك الأصول، فهو يرى أن مجاوزة تلك المعايير يحقِّق له هدفهالمقصود، ولو خضع لمعايير الفصاحة في هذا الموضع لفسَد الخطاب وأُهدِرَتمستهدفاته الدلالية.
ومما ردَّه النقاد لعدم فصاحته كلمة (الجِرِشَّى) بكسر الجيم وتشديد الشين بمعنى (النفس) في بيت المتنبي يمدح سيف الدولة:
مُبَارَكُ الاِسْمِ أَغَرُّ اللَقَبْ كَرِيمُ الجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ[33]
لقدعاب النقَّاد أبا الطيب في استخدام لفظة (جِرِشَّى)، واعتبروها قبيحةغريبة ثقيلة على السمع؛ لأنها غير مألوفة الاستعمال، وأظن أن هذا الحكمفيه تزيُّد على المتنبي؛ لأن الحكم على اللفظة بعيدةٌ عن سياقها وعن الوزنالشعري الذي احتضنها، لا شكَّ أن ذلك يقلِّل من قيمتها، ولكي ننصِفالمتنبي أرى أن نعرِض بعض أبيات القصيدة التي تمثِّل السياق الذي وَرَدفيه البيت والذي اشتمَل على الكلمة، يقول المتنبي[34]:
فَهِمْتُ الكِتَابَ أَبَرَّ الكُتُبْ فَسَمْعًا لِأَمْرِ أَمِيرِ العَرَبْ
وَطَوْعًا لَهُ وَابْتِهَاجًا بِهِ وَإِنْ قَصَّرَ الفِعْلُ عَمَّا وَجَبْ
وَمَا لاقَنِي بَلَدٌ بَعْدَكُمْ وَلاَ اعْتَضْتُ مِنْ رَبِّ نُعْمَايَ رَبْ
وَمَا قِسْتُ كُلَّ مُلُوكِ البِلاَدِ فَدَعْ ذِكْرَ بَعْضٍ بِمَنْ فِي حَلَبْ
وَلَوْ كُنْتُ سَمَّيْتُهُمْ بِاسْمِهِ لَكَانَ الحَدِيدَ وَكَانُوْا الخَشَبْ
أَفِي الرَّأْيِ يُشْبَهُ أَمْ فِي السَّخَا ءِ أَمْ فِي الشَّجَاعَةِ أَمْ فِي الأَدَبْ
مُبَارَكُ الاِسْمِ أَغَرُّ اللَّقَبْ كَرِيمُ الجِرِشَّى شَرِيفُ النَّسَبْ
واضحأن الأبيات في مقام المدح، وهو مقام يستدعي الإطناب، وقد جاءت القصيدة علىهذا المقتضى؛ إذ تتألَّف من أربعةٍ وأربعين بيتًا كلها في المدح، وسَوْقُالمتنبي القصيدةَ على هذا الغرض مطابقةٌ لمقتضى الحال.
ولونظرنا إلى البيت موضع الشاهد من خلال سياقه لوجدناه متساوقًا مع أبياتالقصيدة كلها، وكلمة (الجِرشَّى) متساوقة مع الوزن، وبخاصة أن البحر الذيبُنِيت عليه القصيدة هو (بحر المتقارب)، وهو من البحور ذات التفعيلةالواحدة المتكرِّرة (فعولن) ثمان مرات في البيت، مما يُسهِّل الإيقاعويُضفِي عليه جمالاً، فلا نحسُّ للكلمة ثقلاً أو غرابة في سياقها.
يقولريتشاردز: "إنَّ وقْع الصوت لدى النفس لا يتوقَّف على الصوت نفسه بقدر مايتوقَّف على ظروفه المحيطة به؛ أي: على مقدار ما بينه وبين ما قبله ومابعده من الأصوات من انسجام، فإن هذه الأصوات تتآلَف وتكوِّن شبكة محبوكةالنسيج، وإنَّ الكلمة التي تستطيع أن تقع موقع الرضا والقبول لدى هذهالأصوات جميعها، وتنسجم معها كلها في وقت واحد، هي الكلمة التي تظهر بمظهرالفوز الموسيقي"[35].
ويؤكِّد هذا الفهم جاكبسون حيث يقول: "أنا لا أومن بالأشياء بحدِّ ذاتها، بل أومن بالعلاقات القائمة بينها"[36].
ونجدعندنا سندًا تراثيًّا يؤيِّد هذا؛ فقد نقَل المَرْزُبَاني قول المبرد:"وقد يضطرُّ الشاعر المُفْلِق والخطيب المُصْقِع والكاتب البليغ، فيقع فيكلام أحدهم المعنى المستغلق، واللفظ المستكرَه، فإذا انعطفت عليه جنبتَاالكلام، غطَّتَا على عُواره، وستَرتَا من شيْنه"[37].
وأظنأن المتنبي شاعر مُفلِق وأديب بليغ، فإذا وقع منه ذلك في قصيدة كبيرةقصدًا أو اضطرارًا، فلا يغضُّ ذلك من شأنه، ولا يقلِّل من فصاحة الكلمة فيموضعها وسياقها، وقد اتَّفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر فيأثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة، فإن العرب لم يعيبوامعلَّقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة، رغم ما بهما من ألفاظ ثقيلة.
•ومما تجدر ملاحظته أن تطبيقات النقَّاد المعنيِّين بالغريب دلَّت على ولَعمعظمهم بأحكام القيمة، واقتصرت - أو كادت - على استخلاص شواهد الغريب مندواوين الشعراء، وإشاعتها في المجالس، أو تدوينها في المصنَّفات؛ حتى تؤديرسالتها في تنفير أجيال الشعراء من تعاطي الغريب.
وقدتخلَّى أنصار هذا الاتجاه عن مهامَّ نقديةٍ خطيرةٍ؛ كالنظر في مصدرالغريب، ومعرفة أكثر عناصر الموروث الثقافي تأثيرًا في الشاعر، ومناقشةحقِّ الشاعر في بعث ميت الألفاظ، ودعوة المتلقِّين إلى الارتقاء بثقافتهمحتى يُحسِنوا ذوق الشعر، لقد أراح معظم النقَّاد أنفسهم من مثل هذه المهام.
فهذاالصاحب بن عباد (ت385هـ) يعفي نفسه من عناء النظر في مدى قدرة المتنبي(ت354هـ) على توظيف ثقافته اللغوية، ويكتفي بإصدار أحكام القيمة على البيتالتالي:
أُسَائِلُهَا عَنِ المُتَدَيِّرِيهَا فَلاَ تَدْرِي وَلاَ تُذْرِي دُمُوعَا[38]
يقول:"لفظة (المتديريها) لو وقعت في بحرٍ صافٍ لكدَّرته، ولو أُلقِي ثقلها علىجبلٍ سامٍ لهدَّه، وليس للمقت فيها نهاية، ولا للبرد معها غاية"[39].
وواضحمن تعليق الصاحب بن عبَّاد التزيُّد الشديد على المتنبي، ولو أنصف الصاحبلأدرك أن أبا الطيب لا يُعَابُ على غزارة معارفه، ولا على إتيانه بألفاظلا إلفَ للناس بها، بل يُعَابُ إذا كانت معارفه ضَحْلَة، أو إذا لميُحْسِن توظيفها، فهو يُسائِل الديار عن أهلها: أين ذهبوا؟ فلا تدري ولاتجيبه ولا تساعده على البكاء، فهذه حاله، ولا بُدَّ أن نراعي أنه ذو عاطفةجيَّاشة، وفي حيرةٍ من أمر سكَّان الديار.
وإنمَن يتأمَّل كلمة (المتديريها) يجدها أخف على اللسان من كلمة مثل(المستشزرات)، كما أن السياق الموقِفي، والسياق السببي، والإحساس النفسيأطاحوا بغرابتها؛ فوجودها بعد الجملة الفعلية (أسائلها)، وبعد حرف الجر(عن)، وقبل الجملتين المنفيتين: (فلا تدري)، (ولا تذري)، يذيب غرابتها،ويعفي المتلقِّي من اللجوء إلى معاجم اللغة، خاصة إذا كان المتلقِّي ممِّنمرنوا على قراءة الشعر العربي، وعرفوا تقاليد الشعراء في سؤال الديارواستعجامها عن الجواب.
وإذاكان البعض يرى أن كلمات مثل (ساكنيها) أو (قاطنيها) أن تَسُدَّ مَسَدَّ(المتديريها)، لكن مثل هذه الكلمات تجعل المتنبي لا يختلف عن غيره منالشعراء، ولا تتَّفق مع حرصه على إثبات جدارته بصحبة الأمراء والملوك،وتفوُّقه على مَن يغشى مجالسهم من أعيان الشعراء، والكُتَّاب، والفلاسفة،واللغويين، والنقَّاد، والمتصوِّفة.
الغريبإذًا يتَّفق مع التكوين النفسي للمتنبي، ويتَّفق مع حرصه على أن يملأالدنيا ويشغل الناس بأمره، مع توقه إلى إسكات حُسَّاده وشانِئيه، وليسكذلك المألوف، ولكن الصاحب بن عباد لم يفطن إلى شيءٍ من ذلك[40].
ونزيد القضية وضوحًا بالتوقُّف مع قول تأبَّط شرًّا:
قَلِيلِ ادِّخَارِ الزَّادِ إِلاَّ تَعِلَّةً وَقَدْ نَشَزَ الشُّرْسُوفُ وَالْتَصَقَ المِعَى
يرىبعض النقَّاد أن في قوله: (نشز الشرسوف) تنافرًا وثقلاً، ولو تأمَّلناموقف الشاعر وحالته النفسية لاختلف الأمر، فالشاعر لم يلجأ إلي هذاالتعبير لأنه بدوي، متنافر الطباع، عديم الفصاحة، بل لأنه يصف نفسه - وهوشاعر من الشعراء الصعاليك - بالجوع وقلَّة الطعام حتى أُصِيب بالهُزَالفبرزت رؤوس ضلوعه في صدره شاخصةً للعيان، وضمرت معدته وأمعاؤه لدرجة أنهاالتَصَقت بعضها ببعضٍ؛ لخلوِّها من الطعام، أفكان يستطيع أن يؤدِّي صورتههذه أداءً حيًّا بغير هذا التعبير الذي يعدُّه النقَّاد غير فصيح، وأنكلماته متنافرة أو ثقيلة؟
هكذاتتَّضح الصورة بالنظر إلى السياق؛ لأن نشاط السياق في الإبداع يجمع بين"عناصر النشاط اللغوي من ناحية، وعناصر الموقف النفسي الاجتماعي من ناحيةأخرى"[41]؛ لذلك يقول أحد اللغويين المعاصرين: "إن معنى الكلام لا يتأتَّىفصلُه بأيَّة حال من الأحوال عن السياق الذي يُعرَض فيه"[42].
وكثيرًاما نجد في شعرنا القديم أمثلةً لهذا التنافر المقصود؛ لأنه يؤدِّي وظيفةًعضوية في الصورة الشعرية، وذلك حين يربط بين المعنى واللفظ ربطًا وثيقًا.
ومنهنا نعلم أن الحالة النفسية أو الحالة العاطفية للمُبدِع لها دورٌ فياختيار الكلمات، ولعلَّ إهمال البلاغيين القدامَى لهذا الأمر، ونظرهم إلىهذه الكلمات مفردة بعيدةً عن سياقها اللغوي وسياقها الموقفي - هو ما جعلهميتَّهمون مثل هذه الإبداعات بعدم الفصاحة، يقول القاضي عبدالجبار:"فالفصاحة لا تظهر في أفراد الكلام وإنما تظهر في الكلام بالضمِّ علىطريقة مخصوصة، ولا بُدَّ مع الضمِّ من أن يكون لكلِّ كلمة صِفَة، وقد يجوزفي هذه الصفَة أن تكون بالمواضَعَة التي تتناوَل الضم، وقد تكون الإعرابالذي له مدخلٌ فيه، وقد تكون بالموقع، وليس لهذه الأقسام الثلاثة رابع؛لأنه إمَّا أن تعتبر فيه الكلمة أو حركاتها أو موقعها، ولا بُدَّ من هذافي كل كلمة، ثم لا بُدَّ من اعتبار مثله من الكلمات إذا انضمَّ بعضها إلىبعض؛ لأنه قد يكون لها عند الانضمام صفة، وكذلك لكيفية إعرابها، وحركاتها،وموقعها، فعلى هذا الوجه الذي ذكرناه، إنما تظهر الفصاحة بهذه الوجوه دونما عداها"[43].
علىأننا كثيرًا ما نفعل مثلَ ذلك ببعض ألفاظنا العامية إذا اقتضى الأمرللتعبير عن المعنى المقصود، فمن ذلك على سبيل المثال الكلمات الدارجةمفشكل - متختخ - ملظلظ - مدندش - مبعجر) نجد أن كلاًّ منها يدلُّ علىمعنى خاص مرتبط ارتباطًا عضويًّا بلفظه.
لقدالتفت القدماء إلى ما بين الأصوات والمعاني من مناسبة، فهناك فرق بين(خَشُنَ) و(اخْشَوْشَن)، ذكر سيبويه أنه قد سأل الخليل عن ذلك فقال:"كأنهم أرادوا المبالغة والتوكيد كما أنه إذا قال: (اعْشَوْشَبَت الأرض)،فإنما يريد أن يجعل ذلك كثيرًا عامًّا قد بالغ"[44].
والتفتابن جني إلى هذه القضية وقيَّدها في كتابه "الخصائص" في بابٍ كبير القيمةسمَّاه (في إمساس الألفاظ أشباه المعاني)، وهو باب ممتع بما فيه من شواهدوأمثلة رائعة وتحليل جيِّد، يقول: "إنك تجد المصادر الرباعية المضعَّفةتأتي للتكرير، نحو: الزَّعزعة والقلقلة والصلصلة... ونجد أيضًا الفَعَلىفي المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو: (البَشَكَى والجَمَزَىوالوَلقَى...) فجعلوا المثال المكرَّر للمعنى المكرَّر، والمثال الذيتوالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها[45].
وقدالتَفَت أيضًا إلى هذه الظاهرة الثعالبي صاحب "فقه اللغة وسر العربية"؛حيث يقول: "فإذا استمعت إلى إنشاد بيت البحتري في وصف الذئب الجائعالمرتجِف بسبب البرد ظننته أمامك:
يُقَضْقِضُ عُصْلاً فِي أَسِرَّتِهَا الرَّدَى كَقَضْقَضَةِ المَقْرُورِ أَرْعَدَهُ البَرْدُ
فإن تكرار القاف وتواليها خمس مرات، وتكرار الراء ست مرات مع الحروف الأخرى يوحي بصورة الذئب في ضراوته وجوعه وارتجافه"[46].
ولسناوحدنا الذين يلفتهم جمال الحرف المكرَّر ورجع صوته إذا عاد على أبعادمتجاوبة في التركيب، وإن كنَّا قد سبقنا غيرنا في الدلالة على ذلك، فقدالتَفَتَ أيضًا إلى هذه الظاهرة علماءُ الغرب، ووضعوا لها اصطلاحًا خاصًافسموها (أونوماتوبيا) Onomatopoeia، ويعنون بها: (موافقة الصوتوالصورة)[47].
ونجدشاهدًا على ذلك ما نقله آرثر سيمونز Arthur Symons عن إرنست دوسون إقرارهبأن مثَلَه الأعلى في الشعر هو هذا البيت للشاعر الأمريكي بو Poe:
[size=16] google_protectAndRun("ads_core.google_render_ad", google_handleError, google_render_ad);
The viol ،the violet ،and the vine
وأنه كان يرى أن الحرف (V) هو أجمل الحروف في اللغة الإنجليزية[48]، وقدأتى هكذا مكرَّرًا في أوائل الكلمات الثلاث متجاوب النغم، كما رأينا فيأمثلتنا من النصوص العربية، والجناس معروف في بلاغات الآخَرين كما هومعروف في بلاغة العرب[49]".
إنالكلمة الفصيحة تجمُل بجرسها ووقعها في الأذن، وسهولة جريانها على اللسان،وبما لها من إيحاءٍ بالمعنى، وبما تبعثه من نبرات دقيقة تسمعنا صوتالعاطفة، وذلك متوقِّف على مقدارِ ما بينها وما قبلها وما بعدها من انسجاموتآلف صوتي استدعاه السياق.
2- الغرابة:
والشرط الثاني لدخول الكلمة دائرة الفصاحة: ألاَّ تكون غريبةً أو نادرةَالاستعمالِ غير متداوَلة أو مألوفة، بحيث لا نحتاج إلى البحث عنها فيالمعاجم لكي نفهم معناها، ولئلاَّ يكون بينها وبين المتلقِّي انفصالٌ يعوقوصوله إلى مدلولها.
والنقيضالمباشر للاستعمال هو (الوحشية)، وقصدوا بها أن الألفاظ تكون مهجورة أوغير مأنوسة الاستعمال، ومن هنا يكون بينها وبين المتلقِّي انفصالٌ يعوقوصوله إلى مدلولها، لكن اللافت أن موقف النقد القديم لم يكن رافضًا رفضًامطلقًا للتعامُل مع مثل هذه الدوال (الكلمات)، فالجاحظ مثلاً يربطاستعماله بالإطار الاجتماعي، فللمتكلم أن يسلك هذا المسلك إذا كان بدويًّاأعرابيًّا، ولوجود التلاؤم بين طبيعة اللفظة وطبيعة مستعمِلها ومتلقِّيها:"فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس"[50].
إن الغرابة التي ينبو عنها حسن البيان ككلمة (الطرموق) بدل (الطين)، و(الاستمصال) بدل (الإسهال)، و(الهزبر) بدل (الأسد).
هذههي الغرابة المخِلَّة بالفصاحة عند البلاغين، وقد ذكروا من أمثالها قصةطريفة تُروَى عن علقمة النحوي قالوا: إنه سقط عن حماره فاجتمع عليه الناسفقال: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكُئِكُم على ذي جِنَّة، افرنقِعُوا.
وأظنُّأن علي بن عيسى - وكان حسن التخلُّص جيد المداعبة - إنما اصطنع هذهالألفاظ ليشغل بها الذين أحاطوا به وليصرفهم بهذه الدعابة[51].
وممايُحسَب لابن سنان في هذا المجال ربطه المفردة بالسياق؛ حيث رأى أن السياقأحيانًا يقتضي استخدام اللفظة الموصوفة بالتوحُّش، وحيث لا يكون للمبدعمندوحة عنها، كأن تكون اسمًا لمكان، فلا بُدَّ من ذكرها لكمال الإفادة،كقول البحتري:
وَأَنَا الشُّجَاعُ وَقَدْ رَأَيْتَ مَوَاقِفِي بِعَقَرْقَسٍ وَالمَشْرَفِيَّةُ شُهَّدِي
فالشاعر له عذر واضح في ذكر (عَقرْقَسٍ)؛ لأنه الموضع الذي شهد الممدوح به قتاله، وليس يحسن أن يذكر موضعًا غيره[52].
لقد رأى ابن سنان أن استخدام كلمة (عَقرْقَسٍ) وإن كانت غريبة إلاَّ أن الشاعر مضطر لذكرها، ولا مندوحة له عنها؛ لأنها اسم مكان.
أماابن الأثير فيتقدَّم خطوة لها خطورتها في ربط المصطلح بالتطوُّر الزمني،فهناك ألفاظ استعمَلَها الأوائل دون الأواخر، وهذا لا يُعَاب استعماله عندالعرب؛ لأنه لم يكن عندهم وحشيًّا، وهو في زمن ابن الأثير يُعَدُّ وحشيًّالعدم استعماله، ويعود ابن الأثير ويضيف إلى رأيه السابق وجود نوعٍ آخرأسماه (الغريب الحسن)، وهو الذي يختلف باختلاف السبب والإضافة، ويرتبط هذاالنوع بالجنس الأدبي، فيسوغ استعماله في الشعر دون الخُطَب والمُكاتَبَات،وذكَر من هذا الغريب الحسن كلمة (شَرَنْبَثَة) في قول الفرزدق:
وَلَوْلاَ حَيَاءٌ زِدْتُ رَأْسَكَ شَجَّةً إِذَا سُبِرَتْ ظَلَّتْ جَوَانِبُهَا تَغْلِي
شَرَنْبَثَةٌ شَمْطَاءُ مَنْ يَرْتَمِي بِهَا تَشُبْهُ وَلَوْ بَيْنَ الخُمَاسِيِّ وَالطِّفْلِ[53]
"فقولهشَرَنْبَثَة) من الألفاظ الغريبة التي يسوغ استعمالها في الشعر، وهي هناغير مستكرَهة، وكذلك لفظة (مشمخر) ولفظة (الكَنَهْوَر)[54].
وقدكان الشعراء قديمًا يتعمَّدون استخدام الغريب إذا كان الموقف أو الحاليستدعي ذلك؛ ومن ذلك ما تعمَّده بشار فيما رواه الأصمعي من أن بشارًا قالقصيدةً أكثر فيها من الغريب لما رأى سلمًا يتباصَر بالغريب، فأراد أنيردَّ عليه بما لا يعرفه[55].
ومما عدَّه النقَّاد غريبًا كلمة (اطلخمَّ) في قول أبي تمام:
قَدْ قُلْتُ لَمَّا اطْلَخَمَّ الأَمْرُ وَانبَعَثَتْ عَشْوَاءُ تَالِيَةً غُبْسًا دَهَارِيسَا[56]
يرىبعض النقَّاد المحدَثِين أن ألفاظًا مثل: (اطلخم، غبسًا، دهاريسا) تقيمبغرابتها سدودًا حائلة دون انسياب المعنى في ذهن المتلقِّي أو وجدانه، حتىإن كل لفظ منها يبدو وكأنه مشكلة معقَّدة تتحدَّى العقل والسمع[57].
ولِمَلا يكون التعقيد في هذه الألفاظ مقصودًا؟ إن الرؤية الصحيحة التي تتناسَبوالسياق أن هذه الكلمة تحكي - بثقلها وتداخل حروفها - الشدَّة والاختلاطحين ينبهم الأمر وتنبعث النوائب العشواء، فإذا أضفنا إلى ذلك دلالة(غبسًا) التي تُوحِي بالظلام الحالك وتتابُع الآلام والهموم، ثم قوله(دهاريسا) التي تصوِّر بجرسها آثار الدواهي وفعل الدهس والهرس في شدةطاحنة، وكأنما تعاوَنت كلمات البيت في رسم صورة للممدوح بجوده وكرَمِهيدفع الشرَّ عن أمته، ويتصدَّى للنوازل متحمِّلاً في سبيل ذلك آلام الدهرومعاناته.
ومن عجبٍأن الذين استهجنوا غريب أبي تمام (ت229هـ) يدركون بداهةً أن الغريب كانجزءًا لا من ثقافته فحسب، بل من ثقافة كلِّ الشعراء الذين أقاموابالبادية، تلبيةً لتوجيهات النقاد أنفسهم.
ثمإن أبا تمام تميَّز بسعة اطِّلاعه وعمق ثقافته، وانقضاضه على معارف عصرهوتمثَّلها تمثُّلاً دقيقًا، حتى بلغ محفوظه أربعة عشر ألف أرجوزة غيرالقصائد، وسبعة عشر ديوانًا للنساء فقط، وله من التصانيف ما يعكس معرفتهالعميقة بالشعر والشعراء؛ كـ"الحماسة"، و"الوحشيات"، و"مختار أشعارالقبائل"، و"فحول الشعراء"[58].
أمَّامعرفته باللغة والغريب فلا يختلف على غزارتها أنصارُه وخصومُه، فإن أباتمام تعمَّد أن يدلَّ في شعره على علمه باللغة وبكلام العرب، فيعمد لإدخالألفاظ غريبة في مواضع كثيرة من شعره[59]، وإن الغرابة وصف نسبي، وخصوصًاأن "العرب كانت قبائل، ولكلِّ قبيلة لغة، هي حُوشِيَّة عند غيرهم،والفصاحة مخاطبة كلِّ قوم بلغتهم الدائر استعمالها بينهم"[60].
وأبوتمام (ت229هـ) رأس مذهب وهو ينطلق في إبداعه، لا من رغبته في استرضاء خاصةالمتلقِّين أو عامتهم، ولا يعنيه أن يدرأ سخطهم على ما في قصائده من غريبالألفاظ، أو معقَّد التراكيب، أو غامض المعاني، وإنما ينطلق أبو تمام منرغبته في مباينة السائد، والثورة على المألوف.
ولابُدَّ لهذه المنطلقات أن تنعكس على ألفاظه وتراكيبه وصُوَره، وهو مُغرَمبالجمال العسير؛ ولذلك لا يتردَّد في الاستعانة بالكلمة الغريبة التيتلائم ذوقه وتعبِّر عن موقفه[61]، لا يعنيه أن يجد المتلقِّي معاناة فياستقبال أشعاره؛ لأن "التلقي عند أبي تمام معاناة وليس استرخاء، ومن ثمَّكان على المتلقِّي - لكي يحسن فقه أشعاره - أن يرتقي بثقافته إلى المرتبةالتي تؤهِّله للتفاعل معها، بدلاً من أن يَزْوَرَّ عنها مواريًا ضعفثقافته خلف أحكام نقدية جاهزة، أحكام تُنْعَت بالغموض والتعقيد، أيَّةقصيدة لا تبوح من أول قراءة بما يرقد في أحشائها من قِيَم جماليةوإنسانية"[62].
وأرىأخيرًا أن أبا تمام يريد لنفسه أن يكوِّن صوتًا شعريًّا متميِّزًا يُدهِشالمتلقِّين ويُثِيرهم ويأتيهم بما لم يَأْلَفُوا، وهو لا يبالي "بأن تصلمعانيه إلى شيء من الغموض يجعلها تصعُب في فهمها على أولئك الذين لميَصِلُوا في ثقافتهم إلى المستوى الذي وصل إليه"[63].
ومنالغرابة أن تحتاج الكلمة إلى تأويل ومشقَّة في تخريجها على وجهٍ منالوجوه، وهذا يمثِّل لونًا من التعقيد وعدم الوضوح؛ كقول العجاج ابن رؤبةمتغزِّلاً:
أَيَّامَ أَبْدَتْ وَاضِحًا مُفَلَّجَا
أَغَرَّ بَرَّاقًا وَطَرْفًا أَدْعَجَا
وَمُقْلَةً وَحَاجِبًا مُزَجَّجَا
وَفَاحِمًا وَمَرْسِنًا مُسَرَّجَا
إذيرى النقاد أن كلمة (مسرَّجا) غريبة؛ لأننا لا نقف على معناها إلا بعدالاختلاف في تخريجها، فقيل: هي من قولهم للسيوف: سُرَيجيَّة، نسبة إلىحداد يقال له: سُرَيج، وعلى ذلك يكون المعنى: أنها مستوية ودقيقة كالسيفالسُّرَيجي، وقيل: إنها من السراج، وهو البريق، مأخوذ من قولهم: سَرِجوجهه؛ أي: حَسُن[64].
إنالذي أدَّى إلى هذا الاختلاف في تخريجها أنها عُزِلت عن سياقها الموقفي،ولو أنهم نظروا إليها في سياقها لرَأَوْا أنها لا تحتمل إلاَّ تخريجًاواحدًا، فرؤبة يصف محبوبته بسواد الشعر، وبياض الأسنان المفلجة، والعيونالواسعة الجميلة، والحاجب المزجَّج المدقق المقوَّس، والأنف المستويالدقيق الحسن، فكأن أنفها يُشبِه السيف السُّرَيجيَّ في دقَّته واستوائه.
وهذاهو المعنى الوحيد الذي يُفهَم من السياق الموقفي، ويكشف عن حالته النفسية،ومدى تفجُّعه على محبوبته الموصوفة بتلك الصفات، ويُسهِم في تحديد هذاالمعنى قوله: "أَزْمَانَ أَبْدَتْ وَاضِحًا...".
إذًا؛فلا معنى لاحتمال وصف الأنف بالبريق كالسراج؛ لأنه لا يتَّفق مع الجوِّالنفسي وعاطفة الشاعر "وكان رؤبة رجَّازًا مُجِيدًا بصيرًا باللغة قيِّمًابحوشيِّها وغريبها"[65].
إنالاستخدام الأدبي للألفاظ يعتمد فيما يعتمد على المعنى السيكولوجي لها؛أعني: دلالتها الارتباطية الذاتية والجماعية، ولكنه اعتماد يتَّجه فنيًّابهذه الإيحاءات الخاصة إلى سياق موضوعي، كأنه يفكُّ ارتباطها التقليدي...وتلك مهمَّة الصناعة الأدبية[66].
وبناءًعلى تلك النظرة من فحص الكلمة في سياقها، ومراعاة الحالة النفسية للشاعر؛نقول: إن الكلمة ليست غريبة، ولا تحتمل أكثر من تخريج، وهي فصيحة فيموضعها، دالَّةٌ على الغرض الذي قصَد إليه الشاعر الغَزِل المتهالِك.
والذيأريد أن أقوله: إن هذه الكلمات تجري على لسان الشاعر لا تكلُّف فيها ولاتصنُّع، وإنما تأتيه طواعية تحمل المعنى الذي يدور في نفسه، ويحلِّق فيسماء خياله، وتفيض به عاطفته، وهذا يذكِّرني بأوَّل ما تردَّد من معنىالبلاغة في سؤال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش: "ما هذه البلاغة التيفيكم؟ قال: شيء تجيش به صدورُنا فتقذفه على ألسنتنا"[67].
ومثل هذا ما يحكمون به على كلمة (جحيش) في قول تأبَّط شرًّا:
يَظَلُّ بِمَوْمَاةٍ وَيُمْسِي بِغَيْرِهَا جَحِيشًا وَيَعْرَوْرِي ظُهُورَ المَهَالِكِ
فهي في نظر العلوي قبيحة جدًّا، ونظيرها قولنا: (فريد) فإنه بمعناها، وبينهما بَوْنٌ لا يُدرَك بقياس[68].
ويؤيِّدهابن الأثير حيث يقول: "ويا لله العجب! أليس أنها بمعنى (فريد)، و(فريد)لفظة حسنة رائقة، ولو وُضِعت في هذا البيت موضع جحيش لما اختلَّ شيء منوزنه"[69].
لقدالتبس على النقَّاد الأمر، فقالوا بقبح هذه الكلمة حين نظروا إليها بعيدةعن مكانها من البيت، بل بعيدة عن الأبيات السابقة واللاحقة، أمَّا حينتُوضَع في مكانها من القصيدة - ولا أقول: البيت - فإن الأمر جِدُّ مختلف،فالشاعر يمدح ابنَ عمِّه فيخلع عليه من الصفات ما لا يكاد يجتمع في أحدٍفيقول:
قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُهِمِّ يُصِيبُهُ كَثِيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى وَالمَسَالِكِ
يَظَلُّ بِمَوْمَاةٍ وَيُمْسِي بِغَيْرِهَا جَحِيشًا وَيَعْرَوْرِي ظُهُورَ المَهَالِكِ
وَيَسْبِقُ وَفْدَ الرِّيحِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَحِي بِمُنْخَرِقٍ مِنْ شَدِّهِ المُتَدَارِكِ
إِذَا خَاطَ عَيْنَيْهِ كَرَى النَّوْمِ لَمْ يَزَلْ لَهُ كَالِئٌ مِنْ قَلبِ شَيْحَانَ فَاتِكِ
يَرَى الْوَحْشَةَ الأُنْسَ الأَنِيسَ وَيَهْتَدِي بِحَيْثُ اهْتَدَتْ أُمُّ النُّجُومِ الشَّوَابِكِ[70]
(وفدالريح): أولها، (ينتحي): يعتمد ويقصد، (المنخرق): السريع الواسع،(المتدارك): المتلاحق، والمعنى: أنه لخفَّته ونشاطه يسبق الريح من حيثيقصد بعَدْوٍ وجَرْيٍ سريعٍ متلاحقٍ، بل يرى في الوحشة الأنسَ الأنيسَويهتدي إلى مقاصده كما تهتدي النجوم في سيرها، فلا يضلُّ ولا ينحرف عنمقصده[71].
إذًا؛فالشاعر يصف ابن عمه بالصبر والجَلَد واحتمال الخُطُوب دون شكوى إلى أحد،ولكنَّه يعمل على إزالتها ودفع مضرَّتها، وهو مع ذلك كثير الهوى شتَّيالنَّوى، يركب المهالك، كثير الجولان في الأرض، مستأنِس بنفسه، شديدالحماس والجرأة.
ويؤكِّدهذا المعنى في البيت الأخير، بل إن الأوصاف الأخرى تتعاوَن وتتآزَر من أجلإبراز إيثاره عدم مخالطة الناس، حيث يجِدُ الوحشة أنسه الأنيس، ولما كانذلك من الأمور الغريبة التي تشذُّ عن الطبائع العادية عبَّر عنها الشاعربلفظة غريبة، فهي مقصودة مناسِبة للغرض دالَّة على مراده... ويؤيد هذاالمعنى المعجميُّ والسياقُ السببيُّ للكلمة؛ ففي لسان العرب: جحش عنالقوم: تنحَّى... والجحيش: المتنحِّي عن الناس... وقال أبو حنيفة: الجحيش:الفريد الذي لا يُزاحِمه في داره مزاحم[72].
ومعنىهذا: أن كلمة (فريد) لا تدلُّ على ما تدلُّ عليه كلمة (جحيش)، فللكلمةالأخيرة من الدلالات والإيحاءات ما ليس للأولى، وبينهما كما قال العلوي:بونٌ لا يُدرَك بقياسٍ، مدحًا لا ذمًّا.
ويرىبعض النقَّاد أن الشاعر استعمل كلمة (جحيشًا) لأنها لفظة أكثر غرابة وأقوىجشَّة، فهي أكبر ملائمة لمعناها وسياقها السببي، والفعل (يعروري) كماوضعته اللغة يحكي معناه الشديد الخشِن، يقال: اعروريت الفرسَ، إذا ركبتهعَرِيًّا ليس تحتك شيءٌ، فأصله من المصدر الثلاثي (عري)، وهذا هو دورالسياق السببي[73] في اختيار الشاعر لهذه اللفظة دون غيرها.
وقدلاحَظ اللغويون القدماء أن زيادة المبنى تحمل زيادة المعنى، ولو أضفنا إلىذلك تصوير الحركة السريعة المتتالية والتي نفهمها من قوله: "ويسبق وفدالريح" بما تُوحِي به من سرعة وحركة دائبة، وتصويرٍ فائقٍ مبدِعٍ بحروفهاوحركاتها، وبترتيب مقاطعها وتواليها كأنها تَصِفُ الحركة وصفًا دقيقًا،وتُسمِعنا صوت الحركة بوضوح[74].
وثمَّةملحَظ آخر لم يفطن إليه ابن الأثير وهو "أن سلامة اللفظ يتبع سلامة الطبع،ودماثة الكلام بقدر دماثة الخِلْقَة"[75]، وأن انحياز شاعر صعلوك مثلتأبَّط شرًّا إلى (جحيش) يتَّفق مع ما جُبِل عليه من طبع جافٍّ، وما عُرِفعنه من غدر ولصوصية وإغارة[76]، وربما وجدت ألفاظه في صوته ونغمته وفيجرسه ولهجته[77].
إذًا؛فاستخدام الشاعر مثل هذه اللفظة مُتَساوِق مع تكوينه الثقافي وتكوينهالخلقي، مُتَساوِق مع السياق الموقفي والسياق السببي والسياق اللغويوالحالة النفسية؛ وبناءً على ذلك فالكلمة محمَّلة بالمدِّ الدلالي الذي لانجده في كلمة (فريد) التي ظنَّ بعض النقَّاد أن تكون بديلاً لكلمة (جحيش)،وليس الأمر كذلك؛ لأن الشاعر عندما ينحرف بالكلمة عن استعمالها المألوففلا بُدَّ أن له غاية من وراء ذلك.
•لاحِظ أنه إذا وُجِدَت قرينة تحدِّد المراد من الكلمة الغريبة فإن هذهالقرينة تمحو غرابتها، وتكون الكلمة مقبولة، وهذه القرينة ترتبط بالسياقارتباطًا وثيقًا؛ كما في قوله - تعالى -: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِوَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} [الأعراف: 157]، فـ(عَزَّر) مشتركة بين التعظيموالإهانة، ولكن ذُكِر في الآية قرينةٌ دالَّة على إرادة التعظيم، وبهذاتكون الكلمة فصيحة في عُرْفِ جمهور البلاغيين ما لم يلتبس في فهمها.
ومنالشواهد التي جاء فيها الغريب منسجِمًا مع السياق فبدا التناسب بينالكلمات الغريبة جميلاً، وبدا حسن الجوار بين الكلمات متناسقًا: قولُه -تعالى -: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَحَرَضًا} [يوسف: 85]، لما جاء بأغرب ألفاظ القسم (التاء) أتى - سبحانهوتعالى - بأغرب صِيَغ الأفعال من أخوات كان (تفتأ)، وبأغرب ألفاظ الهلاك(حرضًا)، فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها فيالغرابة أو الاستعمال[78]، استهجانًا لما فعلوه ودلالة على استنكار أبيهملفعلتهم، وبيانًا لتكلُّفهم في القول، فتشاكَلت الألفاظ وتجاوَرت،وتعانَقت المعاني وحسنت، وتآلفت الألفاظ مع المعاني، فعبَّرت أصدق تعبيرعمَّا في أنفسهم، فكانت معادلة وموازية لما في أنفسهم[79].
إنالكلمة تكتسب كثيرًا من الظلال والإيحاءات نتيجة استعمالها عبر التاريخ إذتمرُّ بآلاف التجارب الإنسانية، فرُبَّ كلمة كانت مألوفة في زمانٍ ثمأصبحت غير مألوفة، إنها ليست رمزًا يشير إلى فكرة أو معنى فحسب، بل هونسيج متشعِّب من صور ومشاعر أنتجتها التجربة الإنسانية، فثبتت في اللفظةوارتبطت بها؛ فزادت معناها الأصلي حياة وإيحاءً... غير أن للألفاظ فوق ذلك- أي: فوق أصلها المجرَّد وارتباطها التراثي والشخصي - ظلالاً تضفيهاعليها مجالاتها المختلفة التي تدخلها في سياق كلي وبنيوي جديد هو من صنعالأديب أو الشاعر.
إنقضية السياق هي القضية الأساسية في تفسير النص الأدبي؛ لأن السياق وحده هوالذي يشكِّل معنى اللفظ تشكيلاً جديدًا؛ إذ ينشأ اللفظ في ظلال هذا السياقويكتسب منه إيحاءه الجديد، من أجل ذلك نقول: إن الألفاظ لا تتفاضَل فيذاتها، فليس هناك كلمة شعرية وأخرى غير شعرية، وإنما تكتسب قيمتهاوشعريتها من خلال السياق[80].
3- مخالفة الوضع/ القياس:
أمَّا الشرط الثالث من شروط فصاحة الكلمة، فهو أن تكون موافِقَة للقوانينالصرفية التي تقرِّر حكم مفردات اللغة، فإذا ما جاءت الكلمة مخالِفَة لماقرَّره اللغويون العرب في هذا الصدد فإنها لا تُعَدُّ فصيحة، وهذهالمخالفة قد تتَّصل ببنية الكلمة من حيث التغيُّر فيها بالزيادة أو النقص،وقد عاب ابنُ سنان رؤبةَ في قوله:
قَوَاطِنًا مَكَّةَ مِنْ وُرْقِ الْحَمَا
يريد(الحمام)، فالشاعر قد لجأ إلى حذف جزء من بنية الكلمة، فخرج على المألوفصياغيًّا، وبالمثل قد يعمد الشاعر إلى إشباع الحركة حتى تصير حرفًا، كماقال ابن هرمة:
وَأَنْتَ عَلَى الغَوَايَةِ حِينَ تَرْمِي وَعَنْ عَيْبِ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ
أي: (بمنتزح)[81].
وقدحاوَل بعض العلماء الربط بين هذه الظاهرة الصياغية والناحية الدلالية، فقدلاحَظ الزركشي أن بعض الأفعال تَرِد في الخطاب القرآني وقد قصرت حركتهاالطويلة في الكتابة تبعًا لإسقاطها في النطق، وعلَّل لهذا الإسقاط بأنهللتنبيه على سرعة وقوع الفعل، وسهولته على الفاعل، وشدَّة قبول المنفعلالمتأثِّر به في الوجود، وهو ما يعني من الناحية الصوتية الخالصة قد يكونلها إفراز دلالي مكثَّف في مثل قوله - تعالى -: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق: 18]، ففيه سرعة الفعل، وإجابة الزبانية، وقوة البطش[82].
ويحضرنيشاهد آخر في قوله - تعالى -: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَيَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182]، فهي تدلُّ على سرعة الفعل وهو الاستدراجفضلاً عمَّا يصوِّره الفعل من وصف الحدث وهو التدرُّج في التنزُّل بهم إلىالعذاب من حيث لا يعلمون، وهذا الوصف يوحي بأثر المفاجأة.
وفيما يتَّصل بالبنية أيضًا عاب النقَّاد على الشاعر استخدامَ صيغةٍ للجمع غير صحيحة أو مخالفة للقياس، كما في قول المتنبي:
فَإِنْ يَكُ بَعْضُ النَّاسِ سَيْفًا لِدَوْلَةٍ فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ
حيث جمع الشاعر كلمة (بوق) جمعَ مؤنثٍ سالمًا، مع أن قياس جمع الكلمة أن تُجمع على (أبواق).
والمتنبيفي هذا البيت يمدح سيف الدولة قائلاً له: إذا كنت سيفًا لدولتك له أثرهوخطره، فغيرك من الملوك بمثابة البوق والطبل؛ أي: لا أثر له ولا غناء فيه.
قالابن جني: "وقد عاب على أبي الطيب مَن لا مَخبَرة له بكلام العرب جمع (بوق)على (بوقات)، والقياس يعضده، إذ له نظائر كثيرة؛ مثل: حمَّام وحمَّامات،سرادق وسرادقات، وجواب وجوابات، وهو كثيرٌ في كلام العرب في جمع ما لايعقل من المذكر"[83].
إذًافلا عيب عليه في استخدام هذا الجمع، لكنِّي أرى أن الشاعر هنا يقصد قصدًاإلى العدول عن جمع التكسير (أبواق) إلى جمع المؤنث (بوقات) لدلالة الأخيرعلى التقليل، والتقليل هنا يوحي بتقليل شأن غيره من الملوك كما أن بوقاتوطبول توحي بالفراغ والخلو؛ لأنها تنفخ وتدقُّ لفراغها لتُحدِث صوتًا،وهذا من "إيحاء الدلالات الهامشية للألفاظ"[84]، حتى في لغتنا العامية إذاأردنا أن نقلِّل من شأن شخص أو نسخر منه، فإننا نصفه بقولنا: فلان هذابوق؛ أي: إنه فارغ القيمة.
جرىالمؤلفون على قولهم: (مخالفة القياس)، ولكننا نُؤثِر أن نقول: (مخالفةالوضع)؛ لأنه قد تكون الكلمة مخالفة للقياس، وهي مع ذلك فصيحة لموافقتهالوضع الواضع مثل: (يأبَى) مضارع (أبَى)، فإن القياس فيه أن يُقال(يأبِِي)؛ لأن (فعَل) المفتوح العين لا يأتي مضارعه على (يفعَل) بفتحهاإلا إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق، كـ(سأل - يسأل) و(منع - يمنع) وليس(أبَى - يأبَى) من هذا القبيل، إذًا ففتح عين مضارعه مخالف للقياس وهو ماذلك فصيح، لموافقته ما ثبت عن الواضع، فقد ورد في قوله - تعالى -:{وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32].
والواقعأن هناك من الكلمات ما لم يجرِ على الوضع/القياس من